آية الله العظمى

الشيخ أحمد آل حرز

قدس سره

مولده ودراسته وهجرته:هو الشيخ أحمد بن عبد الرضا بن حسين بن محمد بن عبد الله آل حرز، ولد في جزيرة النبيه صالح (أكل) سابقا في حدود عام 1268 هجرية، ونشأ في ظل أسرة علمية محافظة على القيم الشرعية والأخلاقية، توفي عنه والده وهو في سن مبكرة فكفله – هو وأخويه (مكي وحسين) – عمه الحـاج محسن آل حرز حيث كان من أهل الوجاهة والثراء، وقد فضّل الشيخ أحمد طلب العلم الديني على العمل في التجارة، فأرسله عمه وكافله إلى (لنجه) حيث قرأ المقدمات على يد الشيخ محمد آل حرز والسيد محمد شرف الموسوي، ثم هاجر إلى كربلاء ليستزيد من مناهل العلوم في تلك الحوزة، ومنها هاجر إلى النجف للدراسة على يد أساطين الحوزة في عصره، وكان من زملائه العلامة المرجع الكبير السيد كاظم اليزدي، ومكث هناك مدة نهل من العلوم ما يشاء، حتى حصل على مرتبة الفقاهة، ثم رحل الشيخ من النجف الأشرف وسكن مسقط ولنجة مدة من الزمن، قام فيهما بالوظائف الشرعية، متحملا الغربة عن الوطن رغبة في طاعة الله سبحانه وتعالى، و إخلاصا لدين الله وخدمة للمؤمنين هناك. وفي كل بلدة يستقر فيها يكون منارا للمسلمين ومرجعا للأحكام الشرعية.

عودته إلى البحرين:عاد الشيخ (قدس) من هجرته الطويلة بلنجة إلى موطنه البحرين وسكن في جدحفص بدعوة من وجهائها ، وكان ذلك في عام 1317 هـ، وبعد استقراره مدة يسيرة في هذه البلدة وفق في تولي القضاء الشرعي وشيّد له بيتا في فريق البناية ، ومجلسا عظيما يرتاده الأضياف والوفاد والحكام والعلماء والخصوم وأصحاب المسائل الشرعية، وكان بيت الشيخ ملجأ للأيتام وأصحاب الحاجات من المؤمنين.

معاصروه من العلماء الأعلام:عاصر شيخنا كثيراً من علماء تلك الفترة مثل الشيخ خلف العصفور والشيخ سلمان العصفور، والشيخ علي بن عبد الله الستري صاحب (منار الهدى) والسيد عدنان الموسوي، والسيد محمد شرف، والشيخ ناصر المبارك، والشيخ قاسم المهزع، والأديب الشيخ سلمان التاجر والأديب المؤرخ الشيخ محمد علي التاجر وغيرهم.

مكانته الاجتماعية والعلمية:حدثنا أجدادنا الذين عاصروه بأنه لمّا قدم هذا الشيخ الجليل إلى جدحفص، وكان شيخا ميسورا وتَقلّد منصب القضاء الشرعي، شمر عن ساعديه بكل جرأة، بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تطبيقا صارما، وأسهم بشكل فعال في النهوض بهذه البلدة، من الركود العلمي بعد هجرة أو موت كثير من علمائها وأدبائها.

وقد باشر الشيخ بعد رجوعه إلى البحرين إقامة صلاة الجمعة في قرية الشاخورة، ثم نقل جمعته إلى مسجد السدرة بجدحفص، حتى تبرع أحد أثرياء دبي ، ببناء الجامع الحالي على الأرض التي اشتراها الشيخ أحمد آل حرز، وكان ذلك في عام 1329 هـ، الموافق 1912م، فأقام فيه الشيخ صلاة الجمعة، وأحيا فيه ليالي شهر رمضان بالعبادة وقراءة القرآن والأدعية مع المؤمنين. وبالإضافة إلى توليه إمامة الجمعة والقضاء والأمور الحسبية والوصاية على الأيتام، اشتهر بتقواه وورعه وقوة منطقه في الخطابة حتى وفدت كثرة من المؤمنين وفيهم بعض العلماء الأجلاء للصلاة خلفه جماعة وجمعة واقتدت به سكان القرى والأرياف وبعض سكان المدن.

ومن خصائص الشيخ أحمد (قدس سره) أنه بعد أن تولى منصب القضاء وصار من أكابر القضاة وأجرئهم على مستوى البلاد وفدت له الخصوم من كل حدب وصوب طالبين الفصل في خصوماتهم وفقا للشرع الأقدس، حيث لا يوجد اختصاص في القضاء لا في نوعيته ولا في مكانه ولا في زمانه في ذلك العصر، فالقاضي حر في قضائه والخصم حر في الترافع عند أي قاض في البلاد، ولقد كان الشيخ لا يهادن أحدا على حساب الدين وتحكيم الشرع الأقدس. يقول الشيخ إبراهيم المبارك (رحمه الله) عنه: (( وكان صاحب جرأة وإقدام متحرزاً من أبواب الرشوة جدا، حتى إنه إذا أهدى إليه أحد الناس هدية أبقاها محفوظة إلى مدة طويلة، فإذا وجد المهدي إليه تلك الهدية حضر عنده للترافع مع خصم له، قال له قم أولاً وخذ هديتك ثم بعد ذلك تكلم بحجتك، وكان ذا هيبة وإقبال وشدة عارضة )).

وقال أيضا في كتاب المسائل: (( كان من أفاضل علماء عصره وأكيس فضلاء دهره، علما جليلا مهابا نبيلا، تولى الجمعة والجماعة والقضاء في منطقة جدحفص، أدركته وأنا صغير السن غير أن اشتهاره الشايع ، وصيته الذايع يتلقنه الصغير ويعترف به الكبير، وكان على جانب عظيم من الورع والتقوى والإنصاف والإصرار على أخذ الحق ممن عليه الحق كائنا من كان من أهل التمرد والكبرياء، وكان حازما في أموره، متحرزا عن مظان الرشوة، ممتنعا عن قبول الهدايا التي يشك فيها.

وإليك شرح بعض ما أشرنا إليه، وتفصيل ما أجملناه من سجاياه العادلة وأخلاقه الفاضلة وورعه وإنصافه وكياسته وتوسماته، وسنذكر منه بعض ما ذكرناه في ترجمته من كتابنا (حاضر البحرين ):

منها: أن خصمين ترافعا عند أخي المرحوم الشيخ محمد بن الشيخ ناصر المبارك فأبى المحكوم عليه قبول الحكم واستئناف الدعوى عند الشيخ فقال له: ألستما ترافعتما عند الشيخ محمد؟ فقال المحكوم عليه: إني لا أعترف به ولا أحفل بحكمه، فاحتدم الشيخ من قوله هذا ونهره وقال: إنما رددت على الله وعلى رسوله، فقم عن مجلسي ولا ترني وجهك بعد هذا ما دمت حيا، وطرده وأعلن بتحريم معاملته ومخالطته، فهجره الناس جميعا فاضطر إلى استرضاء الشيخ، فأبى أن يرضى عنه إلا أن يقبل حكم الشيخ محمد ويرضى الشيخ محمد عنه.

ومنها : أن رجلا أهدى إليه هدية وكان من غير أهل خلاطته فشك فيه الشيخ وتوسم أنها رشوة، فأمر أن تترك على باب البيت من الداخل حتى يتبين أمرها، وبعد أيام جاء صاحب الهدية مع خصم له في دعوى فقال الشيخ لصاحب الهدية: قبل أن تفتتح دعواك قم وخذ هديتك وأخرجها من البيت ثم افتتح دعواك.

ومنها : أنه تنازع عنده رجل وامرأته وادعت المرأة أنه منذ تزوجها لم يأتها، وكانت أم المرأة حاضرة معها، فقال الشيخ للرجل: إذا كنت عنينا فما حداك على تدليس نفسك وغشك لهذه المرأة ؟ فقال: والله ما كنت عنينا وإني لأقوى رجل على النساء، ولكني مع خصوص هذه المرأة أجد نفسي عاجزا فإني كلما دنوت منها وجدت كأن ضاربا يضرب على قلبي فتتبلد أعصابي وتضعف قوتي، وأصاب بالغم الشديد الذي أفقد منه رجولتي ولا أعلم سبب ذلك فقال له: وهل أنت بحراني الأصل ؟ قال: لا من الإحساء، فقال: وما اسمك وما قريتك وما لقبك المشتهر به في قبيلتك ؟ فأخبره ،فقال له وهل سافرت قبل مجيئك إلى البحرين إلى بلد غيرها ؟ فقال: نعم، سافرت إلى الكويت. فقال: وهل تزوجت فيها ؟ قال: نعم. قال: وهل تعرف اسم زوجتك ونسبها ولقب أهلها المشتهر فيهم، فقال: نعم إنها فلانة بنت فلان من بني فلان من المحلة الفلانية، فشهقت أم المرأة وقالت: هذا هو زوجي وهذه ابنته، فإنه منذ طلقني فارق البلاد وخفي عليّ خبره، وقد ولدت منه هذه البنت فعرف كل منهما صاحبه، فقال له الشيخ: خذ ابنتك وانصرف فإن الله قد لطف بك وعصمك من هذه المعضلة.

وذكر من أثق به قال: كنت في مجلس الشيخ أحمد بن حرز (ره) فجاء خبر وفاة المرحوم الشيخ ناصر المبارك فقام الشيخ أحمد قائما على قدميه وصاح: آه، خسرت البحرين عالمها الرباني فمن لها بمثله. وبالجملة فإن كراماته الجليلة ومقاماتـه العليـة وأخلاقـه الرضيـة لا يحيـط بـها عد ولا إحصاء .

وقال عنه المؤرخ الكبير محمد علي التاجر (ره) ما نصه: (( شغل منصب القضاء نحو عشرين سنة فكان فيها محمود السيرة طيب السريرة. وكان لا يقبل من عامة الناس الهدايا خشية من أن تكون مقدمة لغرض كما أنه امتنع من دخول بعض منازل أصحابه لوجود أقل شبهة في ملكيتها وكان موضع اهتمام شيوخه من أهل العراق وتوقيرهم، إذ جربوه فوجدوه فوق حسن ظنهم فيه، إذ يرسل إليهم كل ما يجتمع عنده من الحقوق المالية من الزكوات والأخماس دون أن يخص نفسه منه بما هو في أمس الحاجة إليه، فكانوا يعاتبونه على هظم نفسه منه، وكان مهاباً متواضعاً سخياً يخدم أضيافه في الأعياد والجمع حاسر الذراعين، يباسط هذا ويناول ذاك ويلح في دعوة أضيافه )).

إنجازاته الدينية والاجتماعية:إن قدوم الشيخ أحمد بن حرز إلى جدحفص يعتبر انعطافة تاريخية بالنسبة لهذه المنطقة، فقد أعاد المجد العلمي لها بعد كساد علمي كاد أن يطول ويستمر عبر السنين.

قال المرحوم الشيخ الأديب محمد على التاجر في كتابه (عقد اللآل في تاريخ أوال) عند ذكر قرية جدحفص ((كانت في ما مضى من الزمان آهلة لسكان سوق العلم في أرجائها ومدارس العلم بالعلماء مزدحمة وأما الآن فهي كما قيل سمعك بالمعيدي خير من أن تراه إذ هي في تقهقر مستمر والدوام لله )).

وفضيلة الأديب الشيخ لا شك أنه يقصد الفترة التي سبقت قدوم الشيخ أحمد، حيث عمّ الكساد العلمي والفقر الاجتماعي، ولقد كان في الفترة التي سبقت قدوم الشيخ علماء أجلاء ولكنهم هاجروا إلى القطيف كآل الحكيم وغيرهم ممن هاجر إلى أطراف فارس والعراق، بسبب الازدهار العلمي في الخارج، والكساد العلمي في البحرين في هذه الفترة، ولسوء الأحوال المعيشية لطلبة العلوم الدينية، ومنذ قدوم هذا العالم الجليل انتظمت حلقات الدراسة والتحق بها عدد من الطلاب وعادت الروح العلمية ببركة وجوده، وأعاد البنية الأساسية الدينية لهذه المنطقة كتوسعته لمسجد السدرة الذي أقام فيه الجمعة في بداية الأمر ثم جهده في بناء الجامع الكبير، ثم اختياره أرضاً من الصحراء وجعلها مصلى للعيد في قرية جبلة حبشي المجاورة، كما أنه تولى الأمور الحسبية والأوقاف والوصاية على أموال القاصرين وكفالة الأيتام، وجعل مجلسه الكبير مقرا للقضاء الشرعي، وحوزة علمية صغيرة لتدريس العلوم الدينية.

وقد أسهم الشيخ في إنعاش الزراعة عن طريق دعوته لحفر العيون وإحياء الأرض الموات بالإضافة إلى إشرافه المباشر على تنظيم مجاري المياه إلى بعض المساجد، وقام أيضا ببناء وتوسعة بعض المساجد بالإضافة إلى الاهتمام بالمآتم والصرف عليها من الوقف أو من أمواله الخاصة، وكان له فضل كبير في إصلاح شئون الناس وسد الحاجات.

لقد رفع شيخنا (ره) من شأن هذه المنطقة، وخدم بلاده خدمات جليلة، حتى صارت تلك الفترة من الزمن مثالا يضرب به للالتزام بتطبيق الشريعة الغراء، والالتزام بالقيم الأخلاقية العليا، وطبقت بعض الحدود والتعزيرات على من ثبتت عليه مخالفة شرعية، وكان الشيخ غالبا ما يقوم بالتعزير (التأديب) بنفسه، ولا يترك الخصم الذي عليه الحق حتى يأخذه منه بحزم وقوة واقتدار. حتى قيل عن هذه الفترة (زمن شيخ أحمد بن حرز) تعبيرا عن خلودها في أذهان الأجيال، وأخذ بعض الأجداد يؤرخون تاريخ مواليدهم بتاريخ وفاة الشيخ فيقال ولد فلان بعد وفاة الشيخ بأربع سنين، وولدت فلانة في سنة وفاة الشيخ أحمد بن حرز، وتزوج فلان في (زمن شيخ أحمد بن حرز) … وهكذا.

كراماته:أشرنا في ثنايا البحث إلى مكانة الشيخ الاجتماعية، وأنه من أفاضل علماء عصره، وكان عادلا مهابا على جانب عظيم من الورع والتقوى متشدداً في ذات الله لا تأخذه لومة لائم في تطبيق الشرع المقدس، بكل إخلاص، وقوة إيمان، وبما أكرمه الله سبحانه وتعالى بالعلم والهيبة والإقبال والجرأة والكياسة، والتـفاني في خدمة الدين والمؤمنين، ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية. (أقول) لما كان كذلك فقد حدثنا بعض كبار السن ممن عاصروه أو من الجيل التالي لعصره عن أمور خارقة نسبوها إلى الشيخ (رحمه الله) فقالوا بأن الشيخ أحمد ابن حرز يدار له المداس من قبل أيدٍ خفية، أو تنزل له مائدة من السماء لا تنفد عندما يأتي له الأضياف، وربما حصل ذلك الاعتقاد عند آبائنا فأخذوا يروونه لنا.

وأنا شخصيا أعذرهم في ذلك، لأنه في ذلك الزمان يسهل ترويج مثل هذه الأمور بسبب تفشي الأمية وحسن النوايا وصفاء القلوب. والحقيقة أن الشيخ لديه بعض العلوم الخاصة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تعلّمها من عمه (والد زوجته) السيد عبد القاهر القاروني الذي كان لديه من هذه العلوم (الفوائد) الكثير، يستطيع الشيخ أحمد بها إحلال البركة بإذن الله في المائدة واكتشاف بعض التصرفات الضارة والتنصل من الأشرار. لكن نزول المائدة عليه من السماء وإدارة المداس له من قبل أيدي خفية وبعض المبالغات التي رويت عنه غير صحيحة.

تلامذته:

التحق به عدد من العلماء وطلاب العلوم الدينية، ومنهم:

– ابـنـه الشيـخ سليمـان الـحــرز .

– السيد عـدنان بن علــوي الموسـوي .

– الشيـخ عبـد اللـه بـن عبـد الإمـام .

– الشيخ عبد الله بن أحمد العرب الجمـري .

– الـشـيـخ مهـدي الـمـصـلــي .

– الشيخ محمد بن الشيخ ناصـر المبـارك .

– الشيـخ عـبـد اللـه المـصـلــي .

– الشيخ جواد بن علي بن مرزوق البلادي .

– السيد عـلي بن يوســـف الوداعـي .

– الشيخ محـمد بن الشيخ محسن الدرازي .

وممن درس في بيته:

الشاعر والوجيه والأستاذ المرحوم الحاج مسعود بن سند والمرحوم الحاج الوجيه أحمد بن سند والحاج علي بن الشيخ أحمد الحرز حيث درسوا مبادئ الشريعة والقراءة والكتابة والقرآن الكريم في بيته وكانوا من المقرئين للقرآن والحديث وكان لهم التقدم في هذا العمل الإسلامي الجليل.

زوجاته وذريته الصالحة:

تزوج في هجرته بكريمة السيد عبد القاهر القاروني، نزيل لنجة وأنجبت له (الشيخ سليمان بن حرز) المتوفى سنة 1340 هـ 1921 م، (وسكينة بنت الشيخ) وهي عالمة ترجع إليها النساء لأخذ الأحكام الشرعـية، درسـت عند أبيها وأخيها ووالدتها العلـوية، وقد توفـيت في عام 1404هـ ـ 1984م.

ثم تزوج بإحدى حرائر عشيرة (آل حرز) وأنجبت له (علي بن الشيخ) وهو متعلم وخطاط وقارئ للقـرآن والحديث. توفي سنة 1405هـ ـ 1985م، وأم الشهيد الشيخ عبد الله المدني المتوفاة سنة 1413هـ ـ 1992م.

أما زوجته الثالثة فكانت كريمة الحاج حسن البصري، حيث منزلها الزوجي في العاصمة (المنامة) وأنجبت (الشيخ أحمد بن أحمد الحرز) المتوفى سنة 1398هـ ـ 1978م، وبنتا أخرى. والظاهر أنها توفيت بعد وفاة الشيخ سليمان بن حرز.

الوضع القضائي والاجتماعي في عصره:كان القاضي الشرعي في عصر الشيخ أحمد وما قبله يرشح من قبل كبار علماء الدين، ويعين من قبل الحاكم في منطقة معينة، ويمارس قضاءه وأعماله الشرعية بكل حرية واستقلال، كل حسب مذهبه وطريقته. أما عن الوضع الاجتماعي في القرى فقد كان الفقر شائعا، وكانت البلاد تعتمد على الواردات في النواحي العمرانية والغذائية، إذ أن الإنتاج الزراعي على وفرته نسبياً لا يكفيها.

ولقد مارس بعض أصحاب النفوذ وبعض النواخذة أساليب ظالمة وغير شرعيّة، مثل السخرة في الغوص وبعض الأعمال الشاقة، وانتشرت الأمية، ولا توجد من طرق التعليم إلا تعليم القرآن الكريم (الكتاتيب) وبعض حلقات الدرس في المساجد لطلبة العلوم الدينية، وقلة من المتعلمين من أفراد المجتمع.

موقفه من القضاء والواقع الاجتماعي:كان الشيخ ينظر بحكمة عالم وحنكة خبير للواقع بشكل عام، فأولاً: مادام الناس يمارسون عباداتهم وشعائرهم بحرية تامة كل بحسب ما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، ومادام القضاة أحراراً في أقضيتهم ولا توجد إلا المحاكم الشرعية يرجع إليها أبناء البلد في فصل منازعاتهم ، ((والقاضي مستقل يقضي وقت الترافع إليه في أي مكان كان )) فإنه رحمه الله كان يؤكد على تلك المبادئ الدينية والقضائية وينادي بعدم المساس بها.

ولقد كانت علاقة الشيخ أحمد مع حاكم البلاد في عصره، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، علاقة مبنية على الاحترام والتقدير والتشاور في أمور القضاء لصالح البلاد والعباد. ولما كان الشيخ مقدراً عند الحاكم، وقائما بالوظائف الشرعية خير قيام لا يهادن أحدا مهما كان موقعه، ومقدرا عند عامة الناس. فإن بعض التجار من أصحاب النفوذ في العاصمة لم يرق لهم ذلك فوقعوا على عريضة كان الغرض منها تمكين الحكومة من تسفير الشيخ خارج البلاد، ثم اختلفوا فقاموا بتمزيقها. بعد ذلك أحضرها أحد رجاله مقطّعة له، فقام الشيخ بلصق القطع بعضها ببعض حتى تمكن من معرفة الموقعين عليها، حينئذ اجتمع بهم ووبخهم على فعلتهم ونصحهم ووعظهم، حيث الغرض من عريضتهم الوشاية عليه كعالم وقاض كبير محترم أمام الحاكم، والإقلال من هيبته أمام الشعب وإحراجه مع علماء عصره، إن غضب الشيخ على هؤلاء الوشاة من التجار ليس لنفسه فقط وإنما لكل القضاة المحليين حفاظا على هيبتهم ومكانتهم أمام الحكام والناس من كيد أصحاب النفوذ وأهوائهم، وهكذا فإن كل من أراد الكيد والوشاية على القضاة الحازمين صده ووقف ضده وأفشل ما يريده بكل حزم وقوة بأس منقطع النظير فلقد (( كان الشيخ أحمد مهابا لا يتقي من أحد ولا يحابي أحدا ولا يداهن في شيئ )).

وثانيا : عن الأمور الاجتماعية قدمنا أن الشيخ أسهم بحفر العيون وإحياء الأراضي الموات بزراعتها لمواجهة النقص في المواد الغذائية، وكان التركيز على زراعة النخيل لما فيه من منافع كثيرة، بالإضافة إلى دعوته إلى نشر العلم والتعليم في المنطقة وتأسيسه لحوزة علمية لطلاب العلم الديني.

وللقضاء على الفقر أسهم في محاربة السخرة ودعى إلى إعطاء الأجير حقه قبل أن ينشف عرقه، ووزع الحقوق الشرعية التي يحصل عليها توزيعا عادلا على مستحقيها، وأنفق من أمواله الخاصة على الفقراء والمساكين والأيتام الكثير، نعم لقد انتشر الأمن في منطقته وخلت من الجرائم وتمسك غالبية الناس بشرع الله سبحانه، وكان ذلك بفضل الله وفضل هذا العالم والشيخ الهمام والقاضي الجريء المقدام.

آثاره العلمية:

للشيخ مراسلات علمية مع زميله وصديقه المرجع الأعلى للشيعة في عصره العلامة السيد كاظم اليزدي صاحب (العروة الوثقى) الذي كان يقطن النجف الأشرف بالعراق في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.

وكانت أشهر تلك المراسلات رسالة فاخرة في التقليد اسماها (إحباء الأحبّاء في تسوية النصوص بين تقليد الأموات والأحياء )، وذلك لما كان في زمانه من النزاع في هذه المسألة وهي مطبوعة وتباع في المكتبات. أما أقضيته وخطب الجمعة وبعض الآثار الأخرى فقد تلفت وضاعت ولم يحافظ عليها للأسف الشديد وما بقي منها فقد تآكل بفعل الزمن وصعبت قراءته وتحقيقه.

ويعزو قلة إنتاجه العلمي لانشغاله في القضاء وإقامة الجمعة والأمور الحسبية والأوقاف وما إلى ذلك من الأمور الاجتماعية الأخرى التي أدت إلى عدم اشتغاله بالتصنيف والتحبير مع قدرته العلمية الفائقة.

وفاته:توفي العلامة الجليل في 21 من المحرم في عام 1337هـ الموافق 26 أكتوبر 1918م، في مستشفى الإرسالية الأمريكية بالمنامة، وكان المستشفى الوحيد في ذلك الزمان، وصلى عليه الفاضل الشيخ عبد الله بن معتوق القطيفي ثم شُيِّع تشييعاً عظيماً ودفن في مقبرة الإمام، وكان ذلك يوماً حزيناً على البحرين قاطبة، ومازال قبره مقصداً للزوار لقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة.

ورثاه الحاج الشيخ الأديب سلمان التاجر المتوفى سنة 1342هـ بمرثية ننقل منها هذه الأبيات:

فرقان أحمد ينعى أحمدا فينا********ودينه ظل يبكي بيننا الدينا

والشمس قد لبست ثوب الحداد أسىً********لمّا ملأن السما الأملاك تأبينا

والمجد نادى لدى التشييع يندبه********فأسمع الهند لا بل أسمع الصينا

والعلم والزهد والتقوى دعونَ وقد********أبدين من شجن ما كان مكنونا

يا حاملي النعش إن العرش زُلزل لا********تمشوا سراعا به وامشوا به هونا

كيف استطعتم لحمل النعش لم تهنوا********وفيه يُحمل علمٌ كان مخزونا

كأن تابوت موسى وهو داخله********تابوتكم وهو فيه فيه ياسينا

دفنتموه وأنتم تعلمون بأن********تركتم العدل تحت الأرض مدفونا

يا دافنيه تعالوا ننع مدرسة********قد أوحشت منه تبكيه وتشجينا

ومنـبرا ظل يرثـيـه العـلاء به********ألسن زادها حسن الثنا زيـنا


كاتب البحث/ السيد هاشم السيد سلمان

تعليقات