تاريخ علم الأصول

علم أصول الفقه من العلوم التي ابتكرها علماء المسلمين، واختص به المسلمون إلى اليوم.

وأول من كتب في هذا العلم من فقهاء السنة محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي (المتوفى سنة 204 ه‍( ألف " الرسالة " في هذا العلم، وهو أول كتاب علمي منهجي في علم الأصول لفقهاء أهل السنة.
أما عند الشيعة الإمامية فقد شهد عصر النص([1]) في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) البدايات الأولى لهذا العلم... ولا سيما منذ عصر الصادقين (عليهما السلام)... فقد اتسعت - المساحة الجغرافية التي يتواجد فيها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في هذا التاريخ ولم يكن يتيسر لهم الرجوع إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للسؤال عنهم فيما يشكل عليهم من شؤون دينهم.

فكيف يتأتى لمن يعيش في بلاد آذربايجان أو كابل أو بلاد ما وراء النهر أن يعرض سؤاله على الإمام الصادق (عليه السلام) وهو في المدينة أو في الكوفة... ويومئذ كان أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يسكنون رقعة واسعة جدا من الأرض.

فكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ينصبون لهم رواة أحاديثهم وعلماء مدرستهم ممن أخذوا علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم، وكانوا يأمرون شيعتهم بالرجوع إليهم.

روى محمد بن قولويه بالإسناد إلى علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة، ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ عنه معالم ديني قال: من زكريا ابن آدم المأمون على الدين والدنيا ([2]).

وروى عبد العزيز بن المهتدي قال سألت الرضا (عليه السلام) فقلت إني لا ألقاك في كل وقت، فعمن آخذ معالم ديني، قال (عليه السلام): خذ عن يونس بن عبد الرحمن ([3]).

وروى الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام): فأما من كان من الفقهاء، صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه ([4]).

وبطبيعة الحال لم يكن هؤلاء الأعلام من تلامذة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يستحضرون جميع النصوص المروية من حديثهم (عليهم السلام)... فكانوا يضطرون كثيرا إلى الاجتهاد واستخدام القواعد والأصول الأولية لاستنباط الحكم الشرعي الواقعي أو الوظيفة الشرعية (الأحكام الظاهرية).

وأهم وجوه الحاجة إلى استخدام القواعد والأليات الأصولية لاستنباط الحكم الشرعي هو: - تعارض الروايات المروية عنهم (عليهم السلام)... وقد يحصل التعارض أحيانا بسبب الظروف السياسية التي كانت تضطرهم (عليهم السلام) إلى استخدام التقية، كما كان يحصل بسبب انتشار ظاهرة انتحال الحديث (عليهم السلام)، وغير ذلك من الأسباب، وكان لابد من علاج لهذه الحالات من التعارض.

ومن هذه الوجوه ورود عمومات وخصوصات ومطلقات وتقييدات في حديثهم (عليهم السلام) وكان لابد من طريقة علمية لتخصيص العمومات بالمخصصات والمطلقات بالمقيدات.

ومن هذه الوجوه خلو الواقعة أحيانا من النصوص والحجج الشرعية من الكتاب والسنة أو عدم وفاء الحجج الشرعية بالحكم الشرعي، حيث يضطر الفقيه إلى البحث عن الوظيفة العملية في ظرف فقدان الدليل والشك والجهل بالحكم الشرعي.

ولهذه الوجوه وأمثالها كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يوجهون علماء مدرستهم إلى استعمال الآليات العلمية المقررة في أمثال هذه الموارد لاستنباط الحكم الشرعي الواقعي أو الوظيفة الشرعية عند فقدان الدليل على الحكم الشرعي الواقعي.

وكانوا يطلبون منهم أن يأخذوا منهم (عليهم السلام) الأصول، ثم يمارسوا التفريع عليها بموجب القواعد والأصول الصحيحة.

روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم التفريع.

وعن الرضا (عليه السلام) قال: علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع.

الآليات الأصولية في حديث أهل البيت (عليهم السلام): وقد ورد ذكر الآليات الأصولية التي تمكن الفقيه من الاستنباط في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) كثيرا ونحن نشير فيما يلي إلى بعضها للاستشهاد والمثال: جاء في حجية خبر الثقة: سأل أحمد بن إسحاق أبا محمد (عليه السلام) عمن يأخذ أحكام دينه، فقال: العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان.

وفي التوقيع الذي يرويه أحمد بن يعقوب سأل الإمام المهدي (عليه السلام) عن مسائل فورد التوقيع بخطه الشريف: أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله ([5]).

ويسأل الراوي الإمام الرضا (عليه السلام) عن يونس بن عبد الرحمن " ثقة، آخذ عنه ما أحتاج من معالم ديني " قال: نعم.

والروايات بهذا المعنى كثيرة متضافرة تدل على حجية خبر الواحد ثقة وهو أصل هام من الأصول.

وورد في حجية الظواهر عن الإمام الصادق (عليه السلام) لمن وضع على إصبعه مرارة لجرح أصابه كيف يتوضأ؟قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * وهو يدل على حجية ظواهر الكتاب العزيز وحجية الظواهر من الأصول والقواعد الهامة التي تدخل في عملية الاستنباط.

وفي علاج الروايات المتعارضة روى عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة (إلى أن قال عن الحكمين اللذين يحكمان بينهما من رواة الحديث): وكلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما.

قال فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، فقال: ينظر إلى من كان روايتهما عنا في ذلك الحكم الذي حكما به المجمع عليه فيؤخذ به ويترك الشاذ ([6])... الخ، والحديث طويل وهو حديث معروف يعالج حالة التعارض في الروايات.

والروايات بهذا المضمون كثيرة، وهذه الروايات معروفة لدى الأصوليين بالروايات العلاجية، وهي روايات عديدة تعالج حالات التعارض بين الروايات.

وفي حجية الاستصحاب، ورد في حديثهم (عليهم السلام): لا ينقض اليقين أبدا بالشك وإنما ينقضه بيقين آخر ([7]) وهو بمعنى حجية الاستصحاب وهو أصل عملي معروف بين الفقهاء.

وورد أيضا في نفس المعنى: من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين ([8]).

وورد أيضا: ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين، لكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حالة من الحالات ([9]).

وهذه الروايات وغيرها تدل على حجية الاستصحاب وهو من الأصول العملية المعروفة لدى كافة فقهاء المسلمين.

وروى مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق في أصالة الحل في كل أمر اشتبه الإنسان في حليته وحرمته: كل شئ لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه، فتدعه من قبل نفسه ([10]).

وقد صنف من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في هذا العلم هشام بن الحكم الكوفي الشيباني (المتوفى سنة 179 ه‍( وكان من ثقات رواة أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وابنه الإمام موسى بن جعفر... صنف كتاب " الألفاظ ومباحثها " وهي من أبحاث الأصول.

كما صنف يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين من أصحاب أبي الحسن موسى بن جعفر والإمام الرضا (عليهما السلام)... كتاب " اختلاف الحديث ومسائله ". وهو من المباحث المهمة في أصول الفقه في مسألة تعارض الأحاديث.

وجمع طائفة من الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الأصول - صاحب الوسائل الحر العاملي (رحمه الله) في " الفصول المهمة في أصول الأئمة " وهو كتاب مبوب تبويبا جيدا، وقد بذل صاحب الوسائل (رحمه الله) جهدا كبيرا في تنظيم وتبويب هذا الكتاب، كما جمع السيد عبد الله شبر (رحمه الله) طائفة من أحاديث الأئمة (عليهم السلام) في الأصول في كتابه القيم " الأصول الأصيلة ".

ومن المدونات الجيدة في هذا الباب كتاب " أصول آل الرسول " للسيد هاشم الموسوي ابن زين العابدين الخونساري.

ومهما يكن من أمر فإن البدايات الأولى لهذا العلم الشريف ظهرت في عصر الأئمة من آل البيت (عليهم السلام) ومن خلال أحاديثهم وتوصياتهم لعلماء مدرستهم في تفريع الفروع على الأصول كما تقدم.

علم الأصول في عصر الغيبة: وفي عصر الغيبة، وهو عصر انقطاع النص، أخذ علم الأصول بالتطور على يد فقهاء هذا العصر.

وكلما كان الفقهاء يبتعدون عن عصر الحضور كانوا يشعرون بمسيس الحاجة إلى هذا العلم وتطويره وتوسعته أكثر من ذي قبل.

وأول كتاب - كتب في هذا العلم في عصر الغيبة كتاب " المتمسك بحبل آل الرسول " للشيخ الأقدم الحسن بن علي بن عقيل النعماني.

ومن أبرز من كتب في هذا العلم من فقهاء عصر الغيبة الشيخ المفيد (المتوفى 413 ه‍( ألف كتاب " النكت في مقدمات الأصول " أدرجه الكراجكي على نحو الاختصار في كتاب " كنز الفوائد " وألف المرتضى (رحمه الله) (المتوفى 436 ه‍( " الذريعة إلى علم أصول الشريعة ".

وألف الشيخ الطوسي (المتوفى 460 ه‍( كتاب " عدة الأصول " في الأصوليين: أصول الدين وأصول الفقه، وألف المحقق الحلي (رحمه الله) (المتوفى سنة 676 ه‍( كتاب " الوصول إلى معرفة الأصول " وكتاب " المعارج ".

وللعلامة الحلي (رحمه الله) (المتوفى سنة 726 ه‍(عدة مؤلفات في الأصول منها " تهذيب الوصول إلى علم الأصول " و " مبادئ الوصول إلى علم الأصول " و " نهاية - الأصول " و " نهج الوصول إلى علم الأصول " وألف الشيخ البهائي (المتوفى سنة 1031 ه‍( كتاب " زبدة الأصول ".

وألف الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني (المتوفى سنة 1011 ه‍( كتاب " معالم الدين وملاذ المجتهدين " وهو من الكتب الجيدة في الأصول. وقد قرأنا هذا الكتاب على مشايخنا في هذا العلم عندما بدأنا دراسة الأصول.

ومنذ هذا الوقت بدأ علم الأصول لدى الشيعة الإمامية يتطور بشكل ملحوظ على يد فقهاء هذه المدرسة.


[1]- الفقه المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام) ليس من الاجتهاد في الفقه، كما هو لدى غيرهم من أئمة المذاهب الفقهية وإنما هو مجموعة نصوص توارثوها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). تلقاها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأورثها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) إماما بعد إمام وكابرا بعد كابر. ولذلك فإن هذه النصوص تأتي في امتداد الحديث النبوي وليس من الاجتهاد في شئ وهذه هي عقيدة الإمامية في حديث أهل البيت (عليهم السلام).
[2]- جامع الرواة للأردبيلي 1: 330.
[3]- جامع الرواة 2: 357 ط الأولى.
[4]- الاحتجاج للطبرسي 2: 263 ط النجف.
[5]- الفصول المهمة في أصول الأئمة: 208.
[6]- وسائل الشيعة 18: 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.
[7]- الفصول المهمة للحر العاملي: 250، ط النجف.
[8]- نفس المصدر: 250.
[9]- نفس المصدر: 250.
[10]- الفصول المهمة للحر العاملي: 253.

تعليقات