آية الله

الشيخ محمد علي المدني

قدس سره

نسبه ومولده وعشيرته:

هو العلامة الشيخ محمد علي بن الحاج حسن بن الحاج محمد علي المدني، وقد ولد في مسقط بعمان نحو سنة 1310هـ-1892م، وعائلته من أصول عربية تصل إلي بني كعب التي كانت تسكن في الأزمان الغابرة في الجزيرة العربية، وعوائل (المدني، والمسقطي، والكنكَوني) عشيرة واحدة تمتهن التجارة التي تستلزم الأسفار فقسم ركّز في تجارته في مسقط بعمان فلقب (بالمسقطي)، وقسم أكثر من التجارة في الحجاز وزيارة مدينة الرسول (ص) أو سكن أحد أجدادهم هناك فلقب بالمدني ، وقسم تاجر في ساحل فارس وخاصة بلدة (كنكَون) فلقب بالكنكَوني، هذا وقد وصلت تجارة هذه العشيرة إلى بلاد زنجبار بالقرن الإفريقي خلال القرن الهجري الماضي.

نشأته الاجتماعية والدراسية:

نشأ تحت ظل والده الحاج حسن بن محمد علي المدني نشأة دين وورع وتقوى في البلاد القديم، حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة وتعلم شيئا من النحو واللغة العربية في سن مبكرة. ولما شب عوده، أخذ في مساعدة أبيه في شئون عمله وامتهن في صباه مهنة الخياطة، ولما رجع السيد عدنان الموسوي من النجف بداية سنة 1328هـ، التحق به لتلقي العلوم الإسلامية علي يديه، وكان مولعاً وشغوفا بطلب العلم مسرورا بالتلمذة على يدي ذلك العالم الورع التقي. وكان والده الحـاج حسن المدني يتردد عليه وهو يطلب العلم عند السيد، طالبا منه التفرغ حتى يتمكن من تزويجه فيراه ملازما لأستاذه وقد تمكّن حب العلم من فؤاده ونفسه فيتركه وشأنه في طلب العلم وكان عمره في ذلك الوقت نحو ثماني عشرة سنة.

هجرته إلى طلب العلم بالنجف في العراق:

مكث الشيخ محمد علي مع أستاذه في البلاد القديم مدة سنة تقريبا يزق منه العلم وينهل من منهله العذب الزلال، حتى عزم أستاذه على الرحيل مرة أخرى إلى النجف، فلزمه وهاجر معه لمزيد من التحصيل في الدراسات العليا في الفقه والأصول والعقائد وغيرها من العلوم النافعة، ومكث هناك حوالي ست سنوات يطلب العلم بكل جد واجتهاد، وحضر أبحاث العلماء الكبار حتى حاز على إجازات وتأييدات منهم، كالعلامة الفقية الشيخ عبد الكريم الزنجاني وهو القائل: عن السيد عدنان والشيخ محمد علي في هذه الفقرة من إجازته في 8 ربيع الأول من عام 1334هـ، ما يلي:

(( فكان ممن جد وبذل الجهد في تحصيله، زبدة العلماء الأعلام وصفوة المجتهدين العظام، شمس فلك التحقيق وبدر سماء التدقيق ثقة الإسلام وقدوة الأتقياء الكرام وآية الملك العلام السيد عدنان بن السيد علوي آل عبد الجبار الموسوي البحراني، وزميله العالم الفاضل الذكي التقي الشيخ محمد علي بن الحاج حسن المدني البحراني، فإنهما أعزهما الله ونصرهما وصانهما وأيدهما قد صرفا شطرا من العمر في تحصيل العلوم الدينية بجوار مدينة علم الرسول (ص) مستـمدين بعد بركـات جـواره بأنفـاس العلماء.. إلخ )).

عودته إلى البحرين من العراق:

ثم عاد إلى البحرين بصحبة السيد عام 1335هـ ، الموافق عام 1916م ، ولزمه حتى كانا كالفرقدين لا يفترقان ـ والثنائي ـ الذي أسس ديوان الأوقاف الجعفرية بالبلاد ـ وكان لهما صولات وجولات في القضاء الشرعي الرسمي ، بالإضافة إلى الإصلاحات الدينية والاجتماعية التي قدماها إلى الوطن والمجتمع بدافع الغيرة الدينية وحب الخير وطاعة الله والعمل بما يرضيه ـ سبحانه وتعالى ـ وما يملي عليهما الواجب الشرعي.

علمه وأدبه:

حصل على درجة الفقاهة بتأييدات أساتذته منهم العلامة الموسوي وبعض فقهاء النجف، وقد جعلته هذه المرتبة أكثر تواضعا وكياسة وخدمة للدين ولعباد الله من بني وطنه. وكان ذا حس أدبي مرهف، وشاعراً مقلاًّ جداًّ، ومتذوقاً للشعر والفنون الأدبية، ومحبا لتخميس القصائد . ومن أقواله في هذا الشأن ((الشعر هو كمال الناقص، ونقصان الكامل)) وقد ورد في ترجمة أستاذه شعر له بمناسبة قدومهما من النجف عام 1335هـ، والتي مطلعها هذا البيت:

فـخـرت أوال بطلعة البــدر********مـن آل طـه الســادة الغـر

قدومه إلى جدحفص:

انتقل إليها وهو في العقد الثالث من عمره من البلاد القديم ملازما مع أستاذه السيد عدنان بعد سنة 1340هـ ، لمواصلة المباحثة الفقهية والعمل الديني الاجتماعي الخالص لوجه الله تعالى .. وبعد وفاة السيد عدنان سنة 1348هـ، تولى جميع مناصبه الدينية في المنطقة والقرى المجاورة حتى صار المرجع في الأحكام الشرعية .. وإمام الجمعة والجماعة بالإضافة إلى تحمل مسئولية بقية الوظائف الشرعية الأخرى .. من إرشاد وتعليم وتوجيه ، حتى أحبه الناس وقدروه، ورفع من منزلته تواضعه وحلمه وحسن أخلاقه مع كافة طبقات المجتمع.


أزواجه وذريته :

1 ـ تزوج بعد قدومه مع السيد عدنان إلى جدحفص بابنة الشيخ أحمد بن حرز وسكن معها في بيت أبيها وأنجبت له (الشهيد الشيخ عبد الله المدني) وأربع بنات تزوجت واحدة منهن بأحد وجهاء قرية توبلي وهو المرحوم السيد محمد التوبلاني ، ومن أولادها الأستاذ السيد هاشم السيد محمد التوبلاني، المدير في مؤسسة أحمد منصور العالي، وبقية الذرية الصالحة، وتزوجت الثانية بصاحب الفضيلة الشيخ منصور الستري (رئيس محكمة الاستئناف العليا الجعفرية سابقا) وكان منزلها الزوجي في جدحفص وفيه أنجبت ولدها البكر الأستاذ جعفر الشيخ، ثم انتقل منزلها الزوجي إلى قرية النويدرات، وأنجبت فيه الأستاذ الدكتور الشيخ محمد علي الشيخ منصور وبقية الخلف الصالح، أما الثالثة فقد تزوجت من المرحوم السيد علي المشعل الستري (صاحب الشيخ) المتوفى عام 1417هـ، فأنجبت له السيد سعيد الستري وبقية الذرية من الأولاد والبنات البررة، أما الرابعة فقد توفيت وهي صغيرة.

2 ـ ثم تزوج بكريمة الحاج أحمد العوينات في عين الدار وأنجبت له بنتا واحدة، تزوجها المرحوم السيد هاشم آل أسعد المتوفى سنة 1400هـ، فأنجبت له السيد هادي آل أسعد وبقية الخلف الصالح.

3 ـ وشاءت الأقدار الإلهية أن يتزوج الشيخ محمد علي المدني بالفاضلة فاطمة بنت الشيخ سليمان بن حرز الوحيدة، في التاسع من ذي الحجة من عام 1353هـ، فأنجبت له بنتا تزوجها الحاج جاسم آل عبد السلام، وخلف منها ذرية صالحة، ومن أولادها سعيد جاسم آل عبد السلام. وأنجبت هذه المرأة للشيخ محمد علي سماحة العلامة الشيخ سليمان المدني (رئيس محكمة الاستئناف العليا الجعفرية حاليا) إمام الجمعة والجماعة وأحد كبار العلماء في البحرين. وهو زواجه الثالث الذي أنشد فيه السيد محمد صالح الموسوي قصيدة طويلة منها هذه الأبيات:

كأهازيج من يزفون شيخ********العصر في عرسه بجدحفص فينا

لعروس حوت عفافا وطهرا********سبقت فيه نسمة المؤمنينا

موكب للزفاف يحكى نجوما********وهو البدر غرة وجبينا


إلى أن قال في آخرها :

أيها الشيخ طبت نفسا وعرسا********بطويل الهناء تطوى السنينا

سيقر الإلـه عيـنك تـنـمـى********لك خير النسـاء خير البنينـا


عاش الشيخ فترة من الزمن في بيت الشيخ أحمد بن حرز الكبير ثم اضطرته الظروف العائلية إلى الرحيل عنه فاستأجر منزلا كبيرا في عين الدار وعاش فيه مع جميع أفراد عائلته حتى وفاته.


أخلاقه ومناقبه الاجتماعية:

وصفه الذين عاصروه من العلماء بالذكاء والتحلي بالأخلاق الفاضلة، ((وكان خيرا عاقلا سليم الضمير متواضعا )). ولعمري أن هذا الوصف يؤكده الذين عاصروه من جميع الطبقات الاجتماعية.

وكانت له صداقات مع الفقراء، ومجالس أنس مع البسطاء، يزورهم ويزور الأغنياء على حد سواء، ملك قلوب الناس بتواضعه وبساطته وحلمه وورعه وتقواه وسماحة خلقه وكياسته، احترمه الأغنياء وأصحاب النفوذ ، وقدروه لاحترامه لنفسه ورجاحة عقله وسلامة ضميره وعلمه بالشريعة الغراء، ونال كذلك من التقدير والتبجيل من فقراء قومه ما هو أهله. فعاش عزيزا مكرما من الجميع.

وفق للحكمة في حياته بشكل عام في مأكله ومشربه فلم يملأ بطنه من طعام، متأدبا بأخلاق الإسلام، خرج من الدنيا لا يملك شيئا، ولم يورث ملكا، ولكنه ورث للناس العلم والأدب والأخلاق والذرية الصالحة، وأنفق ما يأتيه من رزق وموارد على أسرته والفقراء من الجيران، وكان لا يرد سائلا طرق باب بيته أو طالب علم يدرس تحت رعايته أو شعائر دينية يحتاج القائمون عليها لمساعدته.

علاقاته الاجتماعية:

كعالم، وإمام جمعة وجماعة، ورئيس الأوقاف لفترة من الزمن، تميزت علاقاته الاجتماعية بالحكمة والموازنة فقد أحاط به رجال أشداء في التديّن والمحافظة من أسر مختلفة، فكان لا يفضل أسرة على أسرة أو مأتماً على مأتم، يزور الجميع ويدخل مآتم الجميع. وكانت علاقاته الاجتماعية واسعة، فلم تختص بالقرية التي يسكن فيها، وإنما شمل سائر القرى القريبة والمنامة وقريته الأصلية البلاد القديم، والتي فيها نشأ وترعرع وتعلم، وقد اكتسب حبا خاصا من أهالي القرى واختصوه في إجراء عقود الزواج وأكرموه مثل الديه، والسنابس، وكرباباد، والمقشع، والمصلى، وجبلة حبشي، والسهلة، وتوبلي التي فيها أصهار له وهم عائلة زوج ابنته السيد محمد التوبلاني رحمة الله عليه.

الظروف السياسية في عصره وموقفه منها:

في البداية وقبل توليه لمنصب أستاذه في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1929م، أخذت الظروف السياسية تزداد سوءاً بسبب (أحداث العشرينيات من القرن العشرين) وهي السنوات العاصفة التي أدت إلى التدخل المباشر في شأن البحرين الداخلي من قبل بريطانيا العظمى (الدولة البهية) والذي أدّى إلى التحول الإداري والسياسي ودخول البحرين في عهد استعماري وذلك بتطبيق قانون المستعمرات البريطاني عليها بدلا من اتفاقية الحماية البريطانية. ويحدثنا الشيخ محمد علي التاجر المؤرخ والمعاصر لتلك الفترة الحرجة من التاريخ فيقول: ((إن السبب الوحيد في الانقلاب الأخير هو الشره الغربي لامتلاك الممالك الشرقية تحت ستار من التمويه وأعذار واهية ووسائل تجارية وسياسية ظاهرها الحب والرأفة والشفقة والرحمة والإخلاص والمواعيد الخلابة وباطنها الغدر والحيلة والخيانة والكذب والنفاق والتفرقة والإغراء وخلق المشاكل حتى تؤول إلى الاستيلاء على البلاد بدون أن يكلفهم ذلك إزهاق الأرواح وتكبّد صرف الأموال )). ((وإذ ليس بين بريطانيا وحكومة البحرين معاهدة مسجلة بل هناك اتفاقات تضمن للإنجليز ما حازوه من نفوذ في البلاد وتضمن حريتها واستقلالها )).

(( ولكن أجل هذه السياسة انتهى بانتهاء الحرب الأولى العظمى، كانت هناك رابطة تربط السياسة القديمة بالبحرين فلما انتهت الحرب انحلت تلك الرابطة فنشطت السياسة من عقالها وكشـرت عن أنيابها لقضم فريستها )).

أدت هذه السياسة إلى تدهور الأوضاع الداخلية واختلال الأمن .. وهدأت الأحوال مؤقتا بالتصديق من قبل الحكومة على الإصلاحات التي كانت تنحصر في 13 مطلباً . (( فاختط الميجر ديلي خطة التفريق عملا بسياسة القائل ( فرق تسد) وجعل سماسرة لإغراء الحزبيين على بعضهم البعض )).

كان الشيخ محمد علي المدني من العلماء الواعين بالتغيرات السياسية في تلك الفترة ، وقد عاصر دخول الإنجليز العراق واحتلالهم له أثناء دراسته في النجف الأشرف من عام 1911م حتى عام 1916م، حيث خرج منها بسبب سوء الأحوال السياسية هناك، مما كوّن له وعيا بأغراض الاستعمار، وأهداف التدخل في شئون البلاد والعباد، وهي بلا شك السيطرة والتفرقة وترويج الثقافة الغربية، فكان ينصح المجتمع بعدم اتباع الأهواء والانسياق تحت قيادة المستعمرين الأجانب.

وكانت كل مواقفه مبنية على حكم شرعي (بوصفه عالماً ومتشرعاً) لا يرى الأمور إلا من الزاوية الشرعية، المرجحة لمصالح الوطن وأهله (أي البلاد والعباد).

الوضع بعد وفاة أستاذه السيد عدنان عام 1348هـ ـ 1929م:

أولا : تعيينه لمنصب القضاء الرسمي لشئون القرى: يذكر صاحب أعلام الثقافة الإسلامية الأستاذ سالم النويدري في ترجمة الشيخ محمد علي: أن الشيـخ عُيّن قاضيا لشئون القرى، وعُيّن الشيخ عبد الله محمد صالح آل طعّان قاضيا لشئون المنامة اشغالا لمنصب القضاء بعد وفاة السيد عدنان الموسوي أواخر عام 1929م . ولكن الشيخ محمد علي لم يستلم منصبه الرسمي – بسبب خلافه مع المستشار بلجريف حول ظروف تعيينه وتحديد صلاحيات منصبه القضائي – ثم اختص بالعمل الديني والاجتماعي لأهل القرى.

ثانيا : تحويل ديوان الأوقاف برئاسة الشيخ محمد علي إلى دائرة الأوقاف الجعفرية يرأسها الأعيان من الطائفة الشيعية: قلنا إن الشيخ تولى مناصب أستاذه الموسوي جميعها واقتضت السياسة أن يبقى في القضاء مؤقتا، ثم استقال واختص بالعمل الديني والاجتماعي لأهل القرى، حيث أوكل منصب القضاء الرسمي في العاصمة إلى الشيخ عبد الله محمد صالح آل طعّان المتوفى رحمه الله سنة 1381هـ في مدينة شيراز بإيران. وكانت إدارة الأوقاف بيد الشيخ المدني وكانت من أغنى المؤسسات وأكثرها اتصالا بالمجتمع لارتباط نشاطها الاقتصادي بالأعمال الدينية في المساجد والمآتم وإطعام الفقراء والمؤمنين في المناسبات الدينية، ومساعدة طلاب العلم الديني وغيرها، نعم كانت هذه الأوقاف تدار من قبل الشيخ بكل أمانة وإخلاص، لا يرتجي منها إلا النفع الأخروي والثواب العظيم من رب العالمين وخدمة للدين الحنيف ولأهل البيت عليهم السلام والمؤمنين من أهل البلاد، وبالتالي فهي خدمة لوطنه الغالي على نفسه ونفوس الجميع.

ولكن التطوير الإداري من قبل المستشار البريطاني (بلجريف) ورغبته في أن يتولى الوجهاء في العاصمة إدارة الأوقاف لتكون لها دائرة رسمية تحت إشرافه، غيرت من حال إلى حال. فأوعز إلى بعض وجهاء العاصمة من الجعفرية، ليتصلوا بالشيخ ويبلغوه عن فكرته تلك، فرفض الشيخ رفضا قاطعا، ثم توجه إليه بعض التجار واجتمعوا معه في مأتم الطويل (بفريق الصاغة) بجدحفص، فرفض التنازل عن رئاسة الأوقاف رفضا باتا. ثم قالوا: إن المستشار سوف يستولي على ديوان الأوقاف بالقوة، فردّ عليهم: فعندئذ لن أكون مسئولا أمام الله عنها إذا حصل فيها الفساد، وسوف تبرأ ذمتي، أما أن أسلمه ما تحت رعايتي الشرعية، وباختياري فلا يجوز شرعا. فانفضّ المجلس، وبعد ذلك تم فتح باب الديوان بالقوة من دون رضا الشيخ، وكان ديوان الأوقاف بيتاً مستأجراً (بفريق الحطب) في المنامة، وبعد الاستيلاء عليه أتوا بمحاسبين هنود لجرد الحسابات والأموال فوجد أن الشيخ محمد علي، دائنا للأوقاف (إذ كان يصرف من جيبه إذا حصل نقص في ريعها)، ثم نقلت المحتويات والدفاتر (وخاصة دفتر السيد عدنان المشهور) وتم تعيين السيد أحمد العلوي أحد زعماء المنامة رئيسا لدائرة الأوقاف الجعفرية، ثم أسست دائرة الأوقاف السنية، وأنشئ لهما مبنى حديث قريباً من إدارة الجوازات السابقة في(باب البحرين) بالحي التجاري بالمنامة. وحينئذ انتهت ولاية العلماء المباشرة على الأوقاف الجعفرية، وصار مجلس إدارتها من الأعيان والموظفين الشيعة، وجعل للمحكمة الشرعية (الدائرة الجعفرية) اختصاص الفصل في منازعات الأوقاف الجعفرية والنظر والبت في التصرفات الخاصة بها.

ثالثا : الأوضاع المصاحبة لفترة التطوير الإداري والاجتماعي وموقف الشيخ منها: بعد اشتداد النشاط الاستعماري في البلاد، بدأت فترة التطوير الإداري والاقتصادي والثقافي والقضائي تحت إشراف السير تشارلز بلجريف مستشار حكومة البحرين في الفترة بين 1926م – 1957م، حيث اتسمت بعض البرامج الاقتصادية والثقافية بمخالفتها للشريعة الإسلامية مثل إنشاء البنوك الربوية وافتتاح دور السينما ، وبالطبع لم يعارض العلماء في البحرين ومنهم الشيخ محمد علي السياسة الإدارية للمستشار في تحديث البلاد وربطها بالحضارة الحديثة، وتطوير الثقافة والتعليم والصحة وسائر المرافق الاقتصادية، وإنما عارض البرامج والمشاريع التي تخالف الشريعة الإسلامية فقط.

الوضع الاجتماعي في عصره ومعالجته للأمور الاجتماعية والدينية :

في فترة ولايته الشرعية بين عام 1348هـ وعام 1364هـ أي مدة 16 سنة، صادفته عدة مشاكل خاصة بالمجتمع، مثل المرض والفقر، والجهل والأمية، واتباع الأهواء والتعصب .. يقول الشيخ إبراهيم المبارك في معرض الحديث عنه: (( ثم تولى الجمعة بعد السيد عدنان الشيخ محمد علي بن الحاج حسن المدني تلميذه الخاص به، إلا أنه صادفت حياته ضعف الزمان واختلاف القلوب وقلقلة الفوضى فعاش ضيّق الحال )).

لقد قام بخدمة الدين وعباد الله في هذه المنطقة وغيرها، بما يسر الله له من صحة ومن قوة علم وكياسة، وتميز بالجرأة في قول الحق وعدم المهادنة لمن يقوم بالمخالفات الشرعية، صحيح أنه لم يتول القضاء الرسمي إلا ستة أشهر بعد وفاة أستاذه الموسوي، إلا أنه اشتغل بإصلاح ذات البين وحل المنازعات العائلية والزوجية وإيقاع الطلاق وإجراء العقود .. إلخ من قبول الأمانات وتولي الحقوق الشرعية، ومارس التولي علي أوقاف المساجد والمآتم في المنطقة، ولما ضعفت أحواله الصحية والمادية، حيث كان يصرف من أمواله الخالصة لسد النقص في إيرادات الأوقاف قام بتوزيع ما يتولاه من الأوقاف على من يراه صالحا ومستعدا من المؤمنين كل بحسب قربه من الموقوف عليه واستعداده لخدمته سواء كان مأتما أو مسجدا أو مقبرة وهذا التنظيم الذي استحدثه لاستلام ريع الأوقاف وتصريفها في وجوهها الشرعية ما زال معمولا به حتى الآن، ومازال متوارثاً في العائلات التي قام الشيخ بتوزيع تولي ريع الوقف عليها. كما قام الشيخ (ره) بوضع حدود مصلى العيد الحالي بجبلة حبشي.

وكما قدمنا: فإن الشيخ في زمن نقص المواد الغذائية بسبب الحرب العالمية الثانية (حتى أكلت الناس الجريش والشعير) عاش مثل بقية الناس، مع كثرة من يعولهم، وكل ما أتاه من رزق أو هدايا يصرفه على عوائله وعلى الجيران من الفقراء وكل من يسأله، ولم يدّخر لنفسه شيئا من حطام الدنيا. وقلنا إن علاقاته الاجتماعية تميزت بالحكمة والموازنة وترجيح المصلحة دائما.

ووسع من دائرة شعبيته تواصله وزياراته المستمرة إلى أهله وذويه وأصدقائه ومريديه وكانت له مجالس مخصصة لوقت معين في أيام معينة، يجتمع فيها بالناس ويجيب على أسئلة السائلين (في مواضع الابتلاء) من الأسئلة الدينية ويحل المشاكل الاجتماعية.

وكان يكره التعصب والتكبر والغطرسة ويعتبره من مخالفات الأخوة الإيمانية ويشنأ التفرقة ويحب التآخي والمودة بين كل القرى ويرشد الناس إلى السبيل الذي يؤدي إلى مرضاة الله وما فيه الألفة بين القلوب. ولقد حدثني أحد معاصريه ، أن الشيخ (رضوان الله عليه) كان يرفض أصناف الكراهية والبغضاء بين الناس، والتعصب والفئوية والفرقة والانقسام، ويدعو الناس في مجالسه وفي خطبه إلى تحكيم الشرع والالتزام بالقيم الأخلاقية، والترفع عن مساوئ الأخلاق، والتحلي بمكارمها.

تلاميذه:

في حياته العامرة بالعلم والتواضع وخدمة الدين والمؤمنين لم ينس أهله وجماعته ولم يبخل على مريديه بالتفرغ لهم بالتدريس الفقهي واللغة العربية ونحوها من العلوم الدينية فتتلمذ على يديه كل من:

1.الشيخ عبد الحسن بن سلمان آل طفل (وستأتي ترجمته لاحقاً)

2.السيد محمد صالح بن السيد عدنان الموسوي (الشاعر المعروف والبحاثة والخطيب الحسيني الشهير والذي سبق الكلام عنه في ترجمة والده).

3.الشيخ أحمد بن الشيخ أحمد بن حرز (كان من الطلاب الأذكياء، وحاز على تحصيل علمي جيد).

4.ملا سعيد المساعد (خطيب حسيني، وكان كثير الترحال وخصوصاً إلى بلاد زنجبار للوعظ والإرشاد والخطابة).

5.ملا مهدي زين الدين (خطيب حسيني وعارف بالسير والأحكام الشرعية والعلوم الفقهية، وهو والد الملا جعفر، وعم الشيخ حسن بن الملا أحمد زين الدين).

6.ملا أحمد آل زينه (خطيب منبر حسيني، وله تقدم في العلوم الفقهية لمواصلته الدراسة في مدرسة المنامة الدينية التابعة لدائرة الأوقاف الجعفرية، وهو من أهل “جبلة مني” وجد صديقنا الدكتور محمد حسين الخياط لأمه.

آثاره العلمية:

له أبحاث في الفقه والعقائد، وله حواشٍ على بعض الكتب الفقهية والنحوية، منها حاشية على كتاب معالم الأصول للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني وأجوبة مسائل الشيخ أحمد بن سرحان العكري اللنجاوي ، في أربعة فنون من العلوم الدينية (الشرعية والعقائدية)، وقصة هذا البحث رواها لي أحـد أحفـاد الشـيـخ ، وهي كما يلي:

((اتفق أن الحاج يوسف بن رستم أحد وجهاء قرية الديه أن تقابل مع الشيخ الجليل أحمد بن سرحان في لنجة سنة 1939م، فأخذ الشيخ بعض المسائل الدينية ( عقائدية وفقهية ) وأعطاها الحاج يوسف بن رستم، وقال له إن في البحرين الآن لا يوجد إلا (ملالي ـ وخطباء ) ولا يوجد علماء .. !

وهذه مسائل خذها إلى البحرين للإجابة عليها إن استطاعوا !! رجع المذكور رحمه الله إلى البحرين وبيده المسائل وقدمها إلى الشيخ محمد علي لكونه من معارفه فأعلمه بالتحدي، فانبرى الشيخ للتصدي لها بإجابتها بطريقة علمية دقيقة وفرغ منها بسرعة وجيزة في عام 1358هـ ـ 1939م، وسميت (أجوبة مسائل الشيخ أحمد بن سرحان) واعتبرت هذه الرسالة الجوابية من آثار الشيخ العلمية القيمة)). وللعلم فإني وجدت أن الشيخ قد وجه رسالة في مسائل إلى الشيخ أحمد بن سرحان وقام الأخير بالرد عليها، وسميت (رسائل في مسائل الشيخ محمد علي بن حسن المدني البحراني )، راجع موسوعة شعراء البحرين صفحة 158 الجزء الأول ـ وهي من الآثار العلمية لذلك العالم المهاجر.

وفاته: في عام 1944م ساءت صحته فاضطر للسفر إلى بومبي بالهند لتلقي العلاج، وتحسنت صحته بعد مجيئه من هناك. وفي 17 جمادى الثانية من عام 1364هـ الموافق 28/5/1945م، حينما كان ضيفاً عند عائلة زوج ابنته (السيد محمد التوبلاني) في توبلي، تعلل بالحمى وكان مدعوا في ذلك اليوم على وليمة غذاء دعي فيها أعيان القرية ووجهاؤها على شرفه في بيت الخطيب الورع السيد علوي بن السيد درويش وكان بيت مضيفه لا يبعد إلا في حدود 100 متر عن البيت المقام فيه الوليمة فلم يستطع المشي إليه بسبب تلك الحمى فأركب على ظهر دابة ثم نقل إلى منزله في عين الدار، وبعد ثلاثة أيام أعلن خبر وفاته في عموم البلاد ، وكانت وفاته ظهر يوم 20 من جمادى الثانية من عام 1364 هـ الموافق 1/6/1945م بالمعرش (غرفة صيفية) في منزله، فخيم الحزن والأسى والاكتئاب على أرجاء الوطن، وهرع الناس في حالة تأثر شديد وبكاء وعويل، ثم شيع عصرا إلى مثواه الأخير تشييعاً عظيماً حضره الوجهاء والأعيان والمسئولون وكافة المؤمنين من القرى والمدن وتقدمت جنازته الأعلام السوداء والخضراء، ودفن بجوار قبر الشيخ سليمان بن حرز جنوب قبر الشيخ أحمد بن حرز، ومقامهم مزار مشهور يقصده الزوار لقراءة الفاتحة والنذور، أقيمت له فاتحة كبيرة في جدحفص، كما أقام آل المسقطي والمدني فاتحة في مأتم مدن بالمنامة.

وقد رثاه السيد محمد صالح السيد عدنان الموسوي بقصيدة بعد وداعه إلى مثواه الأخير ومنها:

رمتك يد القضا المحتوم قسرا********فنال به فؤاد العلم شطرا

وحين من الحياة شددت رحلا********غدت دور المكارم منك قفرا

فيا شيخ العروبة أنت سر********لأنحاء الحياة سموت سرا

وكان العلم منك يرى شبابا********فنال من الأسى شيبا وكبرا

أحال الصبح رزؤك في البرايا********على الإسلام ليلا مكفهرا

وروحك للسما عرجت صعودا********ونالت من علاك الأرض قبرا

وكان العزم دون علاك أرسى********لحظك مثل صدر النجم صدرا

وجسمك خف في الأعواد حملا********وكان يوازن الأطواد قدرا

بفقدك أضحت الآمال تشكو********لأرباب العلى ذلا وهجرا

وأخوان الصفا لك قد أقامت********مآتم عينها تبكيك عبرى

وفيك دموعها جدحفص أجرت********فكل بافتقادك عيل صبرا

وعزوا فيك أنجالا كراما********لهم عظم البكاء عليك أجرا

تودّ الشمس تهبط من سماها********فتلثم منهم وجها ونحرا

يعزيهم بفقدك أهل ودٍ********بما نالوا لهم مذ غبت ذخرا

وآل المسقطي غدت حدادا******** تعزيها المنامة فيك صبرا

بكيتك قد لبست المجد بردا********ملته المكرمات ندى وطهرا

واحرز في الورى فضلا كبيرا********حباه تواضعا وحماه كبرا

فيا ليت الذي قد مدّ طرفا********ليحسده رمته العين سحرا

تحيرت الورى لما رأته********يعادل جيرة النعمان بهرا

ويمنع جاره من كل سوء********فلا تخشى به الجيران شرا

لـقـد ولـدتـه أم المجـد فـردا********فـقـال له العلا عمرت دهرا


كاتب البحث/ السيد هاشم السيد سلمان

تعليقات