إثباتاً لصدقيّة هذا المقام يتحتّم علينا أن نجد جواباً مقنعاً عن الأسئلة التالية:
1- هل ثمّة بنتٌ للإمام الحسين (ع) باسم خوله؟
2-إذا ثبت أنّ ثمّة بنتاً باسم خوله، وأنّها كانت مع عيال الإمام الحسين(ع) في سَفره إلى العراق، فهل مرّ موكب العيال (السبايا) في مدينة "بَعْلَبَكَّ"؟
3-إذا ثبت أنّ هذا الموكب مرَّ في "بَعْلَبَكَّ"، فهل توفيت إحدى بنات الموكب في تلك المحطة من محطات رحلة الأحزان؟
4- إذا لم يثبت شيء من ذلك، فكيف نفسّر وجود هذا المقام في "بَعْلَبَكَّ" المنسوب إلى خوله بنت الحسين (ع)؟
1- هل للحسين(ع) بنت باسم خوله؟
أمّا فيما يرتبط بالسؤال الأول، فلا يوجد ما يُسعفنا- إطلاقاً- على القول بوجود بنت للإمام الحسين(ع) اسمها خولة، فالمصادر التاريخية وكتب الحديث والأنساب وغيرها التي تحدّثت عن حياة الإمام الحسين(ع) وزوجاته وأولاده لم تُشر إلى هذا الاسم
في عداد بناته(ع)[3]. وعدم الإشارة إلى هذه البنت- لو كانت- لا يُمكن أن يُفهم على أنّه مجرّد سكوت أو عدم اكتراث أو إهمال، لأنّنا لسنا نتحدّث عن بنتٍ لشخصيّة مغمورة أو عادية، وإنّما نتحدّث عن بنت الحسين بن علي(ع) سيّد شباب أهل
الجنّة، والذي تتطلّع إليه وإلى ذرّيته الأنظار، كما أنّ قصّة موتها– بحسب الفرض– في رحلة السبي والمعاناة التي لم تعرف سابقة في الإسلام تستلفت الانتباه، ومن البعيد جدّاً أن تمرّ مرور الكرام دون أن يشير إليها أحد من المؤرّخين، أو ينوّه
بظلامتها أحد من أئمّة أهل البيت(ع) أو غيرهم. باختصار: أنّه ومع توفّر الحوافز والدواعي لذكر اسم خولة وتسجيل اسمها في عداد بنات الإمام الحسين(ع)، فلا يمكننا أن نفهم عدم ذكرها والإشارة إليها إلا باعتباره دليلاً على عدم وجودها.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ اسم خوله لم يرد ليس فقط في أسماء بنات الإمام الحسين (ع) بل وفي بنات أمير المؤمنين عليّ(ع) أيضاً على كثرتهنّ[4]، وفي بنات الإمام الحسن(ع)[5]، وهكذا في بنات سائر الأئمّة من أهل البيت (ع)[6]،
مع أنّه لو كان لـ"خوله" بنت الحسين (ع) وجود حقيقيّ وتوفّيت بهذه الطريقة المأساوية، فإنّ من الطبيعي أن تتمّ استعادة هذا الاسم وإبقائه حاضراً في الأذهان من خلال الأجيال اللاحقة، كما تمّت استعادة اسم "فاطمة" أو "رقيّة" أو "زينب" أو "خديجة"
أو "أم كلثوم"، كما نلاحظ ذلك في بنات الأئمّة (ع).
هذا لو أخذنا بنظر الاعتبار رواية الطفلة، وأمّا لو أخذنا بالحسبان رواية السُّقط، فإنّ أمر إغفالها من قبل المؤرّخين، وإن كان أقلّ استغراباً من إغفال أمر الطفلة، لأنّ الإجهاض– عادة- يحصل بطريقة بعيدة عن الأنظار، إلاّ أنّه مع ذلك سيبقى
الإغفال مستغرباً، لجهة أنّ الإجهاض لم يحصل في ظروف اعتياديّة، بل حصل في ظروف قاسية وصعبة للغاية، بحيث يشكِّل هذا الإجهاض أَحَدَ مظاهر المظلوميّة التي تعرّض لها موكب الإمام الحسين(ع) وعياله وصحابته منذ أن جعجع بهم الحرّ
الرياحي- قبل توبته- في القرب من كربلاء، وإلى حين رجوع هذا الموكب ووصوله إلى "المدينة المنوّرة"، ثم إذا كان الأئمّة من أهل البيت(ع) ومَنْ كان في الركب المذكور من العيال والنساء، وكذا المؤرخون والنسَّابة.. إذا كان كلّ هؤلاء لم يشيروا
من قريب أو بعيد إلى أمر السُّقط، فمن يا ترى يكون هذا الذي عَلِمَ بأمر الإجهاض وكشف النقاب عن حقيقة هذا السُّقط وحدّد جنسه واسمه؟!
عدد بنات الإمام الحسين (ع)
بالعودة إلى المصادر التاريخية وكتب السيرة التي تطرّقت إلى أولاد الإمام الحسين (ع)، فإنّنا نجد أنّ الأقوال في عدد بناته (ع) ثلاثة:
1- أنّهن اثنتان، وهما: فاطمة وسكينة، وهاتان الشخصيتان معروفتان، ولهما حضور واضح وجليّ في أحداث النهضة الحسينية[7] فضلاً عمّا بعدها، وقد تبنّى هذا القول جمع من الأعلام، وعلى رأسهم: الشيخان المفيد[8] والطبرسي[9].
2- أنّهن ثلاث، وهنّ: فاطمة وسكينة وزينب، وقد تبنّى هذا القول بعض الأعلام، ومنهم: ابن شهر آشوب[10]، والطبري الإمامي[11]، والعلامة السيد محسن الأمين[12].
3- أنّهنّ أربع، وقد نقل العلامة الأربلي[13] وابن الصباغ المالكي[14]، هذا القول عن الشيخ كمال الدين بن طلحة، ولم يسمِّ أصحاب هذا القول اسم البنت الرابعة، وأمّا الثلاث الأخر فهنّ اللاتي ذُكرت أسماؤهنّ في القول الثاني.
وتعليقاً على هذه الأقوال، فإنّي أسجّل النقاط التالية:
أوّلاً: ربّما يقال: إنّ القول الثالث هو أضعف الأقوال، لأنّه ومع تضارب الآراء في المسألة فلا نجد مرجّحاً لقول الشيخ كمال الدين بن طلحة (ت654ه) على قول الأعلام المحقّقين، سواء مَنْ نصّ منهم على أنّ للإمام الحسين (ع) بنتين فقط، كالمفيد
والطبرسي، أو مَنْ نصّ على أنّ له ثلاث بنات، كابن شهر آشوب والطبري الإمامي، ومن الواضح أنّه بناءً على القوليْن الأوليْن فلا وجود لخولة وإنّما هي منتفية جزماً.
ثانياً: إنّ ثمة احتمالاً قوياً في حصول الاشتباه في كلام ابن طلحة: وذلك لأنّه- أي ابن طلحة- قد صرّح بأنّ عدد الذكور من أولاد الإمام الحسين (ع) ستة، وذَكَر أسماءهم بالتفصيل، ثمّ ذكر أنّ عدد البنات أربع، ثم سمّى ثلاثاً منهن، وهنّ: سكينة
وفاطمة وزينب، ولم يصرّح باسم الرابعة، ولم يشر إلى أنّ اسمها ذهب عن باله مثلاً، ولم يضع فراغاً أو نقاطاً (...) للتدليل على وجود تتمّة للكلام، الأمر الذي يجعلنا أمام احتمالين في تفسير كلامه:
الأول: سقوط اسم البنت الرابعة، إمّا لغفلة، أو بسبب سهو النُّساخ، أو لغيره من الأسباب المعروفة.
الثاني: أن لا يكون هناك بنت رابعة للإمام الحسين(ع) أصلاً، وإنّما حصل الاشتباه في قول ابن طلحة، إنّ عدد بناته أربع، فبدل أن يذكر أنّ عددهن ثلاث ذكر أنّ عددهن أربع.
والاحتمالان- بنظرنا- متكافئان ولا مرجّح لأحدهما على الآخر، لأنّ احتمال الغفلة عن ذكر الرابعة، ليس بأولى من احتمال الاشتباه في ذكر العدد.
ثالثاً: لو سلّمنا بصحة قول ابن طلحة بأنّ عدد بناته (ع) أربع، ولكن هل يكفي هذا المقدار لإثبات أنّ الرابعة هي خولة؟ ولِمَ لا يُقال بتطبيق البنت الرابعة على "رقية بنت الحسين(ع)".. المدفونة في دمشق، كما احتمل ذلك بعضهم[15]؟!
2- هل مرّ موكب السبايا في "بَعْلَبَكَّ"؟
لنفرض– جدلاً- أنّ ثمّة بنتاً للحسين(ع) اسمها خوله، وأنّه (ع) قد اصطحبها معه إلى كربلاء، أو كانت جنيناً في بطن أمّها، لكنّ السؤال الملح هنا: هل أنّ موكب الأحزان الذي يضمّ عيال الحسين(ع) وأولاده قد مرّ فعلاً على مدينة "بَعْلَبَكَّ" في رحلته
الحزينة من "الكوفة" إلى "الشام"؟
والإجابة على هذا السؤال تفرض علينا في بادىء الأمر أن نتعرّف على الطريق الذي سلكه الموكب من "الكوفة" إلى "دمشق"، لأنّ المعروف- كما ذكر بعض العلماء والباحثين[16]- أنّ هناك طريقين يصلان بين هاتين المدينتين:
1- الطريق السلطاني، وهو الذي رجّح المحدّث النوري[17] أن يكون الموكب قد سلكه، وهو طريق طويل وكثير المنازل، ويمكن لسالك هذا الطريق أن يمرّ على مدينة "بَعْلَبَكَّ".
2- الطريق المستقيم، وهو طريق مختصر يمكن قطعه في مدّة أسبوع، وكان "عرب عقيل" يسلكونه، ولذا أسماه بعضهم بطريق "عرب عقيل"، ومن الواضح أنّ سالك هذا الطريق لا يمرّ على "بَعْلَبَكَّ"، ويبدو أنّ العلامة الشهيد السيد القاضي
الطباطبائي[18] يرجّح سلوك الموكب لهذا الطريق، مبرّراً بذلك رأيه في إمكانية رجوع السبايا إلى كربلاء في العشرين من صفر، وذلك في ردّه على المحدّث النوري الذي يُعدّ من أشدّ المنكرين لمقولة رجوع السبايا إلى كربلاء في التاريخ
المذكور.
باتضاح ما تقدّم نقول: إنّ إثبات مرور الموكب على مدينة "بَعْلَبَكَّ" يحتّم على صاحب هذا القول نفي سلوكه- الموكب- للطريق المستقيم بين "الكوفة" و"دمشق"، وهذا أمر يحتاج إلى تحقيق واسع يتضمّن تفنيد الوجوه التي يُتمسّك بها للقول بأنّ الموكب
قد سلك الطريق السريع، وبحث أو تحقيق كهذا، لم نجد أنّ القائلين بمرور الموكب على مدينة "بَعْلَبَكَّ" قد قاموا به.
لكن بصرف النظر عن ذلك، ومع التسليم بأنّ الموكب سلك الطريق السلطاني، فهل كانت مدينة "بَعْلَبَكَّ" هي إحدى المنازل التي توقّف فيها؟
غير خافٍ أنّنا لا نمتلك ما ينفي احتمال مرور الموكب على مدينة "بَعْلَبَكَّ"، ولا سيّما إذا ثبت مرورهم على مدينة "حمص"، حيث من المحتمل قويّاً أن تكون "بَعْلَبَكَّ" هي المحطة التالية بعد "حمص"، إلاّ أنّ الاحتمال لا يكفي في الإثبات كما هو
واضح، ما لم تعضده قرائن أخرى ترفع درجة الاحتمال إلى مستوى من الوثوق يمكن التعويل عليه.
وبمراجعة المصادر الأساسية التي أرّخت لأحداث النهضة الحسينية وما جرى بعد وقعة كربلاء، لا نجدها قد تطرّقت إلى مرور موكب الأحزان على مدينة "بَعْلَبَكَّ"[19]، وإنّما وردت الإشارة إلى ذلك في كتابات بعض المتأخّرين التي لا يسعنا
التعويل عليها واعتمادها في إثبات هذا الحدث، لا لأنّها مصادر غير متخصّصة فحسب، بل لأنّها أرسلت الكلام إرسالاً، واشتملت– بعضها على الأقلّ- على مضامين لا يمكننا قبولها، لأنّ علامات الوضع بادية عليها، ولهذا قال الشيخ عباس القمي
رحمه الله: "إعلمْ أنّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة باتوا فيها أم عبروا منها غير معلوم ولا مذكور في شيء من الكتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفية مسافرة أهل البيت (ع) إلى الشام[20]".
وإليك عرضاً مُسهباً لما جاء في هذه "المصادر" التي ذكرت "بَعْلَبَكَّ" باعتبارها إحدى منازل الطريق إلى الشام:
أوّلاً: رواية العلامة المجلسي
أوّل ما يواجهنا على هذا الصعيد هو ما أورده العلامة محمّد باقر المجلسي (ت 1111هـ) في "بحار الأنوار" نقلاً عن بعض الكتب، قال: "وفي بعض الكتب أنّهم لما قربوا من "بَعْلَبَكَّ" كتبوا إلى صاحبها فأمر بالرايات فنشرت وخرج الصبيان يتلقّونهم
على نحو ستة أميال، فقالت أم كلثوم: أباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من يقتلكم، ثمَّ بكى عليٌّ بن الحسين (ع) وقال:
هو الزمانُ فلا تفنى عجائبُهُ من الكرام وما تهدى مصائبُهُ
فليتَ شعري إلى كم ذا تجاذُبنا بصرفِهِ وإلى كم ذا نجاذِبُهُ
يسري بنا فوقَ أقتابٍ بلا وطأ وسابقُ العيْسِ يحمي عنه غاربُهُ
كأنّنا من أسارى الرُّوم بينَهُمُ كأنَّ ما قاله المختارُ كاذبُهُ
كفرتُمُ برسولِ اللهِ ويْحَكُمُ فكنتُمُ مثل من ضلّت مذاهبُهُ[21].
وهذا "المصدر" لا يمكننا التعويل عليه، إذ لا يبدو أنّ المجلسي نفسه على ثقة من أمر الكتاب الذي نَقَلَ منه، أو أنّه محلّ اعتماد عنده– فضلاً عن أن يكون حُجَّة علينا-، وإلا لسمّى الكتاب والكاتب ولم يلجأ إلى اعتماد أسلوب الإبهام والتجهيل، كما تشي
عبارته "وفي بعض الكتب"، وقد عرفنا من سيرة العلامة المجلسي في "بحار الأنوار" أنّه لا يتبنّى النقل من خصوص المصادر التي يراها معتبرة، بل هو قد يُنقل عن بعض المصادر التي صرّح بعدم اعتمادها، أو كونها قديمة[22]. هذا من
جهة، ومن جهة أخرى، فإنّه لا تصريح ولا دلالة في هذا النصّ على دخولهم مدينة "بَعْلَبَكَّ"، إذ خروج الأهالي لتلقّيهم على نحو ستة أميال لا يدلّ على أنّهم دخلوا المدينة، بعد ذلك.
ثانياً: رواية القندوزي
والكتاب الآخر الذي تحدّث عن مرور الموكب على "بَعْلَبَكَّ" هو "ينابيع المودّة لذوي القربى" للقندوزي، وجاء فيه: "أنَّ ابن زياد دعا الشمر اللعين وخولي وشبث بن ربعي وعمر بن سعد وضمّ إليهم ألف فارس وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس وأمرهم
أن يشهروهم في كلِّ بلدة يدخلونها" إلى أن يقول: "ثمَّ إنّهم قبل أن جاءوا بلدة "بَعْلَبَكَّ" كتبوا إلى واليها أن تتلقّانا الناس وخرجوا على نحو ستة أميال فرحاً وسروراً! فدعت أم كلثوم عليهم وقالت: أباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من لا يرحمكم.."، ثم يذكر
نفس ما جاء في النصّ الذي تقدّم نقله عن العلاّمة المجلسي[23].
وهذا النصّ لا يمكن التعويل عليه أيضاً، لأنّ مؤلفه وهو سليمان بن إبراهيم القندوزي الصوفي (ت 1294هـ) متأخر جدّاً، ولم يحدّد لنا مصدراً أو مرجعاً أخذ عنه هذا الكلام، وإن كان التطابق أو التقارب بين ما أورده وبين ما يُنقل عن أبي مخنف-
ممّا سيأتي نقله- أو ما نقله العلامة المجلسي رحمه الله عن "بعض الكتب" يدفعنا إلى القول: إنّه أخذ هذا الكلام إمّا عن مقتل أبي مخنف ممّا سوف نبيّن قيمته العلميّة لاحقاً، أو عن بحار الأنوار للعلامة المجلسي والذي عرفنا حال مصدره، وعدم إمكان
التعويل عليه.
على أنّ النص- كما نلاحظ في مطلعه- يذكر أنّ عمر بن سعد كان من جملة الأشخاص الذين كُلّفوا بأخذ السبايا والرؤوس إلى يزيد، وهذا أمر لا تساعد عليه المصادر التاريخية، كما سنشير في بعض تعليقاتنا على النصّ الآتي.
ثالثاً: رواية عماد الدين الطبري
والكتاب الثالث الذي تطرّق لمرور الموكب في "بَعْلَبَكَّ" هو كتاب "كامل السقيفة" لمؤلفه عماد الدين الطبري (كان حيّاً سنة 698 ه)، وإليك نصّ كلامه: "ثمّ إنّ عبد اللّه بن زياد لعنهما اللّه أعطى الرأس إلى زجر بن قيس ومعه رؤوس الشهداء من
الأصحاب وأهل البيت وقال: احملها إلى يزيد بن معاوية، ثمّ سيّر الإمام زين العابدين وأهل البيت إلى الشام وجعل عليهم شمراً بن ذي الجوشن ومخفر بن ثعلبة ووضع الغلّ في عنق الإمام زين العابدين وغلّوا يديه إلى عنقه فكان الإمام لا يفتأ في
الطريق يتلو كتاب اللّه ويحمد اللّه ويثني عليه ويستغفره ولم يكلّم واحداً من الأعداء قطّ إلّا أهل بيته.
وقيل: إنّ يزيد لمّا وقعت عينه على أولئك اللعناء قال: قد كنت أقنع وأرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما أنّي لو كنت صاحبه لعفوت عنه.
وحملوا أهل البيت والإمام السجّاد على رواحل منهم، لأنّ القوم انتهبوا ثقلهم فلم يتركوا عندهم شيئاً، ولمّا وصلوا إلى يزيد رفع مخفر صوته منادياً: هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة. فقال الإمام عليه السّلام: ما ولدت أمّ مخفر أشرّ
وألأم، وكان اللعناء يخشون من قبائل العرب أن تهيج عليهم والرأس معهم فيستلبونه منهم، فلم يسلكوا الطريق الأعظم وإنّما تنكّبوا الطراق (الطرق) حذراً من ذلك، فوصلوا إلى قبيلة وطلبوا منهم علفاً لدوابّهم وقالوا: معنا رؤوس الخوارج نحملها إلى
الأمير، وهكذا ساروا بهذه الحُجّة حتّى بلغوا "بَعْلَبَكَّ"، فأمر القاسم بن الربيع عامل البلد بتزيينه، وحملوا الرأس إلى البلد مع آلاف الدفوف والطبول والمزامير والشبّابات، ولمّا علموا بأنّ الرأس رأس الحسين خرج ما يقرب من نصف البلد وأحرقوا
الأعلام ومعالم الزينة والفرح، وقامت الفتنة أيّاماً على ساق في البلد، وهرب الذين معهم الرأس من البلد سرّاً.
ووصلوا إلى أوّل بلد من بلاد الشام وكان الوالي عليه الملعون نصر بن عتبة، فأظهر الفرح والاستبشار وزيّن البلد وقضى الليل كلّه بالرقص والغناء، فخرجت سحابة سوداء أرعدت وأبرقت وأحرقت معالم الزينة كلّها، فقال عمر بن سعد وشمر لعنهما
اللّه: هؤلاء قومٌ أهلُ نحسٍ وشؤمٍ فخرجوا منهم إلى "ميّافارقين" فاختصم كبار البلد بينهم كلّ واحد يريد دخول الرأس من بابه، لأنّه عاقد الزينة فرحاً به، فوقع بينهم قتال، و قتل الآلاف من الطرفين، فبقي كلاب "الكوفة" هناك عشرة أيّام، ومن هناك
انتقلوا إلى "نصيبين".
قال منصور بن إلياس: رفعوا أكثر من ألف علم استقبالاً لرأس الحسين، وكان رأس الحسين معه فأراد أن يدخل البلد فتقهقر حصانه فأقبلوا بعدّة أفراس له فلم تتقدّم، فبينما هم كذلك إذ وقع رأس الحسين من أعلى الرمح وكان إبراهيم الموصليّ في القوم
فاحتاط للرأس، لأنّه عرف رأس الحسين فلام الناس وقتله الشاميّون، فأخرجوا الرأس خارج حدود البلد وراحوا ينثرون المال على الناس بحيث يعسر شرح ذلك، فارتفع في اليوم الثالث تراب وغبار حتّى اسودّت الآفاق فساء بهم ظنّ الناس وقالوا: إن
بقيتم هاهنا قتلناكم فخرجوا منهم إلى مدينة "شبديز" فتعاهد النّاس فيما بينهم أن لا يعطوهم مؤنة لهم ولا لدوابّهم، وإن اضطرّتهم الحال إلى القتال قاتلوهم.
ولمّا علم الكوفيّون بواقع الحال هربوا ليلاً فتعقّبهم أهل البلد يلعنونهم ويسبّونهم حتّى بلغوا حافّة الفرات، فساروا على الشاطئ وقطعوا قرية قرية حتّى دَنَوْا من دمشق أربعة فراسخ، فكان الناس يقدمون لهم النثار والهدايا وظلّوا على باب المدينة ثلاثة
أيّام حتّى يزيّنوا البلد، فزيّنوه بكلّ ما عندهم من حُلِيٍّ ورياش وزينة إلى درجة لم يشابهها بهذه الزينة قبل اليوم، وخرج ما يقرب من خمسمائة ألف ما بين رجل وامرأة و الدفوف بأيديهم وأخرج أمراء القوم الطبول والكوسات والأبواق والدفوف وراحوا
بالآلاف يرقصون نساءً ورجالاً على أصوات الدفوف والطبول والربابات وكان [هكذا في النص] النساء قد اختضبن واكتحلن ولبسوا [لَبِسْنَ] الحُلِيَّ والحُلَل، وذلك يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأوّل.
ولمّا أشرقت الشمس أدخلوا الرؤوس إلى البلد ولم يصلوا إلى بيت يزيد إلّا وقت الزوال لكثرة الناس، وكان يزيد لعنه اللّه قد اعتلى عرشه وهو "تخت مرصع" وزيّن القصر والمجلس بأنواع الزينات ووضع كراسيّ الذهب والفضّه عن اليمين وعن
الشمال، وخرج الحجّاب وأدخلوا اللعناء الذين رافقوا الرؤوس فسألهم يزيد لعنه اللّه فقالوا: أنقذنا دولة الأمير من تدمير آل أبي تراب، وقصّوا عليه الحكاية، ووضعوا بين يديه رؤوس أولاد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله."[24].
محاكمة النص
هذا هو نص عماد الدين الطبري نقلناه بتمامه، ليتسنّى للقارىء الكريم أن يتابع معنا تقييمه ومحاكمته، والحقّ يقال: إنّ أدنى تأمّل في هذا النصّ يكشف أنّه مليء بالأخطاء التاريخية وغيرها، ولا نجافي الصواب إذا قلنا: إنّ علامات الوضع بادية عليه،
ووضع أيّ نصّ لا يعني اتّهام مؤلفه بالوضع، كيف وهو عالم كبير وفقيه متكلّم جليل الشان[25]، فربّما وضعه آخرون وَوَثِق بكلامهم فسجّله في كتابه، أو ربّما أُضيف على كتابه فيما بعد، وكم له من نظير، وكيف كان، فإنَّ النصّ الآنف- كغيره
من النصوص- يعطيك صورة واضحة عن ذهنية صاحبه ودقّته، ويبدو أنّ صاحب النصّ ضعيف للغاية في المعلومات التاريخية والجغرافية.
وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الأخطاء التي اشتمل عليها النصّ المذكور ممّا لا يمكن التغاضي عنها:
أولاً: إنّه وبعد وصول الموكب إلى "بَعْلَبَكَّ" وانكشاف حقيقة الأمر وانقلاب أهل البلد- أيّ "بَعْلَبَكَّ"- على الجلادين، فإنّ القوم سارعوا الخطى للخروج منها، ليصلوا - كما يقول النصّ- إلى "أوّل بلد من بلاد الشام"، وكأنّ "بَعْلَبَكَّ" خارج بلاد الشام!
واللافت أنّ هذه البلد عليها والٍ، هو نصر بن عتبة، وهو أمر مثير للاستغراب أيضاً، إذ ليس بين "بَعْلَبَكَّ" و"دمشق" بلدة كبيرة تحتاج إلى تنصيب والٍ خاص عليها! ولم يُسمِّ لنا النصّ هذه البلدة التي وصلوها، وإنّما وصف لنا حالها وأنّها استقبلتهم
بالرقص والغناء والسرور الذي لم يكتمل بسبب ظهور معجزة، وهي سحابة سوداء اضطرتهم للخروج منها، ومن الطبيعي أن نتوّقع أنَّ الموكب بعد خروجه من هذه البلدة قادماً من "بَعْلَبَكَّ" أن تكون محطته اللاحقة هي المحطة الأخيرة ليدخل بعدها
إلى "دمشق" أو ضواحيها القريبة، ولكنَّ المفاجأة التي تبرز أمامنا هي أنَّ الموكب يظهر فجأة في "تركيا" وفي بلدة "ميافارقين"، ثم ينتقل منها إلى "نصيبين"، وهي مدينة تقع في "تركيا" أيضاً، مع أنّ النصّ يفترض هذه المدن شامية!، ثم يتحرّك
الموكب في رحلته العجائبية ليصل إلى بلدة أسماها بـ"شبديز"، وهذا الاسم يُطلق على موضعين: أحدهما: قصرٌ عظيم للمتوكل العباسي في سُرّ مَنْ رأى (سامراء)، والآخر: منزل بين "حلوان" و"قرميسين" في لحف جبل بيستون سُمِّيَ باسم فرس كان
لكسرى[26]، بعد ذلك يظهر الموكب على "حافة الفرات"، ليسير على الشاطىء ويقطع قرية قرية حتّى يدنوَ من "دمشق"!
إنّ علامات الاستفهام والاستغراب التي يمكن تسجيلها على هذا المسير الذي افترضه النصّ كثيرة ولا تُخفى على القارىء الحصيف، وهي في المحصلة تورث القناعة بوضعه، وتبرهن على أنّ صاحب هذا النصّ جاهل بجغرافيا بلاد الشام والمنطقة،
ولذا لم يكن موفّقاً في هذه القصة التي نسجها من محض الخيال.
ثانياً: ترد في النصّ مجموعة من الأسماء ذات المكانة– كما يفترض النصّ- في جهاز السلطة الأموية آنذاك، ومع ذلك لا نجدها مذكورة إلا في كتاب "كامل البهائي"، الأمر الذي يثير الريبة، كما هو الحال في "القاسم بن الربيع" عامل السلطة في
"بَعْلَبَكَّ"، و"نصر بن عتبة" الوالي على "أوّل بلد من بلاد الشام"!!.
كما ترد في النصّ أسماء شخصيّات لا نعرف عنها شيئاً، منها: "إبراهيم الموصلي"، ومنها: "منصور بن إلياس"، والأخير سوف يظهر في إحدى المحطات التركية "نصيبين" ويظهر رأس الامام الحسين(ع) معه، مع أنَّ ابن زياد قد عهد– حسب
النّص- إلى "مخفر بن ثعلبة" بحمل الرأس!!.
ثالثاً: يتحدّث النصّ عن وقوع أحداث جسيمة، بعضها ذات طابع إعجازي، كظهور سحابة سوداء أحرقت زينة البلد، وبعضها أحداث دموية ذهب ضحيّتها الآلاف من الناس، أو أدّت إلى حصول فتنة في بعض البلدان استمرّت لأيام، وهذه الأحداث
على جسامتها وتوفّر الدواعي لنقلها- على الأقلّ ممّن كانوا في الموكب من السبايا– لا نجد لها عيناً ولا أثراً في سائر المصادر!!
رابعاً: يظهر من صدر النصّ أن ابن زياد قد سيّر إلى الشام مجموعتين فهو أرسل رؤوس الشهداء مع "زجر [27] بن قيس"، وأرسل الإمام زين العابدين(ع) ومعه النساء والأطفال مع "شمر بن ذي الجوشن" و"مخفر بن ثعلبة"، وإرسال "ابن
زياد" هاتين المجموعتين أمرٌ قد أكّدته كافة المصادر المعتبرة[28]، وهي ظاهرة في أنّ ثمّة فاصلاً زمنياً بينهما، إذ القافلة الأولى أُرسلت ومعها الرؤوس "لتبشّر" يزيد بمقتل الحسين(ع)، وأمّا القافلة الثانية فقد تأخّرت قليلاً في "الكوفة"، وإذا كان
هدف المجموعة الأولى هو إبلاغ يزيد بـ "البشرى" فمن الطبيعيّ أن تسلك أقرب الطرق إلى "دمشق"، ما يمنع بحسب طبيعة الأمور أن تلتقيَ المجموعتان في الطريق، بل لا بدّ أن تصل المجموعة الأولى (حاملة الرؤوس) في وقتٍ أسرع من
المجموعة الثانية التي يُفترض أنّها سلكت طريقاً طويلاً غير ما هو متعارف، لكنَّ النصّ المتقدّم يفترض أنّه عندما فرّ القوم من "بَعْلَبَكَّ"، بسبب ردّة فعل أهلها الغاضبة، فإذا بالقافلتين تلتقيان، ليظهر "شمر بن ذي الجوشن"- الذي افترض النصّ أولاً أنّه
كان مع موكب العيال- مع قافلة الرؤوس! الأمر الذي يرفع من منسوب التشكيك في النصّ ويبعث على الاطمئنان والوثوق بأنّ ذاكرة واضع النصّ قد خانته مجدّداً؟!
ولكن ربّما يُقال: إنّ حصول اللقاء بين المجموعتين اللتين أنفذهما ابن زياد إلى يزيد لم يتفرّد به عماد الدين الطبري في نصّه المتقدّم، فهذا- أعني الالتقاء في الطريق- يستفاد من عبارة الشيخ المفيد بشأن المجموعة الثانية، حيث قال: "فانطلقوا- أي
المجموعة الثانية بقيادة "مخفر بن ثعلبة العائذي" و"شمر بن ذي الجوشن"- حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس"[29].
ولكن التأمّل في كلام المفيد بأجمعه ولا سيّما المقطع الذي يسبق العبارة المذكورة يفيد بأنّ مجموعة الرأس قد وصلت إلى يزيد قبل إنفاذ المجموعة الثانية، وبصرف النظر عن ذلك، فلو كان المفيد يريد التأكيد على حصول اللقاء بين المجموعتين في
الطريق لوردت عليه الملاحظة المتقدّمة التي سجلناها على كلام عماد الدين الطبري.
خامساً: ومن عجائب هذا النصّ وغرائبه ظهور شخصيّة أخرى في الموكب في "أول بلد من بلاد الشام " بعد الخروج هرباً من "بَعْلَبَكَّ"، وهذه الشخصيّة هي "عُمْر بن سعد"، فكيف تمّ التعتيم على هذه الشخصيّة في كلِّ هذا المسير ليتمّ الحديث عنها
في هذه المحطة، مع أنّها شخصيّة محورية وأساسية في كلِّ أحداث معركة كربلاء؟! فمن أرسله؟ ومتى؟ وكيف وصل إلى "بَعْلَبَكَّ" وما بعدها؟! إنَّ هذا أمر لا نجد له جواباً، ولا نجد في المصادر الأخرى ما يؤيّده أو يشير إلى أنّ "ابن زياد" قد سيّر
"عمر بن سعد" إلى الشام! بل "الذي يظهر من التواريخ والسِّير أنّ "عمر بن سعد" لم يكن مع القوم في سيرهم إلى الشام"[30].
رابعاً: مقتل أبي مخنف
والمصدر الخامس الذي ورد فيه الحديث عن محطة "بَعْلَبَكَّ" كإحدى محطّات المسير التي سلكها الركب الحسيني في طريقه إلى الشام هو مقتل أبي مخنف "لوط بن يحي الأزدي" المــُتوفّى في القرن الثاني للهجرة، فقد نُقل عن أبي مخنف أنّه قال: "ثم
أَتَوا "بَعْلَبَكَّ"، وكتبوا إلى صاحبها أنّ معنا رأس الحسين (ع)، فأمر الجواري أن يضربن الدفوف ونُشرت الأعلام وضُربت البوقات، وأخذوا الخلوق(الطيِّب) والسكر والسويق وباتوا ثملين، فقالت أم كلثوم: ما يُقال لهذا البلد؟ فقالوا: "بَعْلَبَكَّ"، فقالت: أباد
الله خضراتهم، ولا أعذب الله شرابهم، ولا رفع أيدي الظلمة عنهم.."[31].
أقول مع التسليم باشتمال مقتل "أبي مخنف" المتداول على العبارة المذكورة، فإنّ ذلك لا قيمة له، لا لأنّ "أبا مخنف" لا يعتدّ بقوله، أو لا يُحتجّ بكتبه، كيف وهو "من رؤساء أهل الأخبار، وكلّ مَن ألّف في التاريخ نقل عنه وأخذ منه"[32]، بل لأنّ
النسخة، بل قل: النسخ المتداولة من كتابه "مقتل الحسين (ع)" لا يوثق بصحّتها، وقد عبثت بها الأيدي، وتعرّضت للتزوير واشتملت على "المطالب المنكرة غير الصحيحة"[33] والأخطاء التاريخية الفاحشة بحيث يُقطع بعدم صدور الكتاب عن
أبي مخنف، وهذا ما جزم به جَمْع من المحقّقين والباحثين[34].
خامساً: كلام منسوب إلى ابن شهر آشوب
وقد نسب بعض الكتّاب إلى ابن شهر آشوب[35] أنّه نصّ على مرور الموكب في مدينة "بَعْلَبَكَّ"، وأنه قد تمّ بناء مسجد في الموضع الذي وضع فيه رأس الإمام الحسين(ع)، قال: "وقصّة هذا المسجد ذكرها ابن شهر آشوب: وملخّصها: أنّه "لما
حمل جند الأمويين رأس الحسين(ع) إلى دمشق، مرّوا بـ"بَعْلَبَكَّ" فاستقبلهم سكانها مهلّلين فرحين بقتل الخوارج: وأقام الجيش في رأس العين، يرتوي، ويطلب الراحة، لكنَّ السيدة زينب ابنة علي بن أبي طالب، كشفت حقيقة الأمر للسكان، وعرّفتهم أنّ
القتلى هم آل بيت رسول الله(ص)، فانقلب أهالي "بَعْلَبَكَّ" ضدّ جند يزيد وهاجموهم يريدون أخذ الرؤوس ودفنها، ولما فشلوا، عبّروا عن وفائهم ببناء مسجد في الموضع الذي نُصبت فيه الرؤوس، وأَسْمَوْهُ "مسجد الحسين" وظلّ متواضعاً حتّى تسلطن
الظاهر بيبرس البندقداري (658- 676)، فأمر بعمارة المسجد وتوسيعه.."[36].
ولكنَّ هذه النسبة لا تصحّ، ولم يحدّد لنا الكاتب المذكور وهو الباحث الأكاديمي مصدر كلامه ولا أين ذكر ابن شهر آشوب المازندراني ذلك؟! كما أنّنا لم نجد أحداً من المؤرّخين أو الباحثين والذين تحدّثوا عن حركة الموكب الحسيني من الكوفة إلى
الشام قد نقل عن ابن شهر آشوب شيئاً من ذلك، والأهمّ من ذلك كلّه أنّنا وبمراجعة كتاب "المناقب" لابن شهر آشوب لا نجده قد تعرّض أو أشار لمرور الموكب على "بَعْلَبَكَّ" إطلاقاً! ولا ذكر "مشهد الرأس" في "بَعْلَبَكَّ" عندما تحدّث عن المشاهد التي
بُنيت باسم "مشهد الرأس" في العديد من البلدان، ابتداءً من "كربلاء إلى عسقلان وما بينهما في الموصل ونصيبين وحماه وحمص ودمشق"[37].
سادساً: مشهد رأس الحسين(ع)
وقد يعدّ وجود المسجد المذكور أو ما عُرف بمشهد رأس الحسين(ع) شاهداً على مرور الموكب في "بَعْلَبَكَّ"، بل إنّ وجود المشهد المذكور هو الشاهد الوحيد– بحسب الظاهر- الذي عوّل عليه بعض الباحثين[38] في إثبات مرور السبايا على
مدينة "بَعْلَبَكَّ"، وذلك في خارطة الطريق التي رسمها لموكب السبايا والرؤوس منذ أن غادروا أرض المعركة في كربلاء حتّى وصولهم إلى دمشق.
إلا أنّ هذا الشاهد لا يمكن الوثوق به، لأنّ المشهد المذكور لا نجد له ذكراً في أيٍّ من المصادر التاريخية أو كتابات الرحّالة أو علماء البلدان أو غيرهم ممّن سيأتي ذِكْرهم، بمن في ذلك صاحب "تاريخ بَعْلَبَكَّ" "ميخائيل ألوف"، وهو الذي تحدّث قبل
قرن ونيّف عن مساجد "بَعْلَبَكَّ" ومزاراتها، ومنها مقام "السيدة خولة" كما سيأتي، ومجرّد أن يشتهر في الآونة الأخيرة[39] في منطقة "بَعْلَبَكَّ" أنّ هذا المسجد هو مشهد للرأس الشريف فهذا لا يشكِّل قرينة إثبات، ما لم يثبت امتداده التاريخي،
وهو شرط ضروري للتأكّد من مصداقية أي مقام أو مشهد من هذا القبيل، كما فصّلنا ذلك سابقاً، ومن العجيب أنّ الباحث المذكور قد أصرّ على أنّ هذا المسجد هو مشهد رأس الحسين(ع) مرتكباً مصادرة واضحة لم يأتِ بما يثبتها أو يؤكدها[40]،
مع أنّه اعتمد في تحديد حركة موكب الأحزان على مصدر في غاية الأهمية وهو كتاب السائح الهروي (ت611هـ) الذي سجّل فيه- بحسب الباحث نفسه- بخبرة وبصيرة ووصفٍ دقيقٍ المشاهدَ التي بنيت باسم مشهد رأس الحسين(ع)، ولكن الهروي
وهو "حلبي المسكن" لم يأتِ على ذكر أيّ مشهد في "بَعْلَبَكَّ"، ولو كان موجوداً في زمانه لما أغفله، لأنّ كتابه "الإشارات إلى معرفة الزيارات" وضع بهدف التعريف بالمزارات المنتشرة في بلاد الشام ومصر والعراق، والرجل لم يعتمد فيما سجّله من
مزارات على النقل والسماع، وإنّما اعتمد على المعاينة، لأنّه كان سائحاً جوّالاً كاد– كما قيل- أن يطبّق الأرض بالدوران براً وبحراً وسهلاً ووعراً حتّى ضُرب به المثل، فقال جعفر بن شمس الخلافة في رجل:
قد طبَّقَ الأرضَ مِنْ سهلٍ ومِنْ جَبَلٍ كَأَنَّه خطُّ ذاك السائحِ الهروي[41]
وعليه، فكيف يُغْفِلُ الهروي ذكر هذا المشهد؟! إلاّ إذا كان غير موجود في زمانه، وأمّا تبرير إغفاله له بأنّ المشهد فيما يبدو بعيدٌ عن المدينة لا يراه السائح كالهروي[42]، فهو تبرير ضعيف، بل لا يخلو من غرابة، لسببَيْن:
أحدهما: أنّ دعوى بُعْدِ المشهد عن مدينة "بَعْلَبَكَّ" غير دقيقة، لأنّه على أبعد التقادير يبتعد عن المدينة بمئات الأمتار، وبما أنّ بناءه عالٍ ومرتفع، فمن الطبيعي أن لا يخفى على كلّ من كان داخل المدينة.
وثانيهما: أنّ الهروي ليس سائحاً عابراً، فهو خبير ولديه عناية خاصة بمعرفة المزارات، وهو بصدد التأليف في هذا المجال، ولذا حتّى لو فرضنا أنّ رجليْه لم تطأ أرض "بَعْلَبَكَّ"، فلا بدّ أن يسمع بأمر هذا المشهد لو كان موجوداً بالفعل.
ثَمَّ إنَّ القضيّة لا تتوقّف عند عدم تطرّق خصوص الهروي لأمر هذا "المشهد"، فكافة المؤرخين والبدانيين والرحالة والعلماء المهتمّين بالبحث عن المقامات الدينيّة ممّن مرّوا على "بَعْلَبَكَّ" وتسنّى لنا الوقوف على كلماتهم لم يتحدّثوا- ولو بإشارة عابرة- عن هذا "المشهد"، كما سنلاحظ كلماتهم فيما يأتي، ممّا لا نستطيع تقديم تفسير مقنع له إلاّ تفسير واحد وهو عدم وجود هذا "المشهد" في زمانهم.
والأغرب من ذلك أن يتّهم الباحث المذكور "الظاهر بيبرس" وابنه بأنّهما سعيا إلى طمس حقيقة هذا المشهد بإسباغ صفة المسجدية عليه[43]. دون أن يأتيَ على دعواه بأيِّ دليل أو شاهد يعضدها!
والخلاصة: إنّ الشواهد لا تسعفنا على تأكيد مرور موكب الأحزان على "بَعْلَبَكَّ"، وإن كان ذلك محتملاً، إذ ليس لدينا ما ينفي ذلك، كما أسلفنا.
3- هل توفّي أحد أفراد الموكب في "بَعْلَبَكَّ"؟
ولنسلِّم الآن بوجود خولة وبمرور الموكب على "بَعْلَبَكَّ"، لكن السؤال: ما الذي يثبت أنّ أحد أفراد الموكب وتحديداً بنت الامام الحسين(ع) قد توفيت في هذه المحطة، أو أجهضتها أمّها نتيجة العناء والأذى ودفنت في "بَعْلَبَكَّ"؟
من سوء حظِّنا أو حظِّ[44] المصرّين على صدقيّة المقام المذكور أنّا لا نستطيع الإجابة على هذا التساؤل إلاّ بالنفي، حيث تواجهنا حقيقة لا لبس فيها، وهي خلو المصادر ذات الصلة (بصرف النظر عن ضعف هذه المصادر ممّا سبق الحديث
عنه) من أدنى إشارة إلى وفاة أحد أفراد الركب في محطة "بَعْلَبَكَّ"، صغيراً كان، أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، سقطاً أو مولوداً، باسم خولة أو باسم آخر، وهذا أمر ليس طبيعياً أن تغفله الروايات التي تحدثت عن هذه المحطة في رحلة الموكب، بل إنّه وفي
ظلّ توفّر الدواعي القويّة لنقل القصة، ولا سيّما لدى تيّار المعارضة، كونها حادثة تدين السلطة الأموية وتُظهر فداحة المظلومية التي تعرَّض لها أهل البيت (ع) فلا يمكن أن نفهم هذا السكوت إزاء هذه الحادثة سوى باعتباره علامة سلبية تؤشر إلى
عدم حدوث شيء من هذا القبيل، وقديماً قيل: لو كان لبان.
4- ماذا عن المقام؟
ولكن ألا يشكّل وجود المقام نفسه وشهرة انتسابه إلى السيدة خولة بنت الحسين(ع) دليلاً كافياً لإثبات وجود هذه الشخصيّة ودفنها في تلك المنطقة؟ وبعبارة أخرى، ألا تصلح الذاكرة الشعبية المتلقاة جيلاً بعد جيل مستنداً لإثبات وجود "خولة" ودفنها في "بَعْلَبَكَّ"؟
والجواب: إنّ ذلك لا يمكن التعويل عليه، لأنّ الشهرة، على فرض تحقّقها، فهي محدودة ببعض أهالي المنطقة، هذا من جهة، كما أنّها من جهة أخرى لا تملك امتداداً تاريخياً يؤهِّلها إلى درجة الإثبات والاعتداد بها في إثبات صدقيّة المقام، والخلاصة: إنّ محدودية الشهرة جغرافياً وزمنياً يُفقِدها قيمتها العلميّة الإثباتية.
وأمَّا الذاكرة الشعبية لأهالي تلك المنطقة فلا يسعنا اتخاذها مستنداً لإثبات صدقيّة المرقد وانتسابه إلى السيدة "خولة" إلاّ إذا ثبت أنّ هذه الذاكرة ليست وليدة العصور المتأخرة، وانتفت القرائن والشواهد المعاكسة لها، ومن الواضح أنّ هذه الذاكرة لا
تملك امتداداً تاريخياً، ولا سيّما في ظلّ المتغيّرات السكانية والديمغرافية التي شهدتها مدينة "بَعْلَبَكَّ" وجوارها في مراحل عديدة من تاريخها، وما الذي يمنع أن يكون تشكّل الذاكرة المشار إليها قد انطلق من بعض الاعتبارات العاطفية أو غيرها، كقصة
المنام الآتية، كما رأينا ذلك في بلدان أخرى، حيث تستولد الذاكرةُ الشعبية عشرات الأبناء والأحفاد إلى أئمة أهل البيت (ع)، ومن ثم تُبنى لهم مقامات لا أساس لها من الصحة، كما سنلاحظ في الملحق رقم (1).
ثمَّ لو كان لهذه الذاكرة امتداد تاريخي يعبّر عن حقيقة واقعية فلماذا تمّ إغفالها والتعتيم عليها في شتّى المصادر والمراجع ذات الصلة؟! ولِمَ لَمْ يعبأ بها كلّ العلماء الذين ستأتي الإشارة إليهم؟!
على أنّ ثمّة ملاحظة هامة في المقام وهي أنّ هذه الذاكرة لا تنسب إلى موكب سبايا أهل البيت (ع) طفلةً واحدة قد توفّيت في بَعْلَبَكَّ وهي خولة، وإنّما تَنْسِب إلى هذا الموكب خمسة أفرادٍ آخرين قد قضوا في منطقة صغيرة هي منطقة البقاع اللبناني
[45]، ومع ذلك كلّه ورغم فداحة الخطب وعظيم المأساة فلا يشير أحد من العلماء والمؤرّخين والرحّالة.. إلى شيء من هذه الأحداث الجسيمة، أو ينقل لنا أسماء الذين قَضَوا في هذه المنطقة، أو مقاماتهم ومشاهدهم!!
الإشارة الأولى للمقام
ونحن- بحسب ما وسعنا التتبّع- وجدنا أنّ أول إشارة لهذا المقام وردت في كتاب "تاريخ بَعْلَبَكَّ" لمؤلفه ميخائيل موسى ألوف، قال وهو يعدّد المزارات الموجودة في هذه المدينة: "ومزار "خولة" للشيعة (المتاولة)، وهي ابنة الحسين بن عليّ بن أبي
طالب، قيل: لمّا سُبي أهل البيت(ع) في زمن الأمويين وأُتِيَ بهم دمشق مروا بـ"بَعْلَبَكَّ"، فماتت خولة فيها ودُفنت بها، وفي دار مزارها شجرة سروٍ قديمة العهد جداً"[46].
ولا يُخفى أنّ "ألوف" أسند كلامه إلى القيل مُعفياً نفسه من تحمّل مسؤولية المعلومة، ونخال أنّه استمدّها من الأحاديث الشعبية السائدة آنذاك في "بَعْلَبَكَّ"، والمستغرب أنّ بعض الكتاب المعاصرين ممّن كتب حول تاريخ "بَعْلَبَكَّ" تكلّم عن دفن خولة في
"بَعْلَبَكَّ" بلغة القطع والجزم وحدّد عمرها بستِّ سنين[47]، دون أن يأتيَ بدليل على كلامه أو يشير إلى مصدر عوّل عليه في ذلك، والظاهر أنّه هو الآخر استند إلى الرواية الشعبية المنتشرة في مدينة "بَعْلَبَكَّ".
وفي هذه المرحلة الزمنية كتب الشيخ صادق زغيب أبياتاً من الشعر تؤرّخ إعمار المقام[48].
عمر المقام
ولا نخال أنَّ عُمر هذا المقام يزيد على قرنين من الزمن (وربّما ثلاثة قرون على فرض صحة بعض الوقفيات أو الصور الفوتوغرافية)، وإذا ما كان موجوداً فهو غير معروف ولا يُشار إليه بالبنان، ومستندنا فيما نقول هو تتبّع المصادر ذات الصلة
بتاريخ "بَعْلَبَكَّ"، حيث لا نجد أيّة إشارة إلى مقام أو قبر يُعزى إلى إحدى بنات الحسين(ع)، وإليك توضيح ذلك:
أولاً: بمراجعة كتب العلماء البلدانيين، نجد أنّ شيخهم ياقوت الحموي لم يأت على ذكر قبر "خولة " أو مقامها، مع أنّه قد وصف "بَعْلَبَكَّ"، وتحدّث عن قبور بعض الشخصيّات فيها، مصحِّحاً وناقداً، فتحدّث عن قبر مالك الأشتر، نافياً صحته، على
اعتبار أن الأشتر مات في "القلزم"، وتحدّث عن قبر يُقال: إنّه لـ "حفصة بنت عمر" زوجة النبيّ (ص)، ونفى أيضاً صحّته، باعتبار أنّ "حفصة" زوج النبيّ (ص) ماتت في المدينة المنوّرة وقبرها معروف هناك، وأكّد أنّ القبر المشار إليه هو لـ
"حفصة" أخت "معاذ بن جبل"، وكذلك ذَكَر أنّ فيها- أي "بَعْلَبَكَّ"- قبر "إلياس" النبي(ع)، وبقلعتها مقام "إبراهيم"، وبها قبر "إسباط"[49]، ولكنّه لم يأتِ على ذكر قبرٍ منسوب إلى إحدى بنات الحسين(ع) أو مشهد لرأسه الشريف.
واللافت للنظر أنّ "الحموي" قد حدّثنا عن مشهد السقط "محسن بن الحسين" (ع) في مدينة "حلب"[50]، والذي يُحكى أنّ أمّه أسقطته عند مرور الموكب فيها، فَلِمَ لا يتحدّث عن مشهد خولة في "بَعْلَبَكَّ" لو كان موجوداً في زمانه؟! وإذا كان بعض
أمراء الشيعة[51] قد اهتمّوا ببناء مشهد السقط "المحسن" منذ ما يقرب من ألف عام، فَلِمَ لم يهتمّوا ببناء مشهد "خولة" لو كانت موجودة بالفعل؟! لا أريد بهذا الكلام، تأكيد وجود السقط المحسن، أو الجزم بالحادثة التي تُذكر بشأن إجهاضه، فهذا
أمر يحتاج إلى متابعة بحثية، وإنّما أريد بذلك التنبيه إلى أنّ قصّة خولة- مولودةً كانت أو سقطاً- ليس لها امتداد تاريخي، وإلاّ لاهتمّ بها الشيعة وبنوا لها مقاماً، كما فعلوا ذلك في "حلب" وربّما غيرها.
وثمّة تساؤلٌ آخر يُطرح في هذا المقام، وهو أنّه وبناءً على أنّ خولة بنت الحسين (ع) كانت سقطاً، كما أنّ المحسن بن الحسين (ع) هو الآخر سقط، فهل أنّ أمَّ السقطين واحدة وكانت تحمل توأماً، وقد أجهضت أحدهما في "حلب" والآخر في "بَعْلَبَكَّ"؟
إنّ هذا أمر مستبعد جدّاً، أو إنّ الأم مختلفة؟ وهذا يفترض أن يكون الإمام الحسين(ع) قد اصطحب معه في تلك الرحلة أكثر من زوجة، وهذا أمر بحاجة إلى إثبات.
ثانياً: وهكذا لا نجد شيئاً على هذا الصعيد في كتب الرحّالة (وهي من أهمّ المصادر في هذا المجال) الذين مرّوا على "بَعْلَبَكَّ"، أو ما جاورها من البلدان، ومنهم ابن جبير في رحلته المعروفة[52]، وكذلك الشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي
(ت1143هـ) في رحلتَيه: "حلة الذهب الإبريز في رحلة "بَعْلَبَكَّ" والبقاع العزيز" و"الرحلة الطرابلسية"، وهاتان الرحلتان للنابلسي في غاية الأهمية في بحثنا، ليس لأنّ النابلسي رجل خبير ودقيق، وهو من أهل المنطقة- أقصد بلاد الشام- فحسب، بل
لأنّه في الوقت عينه كان صوفي الهوى ومهتمّاً بالمقامات الدينيّة، وزيارتُها تعني له الكثير، كما يبدو واضحاً من رحلتيه المذكورتين واللتين مرّ فيهما على "بَعْلَبَكَّ" ووصف مزاراتها وقلعتها ومساجدها، وقد زار فيها مقام الشيخ عبد الله اليونيني، كما
زار "النبي شيث" و"كرك نوح" و"النبي أيلا"، إلى غير ذلك من البلدان التي قصدها بهدف زيارة مقامات الأنبياء والأولياء المنتشرة فيها، ولكنّه لم يُشر إطلاقاً إلى مقام يُنسب إلى خولة بنت الحسين(ع)، أو مشهد يُعزى إلى رأس الحسين(ع).
وثمّة رحّالة آخر متقدّم زماناً على النابلسي وهو الشيخ ابن محاسن (ت1053) وقد مرّ على "بَعْلَبَكَّ" وبلادها وزار الكثير من القبور والمقامات فيها ومع ذلك لم يُشر إلى مقام السيدة "خولة"[53] أو مشهد الرأس!
ثالثاً: وبمراجعة كتب المؤرخين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، نجد صمتاً مطبقاً إزاء خولة ومقامها، ولو على سبيل تسجيل الملاحظة النقدية من بعضهم لظاهرة معينة، كأن يتمّ الحديث عن أنّ للشيعة مقاماً يزورونه ويتبرّكون به.
رابعاً: ولا نجد ذكراً لهذا المقام أو سعياً للتعرّف عليه عند علماء الشيعة قاطبة، ولا سيّما علماء بلاد الشام، كعلماء "حلب" و"الكرك" و"مشغرة" وغيرهم من علماء جبل عامل، مع أنّ الدواعي متوفرة عند هؤلاء وحاضرة أكثر من غيرهم، فلم يُذكر في
سيرة أحدهم أنّه زار مقام السيدة "خولة"، أو تحدثّ عنه، أو حثّ الناس على زيارته، حتّى أنّ الفقهاء والعلماء الذين زاروا "بَعْلَبَكَّ" أو أقاموا فيها مدّة من الزمن، لم يُنقل عنهم شيء من ذلك، ومن هؤلاء الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي الجبعي
(ت948هـ) والذي أقام مدّة في "بَعْلَبَكَّ" وولد له فيها ابنه الشيخ البهائي[54]، وكذلك، فإنّ الشهيد الثاني زين الدين الجبعي (ت966هـ) أقام مدّة في "بَعْلَبَكَّ" ودرّس على المذاهب الخمسة في مدرستها النورية، ولم يُنقل عنه شيء يرتبط بزيارة
السيّدة خولة، مع أنّه قد زار "مشهد شيث عليه السلام" عندما كان في "بَعْلَبَكَّ" واستخار فيه لبعض أموره، كما نقل تلميذه ابن العودي[55].
وقد مرّ على بلاد "بَعْلَبَكَّ" و"جبل عامل" في عام 1221هـ العالم الحجازي الشيخ إبراهيم بن مهدي آل عرفات وأسهب في الحديث عن قبور الأنبياء الموجودة فيها، وسجّل الكثير من المشاهدات الهامة عن هذه المقامات وما هو مكتوب على جدرانها
وما يقوله الناس عنها، ولكنّه لم يأتِ على ذكر هذا المقام لا من قريب ولا من بعيد[56].
ويستمرّ هذا السكوت إلى ما يقرب من زماننا، حيث لم يُنقل أنّ أحداً من أعلام الإمامية قد زاره، من أمثال السيّد "أبو الحسن الأصفهاني"[57] والشيخ عبد الله نعمة (1219 هـ-1303هـ)[58]، وغيرهم من العلماء، وأمّا التقاط صورة للسيد
عبد الحسين شرف الدين أمام هذا المقام مع جمع من الأعيان فهو لا يدلّ على تبنّيه للمقام أو إقراره بوجود السيدة خولة، كما لا يخفى.
خامساً: لم نجد أنّ أحداً من العلماء المهتمين بالبحث عن المراقد والمزارات والمشاهد المشرَّفة أشار إلى هذا المقام أو القبر أو مشهد الرأس، مع أنّ ذلك من صلب اهتماماتهم، ويأتي على رأس هؤلاء العلامة البحّاثة الشيخ محمّد حرز الدين
(ت1365هـ)، فقد ألّف كتاباً قيّماً في الرجال أسماه "معارف الرجال"، وآخر حول المراقد والمقامات والقبور أسماه "مراقد المعارف" وتحدّث في كتابه الثاني عن المراقد المنتشرة في البلدان الإسلامية عامّة سواء كانت هذه المراقد لشخصيّات شيعية
أو غيرها، وقد سجّل في كتابه هذا وصفاً لبعض المقامات الموجودة في "بَعْلَبَكَّ"، ومنها مرقد حفصة بنت معاذ بن جبل، وأشار إلى أنّه قد سُئل عن هذا القبر (فلعله مرّ في "بَعْلَبَكَّ")، ونَقَل كلام ياقوت الحموي في معجم البلدان وما ذكره بشأن المقامات
التي تضمّها المدينة[59]، لكنّه لم يُشر إلى قبر خولة أو مشهد رأس الحسين(ع)، مع أنَّ ذلك من صلب اهتماماته، وبالرغم من أنّ المقام– مقام السيدة خولة- كان مشيداً في زمانه، ولا نجد تفسيراً لهذا الإعراض عن ذكره إلاّ عدم اعتنائه به، أو
كونه مغموراً بحيث لم يسمع به.
وهكذا نجد أنّ العلامة السيد محسن الأمين قد أهمل ذكر هذا المقام، هذا مع أنّ السيد الأمين- وهو العالم العاملي والخبير الموسوعي- قد كان هو الآخر مهتمّاً بالحديث عن بلدان الشيعة وما فيها من آثار ومشاهد ومعالم، مع أنّه قد تحدّث عن مشهد
"رقيّة بنت الحسين (ع)" في محلّة العمارة بدمشق[60]، ونراه أيضاً تحدّث في غير واحد من كتبه عن "بَعْلَبَكَّ" وقلعتها وآثارها وعن رموز التشيّع فيها وعن أمرائها الشيعة وسادتها ونقبائها الأشراف من آل مرتضى.. ولكنّه لم يتطرّق إلى هذا
المقام إطلاقاً، بل تجاهل الإشارة إليه، ولم يعبأ به، مع أنّه كان- بالتأكيد- مبنيّاً في زمانه[61].
سادساً: لم نجد أحداً من علماء التراجم الذين كتبوا في سيرة المعارف والشخصيات الشيعية من ذويّ الشأن العلمي أو الدينيّ أو الأدبي[62] سواء كانوا من الرجال أو النساء أو الأطفال قد تحدّث عن خولة بنت الحسين (ع)، مع أنّ هؤلاء- أي
علماء التراجم- قد دوّنوا في كتبهم أسماء شخصيات أقلّ شأناً من "خولة بنت الإمام الحسين(ع)"، فلو كانت "خولة" هذه شخصية حقيقية، فكيف غَفَلَ عنها هؤلاء أو أغفلوا ذكرها في كتبهم؟!
سابعاً: وأضف إلى ذلك كلّه أنّ بلاد الشام قد شهدت قيام دول وإمارات شيعيّة متعددة وفي فترات زمنية مختلفة، منذ حُكْم الفاطميين، وما تلا ذلك من دويلات شيعية انتشرت في بلاد الشام، كدولة بني عمّار في طرابلس، وإمارة الحمدانيين في حلب،
والتي امتدّت إلى بَعْلَبَكَّ، وإمارة آل حمادة في شمالي لبنان، وصولاً إلى الأمراء الحرافشة الذين حكموا في "بَعْلَبَكَّ" نفسها لما يقرب من أربعة قرون[63]، ومع ذلك فلم ينقل في أيّ مصدر من المصادر أنّ شيعة بلاد الشام قد زاروا هذا المقام ولا
سيّما في القرن الرابع الهجري وما بعده، حيث انتشر التشيّع في بلاد الشام[64]، ولم يذكر- أيضاً- أنّ أحداً من أمرائهم قد ساهم في بنائه وتشييده، كما هي عادة الكثيرين من الأمراء الشيعة[65]؛ هذا مع أنّ العلامة الأمين يذكر أنّ الأمراء
الحرافشة "بنوا المساجد في بَعْلَبَكَّ وغيرها"، وأنّ الأمير يونس الحرفوش بنى "جامع النهر" فيها[66]، ويذكر الشيخ "آل عرفات" في كشكوله أنّ بعض أمراء الحرافشة بنى مقام "النبي أيلا" في البقاع[67]، ولكن لم نجد- بحسب التتبّع- أنّ
أحدهم بنى مقام "السيدة خولة" أو مشهد رأس الحسين(ع)"! إنّ هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عدم امتداد هذا المقام تاريخياً، وأنّه مقام استُحدث في الأزمنة المتأخّرة.
الحجر المنقوش
في ضوء ما تقدّم اتّضح أنّه ليس ثمّة دليل يُعتدُّ به يشهد لصدقيّة هذا المقام، أو يثبت وجود "خولة بنت الحسين (ع)"، أجل يبقى في هذا المجال أمران قد يَتمسّك بهما البعض لإثبات صدقية المقام المذكور، والأمران هما:
الأمر الأول: هو الحجر المنقوش الذي بعث صورته مطران بَعْلَبَكَّ قبل مائة عام إلى الأب لويس شيخو اليسوعي، ونَشَرَ الأب "رنزڨـال اليسوعي" الباحث في الكتابات الشرقية تلك الصورة في مجلة المشرق[68]، وبحسب رنزڨـال فإنّ كتابة
النقش "غير سهلة القراءة في بعض المواضع فضلاً عن أنّها غير كاملة، وإليك- والكلام لرنزڨـال- ما أمكنا أن نقرأ فيها: "ً۱حسين بن علي... (؟) رضي ۲ً الله عنه في ذي الحجـ[ــة] ۳ً سنة سبع وسبعين وأر[بعمائة] ً٤ رب اغفر له وارحمْ"[69].
وقد ذكر بعضهم أنّ النقش المذكور عُثر عليه في مدينة بَعْلَبَكَّ وتحديداً "في مقابل "لوكندة عربيد"[70]، يعني في المكان الذي يقع فيه مقام خولة اليوم"، الأمر الذي استنتج منه أنّ هذا هو شاهد قبر كان على ضريح "السيدة خولة"، وأنّ عوامل
الزمان وعاديات الدهور أدّت إلى تهديمه وتهشيم أطرافه.
إلاّ أنّ هذا الشاهد لا ينفع في إثبات وجود "خولة" وتصحيح نسبة المقام إليها، أو إلى إحدى بنات الإمام الحسين (ع) أو أحد أبنائه، وقبل أن نسلّط الضوء على نقاط الضعف في هذا الشاهد (أي النقش) لا بدّ أن ننبّه إلى أنّ ما ذُكر من أنّ النقش عُثر عليه
في مقابل "لوكندة عربيد" أي في المحل الذي يقع فيه قبر "خولة" هو كلام لا وجود له في مجلة "المشرق"، ولم يرد في كلام "رنزڨـال" إطلاقاً، والإيحاء بأنّ هذا من تتمة كلامه مجانب للأمانة العلمية، إنّ نصّ "رنزڨـال" ليس فيه إيحاء بمكان العثور
على النقش، بل ليس فيه ما يشي بأنّ النقش قد تمّ العثور عليه في مدينة "بَعْلَبَكَّ" أساساً، واستفادة ذلك من أنّ موقع المطرانية آنذاك يقع بالقرب من المقام هو استنتاج غريب ولا شاهد عليه، لأنّ كون المرسل لصورة هذا النقش هو مطران بعلبك لا يعني
إطلاقاً أنّه عثر عليه في مدينة "بعلبك"، فضلاً عن أن يكون قد عثر عليه في مقابل المطرانية أو بالقرب منها.
بالعودة إلى النقش نفسه، فإنّنا وبعد التأمّل في صورته نسجّل الملاحظات التالية:
أولاً: مع أنّ "رنزڨـال" رجّح كون النقش هو نقش قبر، إلاّ أنّ هذا الأمر يحتاج إلى التثبّت منه من خلال الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص في مجال الآثارات القديمة، إذ ربّما كان النقش علامةً موضوعة على عتبة مسجد من المساجد- مثلاً- وسقطت بفعل العوامل المختلفة.
ثانياً: على فرض أنّه شاهد قبر، فليس هناك ما يثبت أنّ صاحب هذا القبر هو من ذرية الإمام الحسين (ع) المباشرين أو غير المباشرين، لأنّ الصخرة التي اشتملت على النقش إن كانت مهشّمة من أولها وقد سقط من النقش شيء فلا ندري ما هي
الأسماء أو الكلمات الساقطة التي توضّح لنا هويّة صاحب القبر، وأمّا إذا فُرض أنَّ الصخرة لم يسقط من رأسها شيء فسيكون اسم صاحب القبر هو "حسين ابن علي"، ولا يمكن بحال إرجاعه إلى الإمام الحسين (ع)، فهذا الاسم متداول بين المسلمين
ولا سيّما الشيعة، والترضي عليه بعبارة "رضي الله عنه" لا يستفاد منه أنّ اسم "حسين ابن علي" يرجع إلى الإمام الحسين (ع) وأنّ المترضّي عليه هو من أهل السنّة، أجل إنّ هذا الاحتمال إنّما يكون وارداً إذا ثبت سقوط اسم ما من أول النقش، لكنّ
هذا ليس واضحاً من صورة النقش ولم يُشر إليه "رنزڨـال" إطلاقاً. وفي أحسن التقادير فإنَّ هذا مجرد احتمال ضعيف لا يُبنى عليه.
ثالثاً: وممّا يبعث على مزيد من الشكّ في أن يكون المقصود بالاسم هو الإمام الحسين (ع) أنّ ثمّة كلمةً غير مفهومة في صورة النقش جاءت بعد اسم "علي" مباشرة، وقد أشار "رنزال" إلى ذلك بوضع عدّة نقاط (...) لأنّه لم يفهم الكلمة، ويبدو أنّها من
تتمّة الاسم، ومن المحتمل أن تكون هذه الكلمة هي "أسمر"، أو ما هو قريب من ذلك، ما يجعل من الراجح أن تكون إشارة إلى عائلة صاحب الضريح، أو أنّها تتمّة لاسمه، لاحتمال أن يكون اسمه مركّباً.
رابعاً: بالإضافة إلى ما تقدّم، فإنَّ ثمّة عبارة وردت في آخر النقش هي ذات مغزى ودلالة هامّة، لأنّها تسلّط الضوء على هُوُيّة الشّخص الذي يرمز النقش إليه، والعبارة هي: "ربّ اغفر له وارحم"، فهذه العبارة تدلّ على أمرين في غاية الأهمّية:
أحدهما: أنّ صاحب الضريح هو ذكر وليس أنثى، بقرينه تذكير الضمير في "له"، وهذا واضح وجليّ.
ثانيهما: أنّ صاحب الضريح بالغٌ وليس طفلاً، لأنّ الرحمة والمغفرة الإلهيّتين، إنّما تُطلبان للبالغين لا للصغار، كما هو معروف، لأنّ الصغار مطهّرون عن دنس المعاصي والذنوب، بسبب رفع قلم التكليف عنهم، فلا معنى لطلب المغفرة لهم.
وما نستنتجه ممّا تقدّم ليس فقط عدم ارتباط النقش المذكور بـ"خولة" أو غيرها من بنات الإمام الحسين(ع)، بل وعدم ارتباطه بأيٍّ من أبناء الإمام الحسين (ع) ولو كان ذكراً، لأنّه- كما هو معروف- لم يبقَ للإمام الحسين (ع) بعد معركة كربلاء ذَكَرٌ
بالغ إلاّ علي بن الحسين(ع)، ما يعني في المحصّلة أنّ اسم "حسين ابن علي" الموجود في النقش لا يُراد به الإمام الحسين (ع)، بل رجل آخر، والله العالم.
المنام والمقام
الأمر الثاني: هو المنام المتداول في بعض الأوساط في "بَعْلَبَكَّ" وحدّثني به بعض علمائها وخلاصته: إنَّ أحد الأشخاص من الطائفة السُّنّية من "آل الخرفان"، ويقال: من "آل جاري" رأى في منامه طفلةً تخبره أنّها مدفونة في بقعة معينة من بستانه،
وأنّ الساقية التي تحمل المياه تمرّ على قبرها فتؤذيها، فحدّث الرجل بمنامه هذا أحد السادة من "آل مرتضى"، فحفر بدوره في تلك البقعة، فوجد جثة طفلة صغيرة، فاهتمّ لأمرها وقام بدفنها حيث المقام اليوم، ولكن لا ندري من أسمى هذه الطفلة باسم
"خولة" وأنهى نسبها إلى الإمام الحسين(ع)؟ فهل هي التي أخبرته في المنام باسمها ونسبها؟ سنفرض أنّ الأمر كذلك، ولكن هل يمكننا التعويل على هذا المنام في إثبات صدقيّة المقام؟
قد ذكرنا في الفصل الأول أنّ المنام ليس حُجّة شرعاً ولا يمكن التعويل عليه في إثبات صحّة المراقد، ولكن قد يقال: إنَّ لهذا المنام خصوصية تفرض علينا التصديق به والتعويل عليه، لأنّ الواقع صدّقه، وذلك بعد نبش القبر والعثور على جثّة الطفلة
مطابقة لوصف الشخص الذي رآها في المنام.
لكن قصة المنام هذه تواجهها عدة ملاحظات وأهمّها:
1- كيف لنا أن نتوثّق من صدق المنام وحصوله فعلاً؟ إذ إنَّ مجرد انتشار القصة اليوم لا يصلح دليلاً على حصولها فعلاً، ولا سيّما مع معارضتها برواية شعبية أخرى منتشرة في منطقة بَعْلَبَكَّ أيضاً، وهي رواية تقدّم لنا قصةً أخرى لهذا
المقام، وهي قصة السقط، ومفادها: أنَّ زوجة الإمام الحسين(ع) قد تعرّضت للإجهاد والتعب، فأسقطت حملها ودفت في تلك البقعة، فبأيّ القصّتين نأخذ؟ وأيّهما نصدّق؟
2- مَن الذي يضمن أن لا تكون قصة المنام "مفبركة" من قبل الشخص نفسه الذي زعم رؤية المنام، فربّما كان على علم بدفن طفلةٍ معيّنةٍ في بعض الأمكنة، ثم اختلق قصة المنام وذهب إلى بعض السادة من "آل مرتضى" وهم شيعة مُحِبّون
لأهل البيت (ع) وزعم أنّه رأى في منامه بنتاً للحسين (ع) في المكان الفلاني وأنّ ساقية المياه تؤذيها، طمعاً منه في كرم هؤلاء السادة وما قد يغدقونه عليه من أموال، وإلاّ فلماذا لم يذهب هذا الرجل وهو سنّي المذهب إلى بعض علماء السُّنة ليخبرَه بالمنام؟!
المصدر : بقلم سماحة الشيخ حسين الخشن