شبهات التقليد : آية النفر والإشكالات عليها



قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .

فهذه الآية المباركة التي دلّت على وجوب النّفر للتفقّه في الدّين، هذا الوجوب المستفاد من دخول (لولا) التحضيضيّة على الفعل الماضي، فقد أكَّدَ علماء اللُّغة بأنّ (لولا) إذا دخلت على الفعل المضارع أفادت الحضَّ على الفعل والطلب له، وإذا دخلت على الماضي أفادت التّوبيخ واللَّوم على ترك العمل .


وهي هنا قد دخلت على الفعل الماضي، فهي تفيد اللّوم والتّوبيخ على ترك النّفر للتفقُّه في الدّين، وهي بهذا المعنى تفيد وجوب النّفر ؛ لأنَّ اللّوم والتوبيخ على ترك الفعل لا يصح إلا إذا كان الفعل واجباً.

فهذه الآية الكريمة دلَّت على وجوب الاجتهاد ـ الذي هو التفقُّه في الدّين ـ وأنّ هذا الوجوب على نحو الوجوب الكفائيّ لا العينيّ؛ لأنّها قالت بأنّ هذا الأمر إنّما يجب على طائفة من كلِّ فرقة، فهو وجوبٌ كفائيّ لا عينيّ.

فهي كما دلَّت على وجوب الاجتهاد دلَّت على وجوب التّقليد أيضاً.

(الملازمة بين وجوب الاجتهاد ووجوب التّقليد)

قد تقول: ومن أين هذه الملازمة بين وجوب الاجتهاد والتفقُّه في الدّين ووجوب التّقليد هنا؟

نقول: للملازمة بين إيجاب الإنذار وإيجاب القبول، وإلّا كان التّشريع لغواً.

بيان ذلك: إن قوله تعالى:( وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) يفيد وجوب الإنذار على المتفقِّهين، بمعنى: أنّ على الّذين هاجروا وسافروا إلى طلب العلم والتفقُّه في الديّن يجب عليهم أن يقوموا بمهمّة تحذير قومهم وإنذارهم من عدم الإلتزام بالشّريعة إذا رجعوا إليهم، وهذا الإيجاب للإنذار على المتفقّهين يلزم منه إيجاب قبول إنذارهم من الطّرف الآخر، وإلا كان إيجاب الإنذار بدون إيجاب القبول لغواً وبلا فائدةٍ.

(اختلاف ماهيّة الاجتهاد لدى المتقدَّمين)

وها هنا قد يُطرح هذا السُّؤال بلحاظ الآية الكريمة، فيُقال: إنّ الفقاهة والاجتهاد في الصّدر الأول للإسلام هي غير الفقه والاجتهاد في العصور المتأخَّرة؛ لأنّ التفقّه في العصور السّابقة إنّما كان بسؤال الأحكام وسماعها من المعصومين (عليهم السلام)، ولم يكن وقتئذٍ من الاجتهاد بالمعنى المصطلح عليه اليوم عين ولا أثر، وبالنتيجة: فلا دلالةَ للآية الكريمة على لزوم الأخذ بإنذار الفقيه بالمعنى المصطلح حتّى يكون التّقليد واجباً؟
الجواب: لا يختلف الاجتهاد في زماننا عن الاجتهاد في الزّمان السّابق إلّا من حيث الصّعوبة والسُّهولة، فإنَّ التفقُّه ومعرفة الأحكام بالدّليل في الصّدر الأوّل لم يكن متوقَّفاً على مقدِّمات كثيرة كما هو الحال في زماننا الحاضر، وإنَّما كان يتوقّف على سماع الحديث فقط، فهو لم يكن متوقِّفاً على تعلُّم اللّغة؛ لكونه من أهل اللّسان، وحتّى لو كانوا من غيرهم ولم يكونوا عارفين باللّغة كانوا يسألونها من الإمام (عليه السلام)، وأمّا حجيّة الظهور واعتبار الخبر الواحد ـ اللّذان هما الرُّكنان في الاجتهاد ـ كانتا عندهم من المسلَّمات، وهذا كلُّه بخلاف العصور المتأخَّرة التي يتوقف الاجتهاد فيها على هذه المقَّدمات ونحوها.

مركز الرصد العقائدي
العتبة الحسينية المقدسة
تعليقات