المجمل والمبين

عرفوا المجمل اصطلاحا ب‍ " أنه ما لم تتضح دلالته " ويقابله المبين. وقد ناقشوا هذا التعريف بوجوه لا طائل في ذكرها.

والمقصود من المجمل على كل حال: ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده إذا كان لفظا، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلا.

ومرجع ذلك إلى أن المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له. وعليه، يكون المبين ما كان له ظاهر يدل على مقصود قائله أو فاعله على وجه الظن أو اليقين، فالمبين يشمل الظاهر والنص معا.

هل المجمل يشمل اللفظ والفعل او اللفظ فقط ؟
ومن هذا البيان نعرف: أن المجمل يشمل اللفظ والفعل واصطلاحا، وإن قيل: إن المجمل اصطلاحا مختص بالألفاظ ومن باب التسامح يطلق على الفعل ([1]).

ما معنى ان يكون الفعل مجملا ؟
ومعنى كون الفعل مجملا أن يجهل وجه وقوعه، كما لو توضأ الأمام (عليه السلام) - مثلا - بحضور واحد يتقى منه أو يحتمل أنه يتقيه، فيحتمل أن وضوءه وقع على وجه التقية فلا يستكشف مشروعية الوضوء على الكيفية التي وقع عليها، ويحتمل أنه وقع على وجه الامتثال للأمر الواقعي فيستكشف منه مشروعيته.

ومثل ما إذا فعل الإمام شيئا في - الصلاة كجلسة الاستراحة - مثلا - فلا يدرى أن فعله كان على وجه الوجوب أو الاستحباب، فمن هذه الناحية يكون مجملا، وإن كان من ناحية دلالته على جواز الفعل في مقابل الحرمة يكون مبينا.

ما معنى ان يكون اللفظ مجملاً ؟
وأما اللفظ فإجماله يكون لأسباب كثيرة قد يتعذر إحصاؤها ([2]) فإذا كان مفردا فقد يكون إجماله لكونه لفظا مشتركا ولا قرينة على أحد معانيه، كلفظ " عين " وكلمة " تضرب " المشتركة بين المخاطب والغائبة، و " المختار " المشترك بين اسم الفاعل واسم المفعول.

وقد يكون إجماله لكونه مجازا، أو لعدم معرفة عود الضمير فيه الذي هو من نوع " مغالطة المماراة " ([3]) مثل قول القائل لما سئل عن فضل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: " من بنته في بيته " ([4]) وكقول عقيل: " أمرني معاوية أن أسب عليا، ألا فالعنوه! " ([5]).

وقد يكون الإجمال لاختلال التركيب، كقوله: وما مثله في الناس إلا مملكا * أبو امه حي أبوه يقاربه وقد يكون الإجمال لوجود ما يصلح للقرينة، كقوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار...) * الآية ([6]) فإن هذا الوصف في الآية يدل على عدالة جميع من كان مع النبي من أصحابه، إلا أن ذيل الآية * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) * صالح لأن يكون قرينة على أن المراد بجملة * (والذين معه) * بعضهم لا جميعهم، فتصبح الآية مجملة من هذه الجهة.

وقد يكون الإجمال لكون المتكلم في مقام الإهمال والإجمال. إلى غير ذلك من موارد الإجمال مما لا فائدة كبيرة في إحصائه وتعداده هنا. ثم اللفظ قد يكون مجملا عند شخص مبينا عند شخص آخر. ثم المبين قد يكون في نفسه مبينا، وقد يكون مبينا بكلام آخر يوضح المقصود منه.


المواضع التي وقع الشك في إجمالها :

لكل من المجمل والمبين أمثلة من الآيات والروايات. والكلام العربي لاحصر لها، ولا تخفى على العارف بالكلام. إلا أن بعض المواضع قد وقع الشك في كونها مجملة أو مبينة، والمتعارف عند الأصوليين أن يذكروا بعض الأمثلة من ذلك لشحذ الذهن والتمرين، ونحن نذكر بعضها اتباعا لهم. ولا تخلو من فائدة للطلاب المبتدئين.

فمنها: قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ([7]).

فقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية من المجمل المتشابه ([8]) إما من جهة لفظ " القطع " باعتبار أنه يطلق على الإبانة ويطلق على الجرح كما يقال لمن جرح يده بالسكين: قطعها، كما يقال لمن أبانها كذلك.

وإما من جهة لفظ " اليد " باعتبار أن " اليد " تطلق على العضو المعروف كله، وعلى الكف إلى أصول الأصابع، وعلى العضو إلى الزند، وإلى المرفق، فيقال مثلا: " تناولت بيدي " وإنما تناول بالكف بل بالأنامل فقط.

والحق أنها من ناحية لفظ " القطع " ليست مجملة، لأن المتبادر من - لفظ " القطع " هو الإبانة والفصل، وإذا اطلق على الجرح فباعتبار أنه أبان قسما من اليد، فتكون المسامحة في لفظ " اليد " عند وجود القرينة، لا أن " القطع " استعمل في مفهوم " الجرح " فيكون المراد في المثال من " اليد " بعضها، كما تقول: " تناولت بيدي " وفي الحقيقة إنما تناولت ببعضها.

وأما من ناحية " اليد " فإن الظاهر أن اللفظ لو خلي ونفسه يستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص، ولكنه غير مراد يقينا في الآية، فيتردد بين المراتب العديدة من الأصابع إلى المرافق، لأ أنه بعد فرض عدم إرادة تمام العضو لم تكن ظاهرة في واحدة من هذه المراتب.

فتكون الآية مجملة في نفسها من هذه الناحية، وإن كانت مبينة بالأحاديث عن آل البيت (عليهم السلام) ([9]) الكاشفة عن إرادة القطع من أصول الأصابع.

ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " ([10]) وأمثاله من المركبات التي تشتمل على كلمة " لا " التي لنفي الجنس، نحو " لا صلاة إلا بطهور " ([11]) و " لا بيع إلا في ملك " ([12]) و " لا صلاة لمن جاره المسجد إلا في المسجد " ([13]) و " لا غيبة لفاسق " ([14]) و " لا جماعة في نافلة " ([15]) ونحو ذلك.

فإن النفي في مثل هذه المركبات موجه ظاهرا لنفس الماهية والحقيقة.

وقالوا: إن إرادة نفي الماهية متعذر فيها، فلابد أن يقدر - بطريق المجاز - وصف للماهية هو المنفي حقيقة، نحو: الصحة، والكمال، والفضيلة، والفائدة، ونحو ذلك.

ولما كان المجاز مرددا بين عدة معان كان - الكلام مجملا، ولا قرينة في نفس اللفظ تعين واحدا منها، فإن نفي الصحة ليس بأولى من نفي الكمال أو الفضيلة، ولا نفي الكمال بأولى من نفي الفائدة... ةوهكذا.

وأجاب بعضهم: بأن هذا إنما يتم إذا كانت ألفاظ العبادات والمعاملات موضوعة للأعم فلا يمكن فيها نفي الحقيقة.

وأما إذا قلنا بالوضع للصحيح فلا يتعذر نفي الحقيقة، بل هو المتعين على الأكثر، فلا إجمال.

وأما في غير الألفاظ الشرعية مثل قولهم " لاعلم إلا بعمل " فمع عدم القرينة يكون اللفظ مجملا، إذ يتعذر نفي الحقيقة([16]).

أقول: والصحيح في توجيه البحث أن يقال: إن " لا " في هذه المركبات لنفي الجنس، فهي تحتاج إلى اسم وخبر على حسب ما تقتضيه القواعد النحوية.

ولكن الخبر محذوف حتى في مثل " لا غيبة لفاسق " فإن " الفاسق " ظرف مستقر متعلق بالخبر المحذوف.

وهذا الخبر المحذوف لابد له من قرينة، سواء كان كلمة " موجود " أو " صحيح " أو " مفيد " أو " كامل " أو " نافع " أو نحوها.

وليس هو مجازا في واحد من هذه الأمور التي يصح تقديرها.

والقصد أنه سواء كان المراد نفي الحقيقة أو نفي الصحة ونحوها، فإنه لابد من تقدير خبر محذوف بقرينة، وإنما يكون مجملا إذا تجرد عن القرينة.

ولكن الظاهر أن القرينة حاصلة على الأكثر وهي القرينة العامة في مثله، فإن الظاهر من نفي الجنس أن المحذوف فيه هو لفظ " موجود " وما بمعناه من نحو لفظ " ثابت " و " متحقق ".

فإذا تعذر تقدير هذا اللفظ العام لأي سبب كان، فإن هناك قرينة موجودة غالبا، وهي: " مناسبة الحكم والموضوع " فإنها تقتضي غالبا - تقدير لفظ خاص مناسب مثل " لا علم إلا بعمل " فإن المفهوم منه أنه لا علم نافع.

والمفهوم من نحو " لا غيبة لفاسق " لا غيبة محرمة.

والمفهوم من نحو " لا رضاع بعد فطام " ([17]) لا رضاع سائغ.

ومن نحو " لا جماعة في نافلة " لا جماعة مشروعة.

ومن نحو " لا إقرار لمن أقر بنفسه على الزنا " لا إقرار نافذ أو معتبر.

ومن نحو " لا صلاة إلا بطهور " بناء على الوضع للأعم لا صلاة صحيحة.

ومن نحو " لا صلاة لحاقن " لا صلاة كاملة، بناء على قيام الدليل على أن الحاقن لا تفسد صلاته... وهكذا.

وهذه القرينة وهي قرينة " مناسبة الحكم للموضوع " لا تقع تحت ضابطة معينة، ولكنها موجودة على الأكثر، ويحتاج إدراكها إلى ذوق سليم.

تنبيه وتحقيق: ليس من البعيد أن يقال: إن المحذوف في جميع مواقع " لا " التي هي لنفي الجنس هو كلمة " موجود " أو ما هو بمعناها، غاية الأمر أنه في بعض الموارد تقوم القرينة على عدم إرادة نفي الوجود والتحقق حقيقة، فلابد حينئذ من حملها على نفي التحقق ادعاء وتنزيلا بأن ننزل الموجود منزلة المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فيه أو المتوقع منه.

يعني يدعى أن الموجود الخارجي ليس من أفراد الجنس الذي تعلق به النفي تنزيلا، وذلك لعدم حصول الأثر المطلوب منه، فمثل " لاعلم إلا بعمل " معناه: أن العلم بلا عمل كلا علم، إذ لم تحصل الفائدة المترقبة منه.

ومثل " لا إقرار لمن أقر بنفسه على الزنا " معناه: أن إقراره كلا إقرار باعتبار عدم نفوذه عليه.

ومثل " لا سهو لمن كثر عليه السهو " معناه: - أن سهوه كلا سهو باعتبار عدم ترتب آثار السهو عليه من سجود أو صلاة أو بطلان الصلاة.

هذا إذا كان النفي من جهة تكوين الشئ.

وأما إذا كان النفي راجعا إلى عالم التشريع، فإن كان النفي متعلقا بالفعل دل نفيه على عدم ثبوت حكمه في الشريعة، مثل " لا رهبانية في الإسلام " ([18]) فإن معنى عدم ثبوتها عدم تشريع الرهبانية وأنه غير مرخص بها.

ومثل " لا غيبة لفاسق " فإن معنى عدم ثبوتها: عدم حرمة غيبة الفاسق.

وكذلك نحو: " لا نجش في الإسلام " ([19]) و " لا غش في الإسلام " ([20]) و " لا عمل في الصلاة " ([21]) و * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * ([22]) و " لا جماعة في نافلة " فإن كل ذلك معناه: عدم مشروعية هذه الأفعال.

وإن كان النفي متعلقا بعنوان يصح انطباقه على الحكم، فيدل النفي على عدم تشريع حكم ينطبق عليه هذا العنوان، كما في قوله: " لا حرج في الدين " ([23]) و " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " ([24]).

وعلى كل حال: فإن مثل هذه الجمل والمركبات ليست مجملة في حد أنفسها.

وقد يتفق لها أن تكون مجملة إذا تجردت عن القرينة التي تعين أنها لنفي تحقق الماهية حقيقة أو لنفيها ادعاء وتنزيلا.

ومنها: مثل قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * ([25]) وقوله تعالى: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * ([26]) مما أسند الحكم فيه كالتحريم والتحليل إلى العين.

فقد قال بعضهم بإجمالها ([27]) نظرا إلى أن إسناد التحريم والتحليل لا يصح إلا إلى الأفعال الاختيارية، أما الأعيان فلا معنى لتعلق الحكم بها، بل يستحيل، ولذا تسمى الأعيان موضوعات للأحكام، كما أن الأفعال تسمى متعلقات.

وعليه، فلابد أن يقدر في مثل هذه المركبات فعل تصح إضافته إلى العين المذكورة في الجملة ويصح أن يكون متعلقا للحكم، ففي مثل الآية الأولى يقدر كلمة " نكاح " مثلا، وفي الثانية " أكل ".

وفي مثل * (وأنعام حرمت ظهورها) * ([28]) يقدر ركوبها، وفي مثل * (النفس التي حرم الله) * ([29]) يقدر قتلها... وهكذا.

ولكن التركيب في نفسه ليس فيه قرينة على تعيين نوع المحذوف، فيكون في حد نفسه مجملا، فلا يدرى فيه هل أن المقدر كل فعل تصح إضافته إلى العين المذكورة في الجملة ويصح تعلق الحكم به، أو أن المقدر فعل مخصوص كما قدرناه في الأمثلة المتقدمة؟والصحيح في هذا الباب أن يقال: إن نفس التركيب مع قطع النظر عن ملاحظة الموضوع والحكم وعن أية قرينة خارجية، هو في نفسه يقتضي الإجمال لولا أن الإطلاق يقتضي تقدير كل فعل صالح للتقدير، إلا إذا - قامت قرينة خاصة على تعيين نوع الفعل المقدر.

وغالبا لا يخلو مثل هذا التركيب من وجود القرينة الخاصة، ولو قرينة " مناسبة الحكم والموضوع ".

ويشهد لذلك: أنا لا نتردد في تقدير الفعل المخصوص في الأمثلة المذكورة في صدر البحث ومثيلاتها، وما ذلك إلا لما قلناه من وجود القرينة الخاصة ولو " مناسبة الحكم والموضوع ".

ويشبه أن يكون هذا الباب نظير باب " لا " المحذوف خبرها.

ألهمنا الله تعالى الصواب، ودفع عنا الشبهات، وهدانا الصراط المستقيم.

انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني في بحث الملازمات العقلية.


[1]- احتمله في الفصول الغروية: ص 224.
[2]- راجع بحث المغالطات اللفظية من الجزء الثالث من كتاب المنطق للمؤلف ص 483 تجد ما يعينك على إحصاء أسباب إجمال اللفظ.
[3]- راجع المنطق للمؤلف (قدس سره): ص 486.
[4]- القائل هو ابن الجوزي كما في الكنى والألقاب: ج 1 ص 237.
[5]- راجع العقد الفريد: ج 4 ص 31.
[6]- الفتح: 29.
[7]- المائدة: 38.
[8]- منهم السيد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة: 350، والشيخ في العدة: ج 1 ص 412.
[9]- الوسائل: ج 18 ص 489 الباب 4 من أبواب حد السرقة.
[10]- عوالي اللئالي: ج 1 ص 196 ح 2 و ج 2 ص 218 ح 13 و ج 3 ص 82 ح 65.
[11]- الوسائل: ج 1 ص 256، الباب 6 من أبواب الوضوء ح 1.
[12]- عوالي اللئالي: ج 2 ص 247 ح 16.
[13]- دعائم الإسلام: ج 1 ص 148.
[14]- عوالي اللئالي: ج 1 ص 438 ح 153.
[15]- الوسائل: ج 5 ص 182 الباب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان ح 6.
[16]- ذكره المحقق القمي في تحرير القول بالتفصيل، راجع القوانين: ج 1 ص 338.
[17]- الكافي: ج 5 ص 443.
[18]- البحار 70: 115، وفيه: ليس في أمتي رهبانية.
[19]- لم يرد في ط 2.
[20]- سنن الدارمي: ج 2 ص 248، وفيه: لا غش بين المسلمين.
[21]- الوسائل: ج 4 ص 1264، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 4، وفيه: ليس في الصلاة عمل.
[22]- البقرة: 197.
[23]- الوسائل: ج 1 ص 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في الدين من حرج.
[24]- الوسائل: ج 17 ص 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5، وص 319 باب 5 من أبواب الشفعة ح 1.
[25]- النساء: 23.
[26]- المائدة: 1.
[27]- حكي عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي وعن قوم من القدرية، راجع مفاتيح الأصول: ص 227.
[28]- الأنعام: 138.
[29]- الإسراء: 33.
تعليقات