مظلومية الزهراء عليها السلام في مصادر الشيعة الإمامية قراءة تحليلية موجزة
السيد زين العابدين المقدس الغريفي
إن المظلومية التي وقعت على أهل البيت (عليهم السلام) بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) سواء الجسدية أم المعنوية من الأمور القطعية في التاريخ الإسلامي بما لا تقبل التشكيك والترديد ، بل هي محط اجماع المسلمين كافة في الجملة وإن اختلفوا في تفسيرها وترتيب الآثار عليها ، حيث تمت منازعهم في حقهم في الإمامة والحاكمية بل ازاحوهم عن كل مقام فرضه الله تعالى لهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغدروا بهم ، حتى أخرجوهم من الدنيا بين مقتول بالسيف أو مسموم ، فقد ثبت ذلك في الأحاديث المعتبرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث قال : [ما منا إلا مقتول أو مسموم][1] ، فضلاً عن التسالم الحاصل لدى الإمامية بوقوع ذلك .
وإن مجرد القاء نظرة سريعة في كتب التاريخ الإسلامي سنجد ذكر بعض ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) جليا وواضحاً حيث لم يكتفوا بغصب الخلافة منهم بل جردوهم من أموالهم فمنعوا الزهراء من إرثها وأرادوا اجبارهم بالقوة والاكراه على النزول على بيعة أبي بكر فكشفوا دار الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) واحرقوه بالنار وهذا بحد ذاته جريمة كبرى ، وكسروا ضلعها واسقطوا جنينها ولم يرعوا لها حرمة من أجل الحكم ، وقد تعرض لذلك بالدراسة والتحقيق سيدنا الأستاذ الوالد (دام ظله) في كتابه (جدلية الصحابة بين النص والعقل والسيرة)[2] فعرض جل ذلك من مصادر أهل السنة المعتمدة .
فالمظلومية ــ في الجملة ــ ثابتة ومن ضروريات التشيع ، وكل من ينكرها يخرج منه ، لكون التشيع عنواناً مركباً من عنصري : الولاء والبراء ، وتنزيه أعداء أهل البيت (عليهم السلام) يستلزم هدم ركن البراءة ، فيعطي صورة مشوهة للمذهب هي في الواقع مزيج بين الأضداد ، وقد ولدت بعض الفرق التي تتبنى هذه الفكرة فتتولى أهل البيت وأعداءهم حتى اطلق عليهم (البترية) لكونهم بتروا الحق وخلطوه بالباطل ، ولذا روى الكشّي في سبب تسميتهم بسنده عن سدير، قال: [دخلت على ابي جعفر عليه السلام ومعي سلمة بن كهيل، وأبو المقدام ثابت الحداد، وسالم بن أبي حفصة، وكثير النواء، وجماعة معهم، وعند أبي جعفر عليه السلام أخوه زيد بن علي عليهم السلام فقالوا لابي جعفر عليه السلام: نتولى عليا وحسنا وحسينا ونتبرأ من أعداهم ! قال: نعم. قالوا: نتولى ابا بكر وعمر ونتبرأ من اعدائهم ! قال: فالتفت اليهم زيد بن علي قال: لهم أتتبرؤون من فاطمة بترتم أمرنا بتركم الله فيومئذ سمعوا البترية][3] .
والبترية في واقعها امتداد لحركة النفاق التي برزت في عصر صدر الإسلام حيث إن أبرز سماتهم هي التبعيض في الإيمان فيؤمنون بما يوافق رغباتهم وأهوائهم ويرفضون ما يخالفها ، ويثبتون ما يوافق مصالحهم وينفون ما يضادها ، وهكذا المنهج البتري حيث يدعي الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) ويرفض التبري من أعدائهم ، وهم أشد على الشيعة من أعدائهم لظهورهم بلباس التشيع وتغريرهم للناس بالجهل ، فقد روى الطوسي بسنده عن إسماعيل الجعفي قال : قلت لابي جعفر (عليه السلام) : [رجل يحب أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا يتبرأ من عدوه ويقول : هو أحب إلي ممن خالفه ، فقال : هذا مخلط وهو عدو ، فلا تصل خلفه ولا كرامة إلا أن تتقيه][4] .
وروى الصدوق بسنده عن الحسن بن علي الخزاز قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول : [إن ممن يتخذ مودتنا أهل البيت لمن هو أشد لعنة على شيعتنا من الدجال ، فقلت له: يا ابن رسول الله بماذا؟ ، قال: بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق][5] .
خرجت جماعات في هذا العصر تحاول أن تبرأ ساحة أعداء أهل البيت (عليهم السلام) من كل فعل ارتكبوه وقبيح فعلوه بأساليب سمجة وطرق تنم عن حماقة وغباء مفرط من قبيل القاء قصائد الحزن واللطم على أهل البيت (عليهم السلام) مع انكار مظلوميتهم وما هذا إلا عبارة عن الجمع بين الضدين واللغو في القول والفعل ، بل تعدى الحال لإستعمال اطوار والحان مجالس الفسق والفجور كالراب ونحوها وينسبوها كذبا إلى الحسين والمهدي تبريراً لافعالهم وتغريراً بالجهال من اتباعهم ، فهم امتداد طبيعي وواضح للبترية المذمومين والمنحرفين عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) ، وهم من سيخذل صاحب الزمان ويحاربه .
وآخر ما صرح به صاحبهم هو انكاره لمظلومية الزهراء (عليها السلام) وتبرأة أعدائها والترضي عليهم وانكاره لكل الأدلة الصحيحة سنداً والواضحة دلالة في اسلوب يكشف عن شك في تشيع قائله فضلاً عن جهله بأبجديات علوم الدراية والرجال والحديث .
ومظلومية الزهراء (عليها السلام) عنوان واسع يشتمل على حوادث كثيرة سوف نقصر الحديث فيه عن كسر الضلع واسقاط الجنين ، فنذكر أهم الأدلة على ذلك ومن ثم نناقش أهم الشبهات التي طرحت قديماً وحديثاً ، ولذا سوف يقع الكلام في مطلبين .
المطلب الأول : ذكر الأدلة على وقوع الحدث .
هناك روايات مستفيضة عند الإمامية ذكرت في مصادرهم القديمة المعتبرة تدل على كسر ضلع الصديقة الطاهرة واسقاط جنينها ، وهي معتضدة بمجموعة من القرائن التي ترفعها إلى مستوى الاطمئنان والقطع بصدورها ، ولذا عمل بها القدماء والمتأخرون ولم ينكرها أحد ممن يعتد بقوله .
ويمكن تقسيمها على طوائف ثلاث :
الطائفة الأولى : اخبار النبي (ص) بما يقع على الصديقة الطاهرة من بعده .
فقد روى ابن قولويه بسنده عن ابي عبد الله (عليه السلام) انه قال: [لما اسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) الى السماء قيل له: ان الله تبارك وتعالى يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك ... وأما الثالثة فما يلقي اهل بيتك من بعدك من القتل، اما اخوك علي فيلقى من امتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد والظلم وآخر ذلك القتل، فقال: يا رب قبلت ورضيت ومنك التوفيق والصبر، وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها، وتضرب وهي حامل، ويدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير اذن، ثم يمسها هوان وذل ثم لا تجد مانعا، وتطرح ما في بطنها من الضرب وتموت من ذلك الضرب][6] .
ويعضده ما رواه الصدوق بسنده عن ابن عباس قال : [إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالسا ذات يوم ... ثم قال : وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها ، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية... فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علي محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وأذل من أذلها، وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين][7] . وقد رواه أيضاً الجويني الشافعي[8] باللفظ نفسه .
الطائفة الثانية : ما دلت على كسر الضلع واسقاط الجنين .
1 ــ روى الطبري بسند معتبر عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: [قبضت في جمادي الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشرة من الهجرة. وكان سبب وفاتها أن قنقذا مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسنا ومرضت من ذلك مرضا شديدا، ولم تدع أحدا ممن آذاها يدخل عليها. وكان الرجلان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) سألا أمير المؤمنين أن يشفع لهما إليها ، فسألها أمير المؤمنين (عليه السلام) فأجابت، فلما دخلا عليها قالا لها: كيف أنت يا بنت رسول الله ؟ قالت: بخير بحمد الله. ثم قالت لهما: ما سمعتما النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: " فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله " ؟ قالا: بلى. قالت: فو الله، لقد آذيتماني. قال: فخرجا من عندها وهي ساخطة عليهما][9] .
2 ــ روى المسعودي صاحب مروج الذهب (345 هــ) : [فأقام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فوجهوا الى منزله فهجموا عليه، و أحرقوا بابه، و استخرجوه منه كرها، و ضغطوا سيّدة النساء بالباب حتى اسقطت (محسنا) و أخذوه بالبيعة فامتنع و قال: لا أفعل][10] .
3 ــ روى سليم بن قيس ــ وهو أقدم مصدر روائي وصل إلينا ــ عن الصحابي سلمان الفارسي (رضي الله عنه) انه قال : [... فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء ثم أمر أناسا حوله فحملوا حزم الحطب وحمل عمر معهم فجعلوه حول منزله وفيه علي وفاطمة وابناهما. ثم نادى عمر: يا علي، والله لتخرجن فلتبايعن خليفة رسول الله عليك أو لأضرمنها عليك نارا فلم يجبه. فوضع عمر النار بالباب وهو متخوف أن يخرج علي عليه السلام بسيفه لما عرف من بأسه وشدته حتى احترق الباب. ثم قال لقنفذ: اقتحم عليه فأخرجه فاقتحم هو وأصحابه وثار علي عليه السلام إلى سيفه فسبقوا إليه وكاثروه فضبطوه وألقوا في عنقه حبلا. وجاءت فاطمة عليها السلام لتحول بينهم وبينه، فضربها قنفذ بسوطه وأضغطت بين الباب فصاحت: يا أبتاه يا رسول الله وألقت جنينا ميتا وأثر سوط قنفذ في عضدها مثل الدملوج . ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام. ثم نادى عمر حتى أسمع عليا وفاطمة عليهما السلام: (والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار) فقالت فاطمة عليها السلام: يا عمر، ما لنا ولك ؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم. فقالت: (يا عمر، أما تتقى الله تدخل على بيتي) ؟ فأبى أن ينصرف. ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت: (يا أبتاه يا رسول الله) فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت: (يا أبتاه) فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: (يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر). فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله، فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وما أوصاه به، فقال: (والذي كرم محمدا بالنبوة - يابن صهاك - لو لا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وآله لعلمت إنك لا تدخل بيتي). فأرسل عمر يستغيث، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وثار علي عليه السلام إلى سيفه. فرجع قنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوف أن يخرج علي عليه السلام إليه بسيفه، لما قد عرف من بأسه وشدته. فقال أبو بكر لقنفذ: (ارجع، فإن خرج وإلا فاقتحم عليه بيته، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النار). فانطلق قنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وثار علي عليه السلام إلى سيفه فسبقوه إليه وكاثروه وهم كثيرون، فتناول بعضهم سيوفهم فكاثروه وضبطوه فألقوا في عنقه حبلا وحالت بينهم وبينه فاطمة عليها السلام عند باب البيت، فضربها قنفذ الملعون بالسوط فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته، لعنه الله ولعن من بعث به][11] .
فإن قيل : إن هذا الخبر بنفسه ليس حجة بلحاظ وجود أبان بن أبي عياش في سنده وهو ضعيف عند علماء الرجال[12] ، فلا يكون قابلاً للاعتماد وساقط عن الاعتبار وفقاً لمعايير وقواعد علم الرجال .
قلت : إن اثبات صحة الصدور واعتبار الرواية لا يتوقف عند صحة السند ، بل يمكن من خلال تتبع الشواهد والقرائن الدالة على صدور الرواية وفقاً لمسلك الوثوق ، والتي سنتطرق لبعضها التي تدل على صدور الحدث .
كما أن ضعف الراوي ــ إن تم ــ لا يدل على وضع الرواية بل غاية ما يدل على عدم اعتبارها وبالتالي قد يلتمس ما يكون شاهداً على صحتها من قرائن وهي موجودة في المقام .
وبما أن الرواية مذكورة في كتاب سليم بن قيس ، فاعتبار هذا الكتاب عند جماعة من المتقدمين والمتأخرين[13] وحجيته وأخذهم بمروياته يوجب جبر ضعف السند فتأمل .
بل نسب المحدث النعماني ذلك الى عموم الشيعة بقوله : b وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الائمة F خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الاصول التي رواها أهل العلم من حملة حديث أهل البيت F وأقدمها ... وهو من الاصول التي ترجع الشيعة إليها ويعول عليها v[14] .
ومن الأخبار التي يمكن عدها شاهداً ومؤيداً على صحة هذا المضمون :
1 ــ ما رواه العياشي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) : [... فارسل إليه الثالثة عمر رجلاً يقال له قنفذ ، فقامت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله عليها تحول بينه وبين علي عليه السلام فضربها فانطلق قنفذ وليس معه علي عليه السلام فخشى أن يجمع على الناس فأمر بحطب فجعل حوالي بيته ثم انطلق عمر بنار فاراد أن يحرق على علي بيته وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فلما رأى علي ذلك خرج فبايع كارها غير طائع][15] .
2 ــ ما رواه الطبرسي من احتجاج الحسن (عليه السلام) على المغيرة بن شعبة : [... وانت الذي ضربت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) حتى ادميتها والقت ما في بطنها، استدلالا منك لرسول الله صلى الله عليه واله ومخالفة منك لأمره، وانتهاكا لحرمته ...][16]
3 ــ ما رواه الخصيبي عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) إنه قال : [واشعال النار على باب امير المؤمنين وسم الحسن وضرب الصديقة فاطمة بسوط قنفذ ورفسه في بطنها واسقاطها محسنا][17] .
4 ــ وقد سمعت بعض المشايخ يذكر أن هذا الكنز ــ في قوله (صلى الله عليه وآله) : [إن لك كنزا في الجنة] : [هو ولده المحسن عليه السلام وهو السقط الذي ألقته فاطمة (عليها السلام) لما ضغطت بين البابين][18] .
الطائفة الثالثة : ما دلت على وصفها بالشهيدة .
1 ـــ روى الكليني بسند معتبر عن علي بن جعفر أخيه، أبي الحسن الكاظم عليه السلام انه قال: [إن فاطمة عليها السلام صديقة شهيدة وإن بنات الانبياء لا يطمثن][19] .
2 ــ روى المفيد في زيارتها : [السلام عليك يا رسول الله، السلام على ابنتك الصديقة الطاهرة. السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله، السلام عليك أيتها البتول الشهيدة الطاهرة، لعن الله من ظلمك، ومنعك حقك، ودفعك عن إرثك، ولعن الله من كذبك، وأعنتك، وغصصك بريقك، وأدخل الذل بيتك، ولعن الله أشياعهم، وألحقهم بدرك الجحيم] [20] وقريب منه ما ذكره في المزار[21].
وغيرها من الأخبار والزيارات ، ومن المعلوم أن وصف الشهيدة عنوان يطلق لمن قتل ظلماً سواء في الحرب أم غيرها .
وبمجموع هذه الطوائف يحصل الوثوق والإطمئنان بوقوع الحادثة لاسيما بعد علمنا بصحة سند بعضها ، بل يمكن تحشيد القرائن والشواهد على ذلك ، نذكر أهمها :
القرينة الأولى : إمكان وقوع الحدث .
إن الباحث عندما يلاحظ الأجواء والظروف المحيطة بالحدث وشخوصه يدرك إمكان وقوعه ، بلحاظ وجود نزاع وصراع وصل إلى التدخل العسكري بمحاصرة البيت واضرام النار والتهديد بحرق الدار بمن فيها وعدم مبالاة المهاجمين بالقيمة المعنوية والروحية لمن في الدار ، بل نجد شواهد لخشونة عمر وتعديه على الناس من الرجال والنساء سواء قبل الإسلام أم بعده ، حتى إنه وأد بنتاً له في الجاهلية وكان يضرب الإماء في الإسلام لمجرد ارتداء الحجاب ، بل يروى إن امرأة أسقطت جنينها بمجرد ان استدعاها عمر بن الخطاب فكان غلظا شديداً يخافه الجميع ويتجنبه ، ومن ذلك وغيره لا يستبعد وقوع الحدث واحتمالية حدوثه .
القرينة الثانية : اعتراف أبي بكر بكشف دار الزهراء .
حيث اعترف أبو بكر بخطأ ما اقترفه من دخول الدار ، فقد اخرج الطبراني بسند حسن عن حميد بن عبد الرحم بن عوف عن أبيه قال : قال أبو بكر : [... فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وأن أغلق علي الحرب ...][22] ، قال ضياء الدين المقدسي : (وهذا حديث حسن)[23].
القرينة الثالثة : التوافق بين الامامية وبعض مصادر العامة
على الرغم من التكتم الشديد على الحدث إلا إنه ورد في بعض النقولات ما يكشف عن وقوع الحدث منها :
1 ـــ ما ورد عن النظام المعتزلي إنه قال : [إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها][24] .
بل نقل الشهرستاني عنه انه قال : [إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين][25] .
2 ــ ما رواه ابن قتيبة في كتابه المعارف : [إن محسنا فسد من زخم قنفذ العدوي][26] وقنفذ مولى لعمر بن الخطاب حيث كان ممن هجم على الدار معهم .
3 ـــ المحدث أحمد بن محمد بن السري بن يحيى بن أبي دارم ، قال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ بعد أن أرخ موته: [كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن][27] .
4 ـــ ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي هذا الخبر عن نقيب البصرة أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي بقوله : [وهذا الخبر أيضا قرأته على النقيب أبي جعفر رحمه الله فقال : إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها فظهر الحال أنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها ، فقلت: أروي عنك ما يقوله قوم إن فاطمة روعت فألقت المحسن ، فقال: لا تروه عني و لا ترو عني بطلانه فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه][28] وهذا كاشف عن وجود أخبار صحيحة وكثيرة تصرح بوقوع الجريمة وقد أخفيت رعاية لمصالح سياسية ودينية .
القرينة الرابعة : دفن الزهراء (عليها السلام) سراً .
مارست الزهراء (عليها السلام) المقاطعة التامة لمن ظلمها فضلاً عن تصريحها في كل فرصة تجدها برفضها لهم وعدم مبايعتها حتى رحيلها ، كما أوصت (عليها السلام) بدفنها سراً وعدم حضور من ظلمها تشييعها والصلاة عليها كنوع من الرفض لعملية الانقلاب والخيانة التي حصلت فيكون فعلها كاشفاً عن سخطها وعدم رضاها على هؤلاء .
ولذا أخرج البخاري عن عائشة : [أن فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه و سلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خبير ... فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها] [29] .
ونتيجة لذلك ، يمكن القول بحصول القطع بالحدث أو الإطمئنان بوقوعه ، حيث إن كثرة الأخبار والروايات وتعدد طرقها يزيد من القيمة الاحتمالية لجهة الصدور ، ومما يؤكد ذلك أمران :
الأول : تصريح شيخ الطائفة الطوسي (رضوان الله عليه) بعدم وجود الخلاف بين الشيعة في قبول هذا الخبر ، حيث قال : [والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة : أن عمر ضرب على بطنها حتى أسقطت ، فسمي السقط " محسنا " ، والرواية بذلك مشهورة عندهم ... لا يختلفون في ذلك ][30] ، وهذا كاشف عن اطباق الشيعة قبل الطوسي وفي زمنه على الاعتقاد بوقوع ذلك .
بل إن نسبة كسر الضلع واسقاط الجنين إلى الشيعة مشهورة معروفة حتى عرف عنهم هذا الرأي في أوساط العامة والمخالفين[31] .
الثاني : إن السيد المرتضى (رضوان الله عليه) قد قبل هذا الخبر رغم رفضه لأخبار الآحاد مما يكشف عن تواتره أو اعتضاده بقرينة توجب الجزم بمضمونه عنده .
حيث قال في معرض جوابه على تشكيك القاضي عبد الجبار المعتزلي بحديث ضرب الزهراء (عليها السلام) وتشبيهها بأخبار الحلول : [ألست تعلم : أن هذا المذهب هو مذهب أصحاب الحلول ، والعقل دال على بطلان مذاهبهم؟ فهل العقل دال على استحالة ما روي من ضرب فاطمة (عليها السلام) ؟ ، فإن قال : هما سيان . قيل له : فبين استحالة ذلك في العقل ، كما بانت استحالة الحلول ، وقد ثبت مرادك . ومعلوم عجزك عن ذلك ][32]
وقال أيضاً : [وبعد ، فلا فرق بين أن يهدد بالاحراق للعلة التي ذكرها وبين ضرب فاطمة (عليها السلام) لمثل هذه العلة ، فإن احراق المنزل أعظم من ضربة بالسوط ... فلا وجه لامتعاض صاحب الكتاب من ضربة سوط ، وتكذيب ناقلها ][33]
ولذا صرح الشيخ الطوسي باستفاضة هذه الأخبار واعتضادها بما يوجب الاطمئنان بصدورها بقوله : [ومما أنكر عليه : ضربهم لفاطمة (عليها السلام) . وقد روي أنهم ضربوها بالسياط . والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة : أن عمر ضرب على بطنها حتى أسقطت ، فسمي السقط " محسنا " ، والرواية بذلك مشهورة عندهم . وما أرادوا من إحراق البيت عليها ، حين التجأ إليها قوم ، وامتنعوا من بيعته . وليس لأحد أن ينكر الرواية بذلك ، لأنا قد بينا الرواية الواردة من جهة العامة ، من طريق البلاذري ، وغيره . ورواية الشيعة مستفيضة به ، لا يختلفون في ذلك] [34] .
المطلب الثاني : شبهات وردود .
تقدم بيان الدليل المثبت لوقوع الجريمة على الصديقة الطاهرة بيد أن هناك بعض الأفراد من شكك في هذه الروايات عن طريق بث شبهات ليمنع من حصول الاطمئنان والوثوق بصدورها ، وأهمها ثلاث :
الشبهة الأولى : إنكار المفيد لوجود المحسن (عليه السلام) .
قد يدعى إن الشيخ المفيد أنكر وقوع الحادثة بإنكاره لوجود المحسن (عليه السلام) ضمن أبناء أمير المؤمنين (عليه السلام) .
حيث قال المفيد (رضوان الله عليه) في باب ذكر أولاد أمير المؤمنين عليه السلام: [فأولاد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) سبعة وعشرون ولدا ذكرا وأنثى... وفي الشيعة من يذكر أن فاطمة (صلوات الله عليها) اسقطت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولدا ذكرا كان سماه رسول الله (عليه السلام) - وهو حمل - محسنا فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمانية وعشرون، والله أعلم][35] وتابعه على ذلك الاربلي[36] والطبرسي[37] .
بل إن النسابة ابن الطقطقي ذكر لأمير المؤمنين (عليه السلام) عشرون ولداً ، أعقب من خمسة[38] ، ولم يذكر المحسن (عليه السلام) من بينهم مما يكشف عن انكاره لوجوده .
والجواب عن ذلك بأمور :
1 ـــ إن عدم عد ابن الطقطقي للمحسن ضمن أبناء أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يكشف عن انكاره لوجوده ، ومن ادعى ذلك فهو جاهل بصنعة النسب ، حيث إن هناك طرق في تدوين الأولاد فبعضهم يفصل فيذكر الجميع حتى السقط وبعضهم يجمل فيسقطه عن الاعتبار لعدم الفائدة من التطويل ، ولذا قال كمال الدين بن طلحة رحمه الله في بيان سبب الاختلاف : [اعلم أيدك الله بروح منه ان أقوال الناس اختلفت في عدد أولاده (عليه السلام) ذكورا واناثا فمنهم من أكثر فعد منهم السقط ولم يسقط ذكر نسبه ومنهم من أسقطه ولم ير أن يحتسب في العدة به فجاء قول كل واحد بمقتضى ما اعتمده في ذلك ويحسبه][39] .
فغاية ما يقال : إن دليل النفي أعم من المدعى فيحتمل الاعتقاد بوجوده أو نفيه أو التوقف فيه ، ولا قرينة على أحدها .
2 ـــ إن مناقشة ما ورد عن العلمين الطبرسي والاربلي لا قيمة له في حد ذاته لمتابعتهم للمفيد فيقتصر حينئذٍ على مناقشة قول المفيد (رضوان الله عليه) ودراسة مدى دلالة العبارة على النفي .
بل إن الأربلي بالخصوص لا يدل عن النفي لكونه ذكر أكثر من قول في المقام فلا يكشف عن تبنيه لما نقله عن المفيد ، فتأمل .
3 ـــ إن عبارة الشيخ المفيد يمكن أن يستفاد منها أكثر من احتمال :
الاحتمال الأول : تشكيك الشيخ بوقوع الحادثة ، لعدم الوثوق بالأخبار الواردة فيها ، مما يوجب التوقف فيها وعدم النفي والاثبات .
مناقشة الاحتمال الأول :
1 ــ وهذا لا يعني الانكار منه لقضية كسر الضلع واسقاط الجنين بالخصوص فنسبة الانكار له كذب محض ، فالتوقف غير الانكار كما لا يخفى بل هو جعل القضية في دائرة الامكان من حيث الوقوع والعدم.
2 ــ إن توقفه في قضية جزئية لا يعني انكاره لمظلومية الزهراء (عليها السلام) ، بل كتبه طافحة بما يدل على وقوع الظلم عليها ، وموقفه واضح ممن ظلمها واغتصب حقها .
فمما رواه بسنده عن الحسين (عليه السلام) قال: [... فلما حضرتها الوفاة وصت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتولى أمرها ويدفنها ليلا ويعفي قبرها فتولى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفنها وعفى موضع قبرها فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن فأرسل دموعه على خديه وحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله ... إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ لقد استرجعت الوديعة و أخذت الرهينة واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء و الغبراء يا رسول الله أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهد لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم كمد مقيح وهم مهيج سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك علي وعلى هضمها حقها فاستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين ... ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاما وللبثت عنده معكوفا ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية فبعين الله تدفن ابنتك سرا وتهتضم حقها قهرا وتمنع إرثها جهرا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر فإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك أجمل العزاء وصلوات الله عليك و عليها ورحمة الله وبركاته][40] .
3 ـــ بعد ثبوت الواقعة بسند صحيح وشهرتها عند المتقدمين ، فإن تشكيك المفيد (رضوان الله عليه) ــ إن تم ــ مع جلالة قدره لا قيمة له ، فأقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها ، وكل شخص قابل للخطأ والصواب إلا المعصوم (عليه السلام) .
الاحتمال الثاني : إن الشيخ في مقام عرض رأي الشيعة بجميع فرقها واتجاهاتها وهم كثر في زمانه كالزيدية بفرقها والاسماعيلية وغيرهم ، ثم ذكر رأي خصوص الإمامية وهو اعتقادها بإسقاط المحسن (عليه السلام) ، فلا تدل حينئذ على توقفه في المقام كما لا يخفى .
ومما يؤكد إيمانه بوقوع الحدث ووجود المحسن (عليه السلام) أمور :
1 ــ روايته لحادثة الإسقاط وقتل المحسن في كتاب الإختصاص ، حيث روى بسنده عن عبد الله بن بكر الأرجاني قال: صحبت أبا عبد الله (عليه السلام) في طريق مكة من المدينة فنزل منزلا ... ونحو نمرود الذي قال: قهرت أهل الأرض وقتلت من في السماء، وقاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) وقاتل فاطمة (عليها السلام) وقاتل المحسن وقاتل الحسن والحسين (عليهم السلام)][41] .
وما رواه أيضاً بسنده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجلس أبوبكر مجلسه بعث إلى وكيل فاطمة (صلوات الله عليها) فأخرجه من فدك فأتته فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا أبا بكر ادعيت أنك خليفة أبي وجلست مجلسه وأنك بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك وقد تعلم أن رسول الله الله صلى الله عليه وآله صدق بها علي وأن لي بذلك شهودا ... قال: فدعا بكتاب فكتبه لها برد فدك، فقال: فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك، فقالت: كتاب كتب لي أبوبكر برد فدك، فقال: هلميه إلي، فأبت أن تدفعه إليه، فرفسها برجله وكانت حاملة بابن اسمه المحسن فأسقطت المحسن من بطنها ثم لطمها ...][42]
2 ــ روى المفيد في زيارتها : [السلام عليك يا رسول الله، السلام على ابنتك الصديقة الطاهرة. السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله، السلام عليك أيتها البتول الشهيدة الطاهرة، لعن الله من ظلمك، ومنعك حقك، ودفعك عن إرثك، ولعن الله من كذبك، وأعنتك، وغصصك بريقك، وأدخل الذل بيتك، ولعن الله أشياعهم، وألحقهم بدرك الجحيم] [43] ، وادخال الذل إلى بيتها عبارة عن اقتحامه بغير اذن والتصرف المؤذي لأصحابه ، بل إن هذه العبارة بذاتها قد وردت في رواية الصدوق المتقدمة : [كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها ، وأسقطت جنينها][44] ، فيكون هذا الخبر بيان لما اجمل في الزيارة من الفاظ.
3 ـــ إقامة المفيد لمجالس العزاء على المحسن السبط (عليه السلام) بشهادة المخالف حيث قال القاضي عبد الجبار المعتزلي : [وفي هذا الزمان منهم مثل أبي جبلة إبراهيم بن غسان، ومثل جابر المتوفي، وأبي الفوارس الحسن بن محمد الميمديّ وأبي الحسين أحمد بن محمد بن الكميت، وأبي محمد الطبري، وأبي الحسن الحلبي، وأبي يتيم الرلباي، وأبي القاسم النجاري، وأبي الوفا الديلمي، وابن أبي الديس، وخزيمة، وأبي خزيمة، وأبي عبد الله محمد بن النعمان، فهؤلاء بمصر وبالرملة وبصور، وبعكا وبعسقلان وبدمشق وببغداد وبجبل البسماق. وكل هؤلاء بهذه النواحي يدّعون التشيع ومحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته، فيبكون على فاطمة وعلى ابنها المحسن الذي زعموا أن عمر قتله ... ويقيمون المنشدين والمناحات في ذلك][45] .
4 ــ اجماع الشيعة وفق تصريح الشيخ الطوسي ونقله لعدم الخلاف في الواقعة ، كاشف عن اعتقاد المفيد بذلك ، وإلا لكان تصريحه بالاجماع لغوياً لاسيما اذا علمنا بأهمية علم مثل المفيد حيث كان استاذا للطوسي وزعيما للطائفة في ذلك الزمان ، بل كان الاولى والاجدر بالطوسي ان ينقل رأي استاذه بالخلاف وحيث لم ينقله كان ذلك قرينة على دخوله ضمن المجمعين .
الشبهة الثانية : خطبة الزهراء (عليها السلام) في المسجد .
حيث قيل : إن الزهراء (عليها السلام) خرجت في لمة من نساء بني هاشم إلى المسجد تطلب ابن عمها وخطبت فيهم تلك الخطة الطويلة ، وهو دليل على سلامتها الجسدية بما يؤهلها للحركة والوقوف والخطابة في الناس ، بل إنها رغم حديثها الطويل في خطبتها لم تذكر ما وقع لها من ظلامة .
والجواب عنه :
أما القول بخلو خطبتها في المسجد وعدم تعرضها لما وقع عليها من أذى جسدي ، فيرجع في الواقع إلى أسباب كثيرة أهمها :
1 ــ كون الغرض من الخطبة أهم من ذلك ؛ حيث كانت تريد المطالبة بالإمامة عبر بيان فساد خلافة المنقلبين وسلب الشرعية عنهم للدلالة على أحقية ابن عمها بالخلافة ، فالمطالبة بفدك ليس هو الأصل بل كناية عن حق ابن عمها بالخلافة .
ولذا صرح الإمام الكاظم (عليه السلام) بمراد أهل البيت (عليهم السلام) من المطالبة بفدك ، حيث روى الزمخشري: [كان الرشيد يقول لموسى الكاظم بن جعفر : يا أبا الحسن خذ فدك حتى أردها عليك، فيأبى، حتى ألح عليه فقال: لا آخذها إلا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: يا أمير المؤمنين إن حددتها لم تردها، قال: بحق جدك ألا فعلت، قال: أما الحد الأول فعدن، فتغير وجه الرشيد وقال: هيه، قال: والحد الثاني سمرقند، فأربد وجهه، قال: والحد الثالث أفريقية، فاسود وجهه وقال: هيه، قال: والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية، قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحول في مجلسي؛ قال موسى: قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها. فعند ذلك عزم على قتله ...][46]
فعنوان (فدك) يطلق ويراد منه كل أرض واقعة تحت يد الخلافة الإسلامية، وهو في الواقع ذكر المسبب وارادة السبب الذي منه ينطلق لأخذ مشروعية الحكم وهي الخلافة والإمامة .
2 ــ إن الزهراء (عليها السلام) قامت بالموازنة بين الأغراض المهمة ، فبين أن تتحدث عن حق شخصي يتعلق بها أو تتحدث عن حق الإمامة الذي فيه مصلحة للمسلمين عامة ، فحصل التزاحم فالعقلاء يدركون لزوم تقديم الأهم لاسيما اذا علمنا بكونها أحد أفراد المسلمين التي تتضرر بتضررهم ، فبغصب الخلافة قد وقع الضرر عليها أيضاً .
وأما بالنسبة لخروجها إلى المسجد وإلقائها الخطبة فلا يدل بالمطابقة على سلامتها الجسدية لان بيت الزهراء كان ملاصقاً للمسجد فلا تتطلب الحركة جهداً جسدياً كبيراً بل إن سياق الاحداث يكشف عن حصول الخطبة بعد مضي فترة زمنية تجعلها قادرة على الحركة وخروجها في لمة من النساء يحتمل اتكائها عليهن واعتضادها بهن ولا يوجد ما يدل على انها خطبت واقفة ، وتحملها للألم له تفسيرات عدة :
1 ــ إن كسر الضلع واسقاط الجنين مهما رافقه الكثير من الآلام والتعب إلا إنه لا يمنع من الحركة والكلام ، والوجدان أقوى دليل عليه حيث يوجد كثير من النساء ممن تعرضن لحوادث الاسقاط ومع ذلك تجدها تتحرك وتنتقل من مكان لآخر .
2 ـــ إن طبيعة الإنسان إذا ما فقد عزيزاً أو أوذي فيه فقد ينسى آلام جسده ولا يلتفت إليها ، فكيف بالزهراء (عليها السلام) التي أوذيت بأحب الناس إلى قلبها بعد أبيها حيث غصب حقه بالخلافة وأخذت فدك وأرادوا قتله فمن هول الموقف وعظم المصيبة قد لا تلتفت إلى ألمها .
3 ـــ لما كانت الحركة ممكنة ، فالزهراء (عليها السلام) كانت بين خيارين إما ان تنظر إلى ظلم ابن عمها وغصب حقه أو تقاوم الألم لأجل إنقاذه وتخليصه من أيدي الظلمة وإلقاء الحجة على الناس كافة ، فحصل هنا تزاحم ولا ريب في كون الثاني أهم وأعظم فاختارت الثاني .
الشبهة الثالثة : اثبات الحدث يعد مثلبة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) .
يثبت الجبن والتخاذل في عدم منع هؤلاء من حرمة زوجته ؛ إذ كيف يمكن أن يرضى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أشجع العرب والمسلمين وفارس المعارك الأول بضرب زوجته أمامه من دون أن يحرك ساكناً ويشهر سيفه للدفاع عن عرضه ، فالموقف الذي تشير إليه بعض الأخبار لا يتناسب مع شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهامته وغيرته وشجاعته ، فلابد أن تكون مكذوبة عليه وموضوعة لأجل تشويه صورته أمام المسلمين .
والجواب :
إن هذا الكلام إنما يصح في الحالات الاعتيادية ، في حين إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعلم ما يجري عليه بإخبار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أمره بالصبر والتحمل ، فلو خالف الوصية لكان عاصياً .
فالرسول (ص) أخبر علياً بما يصيبه ويجري على أهل بيته من الظلم والاستضعاف[47] ، فقد روى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن علي (عليه السلام) : [إن مما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله) أن الأمة ستغدر بي بعده][48] ، وأوصاه بعدم اعمال السيف فيهم ، روى يونس بن حباب عن أنس بن مالك قال: [كنا مع رسول الله ص و علي بن أبي طالب معنا فمررنا بحديقة فقال علي يا رسول الله أ لا ترى ما أحسن هذه الحديقة فقال إن حديقتك في الجنة أحسن منها حتى مررنا بسبع حدائق يقول علي ما قال و يجيبه رسول الله ص بما أجابه ثم إن رسول الله ص وقف فوقفنا فوضع رأسه على رأس علي و بكى فقال علي ما يبكيك يا رسول الله قال ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني ، فقال: يا رسول الله أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم قال بل تصبر قال فإن صبرت قال تلاقي جهدا قال أ في سلامة من ديني قال نعم قال فإذا لا أبالي][49] .
بل إن العقل يحكم بضرورة سكوت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فهو أمام خيارين: إما أن يشهر سيفه ويقاتل المنقلبين والغادرين أو يسكت ويصبر .
ريب في إن الخيار الأول يؤدي إلى هدم كل ما بناه الرسول (صلى الله عليه وآله) ويهدد بيضة الإسلام لوجود حركة الردة وتهديد الدين الفتي من كل الجهات ، حيث وجود حركة النفاق في المدينة التي تتربص الدوائر بالدين وأهله ، وشيوع حركة الردة بين القبائل العربية فضلاً عن تهديد الدول العظمى الرومانية والفارسية ، فيرجح الخيار الثاني لكون المصالح النوعية مقدمة على المصالح الشخصية .
وإذا علمنا بسكوته عن حقه في الخلافة لأجل هذا الغرض وهو حق نوعي يتعلق بمصالح الدين وأتباعه فمن باب أولى أن يسكت عن حق زوجته وهو حق شخصي يمكن اسقاطه أو تأجيله ؛ لعلم الإمام (عليه السلام) بإن قتله سيؤدي إلى بقاء الإسلام بدون قيم لتعبث به أيدي الإنقلابيين ويفسح المجال للإنحراف في المجال العقدي والتشريعي من دون وجود رادع أو مقوم للمسار .
فالمعصوم أراد الحفاظ على البقية الثابتة على الحق من خلص الصحابة وخيرتهم ، وتصحيح ما اعوج من أخطاء وانحرافات بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله) ومحاولة ارجاع الحق إلى أهله ، وهذا أهم وأعظم من الحفاظ على حرمة زوجته ، ولذا لم تطالبه الزهراء (عليها السلام) برد اعتبارها مع علمها بشجاعته وقوة بأسه.
ويلزم الإشارة إلى عدم وقوف أمير المؤمنين (عليه السلام) ساكتاً أمام المعتدين بل تصدى لهم وهم بضربهم وصرع عمر بن الخطاب ، فقد روى سليم بن قيس كيفية دفاع أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حرمه بقوله : [فوثب علي عليه السلام فأخذ بتلابيبه ثم نتره فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله، فذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوصاه به، فقال: (والذي كرم محمدا بالنبوة لولا كتاب من الله سبق وعهد عهده إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلمت إنك لا تدخل بيتي)][50] .
فلم تغب الشجاعة عن علي (عليه السلام) لحظة وهو فارس الإسلام وقتال الشجعان وبسيفه كشف الكرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أحلك المواقف وأشدها خطراً ، بل كان مقيداً بالوصية ولذا لم يخرج سيفه ويقتل منهم أحد مع مشروعية فعله واستحقاقهم لذلك .
وبهذا يظهر : صحة وقوع الحادثة وفق المعايير العلمية عند المحققين ، لورودها في المصادر القديمة والمعتبرة ، وصحة أسانيد بعضها ، واعتضادها بما يوجب الوثوق بصدورها ، ووهن الشبهات والتشكيكات التي في نفيها وابطالها .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
[1] - كفاية الأثر للخزاز القمي : 262 ؛ بحار الأنوار : 27/217 . ويؤكده ما رواه الصدوق بسند صحيح عن أبي الصلت قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول : [والله ما منا إلا مقتول شهيد] من لا يحضره الفقيه : 2/351 ح 3192 ؛ عيون اخبار الرضا : 1/287 .
[2] - جدلية الصحابة بين النص والعقل والسيرة / أبو الحسن حميد المقدس الغريفي .
[3] - اختيار معرفة الرجال : 505 رقم 429 .
[4] - تهذيب الاحكام : 3/28 باب احكام الجماعة ح9 .
[5] - صفات الشيعة للصدوق : 8 رقم 14 .
[6] - كامل الزيارات : 548 باب 108 ح12 .
[7] - الأمالي : 176 مجلس 24 ح2 .
[8] - فرائد السمطين : 2/34 ــ 35 .
[9] - دلائل الإمامة : 134 ــ 135 .
[10] - اثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي : 146 .
[11] - كتاب سليم بن قيس الهلالي : 2/585 ــ 586 .
[12] - الطوسي ، محمد بن الحسن : رجال الطوسي : 126 رقم1264 ؛ الغضائري ، احمد بن الحسين : الرجال : 36 رقم 1 ؛ الحلي ، الحسن بن علي بن داوود : الرجال : 254 رقم 2 ؛ وغيرهم .
[13] - ظ : النعماني ، محمد بن ابراهيم : الغيبة : 102 ؛ العاملي ، حسن بن الشهيد الثاني : التحرير الطاووسي : 253 حيث حكى عن احمد بن طاووس القول بذلك ؛ المجلسي ، محمد تقي : روضة المتقين : 14/372 ؛ الحر العاملي ، محمد بن الحسن : وسائل الشيعة (الخاتمة) : 20 / 42 الفائدة الرابعة .
[14] - النعماني ، محمد بن ابراهيم : الغيبة : 102
[15] - تفسير العياشي : 2/307 ــ 308 .
[16] - الاحتجاج : 1/414 .
[17] - الهداية الكبرى للخصيبي : 402 .
[18] - معاني الأخبار للصدوق : 206 .
[19] - الكافي : 1/458 .
[20] - المقنعة للمفيد : 459
[21] - المزار للمفيد : 179 .
[22] - المعجم الكبير للطبراني : 1/62 ــ 63 ؛ كنز العمال للمتقي الهندي : 5/631 ــ 633 ح14113 وقال : هذا حديث حسن ؛ تاريخ الطبري : 2/619 ؛ وغيرها .
[23] - الاحاديث المختارة للمقدسي : 1/10 .
[24] - الوافي بالوفيات للصفدي : 1/727 .
[25] - الملل والنحل للشهرستاني : 1/52 .
[26] - نقله عنه غير واحد كما في كفاية الطالب للكنجي الشافعي : 411 ، وغيره .
[27] لسان الميزان لابن حجر العسقلاني : 1/268 رقم824 .
[28] - شرح نهج البلاغة : 14/193 .
[29] - صحيح البخاري : باب غزوة خيبر رقم 3998 .
[30] - تلخيص الشافي للطوسي : 3/156 .
[31] - ظ : البدء والتاريخ للمقدسي : 5 / 20 ؛ تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار: 288 ؛ شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : 2/21 ؛ وغيرها .
[32] - الشافي في الإمامة للسيد المرتضى : 4/436 ــ437 .
[33] - الشافي في الإمامة للسيد المرتضى : 4/441 .
[34] - تلخيص الشافي : 3/156 .
[35] - الارشاد في معرفة حجج الله على العباد : 1/354 ــ 355 .
[36] - كشف الغمة : 2/67 .
[37] - اعلام الورى باعلام الهدى : 396 .
[38] - الأصيلي في أنساب الطالبيين : 56 ــ 58 .
[39] - كشف الغمة : 2/67 ــ 68 .
[40] - الأمالي للمفيد : 282 ح 7 .
[41] - الاختصاص للمفيد : 344 .
[42] - الاختصاص : 183 ــ 185 حديث فدك .
[43] - المقنعة للمفيد : 459
[44] - الأمالي : 176 مجلس 24 ح2 .
[45] - تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار المعتزلي : 288 .
[46] - ربيع الأبرار للزمخشري : رقم61
[47] - ظ : جدلية الصحابة بين النص والعقل والسيرة / ابو الحسن حميد المقدس الغريفي : 563 ــ 566 .
[48] - المستدرك على الصحيحين : 3/142 .
[49] - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4/107 ــ 108 .
[50] - كتاب سليم بن قيس : 150 .