نظريّة انقلاب النسبة

بحث الأستاذ الشيخ ناجي طالب :

وخلاصتُها أن تـنقلب النسبةُ بين دليلين ـ بسببِ دليلٍ آخر ـ إلى نسبة اُخرى ، كما لو كان يوجد دليلان بينهما عموم من وجه ، ودليلٌ أعمّ منهما ، فلو خصّصنا العامَّ الفوقاني بأحدِ الخاصّين ، وصار العامُّ أخصَّ من الخاصّ الثاني ، كان هذا انقلاباً للنسبة من الأعمّ إلى الأخصّ ، وكما لو انقلبت النسبة بين الدليلين من التباين إلى العموم المطلق ، فهذا أيضاً انقلاب للنسبة وهكذا [1] ... المهمّ هو أنه لا مانع من انقلاب النسبة إذا كان الإنقلاب قد حصل على مستوى الدلالة التصوّريّة ، إذ يجب الجمع بين الروايات بالنظر العرفي ، أي على مستوى المداليل التصوّريّة ، ثم بعد معرفة المدلول التصوّري المجموعي وبعد معرفة حال المتكلّم نعرفُ المدلولَ الجِدّي للمتكلّم ، وهذا هو موضوع الحجيّة . ولتوضيح المطلب يكفي أن نعطيَ ثلاثةَ أمثلة على ذلك :

الأوّل : بناءً على عمومِ نجاسةِ البول ، وهناك عمومٌ أصغر منه دائرةً وهو مفاد صحيحة عبد الله بن سنان إذ تقول ( إغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمُه ) ، وعندنا صحيحة أبي بصير وهي تقول ( كل شيء يطير فلا بأس بخُرئه وبوله ) ، فيقع التعارضُ في خُرْء وبول الطير الذي لا يؤكل لحمه . فقد نـقيِّدُ العمومَ الفوقاني ـ الذي هو (البول نجس) ـ بـ (بول الطيور طاهر) ـ الذي هو مفاد صحيحة أبي بصير ـ ، والنتيجةُ تصير (أنّ كلّ بولٍ نجسٌ إلاّ بولَ الطيور) ، وبالتالي صغرت دائرةُ العموم الفوقاني حتى صارت أضيقَ دائرةً من صحيحة ابن سنان ، ولذلك يجب تقيـيدُ هذه النتيجةِ المذكورةِ ـ التي هي (كلّ بول نجس إلاّ بولَ الطيور ، فبَولُها طاهرٌ) ـ لصحيحةِ ابن سنان ، فتصير النتيجةُ النهائيّة : (أبوال ما لا يؤكل لحمُه نجسة إلاّ أبوالَ الطيور) .

محلُّ الشاهد هو انـقلاب العام ـ (البولُ نجس) ـ إلى أصغر من الخاصّ الثاني ـ الخاصُّ الثاني هو صحيحة عبد الله بن سنان ـ ، وهو ما يعبّر عنه بـ انقلاب النسبة من العام إلى أخصّ دائرةً من دائرة الخاصّ .

أقول : ما ذُكِرَ مِن كيفيّةِ الجمعِ غيرُ عرفي ، ولا دليل عليه ، وذلك لأننا لا ينبغي أن نلاحظ العام بعد تقيـيده بالخاصّ الأوّل ـ بذريعة أنه هو الحجّة ـ فنخصّصُ به الخاصَّ الثاني ، وإنما يجب أن ننظر إلى المداليل التصوّريّة لكلّ الأدلّة ، لأنّ التعارض وقع في مرحلة التصوّر ، ولذلك العُرفُ ينظرُ ـ عند وقوع التعارض بين المداليل التصوريّة للأدلّة ـ إلى نفس نقاط التعارض المرئيّة ، لا إلى مرحلة ما بعد تقيـيد العامّ ، فيقيّد به الخاصَّ ، أو قُلْ إنّ العرف يرى أنّ التعارض وقع بين الخاصّين في مرحلة المداليل التصوّريّة ، وفي محلّ الإلتـقاء يَرجعون إلى عموم العام . طبعاً مع غضّ النظر عن المثال المذكور ، وإلاّ فبَولُ الطائرِ طاهرٌ بلا شكّ ، وذلك لعدم ثبوت عموم نجاسة البول ، نعم الأحوط استحباباً اعتبارُه نجساً .

المثال الثانيٍ : وَرَدَ في صحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يركع مع الإمام يَقتدي به ، ثم يرفع رأسَه قبل الإمام ؟ قال : ( يُعيد بركوعِه معه )[2] أي يعيدُ ركوعَه بأنْ يركع معه ، وهي تشمل حالتَي العَمْدِ والسهو ، وورد في موثقة غياث بن إبراهيم قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرفع رأسَه من الركوع قبل الإمام ، أيعود فيركع إذا أبطأ الإمامُ ويرفع رأسَه معه ؟ قال : ( لا )[3] وهي أيضاً تشمل حالتَي العمد والسهو ، فإذن هما متباينتان . ولكن وَرَدَ في موثقة ابن فضال قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في الرجل كان خلف إمام يأتم به فيركع قبل أن يركع الإمام وهو يظن أن الإمام قد ركع ، فلَمّا رآه لم يركع رفع رأسه ثم أعاد الركوع مع الإمام ، أيفسد ذلك عليه صلاته أم تجوز تلك الركعة ؟ فكتب (عليه السلام) : ( تـتم صلاته ولا تفسد صلاته بما صنع )[4] وهي تفيدنا أنّ الإعادة إنما تكون في حال السهو ، لا في حال العمد ، فهي بالتالي تخصِّص موثّقةَ غياث ، فتصير موثّقةُ غياث شاملةً لخصوص حالة العمد ، وبالتالي تصير موثّقة غياث أخصّ دائرةً من دائرة صحيحة ابن يقطين ، فتخصّصها . وقد لخّصتُ كلام السيد الخوئي[5] .

محلّ الشاهد : إنّ النسبة بين موثّقة غياث وصحيحة ابن يقطين كانت نسبةَ التباين ، فصارت موثّقةُ غياث ـ بسبب موثّقة ابن فضّال ـ أخصَّ من صحيحة ابن يقطين ، لأننا حَمَلْنا موثّقةَ غياث ـ بسبب موثّقة ابن فضّال ـ على خصوص صورة العمد ، وبقيت صحيحة ابن يقطين مطلَقَةً بلحاظ العمد والسهو ، فخصّصتها موثّقةُ غياث ، فصارت صحيحةُ ابن يقطين مقتصرةً على حالة السهو .

والنتيجة الفقهيّة صارت هكذا : إذا رفع الرجلُ رأسَه قبل الإمام عمداً فإنه ينفصل ، فلا يعيد ركوعه ، وأمّا إذا رفع رأسَه سهواً أو لاعتقاد الرفع فإنه يبقى على صلاة الجماعة ويعود إلى الركوع . وهذا أحد الأقوال في المسألة ، وفي المسألة خلاف .

المثال الثالث : وَرَدَ في رواية لأبي بصير قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل نسي أن يركع ؟ قال : ( عليه الإعادة ) وهي شاملة لما إذا كان نسيان الركوع قبل الدخول في السجدة الثانية أو بعد الدخول فيها ، وورد في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : ( إذا نسيت شيئاً من الصلاة ، ركوعاً أو سجوداً أو تكبيراً ثم ذَكَرْتَ فاصْنَعِ الذي فاتَك سواء ) وهي أيضاً مطلقةٌ شاملة لما كان قبل الدخول في السجدة الثانية أو بعد الدخول فيها ، فهما إذن متباينان ، لكنْ صحيحةُ ابن سنان مخصَّصة بالنصوص القائلة ببطلان الصلاة فيما لو كان تذكّرُ ترْكِ الركوع بعد الدخول في السجدة الثانية ، فلذلك تُحمَلُ الصحيحةُ على ما لو كان تذكّر الركوع قبل الدخول في السجدة الثانية، أي تصير الصحيحة أضيق دائرة ممّا كانت، فح تصير صحيحةُ ابن سنان أخصّ من رواية أبي بصير فتخصّصها .

محلّ الشاهد هو انقلاب النسبة بين رواية أبي بصير وصحيحة ابن سنان التي كانت التباين ، إلى العموم والخصوص المطلق .

وبالتالي تكون النتيجة الفقهيّة اختصاصَ البطلان بما إذا كان التذكر بعد الدخول في السجدة الثانية . وهذا أيضاً خلاصة كلام السيد الخوئي[6] .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] قال مقدِّمُ كتابِ مستند الشيعة : ج1، ص14 : (يُستـفاد من مطاوي الكتاب عِدَّةُ مَبانٍ للمؤلف : منها : انقلاب النسبة فيما كان التعارض بين أكثر من دليلين ...) (إنتهى) . وبناءً على صحّة هذا الكلام يكون أوّل القائلين بهذه النظريّة هو المولَى أحمد بن محمد مهدي النراقي (المتوفَّى سنة 1245 هـ) في كتابه (مستند الشيعة في أحكام الشريعة) .

[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج5، ب49 من أبواب صلاة الجماعة، ح3، ص448، الاسلامية .

[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج5، ب49 من أبواب صلاة الجماعة، ح6، ص448، الاسلامية.

[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج5، ب49 من أبواب صلاة الجماعة، ح4، ص448، الاسلامية.

[5] مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة : ج5 القسم الثاني، ص275 .

[6] مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة : ج6 القسم الثاني، ص63 .


---------------------------------------------------------------------------------------------


بحث سماحة السيد مرتضى الشيرازي :

موجز عن انقلاب النسبة وتفصيل الشيخ بين ثلاث صور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

انقلاب النسبة:

سبق: (وتوضيح الكبرى أولاً ثم بيان انطباقها على المقام: انه وقع الخلاف بين الأعلام فيما لو وقع التعارض بين أكثر من دليلين وانه هل يجب ان تلاحظ الظهورات الأولية لها جميعاً أو تلاحظ الظهورات الثانوية المستقرة؟ بعبارة أخرى: هل تلاحظ الظهورات في عرض واحد أو في طول بعضها البعض([1])؟ بمعنى ان نلاحظ اثنين منها أولاً ونعالج التعارض بينها ثم نلاحظ النسبة بين الدليل المعالَج مع الثالث، فإذا كانت النسبة بين دليلين العموم من وجه وكان الدليل الثالث أخص مطلقاً من الأول فبناء على الطولية يُجمع بين الأول والثالث ثم يُلاحظ الحاصل منهما([2]) مع الدليل الثاني فقد تنقلب النسبة بين الأول والثاني من العموم من وجه إلى العموم المطلق، واما على العرضية فلا يصح ذلك بل يلزم ملاحظتها جميعاً في عرض واحد فيبقى العام الأول مع العام الثاني على حسب نسبته السابقة وهي انهما من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع، وسياتي وجه القولين غداً بإذن الله تعالى)([3]).

لأن المدار على (الحجة) فيجب لحاظ الظهور المستقر

والوجه فيه: هو ان المدار على الحجة فانها هي اللازمة الإتباع وعلى العبد ان يدور مدارها، والحجة على المراد الجدي للمولى هو الظهور المستقر لا الظهور البدوي الذي وجب رفع اليد عنه بدليل آخر وإن كان منفصلاً.

بعبارة أخرى: المراد الجدي للمولى هو الذي تحرم مخالفته ويستحق عليه العقاب دون المراد الاستعمالي، فإذا ورد عام وخاص مثلاً فان العام في غير مورد الخاص يجب إتباعه لأنه المراد الجدي للمولى ولا يجوز إتباعه في مورد الخاص إذ عرف ان مراده الجدي من العام لم يكن موارد الخاص بل كان صِرف مراد استعمالي، وعليه فلا بد من تخصيص العام بالخاص ثم ملاحظة نسبته (أي العام بعد التخصيص) مع الدليل الثالث (الذي نسبته مع العام هي من وجه مثلاً).

بعبارة أخرى: قوله ((يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ...))([4]) لا ينطبق على العام والخاص إذ هما متوافقان فيجب ملاحظة نسبة هذا العام بعد تخصيصه، مع العام الآخر وانه معارض له (فيما إذا بقيت النسبة من وجه) أو لا (فيما إذا انقلبت النسبة إلى العموم والخصوص المطلق).

ويتضح ذلك أكثر بالمثال: فانه إذا ورد (يستحب إكرام العلماء) وورد (يحرم إكرام الفساق) وورد (يجب إكرام العلماء العدول) فان النسبة بين الأولين هي العموم من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع، لكن حيث ان النسبة بين الأول والثالث هي العموم المطلق فان الثالث يخصِّص الأول فيكون مفاد العام (الأول) بعد التخصيص بالخاص (الثالث) هو: يستحب إكرام العلماء الفساق (إذ العلماء العدول وجب إكرامهم) ونسبة هذا مع الدليل الثاني (وهو: يحرم إكرام الفساق) هي انه أخص منه مطلقاً فيتقدم عليه ويكون الحاصل: انه يستحب إكرام العالم الفاسق، ويحرم (فقط) إكرام الجاهل الفاسق.

فهكذا نجد انه انقلبت النسبة بين الأول والثاني من العموم من وجه (قبل ملاحظة تخصيص الأول بالثالث) إلى العموم والخصوص المطلق (بعد تخصيص الأول بالثالث).

المقام: عامان من وجه مع أخص من الأول

والمقام من هذا القبيل حسبما أشكل به الشيخ على الجواهر إذ قال: ((ثمّ دليل الاستحباب أخصّ لا محالة من أدلّة التحريم، فتخصّص به، فلا ينظر بعد ذلك في أدلّة التحريم، بل لا بدّ بعد ذلك من ملاحظة النسبة بينه و بين أدلّة وجوب الأمر بالمعروف)([5]) ومزيد توضيحه: ان العام الأول: حرمة الولاية من قبل الجائر مطلقاً، والعام الثاني: وجوب الأمر بالمعروف مطلقاً، والخاص الثالث: استحباب الولاية من قبل الجائر إذا كانت لقضاء ديون الاخوان وإصلاح أمر المسلمين وتفريج كربهم وشبه ذلك فيخصِّص هذا الثالث الدليلَ الأول فيكون الأول بعد تخصيصه بالثالث أخص مطلقاً من الثاني وتكون النتيجة: يجب الأمر بالمعروف مطلقاً إلا إذا كان في ضمن الولاية عن الجائر فانه يستحب حينئذٍ. (وقد مضى كيفية جمع الشيخ بين الوجوب الاستحباب).

دعوى مناقضة الشيخ ههنا لمبناه في الأصول

لكن قد يورد على الشيخ: انه بقوله بانقلاب النسبة ههنا ناقض مبناه في الأصول إذ انه قال هناك بعدم انقلاب النسبة حسب نقل مصباح الأصول عنه.

قال في مصباح الأصول: (أما إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين، فهل تلاحظ الظهورات الأولية، أو لابد من ملاحظة الاثنين منها، وعلاج التعارض بينهما، ثم تلاحظ النسبة بين أحدهما والثالث المعارض له، فقد تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق، أو بالعكس على ما سيذكر إن شاء الله تعالى؟ اختار الشيخ وصاحب الكفاية قدس سره عدم انقلاب النسبة، وأنه يلاحظ التعارض باعتبار الظهورات الأولية، بدعوى أنه لا وجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الاخر على الثالث. ولكن الصحيح هو انقلاب النسبة. وتحقيق هذا البحث يقتضي ذكر مقدمتين...)([6])

التحقيق: الشيخ فصّل بين ثلاث صور

لكن الصحيح عدم صحة هذه النسبة للشيخ إذ الشيخ مفصّل بين صور التعارض وهو يقول بانقلاب النسبة في هذه الصورة خاصة، فانه قدس سره قسّم الصور إلى ثلاثة:

لا تنقلب النسبة إذا كانت نسبة الأدلة كلها من وجه

الأولى: ما لو كانت النسبة بين الأدلة الثلاثة جميعاً هي من وجه، فهنا لا وجه لانقلاب النسبة أي لا وجه لأن يلاحظ أحدهما مع الآخر أولاً ثم يلاحظ المحصّل مع الثالث.

وكذا في العام والخاصين

الثاني: ما لو ورد عام وخاصان، فهنا أيضاً كذلك أي يجب ان يخصص العام بهما دفعةً واحدة (ولو لزم محذور من تخصيصه بهما معاً تعارضاً ونلجأ للمرجّحات بينهما) ولا وجه لأن يخصص بأحدهما أولاً ثم ملاحظة نسبة العام المخصص بأحدهما مع الآخر والتي قد تكون حينئذٍ منقلبة.

وتنقلب إذا ورد عامان وثالث أخص من أحدهما

الثالث: ما لو ورد عامان من وجه وثالث أخص من أولهما، فهنا قد تنقلب النسبة (والمقام من هذه الصورة) وقد لا تنقلب.

قال قدس سره في الرسائل: (إن النسبة بين المتعارضات المذكورة: إن كانت نسبةً واحدة فحكمها حكم المتعارضين:

أ-([7]) فإن كانت النسبة العموم من وجه وجب الرجوع إلى المرجّحات، مثل قوله: "يجب إكرام العلماء" و"يحرم إكرام الفسّاق" و"يستحبّ إكرام الشعراء" فيتعارض الكلّ في مادة الاجتماع.

ب- وإن كانت النسبة عموما مطلقاً، فإن لم يلزم محذورٌ من تخصيص العام بهما خُصِّص بهما، مثل المثال الآتي. وإن لزم محذور، مثل قوله: "يجب إكرام العلماء" و"يحرم إكرام فسّاق العلماء" و"يكره إكرام عدول العلماء" فإن اللازم من تخصيص العام بهما بقاؤه بلا موردٍ، فحكم ذلك كالمتباينين، لأن مجموع الخاصّين مباينٌ للعام)([8]).

و(ولا أظنه يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصان دليلين لفظيين، إذ لا وجه لسبق ملاحظة العام مع أحدهما على ملاحظته مع الآخر. وإنما يتوهم...)([9]) فقد حصر الشيخ عدم وجهٍ للسبق في هذه الصورة بينما توهم مصباح الأصول انه أطلق.

وقال: (ج- وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة، فإن كان فيها ما يُقدَّم على بعض آخر منها، إمّا لأجل الدلالة كما في النص والظاهر أو الظاهر والأظهر، وإما لأجل مرجِّحٍ آخر، قُدّم ما حقّه التقديم، ثم لوحظ النسبة مع باقي المعارضات.

1- فقد تنقلب النسبة وقد يحدث الترجيح، كما إذا ورد: "أكرم العلماء" و"لا تكرم فسّاقهم" و"يستحب إكرام العدول" فإنّه إذا خُصّ العلماء بعدولهم يصير أخصّ مطلقاً من العدول، فيخصّص العدول بغير علمائهم، والسرّ في ذلك واضح؛ إذ لولا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأساً، وكلاهما باطل.

2- وقد لا تنقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة...)([10])

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

قال أبو عبد الله عليه السلام: ((مَا يَقْدَمُ الْمُؤْمِنُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعَمَلٍ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَسَعَ النَّاسَ بِخُلُقِهِ‏‏)) (الكافي: ج2 ص100).

-----------------------------------------------------

([1]) لو كان بعضها أظهر من الآخر.

([2]) أي الأول بعد تخصيصه بالثالث.

([3]) الدرس (162).

([4]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام – قم، 1405هـ، ج4 ص133.

([5]) الشيخ مرتضى الانصاري، ط / تراث الشيخ الأعظم، ج2 ص82-83.

([6]) السيد محمد الواعظ الحسيني البهسودي، تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، منشورات مكتبة الداوري – قم، ج3 ص386.

([7]) هذه الترقيمات منا.

([8]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، إعداد وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم – قم، ج4 ص102-103.

([9]) المصدر نفسه: ص103.

([10]) المصدر نفسه: ص111.

---------------------------------------------------------------------------------------------


بحث السيد الخوئي :

[ انقلاب النسبة ]

 أمّا إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين، فهل تلاحظ الظهورات الأوّلية، أو لا بدّ من ملاحظة الاثنين منها، وعلاج التعارض بينهما، ثمّ تلاحظ النسبة بين أحدهما والثالث المعارض له، فقد تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق، أو بالعكس على ما سيذكر إن شاء الله تعالى؟ اختار الشيخ(1) وصاحب الكفاية(2) (قدس سره) عدم انقلاب النسبة، وأ نّه يلاحظ التعارض باعتبار الظهورات الأوّلية، بدعوى أ نّه لا وجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الآخر على الثالث.

 ولكنّ الصحيح هو انقلاب النسبة، وتحقيق هذا البحث يقتضي ذكر مقدمتين:

 المقدمة الاُولى: أنّ لكل لفظ دلالات ثلاث:

 الدلالة الاُولى: كون اللفظ موجباً لانتقال الذهن إلى المعنى، وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللافظ، بل اللفظ بنفسه يوجب انتقال الذهن إلى المعنى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ فرائد الاُصول 2: 794 ـ 800 فانّ ظاهره القول بالانقلاب.

(2) كفاية الاُصول: 452.

ولو مع العلم بعدم إرادة المتكلم، كما إذا كان نائماً أو سكراناً، أو نصب قرينةً على إرادة غير هذا المعنى، كما في قولنا: رأيت أسداً يرمي، فانّ ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان المفترس بمجرد سماع كلمة الأسد، وإن كان يعلم أنّ مراد المتكلم هو الرجل الشجاع، بل هذه الدلالة لا تحتاج إلى متكلم ذي إدراك وشعور، فانّ اللفظ الصادر من غير لافظ شاعر أيضاً يوجب انتقال الذهن إلى المعنى.

 وبالجملة: هذه الدلالة بعد العلم بالوضع غير منفكة عن اللفظ أبداً، ولا تحتاج إلى شيء من الأشياء، وهي التي تسمى عند القوم بالدلالة الوضعية، باعتبار أنّ الوضع عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى، بأن ينتقل الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ، وإن كان المختار كون الدلالة الوضعية غيرها، فانّ هذه الدلالة لا تكون غرضاً من الوضع لتكون وضعية.

 والأنسب تسميتها بالدلالة الاُنسية، فانّ منشأها اُنس الذهن بالمعنى لكثرة استعمال اللفظ فيه لا الوضع، لما ذكرناه في محلّه(1): من أنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بأ نّه متى تكلم باللفظ الخاص فهو يريد المعنى الفلاني، وعليه فلا يكون خطوره إلى الذهن عند سماعه من غير شاعر مستنداً إلى تعهده بل إلى اُنس الذهن به، وقد تقدم الكلام في تحقيقها في بحث الوضع.

 الدلالة الثانيـة: دلالة اللفظ على كون المعـنى مراداً للمتكلم بالارادة الاستعمالية، أي دلالة اللفظ على أنّ المتكلم أراد تفهيم هذا المعنى واستعمله فيه، وهذه الدلالة تسمّى عند القوم بالدلالة التصديقية، وعندنا بالدلالة الوضعية كما عرفت.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 48 وما بعدها.

 وكيف كان، فهذه الدلالة تحتاج إلى إحراز كون المتكلم بصدد التفهيم ومريداً له، فمع الشك فيه ليست للفظ هذه الدلالة، فضلاً عما إذا علم بعدم الارادة له، كما إذا علم كونه نائماً، بل هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب قرينة على الخلاف متصلة بالكلام، إذ مع ذكر كلمة «يرمي» في قوله: رأيت أسداً يرمي مثلاً، لا تكون كلمة أسد دالةً على أنّ المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس كما هو ظاهر.

 الدلالة الثالثة: دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الجدية، وهي التي تسمى عندنا بالدلالة التصديقية، وقسم آخر من الدلالة التصديقية عند القوم. وهي موضوع الحجية ببناء العقلاء المعبّر عنها بأصالة الجد تارةً وأصـالة الجهة اُخرى. وهذه الدلالة متوقفة ـ مضافاً إلى عدم نصب قرينة متصلة ـ على عدم قيام قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً، فانّ القرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعة عن تعلق الارادة الاستعمالية كالقرينة المتصلة، إلاّ أ نّها كاشفة عن عدم تعلق الارادة الجدية، فكما أنّ الاستثناء في قوله: أكرم العلماء إلاّ الفساق قرينة على عدم كون المولى بصدد تفهيم جميع الأفراد في هذا الاستعمال، فكذا قوله: لا تكرم العالم الفاسق كاشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من المولى باكرام جميع أفراد العلماء في قوله: أكرم العلماء. وبالجملة: هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب القرينة المتصلة والمنفصلة.

---------------------------------------------------------------------------------------------


بحث الشيخ محمد صنقور :

مورد البحث في مسألة انقلاب النسبة هو ما لو وقع التعارض بين أكثر من دليلين وكانت النسب بينهم متفاوتة وتختلف باختلاف كيفية ملاحظة العلائق بينهم ، فحينما تلحظ الأدلة في عرض واحد تكون النسب بينهم مغايرة عمّا لو لوحظ دليلان منهم ـ مثلا ـ في عرض واحد ثم لوحظت النسبة بين أحدهما والدليل الثالث بعد ملاحظة النتيجة المتحصلة عن النسبة بين الدليل الاول والدليل الثاني.

فالمراد من انقلاب النسبة هو تبدّل النسبة عند ملاحظتها بين أحد الدليلين والدليل الثالث في طول ملاحظة النسبة بين الدليلين الأولين تبدلها عمّا كانت عليه عند ملاحظة الأدلة الثلاثة في عرض واحد.

والنزاع الواقع بين الأعلام هو في كيفية ملاحظة الأدلة المتعارضة ، فهل تلاحظ تمام الأدلة في عرض واحد أو تلاحظ النسبة بين الدليلين الأولين وبعد تقرّرها يلاحظ الدليل الثالث مع الدليل الاول المراعى معه علاقته بالدليل الثاني ، وعندها تنقلب النسبة عما لو لوحظت الأدلة في عرض واحد.

مثلا : لو ورد دليل مفاده « تصدق على الفقراء » وورد دليل آخر مفاده « لا تتصدّق على الفقير الفاسق » وورد دليل ثالث « لا تتصدق على الفقير الشاب ».

فحينئذ لو لاحظنا الأدلة في عرض واحد لاقتضت تلك الملاحظة تقييد الدليل الاول بالثاني والثالث ، فيكون حاصل الجمع بين هذه الأدلة هو وجوب التصدّق على الفقير غير الفاسق وغير الشاب ، وذلك لأنّ النسبة بين الدليل الاول والدليل الثاني هي العموم المطلق وكذلك النسبة بين الدليل الاول والثالث.

أمّا لو لاحظنا النسبة بين الدليل الاول والدليل الثالث بعد ملاحظة النسبة بنى الدليل الاول والثاني ومراعاة تلك النسبة حين ملاحظة العلاقة بين الدليل الاول والثالث فإنّ النسبة تنقلب من العموم المطلق الى العموم من وجه ، وذلك لأن حاصل الجمع بين الدليل الاول والثاني هو وجوب التصدّق على الفقير العادل ، وعندئذ لو لاحظنا النسبة بين الفقير العادل والفقير والشاب لوجدنا انّهاةالعموم من وجه.

فمورد الافتراق في الدليل الاول هو الفقير العادل الشيخ ، حيث يكون مشمولا للدليل الاول ولا يكون مشمولا للدليل الثالث ، ومورد الافتراق في الدليل الثالث هو الفقير الشاب الفاسق حيث يكون مشمولا للدليل الثالث ولا يكون مشمولا للدليل الاول ، ومورد الاجتماع بين الدليلين الاول والثالث هو الفقير الشاب العادل ، فمقتضى الدليل الاول هو وجوب التصدّق عليه ومقتضى الدليل الثالث هو حرمة التصدّق عليه.

ونذكر مثالا آخر ليكون المطلب أكثر وضوحا : إذا ورد دليلان بينهما عموم من وجه وكان أحدهما مخصّص بدليل ثالث ، فلو لوحظت الأدلة في عرض واحد فإنّ النتيجة هي استحكام المعارضة بين العامين من وجه في مورد الاجتماع وتخصيص الدليل الذي له مخصّص بمخصّصه.

أما لو خصّصنا الدليل الذي له مخصّص بمخصّصه ثم لاحظنا نسبته بعد تخصيصه مع الدليل الآخر فإنّ النسبة سوف تنقلب الى العموم المطلق.

مثلا : لو ورد دليل مفاده استحباب اكرام الفقراء وورد دليل آخر مفاده حرمة اكرام الفساق ، وورد دليل ثالث مفاده وجوب اكرام الفقراء العدول. فإنّه تارة نلاحظ الأدلة الثلاثة في عرض واحد ، وحينئذ يقع التعارض بين الدليل الاول والدليل الثاني في مادة الاجتماع وهي « الفقراء الفساق » ، فمقتضى الدليل الاول هو استحباب اكرامهم لكونهم فقراء ، ومقتضى الدليل الثاني هو حرمة اكرامهم لكونهم فساقا ، ونخصّص الدليل الاول بالدليل الثالث بقطع النظر عن علاقة الدليل الاول بالثاني.

أما لو لاحظنا النسبة بين الدليل الاول مع الدليل الثالث وخصصنا الدليل الاول بالثالث ثم لاحظنا العلاقة بين الدليل الاول ـ بعد التخصيص ـ وبين الدليل الثاني فإنّ النسبة بينهما سوف تنقلب وتصبح من العموم المطلق ، وذلك لأنّ النتيجة الحاصلة من ملاحظة العلاقة بين الدليل الاول والثالث هي استحباب إكرام الفقراء إلاّ أن يكونوا عدولا فإنّه يجب ، وهذا معناه انّ مفاد الدليل الاول هو استحباب اكرام الفقراء الفساق ، وحينئذ تكون نسبته الى الدليل الثاني هي العموم المطلق أي انّ الدليل الاول أخص مطلقا من الدليل الثاني ، إذ انّ مفاد الدليل الثاني هو حرمة اكرام الفساق ، فيكون حاصل الجمع بينهما هو حرمة إكرام الفساق إلاّ الفقراء منهم.

وبعد اتضاح المراد من انقلاب النسبة وما هو محل النزاع بين الاعلام نقول : انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ذهب الى عدم انقلاب النسبة وانّ الأدلة المتصدية لعلاج موضوع واحد تلاحظ في عرض واحد ويكون المتبع هو ما تقتضيه تلك النسبة الملحوظة في عرض واحد ، وذلك لعدم وجود ما يبرّر ملاحظة النسبة بين دليلين ثم ملاحظة أحد الدليلين بعد تخصيصه مثلا مع الدليل الثالث ، فإنّ الثابت بحسب ما تقتضيه طريقة أهل المحاورة هو ملاحظة الظهورات الاوليّة لتمام الأدلة في عرض واحد وانّ القرائن المنفصلة لا تهدم الظهور ، ولذلك التزم بأنّ العام حجة في الباقي.

وبيان ذلك : انّه حينما يرد دليل مفاده « استحباب النفقة على الأقرباء » و « حرمة النفقة على الفساق » و « وجوب النفقة على الأولاد الصغار » فأيّ مبرّر يقتضي تقديم ملاحظة الدليل الاول مع الدليل الثالث ومن ثم تخصيص الاول بالثالث ، ثم ملاحظة الاول بعد تخصيصه مع الثاني ، ولما ذا لا تلاحظ

الأدلة الثلاثة في عرض واحد فتكون النتيجة هي استحكام التعارض في مورد الاجتماع وهو القريب الفاسق فيلتزم بالترجيح أو التخيير وفي نفس الوقت نلتزم بوجوب النفقة على الأولاد الصغار » لعدم وقوعه طرفا في المعارضة وعندئذ يكون حاصل الجمع هو وجوب النفقة على الاولاد الصغار واللذين هم من الاقرباء واستحباب النفقة على الاقرباء غير الفساق ، وأما القريب الفاسق فحكمه تابع لما هو المبنى من الترجيح أو التخيير فإن كنا نبني على الترجيح وكان الراجح هو الدليل الاول فإن المتعيّن حينئذ هو استحباب النفقة على القريب الفاسق وان كان الراجح هو الدليل الثاني يكون المتعين هو حرمة النفقة على القريب الفاسق وان لم يكن ثمة مرجح لاحد الدليلين الاول والثاني فالنتيجة هي التساقط والرجوع الى الاصل العملي إن لم يكن ثمة عموم فوقاني.

ودعوى انّ الدليل الثالث يكون قرينة على الدليل الاول لأنّه أخص منه مطلقا غير مسموعة ، وذلك لأن الدليل الثالث انّما هو قرينة منفصلة ، والقرينة المنفصلة لا تهدم الظهور ، فعليه يبقى الاول ظاهرا في العموم ، وهذا ما يوجب بقاء النسبة بينه وبين الدليل الثاني العموم والخصوص من وجه.

وفي مقابل ما ذهب اليه صاحب الكفاية رحمه‌الله ذهب جمع من الأعلام الى انقلاب النسبة واستدلّ لهم السيد الخوئي رحمه‌الله بما حاصله : انّ الثابت في محلّه هو انّ القرائن المنفصلة تكشف عمّا هو المراد الجدّي فإذا ورد دليل عام ثم ورد بعد ذلك دليل خاص فإنّه يكشف عن انّ العموم لم يكن مرادا جدّا من أول الأمر. ومن الواضح انّ الحجيّة الثابتة للظهور انّما هي ثابتة لخصوص ما تقتضيه الإرادة الجدّية للمتكلّم ، وعندئذ لا يمكن ان يعارض دليل ثالث عام بهذا الدليل العام ، وذلك لعدم كونه مرادا جدّا ، أي انّه غير حجة في العموم ، وغير الحجة لا يعارض ما هو حجّة ، نعم هو حجّة في الخصوص باعتبار انّ الخصوص هو المراد الجدي للمتكلّم.

والخصوص حينما يلاحظ مع الدليل الثاني العام تنقلب النسبة عمّا لو كانت الملاحظة للنسبة بين العام قبل التخصيص والدليل الثاني العام.

إذن لمّا كان الدليل الصالح لوقوعه طرفا في المعارضة هو الدليل الحجة فهذا يقتضي تخصيص العام قبل ملاحظة علاقته بالدليل الثالث ، وهذا ما ينتج انقلاب النسبة أي تبدلها عما لو لوحظت الادلة في عرض واحد.

---------------------------------------------------------------------------------------------


بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازي :

إذا کان التعارض بین أکثر من دلیلین، فتارةً لا یوجب تقدیم إحدى الخصوصات انقلاب النسبة بین العامّ والخاصّ الآخر، کما إذا قال: «أکرم العلماء» ثمّ قال: «لا تکرم النحویین» وقال أیضاً: «لا تکرم الصرفیین».

واُخرى یوجب تقدیم إحداها انقلاب النسبة، کما إذا قال: «لا تکرم الفسّاق منهم» وقال أیضاً: «لا تکرم النحویین» حیث إنّ تقدیم التخصیص بالأوّل یوجب انقلاب النسبة بین «أکرم العلماء» و«لا تکرم النحویین» من العموم المطلق إلى العموم من وجه، فإنّ النسبة بین العلماء العدول والنحویین هی العموم من وجه کما لا یخفى.

والبحث هاهنا فی انقلاب النسبة السابقة على التخصیص بإحدى الخصوصات إلى النسبة اللاحقة به وعدمه، والمحکی عن المحقّق النراقی(رحمه الله) أنّه ذهب إلى الانقلاب وقال بلزوم ملاحظة النسبة اللاحقة(1).

والنزاع إنّما یتصوّر فیما إذا کان الخاصّان منفصلین، وأمّا إذا کان أحدهما متّصلا فلا إشکال فی انقلاب النسبة، أی لزوم ملاحظة النسبة بین العامّ المخصّص بالمتّصل والخاصّ الآخر المنفصل.

وکیف کان، فهل تنقلب النسبة فیکون اللازم ملاحظة تاریخ الخاصّین وتخصیص العامّ أوّلا بما هو الأقرب زماناً، ثمّ بالأبعد، أو لا ینقلب فلا حاجة إلى ملاحظة تاریخهما؟ ولابدّ فی الجواب من الإشارة إلى أمرین:

أحدهما: أنّ التخصیص یتعلّق بالإرادة الجدّیة لا الإرادة الاستعمالیّة، ولذا لا یلزم منه مجاز.

ثانیهما: أنّه لا إشکال فی أنّ المعیار فی التعارض إنّما هو الإرادة الاستعمالیّة; لأنّ الدلیلین یتعارضان ویتضادّان فی ظهورهما الاستعمالی واللفظی کما هو واضح.

وبذلک یظهر أنّه لا وجه لانقلاب النسبة; لأنّ تخصیص العامّ بالخاصّ الأوّل إنّما هو فی الإرادة الجدّیة ولا ربط له بالإرادة الاستعمالیّة، وحینئذ یبقى الظهور الاستعمالی للعامّ على حاله الذی کان هو المعیار فی التعارض، ولابدّ بعد التخصیص بالخاصّ الأوّل من ملاحظة النسبة بین الخاصّ الثانی وهذا الظهور الاستعمالی للعامّ الباقی على قوّته.

والذی یؤیّد ذلک هو سیرة الفقهاء، فإنّهم لا یلاحظون تاریخ المخصّصات ولا یقدّمون التخصیص بأحد الخاصّین على التخصیص بالخاصّ الآخر، بل یخصّصون العامّ بکلیهما فی عرض واحد.

وبعد ما ظهر الحقّ فی المسألة من عدم انقلاب النسبة مطلقاً، فلا یهمّنا البحث عن أنواع التعارض الواقعة لأکثر من الدلیلین مع ما لها من الصور العدیدة، لعدم طائل تحته.

1 . اُنظر: فرائد الاُصول، ج 4، ص 103; عوائد الأیّام، ص 349، العائدة 40.

---------------------------------------------------------------------------------------------


بحث الشيخ هادي آل راضي :

انقلاب النسبة

كان الكلام في انقلاب النسبة وبينا كيف تختلف النتيجة بناءً على القول بانقلاب النسبة وعدمه، وذكرنا مثالاً لانقلاب النسبة وهو ما اذا كان هناك عامان وورد مخصص لاحدهما كما لو ورد (لا باس ببيع العذرة) و (ثمن العذرة سحت) والخاص هو (لا يحل بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه)

والمثال الثاني ما إذا ورد عام وورد في مقابله خاصان مخالفان له وبين الخاصين عموم وخصوص من وجه كما لو قال (أكرم العلماء) وورد في دليل (لا تكرم العالم الفاسق) وورد في دليل اخر (لا تكرم العالم النحوي)

فعلى القول بعدم انقلاب النسبة فلا بد ان نخصص العام بكلا الخاصين فيختص العام بعد التخصيص بالعالم غير الفاسق وغير النحوي، واما بناءً على انقلاب النسبة فلابد من ملاحظة العام مع احد الخاصين ولنفترض اننا لاحظناه مع الخاص الأول والنسبة بينهما هي نسبة العموم المطلق فنخصص العام به فنخرج من العام فُسّاق العلماء وحينئذ يقال بان نسبة العام بعد التخصيص الى المخصص الثاني سوف تنقلب لأنها كانت العموم المطلق وبعد التخصيص تصبح العموم والخصوص من وجه

وقيل بان المعروف هو عدم انقلاب النسبة ونسب ذلك الى الشيخ الانصاري واختاره صاحب الكفاية، ولكن الذي يظهر من كلام الشيخ الانصاري التفصيل بين الموارد، فذكر بانه تارة تكون نسبة المتعارضات الى الدليل نسبة واحدة كما في المثال الثاني فان نسبة الخاصين (لا تكرم الفساق ولا تكرم النحويين) الى العام (اكرم العلماء) واحدة وهي نسبة العموم والخصوص المطلق، وأخرى تكون مختلفة، فاذا كانت نسبتها واحدة فلا تنقلب النسبة بل يخصص العام بهما معاً فيخرج كل منهما من حكم العام ويختص العام بالعالم غير الفاسق وغير النحوي، نعم اذا لزم من هذا التخصيص محذور فلا نلتزم به، كما لو ورد (اكرم العلماء) وورد (لا تكرم فساق العلماء) وورد (يستحب اكرام عدول العلماء) فاذا خصصنا العام بهما معاً يلزم محذور بقاء العام بلا مورد بعد اخراج الفساق بالمخصص الأول وإخراج العدول بالمخصص الثاني، ففي هذه الحالة لا يجوز تخصيص العام بالخاصين بل يكون حكم العام مع الخاصين حكم المتباينين ونطبق عليه قواعد باب التعارض

وفي هذه المسالة خلاف للفاضل النراقي[1] -كما أشار اليه الشيخ (قده)- حيث ذهب الى انه لا يلتزم بتخصيص العام بالخاصين بل ذهب الى انقلاب النسبة بان نخصص العام بأحد المخصصين ثم نلحظ نسبة العام بعد التخصيص مع المخصص الاخر فنجد ان النسبة قد انقلبت

وكان المحقق النراقي قد ذكر ذلك في فرض ما إذا كان الخاص الأول لبياً لا لفظياً كما إذا فرضنا ان (لا تكرم الفساق) كان ثابتاً بالاجماع

واستبعد الشيخ الانصاري (قده) ان يلتزم بذلك في ما اذا كان كلا الخاصين لفظياً حيث قال: (ولا أظن يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصان دليلين لفظيين، إذ لا وجه لسبق ملاحظة العام مع أحدهما على ملاحظته مع الآخر.وإنما يتوهم ذلك في العام المخصص بالإجماع أو العقل، لزعم أن المخصص المذكور يكون كالمتصل، فكأن العام استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج، والتعارض إنما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كل من الدليلين، لا بين ما وضع له اللفظ وإن علم عدم استعماله فيه، فكأن المراد بالعلماء في المثال المذكور عدولهم، والنسبة بينه وبين النحويين عموم من وجه)[2] وقد ناقشه الشيخ الانصاري بنقاش مذكور في رسائله (قده)

واما إذا كانت نسبة المتعارضين الى الدليل مختلفة كما إذا ورد عامان وكانت النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه مثل (أكرم العلماء) و (يستحب اكرام العدول) ثم ورد مخصص لأحدهما مثل قوله (لا تكرم فساق العلماء) فنسبته الى العام الأول هي نسبة الخاص الى العام بينما نسبته للثاني هي التباين، وفي هذه الحالة ذهب الشيخ الانصاري الى انقلاب النسبة وحكم بتخصيص العام الأول بالخاص ثم يلاحظ هذا العام بعد تخصيصه بالنسبة الى العام الاخر، وبعد التخصيص يكون العام الأول أخص منه، فيختص العام الثاني بالعدول غير العلماء

واستدل على القول بانقلاب النسبة بانه إذا لم نقدم العام بعد تخصيصه على العام الاخر وفرضنا العكس يلزم بقاء العام الأول بلا مورد لأننا اخرجنا منه فساق العلماء بالتخصيص ولو قدمنا (يستحب اكرام العدول) عليه فسوف نخرج العدول عنه فلا يبقى له مورد

وذهب صاحب الكفاية الى عدم انقلاب النسبة من دون هذا التفصيل، ولكن المحقق النائيني والسيد الخوئي (قدهما) ذهبا الى انقلاب النسبة وادعى السيد الخوئي ان هذا من الأمور الواضحة التي قياساتها معها.

[1] عوائد الأيام، النراقي، المولى احمد، 349-353.

[2] فرائد الأصول، الشیخ مرتضی الانصاري، ج4، ص103.


ذكرنا ان الشيخ الانصاري (قده) نسب اليه القول بعدم انقلاب النسبة ولكن قلنا بان كلام الشيخ في الرسائل يظهر منه التفصيل بين ما إذا كانت نسبة المتعارضات الى الدليل نسبة واحدة وبين ما إذا كانت متعددة، ففي الصورة الأولى حكم بعدم انقلاب النسبة

واما في الصورة الثانية وهي ما إذا كانت نسبة المتعارضين الى الدليل مختلفة كما إذا ورد عامان وكانت النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه مثل (أكرم العلماء) و (يستحب اكرام العدول) ثم ورد مخصص لأحدهما مثل قوله (لا تكرم فساق العلماء) فنسبته الى العام الأول هي نسبة الخاص الى العام بينما نسبته للثاني هي التباين، وفي هذه الحالة ذهب الشيخ الانصاري الى انقلاب النسبة فبعد تخصيص العام الأول يكون أخص من الثاني فيخصصه،

والشيخ انما ذهب الى انقلاب النسبة لوجود محذور وهو انه لو لم نلتزم بانقلاب النسبة بان نقول ان النسبة بين العامين بعد التخصيص هي العموم والخصوص من وجه فنتعامل معهما معاملة المتعارضين في مادة الاجتماع واحد المحتملات في التعارض ان نقدم العام الثاني على الأول وهذا يلزم منه بقاء العام الأول بلا مورد لان العام الأول خرج منه الفساق بدليل وإذا اخرجنا منه العدول وقلنا باستحباب اكرامهم يبقى (أكرم العلماء) بلا مورد

وقد وافق صاحب الكفاية الشيخ الانصاري في القول بعدم انقلاب النسبة في الصورة الأولى واما في الصورة الثاني أي ما اذا كانت النسبة متعددة فقد ذهب الى عدم انقلاب النسبة أيضاً فحكم بتخصيص العام بالخاص وتبقى النسبة بين العام وبين (يستحب اكرام العلماء) هي العموم من وجه ونتعامل معها معاملة الدليلين المتعارضين في مادة الاجتماع فإما ان نقول بالترجيح ان كان مرجح او يصار الى التساقط او التخيير، نعم قد استثنى من هذه الحالة ما اذا لم يبق بعد التخصيص الا مادة الاجتماع فلا بد في هذه الحالة من تقديم العام الأول على العام الثاني لان العام الأول بعد تخصيصه يكون كالنص في مادة الاجتماع بينما الثاني يشمل مادة الاجتماع بالعموم، واما اذا فرضنا ان العام بعد التخصيص يبقى شاملاً لغير مادة الاجتماع كما اذا بدلنا الخاص في المثال بقولنا (لا تكرم النحويين من العلماء)فيبقى العام بعد التخصيص يشمل غير النحويين من العلماء وهو لا يختص بمادة الاجتماع فهنا يلتزم بعدم انقلاب النسبة

والظاهر ان نسبة القول بعدم انقلاب النسبة مطلقاً للشيخ الانصاري لم يكن اعتباطاً باعتبار انه وان قال بانقلاب النسبة في الحالة الثانية ولكنه ركز كلامه على مثال يواجه محذور على القول بعدم انقلاب النسبة وهو بقاء العام بلا مورد فاضطر الى القول بانقلاب النسبة وهو المثال الذي ذكرناه في تقريب قوله، واما اذا بدلنا المثال بمثال اخر لا يلزم منه المحذور المذكور فلا يبعد ان يقول الشيخ الانصاري بعدم انقلاب النسبة، ولعل هذا هو الوجه في نسبة القول بعدم انقلاب النسبة اليه.

والنتيجة ان كلاً من الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية قائل بعدم انقلاب النسبة، اما في الحالة الأولى فالظاهر ان دليلهم هو ما أشار اليه الشيخ الانصاري (قده) من ان تخصيص العام بالمخصص الأول ثم ملاحظة نسبته الى المخصص الثاني ليس أولى من تخصيصه أولا بالمخصص الثاني ثم ملاحظة نسبته للمخصص الأول

واما في الحالة الثانية فبناءً على ما ذكرناه من نسبة القول بعدم انقلاب النسبة للشيخ الانصاري (قده) اذا لم يلزم منه محذور كما هو راي صاحب الكفاية، فالوجه فيه هو دعوى انه في باب التعارض والنسبة بين الأدلة لا بد من لحاظ ظاهر الكلام لا ما يكون الكلام حجة فيه فان هذا ينتج القول بعدم انقلاب النسبة، فان النسبة تبقى على حالها بعد التخصيص ف(اكرم العلماء) يبقى ظاهراً في العموم لان المفروض ان المخصص منفصل فتبقى النسبة بين العامين هي العموم والخصوص من وجه، وانما تنقلب النسبة اذا قلنا بان الملحوظ هو ما يكون الكلام حجة فيه لان العام الأول يكون حجة في العلماء العدول بعد التخصيص، والعام الثاني حجة في العدول،

بعد استعراض راي المحقق الانصاري وراي المحقق الخراساني (قدهما) يظهر من كلامهما ان الدليل على انقلاب النسبة هو مسالة ان التعارض يلاحظ باعتبار ما يكون الدليل حجة فيه لا باعتبار الظهور الاولي للدليل، فاذا كانت النسبة بهذا الاعتبار عموم من وجه فلا يوجد جمع عرفي وان كانت عموم وخصوص مطلق بان كان احد الدليلين بما هو حجة اخص من الاخر بما هو حجة قدم عليه بالتخصيص، فاذا فرضنا في المورد الثاني المتقدم كان هناك عامان وخاص فاذا خصصنا احد العامين وهو (اكرم العلماء) بمخصصه وهو (لا تكرم الفساق) فبعد التخصيص يكون حجة في العلماء العدول فستكون نسبته الى العام الاخر وهو يستحب اكرام العدول هي العموم والخصوص المطلق لأنه بما هو حجة اخص من العام الاخر بما هو حجة فيتقدم عليه بالتخصيص وهذا هو معنى انقلاب النسبة لان النسبة بينهما بقطع النظر عن المخصص هي العموم والخصوص من وجه وبعد ملاحظة المخصص تكون النسبة العموم والخصوص المطلق، باعتبار ان ما يلاحظ في باب التعارض هو الدليل بمقدار ما يكون حجة فيه

واما الطرف الاخر الذي ينكر انقلاب النسبة فانه يقول ان الذي يلحظ هو الدليل بما هو ظاهر في معناه فالتعارض بين الظهورين الأوليين للدليلين فالنسبة لا تتبدل بينهما بعد التخصيص بل تبقى هي العموم والخصوص من وجه فان ظهور الدليل لا ينثلم بالمخصص المنفصل

ويستدل لذلك بادلة:

الدليل الأول: ما يفهم من كلام صاحب الكفاية، من ان التعارض انما يقع بين المتعارضين إذا كان كل واحد منهما حجة في نفسه وبقطع النظر عن المعارضة، فما يقع طرفاً للمعارضة مع الدليل الاخر هو المقدار الذي يكون حجة فيه ومن الواضح ان ما يكون (أكرم العلماء) حجة فيه بعد ورود المخصص المنفصل هو بعض مدلوله لا تمامه فسوف تنقلب النسبة

والحاصل ان التعارض انما يكون بعد فرض حجية كل واحد من الدليلين المتعارضين في نفسه وبقطع النظر عن المعارضة، والمفروض سقوط أحد الدليلين عن الحجية في العموم وهو (أكرم العلماء) بسبب المخصص المنفصل ويكون حجة في (العلماء العدول) ولا بد ان يكون معارضاً لعموم الاخر بمقدار ما يكون حجة فيه

ولوحظ عليه: بان ما ذكر في الدليل من تقوم التعارض بالحجية امر مسلم ولكن الكلام في تقديم احد الدليلين المتعارضين على الاخر وبالتحديد فان الكلام في ان الاخصية الموجبة لتقديم الأخص على الاعم هل هي بلحاظ الحجية او بلحاظ الظهور الاولي، فليس بالضرورة عندما نقول ان الخاص يتقدم على العام ان الاخصية بلحاظ الحجية بل يمكن ان يكون الميزان هو الاخصية بلحاظ الظهور الاولي، وفي هذا الدليل لم يبرهن على ان الميزان في التقديم هو الاخصية بلحاظ الحجية، بينما لو كان الملحوظ هو الاخصية بلحاظ الظهور فلا توجد اخصية في محل الكلام لان النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه فتبقى النسبة محفوظة

الدليل الثاني: ما ذكره الميرزا النائيني[1] (قده) وحاصله يتضح بمجموع مقدمتين:

المقدمة الأولى: ان الكلام له ثلاث دلالات:

الأولى: الدلالة التصورية وهي التي ينتقل فيها الذهن الى المعنى بمجرد سماع اللفظ وهي لا تتوقف على صدور الكلام عن إرادة وقصد بل هي تحصل بمجرد سماع اللفظ حتى لو صدر من الحجر، وواضح ان القرينة المتصلة لا تؤثر فيها فضلا عن المنفصلة

الثانية: الدلالة التصديقية الأولى وهي دلالة الكلام على قصد المتكلم تفهيم المعنى المستفاد من الكلام سواء دل عليه اللفظ وحده او دلت عليه القرينة المحتفة بالكلام، وواضح ان هذه تتوقف على صدور الكلام عن قصد وإرادة وهي تنهدم بالقرينة المتصلة دون المنفصلة بخلاف الأولى، فلو قال (رأيت اسداً) فانه يوجب تفهيم معنى الأسد للمخاطب ولكن حين تأتي القرينة وهي قوله (يرمي) متصلة به فسوف ينقلب المعنى من الحيوان المفترس الى الرجل الشجاع وينعقد ظهور اخر على انه يقصد تفهيم معنى ما دلت عليه القرينة للمخاطب

الثالثة: الدلالة التصديقية الثانية وهي دلالة الكلام على ان المعنى المراد تفهيمه للمخاطب مراد جداً له، وهذه الدلالة تنهدم بالقرينة المنفصلة فضلاً عن المتصلة

المقدمة الثانية: ان الميزان في التقديم بالاخصية هو الاخصية في الدلالة الثالثة وهي متحققة في محل الكلام فان (أكرم العلماء) لا يكشف كشفاً فعلياً عن المراد الجدي الا بلحاظ المخصص فما يريده جداً هو (العلماء العدول) وهذا المراد الجدي أخص من الدليل الاخر فيتقدم عليه بالتخصيص، وهذا معنى انقلاب النسبة.

[1] أجود التقريرات‌، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج4، ص301.


كان الكلام في الدليل الثاني على انقلاب النسبة: وهو ما ذكره الميرزا النائيني[1] (قده) من ان للكلام ثلاث دلالات دلالة تصورية ودلالة تصديقية أولى ودلالة تصديقية ثانية وذكر بان الدلالة التصديقية الأولى وهي دلالة الكلام على ان المتكلم يقصد تفهيم الكلام للمخاطب تنثلم بالقرينة المتصلة ولا تنثلم بالقرينة المنفصلة، بينما الدلالة التصديقة الثانية تنهدم بالقرينة المتصلة والقرينة المنفصلة،


وبعد ان قسم الدلالات وذكر احكامها ذكر بان الاخصية في المقام هي الاخصية في مقام كشف الكلام عن المراد الجدي للمتكلم وهي الدلالة التصديقية الثانية وهذه الدلالة يؤثر فيها القرينة المنفصلة فضلاً عن المتصلة


والميزان في التقديم بالاخصية هو الاخصية بلحاظ الدلالة التصديقية الثانية بمعنى ان الكلام إذا كان في مقام كشفه عن المراد الجدي أخص من دليل اخر قدم عليه، والعام المخصص بالمنفصل في مقام الكشف عن المراد الجدي هو أخص من الاخر باعتبار ان الفساق خرجوا من العام بالخاص المنفصل فما يراد جدا بقوله (أكرم العلماء) هو العلماء العدول وهذا أخص مطلقاً من (يستحب اكرام العدول)


نعم إذا كان الميزان بالتقديم في الاخصية هو الاخصية في الدلالة الأولى او الثانية فهنا لا يلزم انقلاب النسبة باعتبار ان الدلالة الثانية فضلاً عن الأولى لا تتأثر بالمخصص المنفصل، ولكنه ذكر ان الصحيح ان الميزان هو الاخصية في الدلالة الثالثة


وفي الحقيقة ان هذا الوجه لا يختلف في جوهره عن الوجه الأول الا في العبارة والبيان، فكلا الوجهين مرجعه الى دعوى ان تقديم الخاص على العام يكون بلحاظ ما يكون الدليل حجة فيه، فلا معنى لقوله ان التقديم بالاخصية يكون بلحاظ الدلالة الثالثة الا ان التقديم يكون بلحاظ الاخصية في مقام الكشف عن المراد الجدي للمتكلم، فيرد عليه ما اوردناه على الوجه الأول من انه لم يقم برهان على هذه الدعوى فيمكن طرح دعوى في مقابلها وهي ان الميزان في التقديم هو الاخصية في الظهور، وفي المقام هما متساويان في الظهور فكل من العامين يشمل مادة الاجتماع بالعموم فالنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه كما كانت قبل التخصيص


هذا بناءً على ما هو المعروف من ان المخصص المنفصل لا يهدم الظهور وانما يسقطه عن الحجية، واما بناءً على ما قد يقال من ان المخصص المنفصل يهدم أصل الظهور كالمتصل فلا يبقى للعام ظهور في العموم وانما ينعقد ظهوره في ما عدا الخاص، وبناءً على هذا تكون دعوى انقلاب النسبة أوضح لان النسبة هي العموم والخصوص المطلق سواء لاحظنا الحجية او لاحظنا الظهور


وجواب هذا الكلام بإنكار هذا المبنى فان المخصص المنفصل لا يهدم الظهور لان الظهور في العموم قد انعقد واستقر بالفراغ من الكلام من دون قرينة وبعد استقراره لا يمكن ان ينقلب، غاية الامر ان المخصص المنفصل يكون معارضاً له فيتقدم عليه، نعم هو يتأثر بالمخصص المتصل لان ظهور الكلام لا ينعقد الا بانتهاء المتكلم من كلامه فان بناء العقلاء قد استقر على ان للمتكلم ان يلحق بكلامه ما شاء من القرائن


والحاصل ان المخصص المنفصل لا يوجب تضييق دائرة دلالة العام على العموم وانما يوجب تضييق دائرة حجيتها.


الدليل الثالث: وهو مبني على ما تقدمت الإشارة اليه في مبحث العام والخاص من الراي القائل بان دلالة أداة العموم على العموم ليست وضعية وانما هي موضوعة لما يراد من مدخولها فلا بد من اجراء مقدمات الحكمة في مدخولها واثبات الاطلاق فيه، ولا اشكال في ان هذا الاطلاق ينتفي بورود المخصص المنفصل فيكون المخصص المنفصل كاشفاً عن ان المتكلم لم يكن في مقام بيان من ناحية قيد (العلماء) في المثال فلا يستقر للعام ظهور في الاطلاق وانما يستقر ظهوره في ما عدا الخاص وهو (العلماء العدول) وهو اخص من العام الاخر فيتقدم عليه بالتخصيص وهو معنى انقلاب النسبة


[1] أجود التقريرات‌، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج4، ص301.


كان الكلام في الوجه الثالث لدعوى انقلاب النسبة: وهو مبني على ما تقدمت الإشارة اليه من ان دلالة أداة العموم على العموم ليست بالوضع وانما هي ثابتة بمقدمات الحكمة وجريان الاطلاق في مدخول كل، والمخصص المنفصل في محل الكلام يكون منافياً للإطلاق في المدخول فسوف يهدم الاطلاق في هذا العام، والعموم يتوقف على الاطلاق بحسب هذا الراي فينعقد ظهور العام في غير ما خرج بالتخصيص فيكون اخص مطلقاً من العام الثاني فتنقلب النسبة بين العامين من العموم والخصوص من وجه الى العموم والخصوص المطلق


وهذا الوجه يلاحظ عليه:

أولا: ان أصل المبنى غير تام فان دلالة أدوات العموم على العموم بالوضع وليست متوقفة على مقدمات الحكمة


وثانيا: ان الالتزام بهذا المبنى لوحده لا يكفي للوصول الى هذه النتيجة بل لا بد من ضم دعوى أخرى له وهي ان مقدمات الحكمة انما تجري في المراد الجدي وحينئذ يقال بانه بورود المخصص المنفصل تتضيق دائرته فيكون المراد الجدي هو خصوص العلماء العدول فان المراد الجدي يتأثر بالمخصص المنفصل، فينعقد الظهور في ما عدا الخاص


واما إذا قلنا بان مقدمات الحكمة تجري في المراد الاستعمالي لا في المراد الجدي، والمراد الاستعمالي لا يتأثر بالمخصص المنفصل، فنجري مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي لإثبات العموم فيه وهو لا يتأثر بالمخصص المنفصل فيبقى على سعته حتى بعد ورود المخصص، وحينئذ تكون النسبة بين هذا العام وبين العام الاخر هي نسبة العموم من وجه فلا تنقلب النسبة


وبهذا يتضح انه ليتم هذا الوجه لا بد من الالتزام بأمرين، وكل منهما ليس واضحاً


ومما تقدم يتبين ان عمدة ما استدل به على انقلاب النسبة هي دعوى ان الاخصية الموجبة لتقديم الخاص على العام هي الاخصية بلحاظ الحجية أي بمقدار ما يكون الدليل حجة فيه، وعلى هذا الأساس قالوا انه في محل الكلام يتقدم العام المخصص بالمنفصل على العام الاخر؛ لأنه بعد خروج الخاص منه يكون أخص من الاخر، فانه لا يكون حجة الا في ما عدا الخاص


وذكرنا بان التسليم بتقديم الخاص على العام لا ينتج بالضرورة ما ذكروه من ان الاخصية الملحوظة في التقديم هي الاخصية بلحاظ الحجية لإمكان ان تكون الاخصية الملحوظة هي الاخصية بلحاظ ذات الدليل أي ما يكون الدليل ظاهراً فيه، وهذه غير موجودة في محل الكلام لان النسبة بين العام المخصص بالمنفصل وبين العام الاخر بلحاظ ما يكون كل من الدليلين ظاهراً فيه هي العموم والخصوص من وجه


والظاهر ان الصحيح ان الاخصية التي هي الميزان في تقديم الخاص على العام هي الاخصية بلحاظ ذات الدليل لا بلحاظ كونه حجة، لأن أي وجه نعتمد عليه لتخريج تقديم الخاص على العام هو ينتج هذه النتيجة


فعلى الوجه الصحيح في تقديم الخاص على العام وهو دعوى ان الخاص اظهر في مورده من العام في نفس المورد لان شمول العام لمورد الخاص بالعموم والاطلاق بينما الخاص يختص بمورده لأنه وارد فيه، والاختصاص بالمورد في مقابل عدم الاختصاص يخلق حالة الاظهرية، وهذه الاظهرية توجب تقديم الخاص على العام بقانون تقديم الاظهر على الظاهر


وهذا الوجه ينسجم مع كون الميزان في الاخصية هي الاخصية في الظهور لا في الحجية باعتبار ان سقوط العام عن الحجية في بعض مدلوله لا يؤثر في دلالته وظهوره، باعتبار ان هذا العام (اكرم العلماء) كظهور لا يختص بالعلماء العدول وان سقط عن الحجية في غير العلماء العدول، فسقوطه عن الحجية في بعض مدلوله لا يوجب اختصاصه في غير ما خرج بالتخصيص، فلا يكون اظهر في العلماء العدول من العام الاخر (يستحب اكرام العدول) واذا لا يختص بها تنتفي نكتة الاظهرية فلا يتحقق التقديم، فالنسبة بينهما كظهورين هي العموم والخصوص من وجه،


والنتيجة ان هذا الوجه في التقديم ينسجم مع هذا الراي أي التقديم باعتبار الاخصية بلحاظ الظهور لا الاخصية بلحاظ الحجية.


كان الكلام في الميزان في تقديم الخاص على العام وقلنا ان الظاهر ان الاصح كون الميزان هو الاخصية بلحاظ ذات المدلول والظهور لا بلحاظ الحجية، وهذا لا يفرق فيه بين الوجوه التي يخرّج بها تقديم الخاص على العام


وتكلمنا في الدرس السابق عن الوجه الأول في تقديم الخاص على العام وهو دعوى ان الخاص اظهر في مورده من العام في نفس المورد لان شمول العام لمورد التعارض بالعموم بينما الخاص يختص به لأنه وارد فيه، وهذه النكتة من شؤون الاخصية بلحاظ ذات المدلول لا بلحاظ الحجية لان الاخصية بلحاظ الحجية هي ان العام يسقط عن الحجية في بعض مدلوله ولكنها لا تجعله اقوى ظهوراً في الباقي من العام الاخر،


ومثل له السيد الشهيد بأن هذا (هو نظير القدر المتيقن من الخارج، فإن القدر المتيقن من الخارج لا يجعل الدليل صريحاً بنحو يصلح للقرينية على تخصيص دليل آخر، ولهذا لا يكون قوله ( ثمن العذرة سحت ) مخصصاً لقوله ( لا بأس بثمن العذرة ) بغير ما هو القدر المتيقن منه لأن هذا التيقن لا يجعل دلالة الدليل بما هو دليل على حكم عذرة ما لا يؤكل لحمه نصاً أو أقوى من دلالته على حكم عذرة ما يؤكل لحمه.[1]


واما على ما اختاره المحقق النائيني (قده) من كون النكتة في التقديم هي القرينية فان هذا الوجه أيضاً من شؤون الاخصية بلحاظ ذات المدلول وما يكون الدليل ظاهراً فيه والسر فيه ان اعتبار العرف الخاص قرينة على العام وتقديمه عليه ليس من المسائل التعبدية فلا معنى لافتراض التعبدية في هذا المجال من البناءات العقلائية بل هذا مبني على الكاشفية والطريقية فلا بد من فرض ان الخاص اقوى كشفاً من العام عن الواقع ولذا يعد قرينة عليه، واذا ارجعناه الى هذا يأتي نفس الكلام السابق فان هذا من شؤون التخصيص بلحاظ المدلول وما يكون الكلام ظاهراً فيه فان كشف الخاص وطريقيته الى الواقع في مورده يكون اقرب من كشف العام وطريقيته الى الواقع في مورد الخاص، بخلاف التخصيص بلحاظ الحجية لان التخصيص بلحاظ الحجية لا يعني الا سقوط العام عن الحجية في بعض مدلوله ولكن هذا لا يقتضي تقديمه على العام الاخر فهو لا يجعله قرينة على التصرف في العام الاخر لان القرينية مربوطة بكون ظهوره في مدلوله يكون له كاشفية عن الواقع اقوى من ظهور العام في نفس المدلول، وهذا لا علاقة له بالحجية


فالاخصية في الحجية انما تقتضي سقوط العام عن الحجية في مورد الكاشف ولا تقتضي تبدلاً في كاشفيته عن باقي الافراد بحيث تكون اقوى من كاشفية العام في تلك الافراد حتى يعد قرينة على العام الاخر


وعلى القول بانقلاب النسبة يقع الكلام في لزوم هذا الترتيب في العلاج المنتج لانقلاب النسبة وعدمه، كما ذكرنا في مثال العام الذي له خاصان معارضان له فقلنا باننا نخصص العام بأحد الخاصين ثم نلحظ نسبته الى الخاص الاخر


والجواب ان هذا الترتيب ليس لازما في بعض الصور حتى على القول بانقلاب النسبة ومثاله ما دل على حرمة الربا وورد في قباله خاصان الأول: (لا ربا بين الوالد وولده) والأخر (لا ربا بين الزوج وزوجته) فان تقديم أحد الخاصين ولحاظ نسبته الى العام ليس بأولى من لحاظ نسبة الخاص الاخر اليه، ولذا يتعين تخصيص العام بهما معاً دفعة واحدة في هذه الصورة بلا ترتيب في العلاج


نعم، تخصيص العام بكلا الخاصين دفعة مشروط بأمرين:

الأول: ان يكون كلا الخاصين ظنياً واما لو كان أحدهما قطعياً فالظاهر انه لا بد من الترتيب في العلاج بان نخصص العام بالمخصص القطعي أولاً ثم نلحظ نسبته الى الخاص الاخر، باعتبار ان الخاص الظني انما يكون مخصصاً للعام على فرض وجود عموم في العام والمخصص القطعي يوجب العلم بعدم وجود عموم في العام


الثاني: ان لا يبقى العام بعد تخصيصه بهما معاً بلا مورد او يبقى له مورد نادر بحيث يستهجن ان يراد به هذا المورد النادر، كما في مثال (اكرم العلماء) وقوله: (يحرم اكرام فساق العلماء) ثم قال (يستحب اكرام العلماء العدول) بناءً على انه لا واسطة بين العدالة والفسق كما اذا فسرنا العدالة بترك الكبائر، واما اذا قلنا بالواسطة بينهما كما اذا فسرنا العدالة بالملكة فالانسان اول بلوغه لا يتصف بالعدالة لعدم الملكة ولا بالفسق لعدم ارتكابه الكبائر فيبقى للعام بعد تخصيصه بكلا الخاصين موارد نادرة، ففي هذه الحالة يقع التعارض بين العام وبين كلا الخاصين


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج7، ص294.


قلنا انه في صورة ما اذا كان عندنا عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين هي التباين فلا يلزم الترتيب بين الخاصين في العلاج، بل لا تنقلب النسبة أصلا سواء رتبنا في العلاج ام لا فحتى اذا لاحظنا العام مع المخصص الأول ثم لاحظناه بالنسبة الى المخصص الثاني لان نسبته تبقى هي العموم والخصوص المطلق، والسبب ان النسبة بين الخاصين هي نسبة التباين


الصورة الثانية وهي نفس الصورة السابقة ولكن مع افتراض ان النسبة بين الخاصين هي نسبة العموم والخصوص من وجه كما في مثال (اكرم العلماء) وقوله (لا تكرم العالم الفاسق) وقوله (لا تكرم العالم النحوي)، والظاهر ان حكمها حكم الحالة السابقة فيتعين تخصيص العام بكلا الخاصين دفعة واحدة بشرط ان لا يلزم منه بقاء العام بلا مورد او يبقى له موارد نادرة بحيث يكون مستهجناً، نعم تختلف هذه عن الصورة الأولى بان انقلاب النسبة في الصورة الأولى غير معقول حتى اذا كان ترتيب في العلاج، بينما يكون انقلاب النسبة هنا ممكناً لان النسبة بين الخاصين هنا هي العموم والخصوص من وجه، فبمجرد ان نخرج العالم الفاسق من العلماء تكون نسبة العام الى الخاص الثاني هي العموم والخصوص من وجه، ولكن الصحيح هو انه لا مجال للترتيب في العلاج حتى على القول بانقلاب النسبة بل يتعين تخصيص العام بهما معاً دفعة واحدة


وتوجد في هذه الصورة دعوى عدم جواز التخصيص بهما معاً بل لا بد من الترتيب في العلاج المنتج لانقلاب النسبة في صورة ما اذا كان احد الخاصين متقدماً زماناً على الاخر، كما اذا فرضنا ان العام صدر عن الامام الباقر (عليه السلام) والخاص الأول صدر عن الامام الرضا (عليه السلام) والخاص الثاني صدر عن الامام العسكري (عليه السلام) ففي هذه الحالة لا بد من تخصيص العام بالمخصص الأول المتقدم زماناً وحينئذ تنقلب النسبة بينه وبين الخاص المتأخر زماناً من العموم والخصوص المطلق الى العموم والخصوص من وجه


والوجه فيه ان الخاص المتقدم حينما يرد في زمانه يخصص العام ولا ينتظر في تخصيصه للعام وجود مخصص اخر بل هو يخصصه راساً فيكون العام حجة في بعض مدلوله وحين يأتي المخصص الثاني المتأخر زماناً تكون نسبته مع هذا العام هي نسبة العموم والخصوص من وجه، لان القائل بانقلاب النسبة يؤمن بان الميزان في التقديم هي الاخصية بلحاظ الحجية


وأجاب عنه السيد الخوئي (قده) بقوله: (أنّ الأئمة (عليهم السلام) كلهم بمنزلة متكلم واحد، فانّهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي (صلّى اللَّه عليه وآله) ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر منهم (عليهم السلام) فانّه لولا أنّ كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحدٍ بالخاص الصادر من شخص آخر، فاذن يكون الخاص الصادر من الصادق (عليه السلام) مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين (عليه السلام) بحسب مقام الثبوت، وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الاثبات. وكذا الخاص الصادر من الباقر (عليه السلام) فكما أنّ الخاص المقدّم زماناً يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له، كذلك الخاص المتأخر أيضاً يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار الذي يكون مشمولاً له، وكلاهما في مرتبة واحدة)[1]


ويلاحظ عليه بان ما ذكره من ان الائمة (عليهم السلام) بمنزلة متكلم واحد لا يصلح جواباً على ما ذكره المشكل، لان المشكل يركز على نكتة السبق الزماني حتى لو صدر الخاصان من امام واحد ، وما ذكره في الجواب ينفع في مقامات أخرى مثل تخصيص كلام احد الائمة بكلام امام اخر، او التصرف بظهور دليل بقرينة دليل اخر.


[1] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج48، ص472.


كان الكلام في الصورة الثانية وهي ما اذا ورد عام ومخصصان وكانت النسبة بين المخصصين هي العموم والخصوص من وجه، وقلنا بان حكمها حكم الصورة الأولى وهو انهما يخصصان العام دفعة واحدة وهذا لا ينبغي ان يقع فيه الاشكال في صورة ما اذا كان الخاصين متقارنان زماناً واما اذا كان احد الخاصين متقدم زماناً فقد يقال بانه لا بد من انقلاب النسبة في المقام من العموم والخصوص المطلق الى العموم والخصوص من وجه


والوجه فيه ان الخاص المتقدم حينما يرد في زمانه يخصص العام ولا ينتظر في تخصيصه للعام وجود مخصص اخر بل هو يخصصه راساً فيكون العام حجة في بعض مدلوله وحين يأتي المخصص الثاني المتأخر زماناً تكون نسبته مع هذا العام هي نسبة العموم والخصوص من وجه لأننا نتكلم بناءً على انقلاب النسبة، والميزان في التقديم هي الاخصية بلحاظ الحجية، نعم بناءً على ما هو الصحيح من كون الميزان هو الاخصية بلحاظ الظهور فالنسبة لا تنقلب


وأجاب عنه السيد الخوئي (قده) بقوله: (أنّ الأئمة (عليهم السلام) كلهم بمنزلة متكلم واحد، فانّهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي (صلّى اللَّه عليه وآله) ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر منهم (عليهم السلام) فانّه لولا أنّ كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحدٍ بالخاص الصادر من شخص آخر، فاذن يكون الخاص الصادر من الصادق (عليه السلام) مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين (عليه السلام) بحسب مقام الثبوت، وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الاثبات. وكذا الخاص الصادر من الباقر (عليه السلام) فكما أنّ الخاص المقدّم زماناً يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له، كذلك الخاص المتأخر أيضاً يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار الذي يكون مشمولاً له، وكلاهما في مرتبة واحدة.[1]


ويلاحظ عليه بان ما ذكره من ان الائمة (عليهم السلام) بمنزلة متكلم واحد وان كان صحيحاً ولولاه لما صح تخصيص الكلام الصادر من احد الائمة (عليهم السلام) بالخاص الصادر من امام اخر ولكن هذا لا يصلح جواباً على ما ذكره المشكل، لان المشكل يركز على نكتة السبق الزماني حتى لو صدر الخاصان من امام واحد،


واما ما ذكره من ان الائمة (عليهم السلام) غير مشرعين وانما هم مخبرون عن احكام شرعية سابقة وليسوا في مقام التأسيس فالسبق الزماني في مقام الاثبات ولا سبق في مقام الثبوت وعليه فلا مجال لدعوى انقلاب النسبة لان الخاصان متقارنان زماناً بحسب مقام الثبوت،


وبعبارة أخرى: ان تقديم أحدهما على العام ثم ملاحظة النسبة بين العام وبين والخاص الاخر ترجيح بلا مرجح فلم لا نعكس فنقدم الخاص الثاني على العام ثم نلاحظ نسبة العام الى الخاص الاخر


فلا دخل له بأصل الاشكال فان الاشكال ناظر الى السبق الزماني بين الخاص الأول والخاص الثاني في الحجية فالخاص الأول يخصص العام ويسقطه عن الحجية في بعض مدلوله والخاص الثاني انما يكون حجة من حين وروده لا قبله، فاذا لاحظنا العام والخاص الثاني نجد ان النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه بناءً على ان الميزان في الاخصية هو الاخصية بلحاظ الحجية ، بينما كان جواب السيد الخوئي (قده) ناظراً الى السبق الزماني في مدلول الخطاب فذهب الى انه لا سبق زماني في مدلول الخطابين لان الاحكام الشرعية ثابتة في زمان واحد في مقام الثبوت، وقد عرفت ان مصب الاشكال غير هذا، فحتى لو آمنا بما ذكره السيد الخوئي (قده) فان الخاص الأول يكون حجة عند وروده لشمول ادلة الحجية له فلا بد ان يخصص العام، والخاص الثاني وان كان مدلوله ثابتاً في نفس زمان الخاص الأول ولكن لا يمكن ان يقال بانه حجة قبل وروده، فقبل ورود المخصص الثاني لدينا مخصص واحد وهو حجة فلا بد ان يخصص العام ويسقطه عن الحجية في بعض مدلوله، ولازم ذلك انقلاب النسبة بين العام بعد التخصيص وبين المخصص الثاني


والصحيح في الجواب عن الاشكال هو ما ذكره السيد الشهيد (قده) من (أن تحكيم المخصص على العام وتخصيصه به في كل زمان موقوف على حجية الخاصّ في ذلك الزمان ، فليس ورود الخاصّ في زمان معناه ارتفاع حجية العام إلى الأبد ، ولذلك يرجع العام حجة فيما إذا ورد عليه مخصص أو معارض بعد ذلك ، وعلى هذا الأساس يعرف : أن تخصيص العام في زمن ورود الخاصّ الثاني بالنسبة إلى كل من المخصصين موقوف على حجية ذلك المخصص في ذلك الزمان ، ولا تجدي حجيته في زمن أسبق ، ومن الواضح ، أن حجية كل واحد من المخصصين في زمان صدور الخاصّ الثاني في رتبة واحدة ، وإن كانت إحدى الحجيتين بقائية والأخرى حدوثية. فتخصيص العام بإحداهما قبل الأخرى ترجيح بلا مرجح.[2]


ولازم هذا ان نخصص العام بهما معاً بلا ترتيب في العلاج كما في الصورة الأولى فيكون حكم الصورة الثانية حكم الصورة الأولى مطلقاً


[1] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج48، ص472.

[2] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج7، ص306.


كان الكلام في الصورة الأولى وهي ما اذا كان لدينا عام وخاصان وقلنا فيها حالات وتقدم الكلام حول الحالة الأولى والثانية والكلام فعلاً في


الحالة الثالثة: إذا كان بين الخاصين عموم مطلق كما في قولنا (أكرم العلماء) وقولنا (لا تكرم الفاسق) وقولنا (لا تكرم العالم مرتكب الكبيرة) والنسبة بين الفاسق ومرتكب الكبيرة هي العموم المطلق لان كل مرتكب للكبيرة فاسق دون العكس


وذهب السيد الخوئي والسيد الشهيد (قدهما) الى انه لا بد من تخصيص العام بهما معاً في عرض واحد حتى لو آمنا بانقلاب النسبة والسر فيه ان نسبة كل من الخاصين الى العام نسبة واحدة ومقتضى التخصيص موجود في كل منهما فان كون الخاص الثاني اعم من الخاص الأول لا يعني عدم كونه أخص من العام، ولكنهم ذكروا أيضاً بان هذا الكلام انما يتم إذا لم يكن للخاص الأخص مفهوم كما مثلنا،


وقد يقال بلزوم اللغوية من تخصيص العام بهما معاً في عرض واحد فتخصيص العام بالخاص الأخص لغو بعد تخصيصه بالخاص الاعم، وجوابه هو الجواب عن ورود العام والخاص المتوافقين مثل أكرم العلماء ثم يقول أكرم العلماء العدول مع افتراض ان الثاني لا مفهوم له، والجواب ان الغرض في بعض الأحيان التأكيد على الخاص اما لأهميته او لوقوعه مورد السؤال كما في قوله (في الغنم السائمة زكاة) مع افتراض وجوب الزكاة في مطلق الغنم، وهذا له مثال في الروايات فهناك رواية تنهى عن الائتمام بشارب الخمر ورواية تنهى عن الائتمام بالفاسق والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.


واما إذا كان للخاص الأخص مفهوم كما إذا قال (لا تكرم العالم إذا ارتكب الكبائر)، ومفهومه (العالم إذا لم يرتكب الكبيرة أكرمه) ومقتضى اطلاقه شموله لمرتكب الصغيرة فهو ينافي الخاص الاخر (لا تكرم العالم الفاسق) فيتعين في المقام تخصيص الخاص الاعم بمفهوم الخاص الأخص فيخرج منه العالم غير مرتكب الكبيرة فيختص الخاص الاعم بالفاسق مرتكب الكبيرة وبذلك يتحد ويتوافق مع الخاص الاخر فيخصص العام


فالمتعين حينئذ تخصيص الخاص الاعم بمفهوم الخاص الأخص فيكون بذلك موافقاً للأخص فيكون مفاد الخاصين حينئذ واحداً وهو حرمة اكرام العالم مرتكب الكبيرة فيخصص به العام وحينئذ لا مجال لتوهم انقلاب النسبة


فما ذكراه من ان كلا الخاصين يخصصان العام في عرض واحد ليس مطلقاً وانما يثبت في حالة ما إذا لم يكن للخاص الأخص مفهوم، والا فان النتيجة هي تخصيص العام بهذا المفاد المتحد، فيخرج من العام خصوص مرتكب الكبيرة


بينما إذا خصصنا العام بهما معاً في عرض واحد يخرج من العام مطلق الفاسق لا خصوص مرتكب الكبيرة


هذا إذا كان الخاصان منفصلين عن العام، واما إذا كان الخاص الأخص متصلاً بالعام كما إذا ورد (أكرم العلماء ولا تكرم العالم مرتكب الكبيرة) ثم ورد بعد ذلك لا تكرم العالم العاصي


فهنا لا مجال لتصور انقلاب النسبة لان الأخص متصل بالعام فيهدم أصل الظهور ولا ينعقد للعام ظهور الا في ما عدا الخاص فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه من البداية، لان العام من البداية ظهوره في العالم غير مرتكب الكبيرة ونسبته للخاص الاعم (لا تكرم العالم العاصي) هي العموم والخصوص من وجه


وقد طرح السيد الخوئي (قده) فرضاً اخر وهو ما اذا ورد العام مستقلاً مرة ومتصلاً بالخاص الأخص أخرى ثم ورد الخاص الاعم، كما اذا ورد اكرم العلماء وورد في رواية أخرى اكرم العلماء ولا تكرم العالم مرتكب الكبيرة ثم ورد الخاص الاعم وهو (لا تكرم العالم العاصي) فوقع الكلام في كيفية التعامل في هذا الفرض، فهل نخصص العام بهما معاً في عرض واحد، باعتبار ان كلا الخاصين انفصلا عن العام الاول، او نتعامل معهما معاملة المخصص المتصل الذي ذكرنا بانه لا مجال لتوهم انقلاب النسبة فيه باعتبار اتصال احد المخصصين بالعام الثاني وفيه يقع التعارض بين العام المخصص بالمتصل والخاص الاعم لان النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه


كان الكلام في الحالة الثالثة وهي حالة ما إذا ورد عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين عموم وخصوص مطلق وفصلنا بين ما إذا ورد كل من الخاصين منفصلاً عن العام فالصحيح هو تخصيص العام بهما معاً في عرض واحد، واما إذا كان الخاص الأخص متصلاً بالعام فهنا لا مجال لتصور انقلاب النسبة لان الأخص متصل بالعام فيهدم أصل الظهور ولا ينعقد للعام ظهور الا في ما عدا الخاص فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه من البداية


والفرض الأخير الذي طرحه الميرزا النائيني والسيد الخوئي (قدهما) وهو ما اذا ورد العام مستقلاً مرة ومتصلاً بالخاص الأخص أخرى ثم ورد الخاص الاعم، كما اذا ورد (اكرم العلماء) وورد في رواية أخرى (اكرم العلماء ولا تكرم العالم مرتكب الكبيرة) ثم ورد الخاص الاعم وهو (لا تكرم العالم العاصي) فهل نلحق هذا الفرض بالفرض الأول ونتعامل معه معاملة المخصص المنفصل فنخصص العام بهما معاً في عرض واحد، او نتعامل معهما معاملة المخصص المتصل باعتبار ان المخصص اتصل بالعام ومنع من ظهوره بالعموم، وهذا الامر كما يحدث للعام المتصل بالمخصص يحدث للعام المستقل فهو أيضاً يكون مخصصاً بالمخصص المتصل، وحينئذ تكون نسبته مع المخصص الاعم نسبة العموم والخصوص من وجه فتنقلب النسبة


ونقل السيد الخوئي (قده) عن المحقق النائيني (قده) انه اختار الثاني أي انه الحقه بالفرض الثاني من الحالة الثالثة، وذكر انه استدل لذلك بدليلين:


الأول: ان المخصص المتصل بالعام الثاني كما يخصص العام الثاني يخصص العام الأول ويسقطه عن الحجية في بعض مدلوله فالعام الأول قد تخصص به يقيناً وعلى كل تقدير فيعلم بهذا الاعتبار ان العام الأول أيضاً لا يراد به العموم جداً وانما ينعقد المراد الجدي فيه على طبق ما عدا الخاص فيكون المراد الجدي من العام الأول عدا مرتكب الكبيرة والنسبة بين العالم غير مرتكب الكبيرة والعالم العاصي هي العموم والخصوص من وجه فانقلبت النسبة


الثاني: ان المخصص المنفصل ليس صالحاً لتخصيص العام لأنه مبتلى بالمعارضة مع العام الثاني المخصص بالمتصل فالنسبة بينهما عموم من وجه، فلا قابلية له على تخصيص العام الأول فيتعين ان لا نلتزم بتخصيص العام بكلا الخاصين في عرض واحد بل لا بد من الالتزام بانقلاب النسبة


وقد أجاب السيد الخوئي (قده) عن كلا الوجهين: (أمّا الوجه الأوّل، فقد ظهر ما فيه مما تقدم من أ نّه لا وجه لتخصيص العام بأحد المخصصين أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين الخاص الآخر على ما تقدم)[1]


ويمكن المناقشة في هذا الجواب فمن الواضح ان المحقق النائيتي يفرق بين هذا الفرض وبين اصل الفرض في الحالة الثالثة وهو ما اذا كان الخاصان منفصلين فهو يرى تخصيص العام بكل منهما في عرض واحد، ولكنه حين فرض اتصال المخصص الأخص بالعام الثاني قال بانقلاب النسبة فلا بد من وجود نكتة دعته للتفريق بين الفرضين، ولعل النكتة هي انه في الفرض الثاني يريد ان يقول ان المخصص الأخص اتصل بالعام الثاني ولازمه تخصيص العام الأول فيسقطه عن الحجية في بعض مدلوله وهو ما عبر عنه بان مرتكب الكبيرة خارج عن كلا العامين قطعاً، والنسبة بين العام المستقل المخصص بغير مرتكب الكبيرة وبين لا تكرم العالم الفاسق هي العموم والخصوص من وجه فتنقلب النسبة بناءً على ان الاخصية هي الاخصية في الحجية


واما الدليل الثاني فقد أجاب عنه السيد الخوئي (قده) بقوله: (وأمّا الوجه الثاني فهو وإن كان صحيحاً، إلّاأ نّه لا ينتج التعارض بين العام الأوّل والخاص المنفصل، فانّه بعد ابتلاء الخاص المنفصل‌بالمعارض، لا بدّ من معالجة التعارض بينهما ثمّ ملاحظة العام الأوّل، فان قلنا بالتساقط، فلا مانع من الرجوع إلى العام، وإن قلنا بالرجوع إلى المرجحات وإلى التخيير مع فقدها، فان أخذنا بالعام المتصل به أخص الخاصين للترجيح أو التخيير، يطرح الخاص المنفصل، فيبقى العام الأوّل بلا معارض أيضاً. وإن أخذنا بالخاص المنفصل للترجيح أو التخيير، يخصص به العام الأوّل، لكونه أخص مطلقاً بالنسبة إليه، فلا يكون بين العام الأوّل والمخصص المنفصل تعارض على كل حال)[2]


[1] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج48، ص475.

[2] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج48، ص475 و 476.


كان الكلام السابق في الصورة الأولى وهي ما إذا وجد عام وخاصان، والصورة الثانية ما إذا كان عامان بينهما عموم وخصوص من وجه وخاص وهذه الصورة لها حالات:


الحالة الأولى: إذا كان مورد الخاص مادة الاجتماع بين العامين كما إذا ورد (أكرم العلماء) وورد (لا تكرم الفساق) وورد (يكره اكرام العالم الفاسق) ففي هذه الحالة الدليل الثالث أخص مطلقاً من أكرم العلماء كما انه أخص مطلقاً من لا تكرم الفساق فاذا لاحظنا الخاص بالنسبة الى الدليل الأول فانه يخصصه ومقتضى هذا التخصيص هو اختصاص أكرم العلماء بالعالم غير الفاسق لان الفاسق حكمه كراهة الاكرام ومن جهة أخرى إذا لاحظنا الخاص (يكره اكرام العالم الفاسق) بالنسبة الى الدليل الثاني (لا تكرم الفساق) فان النسبة هي العموم المطلق ومقتضى القاعدة انه يخصصه فيختص لا تكرم الفساق بعد التخصيص بخصوص الفاسق غير العالم


وبهذا يرتفع التعارض بينهما فان أكرم العلماء يختص بالعالم العادل ولا تكرم الفساق يختص بالفاسق غير العالم، فيختص كل من العامين بمادة افتراقه عن الاخر


والنتيجة هي وجوب اكرام العالم غير الفاسق عملاً بالعام الأول وحرمة اكرام الفاسق الجاهل عملاً بالعام الثاني، والحكم الثالث كراهة اكرام العالم الفاسق، وهذا لا بد من الالتزام به ولا يوجد انقلاب للنسبة


الحالة الثانية: إذا كان الخاص وارداً على مورد افتراق أحدهما عن الاخر كما إذا ورد (يستحب اكرام العلماء) وورد في دليل اخر (يحرم اكرام الفساق) فالنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ثم ورد (يجب اكرام العلماء العدول)، فان العلماء العدول هي مادة افتراق الدليل الأول عن الثاني، فهنا يقع التعارض بين العام الأول والعام الثاني بنحو العموم والخصوص من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق


والنسبة بين يستحب اكرام العلماء والدليل الخاص (يجب اكرام العلماء العدول) عموم وخصوص مطلق فيقدم الخاص وبه يخرج العدول عن العام فيختص العام بالعلماء غير العدول، وبهذا تنقلب نسبته مع العام الثاني من العموم والخصوص من وجه الى العموم والخصوص المطلق فيقدم عليه بالتخصيص، فنلتزم باستحباب اكرام العالم الفاسق وحرمة اكرام الفاسق غير العالم ووجوب اكرام العالم العادل، بناءً على الايمان بكبرى انقلاب النسبة


وهناك فرض اخر في هذه الحالة وهي ما إذا ورد الخاص على بعض مادة افتراق أحدهما عن الاخر ومثاله ما إذا ورد (يستحب اكرام العلماء) وورد في دليل اخر (يحرم اكرام الفساق)، ودل الخاص على (وجوب اكرام العلماء الفقهاء العدول)، فهنا لا مجال لانقلاب النسبة بل يبقى التعارض بين العامين من وجه كما كان قبل التخصيص، فبعد اخراج العالم الفقيه من العام يبقى العام شاملاً لجميع العلماء غير الفقيه العادل فتكون نسبته الى العام الثاني هي العموم والخصوص من وجه، وهي ذات النسبة الموجودة قبل التخصيص ولذا لا مجال لانقلاب النسبة


الحالة الثالثة: إذا ورد المخصص على مادة افتراق كل من العامين من وجه عن الاخر بان كان لدينا عامان وخاصان، كما إذا ورد (يستحب اكرام العلماء) وورد (يكره اكرام الفساق) وورد في مادة افتراق الدليل الأول عن الثاني (يجب اكرام العالم العادل) وورد في مادة افتراق الثاني عن الأول (يحرم اكرام الفاسق الجاهل)


ففي هذه الحالة يقع التعارض بين دليل الاستحباب ودليل الكراهة بنحو العموم والخصوص من وجه


والنسبة بين دليل الاستحباب مع يجب اكرام العلماء العدول هي العموم والخصوص المطلق فيخصصه ويختص دليل الاستحباب بالعالم الفاسق


والنسبة بين دليل الكراهة ودليل يحرم اكرام الفاسق الجاهل هي العموم والخصوص المطلق فيخصصه فيختص دليل الكراهة بالفاسق غير الجاهل أي العالم الفاسق


وبعد تخصيص كل من العامين تنقلب النسبة بينهما من العموم والخصوص من وجه الى التباين لدلالة أحدهما على استحباب اكرام العالم الفاسق ودلالة الاخر على كراهته فلا بد من تطبيق قواعد باب التعارض بين هذين العامين فقد يسقطان معا في ما اذا لم يكن مرجح ولم نقل بالتخيير


واما الخاصان فلا يدخلان في المعارضة فيمكن العمل بهما معاً، فنلتزم بوجوب اكرام العلماء العدول وحرمة اكرام الفاسق الجاهل.


 

كان الكلام في الحالة الثالثة من الصورة الثانية: وهي ما اذا ورد المخصص على مورد الافتراق لكل من العامين المتعارضين اللذين بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه قلنا هنا يتعارض العام الأول مع الخاص الذي ينافيه والعام الثاني مع الخاص الثاني ولان النسبة بين كل عام ومخصصه هي العموم والمطلق فيتقدم عليه الخاص فيخصصه بمعنى انه (يستحب اكرام العلماء) يخصصه (يجب اكرام العالم العادل) فيخرج منه العادل فيختص دليل الاستحباب بالعالم الفاسق والعام الاخر (يكره اكرام الفساق) يخصصه دليل (حرمة اكرام الفاسق الجاهل) فيختص دليل الكراهة بالعالم الفاسق وهذا معناه ان كلا العامين يختص بمورد واحد وهو العالم الفاسق والأول يدل على استحباب اكرامه والثاني على كراهة اكرامه فيتعارضان بنحو التباين


وحينئذ يقال بانه لا بد من اجراء قواعد باب التعارض على هذين العامين من وجه وقد يسقطان معاً، فانهما يسقطان في مورد الافتراق بالتخصيص وفي مورد الاجتماع بالمعارضة، لان العام الأول اخرجنا منه العالم العادل بالتخصيص والعالم الفاسق يسقط بالمعارضة مع العام الاخر وهكذا العام الثاني اخرجنا منه الفاسق الجاهل بالتخصيص ويخرج منه العالم الفاسق بالمعارضة


واما الخاصان فلا يدخلان في المعارضة فنعمل بهما بان نلتزم بوجوب اكرام العالم العادل وحرمة اكرام الفاسق الجاهل


هذا هو الذي ذهب اليه المحقق النائيني (قده) بمعنى ان المعارضة ذات طرفين فهي تقع بين العامين من وجه بعد تخصيصهما، واما الخاصان لا تسري اليهما المعارضة


وخالفه السيد الخوئي (قده) وذهب الى ان المعارضة تسري من العامين الى الخاصين فكل الأدلة الأربعة تدخل طرفاً في المعارضة ومنشأ التعارض هو العلم الإجمالي بعدم صدور احد المتعارضين، وفي المقام ليس لنا علم اجمالي بكذب احد العامين من وجه وانما لنا علم اجمالي بعدم صدور احد هذه الأدلة الأربعة ويستدل على ما ذكره من ان العلم الإجمالي بعدم الصدور ليس مختصاً بالعامين من وجه بل هو موجود بالنسبة الى كل الأدلة الأربعة هو اننا لو فرضنا عدم صدور احد العامين او احد الخاصين لارتفع التعارض بين الأدلة الثلاثة الباقية، اما لو فرضنا عدم صدور احد العامين كالعام الأول مثلاً فيرتفع التعارض بين الأدلة الباقية وهو واضح باعتبار ان النسبة بين العام الاخر وبين احد الخاصين هي العموم والخصوص المطلق فنخصص العام بالخاص، وهو لا ينافي الخاص الاخر لتعدد الموضوع، كما انه لا تنافي بين الخاصين لتعدد الموضوع، وحينئذ يعمل بهذه الادلة الثلاثة فيلتزم بوجوب اكرام العالم العادل وحرمة اكرام الجاهل الفاسق وكراهة اكرام العالم الفاسق


وكذلك اذا فرضنا عدم صدور احد الخاصين، فمثلا اذا فرضنا عدم صدور الخاص الأول (يجب اكرام العالم العادل) فان الخاص الثاني (يحرم اكرام الجاهل الفاسق) لا ينافي العام الثاني يكره اكرام الفساق لان النسبة بينهما هي العموم المطلق، وبعد تخصيصه بالخاص يكون اخص مطلقاً من العام الأول لأنه اختص بالفاسق العالم فتكون نسبته الى (يستحب اكرام العدول) هي نسبة العام الى الخاص فيخصصه والنتيجة هي استحباب اكرام العالم العادل وكراهة اكرام العالم الفاسق وحرمة اكرام الفاسق الجاهل ولا تنافي بين هذه الاحكام الثلاثة، وهكذا الحال إذا فرضنا عدم صدور الخاص الثاني


وبناء على هذا الكلام لا بد من تطبيق قواعد باب التعارض على كل الأدلة الأربعة فلا بد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة الأربعة وطرح المرجوح منها إذا كان، فاذا فرضنا ان العامين مع أحد الخاصين أرجح من الخاص الاخر فيؤخذ به ويطرح الخاص الاخر وهكذا إذا فرضنا ان العام الأول كان مرجوحاً بالنسبة الى الباقي فيؤخذ بالعام الثاني مع الخاصين


ومع فقد المرجح والبناء على التخيير يتخير المكلف في طرح أي من الأدلة الأربعة


وإذا وصلت النوبة الى التساقط فيبنى على تساقط كل الأدلة الأربعة حينئذ معاً


وما ذكره السيد الخوئي له أجوبة نذكر منها جواب السيد الشهيد (قده): ان التعارض السندي له أحد ملاكين


الأول: ان يكون ناشئاً من العلم الإجمالي بكذب أحد السندين بحيث ينصب العلم الإجمالي على السند مباشرة كما لو علمنا بان أحد الراويين أخطأ قطعاً في نقله عن الامام (عليه السلام) وحينئذ يقع التعارض بلحاظ السند حتى إذا فرضنا ان النسبة بين الدليلين هي العموم والخصوص المطلق التي يجري فيها الجمع العرفي ولذا لا مجال في هذه الحالة لتقديم الخاص على العام، فما ضنك في الحالات الأخرى كالتباين وامثالها فلا اشكال انه لا يعمل بهما فنرجع الى قواعد باب التعارض


وهذه الحالة نادرة فعادة ما نحتمل صدق كلا الراويين ونحتمل صدور ما نقلاه عن الامام بالرغم من تعارضهما فمن الممكن ان يصدر كلاهما لأسباب أخرى بان لا يكون أحدهما مراداً جدا نعم ما نعلمه هو ان أحد الظهورين غير مراد جداً للمتكلم قطعاً للتنافي بينهما وهذا معناه ان المعارضة أولاً وبالذات تقع بين الظهورين لا بين السندين


الملاك الثاني للتعارض: ان يتعدى التعارض من الدلالتين الى السندين ففي الحالات الاعتيادية يقع التعارض بين الدلالتين


فاذا أمكن الجمع بين الدلالتين جمعاً عرفياً فنعمل بهما بعد الجمع بينهما جمعاً عرفياً، واما لو استحكم التعارض بينهما فهنا يأتي الملاك الثاني بان يسري التعارض من الدلالتين الى السندين بدليل انه لا معنى للتعبد بحجية السند مع استحكام التعارض في الدلالة، فان معنى استحكام التعارض في الدلالة دخول الحديثين في المجمل، ولا معنى للتعبد بحجية سند دليل دلالته غير واضحة فيسري التعارض الى السند وقد نقول بسقوط السند لأجل اللغوية فان التعبد بحجية السند لغو بعد سقوط حجية الدلالة


 


كان الكلام في الحالة الثالثة: وهي حالة ما إذا ورد المخصص على مورد الافتراق لكل من العامين المتعارضين بنحو العموم والخصوص من وجه ومثلنا له ب(يستحب اكرام العلماء) و(يكره اكرام الفساق) وورد على الاول (يجب اكرام العالم العادل) وورد على الثاني (يحرم اكرام الفاسق الجاهل)


وتقدم بان المحقق النائيني (قده) ذهب الى ان التعارض يقع بين العامين من وجه في مادة الاجتماع ويسقطان سنداً لان كل عام اخرجنا منه مادة الافتراق بالتخصيص ومادة الاجتماع سقطت بالتعارض


واما الخاصان فلا يدخلان في المعارضة فنعمل بهما بان نلتزم بوجوب اكرام العالم العادل وحرمة اكرام الفاسق الجاهل


وذهب السيد الخوئي (قده) الى ان المعارضة تقع بين الأدلة الأربعة كلها بدليل اننا لو فرضنا عدم صدور أحد العامين او أحد الخاصين لارتفع التعارض بين الأدلة الثلاثة الباقية، وكأن ارتفاع التعارض بين الأدلة الباقية بعد فرض عدم صدور ذاك الدليل هو الدليل على كون التعارض يقع بين جميع الأطراف


وقد أجاب عنه السيد الشهيد (قده): (أن التعارض السندي يكون بأحد ملاكين.


الملاك الأول ـ أن يعلم إجمالاً بكذب أحد السندين، بمعنى عدم صدور الكلام عن المعصوم (عليه ‌السلام) رأساً وكذب النقل.الملاك الثاني ـ ويتحقق حيث ينقل من قبل راويين كلامان عن المعصوم يحتمل صدورهما معاً غير أن ظاهر كل منهما لا يلائم ظاهر الآخر، فيقع التعارض في دليل حجية الظهور بين ظهوريهما ويسري إلى دليل حجية السند، باعتبار لغوية بقاء حجية السند مع سقوط الدلالة.فإن قصد السيد الأستاذ (دام ظله) من تعارض الأدلة الأربعة جميعاً حصول التعارض على أساس الملاك الأول ـ كما يساعد عليه تعبير التقرير حيث عبر بالعلم الإجمالي بكذب أحدها ـ فهذا الملاك للتعارض لو فرض وجوده فلا إشكال في استلزامه سقوط الأدلة الأربعة جميعاً، لوقوع التكاذب بين شهادة الراوي في كل واحد منها مع شهادة الراوي في الثلاثة الباقية.إلاّ أن وجود مثل هذا العلم الإجمالي عناية زائدة لم تفترض في المسألة، ومجرد فرض التعارض بين الظهورات لا يستلزم العلم بعدم صدور أحدها وكذب الراوي في مقام النقل، لوضوح إمكان صدور البيانات المتعارضة عن المعصومين (عليهم‌ السلام) فلو فرض وجود علم إجمالي من هذا القبيل في مورد ما فهو لعناية إضافية، لو تمت اقتضت إجمال السند ولو لم يكن تعارض بحسب الدلالة، كما إذا ورد عام وخاص وعلم إجمالاً بكذب أحد السندين.

وإن كان مقصوده (دام ظله) التعارض على أساس الملاك الثاني، فالتعارض على هذا الأساس إنما يسري إلى السند فيما إذا أجملت الدلالة وسقط الظهور عن الحجية، بأن كان التعارض الدلالي مستحكماً ولا تعارض كذلك بالنسبة إلى دلالة المخصصين في المقام، إذ لو ادعي ذلك على أساس تعارض كل خاص مع مجموع العامين والخاصّ الآخر، فالجواب: أن هذه المعارضة غير مستقرة فيما نحن فيه، لأن الخاصّ مقدم على العام المعارض له بالقرينية والمقدم على أحد أجزاء المجموع مقدم على المجموع فلا يعقل أن يكون معارضاً معه، والسر فيه: أنه لا يوجد هنا تعارض مستحكم بين أطراف أربعة، وإنما توجد ثلاث معارضات كل منها بين طرفين، المعارضة بين الخاصّ مع عامه في كل طرف والمعارضة بين العامين بنحو العموم من وجه. والأوليان غير مستقرتين وإنما المستقر المعارضة الثالثة فحسب سواء قيل بانقلاب النسبة أم لا ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلأنه لا وجه لملاحظة تخصيص أحد العامين بمخصصه قبل الآخر حتى يصبح ذلك العام أخص مطلقاً من العام الآخر ، فإنه ترجيح بلا مرجح) [1]


 


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج7، ص300 و 301.


الحالة الثالثة من الصورة الثانية: ما إذا ورد عامان متعارضان بنحو التباين مع ورود المخصص، وهذه الحالة فيها عدة صور يجمعها ان العامين فيها متباينان


الصورة الأولى: إذا كان الخاص مخصصاً لكلا العامين كما اذا ورد (يستحب الصدقة على كل فقير) وورد (تكره الصدقة على أي فقير) وورد الخاص (تحرم الصدقة على الفقير الفاسق) وهو يخصص كلا العامين فيختص دليل الاستحباب بالفقير غير الفاسق وكذا دليل الكراهة، فهذا المخصص لا اثر له في انقلاب النسبة لأنه يخرج من العام الأول نفس ما يخرجه من الثاني، وفي هذه الحالة يتعين تخصيص كلا العامين بهذا المخصص ونتعامل مع العامين معاملة المتعارضين بنحو التباين،


الصورة الثانية: اذا كان الخاص مخصصاً لاحدهما فقط كما اذا كان المخصص في المثال السابق (لا تستحب الصدقة على الفقير االفاسق) فانه يخصص العام الأول دون الثاني اذ لا منافاة بينهما، ومثاله الفقهي هو الأدلة الواردة في ارث الزوجة من العقار، فطائفة تدل على انها لا ترث من العقار بقول مطلق، وهناك ادلة تدل على انها ترث من العقار مطلقاً، وهناك ادلة على ان الزوجة ترث من العقار اذا كانت ام ولد او لها ولد، وهذا يخصص الدليل الأول دون الثاني لأنه موافق له، ولعل هذا من المصاديق الواضحة لانقلاب النسبة اذا امنا بها لان هذا الخاص لما كان مخصصاً لاحد العامين فيخرج من العام الأول ام الولد او الفقير الفاسق في المثال الأول، ولا اشكال في ان العام الأول بعد التخصيص تنقلب نسبته الى العام الثاني من التباين الى العموم والخصوص المطلق لأنه حينئذ يكون اخص مطلقاً من الدليل الاخر


فتصبح النتيجة: استحباب الصدقة على الفقير العادل وعدم استحبابها على الفقير الفاسق بل كراهتها عليه عملاً بالعام الثاني بعد تخصيصه بالعام الأول


الصورة الثالثة: ما إذا ورد مخصصان، لكل عام مخصص، فهنا توجد فروض:


الأول: إذا لم يوجد تعارض بين المخصصين، كما إذا دل الدليل على كفاية الغسل مرة واحدة في التطهير وعدم اعتبار التعدد وفي المقابل توجد ادلة على اعتبار التعدد، وورد في دليل ثالث اعتبار التعدد إذا كان الغسل بالماء القليل فهو مخصص للعام الأول دون الثاني لانهما متوافقان الا إذا قلنا بان له مفهوم فيخصص الثاني الا ان فرض الكلام في ما لو لم يكن له مفهوم، وورد في دليل رابع لا يعتبر التعدد اذا كان الغسل بالماء الجاري وهو يخصص العام الثاني دون الأول للتوافق بينهما


وقالوا هنا تنقلب النسبة بين العامين من التباين الى العموم والخصوص من وجه بعد تخصيص كل منهما بمخصصه ويتعارضان في مادة الاجتماع وهي الغسل بالكر، فان العام الأول يختص بغير الماء القليل والعام الثاني يختص بالغسل بالماء غير الجاري وكلاهما صادق على الكر، وكل من العامين له موارد تخصه وهي موارد افتراقه عن العام الثاني فمادة افتراق الأول عن الثاني هي الماء الجاري ومادة افتراق الثاني عن الأول هي الماء القليل، ولا مانع من العمل بالدليلين في مورد افتراقه عن الاخر فانه لا معارض له في هذه المادة


والنتيجة: ان الغسل بالكر هو مورد التعارض، ونلتزم بعدم اعتبار التعدد في الغسل بالماء الجاري اما عملاً بالخاص او عملاً بالعام الأول بعد تخصيصه، ونلتزم بالتعدد في الغسل بالقليل اما عملاً بالخاص او بالعام الثاني في مورد افتراقه عن العام الأول


كان الكلام في الصورة الثالثة: وهي ما إذا ورد مخصصان على كل من العامين، وتكلمنا عن الحالة الأولى وهي حالة ما إذا لم يكن أي تنافي بين المخصصين ومثالها ما إذا دل الدليل على اعتبار التعدد بالغسل بالماء القليل والاخر دل على عدم اعتبار التعدد في الغسل بالماء الجاري، فان الأول يخصص الدليل الأول القائل بعدم اعتبار التعدد بالغسل والدليل الاخر يخصص الدليل الدال على اعتبار التعدد بالغسل


وقلنا هنا تنقلب النسبة من التباين الى العموم والخصوص من وجه فبعد تخصيص كل واحد منهما بمخصصه يختص الدليل الدال على اعتبار التعدد بالماء غير الجاري والدليل الدال على عدم اعتبار التعدد يختص بالماء غير القليل ويتعارضان في الكر لان مقتضى الأول هو اعتبار التعدد فيه بينما مقتضى الثاني عدم اعتبار التعدد فيه، فنتعامل معهما معاملة المتعارضين في الافراد الأخرى غير الجاري وغير القليل فالنتيجة هي التساقط في مادة الاجتماع ويكون كل منهما حجة في مورد افتراقه عن الاخر


وهذا كله في ما اذا فرضنا ان مجموع المخصصين لم يكن مستوعباً لجميع افراد العامين بمعنى انه يبقى في العامين موارد غير ما خرج بالتخصيص كما هو الحال في المثال السابق باعتبار ان الغسل لا ينحصر بالماء الجاري والماء القليل فتبقى له موارد غير مشمولة بالمخصصين


واما إذا فرضنا استيعاب المخصصين لجميع افراد العامين كما في مثال (تستحب الصدقة على كل فقير) و(تكره الصدقة على أي فقير) فهما عامان متعارضان متباينان والخاصان هما (لا تستحب الصدقة على الفقير الفاسق) والأخر (لا تكره الصدقة على الفقير العادل) ومن الواضح بان موضوع العامين وهو الفقير ينحصر بالفقير العادل والفقير الفاسق، فلا يبقى للعامين مورد غير مشمول بالمخصصين


وفي هذه الحالة كل من الخاصين يخصص العام المخالف له، ونتيجته ان دليل الاستحباب يختص بالفقير غير الفاسق كما ان دليل الكراهة يختص بالفقير غير العادل


وبعد سقوط دليل الاستحباب عن الحجية في الفقير الفاسق بسبب التخصيص يكون العام حجة فيه، وبعد سقوط العام الثاني عن الحجية في الفقير العادل يكون العام الأول حجة فيه، فنصل الى نتيجة مفادها كراهة الصدقة على الفقير الفاسق واستحباب الصدقة على الفقير العادل


بقانون: إذا سقط أحد المتعارضين عن الحجية في بعض مدلوله يكون المعارض الاخر حجة فيه لان معنى سقوطه عن الحجية في بعض مدلوله زوال المانع من حجية الاخر فيه


وقد يقال باننا لا نحتاج في مقام اثبات استحباب الصدقة على الفقير العادل الى التمسك بهذا الكلام، بل يمكن ان نقول مباشرة بان الخاص (لا يستحب الصدقة على الفقير الفاسق) يخصص (يستحب الصدقة على كل فقير) فيخرج منه الفاسق فيختص مباشرة بالفقير العادل،


ونفس الشيء نقوله في دليل الكراهة لان الفقير العادل يخرج منه بالتخصيص فيكون هو الدليل على كراهة الصدقة على الفقير الفاسق مباشرة


وقد يكون الغرض من هذا هو بيان ان التخصيص يوجب اختصاص العام بغير مورده لا انه يعنونه بعنوان العادل فالتخصيص يثبت استحباب الصدقة على غير الفاسق واما خصوص العادل فنثبته بالطريقة الانفة، وهذا لا ثمرة تترتب عليه خارجا


وهذا لا يفرق فيه بين القول بانقلاب النسبة وعدم القول بها، فبمجرد ان نقدم كل من الخاصين على العام المخالف له يرتفع التعارض لتعدد الموضوع حينئذ، ولذلك فالأفضل ان يقال بان كل واحد من المخصصين يخصص العام المخالف له وبعد التخصيص يرتفع التعارض بين العامين من وجه اذ لا تنافي بين استحباب الصدقة على الفقير غير الفاسق وكراهتها على الفقير غير العادل.


الحالة الثانية للصورة الثالثة: إذا كانت النسبة بين المخصصين هي العموم والخصوص من وجه، كما في المثال السابق إذا فرضنا ان المخصصين هما (لا تستحب الصدقة على الفقير الجاهل) والأخر (لا تكره الصدقة على الفقير الهاشمي)، وهنا يوجد فرضان:


الأول: ان نفترض عدم التعارض بين المخصصين باعتبار ان موضوع الأول هو الفقير الجاهل وموضوع الخاص الثاني هو الفقير الهاشمي والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ولكم لا تنافي بينهما اذ لا تنافي بين عدم استحباب الصدقة على شخص وعدم كراهتها على نفس الشخص


وحينئذ يكون كل من المخصصين حجة ويخصص العام المخالف له وتكون النسبة بين العامين هي العموم والخصوص من وجه بعد التخصيص بناءً على انقلاب النسبة لان العام الأول يختص بالفقير غير الجاهل والثاني بالفقير غير الهاشمي والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فيتساقطان في مادة الاجتماع ويكون كل عام حجة في مورد افتراقه عن العام الاخر، لان العامان من وجه انما يسقطان عن الحجية في مورد الاجتماع دون مورد الافتراق


والنتيجة ان دليل الاستحباب يكون حجة في الفقير العالم الهاشمي ودليل الكراهة يكون حجة في الفقير الجاهل غير الهاشمي، واما مورد الاجتماع وهو الفقير العالم غير الهاشمي فيتعارضان فيه ويتساقطان


والظاهر ان هذه النتيجة تثبت حتى على القول بعدم انقلاب النسبة، لان معناه ان النسبة بعد التخصيص تبقى هي التباين، فاذا خصصنا كل عام بمخصصه يسقط كل عام عن الحجية في مورد التخصيص ويكون لكل منهما مورد غير مبتلى بالمعارض فيكون حجة فيه وهو مورد افتراقه عن الاخر


كان الكلام في الحالة الثانية للصورة الثالثة: وهي ما إذا كانت النسبة بين المخصصين هي العموم والخصوص من وجه، وهنا يوجد فرضان:


فتارة نفترض عدم التعارض بين المخصصين كما في المثال السابق إذا فرضنا ان احد المخصصين هو (لا تستحب الصدقة على الفقير الجاهل) والأخر (لا تكره الصدقة على الفقير الهاشمي)، وقلنا بان كل من المخصصين يكون حجة ومقتضى حجيته انه يخصص العام المخالف له، وحينئذ تكون النسبة بين العامين بعد التخصيص هي العموم والخصوص من وجه لان العام الأول (يستحب اكرام كل فقير) سوف يختص بالفقير غير الجاهل والثاني (تكره الصدقة على أي فقير) سوف يختص بالفقير غير الهاشمي فتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع (الفقير العالم غير الهاشمي) ويكون كل منهما حجة في مورد افتراقه عن الاخر، هذا على القول بانقلاب النسبة


ويمكن ان نصل الى نفس النتيجة على القول بعدم انقلاب النسبة، فانه عليه تبقى النسبة بين العامين هي التباين ولكن مقتضى القاعدة ان نخصص كل عام بمخصصه فيسقط عن الحجية في مورد التخصيص فدليل الاستحباب لا يكون حجة في الفقير الجاهل ودليل الكراهة يسقط عن الحجية في الفقير الهاشمي، ويكون لكل واحد من العامين بعد التخصيص مورد يخصه ويفترق به عن العام الاخر، فدليل الاستحباب بعد التخصيص (يستحب الصدقة على الفقير العالم) يفترق عن دليل الكراهة بعد التخصيص (يكره الصدقة على اي فقير غير الهاشمي) بالفقير العالم الهاشمي، كما ان دليل الكراهة يفترق عن دليل الاستحباب بالفقير الجاهل غير الهاشمي، فيكون كل واحد منهما حجة في مورد افتراقه عن الاخر لأنه لا معارض له فيه، ويتعارضان في مادة الاجتماع ويتساقطان فيها


الحالة الثالثة: ان تكون النسبة بين المخصصين هي العموم والخصوص المطلق، وهنا يوجد فرضان:


الأول: ان نفترض عدم التعارض بين المخصصين، والثاني نفترض وجود التنافي بينهما


والاثر يظهر في انه مع عدم التعارض لا داعي لتخصيص أحدهما بالآخر فنتعامل مع هذه الأدلة على أساس ان المخصصين لا يخصص احدهما الاخر، بينما لو فرضنا التنافي بينهما فلا بد من تخصيص الاعم منهما بالأخص


الفرض الأول: عدم التعارض بين المخصصين، كما لو ورد (تستحب الصدقة على العراقي) وورد (تكره الصدقة على العراقي) وورد (لا تستحب الصدقة على العراقي الكردي الفاسق) وورد (لا تكره الصدقة على العراقي الكردي)، فالخاص الأول يخصص العام الأول ويخرج منه العراقي الكردي الفاسق، والخاص الثاني يخصص العام الثاني ويخرج منه العراقي الكردي، واذا خصصنا كل عام بمخصصه صارت النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق لان ما يخرج من العام الثاني بعد تخصيصه بالمخصص الاعم اكثر مما يخرج من العام الأول بعد تخصيصه بالمخصص الأخص، فما يبقى في العام الثاني بعد التخصيص يكون اقل مما يبقى في العام الأول بعد التخصيص، فيكون دليل الكراهة اخص مطلقاً من دليل الاستحباب لان دليل الاستحباب يختص بالعراقي غير الكردي الفاسق ويختص دليل الكراهة بالعراقي غير الكردي، فلا بد من تخصيص دليل الاستحباب بدليل الكراهة بناءً على انقلاب النسبة


الفرض الثاني: إذا كان المخصصان متنافيين، ومثاله نفس المثال السابق بجعل أحد الخاصين (تكره الصدقة على العراقي الكردي الفاسق) والخاص الثاني (لا تكره الصدقة على العراقي الكردي) فالنسبة بين الخاصين عموم وخصوص مطلق،


وبعد فرض التنافي بين الخاصين لا بد من تخصيص احدهما بالآخر فنخصص الخاص الثاني بالخاص الأول فنخرج العراقي الكردي الفاسق من الخاص الثاني، وحينئذ سنجد ان التعارض يرتفع بين الخاصين لان الدليل الأول يبقى على حاله والثاني اختص بالعراقي الكردي غير الفاسق، واذا ارتفع التعارض بين الخاصين دخلت هذه الحالة في الحالة الأولى المتقدمة وهي ما اذا لم يكن بين الخاصين تعارض وبينا ان حكمها تخصيص كل من العامين بمخصصه وتكون النسبة بينهما بعد التخصيص هي العموم والخصوص من وجه ويتساقطان في مادة الاجتماع ويكون كل واحد منهما حجة في مورد افتراقه عن الاخر


الحالة الرابعة: ما إذا كان الخاصان متساويين بمعنى ان يكون الموضوع فيهما واحداً كما في المثال السابق لو ورد (لا تستحب الصدقة على الفقير الفاسق) وورد أيضاً (لا تكره الصدقة على الفقير الفاسق)


فالأول يخصص العام الأول (تستحب الصدقة على كل فقير) والثاني يخصص الثاني (تكره الصدقة على أي فقير)


وبعد التخصيص سنجد ان النسبة كما هي قبل التخصيص والسر ان ما يخرجه أحد الخاصين من العام هو نفس ما يخرجه الخاص الثاني من العام الثاني


ويتلخص من جميع ما تقدم ان الصور التي تنقلب فيها النسبة على القول بانقلاب النسبة هي حالات قليلة لان معظم تفرعات الصور الأربعة الرئيسية لا مجال فيها لتوهم انقلاب النسبة


اما الصورة الأولى: هي صورة وجود عام وخاصان، مع افتراض ان الخاصين متباينان وقلنا في هذه الحالة إذا لم يكن الخاصان مستوعبين للعام فلا مجال لتوهم انقلاب النسبة، فلا بد ان نخصص العام بهما معاً اذ لا ترجيح لأحدهما على الاخر، بل حتى لو تنزلنا وقلنا بتخصيص العام بالخاص الأول فان النسبة سوف لا تتغير فان نسبة العام بعد تخصيصه بالخاص الأول الى الخاص الثاني تبقى نسبة العموم والخصوص المطلق


واما إذا كانا مستوعبين للعام ففي هذه الحالة يقع التعارض بين العام وبين المخصصين لان تخصيص العام بأحدهما ترجيح بلا مرجح وتخصيص العام بهما معاً الغاء للعام


واما إذا كانت النسبة بين الخاصين هي العموم والخصوص من وجه فالصحيح هو تخصيص العام بالخاصين دفعة واحدة


واما إذا كان بينهما عموم مطلق بان كان أحد الخاصين أخص مطلقاً من الاخر فهنا يخصص العام بكلا الخاصين إذا لم يكن للخاص الأخص مفهوم، والا فلا بد من تقييد الخاص الاعم بمفهوم الخاص الأخص وبهذا يتحد مفاده مع مفاد الخاص الأخص فنخصص به العام


الصورة الثانية: ما إذا كان لدينا عامان بينهما عموم وخصوص من وجه وورد مخصص


فتارة نفترض ورود المخصص على مادة اجتماع العامين فهنا لا مجال لتوهم انقلاب النسبة لأنه يخصص كلا العامين ويوجب اختصاص كل من العامين بمادة افتراقه عن الاخر فيرتفع التعارض بينهما


وأخرى نفترض ورود المخصص على مادة افتراق أحدهما فقط، وهذا هو المورد الأول من موارد انقلاب النسبة باعتبار ان النسبة بين العامين هي العموم والخصوص من وجه بحسب الفرض وبعد تخصيص العام الأول بالخاص تنقلب نسبته مع العام الثاني الى العموم والخصوص المطلق لأنه يكون أخص منه مطلقاً


الصورة الثالثة: وهي صورة وجود عامين متعارضين بنحو التباين مع مخصص، وتارة نفترض ان المخصص يخصص كلا العامين فلا تنقلب النسبة لان ما يخرجه الخاص من أحد العامين هو نفس ما يخرجه من العام الاخر فتبقى النسبة بينهما هي التباين


وأخرى يكون مخصصاً لأحدهما فقط وهذا من أوضح مصاديق انقلاب النسبة


كان الكلام في صورة ما إذا كان هناك عامان متعارضان بنحو التباين مع ورود مخصص، وتارة نفترض ان المخصص يخصص كلا العامين فلا تنقلب النسبة لأن ما يخرجه الخاص من أحد العامين هو نفس ما يخرجه من العام الاخر فتبقى النسبة بينهما هي التباين


وأخرى يكون مخصصاً لأحدهما فقط وهذا من مصاديق انقلاب النسبة، لان النسبة بين العامين تنقلب الى العموم والخصوص المطلق بعد التخصيص


واما إذا فرضنا وجود مخصصين كل واحد منهما يخصص أحد العامين


فتارة نفترض عدم وجود تعارض بين المخصصين ومثلنا له بمسالة اعتبار تعدد الغسل في دليل وعدم اعتباره في دليل ثاني ودليل ثالث اعتبر التعدد بالماء القليل ورابع لا يعتبر التعدد بالغسل بالماء الجاري


وتقدم انه تارة نفترض استيعاب المخصصين لتمام افراد العامين كما مثلنا له ب (تستحب الصدقة على كل فقير) و(تكره الصدقة على كل فقير) وجاء دليل (لا تستحب الصدقة على الفقير الفاسق) والثاني (لا تكره الصدقة على الفقير العادل)


ومن الواضح بان الخاصين يستوعبان جميع افراد العام


فاذا استوعب الخاصان جميع افراد العامين فلا بد ان نخصص كل عام بمخصصه فيرتفع التعارض بينهما ولا يوجد انقلاب للنسبة،


واما إذا لم يكونا مستوعبين لتمام افراد العامين كما في مثال اشتراط التعدد في الغسل فهنا تنقلب النسبة بين العامين من التباين الى العموم والخصوص من وجه بعد تخصيص كل من العامين بمخصصه فيسقط العامان في مادة الاجتماع ويكون كل منهما حجة في مادة افتراقه عن الاخر


ولكن الصحيح ان انقلاب التعارض بنحو التباين الى العموم والخصوص من وجه في محل الكلام لا ارتباط له بكبرى انقلاب النسبة التي تعني ان يصير الدليل الذي لم يكن قرينة على الدليل الاخر قبل التخصيص قرينةً عليه بعد التخصيص؛ فإننا في محل الكلام لم نجعل أحد العامين بعد التخصيص قرينة على الاخر وانما خصصنا كل عام بمخصصه فيكون لكل منهما مورد افتراق عن الاخر، فبعد سقوط العام الأول عن الحجية في الماء الجاري بالتخصيص يكون العام الثاني حجة فيه بقانون ان أي من العامين المتعارضين اذا سقط عن الحجية في بعض مدلوله يكون العام الآخر المعارض له حجة فيه، وكذلك العام الثاني بعد سقوطه عن الحجية في الماء القليل يكون العام الأول حجة فيه، فيكون بين العامين نسبة العموم والخصوص من وجه


واما اذا كان لدينا عامان متباينان ولكل منهما مخصص والنسبة بين المخصصين هي العموم والخصوص من وجه كما لو ورد (يستحب التصدق على كل فقير) وورد (يكره التصدق على كل فقير) وورد (لا تستحب الصدقة على الفقير الجاهل) وورد (لا تكره الصدقة على الفقير الهاشمي) وقلنا بانه في هذه الصورة بعد تخصيص كل من العامين بمخصصه تكون النسبة بينهما بعد التخصيص هي العموم والخصوص من وجه فنلتزم بسقوطهما عن الحجية في مادة الاجتماع للتعارض وحجية كل منهما في مورد افتراقه عن الاخر، وهذا لا علاقة له بانقلاب النسبة.


كان الكلام في صورة ما إذا كان هناك عامان متعارضان بنحو التباين كما لو ورد (يستحب التصدق على العراقي) وورد (يكره التصدق على العراقي) ولكل منهما مخصص والنسبة بين المخصصين هي العموم والخصوص من وجه


وتارة نفترض عدم التعارض بين المخصصين وتقدم الكلام عنه


وأخرى نفترض التعارض بينهما كما إذا قال (تكره الصدقة على العراقي الفاسق) وقال (لا تكره الصدقة على العراقي الشيعي) وهذان المخصصان متعارضان بمادة الاجتماع وهو العراقي الشيعي الفاسق


ولا بد ان نلتزم بان كل خاص يخصص عامه في مادة افتراقه عن الاخر ولا يستطيع ان يخصصه في مادة الاجتماع لوضوح ان له معارض في هذه المادة ونحن نؤمن بانه لا بد من علاج مشكلة التعارض بين الخاصين قبل تخصيص العامين بهما


وبناءً على هذا سوف نخصص العام الأول بالعراقي الفاسق غير الشيعي فيبقى العام الأول شاملاً للعراقي الشيعي فاسقا كان او غيره والعراقي العادل، واما العام الثاني فنخرج منه العراقي الشيعي غير الفاسق فيختص العام الثاني بالعراقي الفاسق شيعياً كان او غيره


وبعد هذه العملية ستكون النسبة بين العامين هي العموم والخصوص من وجه لا التباين كما كانت قبل التخصيص فتنقلب النسبة، ولكن هذا الانقلاب ليس مبني على كبرى انقلاب النسبة بمعنى ان يصبح ما لم يكن قرينة قبل التخصيص قرينة على التصرف في الدليل الاخر بعد التخصيص، وسواء قلنا بانقلاب النسبة او لم نقل بها لا بد ان نقول بتخصيص العامين بالخاصين في مورد افتراق كل منهما عن الاخر وقهراً سوف تكون هناك نسبة العموم والخصوص من وجه بين العامين


وفي مقابل هذا الراي هناك من يقول بعدم لزوم حل مشكلة التعارض بين الخاصين قبل تخصيص العامين بهما بل نخصص العامين بهما مباشرة، كما لو اخرجنا من العام الأول العراقي الفاسق واخرجنا العراقي الهاشمي من الثاني، وعليه يختص دليل الاستحباب بالعراقي غير الفاسق ويختص العام الثاني بالعراقي غير الهاشمي، وهذا الراي يظهر من السيد الخوئي (قده) وهو لا يلحظ حالة التعارض بين الخاصين اولاً وعزل مادة الاجتماع لان الخاصين لا يكونان حجة فيها وما ليس بحجة لا يستطيع ان يخصص العام لان تخصيص العام يعني تقديم اقوى الحجتين على الأخرى


واما إذا كانت النسبة بين الخاصين هي العموم والخصوص المطلق كما لو ورد (تكره الصدقة على العراقي السني الفاسق) وورد (لا تكره الصدقة على العراقي السني)، فنخصص اعم المخصصين باخصهما ومعه يرتفع التعارض بين المخصصين فيدخل المقام حينئذ في حالة ما إذا كان بين العامين عموم من وجه ولم يكن بين الخاصين تنافي وتعارض


واما إذا كان بين الخاصين عموم مطلق من دون ان يكون بينهما تنافي كما لو ورد (لا تستحب الصدقة على الفقير الهاشمي الفاسق) وورد (لا تكره الصدقة على الفقير الهاشمي)، وفي هذه الحالة بعد تخصيص كل عام بمخصصه ستكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق لان العام المخصص بأعم المخصصين يكون أخص من العام الاخر لأنه سوف يخرج منه عدد أكبر مما يخرج من العام الثاني المخصص باخص المخصصين، هذا بناءً على انقلاب النسبة


واما إذا كان الخاصان متساويين موضوعاً مع عدم التنافي بينهما، فتقدم انه في هذه الحالة يخصص كل عام بمخصصه وتبقى النسبة بين العامين هي التباين كما كانت قبل التخصيص


وتبين مما تقدم ان انقلاب النسبة انما يكون في بعض الحالات من الصور السابقة، والميزان في ذلك هو ان ما لم يكن من العامين قرينة على التصرف في الاخر يكون قرينة بعد اخراج فرد من العام، وهذا يتحقق في بعض الصور السابقة ولعل أوضح مثال لذلك هو حالة ما إذا كان هناك عامان متعارضان بنحو العموم والخصوص من وجه وورد المخصص على مادة افتراق أحدهما عن الاخر بتمامها


قلنا ان هناك صور من الحالات المتقدمة يكون فيها مجال للقول بانقلاب النسبة وذكرنا الصورة الأولى


الصورة الثانية: ما اذا كان عامان متعارضان بنحو التباين مع مخصص لاحدهما ومثالها ارث الزوجة من العقار فان بعض الروايات تقول ترث الزوجة من العقار مطلقاً وروايات تقول لا ترث الزوجة من العقار مطلقا وورد مخصص للعام الأول (اذا كانت الزوجة ام ولد ترث من العقار) فاذا خصصنا العام الأول يكون اخص مطلقاً من العام الثاني، فهذا مثال على انقلاب النسبة لأنه بعد التخصيص يكون قرينة على التصرف في العام الثاني


الصورة الثالثة: اذا كان عامان متعارضان بنحو التباين وخاصان بينهما عموم وخصوص مطلق من دون تعارض بين الخاصين فانه بعد تخصيص كل عام بمخصصه يكون العام المخصص بأعم الخاصين اخص مطلقاً من العام الثاني المخصص باخص الخاصين، وهذا مبني على القول بانقلاب النسبة باعتبار ان العام المخصص يكون قرينة على التصرف بالآخر بعد ان لم يكن قرينة قبل التخصيص


وهذه عمدة الصور التي يكون ترتيب الأثر فيها مبتني على القول بانقلاب النسبة اما إذا لم نقل بانقلاب النسبة فان الموقف يتبدل والنتيجة تكون مخالفة لتلك النتيجة التي ننتهي اليها على القول بانقلاب النسبة


مثلاً في الصورة الثانية لو كان هناك عامان متعارضان بنحو التباين وكان هناك مخصص لأحدهما كما في مثال ارث الزوجة والخاص هو (ترث الزوجة ام الولد من العقار) يخصص العام الأول (لا ترث الزوجة من العقار مطلقا)، ففي هذه الصورة على القول بانقلاب النسبة نخصص العام الأول بالخاص فيخرج منه ام الولد فيكون أخص مطلقاً من العام الثاني فيخصصه ويخرج من العام الثاني كل الزوجات ما عدا ام الولد


والنتيجة: ان نقول ان الزوجة ام الولد ترث من العقار وغيرها لا ترث، هذا على القول بانقلاب النسبة


واما إذا لم نقل بانقلاب النسبة فقد ذكر السيد الشهيد[1] (قده) بانه لا بد من التمييز بين حالات للفرض الذي نتكلم فيه:


الحالة الأولى: إذا فرضنا ان كل واحد من العامين ظني سنداً وجهة بان نحتمل بان مفاده لم يصدر بداعي الجد ففي هذه الحالة يتعارضان ويتساقطان في غير مورد التخصيص، ونلتزم بحكم الدليل الخاص في مورد التخصيص، والنتيجة في المثال ان ام الولد ترث وغير ام الولد لا دليل على حكمها


واما إذا كان الدليل الثاني قطعياً سنداً وجهة أي لا نحتمل بان صدوره بداعي اخر غير الجد فيسقط العام الأول عن الاعتبار بالمرة، ويكون العمل بالعام الثاني القطعي ونلتزم بان الزوجة مطلقاً ترث من العقار


الحالة الثانية: ما اذا كان العام الأول المخصص قطعياً سنداً وجهة بمعنى القطع بإرادة اصل الحكم جداً ولكن نحتمل عدم الجدية في عمومه، وفي هذه الحالة نحتاج الى التمسك بأصالة الجهة لإثبات جدية المتكلم في العموم وكونه مراداً له جداً، وفي هذه الحالة يحصل القطع بثبوت مفاد الدليل الأول في الجملة بنحو القضية المهملة المرددة بين الكلية والجزئية بمعنى ان الزوجة في الجملة لا ترث، نعم ظاهر الدليل هو العموم ولذا اذا بقينا نحن وهذين الدليلين فهناك تعارض بين ظاهر العموم الأول وظاهر العموم الثاني، ولا يمكن تقديم الأول بدعوى وجود قدر متيقن منه فيخصص العام الثاني بالقدر المتيقن في الأول، فهذا لا يصح مع فرض الترديد وكون القضية مهملة


ولأننا نقطع بثبوت مفاد الدليل الأول في الجملة يحصل لنا القطع بكذب عموم الدليل الثاني، لا لأجل ان الأول قرينة عليه بل لأجل القطع بكذب عمومه لأننا نقطع بحسب الفرض بثبوت مفاد الأول في الجملة


هذا إذا لاحظنا القضية بقطع النظر عن المخصص، واما إذا دخل المخصص في المقام تكون له دلالة التزامية على قضية شرطية مفادها (لو كان مفاد الدليل الأول ثابتاً في الجملة وبنحو القضية المهملة لكان ثابتاً في غير ام الولد)، وهذه القضية شرطها محرز بالقطع لان مفاد الدليل الأول ثابت في الجملة قطعاً، فسوف يثبت جزائها ومفاده عدم الإرث في غير ام الولد


وهذا المفاد (هناك من لا ترث من الزوجات غير ام الولد) يخصص العام الثاني القائل بإرث الزوجة مطلقاً


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج7، ص309.


كان الكلام في تحديد الموقف إذا لم نؤمن بانقلاب النسبة في الموارد التي يتوهم فيها انقلاب النسبة وقلنا بان الموقف يبين في حالة من الحالات التي تنقلب فيها النسبة وهي حالة ما إذا كان عامان وورد المخصص على أحدهما


وذكر السيد الشهيد[1] (قده) بانه لا بد من التمييز بين حالات للفرض الذي نتكلم فيه:


الحالة الأولى: ما إذا كان العام المخصص ظني سنداً وجهة والعام الاخر تارة نفترضه ظني وأخرى قطعي وقد تقدمت


الحالة الثانية: ما إذا كان العام الأول المخصص قطعياً سنداً وجهة بمعنى ان تكون الإرادة الجدية بلحاظ أصل الحكم قطعية ولكن نحتمل عدم الجدية في عمومه، وفي هذه الحالة يحصل القطع بثبوت مفاد العام الأول في الجملة بنحو القضية المهملة المرددة بين الكلية والجزئية بمعنى ان الزوجة في الجملة لا ترث ولازم هذا القطع حصول القطع بكذب عموم العام الثاني،


والمخصص بعد وروده يدل على قضية شرطية مفادها (لو كان حكم العام المخصص ثابتاً في الجملة لثبت في غير ام الولد)، وشرطها محرز بالقطع لان الحكم في العام الأول ثابت في الجملة قطعاً، فسوف يثبت جزائها ومفاده ان هذا الحكم ثابت في غير ام الولد بنحو القضية المهملة، والنتيجة ان بعض الزوجات غير ام الولد لا ترث قطعاً ونسبة هذا المفاد الى العام الثاني نسبة الخاص الى العام فيكون قرينة عليه ويتقدم عليه بالتخصيص فيخصص العام الثاني ويخرج منه قضية مهملة بل ما يبقى تحت العام بعد اخراج الخاص منه أيضاً قضية مهملة لان اجمال المخصص يسري الى العام


والنتيجة ان ما يمكن ان نلتزم به في هذا المثال بناءً على عدم انقلاب النسبة ان الزوجة ام الولد ترث من العقار، وما عداها فيها زوجة لا ترث من العقار والباقي ترث


نعم يستثنى من هذا حالة ما إذا كان للقضية المهملة قدر متيقن فحينئذ لا بد من تخصيص العام الثاني به ونقتصر في التخصيص على هذا القدر المتيقن وما زاد عليه يبقى مورداً للتعارض بين العامين واما إذا لم يكن له قدر متيقن يكون من موارد اجمال المخصص ودورانه بين المتباينين فيتشكل علم اجمالي بالتخصيص وهذا العلم الإجمالي لا ينتج شيئاً


فعلى القول بانقلاب النسبة تكون النتيجة مختلفة في هذا المورد عنها على القول بعدم انقلاب النسبة


الحالة الثالثة: ان يكون العام المخصص ظني السند قطعي الجهة أي ان أصل الحكم مراد جداً قطعاً، وفي هذه الحالة نصل الى نفس النتيجة التي وصلنا اليها في الحالة السابقة


وتوضيحه ان العام المخصص فيه دالان ومدلولان الأول كلام الراوي ومدلوله صدور الحديث من الامام (عليه السلام) والدال الثاني كلام الامام ومدلوله الحكم الشرعي الثابت ببركة اصالة العموم وهو عدم ارث الزوجة مطلقاً، وهذه قضية عامة تتمثل في احكام متعددة ثابتة بعدد افراد الموضوع وكل واحد من هذه الموضوعات المتعددة في العام الأول معارض بمثله في العام الثاني فكل فرد من افراد العام تقع فيه المعارضة بين العام الأول والعام الثاني


والمدلول الثاني ليس قضية مهملة وانما هي قضية عامة تتمثل باحكام متعددة بعدد افراد الموضوع، وقبل دخول الخاص سنجد ان المعارضة بين العامين تسري الى سند الخبر الأول ظني السند، باعتبار ان العام الثاني ينفي الحكم الأول، فاذا كان الحكم الأول قطعياً على تقدير صدوره كما هو المفروض فالعام الثاني يكون نافياً لصدوره


والمدلول الأول لكلام الراوي يدل على ثبوت الحكم في العام الأول بنحو القضية المهملة أي ثبوت الحكم بعدم ارث الزوجة في الجملة لان المفروض في المقام اننا نقطع بالجهة وان الحكم على تقدير صدوره فهو مراد جداً وان اصل الحكم صدر لغرض بيان الحكم الواقعي، فكلام الامام فيه دلالة على ثبوت هذا الحكم بنحو القضية المهملة


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج7، ص309.


كان الكلام في الحالة الثالثة: وهي صورة ما إذا كان بين العامين تباين وكان العام المخصص ظني السند قطعي الجهة أي ان أصل الحكم مراد جداً قطعاً، وقلنا ان السيد الشهيد (قده) قال ان النتيجة هنا نفس النتيجة التي وصلنا اليها في الحالة الثانية


توضيح ذلك: ان العام المخصص فيه دالان ومدلولان الأول كلام الراوي ومدلوله صدور الحديث من الامام (عليه السلام) والدال الثاني كلام الامام ومدلوله الحكم الشرعي وهو عدم ارث الزوجة مطلقاً، والمدلول الأول (كلام الامام) له لازم عقلي وهو ثبوت هذا الحكم في الجملة وبنحو القضية المهملة باعتبار ان المفروض في محل الكلام هو ان الجهة قطعية بلحاظ اصل الحكم وان السند ظني فعلى تقدير ان يكون الراوي صادقاً في نقله عن الامام لازمه ثبوت هذا الحكم في الجملة ومن هنا تتشكل لكلام الراوي الدال على كلام الامام دلالة التزامية على ثبوت الحكم في الجملة وبنحو القضية المهملة


وقد بينا في الحالة الثانية بان الخاص له دلالة التزامية عرفية وعقلية على قضية شرطية مفادها بان هذا الحكم لو كان ثابتاً في الجملة فهو ثابت في غير دائرة التخصيص، وفي تلك الحالة كنا نقطع بتحقق شرطها وفي المقام لا نحرزه بالقطع واليقين لان السند حسب الفرض ظني ولكن يمكن احرازه تعبداً بدليل حجية السند


والنتيجة: اننا نحرز ثبوت الحكم تعبداً وهو ان بعض الزوجات لا ترث بنحو القضية المهملة في غير ام الولد، وهذا المفاد أخص مطلقاً من العام الثاني، وهذه نفس النتيجة التي توصلنا اليها في الحالة السابقة


ثم أورد على نفسه اشكالاً واجابه لتوضيح المطلب فذكر: (لا يقال: عموم العام غير المخصّص ينفي حجية سند العام المخصص، لأن المعارضة تسري إلى سند العام المخصص بعد أن كان غير قطعي.


فإنه يقال: عموم العام إنما ينفي حجية الدال الأول فيما إذا لم يكن المخصص في البين، لعدم صلاحية الدلالة الالتزامية على ثبوت الحكم في الجملة المستفادة من شهادة الراوي للحديث العام بمجردها للقرينية وتخصيص العام الآخر، لأنها وإن كانت أخص إلاّ أنها دلالة لشهادة الراوي فلا تصلح لتقييد كلام الإمام (عليه ‌السلام) وأما بعد فرض ورود الخاصّ من المعصوم (عليه ‌السلام) فسوف تتشكل تلك الدلالة الالتزامية في حديث الإمام نفسه فتصلح للقرينية والتخصيص)[1]


والحاصل ان كلام الامام (عليه السلام) وان كان مدلوله المطابقي هو ثبوت الحكم بعدم ارث الزوجة مطلقاً الا ان المفروض عدم القطع بجدية هذا الاطلاق والعموم وانما فرض القطع بجدية أصل الحكم على فرض صدوره فلو كان الراوي عن الامام صادقاً في نقله لكان الحكم بعدم الإرث ثابتاً في الجملة لفرض القطع بجدية أصل الحكم على تقدير صدوره وبذلك ينعقد لكلام الراوي دلالة التزامية في ثبوت الحكم في الجملة وبنحو القضية المهملة على تقدير صدقه في نقله


فاذا ضممنا الى ذلك ما تقدم في المسالة الثانية من ان الخاص له دلالة التزامية على قضية شرطية وهي انه لو ثبت هذا الحكم بنحو القضية المهملة فهو ثابت في غير دائرة التخصيص وهذه الشرطية كان شرطها مقطوعاً به في الحالة السابقة، ولا قطع به هنا الا ان كلام الراوي يدل عليه بالدلالة الالتزامية وهو حجة بدليل حجية السند فيثبت الجزاء وهو عدم الإرث في غير ام الولد في الجملة، وهذا المفاد أخص من العام الثاني فيتقدم عليه بالتخصيص،


ومنه يظهر الفرق بين فرض وجود الخاص وعدمه وهو انه لولا هذا الخاص فكلام الراوي وان كان يدل بالدلالة الالتزامية على القضية المهملة الا انه لا يصلح لتخصيص كلام الامام (عليه السلام) في العام الثاني كما تقدم، ولكن بعد ورود الخاص الدال على القضية الشرطية المتقدمة والتي يكون مفادها اخص من العام الثاني فيتقدم عليه بالقرينية والاخصية بعد احراز شرطها تعبداً بدليل حجية كلام الراوي الدال على كلام الامام ولازمه ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة


الحالة الرابعة: ان يكون العام المخصص قطعي السند ظني الجهة فلا نقطع بجدية المتكلم في اصل الحكم فضلاً عن اطلاقه وعمومه، والحكم هنا كالحكم في الحالة الاولى التي كان فيها كل من العامين ظني سنداً وجهةً فيستحكم التعارض بينهما كالحالة الاولى؛ لان الخاص وان كان يدل على قضية شرطية بالالتزام وهي اخص من العام الثاني لكنه لا يوجد في هاتين الحالتين ما يثبت الشرط في هذه القضية الشرطية لا بالوجدان والقطع اذ المفروض ظنية الجهة ولا بالحجة والتعبد لان اصالة الجهة لا تدل على جدية القضية المهملة المنتزعة من العام وانما تدل على جدية المتكلم في مدلول كلامه، ومدلول كلامه (عليه السلام) في الخبر الاول انما هو القضية المطلقة وهو عدم ارث الزوجة مطلقاً لا المهملة المنتزعة عقلاً، واصالة الجد في العام الاول معارضة باصالة الجد في القضية المطلقة في العام الثاني لان المفروض ان كلاً منهما ظني الجهة


ثم ذكر (قده) ومنه يعرف الموقف بناءً على انكار انقلاب النسبة في الصور الباقية


 


[1] بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج7، ص311.


ما تقدم نقله عن السيد الشهيد (قده) في تحديد الموقف إذا لم نقل بانقلاب النسبة


اما الحالة الأولى وهي ما إذا كان كل من الدليلين ظنياً سنداً وجهةً وهي الحالة المتعارفة بين المتعارضين فما ذكره فيها صحيح فان قلنا بانقلاب النسبة فان العام الأول بعد تخصيصه تنقلب نسبته مع العام الثاني الى العموم والخصوص المطلق فيقدم عليه لأنه أخص منه، والنتيجة ان ام الولد ترث واما غيرها فلا ترث لأننا اخرجنا ما عداها من العام الثاني بالتخصيص، واما إذا لم نقل بانقلاب النسبة فيقع التعارض بين العامين في غير مورد التخصيص


واما الحالة الثانية وهي حالة ما اذا كان العام المخصص قطعي سنداً وجهةً فيلاحظ على ما ذكره السيد الشهيد (قده) بان تخصيص العام الثاني لا يتوقف على ضم المخصص كما ذكر في البيان السابق لان المفروض ان العام الأول قطعي سنداً وجهة فان نفس القطع بصدور العام الأول والقطع بجدية اصل الحكم فيه يستلزم القطع بثبوت اصل الحكم في الجملة وبنحو القضية المهملة بمعنى ان الحكم بعدم الإرث حكم صادر ومراد جداً، وهذه القضية المهملة تخصص العام الثاني بلا حاجة الى ضم المخصص الوارد في ام الولد وما يستفاد منه من القضية الشرطية، فإننا بمجرد ان نلتفت الى ان العام قطعي سنداً وجهة فهذا لوحده يثبت القضية المهملة والتي مفادها القطع بان الشارع حكم بعدم ارث الزوجة في الجملة، وهو اخص من العام الثاني ويخصصه بلا حاجة الى الاستعانة بالمخصص وما يستفاد منه من القضية الشرطية


وفيه: ان تقييد العام الثاني يحتاج الى احراز ان القضية التي يراد تخصيص العام الثاني بها أخص من العام الثاني واما إذا كانت مهملة مرددة بين ان تكون مطلقة فتكون مباينة للعام الثاني وان تكون جزئية فتكون أخص منه فلا يمكن تخصيص العام الثاني بها، نعم في ما اذا كان للقضية المهملة قدر متيقن فالقدر المتيقن يخصص العام الثاني بمعنى اخراج القدر المتيقن من العام الثاني دون غيره،


وهذا بخلاف ما إذا ضممنا المخصص فان له مدلول التزامي عرفي وهو ان الحكم في العام الأول لو كان ثابتاً في الجملة فهو ثابت في غير دائرة التخصيص، وهذه الشرطية شرطها قطعي لان العام الأول قطعي سنداً وجهة وحينئذ يثبت جزائها وهو ان الحكم بعدم الإرث ثابت في غير دائرة التخصيص في الجملة، وهذا المفاد أخص من العام الثاني فيتقدم عليه


فان قيل بان العام الأول أخص من العام الثاني لان العام الأول بتخصيصه بالمخصص وإخراج ام الولد منه يكون أخص من الثاني


قلنا: بان هذا رجوع الى القول بانقلاب النسبة بينما فرض الكلام على القول بعدم انقلاب النسبة ومعناه ان العام الأول ليس أخص من العام الثاني وانما بينهما تباين


والملاحظة الثانية على ما ذكره السيد الشهيد (قده) هي انه ليس واضحاً ارتفاع اشكال تخصيص كلام الامام بشهادة الراوي إذا ضممنا المخصص، وقد رفضه في الحالة الثالثة، فان المخصص شهادة للراوي، ففي هذه الحالة وان كنا نحرز الشرط بنحو القطع واليقين الا ان الجزاء امر تعبدي يثبت بالأدلة الدالة على حجية شهادة الراوي


وبعبارة أوضح: ان ترتب الجزاء على الشرط مدلول التزامي لشهادة الراوي في المخصص وليس مدلولاً التزامياً لحكم الامام في المخصص بان ام الولد لا ترث، فاذا كان ترتب الجزاء ترتباً تعبدياً فكيف نخصص العام الثاني بهذه الشهادة الصادرة من الراوي، فأي فرق بين الحالة الثالثة التي كان فيها العام ظني السند وحكم فيها السيد الشهيد بعدم امكان تخصيص العام الثاني لأنها شهادة من الراوي فلا يمكن تخصيص كلام الامام بها وبين الحالة الثانية


كان الكلام في الملاحظة الثانية على ما ذكره السيد الشهيد (قده) فقد يقال بانه لم يتضح الفرق بين العام الأول وبين المخصص فإننا اذا منعنا من تخصيص العام الثاني بالقضية المهملة المستفادة من العام الأول على أساس انها مستفادة من شهادة الراوي، وكلام شخص لا يخصص كلام شخص اخر، وهذا اذا ثبت في العام الأول بالنسبة الى العام الثاني فهو يثبت أيضاً في المخصص بالنسبة الى العام الثاني، فيقال بانك استعنت بالمخصص بضميمته الى مفاد العام الأول في تخصيص العام الثاني، فالقضية الشرطية في المخصص ثابتة أيضاً بشهادة الراوي


والجواب عنه حسب ما يفهم من كلامه (قده) انه يفترض ان المخصص له دلالتان مطابقية والتزامية اما المطابقية فهي دلالته على ان الزوجة إذا كانت ام ولد ترث من العقار ودلالته الالتزامية هي القضية الشرطية وهي ان عدم الإرث لو ثبت في الجملة فهو ثابت في غير ام الولد، والمدلول الالتزامي للمخصص من كلام الامام فنخصص العام الثاني بكلام الامام،


والسؤال في الحقيقة حول وجه الفرق بين المخصص وبين العام الأول، فلم منعت تخصيص العام الثاني بالقضية المهملة المستفادة من العام الأول وجوزت تخصيص العام الثاني بالقضية الشرطية المستفادة من المخصص؟


ويستفاد من كلامه (قده) ان الفرق بينهما هو ان القضية المهملة في العام انما تكون ثابتة بكلام الامام (عليه السلام) إذا كانت مدلولاً لكلام الامام ولو بالدلالة الإلتزامية، دون ما إذا لم تكن كذلك وانما هي قضية انتزاعية صرفة ينتزعها العقل، فالعقل ينتزع من كون العام قطعياً سنداً وجهةً بان الحكم بعدم الإرث ثابت في الزوجة في الجملة قطعاً


واما المخصص فهو يدعي بان القضية الشرطية فيه مدلول التزامي لكلام الامام فان قول الامام بان الزوجة ترث إذا كانت ام ولد فمدلوله الالتزامي العرفي بان عدم الإرث لو كان ثابتاً فهو ثابت في غير ام الولد قطعاً


ومن هنا يظهر ان المانع من تخصيص العام بالقضية الشرطية التي يدل عليها العام الأول هو امران:


الأول: ما ذكرناه من دخوله في باب تخصيص العام في كلام شخص بكلام شخص اخر لان القضية الشرطية ليست مدلولاً لكلام الامام وانما هي قضية عقلية انتزاعية صرفة


الثاني: ما أشرنا اليه من ان القضية المهملة إذا كانت مرددة بين المطلقة والجزئية لا تصلح لتخصيص العام، فان تخصيص العام انما يتم إذا أحرزنا ان ما نريد ان نخصصه به أخص منه مطلقاً


وقد يقال: بان هناك مانع اخر وهو ان عموم العام الأول وان لم يكن ثابتاً بالقطع واليقين ولكن لا مشكلة في اثبات عموم هذا الحكم لكل الزوجات بأصالة الجد فيكون جزء من العموم ثابت بالقطع واليقين والجزء الاخر ثابت بأصالة الجد فاذا ثبت عموم العام الأول يكون مبايناً للعام الثاني فكيف يمكن تخصيصه به


فان تخصيص العام الثاني بالعام الأول انما يكون إذا كانت القضية التي نريد تخصيص العام الثاني بها أخص من العام الثاني وهو يكون كذلك إذا قصرنا النظر على ما ثبت بالقطع واليقين من العام الأول


ويلاحظ عليه: باننا نعلم بان العموم في العام الأول غير مراد جداً قطعاً لوجود المخصص فانه خرج منه ام الولد


فالصحيح ان المانع من تخصيص العام الثاني بالقضية الشرطية هو ما ذكرناه


تعليقات