الأخوند محمد سليم الإسكوئي

 آية الله العظمى المولى الأخوند محمد سليم الإسكوئي (قدس سره)

  سيرته الشريفه:

في عام (1200 هـ) خرجت قافلة صغيرة من منطقة “أُوشتِبين” المعروف بـ “اوﭺ دبين”، من توابع قره داغ “ارسباران” الآذرية متوجّهة نحو العتبات المقدسة في العراق، وتقبيل أعتاب خامس آل العبا الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) مقصد الشيعة في العالم، كربلاء المقدسة.

 وكان أحد المشرفين على القافلة هو الآخوند ملاّ محمد سليم العالم والمرشد فيها، وكان بحق عالماً عاملاً، ومجاهداً بعيد النظر، هدفه في الحياة خدمة الدين، والمُرجِّح على الدّوام خير المجتمع على منافعه الشخصية.

 كانت القافلة تشقّ طريقها ليل نهار بشوق وعيون دامعة نحو كعبتها المقصودة. وحين توقّفها بين الطريق في المنازل والمساكن للرّاحة والتزوّد كان يبدأ هذا العالم الربّاني عمله بالوعظ والارشاد وذكر الأحكام المسائل الدينية، ونشر أفكار وفضائل ومصائب أهل البيت (عليهم السلام)، ويعطي روحاً جديدة لقلوب أهل القافلة، ويشوّقهم أكثر وأكثر لزيارة مواليهم الأطهار (عليهم السلام).

 بعد طيّ المنازل والديار حطّت القافلة وحالها في منطقة “أسكو” والتي تبعد عن مدينة تبريز ثلاثين كيلوا متراً، والواقعة على طريق كربلا.

 وبمشاهدة أهل القافلة للمناظر الطبيعية الخلاّبة، والهواء النقي، وعيون الماء الفوّارة، والبساتين البديعة والجميلة، صمّموا على البقاء أياماً وليالي للتزوّد من المواهب الطبيعية لتلك المنطقة، وخلال هذه الأيام عمل الآخوند ملاّ محمد سليم في تحقيق ونقد عقيدة أهلها، ودراسة سلوكهم وكيفيّة معيشتهم، فوصل إلى نتيجة وهي أن أهل تلك المنطقة يتّسمون بالذكاء والأدب وحسن الاستقبال للضيوف، ولكنه مع ذلك رأى أنهم ضعيفون من الناحية الدينية، والعمل بالأحكام الاسلامية، والسبب في ذلك هو عدم وجود عالم عامل، وفقيه كامل، وأستاذ قادر، وأما العلماء الموجودين فيها فلم يكونوا سوى قرّاء مصائب الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم يكن لهم معرفة تامة إلاّ ببعض الأحاديث والأبيات الشعرية من مدائح ومراثي أهل البيت (عليهم السلام)، لذلك عمل جدّنا الأكبر المرحوم الآخوند ملاّ محمد سليم، ذلك الفقيه الحكيم، والعلاّمة المفضال خلال تلك الأيام على جمع أولئك العلماء -أداءاً لخدمة الدين والمجتمع الاسلامي- تعريفهم بهذا النقص الخطير والمهم، فأبلغهم قائلاً: إنّ منطقتكم الخصبة لجسم جميل، ولكنها فاقدة للروح.

 انتبه أهالي منطقة أسكو الأذكياء إلى الملاحظات الحكيمة والمفيدة التي أشار لها رجل العلم والتقوى، وقاموا من نومهم ليجدوا أنفسهم مسؤولين أمام الدين والضمير والوجدان، ولهذا فقد أحاط كبار وسادات تلك الديار بذلك الرجل ذو الضمير الحي، وطالبوه باصرار شديد ورجاء عميق بالاقامة لديهم، والعمل إلى تزكية النفوس، وتهذيب الأعمال والعقول، وتعريف الناس بأحكام الشرع المبين، وعلوم وأفكار القرآن الكريم وأهل بيت خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، , واستئصال جذور الفقر الديني والأخلاقي.

 ورأى المرحوم الآخوند ملاّ محمد سليم الأسكوئي -عند هذا الموقف الحساس- نفسه بين خيارين، وفي انتخابه لأحد الخيارين وقع أمام مسؤولية عظيمة، وغرق في بحر التأمّل والتفكّر، فمن جانب شوقه الكبير لزيارة كربلاء المقدسة وتقبيل عتبة وضريح الإمام سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) وسائر العتبات المقدسة، التي كان يتمنى ويأمل بشوق وعشق شديدين زيارتها، ومن جانب آخر مسؤولية الارشاد والتبليغ وخدمة أيتام آل محمد (صلى الله عليه وآله) وموالي أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، ولا يدري أيّهما يرجّح ؟ الزّيارة ؟ أم الخدمة والارشاد ؟!

 ولكنه بالإلهام من نصوص الآيات الكريمة وأفكار وحكم أهل البيت الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) تنبّه على أنّ اختيار الشقّ الثاني له الأولوية والأسبقية، وشخّص هذا الاختيار ورآه تكليفاً شرعياً له، لأنّ مسألة الزيارة تعود نفعها إليه فقط، وأمّا الخدمة للشرع والدين وارشاد المؤمنين هي مسألة عامة تعود نفعها لكلّ الناس، ولذلك فقد استوطن أسكو، فاجتمع أهاليها حوله وهيّأوا له مسجداً لإقامة صلاة الجمعة والجماعة، وبنوا له مدرسة لتربية طلاب العلوم الدينية.

 وبدأ بترتيب وتشكيل حلقة دراسية لعدّة من المشاتقين لأحكام وعلوم ومعارف أهل بيت العصمة والطّهارة (عليهم السلام) بادئاً معهم من باء بسم الله وهو الفتّاح، وبعد ذلك بدأ بتدريس مقدمات اللغة العربية والفقه والتفسير وسائر المعارف والعقائد الإسلامية، لكي يرتوي عطاشى وادي العلم والمعرفة من رشحات عطاء بحر علومه الزاخر، ففجّر بذلك ثورة علمية وعملية قائمة على التقوى والفضيلة والأخلاق في ” أسكو” وتوابعها، وبقي إلى اليوم ذلك البناء الشامخ والمقدس بقوّة وجدارة، واليوم فإنّ أولاد وأحفاد وجيل الأسكوئين الموجودين يرون أُصول وبناء عقائدهم المذهبية والدينية، وتعاليمهم الأخلاقية القائمة على القرآن الكريم، وأحكام سيّد المرسلين وأولاده النّجباء الأَئمة الطاهرين، يرون أنفسهم مدينون لجهود ذلك العلامة المفضال، والمجاهد الكبير، وجهود أولاده الأحبّة.

 

وبعد ذلك يبعث ويرسل مجموعة من طلاّبه النوابغ الذين وصلوا إلى درجات عالية من الفهم والعلم والمعرفة إلى العتبات المقدسة لإكمال علومهم ومعارفهم الإسلامية، والوصول إلى درجات عالية وشامخة في العلم والتقوى والفضيلة. وكان من بينهم جدّنا الكبير المرحوم الميرزا محمد باقر الأسكوئي الأديب الأريب، وحكيم سلالة الأطياب السيد زين العابدين بن يوسف الحسيني الأسكوئي، وشارح قصائد (الاثنا عشرية) للشيخ المعظم الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي، وهو أيضاً شارح (الاثنا عشريات) للعلامة الفهامة السيد مهدي بحر العلوم (أعلى الله مقامه)، والجدير بالذكر أن هذه القصائد العصماء هي شرح لفضائل ومراثي مظلوم كربلاء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، وهي منظومة باللغة العربية الفصيحة والبليغة، وتشتمل نقاطاً علمية وأدبية وعقيدتية كثيرة، فقام ذلك العالم الأديب بشرحها وترجمتها، وقمت أنا بدوري -صاحب هذه السطور- أخيراً وبنفقة حضرة الأخ عسكرخان سليمان يان بإخراجها من موقوفات المرحوم الحاج سليمان خان أفشار وطبعها في مدينة تبريز ونشرها في سائر الدول الاسلامية. فجزاهم الله عن الإمام الحسين (عليه السلام) خير الجزاء.

 ومن الذين أرسلهم أيضاً هو الآخوند ملاّ علي محمد بن المرحوم الحاج ملاّ جعفر الأسكوئي صاحب كتاب (حياة القلوب)، وغيرهما من كبار تلاميذه.

 ومع الأسف الشديد لم أتمكن من الحصول حتى الآن على تاريخ وفاة جدّي الأكبر، هذا العالم المجاهد الذي أفنى عمره في سبيل تشييد وبناء الشرع المبين، الذي أنار شعلة العلم والهداية في تلك المنطقة وتوابعها، ولكن الاحتمال الكبير أنّ مكان وفاته ودفنه في نفس بلدته أسكو.

 فقدّس الله سرّه العزيز، وطيّب الله ثراه بحق محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

تعليقات