قاعدة الألفاظ موضوعة لذات المعاني

قاعدة الألفاظ موضوعة لذات المعاني

بسم الله الرحمن الرحيم
ولنشرع الآن ببيان القواعد الاُصولية.
القواعد الاُصولية: هي قواعد مَهّدت للفقيه استنباط الحكم الشرعي الكلّي من أدلته، أو العثور على الوظيفة العملية عندما لم يتم الوقوف على دليل على نفس الحكم الشرعي.

١ ـ قاعدة (الألفاظ موضوعة لذات المعاني)(١).
الألفاظ الأُخرى للقاعدة: (الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها(٢).
الألفاظ موضوعة لذات معانيها من حيث هي مع قطع النظر عن كونها مرادة أو غير مرادة(٣).
توضيح القاعدة يتم ببيان أُمور:

الأوّل: أقسام الدلالات اللفظية
أ ـ الدلالة التصورية: وهي تصور المعنى من سماع اللفظ سواء كان اللفظ من النائم أو الساهي أو من تراكُم الهواء وسرعته، فالمعنى هناك ينفك عن اللفظ وحاقه، وهي متوقفة على معرفة وضع اللفظ للمعنى ولا تتوقف على القصد.
ب ـ الدلالة التصديقية الأُولى: وتسمى بالدلالة التفهيمية أو الاستعمالية، وهي كاشفية التلفظ عن إرادة المتكلم إخطار المعنى في ذهن المخاطب وإفهامه إياه، أو هي تصديق المخاطب المتكلم بأنه أراد تفهيم المعنى للغير.
وهذه الدلالة تتوقف على العلم بالوضع وإحراز أن المتكلم في مقام التفهيم.
ح ـ الدلالة التصديقية الثانية: وهي كاشفية حال المتكلم إذا كان في حالة وعي وانتباه وجديّة عن إرادة المتكلم المعنى واوقعاً أو قُل: هي دلالة اللفظ على أن الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجدية.
وتتوقف هذه الدلالة على العلم بالوضع وإحراز أن المتكلم في مقام التفهيم واقعاً وألاّ تكون قرينة على الخلاف.

الثاني: أن الدلالة التصديقية الاُولى والثانية تتوقفان على إرادة المتكلم في مقام الثبوت، وإن كان اللفظ كاشفاً عنها في مقام الإثبات، وإن كانت الدلالة التصديقية الثانية تزيد على الأُولى بكون إرادة المتكلم جدّية، فعلى هذا لا يكون المدلول التصديقي مدلولاً لنفس اللفظ بل المدلول الذي يعد معنىً للّفظ بحيث يكون نفس اللفظ دالاً عليه هو المدلول التصوري فقط، وبهذا يكتشف أن الموضوع له هو ذات المعنى، واللفظ موضوع بإزاء المدلول التصوري من حيث هو لا من حيث هو مراد للافظ.

المستند
ويدل على أن الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي لا من حيث إنها مرادة للافظ.
١ ـ التبادر: حيث إننا مهما سمعنا اللفظ ينتقل ذات المعنى إلى ذهننا من دون أن يخطر بالبال كونه مراداً.
٢ ـ أن دخل القصد في المعنى مستحيل؛ لأن القصد ناشئ من الاستعمال، والاستعمال متأخر عن المعنى، فكيف يكون القصد دخيلاً في المعنى؟! فإنه يلزم منه تقدم المتأخر وهو محال(٤).
٣ ـ لو قلنا بدخالة الإرادة ـ القصد ـ جزءاً أو شرطاً في المعاني فحينئذٍ لا يصح الحمل والإسناد في الجمل، فلو قلنا: (أكل زيد) أو (زيد قائم)، فإنه لا يصح الحمل والإسناد بدون تجريد الألفاظ من الإرادة؛ لأن المسند في المثالين هو نفس الأكل والقيام لا بما هما مرادان، ولكن هذا التجريد خلاف الوجدان؛ لأننا نرى صحة الحمل والإسناد بدون هذا التجريد، وهذا ممّا يدل على أن الإرادة ليس لها دخل في معاني الألفاظ.
٤ ـ أنه يلزم من دخل الإرادة في المعاني الموضوع لها اللفظ إنكار الوضع العام والموضوع له العام، بل يكون الموضوع له خاصاً دائماً؛ لأن المفروض تقييد الموضوع له بالإرادة الحقيقية الحاصلة للنفس التي تجعل الموضوع له جزئياً. وهذا المحذور ليس مُحالاً، إلاّ أنه خلاف ما ذهبوا إليه في مقام تقسيم الوضع وتسالمهم على ثبوت الوضع العام والموضوع له العام كأسماء الأجناس، فإن دخل الإرادات الشخصية الحاصلة للمتكلمين في المعاني ينافي ذلك التسالم.
نعم، العلة الغائية للوضع هي إفادة المرادات لا بما هي مرادات، بل بما هي نفس المعاني الواقعية، فالمتكلم بالألفاظ يريد إفادة نفس المعاني لا بما أنها مرادة: لأن كون المعاني مرادة مغفول عنه عند المتكلم والسامع، والواضع وضع اللفظ لنفس المعنى والغاية إفهام نفس المعنى الواقعي، فالغرض تهيئة مقدمات التفهيم، وهذا الغرض بضميمة أصالة الحقيقة وغيرها كأصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّية يتم من دون حاجة إلى الالتزام بكون التفهيم دخيلاً في حقيقة الوضع، على أن الإرادة تأتي حين الاستعمال التفهيمي ولا ربط للاستعمال التفهيمي بالوضع.

ثمرة هذا البحث
إذا قلنا: إن الألفاظ موضوعة للمعاني لا بما هي مرادة كما هو الصحيح، فإذا تكلم إنسان بلفظ ولم يكن مريداً لمعناه، فالألفاظ تبقى دالّة على معناها حقيقةً. أما إذا قلنا: إن الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، فإذا انتفت المرادية بوجه من الوجوه صارت الألفاظ مجازاً؛ لأن المركب ينتفي بانتفاء جزئه(٥).
________________
(١) مناهج الوصول ١: ١١٣.
(٢) الكفاية: ٧٦.
(٣) نهاية الأفكار ١: ٦٣.
(٤) راجع الكفاية: ١٦. وراجع نهاية الأفكار ١: ٦٣.
(٥) راجع تحرير الأُصول ١: ٥١.
تعليقات