بسم الله الرحمن الرحيم
سلام على ال يس
اللهم صلِّ على محمد وال محمد بعدد دقات قلب الحجة ابن الحسن(عليه السلام)
يتكلم البحث بصورة مختصره عن:
*الإمام المهدي الموعود في روايات أهل السنّة
*ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) المصلح العالمي
*ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) بين الإعلان والكتمان
*الإمامة المبكرة للإمام المهدي (عليه السلام)
*الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عليه السلام)
*النوّاب الأربعة للإمام المهدي (عليه السلام)
*الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عليه السلام)
*أسباب غيبة الإمام المنتظر (عليه السلام) وفوائدها
*رؤية الإمام المهدي (عليه السلام) في الغيبة الكبرى
*المقدَّس الأردبيلي يتشرّف بلقاء الإمام (عليه السلام)
*الحاج علي البغدادي يتشرّف بلقاء الإمام (عليه السلام)
*حقيقة انتظار الظهور، وأهميته في عصر الغيبة
*علائم ظهور الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)
*ظهور وقيام الإمام المهدي (عليه السلام)
*الدولة الكريمة للإمام المهدي (عليه السلام)
*زيارة آل يس
*****************************
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى الصَّالِحُونَ)(1)
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)(2)
المصلح العالمي في أقوال الرّسول (صلّى الله عليه وآله) قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله): (لو لم يبقَ من الدهر إلّا يوم واحد لبعث اللَّه رجلاً من أهل بيتي
يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً) (3)
قال رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله): (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي، اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي، يملأ الأرض عدلاً كمامُلئت جوراًفذلك هوالمهدي) (4)
المقدمة
مسألة الإمام المهديّ المنتظر جديرة بالإهتمام لعدّة أسباب:
أوّلاً: لأنها عقيدة مهمّة من العقائد الإسلاميّة والشيعية بصورة خاصّة فلا يجوز عدم الإهتمام بها كما لا يجوز عدم الإهتمام ببقية العقائد الإسلاميّة.
ثانياً: لأنَّ هذه المسألة كانت ولا تزال نافذة أمَلٍ للمستضعفين، وهي خير حافزٍ للعمل والجدّ في سبيل نشر الإسلام وإشاعة المذهب تمهيداً لقيام الحكومة المهدوية العالمية.
ثالثاً: لأنَّ هذه المسألة أصبحت اليوم غرضاً لسهام المغرضين والمبطلين من الكفار والمنافقين نظراً لأهمّيتها في حياة المسلمين، وخاصّة في هذا العصر.
من هنا لا بدّ من العمل بشتّى أنواعه لبثّ وتعميق وعولمة هذه العقيدة الحيوية والبنّاء ة وتكوين حالة عامة من الاعتقاد بالإمام المهدي الموعود لتهيأ العالم لمجي ء ذلك المنقذ الكبير وذلك المُخَلِّص العظيم للبشرية من شرور الاستكبار والاستعمار ومن براثن الظلم والجور، والفساد والانحراف، وليتحقق به وعدُ اللَّه الذي لا يتخلّف.
وهذا الكتاب على اختصاره خطوة مباركة في هذا السبيل قام بها الأخ العزيز المحترم أيوب الحائري الذي عُرف بنشاطه الفكري وفعالياته الثقافية.
وفّقه اللَّه للمزيد، وأخذ بيده لما فيه رضاه انه نعم المولى ونعم النصير.
المهدوية في الكتب والشرايع السماوية
لا أعتقد أنّ بحثاً من البحوث الإسلامية قد نال إهتمام علماء الإسلام كموضوع الإمام المنتظر المهدي الموعود (عليه السلام) فقد بُحث من جميع جوانبه على ضوء الكتاب والسنّة، كما تطرق لبحثه غير واحدمن رجالات العلم والمعرفة في الأديان والمذاهب السماوية الأخرى لأنَّ الإيمان والإعتقاد بظهور المنقذ والمصلح العالمي المنتظر الذي يشكل ويمثّل جوهرة الفكرة المهدوية في الإسلام كما هو موجود عندنا موجود في تلك الأديان والمذاهب أيضاً،والإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالمي تعبّر عن حاجة فطرية عامة للإنسان وتتقوم هذه الحاجة على تطلّع الإنسان إلى الكمال فهي فكرة قديمة وليست مقصورة على الإسلام، وقد تعرّض القرآن لهذه الفكرة والوعد الإلهي بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى الصَّالِحُونَ) (5). فالزبور كتاب داوود، والذّكر هو التوراة كما جاء في التفاسير ولابدَّ أن يتحقق هذاالوعد الإلهي يوماً ما، وإن كان هذا اليوم هو آخر يومٍ من عمر الدنياكما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: (لو لم يبقَ من الدهر إلّا يوم واحدلبعث اللَّه رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً) (6).
والآية الأخرى التي تشير إلى هذا الوعد الإلهي، قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (7).
وهذه الآية وإن وردت في شأن بني إسرائيل واستيلائهم على زمام الأمور بعد تخلّصهم من قبضة الفراعنة - ولكن هذا التعبير (ونريد) يشير إلى إرادة إلهية مستمرة، ولذلك طبقت الآية في الكثيرمن الروايات على ظهور المهدي (عليه السلام) (8).
إنّ أمثال هذه الآيات التي لم نذكر إلّا نماذج منها، وغيرها من الآيات (9) شواهد على أنَّ قيادة العالم ستنتهي لعباد اللَّه الصالحين،وهذا الأمر لا خلاف فيه بين الأديان والمذاهب، وهذه الحقيقة من شأنها أن تساعد على إسقاط أربع شبهات في المسألة المهدوية في آن واحد.
فهي توضّح أوّلاً: بطلان الشبهة القائلة بتفرّد الشيعة بالقول بالمهدوية.
وثانياً: بطلان الشبهة القائلة بأن المهدوية أسطورة إذ ليست هناك اسطورة تحظى باجماع الأديان السماوية وغير السماوية ويتبناها العلماء والمفكرون والفلاسفة.
وثالثاً: بطلان الشبهة القائلة بدور اليهود في ايجاد العقيدة بالمهدوية بحجة أن الفكرة موجودة عند اليهود وغيرهم.
كما توضّح رابعاً: بطلان الشبهة القائلة بأنَّ فكرة المهدوية وليدة الظروف السياسية الحرجة التي عاشها أتباع أهل البيت (عليهم السلام)،فما أكثر المظلومين والمضطهدين على مَرِّ التاريخ وعبر الزمن وفي شتى بقاع الأرض ومع ذلك لم يعرف عنهم هذا الإعتقاد، وما أكثرالأفراد والجماعات التي آمنت بهذه الفكرة بدون معاناة لظلم واضطهاد.
نعم لا ريب بحصول عوامل ضغطٍ واضطهادٍ دفعت باتجاه التمسّك بالفكرة المهدوية أكثَرْ لا أنها تنشئ هذه الفكرة وهذاالإعتقاد واوجدتها من حيث الأساس.
إذن الإيمان بحتمية ظهور المصلح الديني العالمي وإقامة الدولة الإلهية العادلة في كل الأرض من نقاط الاشتراك البارزة بين جميع الأديان والمذاهب، والإختلاف بينهم إنما هو في تحديدهوية ومصداق هذا المصلح العالمي الذي يحقق جميع أهداف الأنبياء والأوصياء. وسنبحث حول هوية هذا المنفذ والمصلح العالمي، وسوف نبرهن على أنّه قد وجد ولا زال موجوداً ولكن غاب عن الأنظار لمصلحة علمها عند اللَّه سبحانه وتعالى، ويتطلب منّا بحثٌ كهذا الرجوع لمرويات الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله والمصادرالتاريخية ليتضح للجميع أنَّ ذلك المصلح العالمي العظيم قد ولد في منتصف شعبان سنة (255) من الهجرة في سامراء وهو المهدي محمد بن الحسن العسكري، الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليه السلام) الذي يملأ اللَّه به الدنيا عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
وبهذا المعنى وردت روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته (عليهم السلام) وهي تدل على تعيين نسب المهدي وكونه من أهل البيت (عليهم السلام) ومن ولد فاطمة (عليها السلام) ومن ذرية الحسين (عليه السلام) وهو الإمام والخليفة الثاني عشر بعد الرسول صلى الله عليه وآله (10).
والمتتبع للأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي في كتب أهل السنّة سيجدها تنسجم مع روايات الشيعة وتؤكد حقيقة واحدة.
ولتوثيق ذلك نستعرض بعضاً من تلك الروايات التي تحدَّثت عن اسمه ونسبه ولقبه وخروجه آخر الزمان.
الإمام المهدي الموعود في روايات أهل السنّة
عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي، اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي، يملأ الأرض عدلاًكما مُلئت جوراً فذلك هو المهدي) (11).
وعن أمّ سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله: (المهدي حقّ وهو من ولدفاطمة ) (12).
وعن علي (عليه السلام)، عن النبي صلى الله عليه وآله: (المهدي منّا أهل البيت،يصلحه اللَّه في ليلة ) (13).
وعن حذيفة بن اليماني رضى الله عنه قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فذكّرنابما هو كائن، ثم قال: (لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللَّه عزّ وجلّ ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من ولدي اسمه اسمي) فقال سلمان الفارسي (رض): يا رسول اللَّه من أي ولدك؟ قال صلى الله عليه وآله: (من ولدي هذا) وضرب بيده على الحسين (عليه السلام) (14).
وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أنا سيد النبيين،وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وإن أوصيائي بعدي اثناعشر أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم المهدي) (15).
وهكذا نرى بأنَّ الأحاديث والروايات الواردة في المهدي (عليه السلام) قد بلغت حدّ التواتر كما صرّح بذلك الكثير من علماء مدرسة الخلفاء، منهم الشوكاني في كتاب عون المعبود وابن كثيرفي البداية والنهاية والحافظ الكتاني في كتاب نظم المتناثر في حديث المتواتر.
وقال صاحب عون المعبود في شرح سنن أبي داوود: اعلم أن المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، انه لابُدّفي آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت (عليهم السلام) يُؤيد الدين،ويظهر العدل ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلاميّة،ويُسمّى بالمهدي، ويكون خروج الدجال بعده، وإنّ عيسى (عليه السلام) ينزل بعد المهدي، أو ينزل معه فيساعده على قتل الدجال، ويأتّم بالمهديّ في صلاته، وخرّج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم أبو داوود، والترمذي، وابن ماجه، والبزاز، والحاكم، والطبراني وأبو يعلى وإسناد أحاديث هؤلاء بين الصحيح والحسن والضعيف (16).
ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) المصلح العالمي
ولد المصلح العالمي المنتظر الإمام الثاني عشر الحجّة بن الحسن المهدي الموعود صلوات اللَّه عليه وعلى آبائه في فجر يوم الجمعة النصف من شعبان سنة مئتين وخمس وخمسين هجرية قمريّة (255 هـ. ق) الموافق لعام 868 ميلادي في مدينة سامراء (17). وأبوه هو الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام)، وأمّه السيّدة الكريمة (نرجس) وتسمّى بـ(سوسن) أيضاً، وهي ابنة (يوشعا)قيصر الروم، ومن الأم من نسل (شمعون) أحد حواريّي المسيح (عليه السلام). وكانت نرجس ذات منزلة رفيعة بحيث انّ حكيمة - وهي أخت الإمام الهادي (عليه السلام) والتي تعتبر من أهمّ سيّدات أهل البيت (عليهم السلام) -تخاطبها بقولها: (يا سيّدتي).
وعندما كانت (نرجس) في الروم شاهدت أحلاماً عجيبة،ففي إحدى المرّات رأت في المنام نبيّ الإسلام الأكرم صلى الله عليه وآله والسيّد المسيح عيسى (عليه السلام) وقد زوّجاها من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)،وفي حلم آخر شاهدت أمراً غريباً آخر وهو انّها قد أسلمت بدعوة كريمة من فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لكنها كتمت إسلامها عن أسرتها ومن يحيط بها حتى شبّت المعارك بين المسلمين وجُند الروم، وقاد قيصر الروم بنفسه الجيش إلى جبهات القتال. ورأت نرجس في النوم من يأمرها ان تتخفّى مع سائر امائها وخدمها وتسير مع فئة المقاتلين التي تتحرّك نحو الحدود، ونفّذت ما رأته بدقّة، ولماوصلوا إلى الحدود أُسروا جميعاً على يد بعض الطلائع من جيش المسلمين ومن دون ان يعرف المسلمون انّ فيهم أعضاء من أسرة قيصر الروم فقد حمل المسلمون الأسرى إلى بغداد.
وقد جرت هذه الحادثة في أواخر مرحلة امامة الإمام العاشر الهادي (عليه السلام)، وجاء مبعوث من الإمام الهادي (عليه السلام) يحمل رسالة منه مكتوبة باللّغة الرومية وسلّمها إلى (نرجس) في بغداد واشتراها من بائع الإماء وجاء بها إلى الإمام الهادي في سامرّاء، وعندئذ قام الإمام بتذكيرها بتلك الأحلام التي كانت قد رأتها من قبل وبشّرها بانّها ستصبح زوجة للإمام الحادي عشر وأُمّاً لولد سوف يسيطر على كلّ العالم ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً. ثمّ ان الإمام الهادي (عليه السلام) اسند شؤون (نرجس) إلى اخته الجليلة (حكيمة ) وهي من كبار سيّدات أهل البيت (عليه السلام)، لتُعلّمها الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية. وبعد مدّة من الزّمن أصبحت (نرجس) زوجة للإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
وكان من عادة (حكيمة ) انّها كلّما زارت الإمام العسكري (عليه السلام) دعت اللَّه ان يرزقه ولداً، وهي تقول: دخلت عليه فقلت له كما أقول ودعوت كما ادعو، فقال: يا عمّة اما انّ الذي تدعين اللَّه ان يرزقنيه يولد في هذه اللّيلة، يا عمّتاه بيتي الليلة عندنافانّه سيولد الليلة المولود الكريم على اللَّه عزّ وجلّ الذي يحيي اللَّه عزّ وجلّ به الأرض بعد موتها، قالت حكيمة: ممّن يا سيّدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحمل، فقال: من نرجس لا من غيرها. قالت: فوثبت إلى نرجس فقلبتها ظهراً لبطن فلم أربها أثراً من حبل فعدت إليه فأخبرته بما فعلت فتبسّم ثم قال لي: إذا كان وقت الفجريظهر لك بها الحبل لإنّ مثلها مثل أمّ موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها لإنّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى وهذا نظير موسى (عليه السلام) (يطوي سجلّ حكومة الفراعنة).
قالت حكيمة: فلم أزل أراقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لا تقلب جنباً إلى جنب حتى إذا كان في آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة فضممتها إلى صدري وسمّيت عليها،فصاح الإمام العسكري (عليه السلام) وقال: إقرأى عليها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ) فأقبلت أقرأ عليها، وقلت لها: ما حالك؟ قالت: ظهر الأمرالذي أخبرك به مولاي فأقبلت اقرأ عليها كما أمرني فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما اقرأ وسلّم عليّ. قالت حكيمة: ففزعت لما سمعت فصاح بي الإمام العسكري (عليه السلام) لا تعجبي من أمر اللَّه عزّوجلّ انّ اللَّه تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً ويجعلنا حجة في أرضه كباراً فلم يستتّم الكلام حتى غيّبت عني نرجس فلم أرهاكأنّه ضرب بيني وبينها حجاب فعدوت نحو الإمام العسكري (عليه السلام) وانا صارخة فقال لي: ارجعي يا عمّة فانّك ستجديها في مكانها،قالت: فرجعت فلم البث ان كشف الحجاب بيني وبينها وإذا أنابهاوعليها من أثر النور ما غشي بصري وإذا أنا بالصبيّ (عليه السلام) ساجداً على وجهه جاثياً على ركبتيه رافعاً سبّابتيه نحو السماء وهو يقول: (أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له وانّ جديّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وانّ أبي أمير المؤمنين ثمّ عدّ إماماً إماماً إلى ان بلغ إلى نفسه، فقال (عليه السلام): اللهمّ أنجز لي وعدي وأتمم لي أمري وثبّت وطأتي واملأ الأرض بي عدلاً وقسطاً... ) (18).
ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) بين الإعلان والكتمان
إنّ تاريخ بني أميّة وبني العبّاس، ولا سيّما منذ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) فما بعد، شاهد صدق على حساسية الخلفاء من الأئمة المعصومين، وذلك لأنّ هذه الشخصيات الكريمة كانت مورداهتمام المجتمع واحترامه، وكلّما مرّ الزمن ازداد نفوذهم وتعاظم حبّ الناس لهم، وبلغ الأمر بالخلفاء العباسيين ان رأوا سلطتهم في معرض الخطر، وبالخصوص عندما سمعوا ما اشتهر بين الناس من انّ المهدي الموعود من نسل النبي ومن أحفاد الأئمة المعصومين وهو ابن الإمام العسكري وسوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ماملئت ظلماً وجوراً، ومن هنا فقد أُخضع الإمام العسكري لمراقبة شديدة، وجُعِل تحت النظر في مركز الحكم العباسي (سامراء )كأبيه وجدّه، وحاول العباسيون بكلّ ما أوتوا من قوّة الحيلولة دون ولادة هذا الطفل وتربيته، إلّا أنّ المشيئة الإلهيّة تعلقّت بحتميّة هذه الولادة ولذا بائت جميع محاولاتهم بالفشل الذريع وذهبت جهودهم إدراج الرياح، وقد جعل اللَّه تعالى ولادته - مثل موسى (عليه السلام) - أمراً مخفيّاً، ومع ذلك فان الصفوة المختارة من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) قد شاهدوا الإمام الموعود مرّات عديدة في زمان حياة والده الكريم، وعندما استشهد الإمام العسكري (عليه السلام) فقد ظهرأيضاً إمام العصر (عليه السلام) وصلّى على جثمان والده ورآه الناس في هذه الحالة ثم غاب عنهم.
ومنذ ولادة الإمام القائم (عليه السلام) وحتى شهادة والده الإمام العسكري (عليه السلام) فقد وفّق كثير من الأصحاب المقرّبين للإمام الحادي عشر لرؤية الإمام المهدي (عليه السلام) أو للعلم بوجوده في دار الإمام (عليه السلام)،وأساساً فانّ طريقة الإمام العسكري (عليه السلام) قد جرت على الاحتفاظبولده الكريم طيّ الكتمان، ولكنّه في نفس الوقت كان يستغل الفرص المناسبة ليطلع أصحابه المؤتمنين على وجوده الشريف حتى ينقلوا ذلك للشيعة، لئلا يبقوا في حيرة من بعده، ونشير هنا إلى بعض النّماذج في هذا الشأن.
يقول أحمد بن إسحاق القمي - وهو من كبار شخصيّات الشيعة والأصحاب الخاصّين للإمام العسكري (عليه السلام) -: (دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) وانا أريد ان أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدء اً: يا أحمد بن إسحاق ان اللَّه تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخلّيها إلى ان تقوم الساعة من حجّة للَّه على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.
قال: فقلت له: با ابن رسول اللَّه فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على اللَّه عزّ وجلّ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، انّه سميّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق مثله في هذه الأمّة مثل الخضر (عليه السلام) ومثله مثل ذي القرنين، واللَّه ليغيبّن غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلّامن ثبّته اللَّه عزّ وجلّ على القول بإمامته ووفّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه.
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح: (انا بقيّة اللَّه في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين ياأحمدبن إسحاق) (19).
ومن جملة الأشخاص الذين علموا بولادة الإمام الموعود (عليه السلام) واطلعوا عليها: السيّدة الجليلة التقية حكيمة عمّة الإمام، ونسيم خادم الإمام العسكري (عليه السلام)، وأبو جعفر محمد بن عثمان العمري النائب الثاني من نوّاب الإمام المهدي (عليه السلام) وغيرهم من العلماء والمحدثين في زمن الإمام العسكري (عليه السلام) (20)، والعجب ان الإمام العسكري (عليه السلام) في الوقت الذي كان يخبر الخواص من أصحابه بولادة المهدي، لم يخبر أخاه جعفراً بذلك، ولم يعرف جعفر أن لأخيه ولداً، ولعله كان يعلم ذلك ولكنه كان يتجاهله لأسباب وأهداف. سنشير إلى بعضها في البحث عن الإمامة المبكرة للإمام المهدي (عليه السلام).
الإمامة المبكرة للإمام المهدي (عليه السلام)
قبل وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بخمسة عشر يوماً، كتب الإمام رسائل عديدة لشيعته من أهالي المدائن وسلّم الرسائل إلى خادمه أبي الأديان، وقال له: (امضي بها (أي بالرسائل) إلى المدائن، فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى (سرّ من رأى ) يوم الخامس عشر (أي من سفره) وتسمع الواعية في داري (21) وتجدني على المغتسل.
قال: أبو الأديان: فقلت يا سيدي فإذا كان ذلك فمن الإمام بعدك؟
قال: مَنْ طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي، ومن يُصلّى عليَّ فهو القائم بعدي فقلت زدني؟ فقال (عليه السلام): مَن أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.
ثم منعتني هيبة الإمام أن أسأله عما في الهميان، وخرجت بالكتب (الرسائل) إلى المدائن، وأخذت جواباتها، ودخلت (سرّمَن أى ) يوم الخامس عشر - كما ذكر لي (عليه السلام) - فإذا أنا بالواعية (الصراخ) في داره وإذا به على المغتسل، وإذا بجعفر بن علي أخ الإمام العسكري بباب الدار، والشيعة من حوله يُعزّونه بوفاة الإمام (عليه السلام) ويهنئونه بالخلافة والإمامة، فقلت - في نفسي - إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة. فتقدمت فعزّيت وهنأت، فلم يسألني عن شي ء، ثم خرج عقيد (خادم الإمام العسكري) فقال: يا سيدي قد كُفِّن أخوك، فقم وصلّ عليه، فتقدّم جعفر بن علي ليُصلّي على أخيه، فلّما همّ بالتكبير خرج صبّي بوجهه سُمُرة، بشعره قطط (22) بأسنانه تفليج (23) فجذب رداء جعفر بن علي وقال (تأخّر يا عم، فأناأحقّ بالصلاة على أبي) فتأخر جعفر، وقد إربدّ وجهه واصفرّ،فتقدم الصبيُّ وصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه الهادي (عليهما السلام) ثم قال الصبي: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه،وقلت هذه بيّنتان بقي الهميان.
بينما نحن جلوس، إذ قدم نفر (جماعة) من قم، فسألوا عن الحسن بن علي (عليه السلام) فعرفوا موته: قالوا: فمَن الإمام بعده؟ فأشارالناس إلى جعفر (24)، فسلّموا عليه، وعزّوه، وهنئوه، وقالوا: إنّ معناكتباً ومالاً، فتقول ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام جعفر ينفض أثوابه ويقول: تُريدون منّا أن نعلم الغيب؟!
فخرج الخادم (أي: خادم الإمام المهدي (عليه السلام)) فقال: معكم كتب فلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطليّة (بالذهب). فدفعوا إليه الكتب والمال، وقالوا: الذي وجّه بك لأخذذلك هو الإمام..... إلى آخر الحديث) (25).
وترى جعفراً يصرُّ على باطله ولا يتنازل عنه، وقد حمل إلى الخليفة المعتمد العباسي عشرين ألف دينار، لما توفي الحسن العسكري وقال له: يا أمير المؤمنين.... تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته!!
فقال الخليفة: إعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا، إنّما كانت باللَّه عزّ وجلّ، ونحن كنّا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه، وكان اللَّه عزّوجلّ يأبى إلّا أن يزيده رفعة، لما كان فيه من الصيانة والعلم والعبادة.
فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك،لم نُغنِ عنك شيئاً (26).
نعم تولّى الإمام المهدي (عليه السلام) بعد وفاة أبيه (عليه السلام) إمامة المسلمين في صغر سنه وكان عمره آنذاك خمس سنين وهذه الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فالإمام الجواد (عليه السلام) والإمام الهادي تولّيا الإمامة في الثامنة أو التاسعة من عمرهما وحينئذٍ لم يعد هناك اعتراض فيما يخص الإمامة المبكرة للإمام المهدي (عليه السلام) ويكفى دليلاً ومثالاً لظاهرة الإمامة المبكرة قوله تعالى: (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّة وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) (27) وقوله تعالى: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِصَبِيّاً × قالَ إِنِّي عَبْدُاللَّهِ آتانِى الْكِتابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً) (28) فإنّ اللَّه الذي أعطى يحيى الحكم وهو صبيّ وأعطى النبوة لعيسى وهو في المهد صبياً قادر على اعطاء الإمامة لعدد من أولياءه ومنهم الإمام المهدي (عليه السلام) وهو في سن الصبا، وقد تحقق ذلك فعلاً ولا حاجة لمزيد من الأدلّة لإثبات ذلك بعد ما ذكرنا من الكتاب الكريم من المصاديق المشابهة.