شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) ومحاولات الإخفاء والإنكار
السيد زين العابدين المقدس الغريفي
لعب النهج الأموي دوراً خطيراً ومفصلياً في الواقع الإسلامي وكتابة تأريخه ، فعمدوا إلى تحريف الوقائع وتغيير شخوصها عبر تقريب الوضاعين والقصاصين ورواة الإسرائيليات من أجل تبييض صفحة الحكام وابراز صورة مشرقة لهم ولو تطلب ذلك الكذب والتزوير ، ومن أجلى مصاديق ذلك هو محاربتهم المستمرة للبيت العلوي فإنه مع كونهم مجمع الفضائل ومهبط الوحي والتنزيل وسادة المسلمين في الدنيا والآخرة بنصوص قطعية لا تقبل الخطأ أو التأويل استطاع الإعلام الأموي تضليل طائفة كبيرة من المسلمين وتغييب الحقائق عنهم وتحريفها لأجل اقصاء أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن مقاماتهم التي نزلهم الله تعالى بها فضلاً عن اخفاء مظلوميتهم وما جرى عليهم من جور واضطهاد انتهاء بالقتل والإستشهاد .
ومنشأ هذا العداء الحسد والحقد نتيجة لإمتلاك بني هاشم ملكات وقابليات جعلتهم مؤهلين لحب الناس ومودتهم مصداقاً لقوله تعالى : [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] الرعد/37 ، ثم تعدى إلى الصراع على السلطة والحاكمية التي هي حق منحه الله تعالى لأهل البيت (عليهم السلام) ، فحارب معاوية علياً (عليه السلام) وقتل كبار أصحابه ومحبيه كما حارب الحسن (عليه السلام) واغتاله بالسم .
وقد اتفقت كلمات المؤرخين وأرباب التراجم على اغتيال الحسن (عليه السلام) بالسم ، ورويت في ذلك أخبار مستفيضة دلت القرائن على الوثوق والاطمئنان بصدورها ، ولذا لم يستطع أحد ممن يعتد به من المحققين انكار ذلك وتضعيفه ، بل روي واشتهر إن السم من وضع زوجته (جعدة بنت الأشعث) حيث سقي السم داخل بيته .
ويجدر بكل باحث منصف أن ينقب عن الدوافع وراء ذلك ؛ إذ لا يعقل أن يبادر أحد إلى قتل آخر من دون سبب وجيه يدعو إلى ذلك ، ويظهر في المقام احتمالان لا ثالث لهما :
الأول : وجود عداوة بين الزوج وزوجته تدعو الزوجة إلى التخلص من زوجها ولو عن طريق قتله .
الثاني : وجود محرك خارجي دفع الزوجة لسم زوجها ، وهو إما الإغراء بالمال أو السلطة أو نحو ذلك من متاع الدنيا الفاني .
وبأدنى تأمل يمكن دفع الاحتمال الأول وابطاله ؛ بلحاظ عدم وجود أثر ولو ضعيف يدل على حصول خلاف فضلاً عن شقاق بين السبط الشهيد (عليه السلام) وزوجته ، وعلى فرض وقوعه فسيرة أهل البيت (عليهم السلام) ماضية على طلاق من لا ترغب بالعيش معهم وفي ظل بيتهم ، فلا وجود لمقتضٍ حقيقي يدفع الزوجة لارتكاب هذه الجريمة بحق زوجها.
وهنا يرجح الاحتمال الثاني ويقوي القيمة الإحتمالية لحصوله ، إذ لا ريب في إن المستفيد الأبرز من التخلص من الحسن (عليه السلام) هو معاوية بن أبي سفيان ؛ إذ يفتح المجال للاستبداد بالسلطة وأخذ البيعة لابنه يزيد من المسلمين بلا معارضة ، فبنود الصلح والهدنة تنص على إن الحكم يعود إلى الحسن (عليه السلام) بعد هلاك معاوية وهذا يمثل مانعاً عن توريث الحكم لابنه ، ولأجل عدم إثارة الرأي العام ضد معاوية بعدما قوي سلطانه وتمكن من زمام القيادة رأى ضرورة التخلص من الإمام الحسن (عليه السلام) واغتياله ، وقد روى ذلك في الكثير من مصادر أهل السنة فضلاً عن إجماع أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم على وقوع ذلك ، وهذا ما احتمله ابن تيمية رغم استبعاده لتدخل معاوية في سم الحسن (عليه السلام) بقوله : [فإن كان قد وقع من ذلك فهو من باب قتال بعضهم بعضاً كما تقدم ، وقتال المسلمين بعضهم بعضاً بتأويل ، وسب بعضهم بعضاً بتأويل ، وتكفير بعضهم بعضاً بتأويل] .
وتوجد قرائن كثيرة يمكن للباحث أن يعتمد عليها في إثبات القضية منها : شهرة تخلص معاوية من مناوئيه بالسم فقد عمد إلى سم سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومالك الأشتر وغيرهم فضلاً عن قتله لكبار الصحابة أمثال عمار بن ياسر وعمر بن الحمق الخزاعي وحجر بن عدي وأصحابه ، واظهار معاوية الفرح والسرور عندما بلغه موت الحسن (عليه السلام) ، ونحو ذلك .
بيد إن النهج الأموي دأب على محاولة طمس الحقائق فتارة يقوم بعضهم بإسناد السم إلى المجهول واجمال الواقعة من دون تفصيل وآخرون ينكرون علاقة معاوية بذلك رغم دلالة كل القرائن الحالية والمقالية على صدور الأمر منه في حين نقل آخرون الحدث بكل أمانة من دون بتر أو تلاعب منهم ؛ ليكشف عن دخول الهوى والتشهي في قبول المرويات التاريخية أو رفضها فما يوافق مصالح حكامهم يقبل وإن كان راويه وضاعاً كذاباً وما يخالفه يرفض ولو كان اسناده في أعلى درجات الصحة ، ولنا عشرات الشواهد في رد الأخبار عن الثقات لمجرد كون الخبر يمس شخوصاً قد ركبت حولهم هالة من القداسة الموهومة .