وردنا سؤال : كَمْ مَرَّةً سُجِنَ الْإمَامُ الْكَاظِمُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) وَكَمْ هِي مُدَّةُ سِجْنِهِ؟!!
الجواب : عَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه
تُحَدِّثُنَا الْمُصَادِرُ التَّأْرِيخِيَّةُ بِأَنَّ الْإمَامَ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلامُ) سُجِنَ لِمُدَّةِ خَمْسَةَ عَشَّرَ عَامًا وَعَلَى مَرَاحِلَ ثَلاثٍ:
- الْمَرَّةُ الْأوْلَى حُمِلَ فِيهَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَصَرَةِ وَسُجِنَ بِأَمْرِ هَارُونِ الرَّشيدِ عِنْدَ عِيسَى بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَوَضَعَهُ عِيسَى فِي أحَدِ الْمَحَاجِرِ وَكَانَ لَا يَفْتَحُ عَلَيْهِ الْبَابَ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ:
عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلضُوءِ، وَعِنْدَ إدْخَالِ الطَّعَامِ فَقَطْ..
وَهُنَا اِنْقَطَعَ الْإمَامُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) تَمَامَ الإنقطاعِ لِلْعِبَادَةِ فَكَانَ يُوصِلُ اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ سَاجِدًا وَرَاكِعًا، وَكَانَ إذَا سَجَدَ فِي الصَّبَاحِ لَا يَرْفَعُ رَأْسُهُ حَتَّى أَذَانِ الظُّهْرِ.
وَهَكَذَا الْحَالُ إِذَا أَكْمَلَ صَلَاَةَ الْعَصْرِ يَسْجَدُ سَجْدَةً وَاحِدَةً وَلَا يَرْفَعُ رَأْسُهُ مِنْهَا حَتَّى يَرْتَفِعَ أَذَانُ الْمَغْرِبِ..
وَلَمَّا رَأَى عِيسَى بْنُ أَبِي جَعْفَرِ حَالَهُ هَكَذَا ضَاقَ بِهِ وَطَلَبَ مِنْ هَارُونِ الرَّشيدِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ سَيَضْطَرُّ لِإِطْلَاقِ سَرَاحِهِ..
فَأَمَرَ هَارُونُ بِنَقْلِهِ إِلَى بَغْدَادَ مُقَيَّدًا بِالْحَديدِ وَأَوْكَلَ سِجْنَهُ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ..
وَفِي سِجْنِ بَغْدَادَ بَقِيَ (عَلَيْهِ السَّلامُ) عَلَى حَالَتِهِ السَّابِقَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عَلَيْهِ دَعَا اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُنْجِيهِ مِنْ سِجْنِ هَارُونَ بُقولِهِ:" يَا سَيِّدِي نَجِّنِي مِنْ حَبْسِ هَارُونَ وَخَلَّصَنِي مِنْ يَدِهِ يَا مُخَلَّصَ الشَّجَرِ مِنْ بَيْنِ رَمْلٍ وَطِينٍ وَمَاءٍ، وَيَا مُخَلَّصَ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَيَا مُخَلَّصَ الْوَلَدِ مِنْ بَيْنِ مَشِيمَةٍ وَرَحِمٍ، وَيَا مُخَلَّصَ النَّارِ مِنْ بَيْنِ الْحَديدِ وَالْحَجَرِ، وَيَا مُخَلَّصَ الْأَرْوَاحِ مِنْ بَيْنِ الْأحْشَاءِ وَالْأَمْعَاءِ خَلَّصَنِي مِنْ يَدِ هَارُونِ".
فَاِسْتَجَابَ اللهُ دعاءَهُ، فَأَطْلَقَ الرَّشيدُ سَرَاحَهُ وَلَكِنَّهُ مَنَعَهُ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى مَدِينَةِ جِدِّهِ، فَبَقِيَ فِي بَغْدَادَ مُدَّةً، وَعَنْدَمَا عَلِمَ النَّاسُ بِهِ شَاعَ ذِكْرُهُ وَأَقْبَلَ أهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ حَتَّى اِشْتَهَرَ فَضْلُهُ وَعِلْمُهُ فَضَاقَ بِهِ هَارُونُ صَدْرًا فَأَرْجَعَهُ إِلَى السِّجْنِ ثَانِيَةً.
- فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَمَرَ هَارُونُ بِحَبْسِهِ عِنْدَ أحَدِ وُزَرائِهِ يُدْعَى الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى.
فَأَخَذَهُ الْفَضْلُ وَسَجَنَهُ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ أُوعَزَ لَهُ بِاِغْتِيَالِهِ، وَلَكِنَّهُ تَرَدَّدَ وَخَافَ اللهَ لِما رَآهُ مِنْ شِدَّةِ عِبَادَتِهِ، فَنَكَّلَ هَارُونً بِالْفَضْلِ والبَرامِكَةِ جَمِيعًا أَشَدَّ تَنْكِيلٍ، وَهِي الْحَادِثَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي التَّأْرِيخِ بِنَكْبَةِ البَرامِكَةِ..
- فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (وَهِي الْأَخِيرَةُ) أَمَرَ هَارُونُ بِنَقْلِ الْإمَامِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) مِنْ بَيْتِ الْفَضْلِ إِلَى سِجْنِ السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهِكَ، وَكَانَ رَجُلَا فَظِيعَاً، شَدِيدَ الْقَسَاوَةِ، مُطِيعًا لِهَارُونَ جِدًّا وَيُنَفِّذُ كُلَّ مَا يَطْلبُهُ مِنْهُ، فَبَقِيَ الْإمَامُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) فِي سِجْنِ السِّنْدِيِّ مُدَّةَ أَرْبَعِ سنوَاتٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَدَّةُ أَشَدَّ سنوَاتِ السِّجْنِ عَلَيْهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِما كَانَ يَقُومُ بِهِ السِّنْدِيُّ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا أَمَرَ الرَّشيدُ السِّنْدِيَّ بِاِغْتِيَالِ الْإمَامِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) نَفَّذَ تِلْكَ العَمَلِيَّةَ مِنْ خِلَالِ وَضْعِ سُمٍّ فَاتِكِ فِي كَمِّيَّةٍ مِنَ الرُّطَبِ قَدَّمَها لَهُ فِي غِذَائِهِ..
فَاِسْتُشهِدَ الْإمَامُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنْ تَنَاوُلِهِ لِهذا الرُّطَبِ..
وَأُخْرِجَتْ جَنَازَتُهُ ووُضِعَتْ أَمَامَ السِّجْنِ عَلَى الْجِسْرِ بِبَغْدَادَ وَمُنادي السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهِكَ يُصَيِّحُ: هَذَا إمَامُ الرَّافِضَةِ فَاعرِفوهُ..
هَذَا الْخَبِيثُ بْنُ الْخَبِيثِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ..
فَمَاجَتْ بَغْدَادُ بِأهْلِهَا يَوْمَئِذٍ وَكَادَتْ ثَوْرَةٌ شَعْبِيَّةٌ أَنَّ تَقَعَ لِفَظَاعَةِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي أقْدَمَ عَلَيْهَا هَارُونً لَوْلَا تُدْخُّلُ سَلِيمَانَ بْنِ أَبِي جَعْفَرِ الْمَنْصُورِ عَمِّ الرَّشيدِ الَّذِي تَدَارَكَ الْمَوْقِفَ وَأَمَرَ أَبْنَاءَهُ وَغِلْمَانَهُ بِأخْذِ الْجَنَازَةِ وَالْمُنَادَاةِ: هَذَا الطَّيِّبُ بْنُ الطَّيِّبِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْضَرَ جَنَازَتَهُ فَلَيَخْرُجْ، فَخَرَجَتِ الشِّيعَةُ لِتَشْيِيعِ إمَامِهَا الْمَسْمُومِ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ لَمْ تَرَ لَهُ بَغْدَادُ مَثِيلَاً مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ وَمَظَاهِرِ الْعَزَاءِ.
الْمُصَادِرُ: وَفِيَّاتُ الْأعْيَانِ لِاِبْنِ خَلِّكَانَ، الْمُنْتَظِمُ لِاِبْنِ الْجَوْزِيِّ، الْأمَالي لِلشَّيْخِ الصَّدُوقِ، سَيْرَةُ الْأئِمَّةِ لِهَاشِمِ مَعْرُوفِ الْحُسْنِيِّ، أَعُلّامُ الْهِدَايَةِ.
عَظَّمَ اللهُ أُجُورَكُمْ بِشَهَادَةِ بَابِ الْحَوَائِجِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)
وَدُمْتُم سَالِمِينَ.