إنّ النسخ في التشريع كالبداء في
التكوين ، فهما صنوان على أصل واحد ، وقد عرفت واقع النسخ ، وإليك كلمة موجزة عن
واقع البداء ، فنقول :
إنّ البداء يبحث فيه تارة في مقام
الثبوت ، وأُخرى في مقام الإثبات.
أمّا الأوّل ، فهو عبارة عن تغيير
المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، وحقيقته ترجع إلى أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر
الخلق والتدبير ، بل هو قائم بها دائماً ، وكلّ يوم هو في شأن
، ومن شُعَبِ ذلك الأمر هو انّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما ، وينزل
الرحمة والبركة كما ينزل البلاء والنقمة ، لا جزافاًً واعتباطاً ، بل حسب ما
يقتضيه حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها ، فربما يكون
الإنسان مكتوباً في الأشقياء ثمّ يُمحى فيكتب في السعداء ، أو على العكس ، وما هذا
إلاّ لما يقوم به من أعمال جديدة وإليه يشير اللّه سبحانه : ( يَمْحُو
اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتاب ) (١)
، فاللّه سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد
ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه فعله وعمله ، قال سبحانه : ( إِنَّ
اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ). (٢)
هذا هو البداء في مقام الثبوت ، وأمّا
البداء في مقام الإثبات ، فربما يتصل النبي بلوح المحو والإثبات فيقف على المقتضي
من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء ولكن ربما لا يتحقّق ، لأجل
عدم تحقّق شرطه أو تحقّق مانعه ، وذلك هو البداء في عالم الإثبات.
وفي القرآن الكريم تلميحات للبداء بهذا
المعنى ، نذكر منها مورداً واحداً.
أنذر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا سوف
يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيّام. (٣)
وما كان قوله تخرّصاً أو تخويفاً ، بل
كان يخبر عن حقيقة يعلم بها ، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يقع ، وما ذلك إلاّ لأنّه وقف
على المقتضي ولم يقف على المانع ، وهو انّ القوم سيتوبون قبل رؤية العذاب توبة
صادقة يعلمها اللّه تعالى لا خوفاً من العذاب فيرفع عنهم العذاب الذي وُعدوا به ،
كما يشير إليه قوله سبحانه : ( فَلَولا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قومَ يُونس لَمّا آمنوا كَشَفْنا
عَنْهُْمْ عَذاب الخِزي فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حين ). (١)
ثمّ إنّ عدم اطّلاع يونس على واقع الأمر
لا يلازم عدم علمه سبحانه به ، بل هو كان يعلم أنّ ما أخبر به يونس لا يقع إمّا
لفقدان الشرط أو لوجود المانع ، ولكن علمه سبحانه بالواقع لا يمنع عن إخبار يونس
بما وقف عليه.
وبذلك يظهر انّ البداء من اللّه تعالى
إبداء لما خفي على عبده وإن كان بالنسبة إلى نبيّه ظهوراً لما خفي عليه. فالنبي
المخبر بوقوع العذاب ظهر ما خفي عليه ولكن سبحانه أبدى ما خفي على نبيه وسائر
الناس ، فنسبة البداء إلى اللّه تعالى من باب المشاكلة لا من باب الحقيقة ، قال
سبحانه : ( نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
المُنافِقينَ هُمُ الفاسِقُون ).
(٢)
ومن الواضح امتناع تطرّق النسيان إلى
ذاته وإنّما عبر عن جزائهم بأعمالهم بالنسيان لأجل المشاكلة. فكان النسيان من جانب
المنافقين حقيقياً و من جانبه سبحانه من باب المشاكلة.
ثمّ إنّ كثيراً من أهل السنّة حكموا
بامتناع البداء ظناً منهم بأنّ المراد هو ظهور ما خفي على اللّه سبحانه ، فطعنوا
بالشيعة غافلين عن حقيقة البداء عند الشيعة. ولو انّهم وقفوا على معتقد الشيعة في
هذا المجال لوقفوا على أنّ البداء من المعارف الإلهية التي أصفق عليها علماء
الإسلام ، وانّ البداء الممتنع ممتنع عند الجميع والجائز جائز عندهم ، ومن حاول أن
يقف على الروايات المفسرة للبداء بالمعنى الصحيح فليرجع إلى الدر المنثور : ٤ /
٦٦٠ في تفسير قوله سبحانه : ( يَمْحوا اللّهُ ما
يَشاءُ ويُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ). (٣)