كورونا والمسألة الدينية والشرعيّة

كورونا والمسألة الدينية والشرعيّة
حيدر حبّ الله

تمهيد
أكتب هذه الوريقات (5 ـ 3 ـ 2020م) وأنا شبه حبيس في منزلي منذ أكثر من أسبوعين، أخرج فقط للضرورة، بسبب فيروس كورونا المستجدّ الذي غزا العالم ـ بعد الصين ـ في مدّة بسيطة جداً. أعيش في مدينة قم الإيرانيّة هذه الأيّام، والتي اُصيبت ـ ككثير من مدن وبلدان العالم ـ بهذا الضيف غير المدعوّ، الذي حوّل حياة كثير من الناس إلى جحيم، وأربك آخرين.


لم يخطر في بالي خطوراً جادّاً من قبل أنّ فيروساً من هذا النوع كان يمكنه أن يتسبّب بجدل ديني ـ ديني، من جهة، وديني ـ لا ديني، من جهة ثانية، كنت ـ ويشاركني في ذلك كثيرون ـ أتوقّع أن أيّ عارض يتصل بسلامة الإنسان الفرد أو الجماعة فمن الطبيعي أن يكون دفعه أو رفعه من أولويّات الإنسان والدين والدولة والأمّة، لكنّ ضيفَنا هذا سبّب لنا مشاكل، وعزّز لنا في الوقت عينه قناعات راسخة كنّا نؤمن بها وكشف حضوره عنها جليّاً.

لقد شهدت مواقع الشبكة العنكبوتيّة (الانترنت) ومواقع التواصل الاجتماعي خاصّةً حيث نعيش حالياً، جدلاً وقيلاً وقالاً، انعكست أصداؤه على شخصيّات ورموز تدخّلت فيه سلباً أو إيجاباً، وما سأعلّق عليه في هذه الوريقات هو جزء أساس من المشهد الذي نراه الآن، والفيروسُ قابع على صدور الجميع يحصد يوميّاً الأرواح ويذهب بكثيرين للخلود في أسرّة المستشفيات، ويعطّل الحياة يوماً بعد آخر.

كورونا والجرح العاطفي العقائدي
أوّل الظواهر وأهمّها هو ما أعتبره جُرحاً عميقاً عقائديّاً وعاطفيّاً أصاب شريحة من الناس، ومعهم بعضٌ قليل من رجال الدين. لقد جاء هذا الأمر عقب قيام السلطات الدينيّة والرسميّة في إيران والعراق بحملة تعقيم وضبط لحركة زيارة المراقد الدينيّة، إلى حدّ الحديث عن إغلاقها المؤقّت، كما فعلت المملكة العربيّة السعوديّة مع البيت الحرام في موسم العمرة الرجبيّة. لقد تسبّب هذا الأمر في ظهور صورة تقول: إنّ المراقد الدينيّة هي أحد أهمّ مراكز انتشار الوباء، نظراً لطبيعة انتشاره عبر بقائه على الأسطح، وعلينا ـ للحدّ من انتشاره ـ أن نقوم بإجراءات صارمة قدر الإمكان.

هذا الأمر الذي يفترض أن يمرّ دون ضجيج، تسبّب بمشكلة عميقة لدى بعض الناس، نشأت من أنّ المراقد الدينيّة والمزارات تعتبر ملجأ الناس للعلاج من مشاكلها حيث يعجز الأطبّاء، فكيف يعقل أن تتحوّل إلى بؤرة لإضرار الناس وقتلهم وغير ذلك؟! إنّ الناس عندما تيأس من الطبّ تلجأ للإمام الكاظم لتطلب منه علاج نفسها من أمراض مزمنة فكيف يُعقل أن يكون الطبيب ـ وهو الأئمّة وأمثالهم ـ هو الضارّ المؤذي؟! كيف يعقل أن يلحق أهل البيت النبويّ الضررَ الكبيرَ بشيعتهم عبر تحميلهم هذا الوباء إلى بلدانهم التي رجعوا إليها من الزيارة؟! فهل يعطون زائرَهم السمَّ القاتل لينشروه بين الشيعة في لبنان والعراق والبحرين والكويت والإمارات وقطر والسعوديّة وسلطنة عُمان وغيرها أو هم الشافي المعافي والملجأ والركن الحصين وحماة الديار؟!

على خطٍّ آخر، تُشير بعضُ الروايات والأحاديث إلى أنّ مدينة قم هي البلد الآمن والملجأ من المخاوف حيث تكون سائر البلدان في خوف وانعدامٍ للأمن والسلامة، فأين ذهبت تلك الروايات حين تحوّلت قم ـ على ما قيل ـ إلى البؤرة الأخطر المصدّرة للفيروس إلى جميع المحافظات الإيرانية، ومن ثمّ العراقيّة وسائر دول المنطقة؟!

هذا المشهد تسبّب بردّتي فعل:

ردّة الفعل الأولى: وهي ردّة فعل الساخرين من بعض اللادينيّين والملحدين وأمثالهم، ممّن تحوّلت السخرية المحمّلة بفيروس التكبّر والتعالي إلى شعار أخلاقي لهم وصاروا يُعرفون بها وتُعرَف بهم. هؤلاء كتبوا في أنّ الفيروس لم يطل إلا المتديّنين، الذين يدّعون أنّ الله معهم، وأنّ كلّ أحاديثهم الدينيّة ومنظومتهم المذهبيّة هي منظومة خرافيّة اُسطوريّة بائسة، لم تتمكّن من مواجهة فيروس كشف عورتها وفضح سترها.

بل زاد هؤلاء نقدَهم الساخر عندما كتبوا بأنّ رجال الدين الذين لطالما دعوا الناس للمراقد الدينيّة وإحياء المناسبات المذهبيّة، وأنّ المراقد شفاءٌ من كلّ داء، ها هم اليوم يهربون من المدينة المقدّسة عندهم ويفرّون بأرواحهم ويتخلّون عن عقائدهم الزائفة، مما يكشف عن زيفهم وتضليلهم وكذبهم على الناس البسطاء. بل ذهب بعضهم لأكثر من ذلك عندما اتهم رجال الدين وطلاب العلوم الدينيّة بأنّهم بهربهم من المدينة المقدّسة نشروا الفيروس في مختلف المحافظات والبلدان، فهم في الحقيقة فيروسٌ ضارّ يُلحق الأذية حيث حلّ، وهم يتحمّلون بسلوكهم غير الأخلاقي هذا (خروجهم من المدينة) مسؤوليّة إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالبلاد.

ومع هؤلاء كانت بعض الأطراف المذهبيّة في العالم العربي تكتب أيضاً بالطريقة نفسها، لكن مسجّلةً نقدها على المنظومة المذهبيّة الشيعيّة، وليس على الدين كلّه.

ردّة الفعل الثانية: وهي ردّة فعل شريحة متديّنة كما قلنا، رفضت كلّ هذه المعطيات الواقعيّة، ودعت إلى وقف تحميل المزارات مسؤوليّة الوباء، وأصرّت على كون أهل البيت هم مركز الشفاء، وأنّ علينا الذهاب بشكل طبيعي للمراقد، وأنّ تعطيل المراقد هو مأساة تدعو لذرف الدموع، وهو تخلٍّ عن أهل البيت وحيدين في الشدائد وغير ذلك مما قيل وما يزال، عبر نسج مشهد تراجيدي حزين.

لن أبحث عقديّاً وفقهياً وحديثياً وغير ذلك في هذه الأمور، فليس هدفي هو ذلك، بل ما اُريد أن اُشير إليه هو: لماذا وصلنا لهذا المشهد؟ وكيف ظهر فريق ديني يفكّر بهذه الطريقة؟

أوّلاً: ليس لدينا في الفكر الإسلامي شيء يقول بأنّ الله لا يُلحق المصائب والصعوبات بالمؤمنين، فليس عند الله شعبٌ مختار بهذا المعنى، وإذا كان قد خلّص اليهود من ظلم فرعون فهذا لا يعني أنّه سيخلّصهم دائماً ـ وفي كلّ لحظة ـ من جميع أنواع الظلم. لقد شهد اللاهوت الديني اليهوديّ في الحرب العالمية الثانية وما بعدها واحدة من أكثر الإشكاليّات الدينية ألماً في تاريخه، فبعد ما حلّ باليهود في أوروبا وألمانيا ظهر سؤال جريح يقول: أين هو الله الذي خلّصنا من فرعون عبر البحر مع موسى واعتبرنا شعباً مختاراً يهتمّ لأمرنا دوماً ويرعى شؤوننا؟ كيف تركنا نُحرق ونُباد بوحشيّة كبيرة دون أن يرفّ له جفن؟

كان وقع هذا السؤال عظيماً على الروح اليهوديّة آنذاك، وظهرت قراءات لاهوتيّة متعدّدة في سياق الجواب عنه، والسبب هو أنّ العقل الديني اليهودي تربّى على أنّ الله معه بوصفهم الأمّة الموحّدة المختارة، ورأى أنّ نظام الكون يسير بهذا الاتجاه، ولما افتقد الله في لحظةٍ حرجة اُصيب بجُرح نرجسي عظيم جداً.

ما معنى أنّ الله مع المؤمنين؟ وهل يعني ذلك أنّهم سيكونون بلا مشاكل ولا صعوبات ولا مصائب ولا بلايا تعصف بهم؟ هل في العقل الكلامي والفلسفي عند المسلمين شيء من هذا؟ لقدحدّثنا القرآن عن أنبياء قتلوا ولم يكن لهم حول ولا قوّة ليدفعوا القتل عنهم، وعن مؤمنين أحرقوا في الأخدود، وعن حروب النبي التي غَلب فيها المسلمون وغُلبوا، وعن المؤمنين الذين يقتُلون ويقتَلون، وحدّثنا عن البلاء بالخوف والجوع ونقص من الأنفس والثمرات، مبشّراً الصابرين، ماذا تعني كلّ هذه المنظومة وغيرها كثير، خاصّة التاريخ الديني عبر العصور؟ إنّها تعني أنّ الإيمان والصلاح لا يوقفان كلّ بلاء أو مصيبة ولا يغيّران قوانين الطبيعة دوماً.

لكن في الوقت عينه، نجد نصوصاً دينيّة تقول بأنّ الإيمان والصلاح يمكنهما فعل شيء، ورفع العذاب، وأنّ الكفر والضلالة يمكنهما إلحاق العذاب والمصائب بأصحابهما.

قراءتي الشخصيّة ـ بتعبيري الخاصّ عن هذا كلّه ـ هو أنّ الدنيا ليست مسرحاً للحلول النهائية المطلقة كما يتصوّرها الكثيرون، لو صرفنا النظر عن فكرة المخلّص في خصوص آخر الزمان عند الأديان الإبراهيميّة الثلاثة، فليس هنا حلول نهائية حتى نبحث عنها ونصاب بانتكاسة عندما لا نجدها أو نغترّ بصوابنا عندما نصل إلى حلّ في قضيّةٍ ما ليكون الحلّ شاهد صدق إيماننا بالضرورة.. كلّ هذه المنظومات التفكيرية خاطئة بتقديري، وكلّ ما قاله الدين من خلال قراءة مجموع نصوصه هو أنّ الإيمان يمكن أن ينفع أحياناً في رفع بلايا ومصائب، والكفر يمكن أن يُلحق بأصحابه مصائب وعذابات، وأنّ فكرة الحلّ النهائي تتلخّص ضمن مفهوم (العاقبة)، في قوله تعالى: (..وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83؛ والأعراف: 128)، فالصورة النهائيّة هي في القيامة (وقضيّة مخلّص آخر الزمان).

وإذا أصيب المؤمنون أحياناً بمصائب فلا يعني ذلك تخلّي الله عنهم، ليقول الملحد بأنّ ذلك تأكيدٌ لخرافيّة فكرة الله، فإنّ الملحد بهذه المداخلة يفكر بالطريقة الشعبيّة نفسها مع الأسف، عندما يتصوّر أنّ الله معي فلا أحد يمكنه أن يهزمني دائماً وأبداً، ليس هناك كليّات مطلقة، ولا توجد حلول نهائيّة، ولا معادلات ذات لون واحد، إلا بالطريقة التي شرحناها، أيّ ضمن مفهوم العاقبة، وهو المفهوم النسبي على طول الخطّ الزمني، لكنّه في نهاية الدنيا يأخذ إطلاقَه.

إنّ نظام الوجود قام على الأسباب والمسبَّبات الطبيعيّة التكراريّة، وليس على نظام المعاجز والخوارق، ولا حتى حياة المتديّنين قائمة على ذلك، بل ولا الأنبياء أنفسهم، فالخوارق والتدخّلات الغيبيّة حالاتٌ استثنائيّة، فيما هو المنكشف لنا قياساً بحجم حضور الأسباب الطبيعيّة التكراريّة، دون أن يعني ذلك نفي المعاجز ولا الكرامات إطلاقاً. وهذه النتيجة قرّرها الفلاسفة والمتكلّمون المسلمون في سياق معركة تاريخيّة طويلة استمرت حقباً زمنيّة في تحليل مفهوم المعجزة وعلاقته بنظام التكوين العللي.

ثانياً: إنّ سبب هذا الجرح العاطفي اليوم عند كثيرين ـ هو في تقديري ـ شيءٌ من الخلل القائم في بعض زوايا الخطاب الديني، والذي يتسامح في تناول القضايا العقديّة والمفهوميّة والعاطفيّة، لكنّه يتشدّد في تناول مباحث الاستبراء والاستنجاء! لقد غزتنا الروايات الضعيفة في متونها وأسانيدها ومصادرها، واعتمدنا أحياناً على الخطابة الشعبيّة في تكوين القناعات الإيمانيّة، وبنينا في عقول الناس أهراماً من مفاهيم دينيّة ليست محكمة، وأحياناً بحجّة أنّ أيّ مفهوم يمكنه أن يخدم علاقة الناس بأهل البيت فهو مبرَّر، وتناقلنا بكلّ تسامح قصصَ الكرامات المنسوبة لأشخاص أو لأماكن، وركّبنا روابط منطقية بين حوادث لا يوجد ترابط منطقي بَيِّن بينها، وتجاهلنا جيوشاً من الخطباء والمنبريّين والمتكلّمين هنا وهناك يصوغون وعياً شعبيّاً وبعضُنا ساكتٌ لسببٍ أو لآخر! وانتقدنا أولئك الذين كانوا يدعون دوماً للتعامل العلمي المنطقي مع كلّ هذه الأمور، كما نتعامل بدقّة وعلميّة وباحتراف مع القضايا الفقهيّة وغيرها، وكانت النتيجة أن ظهرت مثل هذه الأفكار غير العلميّة، ففي أيّ كتابٍ أو سنّة أو عقل دليلٌ على أنّ المساجد والمراقد الدينيّة لا يمكنها أن تكون سبباً ناقلاً لفيروس من هذا النوع؟ مَن أنبأنا بهذا من الغيب؟ فهذه المراقد كسائر الديار تعرُضها القوانين الماديّة، وإلا أفلا تتسخ بسبب الزائرين؟! فلماذا نكلّف لجاناً لتنظيفها؟! كيف لا يزيل صاحب المقام الشريف النجاسة عن مقامه المقدّس؟ أليس في ذلك إهانة لها حيث مراقد المعصومين لا يصحّ أن نصفها بأنّها تتَّسخ؟! بل ألا توضع الحماية الأمنيّة أمام المراقد وفيها؟! هل في ذلك إهانة؟!

إنّ قداسة مكانٍ واحترامه لا يعني أنّه لا تعرضه العوارض الماديّة العاديّة، فالأنبياء والأوصياء تعرّضوا للمرض والموت كباقي الناس، ولم يغيّر ذلك من قداستهم واحترامهم ومكانتهم، فخلط الأمور ببعضها لا داعي له، واختراع أدلّة تكلّفيّة التفافيّة ـ وهو مسير له تاريخ في الحياة الدينيّة ـ يفترض أن نتوقّف عنه.

إنّ من أسباب ذلك كلّه هو تساهلنا ـ أحياناً ـ مع التكوين المفاهيمي والعاطفي والعقدي للناس، لتظهر شريحة تتكلّم بهذه الطريقة التي لا تستند لمعطى كلامي أو عقدي أو فقهي، معتمدةً التأويلات الغريبة عن منطق البحث العلمي في الفكر الديني والوضعي معاً، فالتاريخ الفقهيّ عند الشيعة مليء بالفتاوى التي تركّز على حفظ النفس وعدم إلحاق الضرر بالنفس والآخرين، وتركّز على فقه الوباء والطاعون، وهناك شبه اتفاق إمامي، إن لم أقل: إنّه اتفاق تامّ ـ على التعامل بعقلانيّة تامّة مع هذه الأمور، وأحالة القضيّة لأهل الخبرة من علماء الطبّ وغيرهم، بل بتقديري ـ والمقام ليس مقام التفصيل ـ فإنّ الفقه الشيعي في مساره الزمني متقدّم في بعض الخطوات على فقه سائر المذاهب التي لديها بعض الآراء الغريبة في مواجهة الأوبئة.

وحتى اليوم، فقد دعا العديد من الفقهاء والمراجع والعلماء ـ على انتماءاتهم وأطيافهم المتعدّدة المتنوّعة ـ للتعامل بعلميّة مع هذا الحدث الجلل، والالتزام بما تقوله الجهات الصحيّة في بلدانهم، وضرورة مراعاة ذلك ولو على حساب بعض الضيق في إحياء المناسبات وصلوات الجمعة والجماعات، وهذا هو الموقف الصحيح الذي يعرف عن الكثير من الفقهاء عبر التاريخ.

ولا اُنكر أنّ بعض فقهاء الشيعة في بعض الفترات الزمنيّة مثل العصر القاجاري واجهوا ظواهر الوباء، وتمّت الدعوة لإقفال المراقد، لكنّهم في تلك الفترة اعتبروا ذلك محاولة من السلطات لمواجهة الدين، فلم يصدّقوهم في زعمهم انتشار الوباء، بل كانت لهم قراءتهم السياسيّة للموضوع، وهي قراءة رغم أنّ الزمن آنذاك كشف عن خطئها، إلا أنّها تظلّ تعتبر أمراً آخر غير ما نحن فيه هنا.

إنّ الشريعة بُنيت على التخفيف من الأمور العباديّة والمسؤوليّات الملقاة على عاتق الإنسان عندما يكون في ذلك خطر، وخرجت عن ذلك في بعض الحالات الاستثنائيّة كالجهاد ضدّ المعتدين، ولهذا كان الخطر موجباً لسقوط كبرى الفرائض كالحجّ والصوم، فكيف لا يوجب سقوط بعض الممارسات العباديّة الأخرى كزيارة المراقد وإقامة الجماعات وإحياء المناسبات الدينيّة التي يعدّ بعضها أيضاً من المستحبّات. لقد رخّص الله للإنسان بالنطق بكلمة الكفر عند تقية الخوف، كما ورد في أسباب نزول آية التقيّة (آل عمران: 28) في قصّة عمار بن ياسر، مع كون القلب عامراً بالإيمان، فأيّ مشكلة في زيارة الأئمّة والأنبياء عن بُعد، وهي تحقّق المفهوم، وتمثل بدلاً اضطراريّاً في هذه الحال؟! وأيّ مشكلة في تكوين أنشطة عباديّة من هذا النوع عبر الشبكة العنكبوتية بحيث يبقى البُعد الجماعي قائماً في ممارسة هذه الأمور؟! وهل قضيّة الزيارة اليوم في تعطيلها عن قرب لبضعة أيّام أو شهور تمثل مؤامرة الهدف منها محاربة أصل وجود أهل البيت والإسلام والتشيّع، أو أنّ الهدف من ذلك هو حماية أتباع الإسلام وأهل البيت أنفسهم؟! خاصّة وأنّ في التراث ما يفيد ـ بحسب رأي كثيرين ـ أنّ أهل البيت النبويّ كانوا يذمّون بعض أصحابهم علناً بهدف حمايتهم من جور السلاطين، فحماية الأتباع مسؤوليّة تقع على عاتق الإمام والنبيّ نفسه، وقد وصفه القرآن بأنّه الحريص الودود الرؤوف بالمؤمنين (التوبة: 128).

ثالثاً: إنّ الأصل والغاية من مفهوم العبادة والزيارة هو شفاء القلوب والأرواح، فهذه هو المقصد الأوّل، ولم توضع الزيارات بهدف أن تصبح بديلاً عن الأنشطة الطبيّة أو الصحيّة أو مقابلاً لجهود البشر في علاج أنفسهم ووقايتها من الأمراض، وهذه النصوص الدينية في الكتاب والسنّة، إلى جانب السيرة المتشرّعية في القرون الأولى، ببابنا تشهد على ذلك؛ ولهذا نلاحظ أنّ نصوص الذهاب نحو المساجد والمراقد والأماكن الدينية هي في غالبيتها الساحقة تتجه لبناء تربوي وروحي وعقدي واجتماعي، يكون في نهاية المطاف بنفسه فاعلاً في سلامة المجتمع وعنصراً مساعداً أساسيّاً في بناء مجتمعٍ صالح على مختلف الصعد، ومنها الصعد المادية والبدنيّة وغيرها.

لكنّ بعض الثقافات التي يدعو إليها بعضٌ تجعل الناس وكأنّها تتربّى على أنّ هذه الأماكن الدينيّة هي لطلب الحوائج المادية، وكأنّها بدائل عن المستشفيات والعوامل المادية، أو كأنّها إذا عجزت المستشفيات فهي حتماً سوف تعالج ودائماً، وهو قولٌ فيه الكثير من الرجم بالغيب ونحن لا نعرف أسرار الله في فعله كلّها. فالدعاء نفسه ـ وهو أكبر مفهوم يقدّمه الدين في مواجهة التحدّيات ـ لا يقول بأنّني بديل عن الأسباب الطبيعية، ولا يضع نفسه منافساً لها أو داعياً لتجاهلها، ولا كلّ الأدعية بالتي تُستجاب، فلو غضضنا الطرف عن تحصيل النتائج المادية من الدعاء أو غيره نتيجة شروط ربما يفتقدها الداعي أو الزائر أو غيرهما، كما ورد في بعض روايات الاستشفاء بالتربة الحسينيّة.. فإنّ الدعاء ـ كما التوكّل، وكما الزيارة ـ لم يقل أحد من فقهاء الإماميّة وغيرهم، عدا جدل قديم كانت عرفته بعض الأوساط الصوفيّة والأخلاقيّة، بأنّه قائم مقام الأسباب المادية، فهل سمعنا يوماً أنّ فقيهاً من فقهاء الإماميّة الكبار طالب بإغلاق المستشفيات ووقف علوم الطبّ والصيدلة والعقاقير وغيرها، بحجّة كفاية الدعاء والزيارة والتربة الحسينية الشريفة بقولٍ مطلق؟!

إنّ هذا الجدل اليوم يذكّرني بجدالات عرفت في القرون الأولى وطواها التاريخ.. جدالات حول جدوى الأخذ بالأسباب الطبيعيّة، والذي فهمه بعضهم على أنّه ينافي التوكّل على الله والثقة بإجابته للدعوات، وهنا يأتي مفهوم «اعقلها وتوكّل» (صحيح ابن حبّان 2: 510)، فعلينا بالتداوي الطبيعي، والشفاء من الله وحده.

هذا كلّه لا يعني أنّ هذه الأشياء لا دور لها، بل لها دور، ولعلّ أدوارها مشروطة بشروط قد تتحقّق وقد لا تتحقّق، كما أنّ هذه الأدوار لم يظهر من النبيّ وأهل بيته الدعوة لجعلها بديلاً عن الأسباب الطبيعية، وهذه الروايات التاريخيّة والحديثية طافحة في الدلالة على هذا الأمر. فمن أين جاءت فكرة أنّ هذه المراقد هدفها تطبيب الناس مادياً بحيث إذا لم تحقّق هذا الهدف تكون قد حقّقت نقيض وجودها، وهدمت فلسفة وجودها في قيمتها المعنويّة والروحيّة والتربوية والعقديّة؟! وإذا كان لها من تأثير جانبي مادي لا نمانع وجوده إطلاقاً، فهذا لا يعني أنّ هذا الجانب الفرعي من فلسفة وجودها يهدف منه إلغاء الأسباب المادية الطبيعيّة أو تجاهلها.

وهنا يهمّني أن أقول أيضاً بأنّ قيام بعض المتديّنين في هذه الظروف بتصرّفات مرفوضة عقلانيّاً وفقهيّاً ودينياً، وأخذ أولادهم عمداً لكي يقبّلوا العتبات والضرائح، نكايةً بفكرة الاحتياط من العدوى.. هذا لا يعني أنّ أساس بركة هذه الأماكن الدينيّة مرفوض أو أنّها غير مقدّسة، فقد تكون مقدّسة، وقد يكون لها دور مادّي في الشفاء، لكنّ هذا لا يعني كونها بديلاً عن أسباب الشفاء الطبيعيّة والأخذ بها، فنحن نرفض سلب قداسة هذه الأماكن وفي الوقت عينه نرفض هدر الأسباب المادية بحجّة قداستها وطهرها.

وفي الختام أضمّ صوتي المتواضع لكلّ صوت دعا لاتّباع سبيل العلم والمعرفة في تناول هذه القضايا، وضرورة الاهتمام بالرعاية الصحيّة، والتزام ما يقدّمه الخبراء في هذا المضمار وعدم هدر ذلك كلّه، مما نحن مسؤولون عنه شرعاً، بحجّة بعض المفاهيم التي لم يقم عليها أيّ دليل علمي أو ديني ثابت.

وقائع ما حدث في الأيّام الأخيرة أكّد لي أنّ شرائح عدّة من مجتمعاتنا المسلمة، ولو كانت محدودة بحمد الله، لم تدخل في عصر العلم بما له من مفهوم بعدُ، فالعقل العلمي لم تعرفه حتى الآن، بما له من مستلزمات ونتائج ومسارات ومآلات، وأنّها ما تزال أكثر اُنساً بما اُسمّيه: عصر العاطفة والانفعال الوجداني، بعيداً عن تسمية بعضٍ له بعصر التفكير الأسطوريّ.

كورونا والطبّ الإسلامي
في سياق القضيّة نفسها، ظهرت أيضاً خلال الأيام الماضية موجة من يدّعي أنّ العلاج موجود من فيروس كورونا في الطبّ الإسلامي، وكلّ واحد أخذ يقدّم لنا وصفةً طبيّة لا أظنّه هو نفسه جرّبها على أحد من مصابي كورونا وأعطت نتيجة!

لا اُريد هنا أن اُقحم نفسي في قضيّة الطبّ الإسلامي، فهي موضوع طويل أخذ خلال السنوات الأخيرة مجالاً للنقاش الواسع وشغل بعض النخب الدينية والثقافيّة، خاصّة في إيران، وبالأخصّ بعد أن أقدم من يصفه بعضُ محبّيه بأنّه (أب الطبّ الإسلامي)، وهو الشيخ عباس تبريزيان، بحرق أحد كتب الطبّ الحديث المعروفة في تصويرٍ بُثّ على صفحات الانترنت، أثار ضجّة كبيرة وانتقادات واسعة، خاصّة وأنّ هذا الشخص سبق أن حورب في الحوزة العلميّة في قم بصرف النظر عن أنّ طريقة محاربته كانت صحيحة أو لا، شريفة أو لا، وبصرف النظر عن منطلقات محاربته عند هذا الفريق أو ذاك.

هذه الموجة العارمة تحت اسم الطبّ الاسلامي ـ وهي موجة تأتي في سياق حمّى أسلمة العلوم ـ تميل لجعل الأمور الماديّة مرتبطة بالنصّ أكثر ممّا هي مرتبطة بالعقل والتجربة البشريّة.. هذه الموجة تظهر اليوم مع كورونا بعلاجاتها الخاصّة، وتصرّ على عدم احترام قواعد الإثبات العلمي، وهي لا تقدّم نفسها في مجال التجربة والاختبار العملي، وبهذا تؤكّد لنا أنّها خارج سياق تنامي المعرفة الطبيعيّة المعاصرة.

الغريب أنّ بعضهم يصف علاجاً لكورونا في حين أنّ الروايات لم تتكلّم عن كورونا، ويقدّم بعضهم نفسه خبيراً في الطب وهو لم يدرسه، في الوقت الذي يمانع هؤلاء من إقدام أيّ باحث أو مفكّر على الحديث عن قضايا الفقه الإسلامي بحجّة أنّه ليس بمتخصّص!

ليس لدينا مانع من تكوين مدرسة صحيحة طبيّة عالمية مختلفة عن العلوم القائمة اليوم، فهذا حقّ طبيعي لأيّ باحث، والمدرسة القائمة اليوم ليست وحياً منزلاً، لكن من يريد أن ينافس عليه أن ينافس بالمنطق وقواعد الإثبات لا بغيرهما.

وأغضّ الطرف الآن عن مسألة الطبّ الإسلامي لأتكلّم بأمرٍ عام أختم به، وهو أنّ من أهمّ الأركان الأخلاقيّة الإيمانيّة عدمَ قول ما ليس للإنسان به علم، ونحن مع الأسف غزتنا في العقود الأخيرة ظاهرة القول بلا علم ولا تثبّت، فنطلق الآراء والمواقف والتحليلات في مختلف الأمور ونحن لا علم لنا ولا بيّنة، ولو أغلقنا أفواهنا لأرحنا واسترحنا، فتجد بعضنا في بداية أزمة كورونا كان يقول بأنّ الله أرسله عقاباً للصينيّين على تعذيب المسلمين، ولا أدري ماذا سيقول الآن؟! كما لا أدري من أخبره بذلك من قبل؟! أوحيٌ نزل عليه أعلمه بأسرار الفعل الإلهي أو خبرٌ جاءه من غيب؟! وهكذا. إنّ الوقف عن قول ما لا علم لنا به والوقف عن الكذب أساسان كبيران في حياة الإنسان والمجتمع، وإذا لم يعتبر القول بغير علم من الكذب في وجهة نظر بعض الفقهاء، فهما معاً ضرورة لتحقيق الأمن الفردي والاجتماعي.

كلمة أخيرة
وختاماً أدعو نفسي وكلّ إخواني وأخواتي للعمل على التقيّد بما يقدّمه أهل الاختصاص والمعرفة في هذه الأمور، وعدم الاستهتار بشيء منها، ولا تجاهلها بحججٍ دينية أو غير دينية واهية، لأنّنا محاسبون ليس على الإضرار بأنفسنا فقط، بل قد نضرّ بغيرنا من خلال نقلنا العدوى له من حيث لا نشعر. إنّنا مطالبون أيضاً أن نرتقي ونرقى بمجتمعاتنا كي تصبح مجتمعات علميّة منضبطة واعية تتعامل مع الأمور بوعي واحترافيّة، بدل أن نخوض (جدالات بيزنطيّة) في قضايا جانبيّة والوباء يحصد بالأرواح والأرزاق. إنّ ارتقاءنا لمستوى الوعي هذا وأخذنا بسبل الاحتياط لمنع إيذاء أنفسنا والآخرين هو في حدّ نفسه عبادة لو قصدنا به وجه الله سبحانه.

إنّنا من موقعنا الإيماني نعمل بالأسباب لكنّنا في لحظات المصائب الكبيرة هذه لا ننسى الله ونحن نأخذ بهذه الأسباب الطبيعية، وعلينا أن نرفع في أنفسنا إحساس التوحيد لله سبحانه أكثر من أيّ وقت مضى، وأن نرجع إليه ونتضرّع له وحده تبارك وتعالى أن يخلّصنا مما نزل بنا، أنزله بنا عن غضبه منّا أو ابتلاءً واختباراً وامتحاناً. إنّ إيماننا يدعونا للتوجّه الدائم إلى الله، لاسيما في هذه النوازل، ولكنّه لا يرمينا في غيبوبةٍ عن الأسباب الطبيعيّة والعقلانيّة، فالعنصران معاً هما مَرْكَبُ خَلاصِنا بوصفنا مؤمنين.

إنّ ما يجري من حولنا لهو مدعاة وفرصة لاستذكار الموت، ونحن نسمع أخباره هنا وهناك، لنقترب أكثر من الله سبحانه، ونعتبر ونعرف كم هي هشّة هذه الإنسانيّة، وكم هو هذا الإنسان أشبه بكارتون متكبّر، ها هو فيروس بسيط يهزّ الكرة الأرضيّة ويشغل بالها، علّنا نستفيد منه لبناء نفوسنا وأرواحنا وتحقيق المزيد من خضوع الإنسان أمام الله سبحانه. إنّها فرصة مراجعة في البيوت للعودة إلى الله وتحقيق التخلية والتصفية الكاملة.

______________________

([1]) نُشر هذا المقال ـ بوصفه كلمة التحرير ـ في مجلّة نصوص معاصرة في بيروت، العدد 58، ربيع عام 2020م.
تعليقات