الأصل المثبت

سماحة الشيخ عباس السراج

المبحث الأوّل : الأصل المثبت

وفيه مطالب ثلاثة :

الأوّل : دلالة الأصل المثبت ، وحجّيّته .

الثاني : الموارد التي يُحتمل دخولها في الأصل المثبت .

وفيه مقاصد ثلاثة :

الأوّل : جريان الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر الكلّيّ عليه .

الثاني  : الأثر المترتب الذي يكون مجعولاً بمنشأ انتزاعه .

الثالث : استصحاب البراءة عن التكليف لنفي العقاب .

الثالث : ترتّب بعض الآثار العقليّة والعاديّة على الأصل .


المطلب الأوّل: دلالة الأصل المثبت، وحجّيّته

الغرض من عقد هذا المطلب هو البحث عن أنَّ الاستصحاب هل يجري لإثبات الآثار الشرعيّة التي لا تترتّب على نفس المستصحب شرعاً، بل إنّما تترتّب هذه الآثار الشرعيّة على ما يلازمه عقلاً أو لا يجري الاستصحاب ؟

وبتعبير آخر: إذا كان للمستصحب لازمٌ عقليٌّ أو عاديٌّ وكان لذلك اللازم أثرٌ شرعيٌّ فهل يترتّب ذلك الأثر الشرعيّ على مجرّد ملزومه أو لا ؟ فالبحث ها هنا عن حجّيّة الأصل المثبت وعدمها، ولذا اشتهر هذا بين الأصوليّين بـ (تنبيه الأصل المثبت).

ولا يخفى أنَّ البحث في هذا المطلب من أهم المباحث المتعلّقة بالاستصحاب وسائر الأصول العملية؛ لأنّها تتعلّق بأركان الاستصحاب من اليقين والشكِّ والأثر الشرعيّ المترتّب على المستصحب. وهذا التنبيه يُبحث فيه عن اختصاص جريان الاستصحاب بما إذا ترتّب أثرٌ شرعيٌّ على نفس المستصحب، وأنّه لا يشمل الأثر الشرعيّ المترتّب على المستصحب بواسطة عقليّة أو عاديّة.

وعليه فلابدَّ من البحث عن عموم دليل الاستصحاب وشموله للأثر مع الواسطة غير الشرعيّة، وعدمه.

ولو لم يكن الاستصحاب المثبت للأثر المترتّب على واسطة غير شرعية حجّةً، فعدم حجّيّة مثبتات سائر الأصول الفاقدة لجهة التنزيل والإحراز – كالبراءة والاحتياط – يكون بالأولويّة ([1]).


وقد مثّل الأصوليّون للازم العقليّ: ما إذا لاقى الثوب المتنجّس للماء الذي شُكَّ في بقائه على الكرّيّة، فيستصحب بقاء كرّيّته إلى زمان الملاقاة، ويلزمه عقلاً ملاقاة الثوب للماء في حال الكرّيّة، ويترتّب على هذا اللازم العقليّ للمستصحب أثرٌ شرعيٌّ هو طهارة الثوب، فحينئذٍ يُبحث عن جواز ترتيب الأثر الشرعيّ – وهو طهارة الثوب – المترتّب على اللازم العقليّ – وهو ملاقاة الثوب للماء في حال الكرّيّة – بمجرّد استصحاب ملزوم ذلك اللازم العقليّ – أي بقاء كرّيّة الماء إلى زمان الملاقاة – وعدم جواز ترتيب الأثر الشرعيّ.


وقد مثّل الأصوليّون للازم العاديّ: استصحاب حياة الولد؛ فإنَّ لحياته أثراً غير شرعيّ وهو نبات اللحية، فلو فرضنا أنَّ الأب نذر التصدّق بدرهم على تقدير نبات لحية الولد، فغاب عنه بعد ولاته لمدّة عشرين سنة – مثلاً –، فلا إشكال بجريان استصحاب حياة الولد عند الشكِّ ببقائها، فيكون المستصحب في المقام حياة الولد، وللمستصحب لازمٌ عاديٌّ وهو نبات اللحية؛ إذ يلزم بحسب العادة والطبع نبات لحيته في هذا السنّ، ويترتّب على هذا اللازم العادي – وهو نبات اللحية – أثرٌ شرعيٌّ وهو وجوب التصدّق ([2]).


ولا شبهة عند الأصوليّين في ترتيب جميع آثار المستصحب الشرعيّة والعقليّة، فإذا فرض أنَّ لوجوب صلاة الجمعة أثراً شرعيّاً كوجوب التصدّق المترتّب على وجوب الجمعة بنذرٍ وشبهه وجب ترتيبه عند استصحاب وجوب الصلاة، وهكذا يترتّب على المستصحب أثره العقليّ من وجوب موافقته وحرمة مخالفته واستحقاق العقوبة على عصيانه.


وإنّما الإشكال والكلام في ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة غير شرعيّة – عقليّة كانت أم عاديّة – ([3]). ويسمّى الاستصحاب حينئذٍ بـ (الأصل المثبت) ([4])، وتجدر الإشارة إلى أنّ أوّل مَنْ عنْون عدم حجّيّة الأصل المثبت هو الشيخ جعفر الكبير (ت 1228 هـ) في كشف الغطاء وتبعه الفقهاء من بعده كما جاء في شرح المحقّق محمّد حسن الآشتيانيّ (ت 1319 هـ) ([5]) عن مجلس درس الشيخ الأنصاريّ ([6]).


ومنشأ الإشكال أنَّ مفاد أخبار الاستصحاب – كصحيحة زرارة الأولى ([7]) وغيرها – تحتمل وجوهاً ثلاثة:


الوجه (الاحتمال) الأوّل: أنَّ مفاد الأخبار هو تنزيل المستصحب والتعبّد به وحده بلحاظ أثره الشرعيّ المترتّب عليه بلا واسطة، كالتعبّد بالطهارة المشكوكة بلحاظ أثرها وهو جواز مسّ كتابة القرآن مثلاً ([8]).


الوجه (الاحتمال) الثاني: أنَّ مفاد الأخبار التعبّد بـ:


أ – المستصحب.


ب – لوازمه العقليّة والعاديّة.


كما هو الحال في تنزيل مؤدّيات الطرق والأمارات، فكما أنَّ تنزيل الأمارات لا يختصّ بالمؤدّى واللازم، فكذا الحال في الأصل المثبت فإنَّ التنزيل يعمّ المستصحب واللوازم ([9]).


الوجه (الاحتمال) الثالث: أنَّ مفاد الأخبار هو التعبّد ببقاء المستصحب بلحاظ أثره الشرعيّ مطلقاً، ولو مع الواسطة، فيكون مفاد قوله (A): ((... لا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) ([10]) ترتيب جميع الآثار الشرعيّة، سواءً كانت مترتّبة بلا واسطة أم معها، فالمطلوب في هذا الوجه هو التعبّد بالأثر الشرعيّ فقط، وإنْ كان مترتّباً على واسطة عقليّة أو عاديّة.


منشأ هذه الوجوه (الاحتمالات)


إنَّ مفاد أخبار الاستصحاب لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه فقط (أي الوجه الأوّل) لم يترتّب عليه ما كان مترتّباً على لوازمه العقليّة والعاديّة من الآثار، فاستصحاب حياة الولد – مثلاً – لا يترتّب عليها إلاَّ الآثار الشرعيّة المجعولة لنفس الحياة، كحرمة تقسيم أمواله على الورثة وحرمة التزويج بزوجته ونحوهما، ولا يترتّب على هذا الاستصحاب الآثار الشرعيّة المترتّبة على لوازم الحياة كنبات اللحية وابيضاضها؛ وذلك لعدم إحراز تلك اللوازم:


أ – لا حقيقةً (أي بالعلم الوجدانيّ).


ب – ولا تعبّداً (أي بالأخبار)؛ إذ المفروض أنَّ مفاد الأخبار تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه فقط دون آثار لوازمه، ولعدم كون تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق آثاره، وإنْ كان مع الواسطة.


وهذا بخلاف ما لو كان تنزيل الشيء مع لوازمه كما هو مقتضى الوجه (الاحتمال) الثاني، أو تنزيل الشيء بلحاظ مطلق آثاره كما هو مقتضى الوجه الثالث؛ فإنَّ الآثار الثابتة للوازم تترتّب على المستصحب؛ فإنَّ أثر الواسطة أثرٌ لذي الواسطة بناءً على هذين الوجهين؛ باعتبار أنَّ أثرَ الأثر أثرٌ ([11]).


 


 


الصحيح من هذه الوجوه (الاحتمالات)


 الظاهر أنَّ أخبار الاستصحاب تدلّ على الاحتمال الأوّل؛ لأنَّ تلك الأخبار إنّما تدلّ على التعبّد بما كان على يقين منه وهو المستصحب، فالتعبّد إنّما يكون بآثار نفس ما تعلّق به اليقين وأحكامه؛ لأنّه هو المتيقّن وهو المشكوك، ولا دلالة لتلك الأخبار على تنزيل المستصحب مع لوازمه.


فالنتيجة: أنَّ الآثار لا تترتّب إلاَّ بلحاظ ما تعلّق به اليقين، فكما أنَّ آثار نفس المستصحب لا تترتّب إلاَّ بلحاظ المستصحب فكذلك آثار لوازم المستصحب لا تُستصحب إلاَّ بلحاظ تلك اللوازم، والمفروض عدم دلالة أخبار الاستصحاب على لحاظها فلا تترتّب آثارها ([12])، وانصراف إطلاقات أخبار الاستصحاب إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة؛ لأنَّ الإبقاء العمليّ للشيء ينصرف إلى إتيان ما يقتضيه ذلك الشيء بلا واسطة ([13]).


وعليه فلا يكون الأصل المثبت (أي الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة والعاديّة للمستصحب) حجّةً.


 


حجّيّة بعض مثبتات الأصول (+)


 ذكر الشيخ الأنصاريّ ([14])، والآخوند الخراسانيّ ([15])، وغيرهما ([16])، موارد لاستثناء عدم حجّيّة الأصل المثبت، منها:


المورد الأوّل: ما إذا كانت الواسطة خفيّةً بنظر العرف، إذ يعدّ العرف الأثر المترتّب على الواسطة مترتّباً على المستصحب مباشرةً.


ومثاله في الشرعيّات استصحاب بقاء رطوبة الثوب الذي سقط على أرض متنجّسة جافّة لإثبات نجاسته، مع أنَّ النجاسة ليست من آثار رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجّسة حتّى تثبت نجاسة الثوب باستصحاب الرطوبة، بل من آثار سراية النجاسة من الأرض المتنجّسة إلى الثوب بواسطة الرطوبة، فالسراية إنّما هي من لوازم الرطوبة، والنجاسة أثرٌ لهذا اللازم – أي للسراية –، فتكون السراية واسطةً بين الرطوبة وبين النجاسة؛ لأنَّ النجاسة إنّما تترتّب على الرطوبة بواسطة السراية، ولكن مع ذلك يترتّب الحكم بنجاسة الثوب باستصحاب بقاء الرطوبة بدعوى خفاء الواسطة – وهي السراية – إذ يرى العرف أنَّ نجاسة الثوب من آثار ملاقاته للأرض المتنجّسة مع الرطوبة لا من آثار السراية ([17]).


وبعبارة أخرى: إنَّ المتفاهم العرفيّ من أخبار حجّيّة الاستصحاب أنَّ مفادها يشمل حقيقةً أمران:


أ – أثر نفس المستصحب.


ب – أثر الواسطة الخفيّة ([18]).


مناقشة وتعقيب


يبدو أنَّ ما أفاده هؤلاء الأعلام – من أنَّ العرف عند خفاء الواسطة يرى أنَّ الأثر الثابت للواسطة أثرٌ لذيها –         لا يخلو من ضعف.


وجه الضعف: إنَّ المراد بالأثر هو الحكم الذي يعرض على موضوعه، ومن الواضح أنَّ حكم الواسطة لا يعدّ حكماً لذي الواسطة بنظر العرف مهما كانت الواسطة خفيّةً؛ فإنَّ العارض على اللازم لا يكون عارضاً على الملزوم حتّى بنظر العرف . ولأجل ذلك ذهب كلٌّ من المحقَّقين النائينيّ ([19]) والأصفهانيّ ([20])، والسيّد الخوئيّ ([21])، إلى عدم استثناء المورد من عدم حجّيّة الأصل المثبت، وتبنّوا عدم الحجّيّة في هذا المورد.


 


والظاهر أنَّ ما ذكره المحقّق النائينيّ والآخرون هو الأولى بالإتّباع، والأحرى بالقبول.


المورد الثاني: ما ذكره الآخوند الخراسانيّ ([22]) وغيره ([23])، وحاصله:


ما إذا لم تكن الواسطة خفيّةً بنظر العرف، بل في صورة جلاء الواسطة ووضوحها بنحوٍ يمتنع التفكيك عرفاً بين الواسطة وبين المستصحب تنزيلاً وواقعاً، ويكون التعبّد بأحدهما تعبّداً بالآخر، فإذا نُزّل المستصحب نُزّلت الواسطة تبعاً، فيجب ترتيب أثرها قهراً، وذلك كالمتضايفين كاستصحاب بقاء زيد زوجاً الذي يلازم بقاء هند – مثلاً – على زوجيتها، وكالأبوّة والبنوّة؛ فإنَّ التعبّد بالأبوّة يلزم التعبّد بآثار البنوّة أيضاً؛ لوضوح الملازمة بينهما، فإذا دلَّ دليلٌ على التعبّد بأبوّة زيد لعمرو – مثلاً – فيدلّ أيضاً على التعبّد ببنوّة عمرو لزيد، فكما يترتّب أثر أبوّة زيد لعمرو كوجوب الإنفاق على عمرو – مثلاً –، كذلك يترتّب أثر بنوّة عمرو لزيد كوجوب الإنفاق على زيد لو كان فقيراً، ووجوب قضاء الصلاة عنه إذا فاتته عن عذرٍ – مثلاً – ونحو ذلك. فتنزيل أبوّة زيد لعمرو يلازم تنزيل بنوّة عمرو لزيد عرفاً وواقعاً ([24]).


وبعبارة أخرى: إنَّ العرف لا يفهم من جعل أحدهما إلاَّ جعل الآخر، ولا يصحّ عندهم ترتيب آثار الزوجيّة على خصوص الزوج دون زوجته، بل يرون هذا من قبيل التناقض في الجعل والحكم ([25]).


مناقشة وتعقيب


يبدو أنَّ ما أفاده الآخوند الخراسانيّ لا يخلو من مناقشة؛ وذلك لأنَّ المورد خارجٌ عن محلّ الكلام؛ فإنَّ المتضايفين – كالأبوّة والبنوّة – متكافئان، فاليقين بأحدهما – كالأبوّة – يستلزم اليقين بالآخر – كالبنوّة –، فيكون كلٌّ من المتضايفين مجرى الاستصحاب مستقلاًّ.


فالنتيجة: أنّه ليس العلاقة بين المتضايفين – الأبوّة والبنوّة – تلازم حتّى يكون داخلاً في المورد، بل العلاقة بينهما تكافؤ، فيكون الكلام فيهما خارجاً عن محلّ البحث.


المورد الثالث: ما ذكره الآخوند الخراسانيّ أيضاً وغيره ([26])، وحاصله:


أنْ تكون الواسطة لأجل وضوح لزومها للمستصحب أو ملازمتها معه بمثابة عُدَّ أثر الواسطة أثراً للواسطة وللمستصحب.


أمّا مثال اللازم: كضوء الشمس اللازم لاستصحاب بقائها، فإنَّ بقاء الشمس لازمه استصحاب بقاء ضوءها الموجب لترتّب أثره الشرعيّ عليه وهو طهارة الأرض المجفّفة بالضوء.


وأمّا مثال الملازم: كالعلّة التامّة والمعلول، فإنَّ التعبّد بالعلّة ملازمٌ للتعبّد بالمعلول؛ لعدم إمكان اليقين بالعلّة التامّة بلا يقين بمعلولها، فإذا جرى استصحاب العلّة التامّة جرى استصحاب معلولها أيضاً ([27]).


ومثاله في الشرعيّات: استصحاب عدم دخول هلال شهر شوّال أو بقاء شهر رمضان في يوم الشكِّ المثبت لكون اليوم الآخر (يوم الغد) أنّه أوّل أيّام عيد الفطر، فيترتّب عليه أحكام العيد من:


أ – صلاة يوم العيد.


ب – الغسل.


ج – دفع زكاة الفطرة. ونحو ذلك.


فإنَّ اتّصاف الغد بصفة العيد بعد استصحاب بقاء شهر رمضان في يوم الشكِّ من اللوازم العقليّة قطعاً، ولكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء شهر رمضان وعدم دخول شهر شوّال إلاَّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر، وأوّليّة غده لشهر آخر؛ لأجل وضوح لزوم أحدهما للآخر وعدم انفكاكهما في جعل الأحكام ([28]).


فالنتيجة: أنَّ الموارد المستثناة من الأصل المثبت يكون عدم ترتيب مثل هذا الأثر – أي أثر الواسطة الجليّة أو الخفيّة على المستصحب – نقضاً لليقين بالشكِّ، كما يكون عدم ترتيب أثر نفس المستصحب عليه نقضاً لليقين بالشكِّ.


وتجدر الإشارة إلى أنَّ الفرق بين الموردين الثاني والثالث، أنّه في المورد الثاني يمتنع التفكيك بين الأثر والمستصحب عرفاً وواقعاً، بينما في المورد الثالث يمتنع التفكيك بينهما عرفاً فقط؛ ضرورة أنّه يمكن التفكيك الواقعيّ بينهما في هذا المورد.


مناقشة وتعقيب


يبدو أنَّ ما أفاده الآخوند الخراسانيّ لا يخلو من مناقشة؛ وذلك لأنَّ المورد المذكور خارجٌ عن محلّ الكلام أيضاً كما هو الحال في المورد الثاني أيضاً؛ فإنَّ اليقين بحدوث العلّة التامّة يستلزم اليقين بالمعلول، فيكون كلٌّ من العلّة والمعلول مجرى الاستصحاب مستقلاًّ ([29]).


وبعبارة أخرى: إنَّ الكلام فيما إذا كان الملزوم فقط مورداً للتعبّد ومتعلّقاً لليقين والشكِّ دون لازمه، بينما يكون المورد – أي العلاقة بين العلّة والمعلول – مورداً للتعبّد الاستصحابي؛ فإنّه لا يمكن اليقين بالعلّة التامّة بلا يقين بمعلولها، فتكون العلّة والمعلول مورداً للتعبّد ومتعلّقاً لليقين والشكِّ بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت، فيجري الاستصحاب في نفس اللازم بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت؛ لأنَّ اليقين والشكِّ تعلّق بالعلّة والمعلول معاً.


 


وعليه فما ذكره بعض الأعلام كالآخوند الخراسانيّ وغيره من عدِّ الموارد الثلاثة المتقدّمة استثناءً من عدم حجّيّة الأصل المثبت لا يرجع إلى معنى محصّل.


المطلب الثاني: الموارد التي يُحتمل دخولها في الأصل المثبت


وفيه:


المقصد الأوّل: جريان الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر الكلّيّ عليه


 


إنَّ الأثر المترتّب على المستصحب على أقسام ثلاثة:


الأوّل: أنْ يكون الأثر مترتّباً على المستصحب بلا واسطة شيءٍ، كما إذا علمنا بعدالة زيد ثمَّ شككنا في بقاء عدالته، فنستصحب عدالته، ويترتّب على ذلك جواز الائتمام به الذي هو من آثار استصحاب العدالة. والمعروف بين الأصوليّين أنَّ هذا الأثر – أي العدالة في المثال المذكور – ممّا يترتّب على المستصحب بلا إشكال.


الثاني: أنْ يكون الأثر مترتّباً على لازم المستصحب أو ملزومه أو ملازمه أوّلاً وبالذات، ويترتّب على المستصحب بواسطة لازمه أو ملزومه أو ملازمه.


وقد تقدّم في المطلب الأوّل عدم جواز ترتيب مثل هذا الأثر على المستصحب؛ فإنّه من الأصل المثبت، والمعروف بين الأصوليّين عدم حجّيّته.


الثالث: أنْ يكون الأثر مترتّباً على المستصحب بواسطة عنوان كلّيّ ينطبق على المستصحب ويُحمل عليه بالحمل الشايع الصناعيّ.


وفي هذا القسم أنحاء ثلاثة:


1 – أنْ يكون ذلك العنوان الكلّيّ منتزعاً عن مرتبة ذات المستصحب كالإنسان وفرده، فإنَّ الإنسان منتزعٌ عن مرتبة ذات زيد المستصحب بلا وساطة شيءٍ آخر، كاستصحاب زيد لترتيب الأثر المترتّب على الإنسان – إنْ كان هناك أثراً مترتّباً عليه – المتّحد مع زيد في الوجود الخارجيّ؛ فإنَّ الكلّيّ متّحدٌ مع فرده في الخارج.


2 – أنْ يكون ذلك العنوان الكلّيّ منتزعاً عن بعض عوارض المستصحب التي لا وجود لها في الخارج ممّا تكون من الخارج المحمول[30] (+)، وذلك كالأمر الانتزاعيّ بالنسبة إلى منشأ انتزاعه، كالفوق والسقف ونحو ذلك، فإذا شككنا في بقاء الغصبيّة – مثلاً – التي هي عنوان انتزاعيّ جرى استصحابها لترتيب الأثر الشرعيّ عليها وهو حرمة التصرّف، وكذلك الوكالة فإنّها أمر انتزاعيّ، فمَنْ كان متّصفاً بالوكالة وشكَّ في بقائها أمكن استصحابها لترتيب الأثر الشرعيّ المترتّب على هذا العنوان الكلّيّ وهو عنوان الوكالة من أنحاء التصرّفات.


3 – أنْ يكون ذلك العنوان الكلّيّ منتزعاً عن بعض عوارض المستصحب المتأصّلة التي لها وجود في الخارج ممّا تكون من المحمول بالضميمة، كالأسود والأبيض بالنسبة إلى المعنون ([31]).


 


والغرض من عقد هذا المطلب بيان أنَّ الاستصحاب هل يجري في القسم الثالث بأنحائه الثلاثة أو لا ؟


وفي ذلك أقوال:


القول الأوّل: ما يظهر من الشيخ الأنصاريّ ([32])، من أنّه لا يترتّب على المستصحب أثر محموله مطلقاً، وفي الأنحاء الثلاثة؛ لكونه من الأصل المثبت، وهو في حقيقته داخلٌ في القسم الثاني الذي لا يكون حجّة كما تقدّم.


 


القول الثاني: تفصيل الآخوند الخراسانيّ بين الأنحاء الثلاثة، فذهب إلى عدم كون النحوين الأوّليّين من الأصل المثبت، وبالتالي يكونان حجّة، بخلاف النحو الثالث فإنّه من الأصل المثبت، ولا يكون حجّة ([33]).


ويمكن تقريب كلامه بما حاصله:


أمّا كون النحوان الأوّليّان ليسا من الأصل المثبت: فلأنَّ الأثر فيهما للمستصحب حقيقة.


أمّا في النحو الأوّل: فإنَّ الأثر الشرعيّ وإنْ كان مترتّباً على الطبيعة الكلّيّة إلاَّ أنَّ الكلّيّ لا يعدّ لازماً عقليّاً للفرد كي يكون الاستصحاب الجاري فيه من الأصل المثبت، بل الكلّيّ عين الفرد وجوداً ومتّحدٌ معه خارجاً، فإذا كان في الخارج فردٌ من الخمر وشككنا في صيرورته خلاًّ فباستصحاب الخمريّة نحكم بحرمته ونجاسة فرد الخمر، مع كون الحرمة والنجاسة من أحكام طبيعة الخمر؛ لأنَّ الكلّيّ عين الفرد لا أنّه لازمه.


وأمّا النحو الثاني: فإنَّ الأثر الشرعيّ وإنْ كان أثراً للأمر الانتزاعيّ إلاَّ أنّه حيث لا يكون بحذائه (بإزائه) شيءٌ في الخارج كان الأثر في الحقيقة أثراً لمنشأ الانتزاع، فالأثر الشرعيّ المترتّب على الأمر الانتزاعيّ مترتّبٌ حقيقةً على منشأ انتزاعه؛ إذ لا وجود للأمر الانتزاعيّ – كالفوقيّة – إلاَّ بوجود منشأ انتزاعه – كالفوق – .


أمّا كون النحو الثالث من الأصل المثبت: أي الأعراض التي تكون بنفسها موجودة في الخارج، ويعبّر عنها بالمحمول بالضميمة – كما تقدّم –، كالبياض مثلاً لزيد، فإنّه لو كان لبياض زيد أثرٌ لم يمكن ترتيبه على استصحاب زيد؛ لأنَّ البياض مغايرٌ لزيد وجوداً، فيكون الاستصحاب الجاري فيه لترتيب هذا الأثر من الأصل المثبت، وقد تقدّم أنّه لا يكون حجّة ([34]).


 


القول الثالث: ما يظهر من السيّد الخمينيّ من التفصيل بين الأنحاء الثلاثة، فذهب إلى عدم كون النحو الأوّل من الأصل المثبت وبالتالي يكون حجّة، بخلاف النحوين الثاني والثالث فإنّهما من الأصل المثبت، ولا يكونان حجّة ([35]).


وتفصيله لا يختلف مع رأي الآخوند الخراسانيّ إلاَّ في النحو الثاني – أي خارج المحمول –؛ إذ ألحقه بالنحو الثالث – أي المحمول بالضميمة – حكماً، وجعلهما من جهة الحكم واحداً، ولا يكون الاستصحاب فيهما حجّة؛ لأنّه من الأصل المثبت.


والظاهر أنَّ ما ذكره الآخوند من التفصيل هو الأحرى بالقبول، والأقرب إلى الواقع من بقيّة الأقوال؛ فلا فرق بين الكلّيّ وفرده في الخارج، ولا بين الأمر الانتزاعيّ ومنشأ انتزاعه.


المقصد الثاني: الأثر المترتب الذي يكون مجعولاً بمنشأ انتزاعه (+)


اختلفت كلمات الأصوليّين في جريان الاستصحاب في الجزء أو الشرط أو المانع ونحوها لترتيب آثار الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة على أقوال، منها:


الأوّل: ما اختاره الشيخ الأنصاريّ من عدم جريان الاستصحاب في المقام.


واستدلّ على ذلك: بأنَّ الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ونحوها ليست من الآثار الشرعيّة حتّى يصحّ جريان الاستصحاب فيها، بل هي من الأمور الانتزاعيّة التي لا تثبت بالاستصحاب إلاَّ بناءً على القول بحجّيّة الأصل المثبت، والمعروف عدم حجّيّته.


وقد أشار إلى ذلك بقوله: (... فإنَّ شرطيّة الطهارة للصلاة ليست مجعولةً بجعلٍ مغايرٍ لإنشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة، وكذا مانعيّة النجاسة ليست إلاَّ منتزَعة من المنع عن الصلاة في النجس، وكذا الجزئيّة منتزَعةٌ من الأمر بالمركّب) ([36]).


 


الثاني: ما تبنّاه الآخوند الخراسانيّ ([37]) من جريان الاستصحاب في الشرط لإثبات الشرطيّة، وفي الجزء لإثبات الجزئيّة، وفي المانع لإثبات المانعيّة، ونحو ذلك.


بتقريب: أنّه لا فرق في الأثر المترتّب على المستصحب بين:


أ – أنْ يكون الأثر مجعولاً شرعاً بنفسه (أي استقلالاً) كالأحكام التكليفيّة، وبعض الأحكام الوضعيّة كالحجّيّة والقضاوة والولاية وغير ذلك.


ب – أو يكون الأثر مجعولاً بجعل منشأ انتزاعه (أي تبعاً) كالجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة؛ فإنَّ الجزئيّة غير مجعولة بنفسها وإنّما المجعول بالاستقلال هو منشأ انتزاعها وهو الأمر الضمنيّ المتعلّق بالجزء، وكذا الحال في الشرطيّة؛ فإنّها غير مجعولة بنفسها وإنّما مجعولة تبعاً لمنشأ انتزاعها وهو الأمر المتعلّق بالوضوء – مثلاً –، وكذا المانعيّة؛ فإنّها مجعولةٌ تبعاً لمنشأ انتزاعها وهو النهي المتعلّق بلبس ما لا يؤكل في الصلاة – مثلاً –.


الوجه في عدم الفرق: إنَّ الأثر المجعول تبعاً لمنشأ انتزاعه حاله حال الأثر المجعول بنفسه ممّا تناله يد الجعل شرعاً، ويكون أمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً، ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه، فكلٌّ من المجعول بنفسه – أي الجزء أو الشرط أو المانع ونحوها –، والمجعول بمنشأ انتزاعه – أي الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة ونحوها – مشتملٌ على ما يعتبر في الاستصحاب من كون الأثر المترتّب عليه ممّا تناله يد الشارع، ولا يشترط أنْ يضع الشارع الجزئيّة – مثلاً – مباشرةً، فيضع منشأ انتزاعها – أي الجزء – فتنالها يد الجعل، وكذا يرفعها برفع منشأ انتزاعها، وعليه فلا وجه لاعتبار أنْ يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلاًّ ([38]).


فالنتيجة: إنَّ استصحاب في المقام على موردين:


1 – استصحاب الشرط لإثبات الشرطيّة كالطهارة لترتيب أثار الشرطيّة وهي جواز الدخول في الصلاة ونحو ذلك.


2 – استصحاب المانع لإثبات المانعيّة كإثبات النجاسة لترتيب آثار المانعيّة وهي عدم جواز الدخول في الصلاة ونحوه.


فالاستصحاب في الموردين وغيرها – كاستصحاب الجزئيّة ونحوها – ليس بمثبت؛ إذ المفروض أنَّ الشرطيّة والمانعيّة والجزئيّة ونحوها ممّا تنالها يد الشارع أيضاً، وليست هي أمور عقليّة أو عاديّة ليكون الاستصحاب مثبتاً بالنسبة إليها كما توهّمه الشيخ الأنصاريّ في كلامه المتقدّم آنفاً.


 


الثالث: ما ذهب إليه السيّد الخوئيّ – بعد أنكر على الآخوند الخراسانيّ كون الشرطيّة من آثار وجود الشرط كي تترتّب على استصحاب الشرط، أو الجزئيّة من آثار وجود الجزء كي تترتّب على استصحاب الجزء – . فقد ذهب إلى أنَّ الشرطيّة – مثلاً – تكون منتزعةً في مرحلة الجعل عن أمر المولى بشيءٍ كالأمر بالصلاة مثلاً مقيّداً بشيءٍ آخر كالوضوء، بحيث يكون التقيّد (أي تقيّد الصلاة بالطهارة) في الشرطيّة داخلاً ويكون القيد (أي نفس الطهارة) خارجاً.


وبعد أنكر ذلك وجّه جريان الاستصحاب في الشرط بما حاصله: أنّه لا ملزم لاعتبار كون المستصحب بنفسه مجعولاً شرعيّاً أو موضوعاً لمجعول شرعيّ كي يقال: إنَّ الشرطيّة ليست مجعولةً شرعيّة، بل المعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب قابلاً للتعبّد، والحكم بوجود الشرط كذلك – أي قابلاً للتعبّد –؛ فإنَّ معنى جريان الاستصحاب في الشرط هو الاكتفاء بوجوده الاحتماليّ في مقام الامتثال بالتعبّد الشرعيّ.


فالنتيجة: أنّه لا محذور في استصحاب الشرط بعد أنْ كان قابلاً للتعبّد به، فيصحّ استصحابه بلا إشكال ([39]).


 


والظاهر أنَّ ما ذكره الآخوند هو الأحرى بالقبول، والأقرب إلى الواقع من بقيّة الأقوال؛ لنفس السبب المتقدّم في الأمر الثاني السابق .


 


المقصد الثالث: استصحاب البراءة عن التكليف لنفي العقاب


اختلفت كلمات الأصوليّين في جريان استصحاب البراءة عن التكليف الثابت في الصغر لنفي العقاب على أقوال:


القول الأوّل: ما اختاره الشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الأصفهانيّ ([40])، وأكثر مَنْ تأخّر عنه كما هو ظاهر الآخوند الخراسانيّ ([41])، من استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون.


بتقريب: إنَّ المكلّف قبل بلوغه لم يُجعل في حقّه التكليف الفلاني، فإذا بلغ وشكَّ اُستصحب عدم جعل التكليف الثابت سابقاً.


فلا فرق في المستصحب أو الأثر المترتّب على المستصحب بين:


أ – أنْ يكون ثبوت التكليف ووجوده.


ب – أو نفي التكليف وعدمه.


فجريان الاستصحاب ليس منوطاً بكون المستصحب أو أثره أمراً وجوديّاً، بل منوطٌ بأمرين:


1 – أنْ يكون المستصحب أو أثره قابلاً للتعبّد.


2 – أنْ يكون ثبوته ونفيه بيد الشارع.


ومن المعلوم أنَّ نفي التكليف قابلٌ للتعبّد كثبوته؛ إذ نفي العقاب وثبوته بيد الشارع ([42]).


وبعبارة أخرى: إنَّ المستصحب وهو عدم التكليف وإنْ لم يكن حكماً، إلاَّ أنَّ مجرّد عدم إطلاق الحكم عليه لا يضرّ في جريان الاستصحاب؛ إذ لا دليل على اعتبار إطلاق الحكم على المستصحب في جريان الاستصحاب، بل المعتبر في جريانه هو صدق نقض اليقين بالشكِّ، وهو حاصلٌ هنا؛ إذ يصدق النقض المنهيّ عنه في الأخبار برفع اليد عن عدم الحكم ([43]).


 


القول الثاني: ما تبنّاه الشيخ الأنصاريّ من عدم جريان استصحاب البراءة في المقام، وأنَّ الاستصحاب لا يجري في الحكم العقليّ.


بتقريب: إنَّ الثابت في الاستصحاب بمقتضى الأخبار ترتّب الآثار الشرعيّة للمستصحب – كما تقدّم آنفاً –، والمفروض أنَّ المستصحب في المقام ليس إلاَّ براءة الذمّة من التكليف وعدم استحقاق العقاب عليه، وبما أنَّ نتيجة الاستصحاب هو عدم حصول القطع بعدم التكليف بل يبقى احتمال التكليف موجوداً حتّى مع جريان الاستصحاب، فنحتاج حينئذٍ إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حتّى يأمن المكلّف من العقاب،


ومع انضمام حكم العقل هذا فلا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة؛ فإنَّ المطلوب – وهو براءة الذمّة وعدم استحقاق العقاب – لا يترتّب على الاستصحاب المذكور في الواقع، بل يتوقّف على حكم العقل([44]).


وعليه فالاستدلال باستصحاب البراءة يتوقّف على حجّيّة الأصل المثبت؛ إذ أنَّ المستصحب في هذا الاستصحاب هو براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل، والأثر المترتّب على المستصحب هو عدم استحقاق العقاب في الآخرة، ومن الواضح أنّه ليس من الأحكام الشرعيّة المجعولة حتّى يثبت بالاستصحاب.


فالنتيجة: أنّه لا مجال للاستدلال بالاستصحاب على البراءة لكونه مثبتاً؛ ضرورة أنَّ الأثر المترتّب على المستصحب – وهو عدم استحقاق العقاب في الآخرة – ليس من اللوازم الشرعيّة حتّى يثبت بالاستصحاب.


 


تعقيب ومناقشة


يبدو أنَّ ما ذكره الشيخ الأنصاريّ قابلٌ للمناقشة؛ فإنَّ عدم استحقاق العقوبة وإنْ لم يكن من اللوازم المجعولة شرعاً حتّى يترتّب على استصحاب عدم المنع من الفعل، ولكن لا حاجة إلى ترتيب أثر شرعيّ على استصحاب عدم المنع من الفعل؛ وذلك لأنَّ عدم المنع بنفسه ممّا تناله يد التشريع والجعل، فيجري فيه الاستصحاب ويترتّب عليه عدم الاستحقاق، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك، فإذا اُستصحب عدم المنع من الفعل رُتّب عليه قهراً عدم ترتيب العقاب في الآخرة.


وفي ضوء ما تقدّم فالقول الأوّل الذي تبنّاه صاحب الفصول وغيره هو الأحرى بالقبول.


وفي ضوء ما تقدّم من الرأي الراجح (الأوّل) فقد فرّع عبد الوهاب خلاف (ت 1375 هـ) على الاستصحاب قواعد أخرى قائلاً: (وعلى الاستصحاب بُنيت المبادئ الشرعيّة الكلّيّة) ([45]).


ومن هذه المبادئ والقواعد التي استفاد منها هو وغيره:


1 – الأصل في الأشياء الإباحة.


2 – الأصل بقاء ما كان على ما كان حتّى يطرأ ما يغيّره ([46]).


3 – ما ثبت بزمانٍ يُحكم ببقائه ما لم يوجد دليلٌ على خلافه ([47]).


4 – ما ثبت باليقين لا يزول بالشكِّ.


5 – الأصل في الإنسان البراءة ([48]). وهو محلّ بحثنا في هذا المطلب.


6 – استصحاب النصِّ إلى أنْ يرد النسخ ([49]).


 


المطلب الثالث: ترتّب بعض الآثار العقليّة والعاديّة على الأصل


الغرض من هذا المطلب تمييز اللازم العقليّ أو العاديّ الذي يترتّب على الحكم المستصحب من دون أنْ يكون الاستصحاب مثبتاً عن اللازم العقليّ أو العاديّ الذي يترتّب على الحكم المستصحب، ويكون الاستصحاب مثبتاً.


وحاصل الكلام فيه: إنَّ اللازم العقليّ والعاديّ على قسمين:


القسم الأوّل: أنْ يكون لازماً للحكم المستصحب بوجوده الواقعيّ، وذلك كالإجزاء؛ فإنَّ إجزاء الصلاة مع استصحاب الطهارة الحدثيّة إنّما يكون لازماً للطهارة الواقعيّة لا الأعمّ منها ومن الظاهريّة، فإذا استصحب المكلّف الطهارة وصلّى ثمَّ تبيّن أنّه لم يكن متطهّراً واقعاً لم يترتّب الإجزاء على استصحاب الطهارة، ولم يكن لازماً لها.


القسم الثاني: أنْ يكون لازماً للحكم المستصحب بوجوده الأعمّ من الواقعيّ والظاهريّ، مثل وجوب الإطاعة المترتّب عقلاً على ثبوت الحكم الشرعيّ الواقعيّ والظاهريّ معاً، فإذا ثبت الوجوب الشرعيّ الظاهريّ بالاستصحاب ترتّب عليه الحكم بوجوب الإطاعة قهراً، كما يترتّب على الوجوب الشرعيّ الواقعيّ الثابت بغير الاستصحاب.


 


والمعروف بين الأصوليّين أنَّ اللازم العقليّ والعاديّ الذي لا يثبت بالاستصحاب إلاَّ بناءً على الأصل المثبت هو القسم الأوّل دون الثاني ([50]).


والدليل على هذا التفصيل: إنَّ اللازم في القسم الأوّل لا يثبت إلاَّ بأحد أمرين:


الأوّل: إمّا تحقّق الحكم المستصحب واقعاً، والمفروض أنّه لم يتحقّق واقعاً بل تحقّق الحكم ظاهراً بالاستصحاب؛ فإنَّ الثابت هو الحكم الظاهريّ لا الواقعيّ.


الثاني: وإمّا سراية التعبّد من الحكم المستصحب إلى لازمه العقليّ، وقد تقدّم في المطلب الأوّل أنّه لم يثبت بأخبار الاستصحاب أكثر من تنزيل المستصحب وحده بلحاظ ما له من الأثر الشرعيّ من دون الأثر العقليّ أو العاديّ ([51]).


وهذا بخلاف اللازم في القسم الثاني، فإنّه ممّا يثبت بلا حاجةٍ إلى سراية التعبّد من المستصحب إليه؛ وذلك لأنّه يترتّب على المستصحب بمطلق وجوده ولو ظاهراً، فيكون وجود المستصحب مطلقاً موضوعاً لهذا اللازم، ومن الواضح أنَّ الموضوع بمنزلة العلّة للحكم، فمتى ما تحقّق الموضوع تحقّق الحكم، وفي المقام الموضوع هو وجود الحكم ظاهراً وهو متحقّقٌ بالاستصحاب، فإذا تحقّق الحكم الشرعيّ ولو بالاستصحاب ثبت موضوع اللازم العقليّ أو العاديّ فيترتّب عليه قهراً ([52]).


 



) [1]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 511.


) [2]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 147. ظ المشكينيّ، عليّ: اصطلاحات الأصول، ص 59 – 61. ظ البحرانيّ، محمّد صنقور عليّ: المعجم الأصوليّ، ط الثانية، مطبعة عترت، 1 / 264 – 266.


) [3]) ظ الخراسانيّ، محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 240. ظ آل شيخ راضي، الشيخ محمّد طاهر: بداية الوصول ، 8 / 193 .


) [4]) ظ الحكيم، محمّد تقي: الأصول العامّة للفقه المقارن، ص 450. ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول ، 3 / 375.


) [5]) ظ بحر الفوائد في شرح الفوائد، 3 / 128 – 130.


) [6]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 511.


) [7]) الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، 1 / 7 – 8. الحرّ العامليّ: وسائل الشيعة، 1 / 174 – 175.


) [8]) ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 240 – 241.


) [9]) ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 375.


) [10]) الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، 1 / 7 – 8. الحرّ العامليّ: وسائل الشيعة، 1 / 174 – 175.


) [11]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 520 – 521.


) [12]) ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 241.


) [13]) ظ الحائريّ، الشيخ عبد الكريم: درر الفوائد (درر الأصول)، 2 / 554.


(+) وقد يطلق عليها بـ (استثناء بعض الموارد من عدم حجّيّة الأصل المثبت).


) [14]) ظ فرائد الأصول، 3 / 244 – 246.


) [15]) ظ كفاية الأصول، 3 / 241 – 242.


) [16]) ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 378 – 381.


) [17]) ظ الأنصاريّ، الشيخ مرتضى: فرائد الأصول، 3 / 244 – 246. ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 378.


) [18]) ظ الخراسانيّ، محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 241 . ظ المروّج، محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 520 .


) [19]) ظ الكاظميّ: فوائد الأصول (تقريرات بحث النائينيّ)، 4 / 494. ظ الخوئيّ: أجود التقريرات (تقرير بحث النائينيّ)، 2 / 419.


) [20]) ظ نهاية الدراية في شرح الكفاية، 3 / 225 – 226.


) [21]) ظ البهسوديّ، السيّد محمّد سرور الواعظ: مصباح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئيّ)، 48 / 190 – 193.


) [22]) ظ كفاية الأصول، 3 / 241.


) [23]) ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 379.


) [24]) ظ كفاية الأصول، 3 / 241.


) [25]) ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 379.


) [26]) ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 378 – 379.


) [27]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 534.


) [28]) ظ القدسيّ، أحمد: أنوار الأصول (تقرير بحث الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ)، 3 / 379.


) [29]) ظ الأصفهانيّ، الشيخ محمّد حسين: نهاية الدراية في شرح الكفاية، 3 / 225 – 226.


(+) إنَّ أهل المعقول قسّموا العارض المحمول على المعروض إلى:


1 – المحمول بالضميمة: وهو عارض الوجود الذي له ما بحذاء في الخارج، كالأعراض المتأصّلة وغير المتأصّلة كمقولة الإضافة، والوجه في تسميتها المحمول بالضميمة هو أنَّ حملها على معروضها يحتاج إلى ضميمة كلفظة (ذو)، كالبياض فإنَّ حمله على الجسم إنّما يصح بواسطة لفظة (ذو) فيقال: الجسم ذو بياض.


2 – الخارج المحمول: وهو عارض الماهيّة كالإمكان. والوجه في تسميته بخارج المحمول؛ لأنّه خارجٌ عن الموجود الممكن


ومحمول عليه. والمعروف أنَّ الأمور الاعتباريّة كالملكيّة والزوجيّة والغصبيّة ونحوها من خارج المحمول.


فالمقصود بالخارج المحمول: العناوين التي ليس بإزاء مبادئها شيءٌ في الخارج بل تكون انتزاعيّة كالفوق والزوج ونحوهما، والمقصود بالمحمول بالضميمة: ما تكون مبادئها خارجيّة كالأسود والأبيض، فإنَّ البياض والسواد لهما وجودٌ خارجيٌّ زائداً على الذات . للتفصيل ينظر: الحكيم، السيّد محسن: حقائق الأصول، 2 / 441 و 489. الهاشمي، محمود: بحوث في علم الأصول (تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر)، 6 / 205. آل الشيخ راضي، محمّد طاهر: بداية الوصول ، 1 / 285 و 8 / 92 – 93.


) [31]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 548.


) [32]) ظ فرائد الأصول، 3 / 235 – 236.


) [33]) ظ كفاية الأصول، 3 / 245 – 246.


) [34]) ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 245.


) [35]) ظ الرسائل، 1 / 187 – 188.


(+) وقد يسمّى بـ (جريان الاستصحاب في الشرط والجزء ونحوهما لترتيب آثار الشرطيّة والجزئيّة ونحوهما عليه).


) [36]) فرائد الأصول، 3 / 127.


) [37]) ظ كفاية الأصول، 3 / 246 – 247.


) [38]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 558 – 568.


) [39]) ظ البهسوديّ، السيّد محمّد سرور الواعظ: مصباح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئيّ)، 48 / 206 – 209.


) [40]) ظ الفصول الغرويّة، ص 352.


) [41]) ظ كفاية الأصول، 3 / 247 – 248.


) [42]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 572 – 573.


) [43]) ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 247.


) [44]) ظ فرائد الأصول، 2 / 59 – 60.


) [45]) مصادر التشريع الإسلاميّ فيما لا نصّ فيه (مصادر التشريع)، مطابع دار الكتاب، القاهرة – مصر، ص 129.


) [46]) م، ن.


) [47]) ظ المحمصانيّ، الدكتور صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام، ط الثالثة، دار العلم للملايين، بيروت، ص 180.


) [48]) ظ خلاف، عبد الوهاب: مصادر التشريع الإسلاميّ فيما لا نصّ فيه (مصادر التشريع)، ص 129.


) [49]) ظ المحمصانيّ، الدكتور صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام، ص 179 و 413.


) [50]) ظ المروّج، السيّد محمّد جعفر: منتهى الدراية في توضيح الكفاية، 7 / 579.


) [51]) ظ آل شيخ راضي، الشيخ محمّد طاهر: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، 8 / 227 – 228.


) [52]) ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 249.

تعليقات