بحث حول الفتوة

بحث حول الفتوة
الكاتب: منتظر الأعرجي

معنى الفتوة :


يرجع تاريخ هذا المصطلح إلى العصر الجاهلى، حيث تغنى شعراؤه بالفتوة، مثل طرفة بن العبد وغيره، وكانوا يعنون بها طائفة من الأخلاق تجتمع فيمن يسمى بالفتى، مثل: الكرم والشجاعة والفروسية والنجدة، بالاضافة إلى أخلاق سلبية، مثل اللهو ومعاقرة الخمر وما إليها .. 

ويشتبه مصطلح الفتوة بمصطلح المروءة عندهم من حيث المعنى، وإن كانت الفتوة تطلق على الشباب بينما تطلق المروءة على الكهول من الرجال، وبعض الباحثين يرى أنَّ معنى الفتوة أعم من معنى المروءة، وبعضهم يقول: إنهما لفظان مترادفان.

ولمِّا جاء الإسلام أقر كثيرا من أخلاق الفتوة الجاهلية، ولكن بعدما هذّبها وحوّلها من فضائل فردية أو قبلية إلى أخلاق دينية تطلب من أفراد المجتمع الجديد، ولغايات أسمى من غايات المجتمع الجاهلى. ولذلك أخذ معنى الفتوة فى صدر الإسلام منعطفا متميزا، وإن ظل شبيها فى بعض الوجوه بما كان عليه فى الجاهلية؛ فقد بقيت أخلاق الشهامة والكرم وحماية الضعيف كما هى، واندثرت الأخلاق التى تتنافى مع قيم الدين، مثل القبلية واللهو والخمر.  
فأيد الاسلام ماهو صح و أنكر ما هو خطأ .
 ثم طرأت تغيرات جذرية- فى العصور المتأخرة- على مفهوم الفتوة نتيجة للتطور السياسى والاجتماعى وعاد السلوك الجاهلى- من جديد- سمة بارزة فيمن يتصف بالفتوة، وأصبح اللهو والغناء والسكر والتشبيه بالنساء من أخلاق الشباب وشمائلهم، كما أصبحت العيارة و الشطارة و قطع الطريق مرادفات للفتوة . 

تعريف الفتوة 

الفتوة لغةً : هي الكرم و السخاء 
و  فتى مفرد و الجمع فتيان و فتية 

الفتوة اصطلاحاً : عرفة بتعاريف كثر نذكر ما هو منها مهم 

الفتوة : هي فضيلة من الفضائل الاخلاقية تكتسب بواسطة قوى النفس .
وقيل : هي حسن الخلق عامة .
وقيل : ليس الفتى بمعنى الشباب و الحدث إنما هي بمعنى الانسان الكامل الجزل .
وقيل : الفتى مَن كسر الأصنام - قال الله تعالى (( سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم )) سمي فتى لانه كسر الأصنام و صنم كل إنسان نفسه فمن كسر صنم نفسه و خالف هواة فهو فتىً على الحقيقة . 
وقيل : هي ان تكون خصماً لربك على نفسك .
وقيل : هي كف الاذى و بذل الندى .

و صنفت الفتوة عند أهل العرفان بالمقام - 39 - و في مصطلح أهل العرفان هي اسم لمقام القلب الصافي عن صفاة النفس و ذلك الصفاء هو زيادة الهدى بعد الايمان و لهاذا لما سأل موسى - ع - ربه عن الفتوة قال (( ان ترد نفسك الي طاهرة كما قبلتها مني طاهرة )) . 
و قد اجمع السادة العارفين بالله على تمجيدها و اعتبارها مزية لا يتأتى لأي كان ان يتصف بها .

و القران الكريم تحدث عن الفتوة باعتبارها المضمون الصالح للشباب 
وذلك من خلال الوصايا التي قدمها لقمان الحكيم - ع - الى و لدة و التي تضمنت الأسس العامة للتكامل في مسيرة الشباب و الأبناء حيث قال في سورة لقمان ..... 
(( وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّـهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّـهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ * وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ )) لقمان - 13 الى 19 -

ففي هذا النص الشريف مضامين عالية و أسس عامة في الأخلاق الاسلامية و لو تناولت بالبحث من قبل الخطباء لتطلب منهم البحث أشهر حتى يعطوه حقه و لنتفعت به الأمة ببركات مافيه من علم و معارف . 

و قد ورد توضيح هذا المفهوم للفتوة و مضمونها الحقيقي في كلمات أهل البيت - ع - و ذلك من خلال ذكر المصاديق الصحيحة لها . 
فقد ورد عن ابي قتادة ( قال كنّا عند ابي عبد الله الصادق - ع - اذ تذاكروا عنده الفتوة فقال : و ما الفتوة ؟ لعلكم تظنون انها بالفسق و الفجور . كلا إنما الفتوة طعام موضوع و نائل مبذول و بشر مقبول و عفاف معروف و اذى مكفوف و اما تلك فشطارة فتىً ) .
و عن علي - ع - قال ( نظام الفتوة احتمال عثرات الاخوان و حسن تعهد الجيران ) . 
و ورد عن الامام علي - ع - في غرر الحكم

ان الاتصاف بالفتوة اجمل زينة للإنسان حيث قال ( ما تزين الانسان بزينة اجمل من الفتوة ) . 

و يتبين من ذلك بشكل جلي ان الدلالات و الإيحاءات الربانية الخاصة بمصطلح الفتوة تتجاوز حدود الحداثة و الزمن المقاس بالايام و السنين لتشمل كل الأخلاق السامية الفاضلة التي دعا الاسلام الى التحلي بها مثل الكرم و البذل و الإيثار و كظم الغيظ و التسامح و التواضع و المروءة و الوفاء و الصبر على الاذى و الصدق و استحضار الله عز وجل في كل وقت وحين و السعي لنيل رضاه و كل الأخلاق الحميدة التي تسمى بالتعبير النبوي شعب الايمان .

و من خلال ما عرضناه عن معنى الشباب و معنى الفتوة يتبين ان لا ترادف بينهما بل بحسب التعبير المنطقي ان النسبة بينهما هي نسبة التباين و التباين : هو الاختلاف بين المصداقين من كل الجهات . 
و الفتوة صفة اخلاقية تزين الشباب و غير الشباب حال الاتصاف بها .

نماذج الفتوّة الصالحة في القران . 

ضرب الله - جل جلاله - للفتوّة الصالحة أفضل الأمثلة و أجملها في عدد من الأصفياء من الأنبياء الذين اختارهم الله - عز و جل - لرسالاته و وحيه و الاولياء الذين امتحنهم لعبادته . 

المثال الاول : هو ابراهيم - ع - هذا الفتى العظيم الذي كان يتطلع الى الافاق الواسعة و يفتش عن الحقائق الناصعة و يملك الشجاعة العالية فيتامل و يفكر في ملكوت السماوات و الارض فيدله الله تعالى على الحقيقة فيؤمن بالله و يتبرأ من الأصنام و من كل المشركين . 

قال الله (( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )) 
و كذلك قال (( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ))

و بهذا يصبح ابراهيم - ع - القدوة لكل الفتيان الشباب الموحدين الشجعان الرافضين للوثنية و الشرك و الانحراف و الضلال . 

المثال الثاني : الذي يضربه القران الكريم للفتيان الشباب هو يوسف - ع - هذا الفتى الذي آتاه الله العلم و الحكمة عندما بلغ أشده و اصبح الفتى القوي الصابر الصامد امام عواطف الشهوة و الاغراء بالجنس و الاغراء بالمال و الجاه و امام ضغوط الاضطهاد و القمع و المطاردة و التهديد بالسجن و النفي و الفتى الثائر المكسر لكل القيود و الأغلال أغلال العبودية و أغلال الشهوات و أغلال المجتمع الفاسد .

حيث قال الله - عز وجل - (( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )) 

المثال الثالث : موسى - ع - هذا الفتى الذي عاش في احضان البيت الفرعوني و الفرعونية و تربى في محيط الطاغوت و الجبروت و الترف و الجاه و الدلال لان فرعون كان قد اتخذه ولد له . و لكنه بقي متمسكاً بجذوره الرسالية و مرتبطاً بأصل فطرته الإلهية الربانية يتجنب معونة الظالمين و ينتصر للمظلومين و يدافع عنهم و يمد يد العون و المساعدة للضعفاء و المحتاجين و يتحمل الآلام و المعاناة و المطاردة و الهجرة من اجل ذلك يؤثر على نفسه و لو كان به خصاصة . 
قال الله - عز وجل - (( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )) (( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ )) 

المثال الرابع : هم أهل الكهف هؤلاء الفتية الذين من الله عليهم بنعمت الايمان و التكامل الروحي فانكروا الظلم و الظالمين و آووا الى الكهف هرباً بعقيدتهم . 
قال الله - عز و جل - (( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً * وَ رَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً * هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّـهِ كَذِباً * وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّـهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ))

المثال الخامس : مريم أبنت عمران هذه الفتاة التي تمنت الموت على ان يخدش في شرفها و كرامتها 

قال الله - تعالى - (( وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ )) ((وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا * فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى‏ جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ))

المثال السادس : اسيا امرأة فرعون . هذه المرأة التي آثرة الايمان على الكفر  تحت التعذيب و التهديد بالقتل و زهدة بالعز و الدلال و تركت ملذات الحياة الدنيا  مؤمنة بقضاء الله و قدره  . حيث قال الله - سبحانه على لسانها (( وَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ))

ان هذه الصور و الأمثلة الواقعية الجميلة و المعبرة عن الأبعاد المختلفة تنطلق من مفهوم صحيح للفتوة و الشباب و القوة و هي التوحيد في العبودية و رفض العبوديات الاخرى و السيطرة على الشهوات و الرغبات و نصرة المضلومين  و مساعدة الضعفاء و المحتاجين و التمرد على الواقع الفاسد و رفضه بشجاعة و تضحية 

جعلنا الله واياكم من السائرين بنهج الفتية الصالحين و الاولياء المخلصين 
تعليقات