الاجتهاد وتطوراته في التاريخ .. الشيخ محمد علي الأنصاري

الاجتهاد وتطوراته في التاريخ
الشيخ محمد علي الأنصاري

مرت على الاجتهاد مراحل مختلفة، من الصعب تحديدها تحديدا دقيقا، ولكن يمكن حصرها في كل من المدرستين – السنية والشيعية – على وجه التقريب حسب ما تقتضيه المقدمة.


أولا – المدرسة السنية ومراحلها التأريخية:

مرت المدرسة السنية بمراحل كثيرة يمكن حصرها تقريبا في أربعة أدوار:

1 – دور الصحابة والتابعين. 2 – دور الائمة الاربعة، حتى انسداد باب الاجتهاد. 3 – دور انسداد باب الاجتهاد (عصر التقليد). 4 – دور الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد من جديد.

الدور الاول: دور الصحابة والتابعين
كان بعض الصحابة إذا عرضت لهم مسألة يحاولون أن يجدوا حلها من الكتاب أو السنة، فان وجدوا حلها فيها والا كانوا يعملون بما وصل إليه رأيهم في المسألة – وان كان هناك من يتوقف من الافتاء بالرأي – كما تدل على ذلك نصوص كثيرة.

ففي حديث ميمون بن مهران: ” كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فان وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وان لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” في ذلك الامر سنة قضى بها، فان أعياه خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله “صلى الله عليه وآله” قضى في ذلك بقضاء؟

فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” فيه قضايا، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبينا، فان أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ” [1].

وفي تعاليم عمر لشريح كما يؤثر عنه: ” فان جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله “صلى الله عليه وآله”ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الامرين شئت، وان شئت ان تجتهد برأيك لتقدم فتقدم، وان شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر الا خيرا لك ” [2].

وعن ابن مسعود أنه قال: ” من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فان لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيه “صلى الله عليه وآله”، فان جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد برأيه، فان لم يحسن فليقم ولا يستحي ” [3].

هذا، وكان في الصحابة من يفتي في المسألة بالرأي مع وجود النص الصريح فيها، ونحيل من أراد التوسع في ذلك إلى كتاب ” النص والاجتهاد ” للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين (قده) فانه تناول البحث فيه بصورة مفصلة.

نعم كان الاجتهاد في هذا الدور يتمثل في استنباط الحكم من الكتاب، فان لم يوجد فيه فمن السنة، وان لم يوجد في السنة فمن قول صحابي له فتوى في تلك المسألة – وبالطبع هذا يتصور بالنسبة إلى التابعين أو صغار الصحابة – فان لم يكن هناك فتوى لصحابي في المسألة، كان المفتي يرى رأيه في اعطاء جواب المسألة.


ومن خصائص هذا الدور تدوين السنة بأمر عمر بن عبد العزيز [4] وظهور الاختلاف بين الفقهاء في أواخر هذا الدور، الذي انتهى إلى انقسامهم إلى مدرستين: مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث.
الدور الثاني: دور الائمة الاربعة
ويمتد هذا الدور من اوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، وكان من ظواهر هذا الدور: اتساع الحضارة ونمو الحركة العلمية في الامصار الاسلامية، وازدياد حفاظ القرآن والعناية بادائه وتدوين السنة واصول الفقة، وظهور المصطلحات الفقهية، وظهور المذاهب الاربعة وغيرها من المذاهب المنقرضة، والنزاع في مادة الفقه – السنة والاجماع والقياس وغيرها – وانشقاق المدرسة إلى مدرستي الرأي والحديث.

ونحن نشير إلى الظاهرة الاخيرة، وهى انشقاق المدرسة فقط لان التوسع في ذلك يخرجنا عن الغرض من هذه المقدمة.

(ظهور مدرستي الرأي والحديث): ان من أهم مظاهر هذا الدور: اتساع الشقة بين مدرستي الرأي والحديث اللتين ظهرتا في أواخر الدور الاول، فتميزت المدرستان بكل وضوح.

1 – مدرسة الرأي: وكان مركز هذه المدرسة الكوفة، وأعظم روادها ابو حنيفة. ولبعد الكوفة عن المدينة – مركز الحديث والسنة – أثر كبير في ظهور هذه المدرسة، حيث كان الطابع العام لهذه المدرسة التشدد في قبول السنة ورفض كثير منها، والاعتماد على القياس والاستحسان وامثالهما.

وصار لهذه المدرسة صدى كبير يومذاك في العالم الاسلامي، فكان علماء المسلمين بين مؤيدين لها ومخالفين. وممن وقف أمام هذه المدرسة وزيفها أئمة أهل البيت – عليهم السلام – إذ انهم كانوا يرفضون العلم بالرأي والقياس كما سنبينه انشاء الله تعالى.

2 – مدرسة الحديث: ومن مظاهر هذه المدرسة الاعتماد على القرآن والسنة فقط ورفض القياس والاستحسان، ولذلك وقف بعض رواد هذه المدرسة موقفا عنيفا أمام مدرسة الرأي، فرفضوها رفضا شديدا.

ومن الصعب تحديد موقف هذه المدرسة أمام مدرسة الرأي، ولكن يبدو أن الامام، مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب الاربعة كان من المسارعين والدعاة إلى هذه المدرسة (أي مدرسة الحديث) ثم تم تشييدها بيد داود بن علي الظاهري – امام المذهب الظاهري –

فكان مالك يهتم بالحديث ولم يعمل بالقياس الا قليلا، حتى أنه بكى حين موته وود أنه ضرب في مقابل كل مسألة أفتى فيها برأيه سوطا! كما ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه (5).

وكان داود بن علي الظاهري يرى العمل بظاهر الكتاب والسنة ويرفض القياس رفضا باتا، لان في عموم الكتاب والسنة – بحسب رأيه – ما يفي بجواب كل مشكلة.

وأما باقي الائمة الاربعة – أي الشافعي وأحمد بن حنبل – فكانوا حدا وسطا بين هاتين المدرستين، فالشافعى بينما كان يعمل بالقياس كان يرفض الاستحسان رفضا باتا [6]. وبعد الصراع العنيف الذي كان بين المدرستين كان الفوز لمدرسة الرأي.

وعلى أي حال كان الاجتهاد في هذا الدور يعتمد على الكتاب والسنة والقياس والاستحسان والاجماع. وقد اختلفوا في كيفية الاجماع ومدى حجيته، فان الشافعي كان يرى ان الاجماع المعتبر هو اجماع جميع العلماء في البلدان كلها، وأنكر على المالكية قولهم ان المعتبر هو اجماع أهل المدينة كلهم، والزمهم بالمخالفات الكثيرة التى خالفوا فيها الصحابة كأبي بكر وعمر [7].

(المذاهب المنقرضة): وظهرت في هذا الدور أيضا مذاهب متعددة أخرى قد انقرضت ولم يبق منها الا الاسم، وكانت كثيرة، مثل مذهب سفيان الثوري والحسن البصري والاوزاعي وابن جرير الطبري وغيرهم، ولم يبق منها بعد القرن الرابع الا مذهب داود بن علي الظاهري حيث بقى حتى القرن الثامن [8].

الدور الثالث: دور التقليد
وهو دور حصر الاجتهاد والدعوة إلى التقليد،  ولا يمكننا تعيين بداية هذا الدور على التحديد، وذلك أن المحاولات لتحديد دائرة الاجتهاد كانت كثيرة وفي أزمنة مختلفة، فكانت هذه المحاولات في فترة بين الرابع والسابع الهجري، حتى تم ذلك – كما عن خطط المقريزي – في سنة 665 على يد ” بيبرس البندقداري ” حيث ولى مصر أربعة قضاة: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي.

فاستمر ذلك حتى لم يبق في مجموع أمصار الاسلام مذهب يعرف من مذاهب الاسلام سوى هذه الاربعة، وعودي من تمذهب بغيرها [9].

وفيما بين القرنين الخامس والسادس لم يدع احد الاجتهاد بمعناه الكامل، وانما وجد فقهاء ذوو اقتدار على الاستباط في حدود مذاهبهم، ومن أواخر القرن السابع لم يوجد غير فقهاء ذوي فتاوى وترجيحات، وبذلك ضاقت مجالات الاجتهاد حتى ذهب الظن ببعض الناس إلى أن باب الاجتهاد قد أغلق [10].

وتوقف الفقهاء في هذا الدور عن كل حركة علمية، واعرضوا عن النظر في الكتاب والسنة، ولبثوا يجترون بعض الكتب الفقهية القديمة، ولم يجدوا في شئ منها واغرموا بجدل لا يجدي نفعا، وخلافات سطحية حول هذه الجملة أو تلك، وانكبوا يعلقون على هذا الرأي أو ذاك، أو يشرحون هذا المتن أو يحشون هذا الشرح أو يعلقون على هذه الحاشية أو يذيلون هذا التعليق، وهكذا أفرغوا جهدهم في مماحكات لفظية وأفنوا كثيرا من وقتهم في خصومات صاخبة لم تعد على الاسلام والمسلمين بأية فائدة [11].

الدور الرابع: فتح باب الاجتهاد من جديد
وهو دور الدعوة إلى انفتاح باب الاجتهاد من جديد، وفي الواقع لا ينبغي أن نجعل هذا الدور دورا خاصا، لان هناك من كان يدعو إلى فتح باب الاجتهاد والاعتراض على سده منذ القرون التي أعلن فيها انسداد بابه حتى يومنا هذا، أمثال أبي الفتح الشهرستاني المتوفى سنة 548 (12)، وأبي إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 (13) والسيوطي المتوفى سنة 911،

وقد ألف السيوطي رسالة سماها ” الرد على من أخلد إلى الارض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض “، وقدم لهذه الرسالة بقوله: ” ان الناس قد غلب عليهم الجهل، وأعماهم حب العناد وأصمهم، فاستعظموا دعوى الاجتهاد وعدوه منكرا بين العباد، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أنه فرض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان، أن يقوم به طائفة في كل قطر ” (14).

وقال الشوكاني: ” ومن حصر فضل الله على بعض خلقه وقصر فهم هذه الشريعة على من تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عزوجل ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة ” (15).

وقال أبو محمد البغوي: ” وفرض الكفاية هو: أن يتعلم ما يبلغ رتبة الاجتهاد ومحل الفتوى والقضاء ويخرج من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصوا جميعا، لما فيه من تعطيل أحكام الشرع، قال الله تعالى: ” فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ” (16).

إلى غير هؤلاء من العلماء الكبار الذين كانوا يدعون إلى فتح باب الاجتهاد، ويقفون أمام غلقه. واستمر هذا الصمود أمام غلق باب الاجتهاد إلى القرون المتأخرة حيث ظهر في العلماء من يدعو إلى فتح بابه من جديد، امثال السيد جمال الدين الاسد آبادي (المشهور بالافغاني) الذي كان يقول: ” ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد؟ وأي امام قال: لا يصح لمن جاء بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدى القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه ” [17].

ومثل الشيخ محمد عبده حيث يقول: ” ان الحياة الانسانية للمجتمع الانساني حياة متطورة، ويجد فيها من الاحداث والمعاملات اليوم ما لم تعرفه أمس هذه الجماعة، والاجتهاد هو الوسيلة المشروعة الملائمة بين أحداث الحياة المتجددة وتعاليم الاسلام، ولو وقف الامر بتعاليم الاسلام عند تقفه الائمة السابقين لسارت الحياة الانسانية في الجماعة الاسلامية في عزلة عن التوجيه الاسلامي، وبقيت أحداث هذه الحياة في بعد عن تجديد الاسلام اياها.

وهذا الوضع يحرج المسلمين في اسلامهم ” [18]. ومثلهما محمد رشيد رضا حيث يقول: ” لا اصلاح الا بدعوة، ولا دعوة الا بحجة، ولا حجة مع بقاء التقليد. فاغلاق باب التقليد الاعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كل اصلاح، والتقليد هو الحجاب الاعظم دون العلم والفهم ” [19].

وهكذا سارت النهضة ضد اغلاق باب الاجتهاد والدعوة إلى فتحه من جديد، بيد الاعلام والمفكرين من علماء اخواننا السنة، فنرجو أن تصل هذه النهضة إلى هدفها المنشود.

الهوامش

1- الانصاف في بيان سبب الاختلاف كما عن دائرة المعارف لفريد وجدى: 3 / 212.
2- نفس المصدر.
3- تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية: 177 كما عن مقدمة النص والاجتهاد.
4- تاريخ التشريع الاسلامي: 111.
5- تاريخ ابن خلكان: 4 / 137.
6- تاريخ التشريع الاسلامي: 148.
7- تاريخ الفقه الاسلامي: 240، 248 كما عن المبادئ العامة للفقة الجعفري 265.
8- ادوار فقه للاستاذ محمود شهابي 3 / 654 (فارسي).
9- الخطط المقريزية 2 / 3 44.
10- الاجتهاد والتجديد في التشريع الاسلامي: 259، بتصرف.
11- الاجتهاد والتجديد في التشريع الاسلامي: 259.
12- المصدر السابق: 74.
13- المصدر السابق: 74.
14- الاجتهاد والتجديد في التشريع الاسلامي: 94.
15- المصدر السابق: 74.
16- المصدر السابق: 95، والاية في سورة التوبة: 122.
17- الاجتهاد والتجديد في التشريع الاسلامي: 356.
18- المصدر السابق: 377.
19- المصدر السابق: 390.

المصدر: كتاب توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد للشيخ آغا بزرك الطهراني.
تعليقات