غاية المسؤل في علم الاصول

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي شيّد دعائم الإسلام بقوانين الدّين المبين ونوّر معالمه بلمعة من هداية المسترشدين والصّلاة على من أرسل لإيضاح مناهجه وبيان ضوابطه منتهى التبيين محمّد خاتم النبيّين وآله مفاتيح الحكم ومصابيح الظلم وأنوار المستوحشين سيّما باب مدينة العلم وأساس السّكينة والحلم أمير المؤمنين عليهم صلوات ربّ العالمين إلى يوم الدّين (وبعد) يقول الرّاجي عفو ربّه السّني محمّد حسين بن محمّد علي الحسيني الشهرستاني عفا الله عنهما إنّ هذا غاية المسئول ونهاية المأمول من علم الأصول كم حوت من تحقيقات شريفة هي عمدة أفكار المتقدّمين وتدقيقات لطيفة هي نبذة أنظار المتأخّرين ودقائق نكات فلمّا تنبّه لها أفهام المتبحّرين يظهر لمن تعمّق النّظر فيها فتلطف لا لمن قصر فهمه عنها فتكلّف كتبته حين قراءتي على الحبر الوحيد المتبحّر الفريد الأستاذ الفاضل والعالم العامل أبو الفضائل والفواضل قطب فلك التحقيق ومركز دائرة التّدقيق سمي جديّ وأحد السّبطين المولى الأردكاني محمّد حسين أدام الله على رءوس العالمين ظله الظليل أبد الآباد وأقام عليه أيادي نعمه إلى يوم التّناد بمحمّد وآله الأمجاد وسميّته (غاية المسئول) ونهاية المأمول ورتّبته ككتب القوم على مقدّمة وأصول وبالله أستعين إنّه خير معين

مقدمة

أصول الفقه اسم للعلم الخاصّ وله اعتباران علمي وإضافي وذكرهما في المقام ليعلم وجه المناسبة بين المنقول إليه والمنقول عنه ولنقدم

تعريفه

بالمعنى العلمي ليفيد الإضافي حين ذكره فائدة أصل الكلام بخلاف ما إذا قدم الإضافي فإنّه لا يفيد حين ذكره فائدة إذا المقصود بالذات هو المعنى العلمي فهو يفيد حين ذكره فائدة بخلاف الإضافي وقولنا المعنى العلمي يراد به مقابل الإضافي

 

لا العلم الاصطلاحي للخلاف في أنّ الأسماء العلوم أعلام شخصيّة أو أعلام جنسيّة أو أسماء أجناس وهذا مبنيّ على أنّ المسمّى هل هو المسائل أو الملكة والتّصديق فعلى الأوّل يكون علم شخص إذ المسائل أشخاص معينة مخصوصة لا يقال إنّ المسائل تتزايد كلّ يوم لأنّا نقول إنّ جميعها معينة مخصوصة في الواقع وإن كان التفات الواضع إلى جميعها بالعنوان الإجمالي وعلى الأخيرين يكون علم جنس أو اسم جنس فإن لوحظ الموضوع له بقيد الحضور الذّهني فهو علم جنس وإلاّ فاسم جنس وهذا يعلم من معاملتهم معه معاملة المعارف والنكرات فعلى الأول يكون علما وإلاّ فلا قيل الحق إنّها ليست أسماء للمسائل كما سيأتي فينتفي احتمال كونها أعلاما شخصيّة وأنّهم يعاملون معها معاملة النكرات من إدخال أل والإضافة والوصف بالجمل وغير ذلك من صفات النكرات وهكذا أسماء الكتب إلاّ أنّ احتمال العلمية الشخصيّة فيها منتفية قطعا إذ لم يوضع لفظ المعالم مثلا للكتاب المشخّص الجزئي الحقيقي وإلاّ لكان إطلاقه على غير النّسخة الأصلية إطلاقا على غير الموضوع له بل هو موضوع لنوع النقش المخصوص بملاحظة دلالتها على الألفاظ أو لنوع الألفاظ المدلول عليها بالنّقوش وهكذا الموضوع ليس لفظ المعالم المخصوص بل الموضوع أيضا نوع لفظ المعالم وإلاّ لكان إطلاقه من غير واضعه لا حقيقة ولا مجازا إذ ليس موضوعا وهما تابعان للوضع لا يقال ينافي ذلك عدم استعمال النّوع وعدم وجوده لأنّا نقول الاستعمال الخاصّ هو عين إيجاد النّوع والفرد إنّما يكون بعد الاستعمال فردا فالاستعمال والإيجاد إنّما يتعلقان بالنّوع لا بالفرد فافهم فنقول قد عرف بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ولنتكلم في أمور يوجب تحقيق المرام الأوّل قد ذكروا أنّه لا يمكن تعريف العلوم بالحدّ قبل إتمامها وتعاريف العلوم كلها رسميّة والمراد بالحد التعريف بالذاتي لا ما يطلق عليه في اصطلاح الأصوليّين أي التعريف الجامع والمانع ووجه عدم إمكان ذلك بأنّ ذاتي العلم ومسائله ولا يمكن تعريف العلم بها إلاّ بعد المعرفة بها وهي لا تمكن إلاّ بعد تعلّمها بالتمام والكمال حتّى يعلم جميع مسائلها وفيه أولا أنّه يكفي في التّعريف التصوّر بل هو معنى التّعريف لا التّصديق فإن أردت بعدم إمكان معرفة المسائل قبل الشروع التّصديق بها فمسلّم لكن لا يحتاج في التعريف إلى التّصديق بالذّاتي وإن أردت منه التّصور فممنوع لإمكان تصور جميع مسائل العلم قبل الشروع فيه وهو واضح وثانيا أنّه لا يتمّ بناء على جعل المسمّى هو الملكة أو التّصديق وثالثا أنّ هذا إنّما نشأ من الخلط بين الجوهر والجوهري والعرض والعرضي وذلك لأنّ الجوهر عبارة عن

 

الموجود لا في موضوع والعرض هو الموجود في الموضوع والجوهري عبارة عن الداخل في حقيقة الشيء والعرضي عبارة عن الخارج عن حقيقة الشيء فقد يكون الجوهر عرضيّا كالصّورة للهيولى فإنّها خارجة عن حقيقته وقد يكون العرض جوهريّا كهيئة السرير بالنّسبة إلى مفهوم مسمّى السّرير فإنّها عرض لكن داخل في حقيقة مفهوم السّرير إذا عرفت ذلك فنقول إنّ العلوم كلّها مشتركة في معنى هو الإدراك وليس لها مميّز ذاتيّ وإنّما امتيازها بامتياز العوارض ومتعلّقات العلم فتعريف العلوم بمتعلقاتها بالنّسبة إلى حقيقة ذلك العلم رسم وتعريف بالعارض لكن بالنّسبة إلى مفهوم المسمّى لذلك اللّفظ جوهري ذاتي فإن كان التعريف ناظر إلى حقيقة العلم كان رسما وإن كان ناظرا إلى مسمّى اللّفظ كان حدّا لفظيّا إذا لم يكن تعريفا بالغاية والفائدة وإلاّ كان رسما من كلّ جهة إذا الغاية أو الثمرة ليست جوهريّا بالنّسبة إلى مفهوم المسمّى أيضا إذ ليست مأخوذة في الموضوع له فتعريف الأصول رسم قطعا وإن جاز إطلاق الحدّ على تعريف الكلام مثلا بأنّه العلم الباحث عن أحوال المبدإ والمعاد والحكمة بأنّه العلم بحقائق الأشياء بقدر الطّاقة البشريّة الثاني في ذكر قيود التعريف المذكور فنقول قد اشتمل التّعريف على قيود ومقتضى النظم والترتيب أن يخرج بكلّ قيد منه ما لم يخرج من سابقه قال في المعالم وخرج بقيد الأحكام العلم بالذوات واعترض عليه في القوانين بأنّ الذّوات قد خرجت بقيد الشّرعية ولكن خرج بقيد الأحكام العلم بالماهيّات كمسألة الحقيقة الشرعيّة ونظائرها ربما ذكرنا من التّرتيب الطبيعي عرفت عدم ورود الإيراد على المعالم فإنّ خروج الذّوات بقيد الشرعيّة لا ينافي خروجها بالأحكام أيضا فإنّ مقتضى النّظم أن يخرج بالقيد السّابق كلما يخرجه فإن بقي شيء جيء بالقيد اللاّحق لإخراجه فخرج بقيد الأحكام الذّوات والماهيات مثلا وبقي الأحكام الغير الشّرعية فخرج بقيد الشّرعية والحاصل أنّه يجب الإخراج بالقيد اللاحق ما بقي بعد القيد السّابق لا أن يخرج بالقيد السّابق ما يبقى بعد القيد اللاّحق وأورد على القوانين بأنّ إخراج الماهيات بقيد الأحكام فاسد إذ المراد من استنباط الماهيّات بالقواعد إمّا التصديق بها فلا يخرج بالأحكام إذا الحكم عبارة عن النّسب الخبريّة كما صرّح به وإمّا قصورها فهو باطل إذ القواعد عبارة عن القضايا والمجهولات التصوّرية إنّما تكتسب من المعلومات التصوّرية لا من المعلومات التصديقية كذا قيل وفيه نظر إذ ليس المراد استنباط الماهيات أو الأحكام من القواعد الممهّدة بل المراد أنّ وجه تمهيد تلك القواعد استنباط الأحكام أو الماهيّات من غير تلك القواعد ومن الظاهر أنّ الحكم الشرعي لا يستنبط من مسألة أنّ الأمر للوجوب بل إنّما مهّدت هذه المسألة ليستنبط

 

الحكم من قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) كما أنّ تمهيد مسألة المعرّف في المنطق إنّما هو لاستنباط المجهولات التصوّرية من المعلومات التصوريّة مع أنّ مسائل المعرّف كلّها قضايا مثل أنّه يشترط أن يكون مساويا وأجلى ولا يجوز بالأعمّ وغير ذلك وحينئذ فلا يلزم أن يكون استنباط التصوّر من التّصديق كما ذكره المعترض فالأولى في الاعتراض أن يقال إنّه إن أريد التصديق بالماهيّات فلا يخرج بقيد الأحكام وإن أريد تصوّرها فليس ما مثل به قاعدة ممهّدة لاستنباط تصوّر الماهيات فإنّه مثل بالحقيقة الشرعية وهو فاسد فإنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو أن الألفاظ المستعملة في المعاني المستحدثة الموضوعة لها في زمان المتشرّعة هل كانت موضوعة لها في زمان الشّارع أو لا ولا يخفى على امرئ أنّ المطلوب فيها التّصديق لا تصوّر الماهيّة فالحق أن القواعد الممهّدة لاستنباط الماهيات أي التّصديق بها داخلة في الأصول لصدق التعريف عليه ولا ضرر في دخولها فلنرجع إلى تحقيق المطلب فنقول قد خرج بالقواعد العلم بالجزئيّات وبالممهّدة ما لم يمهد أصلا كقاعدة الكل أعظم من الجزء وكل نار حارّة ونحو ذلك وو بقيد الاستنباط ما مهد للاستنباط كالمسائل الكلامية فإنّها مقصودة بذاتها لا للاستنباط شيء وبالأحكام المنطق إذ ليس ممهّدا لخصوص استنباط الأحكام لاستنباط التّصورات منه أيضا وبالشرعيّة العقليّة وبالفرعيّة الأصوليّة كذا ذكروا (أقول) ويرد على التّعريف أنّ مقتضاه عدم كون الأصول علما برأسه بل يكون تابعا لاعتبار المعتبرين إذ المراد بالتمهيد ليس تمهيد شخص خاصّ بل كلما مهده الشّخص للاستنباط يكون أصولا فلو ذكر شخص في كتابه جميع مسائل النحو والصّرف والبيان والمنطق وغير ذلك بقصد الاستنباط يجب أن يكون أصولا لا يقال إن المراد الممهّدة بتمهيد أئمة الفنّ لأنّا نقول المسائل والقواعد الأصوليّة تتزايد يوما فيوما ويظهر ذلك من اختلاف الكتب الأصولية في ذكر المسائل وأيضا يرد على التعريف وشموله للقواعد الفقهيّة مثل أنّ كل عقد يجب الوفاء به فإنّها قاعدة كلية مهدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة وهي أنّ عقد المعاطاة يجب الوفاء به وهكذا سائر العقود فإن القاعدة عبارة عن قضية كليّة يستنبط منها أحكام جزئيّات موضوعها وسيجيء تحقيق المطلب عند ذكر الموضوع وهناك يعلم أنّ الأصول علم أو لا وهل له تعريف صحيح أو لا الثّالث في وجه المناسبة بينه وبين المعنى الإضافي وهو متوقّف على فهم المعنى الإضافي فنقول إنّه مركّب من المضاف والمضاف إليه والإضافة ولنتكلّم في كلّ منها أمّا الكلام في المضاف فنقول الأصول جمع أصل وهو في اللّغة عبارة عما يبتني عليه الشيء وفي اصطلاح الأصوليّين يطلق على الأمور الأربعة الدّليل والقاعدة والظاهر والاستصحاب وإطلاقه على كل واحد من هذه

 

الأربعة ليس باعتبار رجوعه إلى الآخر بخلاف سائر الإطلاقات فإنّها ترجع إلى أحد الأمور الأربعة فإنّ قولهم أصالة الحقيقة معناه ظهور الحقيقة لا باعتبار أنّه يرجع إلى القاعدة وكذا أصالة العدم معناه استصحاب العدم لا باعتبار كونه قاعدة فافهم وأمّا الكلام في المضاف إليه فنقول الفقه في اللّغة الفهم إمّا مطلقا أو مع جودة الذّهن وغير ذلك ممّا هو مذكور في كتب اللّغة وفي الاصطلاح عرّف بأنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية والمراد بالعلم التّصديق لا الإدراك المطلق إذ الفقه منحصر في التّصديقات والحكم عبارة عن النسبة الخبرية قيل ويلزم منه خروج الإنشاءات عن الفقه فالمراد النسب الجزئية وفيه أنّ الإنشاءات ليست من الفقه قطعا لما عرفت أنّ الفقه عبارة عن التصديق ولا يتعلّق التصديق بالإنشاءات إلاّ باعتبار ما تضمّنت من النسب الخبرية مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) فإنّه لا يتعلق التّصديق به إلاّ باعتبار ما تضمّنه من أنّ الصّلاة واجبة والنّسب الجزئية إن أريد مقابل مفهوم النسبة فالقيد لغو لأنّه ظاهر أن ليس العلم بمفهوم النسبة فقها وإن أريد الجزئية الاصطلاحيّة فهي عبارة عن قضيّة كان موضوعها جزئيا والقضايا الفقهيّة كلها موضوعها كلي ولا يحكم في الفقه على الموضوعات الجزئية لفظ والشرعيّة يحتمل وجوها ثلاثة أحدها أن يكون المراد به ما صدر من الشارع فعلا والثّاني أن يكون معناه ما من شأنه أن يؤخذ من الشارع والثالث أن يكون معناه ما يمكن أن ينسب إلى الشارع من حيث إنّه شارع والأوّل مستلزم لخروج الأحكام العقلية مع أنّه داخل في الفقه إذا العقل أحد الأدلّة والثاني مستلزم لخروج مسألة وجوب النظر في المعجزة عن الفقه إذ ليس من شأنها أن يؤخذ من الشارع لاستلزامه الدّور مع أنّه واجب شرعا فالمراد هو المعنى الثالث لإمكان أن ينسب ذلك إلى الشّارع من حيث إنّه شارع وخرج بقيد الحيثيّة مثل الحكم بأن مشي الإنسان أبطأ من مشي الفرس لإمكان نسبة هذا الحكم إلى الشارع لكن لا من حيث أنّه شارع والفرعيّة معناها المنسوب إلى الفرع والمراد به الحكم الّذي كان الموضوع فيه عمل المكلف أو يفهم منه حكم عمل المكلف بلا حاجة إلى خطاب آخر فالأوّل كالأحكام التكليفيّة والثاني كالوضعيّة فإنّ قوله الكلب نجس يعلم منه وجوب الاجتناب عنه الّذي هو حكم شرعي لعمل المكلّف بخلاف مثل الكتاب حجّة إذ لا يفهم منه حكم العمل إلاّ بضميمة قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) مثلا فافهم وعن أدلتها إمّا متعلّق بالعلم أو بالأحكام باعتبار قيد المستنبطة وعلى أيّ تقدير فإمّا المراد به الأدلّة المعهودة أو لا فإن كان المراد به الأدلة المعهودة كان قيد التفصيليّة لغوا وخرج علم المقلّد وعلم الله وعلم

 

الأنبياء والملائكة إن تعلق الظّرف بالعلم بخلاف ما لو تعلق بالأحكام لأنّهم عالمون بالأحكام المستنبطة إلاّ أن يعتبر قيد الحيثيّة لأنّ علمهم بالأحكام المستنبطة ليس من حيث كونها مستنبطة وفيه أنّ أخذ الحيثيّة إنّما يثمر في أن العلم بالأحكام المستنبطة يلاحظ فيه جهة الاستنباط أيضا وهذا لا يقتضي أن يكون العلم ناشئا عن الدليل فإنّ قولنا علمت زيدا الفاضل من حيث إنّه فاضل أنّي أحضرته في الذّهن مع ملاحظة الفضل فيه لا أنّ فضله كان سببا لعلمي فافهم وإن أريد مطلق الأدلة خرج علم المقلد بقيد التّفصيلية لأن علمه إنّما هو من دليل إجمالي وهو أن هذا الحكم مما أفتى به المفتي وكلما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقي فهذا حكم الله في حقي وأورد عليه أمّا أوّلا فبأنّ علم المجتهد ناشئ من الدّليل الإجمالي بضميمة التفصيلي فإنّه إذا لاحظ الأدلة التّفصيلية وحصل له الظن بالحكم يرتّب القياس هذا ما ظننت أنّه حكم الله وكلما ظننت أنّه حكم الله فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلدي فهذا حكم الله في حقي وحق مقلّدي فإسناد العلم إلى الأدلة التفصيلية لا وجه له وأمّا ثانيا فبأنّ المقلد أيضا له دليل تفصيلي ودليل إجمالي وعلمه حاصل منهما فإنّه يلاحظ فتوى المجتهد في خصوص كلّ واقعة فهذا دليله التفصيلي ويضمّ إليه المقدمات المذكورة وهو الدليل الإجمالي فيحصل له العلم فما الفرق بين المجتهد والمقلّد في ذلك (أقول) الإيراد الثاني وارد ولا مدفع عنه مع عدم جعل المراد الأدلة وأمّا الإيراد الأوّل فقد يجاب عنه بأنّ علة الشيء إذا كان مركبا يجوز استناده إلى مجموع الأجزاء وإلى الجزء الأخير والأدلّة التفصيلية جزء أخير لعلة حصول العلم بالحكم إذ لا بدّ أوّلا من إثبات أن الكتاب حجّة مثلا ثمّ ملاحظته تفصيلا لاستنباط الأحكام منه ونظير هذا قيل في الجواب عما قيل إنّ الدّليل العقلي إن كان عبارة عمّا كان بجميع أجزائه عقليا فما وجه عدهم الاستصحاب من الأدلة العقلية مع أن حجيّته يثبت بالنقل عند القائلين بالظنون الخاصّة وإن كان عبارة عمّا كان بعض أجزائه عقليّا فما وجه عدم جعلهم الكتاب من الأدلة العقلية مع أنّ حجيّته تثبت بحكم العقل وحاصل الجواب أنّ المعتبر هو الجزء الأخير الّذي يتعاقبه الاستنباط وهو في الاستصحاب حكم العقل بالبقاء وفي الكتاب حكم النّقل بوجوب الصّلاة مثلا وفيه أنّ هذا الجواب لا يتمّ إذا كان العلم بالحجيّة متأخّرا عن العلم بالتّفصيل كما إذا اجتهد الكافر بطريقة الإسلام ثم أسلم فالأولى في الجواب أن يقال إن المراد بالأحكام الأحكام الخاصّة من حيث الخصوصية كوجوب الزكاة وحرمة الخمر ونحو ذلك وحجيّة الكتاب لا توجب العلم بالخصوصية بل العلم بالخاص من حيث الخصوصيّة لا يستنبط إلاّ من قوله تعالى (آتُوا الزَّكاةَ) و (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ونحو ذلك فلا يجوز

 

إسناد العلم بالخصوصية إلى المجموع ولا إلى الدّليل الإجمالي فافهم ولما علم مفردات التّعريف فلنتكلّم في أمور يحتاج إلى بسط الكلام الأوّل قد فسّر الحكم في التّعريف بخطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا والمراد من الأفعال والمكلفين الجنس ليشمل خصائص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا والقيود الثلاثة الأخيرة ليشمل الأحكام التكليفيّة والوضعيّة قيل إنّ تعريف الحكم المذكور في التّعريف بخطاب الله تعالى مستلزم لاتحاد الدّليل والمدلول إذا الكتاب من جملة الأدلة وهو أيضا خطاب الله تعالى إلاّ على مذهب الأشاعرة حيث قالوا بالخطاب النّفسي الّذي هو مدلول الخطاب اللّفظي وفيه أنه لم يعرّف الحكم بالخطاب إلاّ من ذهب إلى الخطاب النّفسي ولم يقل أحد إنّ الحكم عبارة عن الخطاب اللّفظي حتّى يرد عليه اتحاد الدّليل والمدلول ثمّ إنّه أجاب عن الإيراد بناء على عدم القول بالكلام النّفسي بأنّ الأحكام عبارة عن الخطابات المعلومة بالإجمال والأدلة خطابات مفصّلة فنحن نعلم أن لشرب الخمر قد ورد خطاب في الشريعة ونعلم تفصيله بقوله تعالى فاجتنبوه مثلا وفيه أنه لا يتمّ هذا الكلام في الجواب إذ يكون معنى التّعريف أن الفقه عبارة عن العلم بالخطابات المجملة عن الخطابات التفصيليّة فإن أريد العلم الإجمالي بالخطابات المجملة فهو لم يحصل من الأدلة بل هو معلوم بالضّرورة وإن أريد العلم التفصيلي بالخطابات المجملة فهو عين العلم بالخطابات المفصّلة لا أنه حاصل منها فإنّ معنى العلم التّفصيلي معرفة الشيء مفصّلا والخطابات المفصّلة عين المجملة والفرق إنما هو بالإجمال والتفصيل فالعلم التفصيلي بالخطابات المجملة عين العلم بالأدلة المفصّلة وهو يحصل بالنظر فإنّ من أراد أن يعلم شيئا بالتّفصيل ينظر فعلمه يحصل بالنّظر لا بالعلم التّفصيلي (فافهم) وأمّا على القول بالخطاب النّفسي فيرد أمور منها ما ذكره الفاضل القميّ رحمه‌الله من أنّ اللفظ كاشف عن المدّعى لا أنّه مثبت للدعوى ومعناه أنّ الخطاب اللفظي دالّ على مدلوله الّذي هو الكلام النّفسي لا أنّه دليل عليه والفرق بين الدّال والمدلول أنّ الأوّل يوجب تصوّر مدلوله والثّاني موجب للتّصديق بالمدعى ويظهر منه في الحاشية وجه آخر وهو أنّ الدليل عبارة عما يتوصّل بصحيح النّظر (فيه) إلى مطلوب خبري فيجب أوّلا تصوّر المطلوب الخبري ثم ترتيب المعلومات لتحصيله كما هو طريقة النّظر والكلام النّفسي لا يتصوّر إلاّ بعد ذكر الكلام اللّفظي فكيف يكون دليلا عليه وفيه أنّه لا يجوز أن يتصور أنّ في شرب الخمر مثلا خطابات نفسيّة ثم يستنبط تفصيلها بالخطابات اللّفظية فالأولى هو الوجه الأول إلاّ أنه قد أورد عليه بأنّ اللفظ وإن كان بالنّسبة إلى نفس المعنى دالا أنّه بالنّسبة إلى ثبوت المعنى في ذهن المتكلّم دليل بضميمة مقدمات أخر من كون المتكلم عاقلا غير عابث واللفظ موضوع للمعنى ولم ينصب القرينة فيجب أن يكون المعنى

 

مراده فاللّفظ بالنّسبة إلى ثبوت المعنى في نفس المتكلّم الّذي قد يقال إنّه الكلام النفسي دليل لا دال فتأمّل (ومنها) أنّ الكلام النّفسي غير معقول وبيان هذه الدّعوى محتاج إلى بسط المقال فنقول قد ذكر الأشاعرة أنّ من جملة صفاته تعالى المتكلم ويشترط في صدق المشتق على شيء قيام المبدإ بذلك الشيء ومبدإ المتكلّم الكلام فيشترط في صدق المتكلّم عليه تعالى باعتبار إيجاده الصّوت القائم بالهواء لما قلنا من اشتراط قيام المبدإ بالموصوف وإلاّ لجاز إطلاق المتحرك عليه باعتبار إيجاده الحركة في الأفلاك وحينئذ فلا بد أن يكون معنى قائما بذاته تعالى ثم إنّ بعضهم قال إنّه عبارة عن مدلول الألفاظ وهذا لا يدفع المحذور لأنّ مدلول الألفاظ حادث كحدوثها فإنّ مدلول قال الله (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) لا يمكن أن يكون قديما لأنّه إخبار عن الماضي ولذا قال بعضهم إنّ الكلام معنى بسيط قديم قائم بذاته تعالى قابل للشئونات المختلفة من الأمر والنّهي والإخبار وغير ذلك باعتبار المتعلّقات والإضافات وقد يتمسّك لمذهبهم بأنّ الكلام لغة موضوع لمعاني الألفاظ أو للألفاظ المتصوّرة الذّهنية قبل النطق فإنّ النطق متأخّر عن تصوّر الألفاظ والكلام اسم لذلك ولذا قال الشاعر إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فهو لغة اسم للنفسيّ لا للفظي (ثم) إنّهم بنوا على قولهم من اشتراط قيام مبدإ المشتق بموصوفه دعواهم أنّ صفاته تعالى مغايرة مع ذاته فإنّ صدق قيام شيء بشيء يستدعي تحقّق المغايرة بينهما واستدلّ الرّازي على هذا المطلب بوجوه لا بأس بذكرها لتعلّقها بالمقام (منها) القياس بهذا الترتيب ذاته تعالى غير معلوم لنا وصفاته تعالى معلومة لنا وغير المعلوم غير المعلوم فذاته غير صفاته (ومنها) أنّه لو لا المغايرة لكان قولنا الله عالم قادر بمنزلة الذات ذات فلم يكن للنزاع في ثبوت الصفات له تعالى معنى لبداهة كون الذات ذاتا (ومنها) أنّه لو لا المغايرة لكانت الصفات أيضا متّحدة لأنّها عين الذّات وحينئذ فيكون إثبات إحدى الصفات مغنيا عن إثبات البواقي لاتحادها (ومنها) أنّ صفاتها الثبوتيّة موجودات لا سلوب وإضافات والموجودات لا يمتاز أحدها عن الآخر إلاّ بالمغايرة هذا ما ذكروه في المقام ولا بدّ أوّلا من ذكر معنى الصّفة وأقسامها ليظهر ما هو الحق في المقام فنقول من المعلوم أن الصّفة غير الموصوف إذا الصّفة عرض والموصوف معروض لكن المغايرة على قسمين حقيقي وهو أن يكون الصّفة موجودة في الخارج بوجود مشتمل غير وجود الموصوف كالبياض للجسم والكتابة للكاتب ويسمّى الوصف الخارجي واعتباري وهو أن لا يكون لها وجود مستقل في الخارج غير وجود الموصوف بل لها منشأ انتزاع في الخارج وهو إمّا

 

ذات الموصوف كالوجود للواجب فإن ذاته كاف في انتزاع الوجود منه وإمّا بواسطة ملاحظة حيثية من الحيثيّات الاعتباريّة كالوجود للممكن فإنّه ينزع منه بملاحظة حيثية الاستناد إلى العلّة لا من نفس ذاته وهذه الحيثيّة المذكورة قد تكون تقييديّة وقد تكون تعليلية لثبوت الوصف كالاستناد إلى العلة فإنّه علة لاتّصاف الممكن بالوصف وهذا لا دخل له بما يكون فيه الحيثيّة للحكم بالاتصاف لا لنفس الاتّصاف فإنه لا يستلزم حيثية أخرى زائدة ولو اعتبارا بل يكون نفس ملاحظة الاتصاف كافيا في الحكم به ومن هذا القسم صفاته تعالى الذاتية فإن حيثيّة انكشاف الأشياء له تعالى ليست علة لاتّصافه بوصف العلم بل هي علّة للحكم بالاتّصاف فالوصف فيه عين الموصوف وحينئذ فنقول لا كلام في الوصف الخارجي وأمّا الاعتباري فلا شبهة في أنّ الّذي ينتزع من نفس الذّات هو عين الموصوف فإنّ معنى العينيّة أنّهما ليسا موجودين بوجودين ومعنى الانتزاع أنّ العقل إذا لاحظ الشيء حكم بأنّه متّصف في الخارج بهذا الوصف الذّهني ولا ينافي ذلك عدم وجود الوصف في الخارج كالإمكان للشيء فإن العقل إذا لاحظ الإنسان حكم عليه بأنّه ممكن والإمكان ليس وصفا خارجيّا بل هو وصف ذهني ومع ذلك حكم به على الأمر الخارجي ومن الاعتباري المعقولات الثانية كالكلية والجزئيّة فإنّها وصف ذهني للأمور الذّهنية بشرط الوجود الذّهني وبهذا يفترق عما ذكرنا إذ يمكن فيه كون الموضوع فيه موجودا خارجيا كالإمكان وقد يقال إنّ القسم الّذي ينتزع فيه الوصف بواسطة الحيثية التّعليليّة الوصف فيه أيضا عين الموصوف كما قال الأشاعرة إنّ وجود الإنسان عين ماهيّته وفيه نظر فإنّ الحيثيّة التقييديّة أو التّعليليّة لا بدّ من اعتبارها مع الذات في انتزاع الصّفة وهي علة لها في الواقع أيضا وواسطة في الثبوت فكيف يكون الوصف فيه عين الموصوف ولا دخل له بقول الأشاعرة فإن مرادهم من عينيّة الوجود والماهيّة أنّهما ليسا بمنزلة السواد والجسم وهاهنا إشكال يرد على القول بعينيّة الأوصاف الاعتباريّة مع موصوفها وهو الإشكال الّذي ورد على القول بأن الإمكان وجودي وهو أنّ الإمكان ليس شيئا موجودا في الخارج بل هو موجود ذهني على القول بوجوده والذّهن مرآة الخارج وظلّ للموجودات الخارجيّة فإذا كان الشيء موجودا في الذّهن دون الخارج كان جهلا مركّبا ونظيره أورد في المقام فإن الوصف الاعتباري الموجود في الذّهن لو لم يكن موجودا في الخارج كان جهلا مركّبا وإن كان موجودا في الخارج كان غير الموصوف ولذا قال جماعة إنّ صفاته تعالى يراد منها سلب الأضداد فالمراد بكونه عالما أنّه ليس جاهلا وهكذا لأنّ الصّفة

 

إن كانت موجودة في الخارج لزم التركيب في الخارج وإلاّ كان جهلا مركبا وأيّدوه بقوله تعالى وكمال توحيده نفي الصّفات عنه والجواب أن الذهن إن كان حاكيا عن الخارج ولم يطابقه كان جهلا مركبا وأمّا إن لم يكن حاكيا عن الخارج فلا يلزم فيه المطابقة للخارج بل يكفي فيه المطابقة لنفس الأمر ومعنى عدم الحكاية عن الخارج أنّه حكم عقلي الموجود الخارجي وصدقه إنما هو بالمطابقة لنفس الأمر فقولنا الإنسان ممكن معناه أنّ الإنسان محكوم بحكم العقل بالإمكان فصدقه مطابقته لنفس الأمر ولا يكفي المطابقة للذّهن لإمكان تصور الكواذب وبهذا نجيب عن الإشكال في المقام فإن ذاته تعالى بسيط من جميع الجهات لكن العقل يحكم باعتبار الحيثيّات بأحكام من كونه عالما قادرا بمعنى أنّ الذات الخارجي هو المنشأ لهذه الآثار بخلاف الممكنات فإنّ ذواتها ليست منشأ لهذه الصّفات بل بواسطة قوّة ذهنيّة موجودة معها في الخارج والصفة قد يراد منها المعنى المصدري ويطلق عليه الأثر بهذا الاعتبار وقد يراد منها المبدأ للأثر فعلى المعنى الأوّل معنى كون الصّفة عين الذّات أنّ الذّات هو المنشأ لهذه الآثار من دون حاجة إلى ضمّ ضميمة إليه وعلى المعنى الثاني معناه أن الذّات يترتّب عليه ما يترتب على هذه المبادي فافهم فلا يلزم تركيب في الذات ويظهر وجه اتحاد الصّفة والموصوف ولا يلزم الجهل المركب وهذا الجواب أحسن مما قيل إنّ صفة العلم والقدرة لانتزع من نفس الذّات حتّى يلزم التركيب بل إنما تنزع منه بواسطة الحيثيّات وملاحظة ترتب الآثار وإن كان ترتب الآثار ناشئا من نفس الذّات بلا واسطة لكن انتزاع مفهوم العالم مثلا إنّما هو من الذات مع ملاحظة ترتب الآثار عليه فالعلم ينتزع باعتبار ملاحظة المعلوم والقدرة باعتبار المقدور فليس منتزعا من الذات حتى يلزم التركيب وفيه أنّه يستلزم الفرق بين صفة الوجود والعلم مع أنّهم لم يفرقوا بينهما من حيث كونهما من صفات الذّات وإن فرقوا بينهما من جهة أخرى وهي أنّ الوجود من صفات الذات غير ذات الإضافة والعلم من صفات الذّات ذات الإضافة وفرق بين صفة الذّات ذات الإضافة وبين الصّفات الإضافيّة وهي صفات الفعل فإنّها إضافيّة لا بدّ في اعتبارها من ملاحظة الطرف المقابل كالأخوّة والأبوّة مثلا بخلاف العلم أو القدرة فإنّ معنى العلم ما به ينكشف الأشياء وهو في الممكن أمر زائد وهو الصّورة الحاصلة وفي الواجب هو الذات وكيف كان فهو شيء مستقل يلزمه تعلقه بشيء آخر فافهم والحاصل أنّهما ينتزعان من الذّات ومعنى الانتزاع حكم العقل بأنّ الذات منشأ لهذه الآثار ولا يلزم التركيب إذ لا يلزم أن يكون له وجود في الخارج كما عرفت ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ الوجود في الذهن لا يستلزم الوجود في الخارج ما ذكره الشيخ في الإشارات من أنّ أجزاء حدّ

 

البسيط أجزاء لحدّه لا لقوامه وهو شيء نفرضه وأمّا هو في ذاته فلا جزء له وأمّا الحق فاعتقادنا فيه أنّه ليس مركبا من الأجزاء الخارجيّة وأمّا الأجزاء الذهنيّة فهي لم تثبت في الماهيّات المتأصّلة الممكنة فضلا عن الواجب إذ ما يعبرون به في حدودها يحتمل أن يكون من قبيل إطلاق صفة العلم والقدرة ونحوهما على الواجب فكما أن تلك الصفات مع تكثّرها لا توجب التركيب في الذات فكذا ما يعبرون به في الماهيّات انتهى مع أدنى تغيير وجه التأييد أنّ معنى ما ذكر هو أنّ أجزاء حد البسيط ليست أجزاء خارجيّة بل إنّما هي أجزاء ذهنيّة فيمكن فرض الجنس والفصل للبسيط إذ لا يلزم التركيب الخارجي ويمكن أن يكون المراد أن ما يذكر في حدود البسائط كالألوان مثلا إنما هو من العوارض واللوازم كغير البسائط فإنّ النّطق ليس من ذاتيات الإنسان بل هو كالضّحك وإنّما الذّاتي هو مبدؤه ومنشؤه وحاصل الكلام أن الصّفة إن كانت مطلقا بالمعنى المصدري فمعنى كونها عين الذّات أنّ الذّات هو مبدؤها ومنشؤها وإن كانت بمعنى المبدإ والصورة الحاصلة فمعنى كونها عين الذّات أنّ الذّات وحده يترتب عليه ما يترتب على الذّات مع المبدإ في الممكن وهو ظاهر لا إشكال فيه إنما الإشكال في الفرق بين صفات الذات كالعلم وصفات الفعل كالخلق إذ لو أريد مفهوم اللفظ فهو غير الذّات مطلقا قطعا وإن أريد المصداق والمبدأ فهو نفس الذّات في الجميع ويمكن الجواب بأنّ صفات الفعل معناها نفس الفعل كالخلق والرزق ونحوهما فإنّ فعل الشخص من صفاته هي لكونها أمرا اعتباريا منتزعا من تأثير العلة في المعلول لا يمتنع كونها زائدة على الذّات والكمال هو كون العلّة بحيث يترتّب عليه الآثار لا أصل نفس الفعل فلا يقدح حدوثه إذ لا يلزم النّقص في الواجب حين انتفائه بخلاف العلم والقدرة فإنّ المراد بهما المبدأ وهو نفس الذّات وأمّا أنّ المراد بالعلم هو المبدأ وبالخالق الذات باعتبار الفعل فهو ناظر إلى الأمر العرفي فإنّه تعالى وصف نفسه بالعالم والخالق فيرجع إلى اصطلاح القوم وهم يفهمون من العالم من له قوة العلم ومن الخالق الخلق الفعلي ولا مشاحة في الاصطلاح كذا أجاب بعضهم وما ذكرنا من عينيّة الصفات بالمعنى الّذي تقدّم هو مذهب الإماميّة والمعتزلة وهناك أقوال آخر لا بأس بالإشارة إليها منها مذهب الأشاعرة وهو أن علمه تعالى زائد على ذاته وموجود مستقل وصور مرتسمة في ذاته تعالى إلاّ أنّ العلم على قسمين أحدهما انتقاش صورة الشيء بعد رؤيته مثلا كالعلم بالشمس بعد رؤيتها والثّاني تصوّر الشيء قبل وجوده كما يتصوّر الفخار وصورة الكوز ويسمى الأوّل بالعلم الانفعالي والثّاني بالعلم الفعلي وعلمه تعالى من القسم الثّاني ومنها أنّ علمه ليس بالصّورة

 

الحاصلة بل هو عبارة عن الأعيان الثابتة القائمة بذاتها الواسطة بين الموجودات والمقدمات وعلمه بها حضورها عنده تعالى لا بصورها كعلم الشخص بنفسه فإنّه ليس بالصورة بل بحضوره عنده إذ ليس الشخص فاقدا لنفسه ومنها مذهب الحكماء وهو أنّ علمه تعالى إنما هو بالصور الحاصلة في العقل الأوّل وعلمه بالعقل الأوّل حضوري لأنّه حاضر عنده بغير صورة ومنها ما ذكره بعضهم من أنّ علمه بالأشياء زائد على ذاته ولا يلزم تركّب الواجب فإنّه إنّما يلزم ذلك إذا كان علمه بالأشياء في مرتبة الذّات وليس كذلك فإنّه ثابت بواسطة علمه بذاته فإن علمه بذاته حضوري وذاته علة جميع الآثار فيستلزم علمه بذاته علمه بجميع آثار ذاته أيضا والكل فاسد أمّا إجمالا فبالإجماع وأمّا تفصيلا فبأنّهم قد ذكروا أن الواجب الوجود بالذّات من جهة يجب أن يكون واجبا من جميع الجهات إذ لو كان فيه جهة ممكنة لكانت محتاجة إلى علة ينتهي إلى الواجب وقد ثبت ببرهان التوحيد أنّ الواجب لا يتعدّد فيجب أن يكون علّة تلك الجهة نفس الواجب فيلزم أن يكون الواجب فاعلا وقابلا من جهة واحدة إذ المفروض أنّ تلك الجهة مأخوذة في الواجب وإن فرضت فيه الجهتين لزم التركيب في الواجب من جهة الفعل وجهة القبول وهو محال وبهذا يظهر أنّ كل صفة أمكن وجودها في الواجب بالإمكان العام وجب ثبوتها له وكونها عين الذّات إذ لو كانت ممكنة بالإمكان الخاصّ لاحتاج ثبوتها للواجب إلى علّة هي نفس الواجب فيلزم تركب الواجب من جهتي الفعل والقبول وقد يقرر هكذا لو كان في الواجب جهة إمكان لاحتاج ثبوتها وعدم ثبوتها إلى علة إذ هو معنى الممكن فيجب أن يكون الواجب معلولا في بعض جهاته إمّا لنفسه وهو مستلزم لتقدّم الشيء على النّفس أو لغيره وهو يقتضي الخروج عن الوجوب وقد يقدر بأن جهة الإمكان إن كانت معتبرة في جهة الوجوب خرج جهة الوجوب إلى الإمكان وإلاّ فلا معنى لجواز ثبوته للواجب إذ لا يجوز التغيّر في الواجب وكيف كان ظهر لك بطلان الأقوال الأخر إذ الأوّل مستلزم للتّركيب والثّاني غير معقول إلى الواسطة بين الوجود والعدم والثالث مستلزم للنقص إذ لم يجعل العلم في مرتبة الذات مضافا إلى أنّ علم العقل الأوّل لا بدّ له من علة تنتهي إلى علم الواجب وكذا الرابع فإنّه جعل العلم في غير مرتبة الذات فهو مستلزم لأن يكون في مرتبة الذات ناقصا وهو باطل بإجماع الأنبياء وأهل الملل والعقلاء وإقرار الخصم وعلم مما ذكرنا بطلان ما استدلّ به الرازي من الوجوه الأربعة أمّا الأوّل فبأنّ كنه الذات مجهول ومفهوم الصّفات معلوم وكنه الذّات غير مفهوم الصّفات كما ذكرنا وأمّا الثّاني فبأنّ النزاع يرجع إلى أنّ الذات هل ينتزع منها الصّفة الفلانية أو لا وبه يعلم بطلان الثالث أيضا فإن مصاديق الصّفات واحدة وأمّا المفاهيم فمتغايرة

 

والنزاع يرجع إلى جواز انتزاع هذا المفهوم من الذات وعدمه وأمّا الرّابع فبأنّ مصداق الصفات موجود وأمّا مفهوماتها فأمور اعتبارية متغايرة وهو لا يوجب تغاير المصداق بقي الجواب عن استدلال الأشاعرة بالمسألة اللغوية فنقول الجواب الإجمالي أنّه بعد ما قام الدّليل العقلي على أن صفاته تعالى عين ذاته نقول إنّ إطلاق المشتق عليه مجاز لغوي وأمّا الجواب التفصيلي فهو متوقف على فهم معنى المشتق والمبدإ وأنّه هل يشترط المغايرة بينهما وهل يشترط قيام المبدإ به أو لا فنقول قيل إنّ الذّات غير مأخوذة في المشتق بل المشتق عين المبدإ إلا أنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا والمشتق مأخوذ لا بشرط كالفرق بين الجنس والمادة فإنّ الجسم إن لوحظ بشرط أن لا يكون معه شيء آخر بل كل ما فرض معه يكون خارجا عنه يكون مادة وإن لوحظ لا بشرط بحيث يجوز فرض شيء آخر معه داخل فيه فهو جنس ولهذا يجوز حمل الجنس على النوع ولا يجوز حمل المادة عليه فكذا نقول في المبدإ والمشتق وحينئذ يكون الفرق بينهما اعتباريّا كما ذكر المنطقيّون أنّ الفرق بين النّطق والناطق اعتباري وحينئذ فنقول الحمل عبارة عن اتحاد الوجودين ووجود العلم عين وجود العالم إذ ليس المراد وجود ذات العالم بل المراد وجود العالم بعنوان أنّه عالم فالوجودان متحدان فلا ضرر في حمل أحدهما على الآخر فيقال العالم علم وبالعكس إذا لاحظ المبدأ لا بشرط ولو كان الذات مأخوذا في المشتق فإمّا يكون المراد مفهوم الذات فيلزم أن يكون الفصل عرضيّا كالناطق فإنّ مفهوم ذات ثبت له النطق ليس ذاتيّا للإنسان وإمّا أن يكون المراد مصداق الذات فيلزم انقلاب الممكنة ضروريّة فإنّ قولنا زيد كاتب ممكنة ولو لوحظ مصداق الذّات لكانت ضرورية لضروريّة أنّ الذات ذات انتهى وفيه نظر لأن كلمات المنطقيين ليست بملاحظة اللغة وإنّما هي لبيان ما يتعلّق به غرضهم من الأجناس والفصول فإنّ كنه الفصول مما لا يدركه العقل وإنما يدرك ببعض الخواصّ النّاشئة منه فالمراد بالنطق الّذي هو الفصل مبدؤه الّذي هو غير مدرك بكنهه وقولهم الناطق متّحد مع المبدإ وجودا ليس المراد به مبدأ الاشتقاق بل المراد به مبدأ النطق وهو القوّة فليس له تعلق بالاشتقاق وأمّا انقلاب الممكنة فباطل لأن الذّات مع أخذ الكتابة فيه ليست بضروري الثبوت لزيد نعم الذات البحت ضروري الثبوت وهو ليس معنى المشتقّ فالحق أنّ الذّات مأخوذة في المشتق لغة ولكن المغايرة المفهوميّة كافية بين الذات والصّفة وهي المغايرة الذهنيّة كما سلف فافهم ولعلّك تسمع للمطلب زيادة توضيح في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى الثاني أنّ المراد بالأحكام إمّا العموم فيلزم خروج أكثر الفقهاء بل كلهم وإن أريد البعض دخل المتجزي وأجيب أوّلا باختيار الشقّ الأوّل وهو أنّ المراد جميع الأحكام ولكن بحمل العلم على الملكة وثانيا باختيار

 

الثاني وهو أنّ المراد بعض الأحكام والتجزي إن قلنا باستحالته فلا إشكال وإن قلنا بإمكانه فإن كان علمه حجة فلا ضرر في دخوله وإلاّ فإن كان التّعريف للفقه مطلقا أعمّ من الصحيح والفاسد فلا ضرر في دخوله أيضا وإن كان للفقه الصّحيح ورد الإشكال ويمكن أن يجاب بخروجه بقيد العلم بالأحكام لما يأتي أنّ المراد الأحكام الظّاهريّة والمتجزي لا علم له بالحكم الظاهريّ إذ ليس حجّة في حقّه واعترض على المجيب بوجوه أحدها أنّ جعل العلم بمعنى الملكة باطل لوجوه منها أنّ الملكة لا تتعدّى بالباء فلا معنى لأن يقال الملكة بالأحكام ومنها أنّ ملكة الأحكام لا تحصل من الأدلّة بل من الممارسة والمزاولة إلاّ أنّ يجعل الظّرف متعلقا بالأحكام ومنها أنّ أسماء العلوم ليست أسماء للملكات بل لنفس المسائل أو لإدراكها ومنها أنّ إرادة الملكة مستلزمة لسبك المجاز عن المجاز بضميمة ما يقال إن المراد من العلم هو الظن لأنّ أكثر الأحكام ظنيّة فيكون استعمال العلم في ملكة الظنّ من قبيل سبك المجاز عن المجاز والثّاني أنّ تسليم دخول المتجزي بناء على إرادة البعض لا وجه له مطلقا لأنّ المراد ليس البعض مطلقا بل المراد القدر المعتدّ به فالمتجزّي إن لم يعلم القدر المعتدّ به فقد خرج وإن علم به وكان حجّة فلا وجه لإخراجه وإلاّ فليس بداخل لأنّ المراد الجزم بالحكم الظّاهري ولكن يلزم على هذا خروج من ليس له العلم بالقدر المعتدّ به وإن كان له ملكة الكلّ وهذا غير بعيد بل هو كذلك وإن كان تحقق هذا الفرض بعيدا أقول أمّا قوله الملكة لا تتعدى بالباء فيمكن دفعه بأنّ المراد ملكة الظنّ وأمّا قوله إنّ الملكة تحصل بالممارسة فيدفع بتعلّق الجار بالأحكام وأمّا قوله إنّ أسماء العلوم ليست أسماء للملكات فهو محلّ إشكال وفيه أقوال ثلاثة أحدها أنّها أسماء للملكات والثّاني أنها أسماء لجميع المسائل والثالث أنّها أسماء للمسائل المعروفة وأمّا المتجدّدة فراجعة إليها ويشكل الأوّل بأنّه يلزم عليه صحّة إطلاق الفقيه على من لم يعرف مسألة من الفقه فعلا ولكن كان له القوة والملكة وليس كذلك والثاني بأنّه يلزم عليه أن لا يطلق الفقيه على أحد إذ لا يعرف جميع المسائل إلاّ الله والثالث بأنّه إنما يتمّ إرجاع المسائل المتجدّدة إلى المعروفة عند اتحاد موضوع المسألتين وأمّا عند اختلافهما فلا كما لو كان المعروف من مسائل النحو أنّ الفاعل مرفوع فلا يمكن إرجاع المفعول منصوب إليه إذ لا ربط بينهما فيلزم أن لا يكون من النحو ويمكن دفع الإيراد الثاني بالتسليم بأن يقال إنّ الفقه اسم للعلم بالجميع فلا أحد يعلم الفقه بل كلّ فقيه فهو عالم ببعض الفقه فيكون الفقه علم شخص للمسائل إذ لا جامع بين المسائل المختلفة حتى يكون اسم جنس أو علم جنس ولكن إذا تعقب بالعلم أو أطلق على إدراك المسائل كان المراد أعم من بعض

 

المسائل وكلها فلو علم بعض المسائل صدق عليه الفقيه بهذا المعنى كما لو علم الجميع وكيف كان فلهذا الإشكال وجه وأمّا قوله إنّ إرادة الملكة مستلزمة لسبك المجاز عن المجاز فنقول عليه إنّ سبك المجاز عن المجاز أقسام أحدها ما هو المعروف من أن يستعمل اللّفظ في معنى مجازيّ ومنه في مجاز آخر بالنسبة إلى ذلك المعنى المجازي والثاني أن يستعمل اللّفظ في معنى لمناسبته مع المعنى المجازي من دون أن يكون له مناسبة مع المعنى الحقيقي ولو بالواسطة ولا ريب في فساد هذين القسمين والثالث أن يستعمل في معنى مناسب للمعنى المجازي بحيث يحصل المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي بواسطة تلك المناسبة كاستعمال الأسد في زيد لمناسبة مع الشجاع المناسب للأسد في الشجاعة والرابع أن يستعمل في المجاز المناسب ويراد المجاز الغير المناسب بادّعاء أنّه من الأفراد المناسبة كاستعمال العلم في الظنّ الفعلي وإرادة الملكة منه بادّعاء أنّها من أقسام الظنّ الفعلي ويمكن ادعاء عدم الدّليل على فساد هذين القسمين بل الدّليل قائم على صحتهما أمّا الأوّل فلاستعمال الأسد في زيد في العرف شائعا وأمّا الثاني فلحكم المحققين بإرادة ملكة الظنّ من العلم وهو كاف في إثبات صحّة الاستعمال ولكن التحقيق فسادهما أيضا لتوقيفية الاستعمال ولم يثبت أمّا الأوّل فلأنّ استعمال الشجاع في زيد غير ثابت بل هو من قبيل إطلاق الكلي على الفرد وهو ليس بمجاز وأمّا الثاني فلمنع عدم مناسبة ملكة الظنّ للعلم بل المناسبة متحققة وهي المشابهة في السببية للإدراك فهو مستعمل فيها ابتداء ولا يلزم سبك المجاز عن المجاز حتى يكون باطلا وأمّا الاعتراض الثاني وقوله بإرادة القدر المعتد به فقد عرفت أنّه لا وجه له بل التحقيق أن يقال إن كان المراد بالأحكام الجميع وبالعلم العلم الفعلي لم يدخل أحد في الفقيه ولكن كل فقيه يعرف بعض الفقه وأمّا علم المتجزي على فرض إمكانه فإن كان حجّة صدق عليه العلم ببعض الفقه وإلا فلا وإن كان المراد بالأحكام البعض فإن أريد القدر المعتدّ به خرج غير العالم به مطلقا ودخل المتجزي العالم به وإن أريد البعض مطلقا دخل المتجزي وعلى التّقديرين إن كان حجة فلا ضرر وإلا خرج بما بينا الثالث أنّ الفقه كله ظنيات فتعريفه بالعلم بالأحكام فاسد وأجيب عنه بوجوه منها أنّ المراد هو الظنّ بعلاقة وجوب العمل ومنها أنّ المراد الاعتقاد الراجح بعلاقة رجحان الحصول ويردّهما عدم وجود القرينة ومنها أنّ المراد من العلم هو معناه الحقيقي ولكن المراد من الأحكام الأعمّ من الأحكام الواقعيّة والظّاهرية والحكم الظّاهري معلوم واعترض عليه بأنّ الفقه هو العلم بخصوص الحكم الظّاهري لأنه الّذي يبنى عليه في مقام العمل والفقه موضوعه عمل المكلّف فالتعميم للظاهريّ والواقعي لا وجه له وفيه

 

نظر لأنّ الحكم الواقعي قد يكون معلوما فيتعلّق بالعمل ولا يسمّى حينئذ حكما ظاهريّا فالتعميم أولى ولكن فيه إشكالات أحدها أنّ الفقه ليس عبارة عن العلم بالحكم الظاهري لأنّ الفقه إنّما يبحث فيه عن ثبوت الأحكام الواقعية لموضوعاتها لأنّ الحكم الظاهري ليس قابلا للنّفي والإثبات والنّزاع والجدال فلا يكون البحث عن المسائل المختلف فيها بحثا عن الفقه وهو ظاهر البطلان لأنّ الفقه إمّا اسم للمسائل أو للعلم بها والثاني أنّ العلم بالحكم الظّاهري ليس حاصلا من الأدلّة التفصيليّة بل إنما يحصل من دليل اعتبار تلك الأدلّة إذ المراد بالحكم الظّاهري هو هذا لا مثل الوجوب الثّابت بالاستصحاب والطّهارة الثّابتة بالأصل فإنّه هنا داخل في الحكم الواقعي وإن أطلق عليه الحكم الظّاهري باصطلاح آخر وأجيب عنه بوجوه منها أنّ الظرف متعلق بالعلم باعتبار ما تضمّنه من معنى مطلق الاعتقاد فلا يجب أن يكون الجزم به أيضا حاصلا من تلك الأدلّة ولا ريب أنّ هذا بعيد جدّا ومنها أن الظّرف متعلّق بالمستنبطة المقدّرة صفة للأحكام ويخرج علم الملائكة والأنبياء بقيد الحيثيّة ومنها أنّه متعلق بالعلم والحكم مظنون فالمدرك مظنون وظنية المدرك لا يستلزم ظنية الإدراك وفيه أنّه إن كان المراد عدم التنافي بين ظنيّة المدرك وقطعيّة الإدراك الّذي أدرك به ذلك المدرك فهو ظاهر البطلان وإن أريد إدراك آخر متعلق بذلك المدرك فهو ممكن لأنّ الحكم إذا صار مظنونا بسبب الأدلّة أدرك النفس ظنيتها قطعا فينحصر الأحكام المظنونة عند النّفس بسبب تلك الأدلّة والنفس عالم بمظنوناتها ولكن يلزم كون الفقه من قبيل التّصورات وهو فاسد فالأولى أن يقال إنّ الفقه هو العلم بالأحكام عن الأدلّة المعتبرة والعلم بالحكم الظّاهري أيضا حاصل من الأدلّة المعتبرة أمّا أصل الاعتقاد فمن ذات الدليل وأمّا الجزم فمن اعتبار ذلك الدليل لكن التحقيق ما عرفت أن الفقه عبارة عن الأحكام الواقعية لا الظاهريّة فالإيراد وارد إلاّ أن يراد من العلم مطلق الاعتقاد فيرد عليه ما سلف والثالث أنه كيف يكون الواقعي مظنونا وطريقه قطعيّا كما قيل إنّ ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم وأجيب بأنّ الحكم الواقعي مظنون بمقتضى دليله ولكن مقتضى دليل حجيّة ذلك الدّليل أنّ ذلك المظنون يصير حكما شرعيّا فيكون مظنون الوجوب واجبا ومظنون الحرمة حراما ولا تنافي بين كون ذات العمل مظنون الوجوب وكونه واجبا من حيث إنّه مظنون الوجوب وقيل ليس مقتضى دليل حجية الأدلة إلاّ وجوب العمل بمقتضاها لا صيرورة مقتضاها حكما شرعيّا في الظاهر وتصوير الفرق بين القولين مشكل ومحلّه مسألة التخطئة والتصويب وسيأتي إن شاء الله هذا تمام الكلام في

 

بيان المضاف والمضاف إليه من أصول الفقه بقي معنى الإضافة ومقتضاها فنقول قيل إنّ الإضافة تفيد الاختصاص فإن كانت إضافة اسم المعنى أفادت الاختصاص في الوصف العنواني نحو هذا مملوك زيد فإنّه يفيد الاختصاص في الملك وإن كانت في الأعيان أفادت الاختصاص لكن لا يعلم جهة الاختصاص إذ ليس فيه الوصف العنواني وعلى هذا فمعنى أصول الفقه المباني المختصّة بالفقه والاختصاص أعمّ من الاختصاص في التّدوين ليشتمل بعض مسائل الأصول الّذي يستنبط منه غير الفقه أيضا ولكن تمهيد إنّما هو لأجل الفقه فينحصر في المعنى العلمي وهو علم الأصول فظهر المناسبة بين المعنى العلمي والإضافي فإنّ المراد بالأصول على ما سبق هو المعنى اللغوي لا الدليل والقاعدة لما سبق وفيه نظر إذ لا نسلم كون الإضافة مفيدة للاختصاص وإلاّ لزم إفادته في مثل الله ربّي ومحمّد نبيّي ونحو ذلك وأمّا في مثل هذا مملوك زيد فاستفادة الاختصاص إنّما هو من عدم قابلية كون المال الواحد تمامه ملكا لشخصين وتعميم الاختصاص يوجب شمول الأصول للرجال أيضا لأنّ تمهيده إنما هو لأجل الفقه وحينئذ فيشمل كلما يبتني عليه الفقه فيكون أعمّ من المعنى العلمي إلا أن يحمل الإضافة على العهد ولا دليل عليه

الأمر الرابع في بيان موضوع علم الأصول

فنقول قد استشكل في كون الأصول علما مستقلا حتّى يكون له موضوع وذلك لاختلاف موضوعات مسائله لاختلافها فبعضها من علم العربيّة وبعضها من الحكمة وبعضها من غيرهما فليس بعلم مستقل بل هو عبارة عن مجموع مسائل متفرّقة من علوم متفرّقة مختلفة في الموضوع قد اجتمعت في الأصول فيتكلّمون فيها هنا لأنّ أكثر الطلبة لا يتقنونها في محلّها ولا يمكن إتقان الفقه بدون إتقانها وهذا هو مقتضى تعريفه بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام فإنّه موجب لعدم كون الأصول علما مستقلا إذ لا موضوع له حينئذ وتمايز العلوم إنّما هو بتمايز الموضوعات وقيل إنّ موضوع الأصول هو أدلة الفقه يعني الكتاب والسنّة والإجماع والعقل بعد فرض حجيّتها ونوقش فيه بأنّه يبحث في العلم عن عوارض الموضوع بعد إحرازه فلا يمكن التكلّم في علم الأصول في حجيّة الكتاب والسنّة والإجماع والعقل مع أنّ أكثر الأصول هو التكلّم في ذلك وفيه أنّه إنما يتم بالنسبة إلى الكتاب والعقل وأمّا السنّة والإجماع فلا لأنّهم إنما يتكلّمون في حجيّة الحديث ومعنى حجيّته أنّه هل يثبت السنة أعني قول المعصوم بالحديث أو لا فيكون بحثا عن عوارض السّنّة ولا يتكلّمون عن حجيّة السّنّة وكذا الكلام في حجيّة الإجماع أنّه هل يثبت به رأي المعصوم أو لا وقيل إنّ الموضوع هو ذات تلك الأدلّة أو كلّ ما يصلح أن يكون دليلا في نظر العرف لا شرعا ليدخل القياس والبحث عن

 

دليليّتها أيضا داخل في البحث عن عوارض الموضوع ولكن يشكل الأمر في بعض مسائل الأصول كمسائل الاجتهاد والتقليد ومقدّمة الواجب وأمثال ذلك ويمكن إدخال الأوّل بأن يقال البحث عن حال الأدلّة إمّا يكون عن دلالتها وإمّا يكون عن دليليّتها وعلى الثاني إمّا أن يكون عن دليليّتها في نفسها وإمّا يكون عن دليليّتها على بعض الأشخاص دون بعض ولكن يخرج مسائل التّقليد وتكون مذكورة بالتّبع والاستطراد وأمّا المسائل الآخر فيجب في إدراجها في الأصول وتميز موضوعاتها وأنها داخلة في العلم أو في المبادي اللغويّة أو الأحكامية من إمعان نظر وإعمال فكر لأنّ بعضها مما لا يمكن إدراجها في الأصول إلاّ بتكلّف وبعضها مما وقع الخلاف فيها كمسألة اجتماع الأمر والنهي حيث قيل بدخولها في المسائل الكلاميّة وقيل غير ذلك وليس هنا مقام تحقيق ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى فلنقتصر على ما ذكرنا فإن فيه كفاية

أصل في علائم الوضع

قد تداول بين الأصوليّين ذكر جملة مما يثبت به الحقيقة والمجاز في كتبهم ويتكلّمون على كيفيّة ثبوتها بها كنقل أئمة اللّغة والاستقراء إذ لا فرق بين الوضع الهيئتي الثابت بالاستقراء والمادي الثابت بغيره وكالتبادر وصحّة السّلب والاطراد وغيرها حتى أنّ بعضهم استدل في إثبات أنّ للعام صيغة تخصه بالعقل وإنّ مقتضى الحكمة في الوضع أن يوضع للعام أيضا لفظ لكونه من المعاني المحتاج إليها في المخاطبات واقتصر الأغلب على بيان كيفية دلالتها على الحقيقيّة والمجازيّة ولم يتعرضوا لوجه حجيّة المذكورات على فرض الدلالة إلاّ القليل مع أنّه أهم فلنقدّم الكلام فيه فنقول اختلفوا في أنّ وجه حجيّة الأمور المذكورة هل هو أمر واحد هو المدار في الحجيّة إن وجد كان حجّة وإلاّ فلا أو إن كلاّ منها أمر مستقلّ ثبت حجيّته بالخصوص ذهب إلى كل فريق والأوّلون اختلفوا في أنّ المدار في الحجيّة هو حصول العلم بالوضع لانفتاح باب العلم في اللّغة وتلك المذكورات أسباب لحصوله أو لا بل المدار هو الظن والمذكورات أسباب له ذهب إلى كل جماعة والقائلون بأنّ المدار على الظنّ اختلف كلماتهم في بيان وجه حجيّته في اللّغة فتارة استدلوا بتقرير المعصومين أصحابهم على العمل بالظنون في مقام تميز الحقيقة والمجاز بل أمروهم بتدوين علم اللّغة كما قرروهم على العمل بالظواهر في تعيين المراد في مقام المخاطبة بل ادعى بعضهم الإجماع على حجيّة الظنّ في اللغات وتارة استدلوا بانسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة واستلزام الاحتياط للعسر والحرج والبراءة للخروج عن الدّين فيثبت حجيّة الظن بالحكم الشرعي ولازمه حجية كلّ ظنّ استلزم الظّن بالحكم الشرعي كالظن في اللغات بقول

 

اللّغويّين وفي الرّجال بقول أصحاب الرّجال فإنّ قول اللّغويّ الصّعيد هو التّراب مثلا يحصل منه الظّنّ بأنّه معناه ويستلزم ذلك الظّنّ بأنّ الواجب في التّيمّم هو التّراب وهو حجّة فيكون ما يستلزمه أيضا حجّة وحينئذ لا نحتاج إلى القول بانسداد باب العلم في اللّغات بل يثبت حجّيّة الظّنّ فيها بالدليل المذكور وإن كان باب العلم فيها مفتوحا وتارة استدلّ بانسداد باب العلم في نفس اللّغات بتقرير أنّ الواجب علينا هو العمل بما في الكتاب والسّنة وهما من الألفاظ الّتي نحتاج إلى فهم معانيها وكذا جميع مباحث اللّغات محتاج إليها وباب العلم في ذلك منسد فإمّا نقول بالاحتياط أو البراءة أو العمل بالظّنّ والأوّلان باطلان بما مر والثّالث هو المطلوب وعلى هذا نحتاج إلى إبطال القول بالانفتاح في اللّغة وإبطال القول بحجّيّة المذكورات بخصوصها إذا الظّنّ المطلق لا يصير حجّة إلاّ بعد عدم التّمكن من الدّليل المعتبر علما أو بالظّنّ المعتبر الخاصّ ويظهر الثّمرة بين الاستدلالين الأخيرين في حجّيّة الظّنّ في الموضوعات كما لو أقرّ بالصّعيد أو نذر أو أوصى فعلى الأوّل لا يمكن العمل في تعيين معنى الصّعيد بالظّنّ الّذي كان معتبرا في باب التّيمّم إذ لا يستلزم هنا الظّنّ بالحكم الشّرعي الكلّي الّذي هو المناط في الحجّيّة وعلى الثّاني أعني إجراء دليل الانسداد في نفس اللغات لا يتفاوت الأمر بين الأحكام والموضوعات ونظير ذلك الظّنّ الحاصل بعدالة الرّاوي بتعديل واحد من أهل الرجال فإنّه حجّة في قبول روايته أمّا في صحّة الاقتداء به في الصّلاة فإن أجرينا الانسداد في الأحكام فلا يكون ذلك الظّنّ حجّة بل يحتاج إلى المعاشرة وإن أجريناه في نفس علم الرجال فيكون حجّة في صحة الاقتداء أيضا وأمّا القائلون بحجّيّة المذكورات بخصوصها فلم يتعرضوا لذلك إلاّ في أمور أحدها نقل اللّغويّين فتمسكوا في حجّيّته بالإجماع على العمل به وتقرير المعصومين وأمرهم أصحابهم بتدوين اللّغات مع تدوين غالب اللّغات في زمانهم وإلاّ لم يكن فائدة في ضبط اللّغات وتدوينها وحينئذ فحجّيّته هل هو بقيد شرعي لا يعتبر في النّاقل ما يحصل منه الظّنّ نوعا ككونه صدوقا ضابطا أو لا بل يعتبر ذلك أو يلزم الظّنّ فعلا أمّا الأوّل فباطل جدّا إذ ما ادّعي من الإجماع والسيرة قائم على خلافه فإن بناءهم على عدم الاعتماد على نقل الكذوب أو كثير السّهو وهو ظاهر وكذا الثّالث إذ ليس بناؤهم على التّوقف في العمل على حصول الظّنّ فعلا حتّى أنّه لو زال الظّنّ بسبب معارضة القياس مثلا لم يتركوا العمل بالنّقل ولو كان الظّنّ معتبرا فعلا وجب تركه مثبت حجّيّة من باب إفادة الظّنّ نوعا ولا يعتبر في النّاقل إلاّ الصّفات الّتي تصير سببا لحصول الرّجحان نوعا والثّاني في أصالة العدم وهي عبارة عن أصالة عدم الوضع وأصالة عدم القرينة وبالأوّل يثبت المجاز

 

وبالثّاني الحقيقة فإنّه إذا شك في أنّ تبادر ذلك المعنى من اللّفظ هل كان مستندا إلى القرينة أو لا فينفيها بالأصل فيثبت أنّ التّبادر وضعي لا إطلاقي ويرجع إلى أصالة عدم الوضع أصالة عدم النقل وأصالة عدم الاشتراك وأصالة تأخّر الوضع إذا الأوّل معناه أصالة عدم الوضع للمعنى الجديد وهجر المعنى الأوّل والثّاني معناه أصالة عدم الوضع لهذا المعنى المشكوك والثّالث معناه أصالة عدم الوضع في الزّمان السّابق على الزّمان الّذي علم تحقق الوضع فيه والكلام في حجّيّة المذكورات أيضا على النحو السابق هل هي تعبدي أو من باب الظّنّ النوعي فلا يضر مخالفة القياس بحيث يرتفع الظّنّ فعلا من المذكورات أو من باب الظّنّ الشخصي فيضر ذلك والأوّل باطل كالسّابق إذا التّعبّد المدعى هنا إمّا عقلي أو شرعي والأوّل ظاهر البطلان إذا العقل ناظر إلى الواقع فمتى لم يحصل الثّبوت الوضع الواقعي رجحان في نظره لا معنى لأن يحكم به لاستحالة التّرجيح بلا مرجّح وكذا الثّاني إذ ما يستدلّ به في المقام هو أدلّة حجّيّة الاستصحاب فنقول أمّا أولا فقد قيل بعدم شموله للمباحث اللّغويّة وهو محل تأمّل وأمّا ثانيا فنقول إجراء الاستصحاب في المقام باطل لكونه أصلا مثبتا وهو عبارة عما إذا ترتّب على إثبات شيء بالاستصحاب لوازمه العادية أو العقليّة وبواسطة ذلك يثبت الحكم الشرعي مثلا إذا شك في اشتراك لفظ واقع في الكتاب فبأصالة عدم الاشتراك يثبت اتحاد الموضوع له وبه يثبت أنّه مراد في الكتاب فكونه مرادا ليس من لوازم عدم الاشتراك لأنّ عدم الاشتراك يجتمع مع كون اللّفظ مهملا بل هو من لوازم اتّحاد المعنى وهو من لوازم عدم الاشتراك في خصوص المقام والأخبار الدالة على حجّيّة الاستصحاب لا يشمل هذا لظهورها في حجّيّة الاستصحاب بالنسبة إلى إثبات الأحكام الشرعية للمستصحب بلا واسطة لا الأحكام العادية ولا الشرعيّة بالواسطة فالحجّيّة من حيث التّعبّد لا دليل عليه وكذا من حيث الظّنّ الفعلي إذ هو مخالف لطريق العرف لعدم توقّفهم على حصول الظّنّ منها بل طريقتهم الاعتماد عليها من حيث الرجحان النوعي حتى لو ارتفع الظّنّ بها فعلا لم يتركوا العمل بها بل ذلك هو سيرة العقلاء إذ لم يتوقف أحد في حمل كلام المتقدمين على المعنى الثّابت وليس ذلك إلاّ لأصالة عدم النقل ولم يتوقفوا على حصول الظّنّ فعلا مضافا إلى تقرير المعصومين إذ ليس ذلك مختصا بزمان دون زمان بل هو جار من لدن آدم إلى زماننا هذا لم ينكره أحد مضافا إلى دعوى الإجماع عليه من غير واحد فثبت أنّ ذلك أيضا من باب الظّنّ النّوعي والثّالث الاستقراء فقد ادّعوا الإجماع على حجّيّته بخصوصه بل قالوا

 

برجوع الأصول العدمية إليه وهو أيضا حجّة من باب الظّنّ النّوعي هذا حاصل ما ذكره القائلون بحجّيّة المذكورات بخصوصها وأمّا القائل بانفتاح باب العلم في اللّغات فله مسلك آخر وهو أنّ حجّيّته بعض ما ادّعوه من الظنون الخاصة مسلم لا كلّيّة والمسلم من حجّيّة نقل اللّغويّين هو النقل الّذي كان مشتملا على شرائط الشهادة من العدد والعدالة والإجماع فيما عدا ذلك ممنوع وما يوقع في الوهم هو أنهم كانوا يقولون على مطلق النّقل في حل اللّغات الواردة في الأشعار والخطب دون ما يتعلّق بالأحكام الشرعية ولا ريب في اعتبار الظّنّ المطلق في أمثال ذلك لأنّ المدار في أمثاله يكون على المسامحة ولا يثمر في المقام وأمّا الأصول العدمية فحجّيّتها بخصوصها مما لا يمكن إنكاره لكنّه لا يثمر غالبا إذ لا يثبت بها وضع لشيء معين بل ينفى بها الوضع الجديد إمّا مطلقا كأصالة عدم النقل والاشتراك أو في زمان خاص كأصالة التّأخّر وأصالة عدم القرينة فرع التّبادر بل الحق أنّ المدار في اللّغات على العلم إذا اللّغة إمّا مادة أو هيئة والعلم بالأوّل قد يحصل بنقل أهل اللّغة وإرسالهم المسلم فإذا شاهدناهم يذكرون للّفظ معنى بطريق التّسليم من دون نقل المخالف يحصل العلم بذلك خصوصا إذا تعدد الناقل وقد يحصل بالرّجوع إلى لسان أهل العرف وما يفهمونه بلا قرينة وهو أيضا يفيد العلم وإذا شكّ في استناد فهمهم إلى القرينة دفع بأصالة العدم الّتي ثبت حجّيّتها بخصوصها وإن احتاج إلى إثباته بالنّسبة إلى الزمان السّابق تمسّك بأصالة عدم النقل وهو أيضا كذلك والثّاني يعلم بالاستقراء القطعي وهو كثير وبالجملة المداد في اللغة غالبا على العلم وإن لم يتم بنفسه فبضميمة الظنون الخاصة وإذا لم يكون فالاحتياط أو البراءة لعدم استلزامهما العسر والخروج من الدين لأنّ المورد المحتاج إليها أقلّ قليل وإن لم يمكن إجراؤهما في مورد فحينئذ يعمل بالظنّ المطلوب كما لو اشتبه معنى الكلالة مثلا وتردد بين شخصين ولم يمكن تعيينه بالعلم والظّنون بخاصة فحينئذ يعمل بالظّنّ المطلوب إذ لا يمكن الاحتياط بإعطائهما معا المال الموروث ولا البراءة بمنعهما عنه والحاصل عدم حجّيّة الظّنّ المطلوب في اللّغة إلاّ في أمثال هذه الموارد هذا والحق حجّيّة الظّنّ المطلوب في اللّغات وبطلان القولين الآخرين أمّا القول الأوّل فنقول الاستدلال بالإجماع المذكور فيه غير تمام إذ الإجماع إنّما هو على العمل بالمذكورات ووجه العمل غير معلوم فلعلّه لحجّيّة الظّنّ المطلوب ولا تسلم أنّهم كانوا يعملون بالمذكورات وإن لم تفد الظّنّ فعلا ويؤيد ذلك أنّ بعض القائلين بحجّيّة نقل النقلة قد صرح في موضع آخر بتحقق الإجماع على حجّيّة الظّنّ في اللّغة أو حجّيّة الظّنّ المطلوب فيها والأوّل أيضا ظاهر في الظّنّ المطلوب لورود الحجّيّة على طبيعة الظّنّ فيه مع أنّ نقل النقلة إذا كان ظنّا خاصّا فإما يكون من باب النبإ أو الشهادة وليس كذلك لابتنائهما على العلم والحسّ

 

ونقل النقلة ليس مبنيا عليهما بل هو مبنيّ على اجتهاداتهم الظنّيّة واجتهاد شخص لا يكون حجّة على آخر إلاّ إذا أفاد له الظّنّ وحجّيّته حينئذ من باب الظّنّ المطلوب ويؤيده أنهم أوردوا على الاستدلال لحجّيّة مفهوم الوصف بفهم أبي عبيدة من قوله عليه‌السلام ليّ الواجد يحل عقوبته أنّ ليّ غير الواحد لا يحل عقوبته بأنّه كان عن اجتهاد وهو لا يكون حجّة ونظيره ما ذكروه من أنّ حجّيّة تعديل أرباب الرجال للرّاوي ليست لكونه من باب النبإ والشهادة بل هي لكونه مفيدا للظنّ المطلق لأنّه مبنيّ على اجتهاداتهم لا على العلم والحس فإن قلت إنّ عملهم على نقل النقلة كاشف عن أنّ نقلهم مبني على النقل القطعي من الواضع لا على الاجتهاد قلت إنّ هذا أمر وجداني يظهر لمن شاهد الاستدلالات المذكورات في تلك الكتب حيث يستدلّون بالوجوه الضّعيفة الّتي قد لا يحصل منها الظّنّ المطلق فضلا عن كونها مفيدة للعلم ومن العيان أنّ كل مصنّفي اللّغة لم يكن تصنيفهم ونقلهم مبنيا على الاستقراء القطعي بل كل منهم يعتمد على ما يفيد له الظّنّ وحينئذ فليجعل ذلك دليلا على أنّ وجه الإجماع على العمل بالمذكورات هو حجّيّة الظّنّ مطلقا وأمّا التّقرير فلعلّه أيضا لحجّيّة الظّنّ مطلقا بل لا يمكن أنّ يستدلّ به على الظّنّ النوعي إذا التّقرير إنّما هو لاحق لعمل العامة بالمذكورات فلا بد أن يكون عملهم بها مستندا إلى حكم العقل وهو لا يتعبّد بالشك والوهم والظّنّ النّوعي إن لم يكن فعليا فهو عين الشكّ والوهم فظهر أنّ التّقرير إنّما هو على العمل بها من باب الظّنّ الفعلي وهو عين القول بالظنّ المطلق إذ القائل بالظنّ الخاص قائل بكفاية الظّنّ النوعي وهو غير ما قرره الإمام عليه‌السلام وأمّا الثّاني فيما ذكرنا ظهر ما فيه بالنسبة إلى جعله الأصول حجّة بخصوصها وجعله نقل النقلة كذلك عند وجود شرائط الشهادة وأمّا ادعاؤه انفتاح باب العلم ففيه أنّ إرسال المسلم في كتبهم ليس كاشفا عن الاتّفاق حتى يحصل منه القطع بل ذلك لعدم عثورهم على المخالف مع أنّ ذكرهم معنى اللّفظ ليس بطريق النقل عن الواضع بل كل منهم يعتمد على ما حصل له الظّنّ به وربما كان اعتمادهم على الوجوه الّتي قد لا تفيد الظّنّ كما لا يخفى على من لاحظ استدلالهم على دلالة الأمر على الوجوب وغير ذلك من المباحث اللغوية ولو سلّم حصول القطع للنّقلة فلا يكون موجبا لحصول القطع لنا لأنّ قطعهم على فرض تسليمه مبنيّ على حدسهم واجتهادهم إذ لا ينقلون ذلك معنعنا عن الواضع وحدس شخص ليس مورّثا لحصول القطع للآخر ولهذا شرطوا في التّواتر أن يكون المخبر به محسوسا ليسلم من احتمال الخطإ لكثرة الخطإ في الحدسيات ويؤيده ما أوردوه على الأخباريين في استدلالهم لقطعية الأخبار بشهادة المحمّدين الثلاثة بصحّة ما في كتبهم ومعنى الصّحّة قطعيّة الصدور مضافا إلى ما كان دأب القدماء من النّقد والانتخاب في الأخبار وتمييز الأخبار الموضوعة عن غيرها فإذا

 

لوحظ هذه الأمور مع قرائن أخرى أيضا حصل القطع بصحّة ما في الكتب الأربعة من أنّ حكمهم بالصّحة لا يدل على القطعية لاحتمال أن يكون الاعتماد عليه لحجّيّة الظّنّ المطلوب عندهم مع أنّه لو سلم حصول القطع بالصحة لهم فلا يحصل لنا إذ كان ذلك مبنيّا على حدسهم واجتهادهم في تنقيح الأخبار وحدس المجتهد ليس سببا لحصول القطع الآخر إذ الخطاء في الحدسيّات كثير بل ربما يدعي واحد منهم الاجتماع في مورد والآخر الإجماع على خلافه وذلك ليس إلاّ لاختلاف الحدسيّات أو جواز تطرّق الخطاء إليها وأمّا الرجوع إلى العرف فنقول إنّه لا يفيد العلم إذ لا أقلّ من احتمال أنّ فهمهم مبنيّ على قرائن حالية أو مقالية والقطع بعدمها مما يتعسّر أو يتعذّر وكيف يدعي ذلك مع ما نرى أنّ الألفاظ المتداولة كالأمر والنهي ونحوهما قد صار محل الاختلاف العظيم فإذا لم يحصل العلم من العرف بهذه الألفاظ المتداولة فكيف يحصل بغيرها وإتمامه بضميمة أصالة عدم القرينة لا يثبت المطلوب وهو حجّيّة الظّنّ الخاص لما عرفت أنّ حجّيّة الأصول ليست إلاّ من باب الظّنّ المطلوب وهكذا إتمامه بالنسبة إلى الزّمان السّابق بضميمة أصالة عدم النقل إذ هي أيضا من باب الظّنّ المطلوب على ما عرفت مضافا إلى تحقق العلم الإجمالي بثبوت النقل في الألفاظ الثّابتة في الزّمان السّابق فيرتفع أصالة عدم النقل بثبوت العلم الإجمالي كما أنّ بالعلم بثبوت التّكاليف الشرعيّة انقطع أصالة البراءة وترجيح أنّ هذا اللّفظ ليس من ألفاظ المنقولة دون ذلك اللّفظ إنّما يصير بالظنّ المطلق فثبت حجّيّة الظّنّ المطلق في اللّغات بالأدلّة المذكورة سابقا من تقرير المعصوم أو من باب الاستلزام أو لإجراء دليل الانسداد في نفس اللّغات إمّا بأن يقال إنّ باب العلم في أغلبها منسدّة أو أنها منسدّة في جملة منها لسريان الاحتياج إليها في غالب موارد الفقه كلفظ الصعيد مثلا للاحتياج إليه في أبواب الصّلاة والأقارير والوصايا والعهود وأمثال ذلك يستلزم إجراء أصل البراءة فيها للخروج عن الدين بسبب المخالفة القطعيّة والاحتياط للعسر والحرج هذا ويشكل الأمر في بعض الظنون الّتي اتّفقوا على عدم حجّيّتها في اللّغات كالقياس إذ لم يجوّزه هنا من جوّزه في الأحكام وكالظّنون اللّمّيّة كالّذي استدلّوا به في تعارض الأحوال على ترجيح الاشتراك على المجاز من أكثريّة الفائدة استدلّوا على العكس بالأوسعيّة وأمثال ذلك فإنّهم ذكروا الاتّفاق على عدم حجّيّتها أيضا فكيف يجتمع ذلك مع القول بحجّيّة الظّنّ مطلقا ويمكن الجواب بوجهين أحدهما أنهم لمّا اتّفقوا على توقيفيّة اللّغة ويلزمه عدم جواز إثباتها بالعقل وإلاّ لم تكن توقيفيّة وجب إجراء دليل الانسداد على الظّنون بحيث لا ينافي التّوقيفيّة بأن يكون مقتضاه حجّيّة الظّنون الإنّيّة دون اللّمّيّة ودون القياس ليجتمع مع الإجماع على التّوقيفيّة وهذا الوجه ضعيف والثّاني

 

أنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة وهي حجّيّة الظّنّ إمّا جميع الظّنون أو البعض فهو من الخارج إذ من مقدّماته استلزام الاحتياط في جميع الموارد العسر والحرج والبراءة الخروج من الدّين فلا بد من حجّيّة جملة من الظّنون لئلاّ يلزم المحذوران فإن ثبت هناك ظنون راجحة الاعتبار بحيث يكتفى بها في أغلب الموارد ويخرج به عن المحذورين فلا مانع من عدم حجّيّة سائر الظّنون حينئذ وإلاّ وجب الحكم بحجّيّة الجميع لئلا يلزم التّرجيح بلا مرجّح وحينئذ نقول إنّ لنا ظنونا راجحة ذاتا واعتبارا في أغلب الموارد وهو ما سوى ما علم أو ظنّ عدم اعتباره وبذلك نخرج عن المحذورين والقياس والظّنون اللّمّيّة من الظّنون المقطوعة بعدم الاعتبار للإجماع المذكور فلا يضر عدم حجّيّتها بحجّيّة دليل الانسداد أقول الجواب الثّاني أصحّ إلاّ أنّ عدم حجّيّة الظّنون اللّمّيّة كلّيّة ممنوع فإنّا نراهم يستدلّون بدليل الحكمة على إثبات وضع صيغة للعموم وباستقراء أرباب الحرف والصّناعات الخاصة على ثبوت الحقيقة الشّرعيّة فالأولى القول بالتفصيل وأنّ العلة المستفادة قد تكون من الأمور الّتي نعلم أنها معتبرة عند الواضع كالاحتياج إلى الإفادة والاستفادة في الموردين المذكورين فإنّ كون العام من المعاني المحتاج إليها علة لأن يوضع له لفظ والاحتياج معتبرة عند الواضع فهو لا يقصر عن سائر الظّنون ذاتا واعتبارا حتى يرجح البواقي عليه بخلاف تكثّر الفائدة في ترجيح الاشتراك على المجاز وهو إذ لا نعلم اعتبار ذلك عند الواضع كما لا يمكن الحكم بمحض وجود مناسبة ذاتيّة بين اللفظ والمعنى بأنّه موضوع لذلك المعنى لعدم العلم بأنها معتبرة عند الواضع وبذلك علم وهن ما قيل في جواب القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة من أنّها لو كانت بالمناسبات الذاتية لما فهم المعنى بدون العلم بالمناسبات بل فهم المعنى للجاهل بها إنّما هو بالوضع نعم لو علم أحد بالمناسبة الذّاتيّة لم يحتج إلى العلم بالوضع بل نفس المناسبة حينئذ كاشفة عن الوضع بيان بطلانه أن كشف المناسبة عن الوضع مبنيّ على العلم بأنّ الواضع اعتبر المناسبات الذاتيّة وهو ممنوع إذ لا يمكن العلم بذلك فلعل المرجح له في الوضع لهذا المعنى دون غيره أمر آخر غير المناسبات الذاتيّة ثم اعلم أنّه لا يجوز العمل بالظّنون الحاصلة قبل الفحص والاجتهاد للاتّفاق على عدم حجّيّتها قبله ولذا ذكروا أنّ نقل النقلة ليس بحجّيّة إذا علم مستندهم بل يجب الاجتهاد في المستند إذ قبله يصير تقليدا إذ ليس النقل حينئذ مستندا لنا بل إنّما يكون النقل مستندا لنا إذا لم نعلم مستنده وبهذا اعتذر بعضهم عن تدوين الهيئات اللّغويّة في علم الأصول كالمشتق والأمر والنهي والعام والخاص وأمثال ذلك دون موادها لإمكان الاجتهاد في الأوّل بالرجوع

 

إلى العرف المترادف له لاتّحاد المترادفات الهيويّة معنى بالنّسبة إلى اللغات فإن صيغة افعل لو كان للوجوب لكان مترادفاتها من سائر اللغات أيضا كذلك فإذا علم دلالة مترادفة مثلا على الوجوب ثبت دلالته أيضا بخلاف المواد لعدم العلم بالمستند وعدم إمكان الاجتهاد بالرّجوع إلى المرادف إذ لا يعلم التّرادف إلاّ بعد العلم بمعناه المادّي وبعده لا نحتاج إلى ملاحظة الترادف وفيه نظر سيأتي في نقل النّقلة فافهم هذا الكلام في الحجّيّة بقي الكلام في بيان كشفها عن الوضع وهو موقوف على التفصيل فنقول إن منها نقل النّقلة والمتواتر منه وكذا الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعيّة وأمّا الآحاد المفيدة للظنّ فكشفها ظنّي وعلى أيّ تقدير فهو حجة على ما عرفت وخالف في ذلك بعضهم فقال إنّ المتواتر منه غير موجود وكذا الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعية والآحاد الغير المحفوفة لا تفيد الظنّ واستدلّ على الأوّل بوجوه منها عدم تحقّق عدد التواتر في المدوّنين للّغة من الصدر الأول بل نقل إنّ المدوّنين لا يزيدون عن ستة أو سبعة ومنها عدم تحقق الشروط المعتبرة في التواتر في جميع الطبقات وهي أن يكون عدد كلّ منها عدد التواتر وينقل كلّ واحد من أهل الطبقة اللاحقة عن كلّ واحد من أهل الطبقة السّابقة وليس فيما نحن فيه كذلك وهو ظاهر فلم يوجد فيها التواتر وإلا لم يقع الاختلاف فكيف بالألفاظ الغير المتداولة وعلى الثالث بوجود الاختلالات العظيمة الواقعة في الناقلين كعمل بعضهم بالقياس فيها كالمازني حيث قال المقيس على لغة العرب لغة العرب وارتجال ناقلي أشعار العرب الألفاظ الموضوعة ونسبتها إليهم على ما نقل من أن الشعراء الّذين يستشهد بأشعارهم قد انقرضوا في زمان النّبيّ لكثرة القتال الواقع في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله والحافظون لأشعارهم قد كانوا ينسبون الألفاظ المجعولة إليهم لأغراض دعتهم إلى ذلك ولذا قيل إن المنقول من لغة العرب أقل قليل وكذا وضع بعض النّاقلين للّغات كالأصمعي فإنه كان جعالا بوضع اللغة وكذا حكاية تصديق العرب الكسائي في المسألة الزّنبوريّة حيث أوشوا على ذلك على ما قيل ويؤيّده ما نقل عن ابن جني أنّه وضع في كتاب الخصائص بابا في تخطئة بعض الأكابر لبعض وبابا في غرائب اللغة وكتاب العين المنسوب إلى الخليل مشتمل على الأغاليط ولذا قيل إنّه ليس من الخليل وغير ذلك من وجوه الاختلالات التي بها يخرج النقل عن إفادة الظنّ نوعا فضلا عن إفادته فعلا وفي الجميع نظر أمّا الأول فلأن كلا من الوجهين الأوّلين في منعه مبني على اشتراط النقل المعنعن في حصول العلم وهو ممنوع إذ قد يحصل العلم بسبب التسامع والتظافر وإرسال المسلم بين ناقلي اللغة

 

بأن ذلك واصل إليهم من الواضع لكشفه عن تسالم الطبقة الثانية لبعد تسالم الأولى واختلاف الثانية وهكذا إلى أن يصل إلى الواضع وهذا يفيد العلم وإن لم يكن تواتر اصطلاحيّا بل قد يحصل العلم من تعدّد الطريق وإن لم يكن على شرائط التّواتر والوجه الثالث أيضا باطل إذا الاختلاف لا يضر بالتّواتر إذ لعلّ المخالف كان مسبوقا بشبهة وقد اشترط في حصول العلم بالتواتر أن لا يكون السامع مسبوقا بشبهة وكيف يضرّ ذلك وقد وقع الاختلاف في الضروريّات كوجود الصانع واحتياج الممكن إلى المؤثّر وهو لا يضرّ بكون المسألة ضروريّة نعم يمكن منع التواتر بأن يقال إنّ ضبطهم اللغة ليس مبنيّا على النقل بل هو لاجتهادهم فيها وكلّ منهم عامل برأيه وحجيّة قولهم إنما هو لكونهم نظير أهل الخبرة كالمقوم والصيرفي لا لكونه نبأ أو شهادة حتّى يرد عليه أنه ليس مبنيّا على أمر محسوس (وأمّا الثّالث) فنقول هذه الاختلالات لا يضرّ بحصول الظنّ من خبر من نثق بضبطه وتدقيقه في تميز اللغات ونقدها وانتخابها كالفيروزآبادي والجوهري وأمثالهما مع أن ما ذكر من الاختلالات يوجب ارتفاع الظنّ فيما إذا اختلف النقلة أمّا إذا اتّفقوا في مورد فلا مجال لإنكار حصول الظنّ بقولهم وبالجملة هذه من الوضوح بحيث يستغني عن البيان إنّما الشأن في تميز الحقيقة والمجاز بالرّجوع إلى نقل النّقلة فنقول لا إشكال فيما إذا صرحوا بكونه حقيقة أو مجازا أو ذكروا ما يشعر بذلك ولو ظنا كان يقال إنّه يفيد كذا أو اسم لكذا في بيان الحقيقة وقد يستعمل في كذا وقد يفيد كذا ونحو ذلك في بيان المجاز وذكر معنى واحد للفظ ظاهر في الحقيقية لبعد عدم عثورهم على الحقيقة ونقلهم المجاز وكذا عدم وجود حقيقة له أو كونها مهجورة

وأمّا إذا اشتبه الأمر ولم يتميز فهل الأصل الحمل على إرادة ذكر الحقيقة أو المجاز أو يتوقف وجوه

واستدلّ على الأوّل بوجهين الأوّل أن المجاز مبنيّ على العلائق المنضبطة والقواعد الكلية فلا حاجة فيه إلى نقل الجزئيات فيعلم أن مقصودهم نقل الحقائق لأن الوضع الحقيقي توقيفي يتوقف على نقل الجزئيّات والثّاني أن الغرض الأقصى من تدوين اللغة هو فهم الكتاب والسنّة واللفظ المذكورة فيهما إن كان مقترنا بقرينة حمل على المجاز ولا حاجة إلى بيان اللّغوي وإلا فيحمل على الحقيقة ولا بد من تعيينها بالرّجوع إلى نقل اللغويّين فيعلم أن غرضهم نقل الحقائق ليكون مثمرا في فهم الكتاب والسنّة وفيه أمّا أولا فبأن هذا يستلزم كثرة الاشتراك إذ قلما يذكرون للّفظ معنى أو معنيين فقط إلا يقال إنّ الكلام إنّما هو في موارد الاشتباه وهو قليل فلا يوجب حملها على الحقيقة كثرة الاشتراك لأنا نقول الموارد المعلومة إمّا حقائق أو مجازات فعلى الأوّل يلزم المحذور لو حمل موارد الاشتباه أيضا على الحقيقة وعلى الثّاني يجب حمل الموارد المشتبهة على المجاز حملا للمشكوك على الأعمّ الأغلب وأمّا ثانيا فالوجهان

 

اللّذان استدل بهما ليسا على وجههما إمّا الأوّل فلوجود الفوائد العظيمة في نقل موارد الاستعمالات ولا أقل من حصول العلم بالتواريخ والقصص الواقعة في الزمان الماضي وأمّا الثّاني فلأنه قد يكون المذكور فيهما قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي للفظ دون المعيّنة لشياع اللّفظ في معنى مجازي في ذلك الزّمان فلا بدّ من حصول العلم بمحازات زمان الشارع ومعرفة الشّائع منها في ذلك الزّمان حتّى نحمل اللّفظ عليه ونحو ذلك من الفوائد فالأولى في مقام الاشتباه التوقف ثمّ إنه إذا اتّفق أهل اللّغة في النّقل فلا إشكال وإن اختلفوا فيجب الجمع مهما أمكن والاختلاف المذكور يتصوّر بوجوه منها أن يكون المعنيان المنقولان للفظ متباينين كأن ينقل أحدهم أن العين هو الذهب والآخر أنه الميزان مثلا ومنها أن يكون أحدهما أقل والآخر أكثر أمّا استقلاليّا كأن ينقل أحدهم أن العين هو الذّهب والآخر أنّه الذّهب والميزان أو ارتباطيّا كنقل أحدهم أن اليد هو الكفّ والآخر أنّها مجموع العضو من رءوس الأصابع إلى المنكب ومنها أن يكون بينهما عموم مطلق كنقل واحد أن الصّعيد وجه الأرض والآخر أنه التراب أو عموم من وجه كنقل واحد أن الغناء هو الصوت المطرب والآخر أنّه الصوت مع الترجيع وقد ذكروا في وجه الجمع القول بالاشتراك في المتباينين أخذا بما أثبته كلّ منهما وطرحا لما نفاه فإن كلاّ منهما يثبت ما ادعاه وينفي الآخر وتقديم المثبت على النّافي قاعدة مسلمة وبهذا أيضا قد جمع في الوجه الأخير بحمل الخاصّ على العام إذ ناقل العموم لا ينفي الخاصّ وناقل الخاصّ ينفي العام فمقتضى طرح النفي الحمل على العام ومقتضاه في العامين مطلقا الأخذ بالعام وفي العامين من وجه الأخذ بالقدر المشترك وهو في المثال المذكور والصوت الأعمّ من المطرب وما فيه ترجيع ولازمه صدق الغناء على ما وجد فيه أحدهما وقيل في وجه الجمع هنا بحمل المطلق على المقيّد إمّا لأنّه قاعدة اجتماعهما أو لأنّه القدر المتيقّن ومقتضاه في العام المطلق الحمل على الخاصّ وفي العامين من وجه الجمع بين الخصوصيين ففي المثال المذكور نحكم بأنّ الموضوع له للغناء هو الصوت المطرب المشتمل على الترجيع ويعلم بالمقايسة أن حكم الأقل والأكثر الاستقلالي حكم المتباينين والارتباطي حكم العامين من وجه فأمّا القول بالاشتراك أو الأخذ بالكلّ أو الجزء وتحقيق الحقّ في المقام يحتاج إلى بيان أمور الأوّل الحقّ أنّه لا تعارض بين قولي النقلة عند الاختلاف إذ غاية ما يتصوّر في توجيه التعارض أن يقال إنّ الظاهر من حال اللغوي حيث إنّه في مقام استيفاء موارد الاستعمال أنه حاكم بعدم ثبوت غير ما أثبته فكل من الناقلين يثبت ما يدعيه وينفي الآخر فبينهما تعارض وفيه أنّه على فرض التّصريح بالنفي أيضا لا تعارض بينهما فإنه إنما ينفيه بحسب وجدانه ولا ينفي الاستعمال واقعا وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود الثاني

 

الظاهر من حال النّاقل للمعنى إرادة أنّه تمام الموضوع له لا الأعمّ بأن يكون مراده من نقل المعنى أنّه مربوط بالوضع وله تعلّق به إمّا بكونه موضوعا له أو جزءا للموضوع له بأن يكون تفسيرا بالأعمّ فإنّ العام جزء للخاصّ أو يكون الموضوع له جزءا له بأن يكون تفسيرا بالأخصّ مثلا إذا قال إن الصعيد وجه الأرض فالظاهر إرادة أنّه تمام الموضوع له وإرادة أن يكون جزءا للموضوع له وهو التراب بعيد وكذا إذا قال إنه التراب فاحتمال أن يريد أن الموضوع له جزء له وهو مطلق وجه الأرض بعيد بل الظاهر من ذكر كلّ منهما إرادة أنّه تمام الموضوع له الثّالث تقديم المثبت على النافي لا يتم كليّة بل فيه تفصيل والحاصل أن المتصور هناك ثلاث صور أحدها أن يقول المثبت أدري ذلك ويقول النافي أدري عدمه كأن يقول الجارح رأيته يزني في الساعة الفلانية ويقول الثاني كنت عنده في تلك السّاعة وما رأيته منه والثّانية أن يقول المثبت أدري والثاني لا أدري كأن يقول الثاني في المثال المذكور لا أدري هل صدر منه الزنا أو لا والثّالثة أن يقول المثبت لا أدري والنافي أدري كأن يقول الجارح للشاهد العادل الّذي علموا أنّه عصى ما أدري توبته وقال النافي لفسقه رأيته تاب ولا إشكال في الصورتين الأخيرتين إذ لا تعارض قطعا بل القائل أدري مقدّم على نافيه إذ ليس لمن لم يعلم حجيته على من يعلم فيقدم المثبت في الأولى والثاني في الثّانية إنما الإشكال في الصورة الأولى وقد قيل في تقديم المثبت فيها وجهان أحدهما قوّة الظنّ في جانب الإثبات لكثرة الخطاء في نفي الأفعال بخلاف إثباتها لاستناد الثّاني إلى المشاهدة بالعيان والأول إلى نفي المشاهدة وثانيهما أن المثبت مدّع والنافي منكر وقول أهل اللغة لحجيته يكون نظير البيّنة وعند تعارض البيّنتين يقدم بنية المدعي لأنّها وظيفته واليمين على من أنكر وهذا وجه استحساني لا حجية فيه الرّابع حمل المطلق على المقيّد إنما يكون إذا وقعا في كلام من لا يجوز عليه التناقض كالكتاب والسّنة وفيه أيضا مشروط بحصول التعارض وحصول التعارض مشروط بشرطين أحدهما أن يتحد التكليف وكان عينيا والثّاني أن يكون الحكم إلزاميّا لا وضعيّا ولا استحبابيّا فيحصل التّعارض فإن مقتضى إيجاب الطبيعة المطلقة حصول الامتثال لذلك التكليف بأيّ فرد كان فيتخيّر ومقتضى الأمر بالمقيّد عدم حصوله بسائر الأفراد بخلاف ما إذا تعدّد التكليف لجواز أن يحصل الامتثال لأحد التكليفين في ضمن أي فرد كان ولا يحصل الآخر إلا بالفرد الخاصّ وكذا إذا اتّحد وكان تخييريا إذ لا ينافي وجوب الفرد الخاصّ تخييرا حصول الامتثال بسائر الأفراد وكذا إذا كان وضعيّا أو استحبابيّا لسريان الحكم فيها إذا تعلّقا بالطبيعة إلى جميع الأفراد استغراقا فلا ينافي خصوصيّة الحكم في الفرد فإنّ قوله أحل الله البيع يقتضي حلّيته

 

جميع الأفراد فلا ينافي قوله أحل الله البيع المعاطاة كما لا ينافي قولنا أكرم العلماء مع قولنا بعده أكرم زيد العالم ولم يقل أحد بحمل العام على الخاصّ إذا كانا مثبتين والسرّ فيه ما ذكرنا من عدم التّعارض حينئذ بخلاف التخيير بين الأفراد وتعيين فرد واحد بالنسبة إلى التكليف الواحد فإنه تناقض يجب دفعه بحمل المطلق على المقيّد الخامس التعارض بين قول النّقلة قد يكون بضميمة مقدّمة خارجيّة فلا تعارض بالذّات بين نقل أحدهم أن العين هو الذّهب والآخر أنّه الفضة كما ذكرنا في الأمر الأوّل لكن بضميمة أصالة عدم الاشتراك يقع التعارض كما أنّه لا تعارض بالذّات بين القول بنجاسة ماء القربة بالملاقاة والقول بعدم نجاسة ماء الإناء بها لكن بضميمة الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل بين أقسام المياه القليلة يقع التعارض بينهما فإن قلت إن أصالة عدم الاشتراك لا يعارض بها الدّليل وهو نقل النقلة أمّا على حجيتها من باب التعبد فظاهر إذ الاستصحاب مورده الشكّ ومع الدليل لا شكّ هناك وأمّا على حجيّتها من باب الظنّ فلأنه ظنّ حاصل من الغلبة لندرة الاشتراك وهي من أضعف الظّنون فلا يعارض بها الدّليل فإن موردها هو فيما إذا كان بحيث لولاها لحصل الشك وفيما كان هناك أمارة معتبرة لا يحصل الشكّ لو لا أصالة عدم الاشتراك ولذا لا يقول السّيّد المرتضى بأصالة الحقيقة في الاستعمال إذا عارضها دليل كنقل الناقلين مثلا قلنا قد علمت بطلان تعبديتها سابقا مع أن جماعة ذهبوا إلى أنّ الاستصحاب كسائر الأدلّة يعارض به الدليل والظنّ الحاصل من الغلبة ليس بأضعف من سائر الظنون بل هو أقوى ولذا لو أخبر واحد بأمر يخالف الغلبة كوجود إنسان ذي قرن ونحو ذلك لم يحصل لنا الظنّ من قوله مضافا إلى المفطورية على أصالة عدم الاشتراك فإنّ الطّبع السّليم إذا شاهد النّقلين المتخالفين يحكم بالتعارض ولا يلتفت إلى احتمال الاشتراك وأيضا يؤيدها أنّ الظاهر من نقل كل واحد معنى غير ما ذكره الآخر أنه لم يجد ذلك المعنى وإلا لنقله لأنّه في مقام استيفاء المعاني ويحصل الظنّ نوعا من عدم وجدان هذا الشخص المتفحّص المتتبّع لذلك المعنى عدم وجوده وكذا من الطرف الآخر فيقع التعارض ونظيره ما قيل من حجيّة أصالة البراءة فيما إذا كان الموضوع المشكوك الحكم من الأمور العامة البلوى بحيث لو كان له حكم لاقتضى العادة نقله لكثرة الدواعي إليه واللغة أيضا من الأمور العامة البلوى فمتى لم ينقل ذلك المعنى واحد منهما يحصل الظنّ بعدم وجدانه ومن ذلك يحصل الظنّ بعدم وجوده كما عرفت فالحاصل أن أصالة عدم الاشتراك بضميمة الظن الحاصل من عدم وجدان كل منهما للمعنى الّذي ذكره الآخر سبب لإيقاع التعارض بين النقلين المختلفين وإن لم يكن بينهما تعارض بالذات نعم لا

 

تضايق عن القول بأنه إذا كان نقل النقلة موجبا لحصول ظنّ أقوى من الأصل كان متّبعا دون الأصل السادس إذا تردّد الحكم التكليفي الإلزامي بين المطلق والمقيّد أو بين العامين من وجه فحصول البراءة بفعل المقيّد في الأوّل ومورد الاجتماع في الثاني متيقّن إذ لو تعلق بالمطلق حصل الامتثال بالمقيّد وإن تعلّق بالمقيّد فواضح وكذا مورد الاجتماع وأمّا إذا تردّد الوضع بينهما فليس المقيّد ومورد الاجتماع قدرا متيقنا لعدم تحقق الوضع للمقيدان قلنا إن المطلق موضوع له لما عرفت أنّ الظاهر من كونه موضوعا له أنّه تمام الموضوع له وكذا مورد الاجتماع لا يدخل في الوضع للعام لما ذكرنا إذا عرفت هذه الأمور فلنعد إلى ما كنّا فيه ونقول إن الجمع بين النقلين بالحمل على الاشتراك باطل لما عرفت من أنّ أصالة عدم الاشتراك سبب لوقوع التعارض بين النقلين ومانع عن الحمل على الاشتراك والاستدلال بتقديم المثبت على النافي أيضا غير تمام لما عرفت في الأمر الثالث أنه إنما يسلم في موردين أحدهما أن يقول المثبت أدري الوجود وقال النافي أدري العدم والثاني فيما إذا قال المثبت أدري والنافي لا أدري بخلاف ما إذا قال المثبت لا أدري والنافي أدري كما هو الغالب في موارد نقل اللّغة فإن المثبت للوضع يقول إنّي رأيت الاستعمال ولم أر القرينة فهو حقيقة والنافي يقول إني رأيت القرينة وقد علمت أنّه حينئذ يقدم النافي وعلم من ذلك بطلان إرجاع الخاصّ إلى العام في العام المطلق والأخذ بالقدر المشترك في العامين من وجه لأنّه مبني على تقديم المثبت على النافي وقد عرفت خلافه في باب اللّغات وكذا الجمع بحمل المطلق على المقيّد لما عرفت في الأمر الرابع أن ذلك إنما هو إذا كانا في كلام من لا يجوز عليه التناقض مع باقي الشروط والجميع فيما نحن فيه مفقود ولذا لا يحمل المطلق في كلام فقيه على المقيّد في كلام آخر بل الفقيه الواحد أيضا لجواز التناقض على غير المعصوم وكذا الحمل على المقيّد لكونه المتيقن لما عرفت في الأمر السّادس أن الوضع إذا تردّد بين المطلق والمقيّد لا يكون المقيّد قدرا متيقّنا وإذا عرفت بطلان هذه الوجوه التي ذكروها في الجميع فالأولى حينئذ بحسب القواعد أن يقال بثبوت التّعارض والرّجوع إلى المرجحات الخارجيّة ولو لوجود أحدهما في كلام فقيه أو الأخذ بالمطلق لقوة الاشتراك المعنوي وبالجملة كلما كان الظنّ في طرفه أقوى فيأخذ به وإن فقد المرجّح فهل الحكم حينئذ التخيير أو الرجوع إلى الأصل المخالف لهما أو الأصل الموافق لأحدهما فنقول أمّا الأوّل فباطل إذا التخيير إمّا شرعيّ وإمّا عقلي والتخيير الشرعي مورده الخبران المتعارضان لا ما نحن فيه والتخيير العقلي إنما هو فيما إذا كان المصلحة الثابتة حين العلم باقيا حين الاشتباه كإنقاذ أحد الفريقين عند تعارضهما فإنّ المصلحة الكائنة في إنقاذ الغريق الواحد ثابتة حينئذ أيضا غاية الأمر مزاحمة الآخر وهي

 

لا يوجب رفع المصلحة الثابتة بخلاف ما نحن فيه للعلم بأن أحدهما ليس بموضوع له فالمصلحة الثابتة حال العلم وهو إدراك الواقع لا تبقى حال الاشتباه مثلا ذكر بعضهم أن الجذع هو الضأن الّذي أتى عليه ستّة أشهر وقيل ما أتى عليه ثمانية فنعلم أن أحدهما ليس بموضوع له فكيف يحكم بالتخيير وأما الرّجوع إلى الأصل المخالف لهما بأن يقال في المثال إن الأصل البراءة من التعيين لتساقطهما فيكفي مطلق الغنم فهو مبني على عدم حجية الظن الإجمالي الحاصل من النقلين المتعارضين بنفي الثالث بأن يقال إن نتيجة دليل الانسداد مهملة لا يقتضي إلاّ حجيّة الظّنون المظنونة الاعتبار والظنّ التفصيلي أقوى من الظنون الإجمالية فنعمل به وتبقى الظنون الإجماليّة تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ والأولى أن يقال إن حصل القطع بنفي الثالث فلا إشكال وكذا لو حصل الظنّ بناء على تعميم النتيجة بحيث يشمل جميع الظنون وأمّا على إهمال النتيجة فالأولى أيضا حجيّة الظن الإجمالي إذ لا نسلم قصورها ذاتا واعتبارا عن الظنون التفصيلية بل ربما كان أقوى مضافا إلى أنّه قد يستكشف من الأخبار حجيّته بخصوصه حيث حكم في مقام تعارض الخبرين بالتخيير أو الترجيح بالمرجّحات ولم يتعرض للطرح فلو لم يكن الظن فنفي الثالث حجّة لحكم بطرحهما والأخذ بالأصل للمخالف فثبت حجّية الظنّ الإجمالي ومقتضاه الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما وهو في المثال المذكور أصالة البراءة عن الزائد على ما اتفقا عليه وهو الستّة فافهم تتميم قد أشرنا سابقا إلى أن حجية نقل النقلة إنما إذا لم يعلم مستندهم وإلاّ وجب الرجوع إليه والاجتهاد فيه وبهذا اعتذر بعضهم عن تدوين الهيئات في علم الأصول دون المواد فإن مستند الأوّل هو العرف ونحن نتمكن من الرّجوع إلى عرفنا واستعلام معنى الهيئة منه لترادف اللّغات في الهيئات فنقول لهذا أعني كلام المعتذر على إطلاقه غير تام بل لا بدّ من التفصيل بأن يقال إن المتصور في المقام صور خمسة (الأولى) أن نقطع بتغاير عرفنا مع اللّغة في المعنى و (الثّانية) أن نظن بالتغاير و (الثّالثة) أن نعلم اتحادهما و (الرابعة) أن نظن الاتحاد و (الخامسة) الشك في ذلك أمّا الصورة الأولى فيجب الرّجوع فيها إلى قول النقلة إن لم نعلم مستندهم والاجتهاد في مستندهم من الأشعار والشواهد إن علمناه ولا يمكن تعيينه بالرّجوع إلى عرفنا للعلم بالنقل وكذا في الصّورة الثّانية فإن حكم الظن في اللغات حكم العلم وأما الصورة الثّالثة أعني العلم باتحادهما فيجب الرّجوع إليهما لوجوب الفحص إذ يمكن ارتفاع الظن من قول اللغوي بالرّجوع إلى العرف وبالعكس والظنّ قبل الفحص ليس حجة فإن تعيّن المعنى بأحدهما حمل عليه الآخر للعلم بالاتحاد وإلاّ فالتّوقف وإن اختلف نقل النقلة وفهم عرفنا فالمتبع هو ما كان مظنونا بالظنّ

 

الفعلي ولا يمكن حصول الظنّ منهما معا لمنافاته لفرض العلم بالاتحاد وكذا الصّورة الرابعة وأما الخامسة وهي صورة الشك فلا بد فيها أيضا من الرجوع إليها فإن تعيّن المعنى بأحدهما حمل عليه الآخر بضميمة أصالة عدم النقل وإلاّ فالتّوقف وإن اختلفا وحصل الظنّ منهما فيتعارض مع أصالة عدم النقل فإن مقتضاها الاتحاد فينافي الظنّ بالاختلاف فإن رجّحنا الثّاني حكمنا بالاتحاد وارتفع الظنّ من اللّغة أو العرف والمتبع هو ما أفاد الظنّ فعلا وإن ارتفع منهما وجب التّوقف وإن رجحنا الأول حكمنا بالنقل وكان كالصورة الثانية من الصور الخمس فحكمه حكمها

ومنها التّبادر

وهو سبق المعنى إلى الذّهن بدون ملاحظة واسطة وبعبارة أخرى فهم المعنى من اللّفظ بلا توسط شيء وكشفه عن الوضع عقلي إنّي لأن السّبق إلى الذّهن يحتاج إلى مرجّح ضرورة استحالة الترجّح بلا مرجّح وهو إمّا الوضع أو المناسبة الذاتية أو القرينة والثالثة مفروضة الانتفاء والثاني باطل لعدم العلم بالمناسبات للأغلب فتعين الأوّل وهو من قبيل الاستدلال بوجود اللاّزم على الملزوم ويكفي في ذلك عدم كونه أعمّ سواء كان مساويا للوضع أو أخصّ إذ لا يشترط في العلامة الانعكاس بل يكفي الاطراد نعم لو أريد الاستدلال بعدمه على عدم الوضع أيضا لزم إثبات كونه مساويا أيضا وقد نوقش في اطراده بوجوده في أمور بدون تحقق الوضع فيها منها المجاز المشهور ومنها المعنى اللاّزم للموضوع له إمّا بأن يكون قيدا للموضوع له كالبصر للمعنى والمفهوم للشرط أو لا بل يكون عرفيّا كالجود للخاتم ومنها جزء الموضوع له فإن التّبادر ثابت في المذكورات بدون الوضع فهو لازم أعمّ لا يمكن إثبات الوضع به ومما ذكرنا في تعريف التّبادر من قولنا بلا توسط شيء ارتفع النقض بما ذكر ضرورة توسّط الشهرة في الأوّل والموضوع له في الأخيرين وزاد بعضهم في التعريف لإخراج المذكورات قيودا لا حاجة إليها بل هي مخلة فإنه قال إن التّبادر وهو فهم المعنى من حاق اللّفظ ابتداء استقلالا وبالقيد الأوّل أخرج المجاز المشهور وبالثاني اللازم وبالثالث الجزء وإنما لم يكتف بالقيد الثاني عن الثالث توهما منه أن الجزء لا يخرج بقيد الابتداء لتقدّمه على الكلّ فتبادره ابتدائي نعم هو ليس مستقلاّ فيخرج بقيد الاستقلال وفيه أمّا أولاّ فإن مقتضى ذكر تلك القيود أنه يجب اجتماعها في التّبادر والوضعي وهو منتقض بالكلّ فإن تبادره ليس ابتداء على زعمه وأمّا ثانيا فإن الجزء ليس مقدّما على الكل في التّبادر نعم هو مقدّم عليه في الخارج فالتّبادر أولا إنّما هو للكل وبتوسّطه يثبت للجزء فتبادر الكل واسطة في عروض التّبادر للجزء كما لو تعلّق الأمر بمركب كان المقصود بالذات هو المركب وبتبعيّته يسري ذلك الوجوب بعينه إلى الأجزاء كالحركة

 

للسفينة بالنّسبة إلى الجالس فإنها أمر واحد يتعلّق بالسّفينة أوّلا ويعرض للجالس تبعا وبهذا يجاب عما قيل من أنّه لا ينبغي النزاع في وجوب المقدّمة إذا كانت جزءا لذي المقدّمة لدلالة الكلّ عليه تضمينا وذلك لأن الوجوب المتعلّق بالجزء هو عين الوجوب المتعلّق بالكل لا وجوب آخر لازم من وجوب الكلّ كما هو محل النّزاع في وجوب المقدّمة هذا وإن كان ولا بدّ من ذكر تلك القيود فليقدم الاستقلالي على الابتدائي ويلاحظ الابتدائية بالنّسبة إلى الاستقلال بمعنى أن لا يكون شيء آخر في الابتداء مستقلا غيره فيخرج الجزء أيضا إذ لو سلم كونه ابتداء فليس استقلاله ابتداء وكذا اللاّزم لعدم استقلاليته ويدخل الكل لابتدائية استقلاله والأولى الاقتصار على ما ذكرنا ثم إنه قد اعترض على الاستدلال بالتّبادر باستلزامه الدّور لتوقف التّبادر على العلم بالوضع فلو أثبت الوضع به لزم الدّور وأجيب عنه بوجوه أحدها أنّ تبادر العالمين بالوضع دليل على الوضع بالنسبة إلى الجاهل فالعلم بالوضع للجاهل موقوف على تبادر العالم بالوضع وهو غير متوقف على علم الجاهل بالوضع حتى يلزم الدّور فإن الجاهل بالوضع إذا رأى انسباق المعنى إلى ذهن العالمين بالوضع من أهل اللسان وعلم بانتفاء القرينة والمناسبات الذاتية على ما أشرنا إليه حصل له العلم بأنّه ناش عن الوضع والثّاني أنه قد يكون الشخص عالما بالوضع لكن لاغتشاش ذهنه وتخليط الأمر عليه ربما غفل عن علمه فبعد التخلية التّامة إذا رأى انسباق المعنى إلى ذهنه حصل له العلم التفصيلي بالوضع فالعلم التّفصيلي بالوضع يثبت بالتّبادر والتّبادر متوقف على العلم الإجمالي لا التفصيلي والثّالث منع توقف التّبادر على العلم بالوضع في الأوضاع التعيّنيّة وأكثر الأوضاع التعيّنيّة لأن صيرورة اللّفظ منقولا ناش من كثرة الاستعمال إلى حدّ ينسبق المعنى من اللّفظ إلى الذهن بدون ملاحظة الاستعمال فإذا حصل الانسباق بهذا المعنى يعرف النقل فالتّبادر كاشف عن النقل لا متوقف على العلم به وكذا في غالب الأوضاع التعيينيّة لأن انسباق المعنى فيها مستند إلى كثرة الاستعمال لا إلى الوضع بل لا يلتفت إلى الوضع أصلا واعترض عليه بعض المحققين بأن الغلبة المذكورة إمّا يجب ملاحظتها حتى يحصل التّبادر أو لا والأوّل ليس كاشفا عن الوضع بل اللّفظ حينئذ مجاز مشهور وعلى الثّاني فنقول التّبادر الكاشف عن الوضع لا بد أن يكون مستندا إلى الوضع ولا يكفي محض الغلبة في حصول التّبادر الكاشف لعدم كونها وضعا ولا يمكن استناد التّبادر الكاشف إليه وإلاّ لزم حصوله من أيّ سبب كان غير الوضع ولا يكفي نفس الوضع مع قطع النظر عن العلم به وإلاّ لزم العلم بجميع اللّغات لكل أحد وإن قلت إن الغلبة سبب لحصول الوضع

 

وبملاحظته يحصل التّبادر فهو قول بمسبوقية التّبادر بالوضع ويرجع الدّور ورد بأنّه لا يقول باستناد التّبادر إلى نفس الوضع ولا إلى ملاحظة الشهرة بل يقول إن الغلبة سبب لحصول ربط وألفة ذهنيّة بين اللّفظ والمعنى بحيث صار سببا لتبادر المعنى من ذلك اللّفظ فالسامع ملتفت إلى الرّبط المذكور والناشئ من كثرة الاستعمال الّتي هي مركوزة في خزانة الخيال وإن لم يلتفت إليها في التّبادر لكن لا يعلم أن الربط المذكور هل هو وضع أم لا فالتّبادر الّذي هو من لوازم الوضع يعلم أن ذلك الرّبط هو الوضع والحاصل أن العلم بالوضع حاصل له قبل التّبادر إجمالا لا بعنوان أنه وضع بل بعنوان أنه ربط وبالتّبادر يحصل له العلم التفصيلي بأنه وضع نظير العلم بحدوث العالم بعنوان التّغيير ثم يحصل العلم التفصيلي بسبب ترتيب المقدمات بحدوث العالم بعنوان أنه عالم كيف ولا حدّ للاستعمال الكثير حتى يعرف به النقل بل لا يعرف النّقل بالتّبادر والفرق بين الاشتهاد هنا وفي المجاز المشهور وجوب ملاحظة الشهرة في المجاز فيحصل العلم بالمعنى المجازي في ضمن ملاحظة الشهرة لا بملاحظة الشهرة كما توهّم فإن معنى ملاحظة الشهرة أن يلاحظ كثرة استعمال اللّفظ في هذا المعنى فقد قصور المعنى حينئذ في ضمن تلك الملاحظة ولا يحتاج إلى قصور آخر بخلاف المجاز المستعمل مع القرينة كأسد يرمي فإن تصوّر المعنى يحصل فيه بملاحظة القرينة لا في ضمن ملاحظتها وأما المنقول فلا يحتاج إلى ملاحظة الشهرة بل الشهرة بلغت إلى حدّ حصل بها الرّبط الذّهني بين اللّفظ والمعنى بحيث لو قطع النظر عن تلك الشهرة لا تنسبق ذلك المعنى إلى الذّهن وإن كانت الغلبة مخزونة في خزانة الخيال لكن لا يلتفت إليها في التّبادر نظير ما ذكره بعض الأفاضل ردا على عصام الدّين في ادعائه تبعيّة الدلالة للإرادة مستدلاّ بأنّ شرط الدّلالة العلم بالوضع للمعنى فلا يمكن أن يكون المترتّب على الدلالة هو بالمعنى العام لحصوله قبله في ضمن العلم بالوضع فلا بدّ أن يكون الدلالة عبارة عن فهم المعنى بعنوان أنه مراد من أنه يجوز أن يكون الشخص عالما بالمعنى لكن لم يكن ملتفتا إلى علمه فبسماع اللّفظ يلتفت إلى علمه فلم يلزم تحصيل الحاصل لو لم يكن الدلالة تابعة للإرادة وبما ذكرنا علم الفرق بين المنقول والمجاز المشهور وسائر المجازات لعدم ملاحظة الشهرة في الأوّل وحصول العلم بالمعنى في ضمن ملاحظة القرينة أي الشهرة في الثّاني وبملاحظتها في الثالث هذا حاصل ما ذكر في الإيراد وفيه أن التّبادر ليس محض الخطور بالبال كيف وهو حاصل في المجاز أيضا فإن اللّفظ المستعمل في المعنى الحقيقي إذا سمع خطر المعنى المجازي بالبال أيضا فإنّ خطور أحد المتلابسين في الذهن بملاحظة الآخر مما لا يمكن إنكاره

 

فقد يسمع المركوب ويخطر الراكب بالبال لتلابسهما وغير ذلك وأيضا هو أمر قلبي لا يمكن الاطّلاع عليه فكيف يمكن العلم بالوضع بالرّجوع إلى تبادر أهل اللّسان إذ لا نعلم أنه يخطر ببالهم أو لا ومحض الرّبط الذّهني ليس وضعا بل الحق أن التّبادر وهو فهم المعنى بعنوان أنه مراد كما قاله العصام وهو الّذي يعلم به بالرّجوع إلى أهل اللّسان حيث يحكمون بإرادة المعنى من اللّفظ ويعلم ذلك من علمهم على طبقه وهو لا يحصل بمحض الرّبط الذّهني الحاصل بالاشتهاد فإن حكم السامع بأن هذا المعنى مراد للمتكلّم مبنيّ على أن يعلم أنّ المتكلّم استعمله مع القرينة في ذلك المعنى أو بملاحظة الشهرة أو كان اللّفظ علامة لهذا المعنى عنده وهذا معنى الوضع والأوّلان مفروض العدم والحاصل أن السّامع قبل العلم بأن اللّفظ صار علامة لهذا المعنى عند المتكلم لا يمكن له الحكم بإرادته وإن خطر المعنى بباله لأن محض الخطور لا يكفي في الحكم بالإرادة ولذا قيل إن أصالة إرادة المعنى الحقيقي في الاستعمال مبني على مقدّمات وهي أن اللّفظ موضوع لهذا المعنى والمتكلّم عالم به والغرض من الوضع استعمال اللّفظ بدون قرينة والمتكلّم لم ينصب قرينة فيعلم أنه أراد هذا المعنى أما المعرفة بالنّقل فتحصل بالرّجوع إلى أهل اللّسان وأنّهم هل يلاحظون مناسبة المعنى المشهور مع المعنى الحقيقي أو لا فإذا رأى أنهم لا يعتبرون تلك المناسبة يعلم أن الكثرة وصلت إلى حدّ النقل فإلغاء المناسبة سبب للعلم بالنقل لا التّبادر بل التّبادر أعني الفهم بعنوان المرادية لا يحصل إلاّ بعد العلم بالنقل ويؤيّد ما هو المعروف من أن الحقيقة هو استعمال اللّفظ في الموضوع له من حيث هو كذلك وكذا المجاز فمتى لم يعلم السامع أن المتكلم استعمله في المعنى من حيث إنّه موضوع له كيف يعلم أنّه مراد وكذا في المجاز إذا لم يعلم أنّه استعمله فيه من حيث إنّه غير موضوع له بمناسبة الموضوع له لا يمكن له الحكم بأنّه مراد وبالجملة التّبادر بالمعنى المذكور مسبوق بالعلم بالنّقل نعم بعد ثبوت النّقل بما ذكرنا يكون تبادرهم كاشفا عن الوضع بالنّسبة إلى الجاهل وهو حينئذ عين الجواب الأوّل وبالجملة الجواب الأخير لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يتم إلاّ بجعل التّبادر عبارة عن محض الخطور وقد عرفت فساده والباعث على جعله بمعنى الخطور توهم عدم وجوده في المشترك بالمعنى الّذي ذكرنا والجواب أمّا أوّلا فبعدم وجوب انعكاس العلامة كما عرفت وأمّا ثانيا فبوجوده في المشترك أيضا بالمعنى المذكور لتبادر جميع المعاني على أنه مراد لكن على سبيل البدلية فإن احتمال الإرادة كاف في إثبات الوضع لعدم وجود الاحتمال المذكور في المجاز بلا قرينة فإنا إذا رأينا أن السّيّد أمر عبده بإتيان العين فالعبد من باب الاحتياط أتى بالميزان والذهب والفضة نعلم أن احتمال الإرادة

 

مقصور على الثلاثة فيثبت الوضع فيها لما عرفت هذا على القول بعدم جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وإلاّ فلا إشكال لتبادر الجميع بعنوان أنّه مراد وبهذا علم أنّ هذه العلامة على ما ذكرنا أيضا لازم مساو للعلم بالوضع فعدمها علامة المجازيّة ولا نحتاج إلى القول بأنها أخصّ منه لعدم وجوده في المشترك فلا يكون عدمها علامة المجاز وإلاّ لزم كون المشترك مجازا بل تبادر الغير علامة المجاز لما حقّقنا من وجودها في المشترك كما ذكره بعضهم من المفاتيح للسّيّد من أن عدم التّبادر علامة المجاز مع القول بوجوده في المشترك بتقريب أنّه إذا لم نعلم فيما إذا رأينا عدم التّبادر هل هو مشترك أو لا فبضميمة أصالة عدم الاشتراك وندرته نثبت أنه مجاز فعدم التّبادر كلية علامة المجاز بضميمة أصالة عدم الاشتراك لأنا نقول إنّ في هذا المقام إن كان هناك معنى متبادر غير المشكوك فقد ثبتت المجازية بتبادر الغير ولا نحتاج إلى ضميمة الأصل وإلاّ فلا يمكن إثبات المجازيّة بعدم التّبادر إذ يلزم وجود المجاز بلا حقيقة ضرورة تبادر الحقيقة لو وجدت

تتميم

لا إشكال فيما إذا علم استناد تبادر العرف إلى الوضع وكذا إذا علم استناده إلى القرينة وأمّا عند الشك أي عدم العلم بأحدهما فقيل يتصوّر حينئذ ثلاث صور الأولى أن يشك في أصل نصب القرينة والثانية أن يعلم ذلك ويشك في التفات السّامع إليها في التّبادر والثالثة أن يعلم ذلك ويشك في أن تلك القرينة هل كانت مؤكدة للموضوع له أو مؤسّسة وصارفة ففي الأوّلين يجري أصالة العدم فيثبت به الوضع وفي الثالث يجب التوقّف لمعارضة إجراء الأصل في إحدى الحادثين بإجرائه في الآخر ويمكن أن يرجح المؤكديّة بأن الأصل الاستناد إلى أقدم السّببين وهو الوضع إذا القرينة متأخّرة عن الوضع وبما ذكرنا سابقا من أن المدار في اللّغات على الظنّ وأن حجيّة الأصل فيها أيضا من باب أنّه ظنّ لا حاجة إلى هذه الشّقوق بل العنوان حينئذ أنه إذا شك في استناد التّبادر إلى الوضع أو القرينة فالمدار على قوة الظن الحاصل من الغلبة وأن الغالب هل هو الأوّل أو الثاني ويمكن ترجيح الأوّل بأن الغالب في المحاورات استعمال الحقيقة وأن كلا من المجاز والكناية وغيرهما نادر فيها وإن كثرت في الخطب والأشعار ونحوهما ويمكن منعه بأن الغالب في المحاورات تبادر بعض الأفراد من المطلق لشيوع ونحوه في ذلك الفرد دون سائر الأفراد فإنه إذا أمر المولى عبده بإتيان الماء فيأتي بالماء الحلو أو الخبز فيأتي بخبز الحنطة ونحو ذلك وجميع هذه التّبادرات مستند إلى القرينة وربّما قيل في منع استناد التّبادر غالبا إلى الوضع إن غالب الأفهام العرفية مستند إلى الشهرة إمّا في ضمن ملاحظتها أو لا ولا يلتفت إلى الوضع غالبا بل الفارق بين المعنى

 

الموضوع له وغيره عدم ملاحظة الشّهرة في الأوّل دون الثاني والملاحظة أمر مخفي لا يمكن الاطلاع عليها على ملاحظتها وعدمه غالبا ومع ذلك فكيف يقال باستناد التبادر إلى الوضع غالبا وأجيب بندرة المجاز المشهور الّذي يلزم فيه ملاحظة الشّهرة والغالب عدم ملاحظتها حتى أنّه قيل بعدم وجود المجاز المشهور والظّنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب وفيه أنّ تبادر الفرد من الكليّ شائع في العرف وليس مستندا إلى الوضع فإن قلت إنّه مجاز مشهور فقد بطل القول بندرته وإن قلت إنه مستند إلى غير الشّهرة من القرائن فقد بطل القول باستناد التّبادر إلى الوضع غالبا كما أشرنا إليه والحق أن المدار على الظن الفعلي في اللّغات كما عرفت فبأيهما حصل فهو المتّبع

ومنها صحّة السّلب وعدمها

والأوّل علامة المجاز كما أن الثّاني علامة الحقيقة والمراد صحة سلب المعنى الحقيقي عن المشكوك فيه حقيقة وعدمها كذلك إلاّ سلب اللّفظ عن اللّفظ ولا عن المعنى لبداهة صحته مطلقا ولا المعاني المجازيّة لأنّ صحّة سلب المعنى المجازي ليس دليلا للمجازيّة ولا عدمها على الحقيقة بل بالعكس ولا الأعمّ من اللّفظ والمعنى أو الحقيقي والمجازي لبطلان العام من حيث إنّه عام ببطلان الخاصّ ولا السّلب ادعاء لصحّته عن المعنى الحقيقي أيضا كما يقال عمرو ليس بإنسان وعدمه عن المعنى المجازي كما يقال زيد ملك ونحو ذلك وكونها علامتين وكاشفين عن الحقيقية والمجازية واضح إنما الشّأن في دفع ما أورد من استلزامهما الدّور وقرّر بوجهين مرجعهما أمر واحد وبيانه أن صحّة السّلب ترجع إلى الشّكل الثّاني وعدمها ترجع إلى الشّكل الأوّل أمّا الأوّل فلأنّ إثبات مجازية البليد بالنسبة إلى الحمار يتوقّف على إثبات تغايره مع الحيوان النّاهق الذي هو مقطوع الوضعيّة فإثبات تغايره معه صغرى وإثبات الوضع للحيوان النّاهق كبرى وهو هكذا البليد ليس بحيوان ناهق والموضوع له للحمار هو الحيوان النّاهق ينتج البليد ليس بموضوع له للحمار وأمّا الثّاني فلأنّ إثبات حقيقيّة الإنسان في البليد يتوقّف على إثبات اتحاده مع الحيوان النّاطق الذي هو الموضوع له قطعا فإثبات الاتحاد صغرى وإثبات الوضع للحيوان النّاطق كبرى وهو هكذا البليد حيوان ناطق والحيوان النّاطق هو الموضوع له للإنسان ينتج البليد موضوع له للإنسان وحينئذ فنقول التقرير الأوّل هو ما قيل إنّ الشّكّ في النّتيجة ناشئ من الشّكّ في المقدّمتين إذ مع العلم بهما ليس هناك شكّ في النّتيجة فالشّك في مجازيّة البليد للحمار أو حقيقيّة للإنسان ناشئ عن الشّكّ في اتّحاده مع الحيوان النّاطق وتغايره مع الحيوان النّاهق إذ العلم بالاتحاد والتغاير عين العلم بالحقيقيّة والمجازيّة فالعلم بالنتيجة يتوقّف على العلم بالمقدّمتين وهو متوقّف على العلم بالنتيجة وهذا دور ظاهر وهذا الإشكال يجري في

 

جميع الإشكال ولا يختص بصحّة السّلب وعدمها إذا الشّكّ في حدوث العالم لا بد أن يكون ناشئا عن الشّكّ في المقدّمتين إذ مع العلم بهما لا يتصوّر الشّكّ في النّتيجة والحاصل أنه إذا كان الشّكّ في النّتيجة منافيا مع قطعيّة المقدّمتين فهو مستلزم للدّور كليّة على ما بينا والجواب ضع التنافي المذكور لجواز حصول العلم بشيء بعنوان مع الجهل به بعنوان آخر فنقول هناك ذاتان أحدهما مشكوك الوضعيّة وهو البليد والثاني مقطوع الوضعيّة وهو الحيوان النّاطق والنّاهق فإن كان الذّات المشكوك عين الذات المعلوم ثبت له الوضع وإلاّ فلا فبصغرى المقدمتين نثبت اتحادهما ذاتا فيتحدان وصفا أو نثبت تغايرهما ذاتا فيختلفان وصفا فالعلم بمجازيّة البليد للحمار يتوقّف على تغاير ذاته مع ذات الحيوان النّاهق وهو ليس عين العلم بالمجازية ولا متوقّف عليه بل هو مستلزم له لأنّه إذا سلب ذاته عنه يلزم سلب وصفه عنه أيضا والحاصل أن الشّخص عالم باختلاف الذّاتين غافل عن اختلاف الوصفين فيجعل الذات المعلوم حد الوسط فبسلبه عن المشكوك في الصغرى ويثبت له الوضع في الكبرى فيسلب عن المشكوك أيضا والتقرير الثّاني هو ما ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله أمّا في صحّة السلب فبيانه أنّه لا يثبت مجازية البليد إلاّ بعد جعل كبرى الشّكل كليّة وهو قولنا الموضوع له للحمار هو الحيوان النّاهق بأن يكون الوضع منحصرا في الحيوان النّاهق وإلاّ لم يلزم من إثبات الوضع للحيوان النّاهق وسلبه عن البليد مجازية البليد للحمار لجواز أن يكون الحمار موضوعا له بوضع آخر وكلية الكبرى يتوقّف العلم بها على العلم بعدم كون البليد موضوعا له للحمار وإلاّ فمع احتمال وضعه للبليد لا يحصل العلم بانحصار الوضع في الحيوان النّاهق وبالجملة الشّكّ في النّتيجة مناف لقطعية المقدّمتين وهو مناط الدّور على ما أشرنا إليه والفرق بين التقريرين أنّ الشّكّ في الأوّل كان يرجع إلى الشّكّ في الصغرى أي الاتحاد والتغاير وهنا يرجع إلى كلية الكبرى مع فرض القطع بتغايره مع الحيوان النّاهق ومرجع التّقريرين إلى منافاة الشّكّ في النّتيجة مع قطعية المقدّمتين فافهم وأمّا في عدم صحة السّلب فقرره وإن لم يكن العلم بحقيقية البليد بالنسبة إلى الإنسان متوقّفا على عدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عنه لكفاية عدم صحة سلب بعض الحقائق في إثبات الوضع لكن لا يثبت به إلاّ الوضع في الجملة وهو مستلزم لتفكيك العلامتين حيث جعل الأوّل علامة للمجاز مطلقا وهنا للحقيقيّة في الجملة وإذا ثبت أن المراد إثبات الحقيقيّة المطلقة لئلاّ يلزم التفكيك يلزم الدّور ولأن كون البليد معنى حقيقيّا للإنسان موقوف على العلم بعدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقية الثّانية للإنسان عن البليد والعلم بعدم صحة سلب جميع المعاني

 

الحقيقيّة عنه موقوف على العلم بعدم معنى حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد والعلم بذلك موقوف على العلم بكون البليد معنى حقيقيّا للإنسان وهذا دور ظاهر هذا حاصل تقريره وأقول أمّا جعله السالبة كلية في صحّة السّلب فصحيح إذ العلم بالمجازيّة وعدم كونه موضوعا له متوقّف على ذلك وأمّا جعل الموجبة كليّة في عدم صحّة السّلب وإيراد الدّور عليه فغير واضح أمّا الأوّل فلعدم الاحتياج إليه إذ الفرض إثبات الوضع وعدمه والأوّل يحصل بمحض عدم صحة سلب بعض الحقائق بخلاف الثاني وأمّا الثاني أعني إيراده الدّور فلأنّ عدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة للإنسان عن البليد ليس موقوفا على عدم معنى حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد بل هو عينه إذ الفرض من جعل الموجبة كلية إثبات انحصار الموضوع له فيه إذ الحقيقيّة في الجملة للبليد تثبت بعدم سلب البعض أيضا وحينئذ فالمقصود نفي الغير والعلم بعدم صحة سلب جميع الحقائق عنه عين العلم بأنه موضوع له لا غيره وبعبارة أخرى إنا أثبتنا في الصغرى اتحاد الحيوان النّاطق مع البليد ذاتا ليثبت له الأوصاف الثابتة للحيوان النّاطق في الكبرى فإن كان الوصف الحقيقيّة في الجملة ثبت للبليد أيضا ذلك أو كليّة فكلية وإحراز أن الوصف الثابت للحيوان النّاطق هو الموضوع له المطلق أو في الجملة لا بد أن يرجع فيه إلى شيء آخر ولا يتوقّف على حقيقيّة البليد أصلا لا بواسطة ولا بلا واسطة بل الشّكّ في ذلك وعين الشّكّ في أن البليد مطلق الموضوع له أو في الجملة وبالجملة البليد حكمه حكم الحيوان النّاطق بحكم الصغرى فيثبت له الحكم الثابت له في الكبرى إن كان مطلقا فمطلقا وإن كان في الجملة ففي الجملة بخلاف صحّة السّلب لأن إثبات نفس عدم الوضع متوقّف على كليّة الكبرى لا أنه تثبت في الجملة ويثبت إطلاقه بكلية الكبرى فالعلم بتغاير البليد مع الحيوان النّاهق الذي هو موضوع له للحمار لا يوجب نفي الوضع عن البليد إلاّ إذا علم انحصار الموضوع له في الحيوان النّاهق وهو متوقّف على العلم بالنتيجة ولا يمكن إحراز الكليّة بالرجوع إلى العرف إذ ليس في العرف إلاّ قضيّة سالبة وهو قولهم البليد ليس بحمار وهو إنما يدلّ على مجازيته بالنسبة إلى بعض معاني الحمار بأن يكون المراد من الحمار المسلوب الحيوان النّاهق وبالجملة دفع الدور هنا مشكل جدّا ولا يمكن إلاّ برفع منافاة الشّكّ في النّتيجة مع العلم بالمقدّمتين وقد ذكر في رفع التنافي أجوبة أغلبها فاسدة فمنها ما ذكره الفاضل المذكور في منع كلية الكبرى وقد عرفت أن الإشكال كان ناشئا منه وقرره بأن المقصود إثبات المجازية في الجملة بالنّسبة ويكفي فيه صحة سلب بعض المعاني الحقيقيّة عنه كما في عدم صحّة السّلب وفيه ما عرفت أن الفرض من هذه العلامات إثبات الوضع وعدمه

 

والأوّل يثبت بعدم صحة السّلب في الجملة دون الثّاني ومنها ما ذكره أيضا من أنّ المقصود تعيين فرد الموضوع له ومصداقه فبصحّة سلب الماء عن الجلاب المسلوب الطعم والرائحة نعلم أنه ليس من مصاديق الماء وبعدمها عن ماء السيل المخلوط بالطين نعلم أنّه من مصاديقه وبالجملة لا نشكّ في عدم وضع الماء للجلاب بخصوصه ولكن نشكّ في أنه داخل في مصاديقه أو لا فبصحّة السّلب نعلم عدم دخوله فيه وفيه أن الشّكّ في الفرديّة إمّا ناش عن عوارض لاحقة لنفس الفرد كالبلل المشتبه بالبول وإمّا ناش عن الشّكّ في أصل المعنى كالشّكّ في ماء السّيل فإنه ناش عن الشّكّ في أن الماء موضوع للمطلق مطلقا أو للمطلق الصّافي فإن أراد الأوّل قلنا إن تشخيص الموضوعات يجب أن يكون بالعلم وهذه الأمارات لا حجّيّة فيها في الموضوعات بل الغرض منها إثبات الأوضاع اللّغويّة من الحقيقيّة والمجازيّة لا تشخيص الموضوعات العرفيّة وإن أراد الثّاني بقي الدّور بحاله لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّكّ في أصل المعنى لا إلى الشّكّ في الفردية ومنها ما ذكره بعضهم من أن كلية الكبرى في صحّة السّلب أعني صحة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المشكوك فيه يعلم بالرجوع إلى العرف فإنه إذا سلب الحمار عن البليد في العرف فلا يخلو إمّا أن يكون الحمار متحدا أو مشتركا وعلى أيّ تقدير يلزم سلب جميع الحقائق أمّا على الأوّل فظاهر وأمّا على الثاني فلأنّ المراد من سلب المشترك عن شيء سلب مفهوم المسمّى عنه فإذا قيل هذا ليس بعين أريد به أنه ليس مسمّى بالعين ولازمه عدم كونه موضوعا له وإلاّ لم يجز سلب المسمّى عنه قال وهذا الجواب لا يجري في عدم صحة السّلب لأنّ معنى عدم السّلب صحة الحمل ولا يمكن العلم بكلية الكبرى وهي أنّه لا يصح سلب جميع الحقائق عنه بالرّجوع إلى العرف لأن حمل شيء على شيء لا يمكن أن يكون بإرادة مفهوم المسمّى من المحمول إذ يلزم حينئذ اتحاد المعنى الواحد مع المعاني المتعدّدة لو كان المحمول مشتركا وهو محال في غالب المشتركات حيث إن معانيها متباينة مفهوما ومصداقا نعم يصحّ ذلك فيما إذا كان المحمول معاني متعدّدة مفهوما متّفقة مصداقا كحمل العالم والنّاطق والضاحك على الإنسان مثلا وليس الكلام مختصّا بأمثال ذلك بل يعم المشترك بين المتباينين الذي لا يمكن حمله على شيء بإرادة مفهوم المسمّى وفيه أن ادّعاء أنّ سلب المشترك عن شيء يراد منه سلب مفهوم المسمّى ممنوع لأنّ إرادة مفهوم المسمّى عن المشترك مجاز لا يصار إليه بلا قرينة بل الظاهر من السّلب عرفا هو سلب الماهيّات والحقائق وحينئذ لا يمكن إرادة أكثر من واحد من المسلوب وإن كان في النّفي لما قرّر في محلّه من عدم جواز استعمال المشترك في الأكثر من المعنى مطلقا والفرق بين المثبت والمنفي شموله لجميع أفراد المعنى الواحد في النّفي دون الإثبات لا أنّه يشمل جميع المعاني لوقوعه في سياق النّفي وقوله إن ذلك لا يتم في عدم صحة السّلب لأن حمل المسمّى على شيء يستلزم اتحاد المعنى الواحد مع المعاني

 

المتعدّدة فاسد لأنّ حمل المسمى لا يقتضي إلاّ صدق المسمّى على الموضوع وكونه من مصاديق المسمى كما يقال الذّهب مسمّى العين فإنّه ليس معناه أنّه جميع مسميات العين إذ النّكرة لا تعم في سياق الإثبات اللهمّ إلاّ أن يقال إن مراده من إثبات الكلية بالرّجوع إلى العرف لا يمكن إلاّ بجعل الحمل الحاصل في العرف عبارة عن حمل المفهوم المسمّى بجميع أفراده ليتم الكليّة فإن حمل مفهوم المسمى في الجملة لا يثبت الكليّة وحينئذ فيلزم المحذور فلا يتم الجواب لا أن محض حمل المسمّى يستلزم ذلك المحذور ومنها ما ذكر الفاضل البهبهاني قدس‌سره من أن كليّة الكبرى تعلم بالرجوع إلى العرف فإذا رأينا أنّهم سلبوا لفظا مجردا عن القرينة عن شيء نعلم مجازيّته لأن تجرّده عن القرينة قرينة على اتحاده معنى إذ لو كان مشتركا لم يصحّ تجرّده عن القرينة وإذا ثبت اتحاده معنى فبسلبه عنه يلزم سلب جميع الحقائق عنه إذ لا حقيقة له سوى المسلوب وعلى هذا لا يلزم أن نعلم المعنى الحقيقي أصلا بل محض تجرّده عن القرينة الصارفة والمعيّنة دليل على كونه حقيقة دون غيره وربما يناقش في ذلك بأن سلب اللّفظ المجرّد عن القرينة عن شيء إنما يدفع احتمال اشتراكه في غير المسلوب عنه فلم لا يجوز أن يكون للّفظ موضوعا للمسلوب عنه أيضا ويكون السلب قرينة على إرادة المعنى الآخر من المسلوب لعدم جواز سلب الشّيء عن نفسه فلم يلزم من التجرّد عن القرينة سلب جميع الحقائق ونظير ذلك ما ربما يقال من أن قولهم عدم صحة السّلب معناه صحة الحمل وحمل ذات الحقيقة على شيء يستلزم ثبوت وصف الحقيقية له باطل لأنّ حمل الشّيء على شيء لو كان حقيقيّا لتم ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الحمل ادعائيا ويكون القرينة عليه علم المتسامعين بتغايرهما فإذا سمعنا أنه قال واحد من أهل العرف لآخر البليد حمار لا يمكن لنا إثبات الوضع له بذلك لجواز أن يكون الحمل ادعائيا ويكون القرينة علم المتكلّم والمخاطب بالتّغاير والجواب أمّا عن الثاني فظاهر لأن الحمل حقيقة في الحمل الحقيقي مجاز في الادعائي إذ لا تفاوت بين المادة والهيئة فكما أن الأوّل موضوع فكذا الثّاني والأصل في الاستعمال الحقيقة مضافا إلى ما هو متداول لأن في العرف من حمل الكلمات على ظواهرها وإن لم يكونوا مخاطبين بها ولو كانت هذه الاحتمالات لوجب التّوقّف لكل من لم يكن مخاطبا فيما كان هناك حمل لاحتمال ادعائية الحمل أو مجازية المحمول ويكون القرينة علم المتسامعين فلو سمع زيد ابني وجب التّوقّف لاحتمال أن يكون زيد غير ابنه وعلمهما بهذا قرينة على ادّعائية الحمل أو على مجازية الابن بإرادة التّربية منه مع أنا نشاهدهم لا يتوقّفون في ذلك أصلا وهو ظاهر وأمّا عن الأوّل فبأنه وإن صحّ ما قلت من احتمال الاشتراك بين المعنيين بأن يكون السلب قرينة على إرادة المعنى الآخر من المسلوب لكن أصالة عدم الاشتراك وندرته يدفع هذا الاحتمال أو يقال إن في غالب الموارد نعلم وحدة المعنى إنما الاشتباه في تعيينه فبصحة سلب اللّفظ

 

المجرد عن القرينة عنه عرفا نعلم أنّه ليس بموضوع له وبعدمها نعلم أنّه هو مضافا إلى ما عرفت من إثبات الحقيقيّة بعدم صحة سلب البعض ولا نحتاج إلى أخذه كلية فافهم تنبيهان الأوّل قد نوقش في كون صحّة السّلب علامة للمجاز بأن صحة السّلب معنا صحة سلب حمل المعنى الحقيقي عن المشكوك والحمل المتداول في العرف هو حمل الكليّ على الفرد فمعنى صحة السلب سلب فرديّته للمعنى الحقيقي لا سلب عينيّته له وسلب الفرديّة له الاحتمالات أحدها أن يراد بالمسلوب مفهوم المسمّى وقد أثبتنا بطلانه لأنه مجاز بل الظاهر سلب الحقائق والذوات والثّاني أن يكون المسلوب فرديته للمعنى الحقيقي بأن يكون عينه وذلك كأن يقال الذّهب ليس بذهب أي ليس فردا له بل هو عينه والثالث أن يراد سلب فرديته له بأن يكون متباينا معه وإن كان موضوعا له بوضع آخر كما يقال الذهب ليس بفضة أي ليس فردا لها لكنّه موضوع له برأسه والرابع أن يراد بسلب الفرديّة كونه مجازا وسلب الفرديّة أعم من المذكورات فهو مجمل لا يمكن به إثبات المجازيّة ونظير ذلك أن يقال في عدم صحّة السّلب أن معناه عدم صحة سلب الحمل المتعارفي بمعنى صحّة الحمل المتعارفي وغاية ما يثبت منه كونه فردا للمعنى الحقيقي لا أنّه موضوع له إذ هو لا يثبت إلاّ بالحمل الذّاتي وهو غير متداول في العرف والجواب أمّا عن الإيراد في عدم صحّة السّلب فبأنّه ليس الغرض من هذه العلامة إلاّ إثبات أنه لو استعمل في المشكوك لكان على وجه الحقيقة وهو يحصل بالفردية أيضا إذ الفرد عين الكلي الموجود غاية الأمر عدم ثبوت الوضع له بخصوصه بذلك وهو يحصل بالفردية أيضا إذا الفرد عين الكلي الموجود غاية الأمر عدم ثبوت الوضع له بخصوصه بذلك وهو مسلم هذا إن قلنا بصحة سلب الكلّ عن الجزء عرفا وإلاّ بأن نقول لا يصحّ سلب الكل عن الجزء في العرف كما هو الظاهر فإنه لو رأى ورقا من المعالم مثلا فقال ليس هذا كتاب المعالم لخطئوه في ذلك فنقول حينئذ يتردّد عدم صحة السلب بين العينيّة للمعنى الحقيقي والفردية والجزئية له فيثبت أنه مربوط بالحقيقة لا أجنبي عنه ولا يثبت به الوضع وأمّا في صحّة السّلب فنقول الاحتمال الأول مدفوع بما عرفت وأمّا الثاني فظاهر البطلان لندرته عرفا بل هو غير مستعمل قطعا وأمّا الثالث فإنه وإن كان محتملا إلاّ أنّه مدفوع بما عرفت من أصالة عدم الاشتراك وندرته والرابع هو المطلوب الثاني صحة السلب وعدمها إنما يجريان في المعاني المستقلّة التي يمكن حمل شيء بخلاف المعاني الغير المستقلّة كالمعاني الحرفيّة والفعلية إذ لا يصح حمل شيء عليهما وبهذا علم فساد قول من قال إن الاستفهام في قوله تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ لا تَسْجُدَ مستعمل في الاستفهام الحقيقي بجعله أعمّ مما كان المراد طلب الفهم لنفس المتكلّم أو غيره والمراد في الآية الثّاني والغير هو الملائكة مستدلاّ بعدم صحة سلب الاستفهام عن الاستفهام الذي كان الغرض منه طلب الفهم للغير فلا يقال إنه لم يستفهم وذلك للفرق بين مادة الاستفهام وأداته فعدم صحة سلب الأوّل

 

لا يدلّ على حقيقية الثّاني كما هو المطلوب نعم لو علم أن المعنى الحرفي مترادف مع المعنى الاسمي في غير جهة الاستقلال وعدمه لصحّ ذلك كما لو علمنا أن معنى كلمة من هو معنى الابتداء إلاّ أنّه مستقل وهذا غير مستقلّ وحينئذ فلو شككنا في أن استعمال كلمة من في ابتداء الزمان حقيقة أو مجاز لصح الاستدلال بعدم صحة سلب الابتداء عن ابتداء الزّمان فيعلم بانضمام المقدّمة الخارجيّة وهي التّرادف أن كلمة من أيضا حقيقة فيه فليتدبّر

ومنها الاطراد وعدمه

واختلف في ذلك على أقوال فقيل بأنّ الاطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز ولازم هذا القول تساوي الاطراد مع الوضع وقيل بأن الاطراد أعمّ من الحقيقة لوجوده في المجاز وعدمه أعمّ من المجاز لوجوده في الحقيقة فليس شيء منها دليلا وقيل إنّ الاطراد أعمّ وعدم الاطراد غير موجود بل جميع المجازات مطردة وقيل الاطراد أعمّ وعدم الاطراد خاصّ بالمجاز فيثبت به المجازية ولا يثبت الوضع بالاطراد فهناك أقوال أربعة والحق هو الأخير وتحقيق الحقّ يتوقّف على تمهيد مقدّمة فنقول الاطراد عبارة عن عموم صحة استعمال اللّفظ في المعنى وبعبارة أخرى أن يكون استعمال في المعنى غير مختص ببعض الموارد بأن لا يختلف باختلاف الموارد كما يصحّ استعمال زيد في مسمّاه في جميع الموارد إنشاء وإخبارا أمرا ونهيا وهكذا سواء كان اختلاف الموارد موجبا لتكثّر المعنى حقيقة أو لا فالأوّل كالنخلة في الطّويل فإنّ اختلاف موارد استعماله يوجب اختلاف حقيقة الطّويل فإنه قد يلاحظ بالنّسبة إلى الإنسان الطّويل وقد يلاحظ بالنّسبة إلى الجبل والحائط الطّويلين وحقيقة الطّول الحاصل في الإنسان غير الحاصل في الجبل حيث يلاحظ فيه القطر والعرض الخاص والثّاني كالرقبة في الإنسان فإن اختلاف موارد استعماله إنما هو باختلاف الأحكام كما يقال أعتق الرّقبة أو اضرب الرّقبة أو جاء الرّقبة فإن الرّقبة واحدة وإنما المختلف أحكامه المتعلّقة بها والاطراد عبارة عن صحّة استعماله في جميع الموارد سواء كان اختلاف الموارد موجبا لتكثر المعنى أو لا وعدمه عبارة عن عدم صحة ذلك بأن كان استعماله في بعضها صحيحا دون بعض أعمّ من أن يكون الاختلاف سببا لتكثّر المعنى أو لا هذا والفرق بين الاطراد والاستقراء ظاهر إذا الاستقراء عبارة عن الحكم على جملة بما وجد في جزئيّاتها وذلك يتصور بوجهين أحدهما أنا نرى لفظ ضارب مثلا مستعملا في من قام به الضّرب ونعلم أنّه موضوع له لكن نشكّ في أنّه لوحظ تفصيلا بمادته الخاصّة ووضع له اللّفظ أو لا بل لوحظ إجمالا في ضمن قضيّة كليّة هي آلة لملاحظة الجزئيات أعني كلّ ما كان على زنة فاعل لكلّ من تلبس بالمبدإ فنثبت بالاستقراء أن الملاحظ هو الكلّيّة لا خصوص المواد وحينئذ فالوضع عام والموضوع

 

له خاصّ والثّاني أن نشكّ في كونه موضوعا بخصوصه تفصيلا وكونه موضوعا بالعرض بأن يكون الموضوع هيئة الفاعل لمن تلبس بالمبدإ فبالاستقراء نثبت أن الموضوع هو الهيئة لمن تلبس بالمبدإ فالوضع عام والموضوع له عام ويظهر الثّمرة في صحّة قياس ما لم نجده من الأفراد على ما وجدناه لو أثبتنا أن الموضوع هو الهيئة أو أنّ المعتبر في الوضع هو القضية الكلّيّة وعدم صحته لو كان المعتبر هو خصوص كلّ واحد منها وبالجملة يعتبر في الاستقراء إحراز الوضع بالنّسبة إلى الجزئيات ويكون الشّكّ في أنّ الموضوع هل هو الهيئة أو لا فيثبت بالاستقراء بخلاف الاطراد فإن مورده الشّكّ في الوضع كما إذا رأينا استعمال الإنسان في الحيوان النّاطق وشككنا في أنّه حقيقة أو لا فباطراد استعماله فيه ثبت حقيقيّته فيه وبذلك ظهر أن تمثيل بعضهم للاطراد بوضع المشتقات ليس على وجهه إلاّ أن يقال إن في وضع المشتقات جهتين بالنسبة إلى الشّكّ في الموضوع هل هو الخصوص أو الهيئة وبالنسبة إلى الموضوع له هل هو ما تلبس بالمبدإ مطلقا أو لا بل خصوص كلّ مادة فبالاستقراء يثبت الأوّل وبالاطراد الثّاني إذا عرفت ذلك فنقول إنّه إذا لوحظ اللّفظ والمعنى الخاصّ فإمّا أن يصحّ استعماله فيه في جميع الموارد أو يختصّ ببعض موارد ذلك المعنى فالأوّل هو الاطراد والثّاني عدمه وعدم الاطراد مختصّ بالمجاز إذ لا معنى لعدم اطراد الحقيقة لأن فائدة وضع اللّفظ للمعنى أن يصح استعماله فيه في أيّ مورد أريد ذلك حتى أنّه لا يجوز للواضع بعد الوضع أن يمنع عن الاستعمال لمنافاته لغرضه وبهذا رد كون وضع المبهمات عاما والموضوع له عامّا فإنه قيل في تصحيحه إن الواضع بعد الوضع منع عن الاستعمال ولهذا لا يستعمل فيه فردّ بأنّه لا يجوز له أن يمنع عن الاستعمال بعد الوضع فإن معنى الوضع جعله علامة له فأي فائدة فيه إذا لم يجز استعماله فيه بخلاف المجاز فإنّ المدار فيه على العلائق والمناسبات الذّوقية فيجوز أن يكون المناسبة الحاصلة بين المعنى المجازي والحقيقي الّتي هي منشأ صحّة استعماله منشئا في خصوص بعض الموارد دون بعض كما نشاهد في الرّقبة حيث يصحّ استعمالها في الإنسان في مورد تعلّق العتق الّذي هو مثل فكّ القيد المناسب للرقبة ولا يصحّ في مثل جلس الرّقبة أو نامت ونحوهما نعم لو كان محض المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي معتبرا مع قطع النّظر عن مورد دون مورد الاطراد استعماله في جميع الموارد كالأسد في الشّجاع حيث لم يلاحظ فيه غير المناسبة في الشّجاعة فيصحّ استعماله فيه في جميع الموارد وبهذا صار الاطراد أعم من الحقيقة لوجوده في هذا القسم من المجاز والحاصل أنا إذا رأينا استعمال اللّفظ في معنى وشككنا في وضعه له فنلاحظ سائر الموارد فإن رأينا صحّة استعماله في ذلك في الجميع لم نعرف وضعه لاحتمال كونه مجازا على القسم الثّاني وإن رأينا اختصاص

 

الصّحّة بذلك المورد دون سائر الموارد علمنا أنّه مجاز في المورد المستعمل فيه فإذا رأينا اختصاص استعمال الرّقبة بالإنسان بمورد العتق علمنا أنّه مجاز فيه في ذلك المورد لا في سائر الموارد الغير المستعملة فلا يرد ما ذكره بعضهم أن المجاز لا يمكن أن يكون غير مطرد فإنّه فيما يصحّ استعماله فيه مطرد وفيما لا يصحّ استعماله فيه غلط إلاّ أنّه مجاز وغير مطرد وذلك لأنا لا نقول المجاز بعنوان أنّه مجاز غير مطرد بل نقول إن استعمال اللّفظ في المعنى إذا لم يطرد في جميع الموارد فعدم صحة استعماله في بعض الموارد كاشف عن كونه مجازا في الموارد التي يصحّ الاستعمال فيها وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل إن نكتة عدم الاطراد في المجاز هو أن المعتبر فيه هو نوع العلاقة والعلاقة ليست بعلة تامة بخلاف الوضع وذلك لما علمت أنّ النّكتة أن العلاقة قد تلاحظ بخصوصية المقام لا أن نوع العلاقة كافية وقد توجد ولا يصحّ الاستعمال لأن النّوع ليس كافيا كما أن الشّخص ليس بلازم بل المدار هو المناسبة الذّوقيّة وعدم الاستعمال عرفا فعلم أن الاطراد أعمّ من الحقيقة وعدم الاطراد خاصة المجاز والجواب عن عدم اطراد بعض الحقائق كالقارورة والسّخيّ والفاضل واضح نعم ربما أمكن الاستدلال بالاطراد على الحقيقة بضميمة ندرة الاطراد في المجاز ولزومه في الحقيقة إلحاقا للمشكوك بالأعمّ الأغلب فإن قلت هلا جعلت الاطراد بلا قرينة علامة للحقيقة حتّى لا يكون أعمّ كما جعلت التّبادر وعدم صحّة السّلب كذلك قلت لأن الاطراد حينئذ معناه عموم الاستعمال بلا قرينة ونفس الاستعمال بلا قرينة علامة للوضع فلا نحتاج إلى عمومه فيكون الاطراد لغوا بل المراد من الاطراد عموم الاستعمال من حيث هو مطلقا

تذنيب

قد عرفت أن إجراء الاطراد في نفس المعنى ليس علامة للحقيقة لوجوده في المجاز فاعلم أنه يمكن إجراؤه في القيود اللاّحقة ويستكشف به عن الوضع وذلك ما قيل إن صحة الاستثناء من اللّفظ دليل على وضعه للعموم فإن معنى الاعتناء حقيقة هو إخراج ما لولاه لدخل إذ هو مجاز في المنقطع وحينئذ فذكر الاستثناء دليل على شمول المستثنى منه للمستثنى وإلاّ لم يتحقق الإخراج واعترض عليه بأن غاية ما يدل عليه الاستثناء دخوله في الإرادة لولاه أمّا دخوله في الوضع فلا وأجيب بأن محض صحة الاستثناء وإن احتمل ذلك لكن اطراد الصّحّة بالنسبة إلى جميع الاستعمالات حتى فيما لم يكن قرينة دليل على العموم لوجهين (أحدهما) أنه حينئذ كاشف عن استعمال اللّفظ في العموم بلا قرينة وهو معنى الوضع لا يقال فحينئذ محض الاستعمال بلا قرينة كاف ولا يحتاج إلى الاطراد قلنا الاطراد كاشف عن استعماله بلا قرينة لا أنا نعلم الاستعمال بلا قرينة جزما ويعلم الاطراد بالرّجوع إلى العرف فيمكن تحصيل العلم به إجمالا باطراد الاستعمال ويعلم منه استعماله فيه بلا قرينة أيضا في بعض الموارد لأنه معنى الاطراد وهو كاشف عن الوضع (والثّاني) أن الاطراد

 

كاشف عن استعماله في العموم في جميع الموارد فيدلّ على وحدة المستعمل فيه والأصل في الاستعمال الواحد الحقيقة وإلاّ لزم ثبوت المجاز بلا حقيقة واعترض على الثّاني بأنه حينئذ مثبت لموضوع علامة أخرى وليس علامة مستقلة وعلى الأول بأنّه لم لا يجوز أن لا يكون المستثنى منه موضوعا للعموم واستعمل فيه مجازا بقرينة الاستثناء والجواب عن الثّاني أمّا أوّلا فبأن الاستثناء الفعلي لو سلم إمكان كونه قرينة فلا يضرّ بما نحن فيه لأنا نقول قابلية اللّفظ للاستثناء مطردا وعدم تنافره مع الاستثناء كلية دليل على أنّه موضوع لمعنى يقبله وهو العموم الاستثناء الفعلي وبهذا علم أنّه لا نحتاج إلى الدّليل الثّاني حتى يرد عليه الاعتراض بأنّه مثبت لموضوع علامة أخرى وأمّا ثانيا فبأنّ كون الاستثناء الفعلي قرينة على إرادة المجاز في العام من المستثنى منه أول الكلام لأنه مبنيّ على إجراء أصالة الحقيقة في الاستثناء وأنّه موضوع لإخراج ما لولاه لدخل ولا يمكن ذلك إلاّ بإرادة العموم من المستثنى منه فنقول لو كان المستثنى منه موضوعا للخصوص لكان مقتضى أصالة الحقيقة إرادة الخصوص فيعارض إجراء أصالة الحقيقة في الاستثناء لاستلزامه صيرورته منقطعا وترجيح الثّاني على الأوّل محل كلام كما ذكروا فيما لو أقرّ بأنّ له علي دراهم إلاّ ثوبا فالأمر دائر بين إضمار المقدار حتى يكون الاستثناء متصلا وبين إرادة الانقطاع وترجيح الأول محلّ نظر نعم يمكن ذلك أعني إجراء أصالة الحقيقة فيه وصيرورته قرينة فيما إذا لم يعارضه معارض وذلك في موضعين أحدهما ما إذا حذف مميز المستثنى منه أو نفسه كقولنا له عشرة إلاّ درهما أو ما جاءني إلاّ زيد فهو قرينة على كون المستثنى منه شاملا للمستثنى وعلى كونه من جنسه والثّاني فيما لو كان المستثنى منه مشتركا بين الخاص والعام فذكر الاستثناء قرينة على إرادة العموم بضميمة أصالة الحقيقة فإمكان كون الاستثناء قرينة لمجازية المستثنى منه مطلقا محل كلام فعلم بذلك أن اطراد صحّة الاستثناء وقابلية اللّفظ له كلية دليل على وضعه للعموم والمناقشة في ذلك باطلة

ومنها صحة التّقسيم

وهو إمّا بالأداة كالتقسيم بكلمة إمّا وأو وإمّا بالمادة كقولنا ينقسم الكلمة إلى الاسم والفعل والحرف وعلى أيّ تقدير فهو كاشف عن استعمال اللّفظ في القدر الجامع بين الأقسام وأنّه الموضوع له فهنا مقامان الأول في دلالته على الاستعمال في القدر المشترك الذي هو كلي والثّاني في إثبات أنّه موضوع له أمّا المقام الأوّل فنقول استدلّ على ذلك بالدليل العقلي وهو أن المقسم لا يخلو إمّا أن يكون أحد الأقسام أو مباينا لها أو قدرا مشتركا بينها والأوّلان باطلان فتعيّن الثّالث واستدلّ بعضهم على ذلك في خصوص المادة مضافا إلى ما ذكر بأن لفظ القسمة موضوع للدّلالة على كون المقسم قدرا مشتركا بين الأقسام ويشكل ذلك بأنّ معنى القسمة التّبعيض والتّجزئة

 

فهي تصدق بكون المقسم مركّبا والأقسام أجزاؤه لا قدرا مشتركا بينهما بل القسمة موضوعة لذلك فإن قلت إنها تستعمل في تقسيم الكلي إلى الأفراد أيضا مع أنّه ليس مركّبا ذا أجزاء قلت استعمال القسمة في ذلك إنّما هو بالنّظر إلى أن الكلي بحسب تعدّد وجوده بالنسبة إلى الأفراد معروض للكثرة التي تنقسم إلى أفراد الكليّ فالأفراد بهذا الاعتبار أجزاء فيصحّ استعمال القسمة فيه بهذه الجهة ولذا قيل إن الأمر البسيط من جميع الجهات ليس قابلا للقسمة وذلك لاشتراط الكثرة في المقسم ولا تعلق لما ذكر بالبحث إذ لا كلام لنا في خصوص المادّة إنما الكلام في القسمة مطلقا وقد عرفت دلالته على كون المقسم أمرا عاما بالدّليل العقلي أو غيره وهو ظاهر وأمّا المقام الثّاني وهو إثبات أنّ القدر المشترك هو الموضوع له فقد استدلّ له بوجوه ثلاثة (أحدها) أن معنى تقسيم شيء إلى أمور كونه موضوعا للعام الشّامل لتلك الأمور فإن معنى القسمة ضم القيود إلى الكليّ لتحصيل الأقسام و (الثّاني) أن مقتضى القسمة حمل المقسم على الأقسام فإنّ قولنا الكلمة اسم أو فعل يستلزم حمل الكلمة على الاسم والفعل بطريق العكس المستوي وهو قولنا الاسم كلمة وظاهر الحمل كون الموضوع من الأفراد الحقيقية للمحمول وبعبارة أخرى التّقسيم يستلزم صدق عنوان المقسم على مصداق الأفراد حقيقة لأن المقسم محمول في العكس والأفراد موضوع والمحمول يراد به العنوان كما أن المراد بالموضوع المصداق ومقتضاه صدق الكلمة عنوانا على مصاديق الاسم والفعل والحرف حقيقة والثّالث أن الغالب في التّقاسيم تقسيم المعنى الحقيقي وتقسيم المجازات نادرا واعترض على الأوّل بأن التّقسيم إنما يدلّ على الاستعمال في العام لا على كونه موضوعا له والقول بأصالة الحقيقة في الاستعمال باطل لما سيجيء وعلى الثّاني بأنّ قوله إن الظّاهر من الحمل كون الموضوع من الأفراد الحقيقيّة للمحمول إن أراد من الحقيقيّة فيه الواقعي مقابل الادّعائي فلا يستلزم المطلوب وهو الوضع وإن أراد به مقابل المجازي فغير مسلم لوجود الحمل بالنّسبة إلى المعنى المجازي أيضا ويشهد لذلك أنّهم أعرضوا عن صحّة الحمل إلى عدم صحة السّلب في علامة الحقيقة وأيضا لو كان صحّة الحمل علامة الحقيقة لكان مقتضاه أن الأصل في الاستعمال الحقيقة كما يقوله السّيّد المرتضى لوجود الحمل في المجازات أيضا فإن قولنا رأيت أسدا يرمي معناه رأيت من هو من أفراد الرّجل الشّجاع الّذي هو الحيوان المفترس على ما بيّن في محله فهو أيضا متضمّن لحمل الأسد على زيد مثلا ولو ضمنا ومقتضى ما ذكر أن يكون حقيقة وإن قيل أنّ الكلام في الحمل المجرّد عن القرينة والحمل في المجازات مستند إلى القرينة قلنا القرينة الخارجيّة يمكن تجرّد الحمل عنها لكن لم لا يجوز أن يكون علم السّامع والمتكلّم بالتغاير قرينة على المجازية كما يقال البليد حمار بدون نصب قرينة وذلك

 

لأن علمهم بالتغاير قرينة المجازية والحاصل أن الحمل بلا قرينة أيضا موجود في المجازات فلو قيل بأنه دليل الحقيقة لزم القول بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة مع أنّه باطل وعلى الثّالث بمعنى الغلبة المفيدة للظّنّ وعدم كفاية مجرّد الغلبة بدون إفادتها الظّنّ هذا حاصل ما قيل في الاعتراض وأقول أمّا الاعتراض الأوّل فصحيح وأمّا الثّاني والثّالث فباطلان أمّا الثّاني فلأنّ مبناه أنّ العلم بالتغاير يمكن أن يكون قرينة على مجازيّة المحمول وهو باطل لأنّ الكلام إنما هو في أن حمل المعنى الحقيقي على شيء دليل فرديّة له وهذا مما لا يرد عليه شيء لا أن القضيّة الحملية دليل عليه مع أنّ لنا أن نقول بالثاني أيضا لأن احتمال كون العلم بالتغاير قرينة المجازيّة غير معتبر في العرف لما عرفت سابقا من أنّه يستلزم أن لا يجوز لغير المخاطب حمل كلام المتكلّم على ظاهره مضافا إلى أن العلم بالتغاير لا يعين مجازيّة المحمول بل إنما يقتضي صرف الكلام عن ظاهره إمّا بمجازية المحمول أو ادعائية الحمل فيصير مجملا فقول المتكلّم الفقّاع خمر يحتمل أنّه لما كان عالما بتباينهما فعلمه بذلك قرينة على إرادة خلاف الظّاهر إمّا بمجازية الخمر بعلاقة الشّباهة في الإسكار فيثبت بالحمل أن الفقّاع أيضا مسكر أو بادعائية الحمل بأن يكون المراد حقيقة الخمر ويكون حمله على الفقّاع ادعائية لوجود جميع أحكامه فيه فعلى الأوّل لا يثبت حكم الخمر للفقّاع بخلاف الثّاني فيصير مجملا وكذا لو قال زيد ابني يحتمل أنّه عالم بالتغاير وهو قرينة على مجازية الابن في الابن التّعليمي مثلا وادّعائية الحمل فلا يكون إقرارا مع أنا نراهم يجعلون ذلك إقرارا ولا يعتبرون هذه الاحتمالات مع أنّ الاحتمال المذكور ثابت في عدم صحّة السّلب وكذا في صحّة السّلب على ما سبق وليس وجه إعراضهم عن صحّة الحمل إلى عدم صحّة السّلب ما ذكر بل الوجه جعله مقابلا لصحّة السّلب مع أن بعضهم ذكر صحّة الحمل دون عدم صحة السّلب فافهم وأمّا الثّالث فلأنّ الإنصاف أنّ الغالب في التّقاسيم تقسيم المعنى الحقيقي وتقسيم المجازي لا يمكن إلاّ بإرادة مفهوم المسمّى وهو نادر جدّا فلو قيل العين على أقسام ذهب وفضة وغيرهما لكان قبيحا من القول كما إذا قيل زيد على أقسام زيد بن عمرو وزيد بن بكر وغيرهما

تنبيهان

الأوّل المقسم قد يكون ذاتيّا للأقسام كقولهم الحيوان إمّا إنسان أو بقر وقد يكون عرضيّا كقولهم الحيوان إمّا أبيض أو أسود لعدم مأخوذية مفهوم المقسم في الأقسام في هذا القسم ولا ينافي ذلك ما سبق أن المقسم معتبر في الأقسام لأن المراد بالأبيض في التّقسيم الحيوان الأبيض لكن ليس الحيوان معتبرا في مفهوم الأبيض من حيث هو وإذا شك في أن المقسم ذاتيّ أو عرضيّ فهل الأصل الأوّل أو الثّاني محل نظر مبني على أن الغالب أيّهما وتعيّنه مشكل ويظهر الثّمرة في تعيين معنى القسم أيضا بصحّة التّقسيم على الأوّل دون الثّاني فلو قيل الغراب على قسمين أبيض وأسود وشكّ في أنّ الأبيض أي شيء فعلى الأوّل

 

يختصّ الأبيض بنوع الغراب لأنّ الغراب حينئذ ذاتي له فلو ورد حكم على عنوان الأبيض اختصّ بالغراب الأبيض بخلاف الثّاني لاحتمال وجود الأبيض في غير الغراب أيضا لكن الأبيض من الغراب هو القدر المتيقّن فيتعلّق به الحكم قطعا وأما تعديه إلى الغير أيضا فهو موقوف على دليل خارجي يعيّن وجوده في شيء آخر أو انحصاره في الغراب مثلا ومع الشّكّ يرجع إلى الأصول العملية

الثّاني هل الظّاهر من التّقسيم انحصار المقسم في الأقسام المذكورة الظّاهر نعم لو كان في كلام جماعة من أهل اللّغة المتصفحين المتتبّعين لأن عدم ذكرهم له دليل على عدم وجدانهم ويحصل منه الظّنّ بعدم الوجود أما لو وقع في كلام غيرهم فلا يظهر الثّمرة في موضعين أحدهما في التّعارض فإنه لو أفاد الحصر تعارض مع كلام من أثبت قسما آخر والثّاني فيما إذا ورد الحكم على المقسم فلو أفاد الحصر لم يحصل الامتثال إلا بالأقسام المذكورة دون المشكوكة وإلاّ فما أمكن الامتثال بالمعلومة تعيّن وإلاّ وجب الإتيان بالمشكوكة لقاعدة الاشتغال نظير ما قيل إنه إذا أمر بعتق الرّقبة وشكّ في إرادة المؤمنة أو الأعم فما أمكن عتق المؤمنة تعيّن وإلا وجب عتق الكافرة للقاعدة المذكورة

ومنها الاستقراء

وعرفه المحقق بأنّه الحكم على جملة بحكم وجد فيما اعتبر من جزئيات تلك الجملة وهو تعريف بالغاية إذ الاستقراء هو تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي وهو باصطلاح الأصوليّين يطلق على قاعدة الغلبة أيضا وهي عبارة عن إثبات الحكم للكلي بوجوده في أغلب الأفراد وإن كان هناك فرد لم يثبت الحكم فيه قطعا لكن يستثنى الأفراد المنتفية الحكم عن الكلي كما يقال كل حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ إلاّ التّمساح ويلحق الأفراد المشكوكة بالغالب فيدخل تحت الكلي والحاصل أنه أعمّ مما إذا ثبت الحكم في جميع الجزئيات فيحكم على الكلّي بالحكم المذكور كما إذا وجد جميع جزئيات هيئة فاعل موضوعا لمن تلبس بالمبدإ فيحكم بأن الهيئة موضوعة لذلك وكذا إن الرّفع علامة الفاعلية إذ الاستقراء كما يثبت وضع اللّفظ كذا يثبت وضع صفاته من الإعراب والبناء ونحوهما وهذا هو الاستقراء المنطقي ومما إذا ثبت الحكم في الغالب وانتفى في النّادر فتلحق المشكوكة بالغالب فيحكم على جملة المشكوكة والمعلومة بحكم الجزئيات المعلومة وهذا هو القاعدة الغلبة والغالب في الاستقراء المذكور في الأصول هو هذا القسم ويمكن دخوله في التّعريف المذكور بأن يراد من الجملة أعمّ من الكليّ الشّامل لجميع الأفراد ومن جملة الجزئيّات المعلومة والمشكوكة ثم إن بعضهم منع عن العمل بالقسم الثّاني أعني قاعدة الغلبة نظر إلى أنه قياس وهو منهيّ عنه وللاتفاق على عدم حجيّته في اللّغات وذلك لأن القياس هو مشاركة جزئي لجزئي في علّة الحكم ليثبت فيه وهنا أيضا كذلك

 

حيث الحق الأفراد المشكوكة بالمعلومة في الحكم الجامع دخولها تحت الكليّ وأجاب بعضهم بأنّ الإلحاق في القياس إنّما هو الجامع بخلاف الاستقراء فإنه عبارة عن تساوي الشّيئين في الحكم لا الجامع وفيه أنّه لا معنى لذلك فإن إلحاق شيء بشيء بدون أن يكون بينهما مناسبة لا معنى له ويؤيد الاحتياج إلى الجامع تقسيم الاستقراء إلى الجنسي والنّوعي والصّنفي وإن الصّنفي مقدّم على النّوعي وهو على الجنسي فالواحد من أفراد الجنسي يحكم بسواده إلحاقا له بصنفه لا ببياضه إلحاقا له بنوعه وليس ذلك إلاّ للاحتياج إلى الجامع وإن كان من محض الاتفاق لم يكن لتقديم الصّنفي على النّوعي وجه وكذا تقديم النّوعي على الجنسي والأولى في الجواب أن يقال إنّ الجامع في الاستقراء يعلم بنفس الغلبة ولا يحتاج إلى استنباط واجتهاد فهو كالقضايا التي قياساتها معها نظير التّجربيّات والحاصل أن الغلبة لازم الوضع للكلي وجدانا لبعد اتحاد الوضع بالنسبة إلى الجزئيات المتباينة وحينئذ فإثبات الوضع به من باب طريق الإنّ استدلالا باللاّزم على وجود الملزوم وإثبات الملازمة من الوجدان كالتّجربيّات بخلاف القياس فإن ثبوت ملازمة الحرمة مع الإسكار ليس وجدانيّا بل يحتاج إلى الاستنباط والاجتهاد في تعيين العلّة فهو الدّليل اللّمي الغير المعتبر في اللّغات بخلاف الاستقراء ولعل مراد من قال بعدم احتياج الاستقراء إلى جامع أنه لا يحتاج إلى الاستنباط والاجتهاد في تعيينه بل هو واضح بنفس الغلبة فهو كالقياس المنصوص العلة مضافا إلى أنّ تعيين الجامع بالغلبة لا يسمى قياسا في الاصطلاح والنّهي وبالاتفاق إنما تعلّقا بعنوان القياس فافهم ثم إن الغالب في الاستقراء أنّه يثبت الوضع الشّخصي كما ذكروا في إثبات الحقيقة الشّرعيّة من استقراء أرباب الحرف والصّنائع فإن كلّ لفظ كان لهم فيه اصطلاح جديد فهو مستعمل في ذلك بطريق الحقيقة لا المجاز فكذا الألفاظ المستعملة في المعاني الشّرعيّة فهذا الاستقراء وإن أثبت القاعدة الكلية وهي أن كل لفظ استعمل في معنى جديد في اصطلاح الشّارع فهو موضوع له لكن الغرض منه وضع مثل الصّلاة والزكاة ونحوهما والوضع فيها شخصي لا نوعي والفرق ظاهر بين الوضع النّوعي وبين القضيّة الكليّة المذكورة وهي أن كل لفظ إلى آخره فإنّ الوضع النّوعي عبارة عن كون الموضوع نوعا والقضية المذكورة ليس معناها أن النّوع موضوع بل هي آلة لملاحظة الأوضاع الثّابتة في الألفاظ نوعيّا كان أو شخصيا كما يقال إنّ جميع الألفاظ موضوع لمعنى فهذا غير الوضع النّوعي المتداول في الألسنة والكتب والحاصل أن الثّابت بالاستقراء هو القاعدة الكليّة سواء كان في الوضع النّوعي أو الشّخصي أو في طريقة استعمال اللّفظ في المعنى كعدم جواز استعمال المشترك في المعنيين واللّفظ في المعنى الحقيقي والمجازي أو في طريقة التّجوز وأن المدار فيه على الذّوق

 

وعدم الاستهجان ولا يلزم فيه نقل الآحاد ولا نقل أنواع العلاقة كما صرّح به بعض المحققين فكلّ ذلك يعلم من الاستقراء بل المدار في أغلب موارد اللّغة عليه هو حجّة قطعا لما مرّ في محلّه لا يعتريه شكّ وريبة ولذا أرجع بعضهم دليل الحكمة إليه بنيانه أنهم استدلّوا على إثبات أن للعام صيغة تخصّه بدليل الحكمة وأن وجه الحكمة في الوضع هو الاحتياج والعام من المعاني المحتاج إليها فلا بدّ أن يكون له صيغة موضوعة واعترض عليه بأنّه قياس ولا حجيّة فيه وقرره بعض المحقّقين بإرجاعه إلى الاستقراء بأن يقال إنا نجد أغلب المعاني التي يشتدّ إليها الحاجة قد وضع بإزائها لفظ فإذا شككنا في معنى من المعاني المحتاج إليها هل وضع بإزائها لفظ فالظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب ثم أورد عليه بأنا نجد غالب المعاني المحتاج إليها لم يوضع بإزائها لفظ كأنواع الرّوائح كرائحة المسك والعنبر والورد وأمثالها وكذا المياه المضافة كماء الورد وماء الرّمان ونحوهما فانتقض الغلبة المذكورة وأجاب بأنّ من المعاني ما يكون هي مستقلة غير مرتبطة بغيرها ولا يمكن حصولها بالإضافة ونحوها كالسّماء والأرض والتّمر والحنطة وأمثالها فهذا مما يجب أن يوضع بإزائها لفظ ومنها ما يكون مرتبطا بالغير بحيث يتميّز بانضمامه إليه فهناك قد وضع قانون الإضافة ووضع لفظ المضاف والمضاف إليه وبعد ذلك لا يحتاج إلى وضع لفظ خاصّ بإزائها فإن أراد المورد أنه لم يوضع بإزاء المذكورات لفظ أصلا ولو بأوضاع عديدة فممنوع أو عدم لفظ مفرد فقد عرفت أنّه لا حاجة إليه ثم أورد النّقض بالجزئيات الحقيقية فإنها مما يشتد إليه الحاجة مع أن الواضع لم يضع بإزائها لفظا وإنّما وضع للمعاني الكليّة التي تندرج فيها تلك الجزئيات ولو قيل إنه اكتفى في ذلك بوضع الكلي وإفهام الخصوصيات بانضمام القرائن قلنا فلا حاجة حينئذ إلى وضع الكليّات أيضا وإن اشتدّ إليه الحاجة بل يكفي وضع اللّفظ لجنس الأجناس ويفهم الأنواع والخصوصيات بالقرائن حينئذ فلا يمكن إجراء القاعدة المذكورة في الموارد المفروضة إذ هناك ألفاظ موضوعة لمعاني كليّة يندرج فيها أكثر المعاني المتداولة وأجاب عنه بالفرق الظّاهر بين الجزئيات والكلّيات إذ لا نهاية للجزئيات بل ليس الجزئي مطلوبا بخصوصه بل هو مطلوب من حيث دخوله تحت كلّي نعم قد يحصل في بعضها مزيّة لكثرة الدّوران فيحتاج إذن إلى وضع شخصي كما في الأعلام الشّخصية ولا ربط له بوضع الواضع بل يتصدّى له من يحتاج إلى التّعبير عنه بخلاف المعاني الكليّة كالتّمر فإن مطلوبيّته إنما هو بعنوان التّمرية لا لدخوله تحت الجسم مثلا فلو اكتفى بوضع اللّفظ لجنس الأجناس وفهم الخصوصية بالقرينة أو الإشارة كأن يقول جئني بهذا الجسم مشيرا إلى التّمر لفاتت ما هو المطلوب وتوهم

 

مراد بعنوان أنّه جسم ولم يكن الكلّيات أمورا غير متناهية حتى لا يمكن للواضع أن يضع لها لفظا فالمقتضي موجود والمانع مفقود بخلاف الجزئيّات هذا ولا يخفى عدم الاحتياج إلى الاستدلال بالاستقراء فيما نحن فيه لما مرّت الإشارة إليه من أنّ أمثال هذه الأقيسة حجة حيث نعلم أن العلّة المستنبطة شيء اعتبرها الواضع كالاحتياج فيما نحن فيه بخلاف ما إذا كانت بحيث لا يعلم اعتبار الواضع لها كأكثرية الفائدة ونحوها مما تمسّكوا به في تعارض الأحوال

تتميم

وقد يجري الاستقراء بالنسبة إلى ظهور اللّفظ في المعنى ولو كان مجازا كظهور الأمر الواقع عقيب الخطر في الإباحة لغلبة استعماله فيه وظهور قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمُّهاتُكُمْ في تحريم الوطي ونحو ذلك ثم إن ثبت بالاستقراء الوضع بالنوع العرفي ثبت في زمان الشّارع أيضا بأصالة عدم النّقل إنما الإشكال فيما إذا ثبت به الظّهور فإنّه لا يمكن إثباته في زمان الشّارع لأنّه مستند إلى الغلبة ومع الشّكّ في ثبوت الغلبة في زمان الشّارع يجري أصالة تأخر الحادث وحينئذ فيثبت عدم الظّهور في زمان الشّارع مع أنا نراهم يكتفون بمحض الظّهور عرفا في حمل اللّفظ الواقع في السّنّة على المعنى الظّاهر وهذا الإشكال لا يختصّ بما ثبت فيه الظّهور بالاستقراء بل يجري في المطلق الشّائع في الفرد عرفا وغلبة التّخصيص التي يستدلون بها على تقديمه على المجاز ونحو ذلك مما ثبت فيه الظّهور في عرفنا وقد عرفت عدم اطراده في زمان الشّارع وأجاب بعضهم عن الإشكال بما يرجع إلى تسليمه وحاصله أن فيما يثبت الظّهور في العرف ثلاثة صور أحدها أن نعلم ظهور اللّفظ في ذلك المعنى في زمان الشّارع أيضا وحينئذ فلا إشكال والثّاني إن نشكّ في أصل ثبوت الغلبة في زمان الشّارع وحينئذ فيجري أصالة التّأخّر ولا يمكن اطّراد الظّهور إلى زمان الشّارع والثّالث أن يعلم بثبوت الغلبة في الزّمانين ويشكّ في اتحاد المستعمل فيه وحينئذ فيحكم بالاتحاد لأصالة عدم تعدد الغلبة هذا كلامه وفيه نظر إذ لا معنى لأصالة عدم تعدد الغلبة للقطع بتعددها فإن تعدّد الغلبة ليس إلاّ بتعدد الاستعمال الغالب لا بتعدّد المستعمل فيه فالشّيوع الثّابت في زمان الشّارع غير الشّيوع في هذا الزّمان وإن كان المعنى الشّائع واحدا فوحدة المستعمل فيه لا يجعل الغلبة واحدا وإجراء أصالة عدم تعدد المستعمل فيه أيضا باطل لعدم الحجّيّة فيها وإلاّ لوجب الحكم بأن مراد زيد وعمرو لو استعمل كلّ منها لفظا مشتركا بلا قرينة متحد لأصالة عدم تعدّد المستعمل فيه ولا يخفى بطلانه والأولى أن يستدلّ في ذلك بأصالة عدم النّقل لأنّها لا تختص بإثبات تقدّم الوضع بل الضّابط في إثباتها أن يشكّ في نقل اللّفظ من الصّفة الثّابتة له سابقا إلى صفة أخرى سواء كان الصّفة الثّابتة سابقا

 

هي الوضع أو الظّهور وفيما نحن فيه نعلم بظهور اللّفظ في زمان الشّارع في معنى ونشكّ في نقله من ذلك الظّهور إلى ظهور آخر فالأصل عدمه والحاصل أن مجرى أصالة عدم النّقل هو فيما يكون بحيث لو لم يجر الأصل المذكور لزم حدوث حادث ثم هجره عنه وحدوث حادث آخر فالأصل عدم تعدّد الحوادث كما فيما نحن فيه بخلاف ما إذا يلزم ذلك ولذا لا يمكن التّمسّك لوجود الحقيقة الشّرعيّة بأصالة عدم النّقل إلى المعنى الشّرعي في زمان المتشرّعة إذ لا يلزم من عدم إجرائه حدوث حادث في زمان الشّارع ثم هجره وحدوث آخر لكفاية الوضع اللّغوي في استعماله في زمان الشّارع ولا يلزم حدوث حادث إذا عرفت ذلك علمت وجه الاطراد في الصّورة الثّالثة وبهذا التّقرير علم أنّه لا يمكن التّمسك بالأصل في الصّورة الثّانية إذ لا نعلم الغلبة أصلا في زمان الشّارع حتى يلزم الهجر عنه على تقدير عدم إجراء الأصل المذكور لجواز كون اللّفظ مجملا في زمانه أو ظاهرا في الموضوع له فإنه حينئذ لا يلزم حدوث حادث والهجر عنه حتى يجب إجراء الأصل مع أنّا نراهم لا يفرّقون بين الصّور الثّلاث في طرد الظّهور إلى زمان الشّارع أيضا ولعل ذلك لأصالة تشابه الأزمان فإنّ مدار العقلاء والعلماء على إجرائها من دون توقّف نظير التّسامع والتّظافر في وجود حاتم ورستم إذ لا نقل معنعن في البين وإنما حصل العلم بذلك بمحض تسالم أهل العصر ومنه علم تسالم الطّبقة الثّانية أيضا وهكذا لتشابه الأزمان فإذا رأينا ظهور الأمر عقيب الحظر في الإباحة في زماننا حصل لنا الظّنّ بثبوته في الزمان السّابق أيضا مضافا إلى ما نرى من ادعائه في الكتب المدوّنة في الزّمن السّابق أيضا ونحو ذلك من القرائن المفيدة للظّنّ الّذي عليه المدار في باب اللّغات على ما عرفت سابقا

ومنها الاستعمال

واختلفوا فيه على أقوال الأوّل أنه دليل الحقيقة مطلقا وهو المعروف عن المرتضى والثّاني أنه دليل المجازيّة مطلقا ويعزى إلى ابن جنّي والثّالث أنه دليل الحقيقيّة إذا كان المستعمل فيه واحدا دون المتعدّد فيحكم حينئذ بحقيقية واحد ومجازيّة غيره والرّابع التّوقّف ونسب إلى المشهور واعترض عليه بأنّ المشهور هو الثّالث للإجماع على الحكم بالحقيقيّة في المتّحد المعنى والحقّ أنهما واحد ومن عبر بالتوقّف أراد به التّوقّف من حيث الاستعمال مع قطع النّظر عن الخارج ومن ذكر التّفصيل لم يرد أن نفس الاستعمال يستلزمه بل هو لأمور خارجيّة كما سيظهر واعلم أن المراد بمتحد المعنى أن يكون المعنى المحتمل الحقيقيّة واحدا وإن كان المستعمل فيه متعدّدا أو قطع بمجازية غير واحد منها وكذا المراد من متعدّد المعنى تعدّد المعاني المحتمل الحقيقيّة ثم إن محلّ النّزاع في متعدّد المعنى هو ما إذا كان بين المعاني مناسبة مصحّحة للتجوّز وإلاّ لم يكن القول بالمجازية لأنّ

 

المجاز فرع المناسبة وأيضا يجب أن يكون للّفظ موضوع له في غير ما علم من المستعملات وإلاّ بأن قطعنا بعدم خروج الموضوع له عنها لم يجر قول ابن جنّي بمجازية الجميع لاستلزامه ثبوت المجاز بلا وضع وهو باطل إذا المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له لمناسبة الموضوع له إذا عرفت ذلك فالحقّ هو التّوقّف من حيث الاستعمال لأنّه جنس الحقيقة والمجاز إذ قد عرفوا كلا منهما بالكلمة المستعملة والعام لا دلالة له على الخاصّ ثم إن اتّحد المعنى كان حقيقة إذ لو قلنا بكونه مجازا لزم ثبوت المجاز بلا حقيقة ظاهرة وهو نادر جدّا حتى قيل بامتناعه من جهة أن المجاز فرع الوضع وإذا ثبت الوضع لزم الاستعمال لأن فائدة الوضع هو الاستعمال والمستعمل فيما وضع له هو الحقيقة وفيه نظر لأنه غاية الوضع ولا يجب ترتّبه عليه نعم هو نادر جدّا لا ممتنع وأمّا في صورة التّعدّد فيحكم بحقيقيّة واحد ومجازيّة البواقي فإن لم يعلم حقيقية معنى خاصّ حكم بحقيقية واحد غير معيّن فيصير اللّفظ مجملا كالمشترك وإن علم أنّه حقيقة في البعض وشكّ في الباقي حكم بالمجازيّة في الباقي وحمل اللّفظ على ذلك المعنى لو استعمل ولو يعلم المراد أمّا الحكم بحقيقيّة واحد غير معين في الأوّل فلأن لا يلزم المجاز بلا حقيقة وأما الحكم بمجازية البواقي مطلقا فلندرة الاشتراك والمجاز خير منه واستدلّ له بأصالة عدم الاشتراك وفيه أنها إن أفادت الظّنّ فهو لندرة الاشتراك على ما ذكرنا لأنّ مستند الظّنّ هو الغلبة وإلاّ فلا حجيّة فيها لما عرفت من أن حجية الأصول ليست من باب التّعبّد بل لإفادتها الظّنّ لا يقال إن الظن إنما يحتاج إليه في إثبات اللّغات أما نفيها فيكفي فيه عدم الظّنّ بالوجود وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المقصود نفي الوضع لأنا نقول لو كان المقصود محض نفي اللّغة لم يحتجّ إلى الظّنّ لكن الغرض نفيه ليتفرع عليه اتحاد الموضوع له وكونه مرادا مجردا عن القرينة وغير ذلك من الأمور الوجوديّة التي لا يمكن تفريعها بدون حصول الظّنّ بالنفي المذكور وربّما قيل في ردّ الأصل المذكور بأنّه معارض بأصالة عدم الوضع المجازي وفيه أن وضع المجازات نوعي ثابت ولو مع القطع بالاشتراك لجواز استعمال المشترك باعتبار بعض معانيه في بعض بخلاف الحقيقة للزوم الوضع الخاصّ فيها ومع الشّكّ فالأصل عدمه واعترض عليه أيضا بمعارضته بأصالة عدم اعتبار المتكلم المناسبة المعتبرة في المجاز وعدم ملاحظة للقرينة الصّارفة والمعيّنة وفيه أن أصالة عدم الوضع وارد على ذلك إذ الشّكّ في اعتبار المناسبات والقرائن مسبّب عن الشّكّ في أنه موضوع له أو لا وبعد إجراء أصالة عدم الاشتراك يثبت عدم الوضع ويترتّب عليه لوازمه من اعتبار المناسبة وغير ذلك لا يقال إنّه حينئذ أصل مثبت لأن اعتبار المناسبة ليس من الأحكام الشّرعيّة للمجازيّة لأنا نقول الأصل المثبت عبارة عما إذا أريد إثبات صحّة

 

الغسل مثلا بأصالة عدم المانع من وصول الماء فإنّه ليس من لوازم ذلك بل هو من لوازم وصول الماء وهو لازم عادي لعدم المانع في خصوص المقام وهو فرض حصول الارتماس في الماء مثلا وإلاّ فيمكن عدم وجود المانع وعدم وصول الماء كتارك عن الغسل مع عدم مانع في بدنه بخلاف ما نحن فيه لأنّ لزوم اعتبار المناسبة والقرينة حين الاستعمال من لوازم عدم الوضع وليس منفكّا عنه نعم لو أريد تفريع وحدة المعنى الحقيقي وكونه مرادا في مقام الإطلاق ونحو ذلك وعليه لم يمكن لكونه أصلا مثبتا لا حجيّة فيه إلاّ من باب الظّن دون التّعبّد وهو عين ما ذكرنا فتأمّل واستدلّ ابن جنّي بأنّ أغلب لغة العرب مجازات وفيه أنّ ذلك لأنّ أغلب الألفاظ متعدد المعنى وأغلب تلك المعاني مجازات وهو لا يثبت ما ادعاه من المجازيّة في صورة وحدة المعنى ومجازيّة الجميع في صورة التّعدّد وإنما يثبت ذلك إذا كان أغلب الألفاظ مجازا في جميع المعاني وهو نادر جدا مع أنّ ما ذكره على فرض تسليمه معارض بغلبة الاستعمال في المعنى الحقيقي حتى قيل إنّ نفس غلبة الاستعمال في المعنى علامة الحقيقة واستدل السّيّد بوجهين أحدهما أنّ سجيّة العرف وأهل اللّسان الحكم بالحقيقيّة بمحض الاستعمال كما نقل عن الأصمعي حيث قال ما كنت أعرف الدّهاق حتى سمعت أعرابيا يقول اسقني دهاقا وكذا ما نقل عن بعضهم حيث فهم معنى الفاطر بقول الأعرابي هذا بئر فطرها أبي ولا زال ذلك سجيّتهم وطريقتهم في تمييز معنى اللّفظ كما يعرفه من تتبّع في العرف والثّاني أنّ قولنا الأصل في الاستعمال الحقيقة متّفق عليه عند الشّكّ في المراد مع تميز الحقيقة والمجاز وليس ذلك إلاّ ظهور الاستعمال في المعنى الحقيقي لغلبة الاستعمال فيه وإذا كانت الغلبة موجبا للحكم بأنّ المراد المعنى الحقيقي فلا يتفاوت الأمر بين أن نعلم المعنى الحقيقي ونشكّ في إرادته أو نعلم المراد ونشكّ في كونه حقيقة وأجيب عن الأول بأنّ ذلك إنما هو فيما كان المعنى واحدا إمّا بالقطع أو بالظّنّ بضميمة أصالة عدم التّعدّد فيصير متّحد المعنى والحكم بالحقيقيّة فيه مسلم ولا يثبت ذلك في متعدّد المعنى وفيه أنّ الأصل المذكور لا يجري هنا لما عرفت أنّ حجيّة الأصل في اللّغات إنّما هو لإفادة الظّنّ والظّنّ هنا على خلافه لغلبة التّعدّد ولو فرض حجيته تعبدا فإنّما هو بعد الفحص مع أنّ حكم العرف بالحقيقيّة إنّما هو بمحض الاستعمال بدون التّفحّص عن المعنى هل هو متحد أو لا والحق في الجواب عدم تسليمه كليّة بل إنما يسلم فيما إذا كان الاستعمال مقرونا بلوازم الوضع كعدم القرينة أو كونه غالبا ونحو ذلك لا مطلقا كما هو مراد السّيّد والجواب عن الثّاني بالفرق الظّاهر بين المقامين إذ المعنى الغالب في الأول معلوم والشّكّ في أنّ المعنى

 

المراد هل هو أو غيره فالظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب بخلاف المقام الثّاني للعلم بغلبة المعنى الحقيقي المردد بين المعاني المستعمل فيها اللّفظ والشّكّ إنما هو في ثبوت وصف الغلبة للمعنى المراد أي وصف الحقيقيّة فترديد إثبات محل الغلبة بنفس الغلبة وهو باطل إذ كما يحتمل أن يكون هذا المستعمل فيه هو الغالب يحتمل أن يكون المستعمل فيه الآخر هو الغالب ولو قيل يحكم بأنّ كليهما حقيقة بالغلبة قلنا أولا يلزم الاشتراك المرجوح وثانيا أنّ المفروض أنّ الغالب شيء واحد سواء كان جميع المعاني حقيقة في الواقع أو لا لأن الغالب في الحقائق أيضا معنى واحد ونظير ما ذكرنا أنّا إذا علمنا أنّ الغالب في الإنسان لون البياض وشككنا في فرد منه ألحقناه بالغالب وإذا علمنا أنّ الغالب عليه هو لون ما مرددا بين البياض والسّواد فإذا رأينا فردا أبيض لم يمكن لنا القول بأنّ الغالب هو البياض إلحاقا للفرد بالغالب إذ كما يحتمل إلحاق الأبيض بالغالب فيحكم بغلبة البياض كذا يحتمل أن يكون الفرد الأسود ملحقا بالغالب فيحكم بغلبة السّواد فافهم

مسائل الأولى

يثبت اتحاد المعنى بالعلم أو بالظّنّ أما اعتبار الأول فظاهر وأما الثّاني فلما عرفت من أنّ مدار اللّغات على الظّنون إلاّ أنّه معارض بغلبة التّعدّد والمعتبر أقوى الظّنّين والظّاهر أنّ بعد الفحص وعدم وجدان معنى آخر يحصل الظّنّ بطرف الاتحاد لأنّ الغالب أنّه لو كان له معنى آخر لعثر المتفحّص عليه وربما قيل بجريان أصالة عدم التّعدّد وفيه ما عرفت من أنّ مرجعه إلى الظّنّ نعم لو قيل بحجيّته تعبدا فلا بد من الفحص وبعده وعدم وجدان معنى آخر يحصل الظّنّ بعدمه غالبا فيكون كالسّابق وإن لم يحصل الظّنّ به ولا بالتعدد حكم بالاتحاد على هذا القول بخلاف ما اخترناه فيجب التّوقف حينئذ بناء عليه وإن حصل الظّنّ بالتعدّد بسبب غلبته فعلى جعل الأصل حجة من باب الظّن يعتبر أقوى الظّنّين وعلى التّعبّد لا عبرة به في مقابلة الغلبة لأنّه حينئذ دليل حيث لا دليل الثّانية إذا لم يكن بين المعاني المتعددة مناسبة حكم بالاشتراك اللّفظي إلاّ بحقيقيّة واحد ومجازيّة البواقي لعدم إمكان مجازيّة البواقي بالنسبة إلى ذلك المعنى الحقيقي لعدم المناسبة ولا بالنسبة إلى معنى آخر محتمل الوضع لأنّه مع أنّ الأصل عدمه يستلزم الاشتراك للحكم بأنّ أحد تلك المعاني حقيقة كما عرفت فإن كان المعنى المحتمل أيضا موضوعا له حتى يكون سائر المعاني مجازا بالنّسبة إليه لزم الاشتراك مضافا إلى ندرة ذلك وهو استعمال اللّفظ في مناسب الموضوع له وعدم استعماله فيه فالأولى القول بالاشتراك اللّفظي بين تلك المعاني للزوم الاشتراك لو قلنا بمجازيّة البواقي أيضا مع ما عرفت من ندرة ذلك الثّالثة إذا كان بين المعاني قدر مشترك قيل يحكم بالاشتراك المعنوي حذرا من المجاز والاشتراك اللّفظي واعترض عليه بأنّه لازم في الاشتراك المعنوي أيضا

 

بالنّسبة إلى الخصوصيّتين وأجيب بأنّه يمكن استعماله فيهما بطريق الحقيقة بإرادة الخصوصيّة من الخارج فليس فيه التزام بالمجازيّة بخلاف ما إذا قلنا بحقيقيّة واحد ومجازيّة الآخر إذ لا يمكن حينئذ استعماله في الآخر بطريق الحقيقيّة وفيه أنّ ذلك إثبات اللّغة بالترجيح الغير المعتبر إذ لا نعلم أنّ عدم التزام المجاز معتبر في التّرجيح عند الواضع والحق أنّ المتصوّر في المقام صور ستة الأول أن يكون الاستعمال في الكلي والخصوصيّتين معلوما والثّاني أن يكون الاستعمال في الكلي معلوما وفي الخصوصيّة مشكوكا والثّالث بالعكس والرّابع أن يكون الاستعمال في الكلي معلوما وفي الخصوصيّة معلوم العدم والخامس بالعكس والسّادس أن يكون الاستعمال فيهما مشكوكا بأنّ نعلم استعماله في الفرد ولا نعلم أنّ الخصوصيّة أيضا مراد من اللّفظ أو مفهوم بالقرينة والمراد هو الضّابط في الجميع أنّ المدار على الظّن الحاصل بالغلبة وقد يجري عليه أصالة عدم الاشتراك أيضا فإن وافق الغلبة فهو وإلاّ فإن أفاد الظّنّ فالمعتبر أقواهما وإلاّ فلا يعارض الغلبة مطلقا سواء كان حجيّة من باب الظّن أو التّعبّد وإن لم يحصل الظّنّ من شيء وجب التّوقّف إلاّ أن نقول بحجّيّة الأصل تعبد فيجري حينئذ وأمّا التّفصيل في الأقسام فنقول فيه (أما القسم الأول) فيحكم فيه بالاشتراك المعنوي إلاّ إذا كان الاستعمال في الخصوصتين غالبا فيحكم بالحقيقيّة والمجاز إن كان بينهما مناسبة وإلاّ فبالاشتراك اللّفظي أمّا الحكم بالاشتراك المعنوي في الأول فلأن الغالب في العرف أنّ اللّفظ المستعمل في الكلي والفرد موضوع للكلي دون الفرد مضافا إلى أصالة عدم الاشتراك وأما الحكم بعدمه في الثّاني فلأنّ غلبة الاستعمال علامة الحقيقة ثم الحكم بالحقيقيّة والمجازيّة في صورة وجود المناسبة ظاهر رأسا الحكم بالاشتراك اللّفظي في صورة عدم وجودها فلأنّ الاشتراك اللّفظي وإن كان نادرا إلاّ أنّه في خصوص المقام يقدم على الاشتراك المعنوي لما ذكرنا من أنّ غلبة الاستعمال أمارة الحقيقة وبهذه الغلبة يترجّح الاشتراك اللّفظي ويضعف الظّنّ الحاصل من أصالة عدم الجاري في هذه الصّورة (وأما القسم الثّاني) فيحكم فيه بالاشتراك المعنوي للغلبة المذكورة مضافا إلى لزوم المجاز بلا حقيقة لو قيل بالوضع للخصوصيّة إذا الكلي الذي علم استعماله فيه مجاز حينئذ والخصوصيّة التي يشكّ في استعماله فيها المنفي بأصالة العدم موضوع له فيلزم تحقق المجاز بلا حقيقة لا يقال إنّ كليهما حقيقة لندرة الاشتراك فإن قلت إنّ أصالة عدم تعدّد الاستعمال لا يجري في المقام إذا الغالب التّعدّد كما مر فلا يفيد الظّن وقد قلت إنّ حجّيّة الظّنّ وقد قلت إنّ حجيّة الأصل في اللّغات إنما هي لإفادة الظّنّ فلا يلزم المجاز بلا حقيقة لجواز ثبوت الاستعمال في الخصوصيّة

 

وإن لم يوجد قلت تعدّد استعمال الكلي يتصوّر بوجهين أحدهما أن يستعمل في الماهيّة مرة وفي الخصوصيّة أخرى بأن يراد الخصوصيّة من اللّفظ والثّاني أن يستعمل في الماهيّة مرة ويطلق على الفرد أخرى وما ذكرنا سابقا من غلبة التّعدّد المراد به مطلق الاستعمال الشّامل لإطلاق الكلي على الفرد وما ذكرنا هنا من أصالة عدم التّعدّد المراد به الاستعمال بالوجه الأول والتّعدّد بالوجه الثّاني موجود في الكلي فلا يضر عدم التّعدّد بالوجه الأول بما ذكرنا من غلبة التّعدّد لثبوتها في الكلي بالوجه الثّاني فافهم ومما ذكرنا علم حكم القسم الرّابع أيضا (وأما القسم الثّالث) فيحكم فيه بعدم الاشتراك المعنوي حذرا من المجاز بلا حقيقة للزوم كونه مجازا في الخصوصيّة وموضوعا للكلي مع عدم استعماله فيه بحكم الأصل وحينئذ فإن كان بين الخصوصيّتين مناسبة حكم بأنّ أحدهما حقيقة والأخرى مجاز وإلاّ فبالاشتراك اللّفظي ومنه يعلم حكم القسم الخامس أيضا وأما القسم السّادس فحكمه التّوقّف لعدم تحقق غلبة في المقام مع ندرة هذا القسم في نفسه

تذييل

ربما يتوهّم التّناقض بين قولهم الأصل في الاستعمال الحقيقة وقولهم الاستعمال أعم من الحقيقة وجمع بينهما بعض الأفاضل بحمل الأوّل على مقام الشّكّ في المراد بعد تميز الحقيقة والمجاز وعلى بعض أقسام الشّكّ في الحقيقة والمجاز بعد تميز المراد وهو الأقسام التي حكم بالحقيقة فيها أعني المتحد المعنى والمتعدد مع عدم المناسبة حيث حكم فيه بالاشتراك اللّفظي والمتعدّد مع وجود جامع بينهما حيث حكم بالاشتراك المعنوي وحمل الثّاني على غير ما ذكر وبعض المحقّقين جمعهما بحمل الأوّل على مقام الشّكّ في المراد والشّكّ في الحقيقة في بعض أقسامه وهو خصوص متحد المعنى سواء قيل فيه بالوضع للمعنى الخاص أو للقدر المشترك وحمل الثّاني على غيرهما والأولى أن يقال باختصاص الأول بالشّكّ في المراد والثّاني بالشّكّ في الوضع ولو في متحد المعنى حكم فيه بالحقيقيّة أو بالاشتراك المعنوي أو لا إذ المراد أنّ الاستعمال من حيث هو لا يدلّ على شيء وإثبات الحقيقيّة في الموارد المذكورة ليس بالاستعمال بل بالأمور الخارجيّة على ما عرفت مفصلا والغالب في استعمال هذه القاعدة هو في مقام الشّكّ في الوضع للقدر المشترك بطريق الاشتراك المعنوي فيقولون الاستعمال أعم يريدون منه أنّه إذا قطع النّظر عن غير الاستعمال فلا يدلّ الاستعمال على شيء فتأمّل واستبصر

ومنها

اختلاف الجمع والمراد به اختلاف جمع اللّفظ بالنسبة إلى المعنيين مع القطع بحقيقية أحدهما إجمالا والشّكّ في الآخر فهو دليل على مجازيته في الآخر كالأمر يستعمل في القول وجمعه أوامر وهو حقيقة فيه قطعا إما بالوضع له بخصوصه أو للقدر المشترك الذي هو فرده وفي الفعل وجمعه أمور وهو مشكوك الوضع والاختلاف

 

المذكور دليل على مجازيته فيه وينفي الاشتراك المعنوي واللّفظي معا أو هو ينفي الاشتراك المعنوي وبضميمة أصالة عدم الاشتراك اللّفظي يثبت أنّ المجازيّة على الاختلاف في تقريره ويمكن الاستدلال للطّريق الأول بوجهين أحدهما أنّ الاختلاف المذكور موجود في المجاز غالبا والظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب أو غير موجود في الحقيقة فيدل على عدم كونه حقيقة وفيه أنّا لم نجد الاختلاف بالنّسبة إلى المعنى المجازي أصلا فكيف بأن يكون غالبا فإنّ المجاز في الجمع تابع للمفرد فكما يقال أسد للرجل الشّجاع والحيوان المفترس فكذا يقال أسود وأسد لهما بخلاف المشترك لوجود الاختلاف به كعود فإنّه يجمع على أعواد بالنسبة إلى أحد معانيه وهو الخشب وعلى عيدان لمعناه الآخر وهو آلة اللهو وكذا العين بالعيون والأعيان بالنّسبة إلى الباصرة والذّات وغير ذلك بل لا يبعد أن يقال إنّ الغالب في الاختلاف الوجود في المشترك اللّفظي فبوجوده يحصل الظّنّ بالاشتراك ويعارض أصالة عدمه التي تمسّك بها في الطّريق الثّاني لأنّ حجيّتها في اللّغات لإفادتها الظّنّ وهو غير حاصل في المقام الغلبة الاشتراك في مثله كما أشرنا إليه مضافا إلى حكمة الوضع لإغنائه عن القرينة المعيّنة في المشترك نعم يمكن به نفي الاشتراك المعنوي لأنّ الجمع للقدر المشترك يصح إطلاقه على ما يطلق عليه مفرده فلا معنى للاختلاف فيه والثّاني أن اختلاف الجمع دليل على اختلاف حال اللّفظ بالنسبة إلى المعنيين وليس ذلك في المشترك المعنوي واللّفظي وفيه أنّه إن أراد منه اختلاف حال اللّفظ بالنسبة إليهما وصفا بأن يكون موضوعا لأحدهما دون الآخر فكون اختلاف الجمع دليلا على هذا أول الكلام وإن أراد منه اختلاف حاله بالنسبة إليهما مطلقا فهو غير مسلّم مطلقا أوّلا لوجود طلب وطلاب وطلبة جمعا لطالب وموجود في المشترك ثانيا لأنّ كلاّ من المعنيين فيه موضوع بوضع مستقل وقولنا في العنوان مع القطع بحقيقيّة أحدهما إنما هو لتبعيّة القوم وإلاّ فمقتضى ما ذكروه الحكم بحقيقيّة أحد المعنيين المختلفي الجمع ومجازيّة الآخر لا على التّعيين في صورة عدم القطع بحقيقيّة المعين أيضا

ومنها

امتناع الاشتقاق من اللّفظ المستعمل في المعنى لمن قام به ذلك المعنى كالأمر فإنّه يستعمل في الفعل ولا يشتق منه بالنسبة إلى من قام به الفعل فلا يقال أمر أي فعل ولا أمر أي فاعل وهو دليل مجازيته فيه على ما قيل ولا بد في إتمامه من القول بعدم وجود الامتناع المذكور في الحقيقة أصلا أو وجوده في المجاز غالبا وهما ممنوعان أما الأوّل كأسماء العلوم والملكات فلا يشتق من مادة النّحو شيء لمن قام به ولا من الصّرف وأما الثّاني فالاستعارة التّبعيّة المشهورة في الأفعال بالنسبة إلى مصادر ما المذكورة في علم البيان يغنينا عن البيان ونطقت الحال ناطق بذلك بألف لسان حيث

 

اشتق من النّطق المستعار للدّلالة نطق لمن قام به وغير ذلك ثم لا معنى أصلا لكون الامتناع المذكور دليلا على المجازيّة إذ المراد به إمّا امتناع الاشتقاق فعلا فلا دلالة فيه مع جواز الاشتقاق شأنا وقابليّة وإن أراد به أنّه ليس قابلا للاشتقاق لمنع أهل اللّغة عنه فعدمه لا يضر بالحقيقيّة لتوقيفيّة اللّغات فيجوز وضع اللّفظ للمعنى وعدم الإذن في الاشتقاق منه

ومنها أصالة العدم

ويثبت بها الوضع سابقا ولاحقا فالأول كما إذا ثبت الوضع للمعنى عرفا ونشكّ في وضعه له لغة فنثبته بأصالة عدم النّقل والثّاني كعكسه وينفى به الوضع أيضا فيما ذكر بالنسبة إلى معنى آخر واختلف في أنها استصحاب أو لا بل قاعدة برأسها مستفادة من الغلبة وعمل العقلاء وعلى أي حال فلا كلام في حجيّتها أو لا لانسد باب العمل بظواهر الكتاب والسّنة ونحوهما مما لا يثبت فيه معنى اللّفظ إلا بأصالة عدم النّقل ويترتب على القولين وجوب إخراج الاستصحاب العدمي من محل النّزاع في حجيّة الاستصحاب لو جعلت الأصل المذكور استصحابا للإجماع على حجيّتها وعدم إخراجه عنه لو لم يجعل استصحابا وأورد على جعلها استصحابا أنه حينئذ لا يمكن إثبات الوضع سابقا بها لأنّها حينئذ هي الاستصحاب القهقرى لإثباته الشّيء الثّابت لاحقا في السّابق ولا دليل على حجيّة هذا القسم من الاستصحاب وفيه أنه حينئذ تثبت عدم النّقل المعلوم سابقا في الزّمان اللاحق ولازمه اتحاد المعنى السّابق واللاحق فهو الاستصحاب المعروف لا القهقرى وأورد بأنه حينئذ أصل مثبت لأن الاتحاد لازم لعدم النّقل في خصوص المقام وفيه أنّه لما كان المدار في اللّغات على الظّنّ فالأصل المثبت فيها حجة الاستلزام الظّنّ بالملزوم الظّنّ باللازم ويظهر الثّمرة بين القولين في لزوم ملاحظة الحالة السّابقة وإبقائها لو كانت من باب الاستصحاب وعدم لزوم ذلك لو كانت قاعدة برأسها لكن لما عرفت أن حجّيّة الاستصحاب في اللّغات أيضا من باب الظّن المطلق لا تعبدا فمستنده أيضا الغلبة والظّهور فلا ثمرة بينهما إلاّ بالاعتبار وهل يثبت بها ماهيّة الموضوع له لو شكّ في جزئيّة شيء لها أو لا الحق عدمه لكون أصالة عدم الوضع للزائد معارضا بأصالة عدم الوضع للناقص وليس هناك قدر متيقّن في الوضع فإن الزّائد إما يكون معتبرا في الوضع فالناقص ليس موضوعا له وإلاّ فلا يكون الزّائد بموضوع له فالأمر دائر بين الوضع للأقل بشرط شيء وبشرط لا والمراد من قولنا بشرط لا عدم اعتبار شيء آخر في الوضع ولازمه خروجه عن الموضوع له وإن كان حاصلا مع الموضوع له في الوجود في الأمر الدّائر بين الأخذ بشرط شيء وبشرط لا ليس في البين قدر متيقن يؤخذ به وينفى الزّائد بالأصل ولا يمكن الوضع للأقلّ لا بشرط لأنّ اللاّبشرطيّة إما يلاحظ بالنسبة إلى الوجود بمعنى جواز انضمام شيء آخر إليه في الوجود فهو لا ينافي ما قلنا من كون الزّائد حينئذ خارجا

 

عن الموضوع له وإمّا يلاحظ بالنسبة الاعتبار وفيما وضع له فهو باطل لأنّ الزائد إمّا يعتبر مع الأقل فالأقل حينئذ جزء الموضوع له أو لا يعتبر فهو تمام الموضوع له والزائد خارج ولا نعني من قولنا بشرط لا إلاّ هذا وليس بين النفي والإثبات شق ثالث وبالجملة الأمر في الموضوع له دائر بين متباينين ولا قدر متيقن في البين نعم يمكن ذلك فيما إذا كان اللّفظ المشكوك موردا للتكليف فيمكن حينئذ نفي التكليف بالزائد بأصالة البراءة لأنّ الأقل قدر متيقّن اشتغال الذّمة به والزائد مشكوك لكن فيه إشكال أيضا ولكن لا يمكن ذلك في اللّغات لما عرفت فإن قلت إنا نراهم يتمسكون بذلك في تعيين المنهيّة في بعض الموارد كالأمر يقولون إنّه موضوع لطلب الماهيّة لأصالة عدم التقييد بالمرة والتكرار وكالجمع المحلى باللام يقولون أنه موضوع لاستغراق الجماعات لا الأفراد لأصالة العدم وكذا يستدلّون في وضع المشترك للمعنى في حال الوحدة دون غيره بأنه القدر المتيقّن والأصل عدم وضعه في غير حال الوحدة لأنّه مشكوك وكذا إذا استعمل في النفي لثبوته في الإثبات ويشك في وضعه حينئذ لمعنى آخر غير ما يفيده الإثبات والأصل عدمه فكيف يجتمع ذلك مع ما حققه من عدم إمكان ذلك قلت أما التمسّك به في وضع المشترك للمعنى في حال الوحدة دون غيره فباطل إذ لا قدر متيقّن في البين لدوران الأمر بين أن يكون الموضوع له هو المعنى بدون اعتبار قيد الوحدة وأن يكون هو مع الوحدة وعلى الثاني يكون المعنى غير موضوع له بل هو جزؤه بخلاف الأوّل وحينئذ فليس المعنى يقيني الوضع حال الوحدة حتى يقال إنّه القدر المتيقّن وينفى في غيره بالأصل نعم وجود الموضوع له حال الوحدة معلوم لكن لا يعلم معيّنا وليس هناك قدر متيقّن فلا يمكن إجراء الأصل وأما التمسّك به في المشترك المنفي والجمع المحلى فلا ينافي في ما ذكرنا إذ يرجع الشّكّ فيهما إلى الشّكّ في حدوث وضع جديد فإن معنى النفي معلوم ومعنى المشترك معلوم وهو المعنى الواحد ومقتضاه دلالة المركب على نفي أفراد المعنى الواحد وإنما الشّكّ في أن المجموع منهما هل وضع بوضع آخر لنفي جميع المعاني أو لا فالأصل عدمه وكذا الجمع المحلى فإن معنى اللاّم هو الاستغراق ومعنى الجمع هو الجماعة ومقتضاه استغراق الجماعات لا الأفراد وإنما الشّكّ في حدوث وضع جديد للمجموع المركب فالأصل عدمه وهذا ليس من تعيين الماهيّة بالأصل في شيء وأما التّمسّك به في مبحث الأمر فيمكن تصحيحه بما ذكرنا بناء على القول بأنّ في المشتقّات وضعين وضع الهيئة ووضع للمادة وأن المصدر أيضا كسائر المشتقات وإنما المبدأ الموضوع هو مادة المصدر لا هي مع هيئته لوجوب سراية بلفظه ومعناه في المشتقات ولفظ المصدر ليس ساريا في المشتقات لاعتبار الهيئة الخاصة في لفظه وهي مفقودة في المشتقات فمادة ض ر ب بالترتيب الخاص موضوعة للمعنى الخاصّ وهو الجنس والماهيّة وهيئة الأمر وضعت للطلب ومقتضى ذلك إفادتها طلب الماهيّة

 

ويشكّ حينئذ في حدوث وضع آخر للمجموع المركب للمرة أو التكرار فالأصل عدمه وفيه أيضا إشكال لعدم تسليم وضع الهيئة للطلب مطلقا لم لا يجوز أن تكون موضوعة للطلب مع تقييد المطلوب بالمرة أو التكرار مثلا فيرجع الشّكّ إلى ماهيته الموضوع له وقد عرفت عدم إجراء الأصل فيها وأما على القول بأن المبدأ هو المصدر وهو موضوع بوضع واحد لا اثنين باعتبار مادّته وهيئته بل المادّة ليست موضوعة أصلا وأنّ معنى الاشتقاق تبديل صورة المصدر مع بقاء مادّته إلى صورة أخرى ليفيد ذلك المعنى مع زيادة فليس في المشتقات إلاّ وضع واحد للمجموع لما عرفت من عدم كون المادة موضوعة بوضع آخر وحينئذ فيشك في أن الموضوع له للمجموع في الأمر هل هو طلب المادة مطلقا أو طلبها مرة أو مكرّرة فيرجع الشّكّ إلى تعيين الموضوع له لا إلى حدوث وضع جديد فتأمل

فرع

إذا علم تحقق النّقل ولم يعلم المنقول إليه بخصوصه بل كان مردّدا بين شيئين لم يجر أصالة عدم النقل بالنسبة إلى أحدهما إذ يلزم الترجيح بلا مرجّح بل يجب التّوقّف والرّجوع في العمل إلى الأصول العمليّة إلاّ أن يحصل الظن بأحدهما فالمدار عليه فليس له ضابط ينضبط وذكر بعضهم في المقام تفصيلا وهو أن الأمرين المردد بينهما ما يكون أحدهما أقرب إلى المنقول عنه ذاتا أو لا وعلى الثاني يجب التّوقّف وعلى الأوّل إما يكون النقل تعيينيّا وعلى الأول يجب التّوقّف وعلى الثاني يحكم بأنّ الأقرب هو المنقول إليه كالدّابة كانت موضوعة من يدب على الأرض وقد نقلت إمّا إلى مطلق ذات القوائم الأربع أو خصوص الفرس فيحكم بأن الأوّل هو المنقول إليه لأنه أقرب إلى المنقول عنه ذاتا لأنّ النّوع أقرب إلى الجنس من الشّخص وذلك لأنّ النّقل التعيّني مسبوق بغلبة الاستعمال المجازي وقد ذكروا أنّ أقرب المجازات معتبر عرفا في حمل اللّفظ عليه وفيه أنّ المراد بتقديم أقرب المجازات الأقرب عرفا وهو المعنى المجازي الذي شاع استعمال اللّفظ فيه لا الأقرب إلى الحقيقة ذاتا وشيوع الاستعمال فيما نحن فيه غير معلوم وإلاّ لم يبق شكّ في النقل نعم لو علم نقله إلى أحدهما بخصوصه حكم بأنّه كان أقرب المجازات قبل النّقل لكشف النقل عن غلبته الاستعمال كما ذكروا أنّه إذا ثبت الحقيقة المتشرعة في الأعمّ مثلا أو الصّحيح وجب حمل كلام الشّارع عليه إذا قام قرينة على عدم إرادة المعنى اللغوي لكشف النقل عن كونه غالب الاستعمال في زمان الشّارع وبغلبة الاستعمال يكون أقرب المجازات وأمّا الأقرب ذاتا فلا دليل على اعتباره مضافا إلى أنّه لو كان المراد بقولهم أقرب المجازات معتبر عند الشّكّ الأقرب ذاتا وجب أن لا يكون خلاف في أنّ الصّلاة مثلا موضوعة للأعمّ لأنّه أقرب إلى المعنى اللغوي وهو الدعاء ذاتا من الصحيح إذ لا خلاف في تقديم أقرب المجازات مع أنّ الأكثر ذهبوا إلى الصحّة وبالجملة الأقربيّة الذاتيّة من التخريجات العقليّة لا يصحّ الاستناد إليها في باب اللّغات نعم لو كانت الأقربيّة

 

الذّاتيّة كاشفا عن كونه شائع الاستعمال صح ذلك لكنه غير مسلم لأنّ شيوع الاستعمال في المجاز مستند إلى الاحتياج وهو غير منحصر في الأقرب ذاتا كما لا يخفى وقيل لو دار الأمر في نقل الكلّي بين النقل إلى فرد والنقل إلى مباين قدم الأول لغلبة نقل الكلّي إلى الفرد دون المباين وفيه إشكال لشيوع النقل إلى المباين أيضا كالصلاة والحجّ والصوم وغيرهما فإن المعنى اللغوي ليس ملاحظا في المذكورات حتّى يقال إنّ الصّلاة نقلت إلى الدعاء الخاصّ وكذا في غيرها نعم لو ثبت الغلبة المذكورة صح ذلك إذ المدار على الظّنّ

ومنها توقف استعمال اللّفظ في المعنى على استعماله في غيره في كلام واحد

وهو دليل مجازيته فيه ومثل لذلك بقوله تعالى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ فإنّ استعمال المكر فيما يصحّ استناده إليه تعالى متوقّف على إسناده إلى العبد أو لا ونوقش في ذلك بأنّه قد نسب إليه تعالى في آية أخرى مع عدم نسبته فيها إلى العبد كقوله تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ وبأن المجاز لا يتوقّف إلاّ على العلامة والمناسبة دون شيء آخر وفيه نظر أمّا الأول فلأنّه مناقشة في المثال ولا يجري في نحو قوله قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا إلي جبة وقميصا فإن استعمال الطبخ في الخياطة يتوقّف على استعماله في الموضوع له أوّلا وأمّا الثّاني فلجواز أن يكون محض المجاورة والمصاحبة اللّفظيّة موجبا لحصول المناسبة كما نشاهد ذلك في الطبخ فإنّه ليس مناسبا مع الخياطة بوجه ومع ذلك نرى له في الشعر المذكور حسنا وسلاسة يقبلها الذّوق ويميل إليها الطبع والأمر في المجازات دائر مدار قبول الذّوق فيعلم أنّ محض المجاورة سبب لحصول المناسبة لكن هذه العلامة يرجع إلى عدم الاطراد نظير قولنا أعتق رقبة حيث يصحّ ذلك ولا يصحّ جاءت الرقبة ونحوه

ومنها التزام التّقييد

وهو علامة المجاز وعدمه علامة الحقيقة لظهور الالتزام في أنّ اللّفظ لا يفيده بنفسه كقولهم نار الحرب جناح الذّل فإنّه لا يستعمل النّار في اشتداد الحرب إلاّ مقيدا بالحرب وكذا الجناح ونوقش فيه بوجهين أحدهما بوجود التقييد في بعض الحقائق كماء البحر والبئر ونحوهما والثاني بالتزامه في الأسماء اللازمة الإضافة مثل ذي بمعنى صاحب وفيهما نظر أمّا الأوّل فبعدم وجود الالتزام فيه وأمّا الثاني فلأنّ محلّ الكلام ما نقطع فيه بعدم احتياج أصل المعنى إلى التّقييد كالنّار والجناح فيخرج ذو وأمثاله لتوقف إفادة

المعنى فيها على التّقييد وليس الكلام فيه وبعد ما عرفت من كفاية الظّنّ في اللّغات فالأمر واضح

ومنها تقييده بقيدين مختلفين

فهو دليل وضعه للقدر المشترك كالأمر يقيد بالمرة والتكرار حذرا من لزوم التناقض إذ لو كان موضوعا لأحدهما دون الآخر كان تقييده به تأكيدا وبالآخر تناقضا وفيه نظر لعدم لزوم التناقض للمراد وعدم ضرر التناقض مع الموضوع له وإلاّ لانسدّ باب المجازات وعدم بأس في صيرورة تأكيدا

 

والأولى تقريره بأنّا نرى أنه يقيد بقيدين ولا يلزم التأكيد والتناقض عرفا بل يفيد التأسيس عرفا ولو كان مجازا في أحدهما لزم التّناقض ابتداء وإن زال بعد الالتفات إلى المعنى المجازي مع أنّا نرى عدم لزومه عرفا إلاّ أنّه يرجع إلى المنافرة وعدمها والأوّل علامة المجاز كما نشاهد من منافرة أسد مع يرمي ابتداء والثاني علامة الحقيقة ومرجعهما إلى التّبادر وعدمه ويمكن تصحيح التقرير الأول بأن يقال إنّ المراد أنّه لو قيل بمجازيّة أحدهما لزم التأكيد في أحدهما وهو الموضوع له والتأسيس في الآخر ولو قيل بالوضع للقدر المشترك كان في كل منهما تأسيسا والتأسيس أولى من التأكيد لغلبته عرفا لكن يحتاج حينئذ إلى إثبات غلبة التأسيس والمدار على الظّنّ

ومنها حسن الاستفهام

استدلّ به السّيّد على اشتراك الأمر بين الفور والتراخي بتقريب أنّ الاستفهام ملازم مع الاحتمال الملازم وللإجمال الحاصل في المشترك وفيه أنه لو أريد من الاحتمال خصوص الاحتمال الحاصل في المشترك منعنا ملازمته مع الاستفهام مع الاحتمال الضعيف الحاصل بالنسبة إلى إرادة المعنى المجازي وإن أراد منه الأعم لم يتم ما ادعاه فافهم

خاتمة

تتضمّن بعض القواعد المحتاج إليها في الباب

أحدها كل لفظ لم يثبت للشّارع فيه اصطلاح خاص إذا وقع في كلامه رجع فيه إلى ما يرجع إليه في كلام غيره كالألفاظ اللّغويّة فإذا أجمع الأصحاب على مجيء اللّفظ لمعنى فهو ليس كاشفا عن رأي المعصوم إذ ليس شأنه بيانه والأصحاب ليسوا بالعين لهم في ذلك بل يتعولون فيه على اجتهادهم فلو أفاد العلم بالواقع أو الظّنّ به فهو حجة لذلك لا للكشف ويقع التّعارض بينه وبين نقل النقلة لو لم يفد العلم نعم لو ثبت كشفه عن قول المعصوم كان حجة ومقدّما على غيره إنما الكلام في كونه كاشفا ومقتضى ما ذكرنا عدم كشفه عنه كما لا يخفى

الثّاني قد عرفت أنّ الحمل إمّا ذاتي يقصد به اتحاد الموضوع والمحمول ذاتا وإمّا متعارفي يقصد به اتحادهما وجود كحمل الكلي على الفرد وإمّا ادعائي يقصد به مشاركة الموضوع للمحمول في الأحكام فاعلم أنّ الحمل بجميع المعاني موجود في كلام الشّارع فالأوّل كقوله الوضوء غسلتان ومسحتان والثّاني نحو الارتماس في الماء غسل والثالث نحو الطّواف بالبيت صلاة ويشترط في وقوع المذكورات في كلامه كون الموضوع في الأوّل والمحمول في الثاني من مخترعاته إذ ليس شأنه بيان الماهيات العرفيّة أو اللّغويّة وأن يكون للمحمول حكم معروف في الثالث حتى يلحق به الموضوع فيه كالأمثلة وحينئذ فيشكل الأمر في نحو الحيض دم أسود ونحوه فإنّه ليس من قبيل الأوّلين لعدم كون المحمول ولا الموضوع من مخترعات الشّارع ولا من الثالث إذ ليس للدم الأسود حكم معروف في الشّريعة ويمكن أن يقال إنّ المقصود به بيان الضابط والمعرّف الغالبي ليرجع إليه عند الشّكّ فيكون من قبيل الأول لكن في خصوص حال الشّكّ

 

فإنّ الموضوعات التي يتعلّق بها الأحكام الشّرعيّة يجوز للشارع بيان ضابط في تشخيصها ليرجع إليه عند الشّكّ وهو ليس بعادم النظير كما في اليد والسّوق والفراش وأوصاف المذكورة للمعنى وذلك لعدم انضباط العرف في أمثال هذه الأمور

الثالث قد عرفت أنّ العرف محكم في باب اللّغات ونقول هنا إنّ في المقام تفصيلا وذلك لأنّ الشّكّ إمّا يكون في نفس مفهوم اللّفظ ولا شكّ في حجيّة حكم العرف بأنّ المفهوم ذلك ولا يعتني باحتمال خطئهم لما ذكرنا أنّ الظّنّ في اللّغة حجة وإمّا يكون في تحقق المفهوم في الشّيء الخاصّ أعني الشّكّ في المصداق أو هذا يتصور بوجهين (أحدهما) أن يكون المفهوم معلوما وإنما عرض الشّكّ بسبب العوارض الحاصلة في المصداق كالبلل المشتبهة بالبول ولا شكّ في عدم اعتبار الحكم العرف بكونه مصداقا لذلك المفهوم وذلك ما قيل إنّ الظّنّ ليس بحجة في الموضوعات الصرفة ولذلك لعدم تعلّق ذلك باللّغات ولا بمفهوم اللّفظ ولا دليل على حجيّة الظنّ المطلق هنا بل يجب تحصيل العلم أو الرجوع إلى الأسباب الخاصّة كالبيّنة ونحوها حتى أنه لو قال المتكلّم أكرم العلماء ثم قال زيد عالم لم يجب على المخاطب إكرامه إذا علم جهله لأنّ الرّجوع إلى المتكلم إنّما هو فيما يكون كلامه بصدد الكشف عنه وليس كلامه ذلك مسوقا لبيان مصاديق العلماء حتى يرجع إليه في تعيينه بل تمييز ذلك شأن المخاطب والمتكلّم أيضا لو اعتبر بقوله فإنّما هو من باب البينة (الثاني) أن يكون الشّكّ في المصداق بواسطة عدم تشخيص المعنى فبحكم العرف بوجود المفهوم في ذلك المصداق يعلم أنّ المعنى شيء يشمله وبهذا الاعتبار يدخل في القسم الأول وأيضا يعلم تحققه في ضمن ذلك المصداق وبهذا الاعتبار يدخل في القسم الثاني وهل حكم العرف حجة في هذا القسم محل الإشكال فقيل بعدم حجيّته وذلك لأنّ احتمال خطئهم في تشخيص المعنى أي الاعتبار الأوّل وإن كان لا يعتنى به لكن خطؤهم في تشخيص الموضوعات ليس بعيدا وهو يوجب عدم حصول الظن بقولهم وعلى فرض حصول الظّنّ أيضا لا دليل على حجيّته إذ هو باعتبار الثاني ظنّ في الموضوعات الصّرفة وإن كان بالاعتبار الأوّل ظنا في اللّغات ولا دليل على حجيّة الظنّ في اللغات إذا حصل بتوسّط الظّنّ الحاصل في الموضوعات وقيل بحجيّته لأصالة عدم الخطاء لندرته ولحمل فعل المسلم على الصحّة أقول أمّا حمل فعل المسلم على الصحة فلا دخل له بهذه المواضع وأمّا الأصل المذكور ففيه تفصيل وذلك أنه إن كان هناك احتمال السّهو والنّسيان ونحوهما للصرف فالأصل عدمه لعدم اعتبار العقلاء لهذه الاحتمالات وإن كان احتمال غفلتهم عن صفة كائنة في ذلك المصداق بحيث لو تفطنوا بوجوده لم يحكموا بدخوله تحت المفهوم فلا يجري الأصل إذ لا نسلم ندرته بل هو كثير ربما أوجب عدم حصول الظّنّ بقولهم وذلك كما لو حكموا في

 

شخص مقيم في البلد دون ستّة أشهر بأنّه غير مستوطن فيحتمل أنّهم غفلوا عن أنّ نيّة ذلك الشّخص الإقامة دائما فلذا حكموا عليه بعدم الاستيطان ولو علموا نيّته لم يحكموا عليه بذلك وهذا لا يمكن دفعه بأصالة العدم لغلبة عدم العثور على النيّات مضافا إلى أنّ الأصل عدم العلم فلا يمكن الحكم بسبب ذلك بأنّ ناوي الإقامة دائما ليس بمستوطن قبل ستّة أشهر نعم إذا فرض حصول الظن بقولهم لا يمكن نفي حجيّته بما ذكر لأنّ الظّاهر من إجماعهم على حجيّة الظّنّ في اللّغات عدم التّفاوت بين الحاصل بلا واسطة أو بواسطة فافهم

الرّابع إذا علق الحكم في الشّرع على عنوان وكان متفاهم العرف في ذلك العنوان مخالفا للواقع كأن جعلوا منه فردا ليس منه أو أخرجوا عنه فردا كان منه تعلق الحكم بما يفهمه العرف إن لم يبين الشّارع خطأهم وإلاّ لزم الإغراء بالجهل مثل أنّه علق النجاسة على عنوان الدّم وهو ليس في العرف شاملا للون المختلف عنه بعد غسله وإن كان شاملا له عقلا إذ هو من أجزائه الصغار الباقي في المحل لعدم جواز انتقال العرض من موضوع إلى موضوع وحينئذ فيجب أن يكون مراد الشّارع هو ما يفهمه العرف فلا يشمل اللون المختلف إن لم ينصب قرينة على إرادة جميع الأفراد الواقعة وينبه العرف على خطئهم هذا إن قلنا بأنّ لفظ الدّم موضوع لما يشمل اللّون وإلاّ بأن قلنا بأنّ الألفاظ اللّغويّة موضوعة لمعاني الظّاهرة عند العرف دون الخفيّة لأنّ الحكمة في الوضع أن يستعمل في مقام التّفهيم والتّفّهم وهو يحصل بالنسبة إلى الأمور الظّاهرة المحتاج إليها عند العرف دون الخفيّة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأزكياء فلا حاجة إلى ما ذكرنا لوجوب حمل اللّفظ على الموضوع له وليس إلاّ ما فهمه العرف والحاصل أنّ كلام الشّارع ينزل على مقتضى متفاهم العرف إلاّ إذا نصب قرينة على إرادة المعنى الواقعي رادعة للعرف عما فهموه مخالفا للواقع هذا إذا لم يلزم محذور آخر في الحمل على متفاهم العرف وإلاّ كأن كان متفاهمهم شيئا لا يمكن تعلق الحكم به فلا يجوز الحمل عليه وحينئذ يظهر فساد ما ذكره بعضهم عند الاستدلال لتعلّق الأمر بالطبائع من أنّه لو قيل بوجود الكلي الطبيعي فلا إشكال وإن قيل بعدم وجوده فلا بدّ من حمل اللّفظ على إرادة طلب الماهيّة أيضا لأنّها حينئذ وإن كانت غير موجودة في النظر الفلسفي لكنها موجودة عند العرف وكلمات الشّارع ينزل على مقتضى العرف والعادة وجه فساده أنّ الحمل على متفاهم العرف حينئذ مستلزم للتّكليف بالمجال أعني إيجاد الماهيّة لأنّه غير ممكن على هذا القول لكن هذا خارج عما نحن فيه إذ ليس خطأ العرف في معنى العنوان إذ لا شبهة في أنّ ظاهر الأمر طلب الماهيّة والقائلون بتعلّقه بالفرد يستدلّون بوجود القرينة الصّارفة عن الظاهر وهي عدم وجود الماهيّة وخطأ العرف حينئذ إنّما هو في نفيهم القرينة المذكورة حيث جعلوها موجودة لا في العنوان ويمكن أن يقال إنّ ظهوره

 

في طلب الماهية غير مسلم بل هو ظاهر في طلب الأفراد فخطأ العرف إنّما هو في فهم العنوان حيث فهموا منه طلب الماهية فيدخل فيما نحن فيه فهذا البعض يجعل الخطاب منزّلا عليه ونحن نقول إنه غير ممكن إذ لا معنى لطلب الماهية أصلا بل المطلوب هو إيجاد الماهيّة ومعنى ذلك إحداث وجودها ووجودها عين الفرد إذ ليس الفرد إلاّ الكليّ الموجود لما عرفت أن تشخص الكليّ إنّما هو بنفس الوجود لا بغيره فالظاهر من الأمر هو طلب الأفراد ولا معنى لطلب الماهية حتى ينزل عليه كلام الشّارع

أصل

إذا تميز المعنى الحقيقي عن المجازي وشكّ في أن المراد أيّهما هو فهل يحمل على الحقيقة أو المجاز وفيه مقامان (الأوّل) في أن المدار في الحمل على الحقيقة على أيّ شيء فنقول اختلفوا فيه على أقوال أحدها أنّه إذا تجرّد اللّفظ عن قرينة صارفة معتبرة عرفا وجب الحمل على الحقيقة تعبّدا مطلقا سواء كان إرادة الحقيقة مظنونة أو مشكوكة أو مظنونة العدم والثّاني أنّه يلاحظ الكلام بمجموعه وخصوصيته المقام فإن كان ظاهرا بنوعه في إرادة الحقيقة حمل عليها وإلاّ فلا ويظهر الثمرة بينه وبين القول الأوّل فيما إذا ارتفع الظّنّ النّوعي بسبب خصوصيات المقام مثلا أو بكونه مقرونا بما يحتمل كونه قرينة كالأمر عقيب الحظر فإن وقوعه عقيب الحظر دافع للظّنّ النّوعي بإرادة الحقيقة أي الوجوب وكالعام الأوّل في العامين المتعقبين بالاستثناء فإنّ صلاحيته الاستثناء لرجوعه إلى الجميع يرفع الظّنّ النّوعي بإرادة العموم من العام الأول كما قيل فلا يجوز حمل الأمر على الوجوب والعام على العموم في الموضعين على القول الثاني بخلافه على القول الأوّل ويجتمعان فيما إذا كان ما يحتمل أن يكون قرينة شيئا غير مقترن بالكلام كما لو قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم زيدا وكان زيد مشتركا بين العالم والجاهل فمحض احتمال إرادة العالم من زيد فيخصص العام غير رافع للظّنّ النّوعي بإرادة العموم وحينئذ فيحمل على العموم على القولين الثالث أنّ المدار على حصول الظّنّ الفعلي بإرادة الحقيقة ويظهر ذلك من الفاضل الخوانساري حيث اعترض على صاحب المعالم في حمله العام الأوّل في العامين المتعقّبين بالاستثناء على العموم بأنّه ليس المظنون إرادة العموم ولا دليل على وجوب الحمل على الحقيقة وإن لم يفد الظّنّ وكلامه كالنّصّ في إرادة الظّنّ الفعلي وإن احتمل إرادة الظّنّ النّوعي لما عرفت من ارتفاعه أيضا في المحل المفروض على قول الرّابع أنّه إذا ارتفع الظّنّ الفعلي بالأمور الخارجية الغير المعتبرة كقيام الشهرة على خلافه لا يعتنى به بل يحمل على الحقيقة تعبّدا وإلاّ بأن ارتفع بسبب اقتران الأمور الخارجية المعتبرة أو الدّاخلة مطلقا وجب التّوقّف الخامس أنّه إن كان مقترنا بما يحتمل أن يكون قرينة مطلقا لم يجز الحمل على الحقيقة لارتفاع الظّنّ النّوعي حينئذ وإلاّ بأن كان الأمر المحتمل كونه قرينة شيئا خارجا عن الكلام معتبرا كان أو لا فلا يعتنى به بل يحمل على الحقيقة لعدم ارتفاع

 

الظّنّ النّوعي وهذا القول يرجع إلى القول الثاني وتفصيله إنّما هو في موارد حصول الظّنّ النّوعي وعدمه ثم إنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا لم يكن دافع الظهور في إرادة الحقيقة ظهور آخر وإلاّ خرج عما نحن فيه ودخل في مسألة تعارض الظاهرين وسيأتي إن شاء الله بل الكلام إنّما هو فيما إذا كان الرّافع للظّهور مجملا كزيد المشترك بين الجاهل والعالم والاستثناء عقيب العمومات لعدم ظهوره في شيء ونحو ذلك وحينئذ فنقول في تحقيق الحق في المقام إنّ الحكم في المقام هو العرف والأمور الخارجية الّتي يحتمل كونها قرينة لا يعتنى بها عرفا في رفع اليد عن ظاهر اللّفظ ولو كان معتبرا بل يجعلون ظاهر اللّفظ قرينة مبيّنة لإجمال الأمر الخارجي مثلا إذا قيل أكرم العلماء ثم قال لا تكرم زيدا وكان زيد مشتركا بين العالم والجاهل يحكم بأنّ المراد منه زيد الجاهل أخذا بظاهر عموم أكرم العلماء ولا يصير احتمال كون المراد منه العالم موجبا لتوقّفهم في عموم العلماء وإن لم يحصل الظّنّ الفعلي بعمومه وهو مطابق لعمل الفقهاء أيضا كما استدلّوا على طهارة الغسالة في التّطهير بالماء القليل بعموم قوله النّجس لا يطهر مع الإجماع على مطهّريّة الماء القليل فيحكمون بعدم تنجسه حينئذ بالملاقاة ولا يتوقّفون في عموم اللّفظ لاحتمال كون الإجماع على مطهّريّته مخصصا لعموم قوله النّجس لا يطهر وكذا يتمسكون في إفادة المعاطاة الملك بقوله لا عتق إلاّ في ملك مع الإجماع على جواز عتق المأخوذ بالمعاطاة أخذا بعموم اللّفظ ولا يعتنون باحتمال كون الإجماع مخصصا له مضافا إلى أنّ ذلك مقتضى قاعدة عكس النّقيض فإنّ قوله أكرم العلماء بمنزلة كل عالم يجب إكرامه وينعكس نقيضه بقولنا من لم يجب إكرامه فليس بعالم وزيد لم يجب إكرامه لقوله لا تكرم زيدا ينتج أنّ زيد المنهيّ عن إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب وكذا في نظائره لا يقال إنّهم لا يعملون بالخبر إذا قامت الشهرة على خلافه وهي من الأمور الخارجة لأنّا نقول ليس ذلك من جهة رفع ظهور الخبر في المعنى الحقيقي بواسطة الشهرة بل لأنّ الشهرة موهنة له من حيث السّند ولذا لا يطرح عام الكتاب أو الخبر المتواتر بمحض قيام الشهرة على خلافه عند القائلين بالظّنون الخاصة وبالجملة هل العرف لا يتوقّفون في حمل اللّفظ على ظاهره بمحض احتمال كون الأمر الخارجي قرينة على مجازيّته معتبرا كان كالخطاب المنفصل أو غير معتبر كالشّهرة مثلا وإن لم يحصل لهم الظّنّ فعلا بإرادة الحقيقة بل يكتفون فيه بالظهور نوعا وحينئذ فعلم بطلان القول الثالث لعدم لزوم الظّنّ الفعلي عرفا والقول الرّابع لعدم اعتناء العرف بالأمور الخارجيّة مطلقا معتبرا كان أو لا بقي الكلام فيما إذا اقترن باللّفظ ما يحتمل أن يكون قرينة فنقول ليس في ذلك ضابط كلي بل لا بد أن يرجع في خصوص الألفاظ إلى العرف ويمكن أن يقال لو كان اللّفظ مجازا مشهورا في معنى بمعنى أن يكون الأمر المحتمل كونه قرينة

 

غلبة الاستعمال كالأمر حيث يستعمل في النّدب شائعا فيتوقّف العرف لعدم الظهور عرفا في إرادة الحقيقة وبهذا يظهر فساد القول الأوّل إذ لو كان بناؤهم على التّعبّد لم يكن للتّوقّف في ذلك وجه وأمّا لو كان مثل العامين المتعقبين بالاستثناء فيمكن ادعاء عدم ارتفاع ظهور العام الأوّل باحتمال رجوع الاستثناء إلى الجميع وبه يبطل القول الخامس حيث حكم بارتفاع الظّنّ النّوعي بسبب الأمور المقترنة مطلقا وذلك لعدم الفرق بينه وبين الكلام المنفصل المجمل كقوله لا تكرم زيدا مع اشتراكه بين الجاهل والعالم كما مر حيث يحكم العرف فيه بإرادة الجاهل بقرينة ظهور العام في العموم فليحكم هنا أيضا بعموم اللّفظ لأصالة الحقيقة ويجعل ذلك قرينة على اختصاص الاستثناء بالأخير وهذا مقتضى القاعدة أيضا فإنّه إذا دار الأمر بين حمل اللّفظ المجمل على معنى يلزم منه مجازيّة لفظ آخر وبين حمله على غيره مما لا يلزم منه ذلك تعيّن الثاني أخذا بظهور اللّفظ في الحقيقة كما ذكروا أنّه لو قال له علي عشرة إلاّ ثوبا كان المراد عشرة أثواب لأصالة الحقيقة في الاستثناء أي الاتصال ولهذا فرق صاحب المعالم بين الاستثناء عقيب الجمل وبين الأمر حيث توقف في حمل الأمر على الوجوب لغلبة الاستعمال في النّدب وحكم برجوع الاستثناء إلى الأخيرة خاصة أخذا بأصالة الحقيقة في الباقي والحاصل أنّ الاستثناء بحسب الوضع صالح للرجوع إلى الأخيرة وإلى الجميع فحمله على معنى لا يلزم منه مجاز في سائر العمومات غير الأخيرة متعين لما عرفت من بناء الفقهاء وعمل العرف وغاية ما يمكن أن يقال في الفرق بين المتصل والمنفصل هو ما ذكره الفاضل القمي رحمه‌الله في مبحث وقوع الاستثناء عقيب الجمل من أنّ الاستثناء مشترك بين رجوعه إلى الأخيرة وإلى الجميع والعمومات المتعقبة بالاستثناء مشتركة بالوضع التّركيبي بين أن يراد منها العموم بأن يراد من الاستثناء المعنى الأوّل وأن يراد منها الخصوص بأن يراد من الاستثناء المعنى الثاني وحينئذ فلا يمكن التّمسّك بأصالة الحقيقة في العام في اختصاص الاستثناء بالأخيرة أقول إذا سلم ما ذكره من الاشتراك في الوضع التّركيبي فلا شبهة في عدم جواز التّمسّك بالأصل لكن لا نسلم الوضع التّركيبي أصلا بل الاستثناء موضوع لمطلق الإخراج والعام موضوع للعموم نعم قد وضع الهيئة التّركيبيّة لربط أحدهما بالآخر كربط زيد بقائم في زيد قائم ولا يستلزم ذلك اشتراك الاستثناء ولا اشتراك العام وحينئذ فيجوز التّمسّك بأصالة الحقيقة في حمل الاستثناء على ما لا يستلزم مجازيّة سائر العمومات ولا ضير فيه وإذن فالحق هو القول الثاني ولا بد في تمييز الصغريات من الرّجوع إلى العرف وقد عرفت عدم اعتنائهم بالأمور الخارجة مطلقا وأمّا الدّاخلة فليس له حد منضبط بل لا بد من عرض الألفاظ على العرف وقد عرفت أنهم قد يتوقّفون في مثل ما لو كان الأمر المحتمل القرينية هو الغلبة فبطل القول الأوّل وإنّه يمكن منع توقّفهم

 

في مثل ما أمكن جعل ظهور الحقيقة قرينة مبيّنة لمجمل آخر كما في الاستثناء فيبطل القول الخامس فافهم ثم إنّ بعضهم مثل لما اقترن باللّفظ ما يحتمل أن يكون قرينة بالعام الذي يرجع الضمير إلى بعض أفراده لاحتمال كون الضمير مخصصا له والحق أنّه داخل في مسألة تعارض الظاهرين إذ العام ظاهر في العموم ولو قلنا بكونه حقيقة بعد التّخصيص إذ لا بعد في كون الحقيقة مخالفا للظّاهر والضمير ظاهر في المطابقة مع المرجع فالاستخدام خلاف الظاهر وإن كان حقيقة كما هو الحق إذا الضمير الغالب وضع ليكون كناية عما تقدم ذكره مطلقا ولو حكما كما لو فهم بقرينة المقام ونحو ذلك وبالجملة لا مجازيّة في الضمير إذا لم يرجع إلى المتقدم صريحا لكن ظاهره الرّجوع إلى المتقدم صريحا فالاستخدام خلاف الظاهر وإن كان حقيقة وقيل إنّه مجاز بعلاقة العموم والخصوص فيما نحن فيه لأنه إذا رجع إلى العام كان حقيقة في العموم مع أنّه أريد منه بعض الأفراد فيكون مجازا بالعلاقة المذكورة وهو باطل أمّا أوّلا فبما عرفت من عدم المجازيّة أصلا وأمّا ثانيا فلأنّ العلاقة المذكورة لا تجري في قوله إذا نزل السّماء بأرض قوم دعيناه وإن كانوا غضابا حيث أريد من الضمير معنى مباين للمراد بالمرجع فالأولى جعل العلاقة الشّباهة ويقال شبه الأمر المراد من الضمير بالأمر المتقدم صريحا فاستعمل فيه اللّفظ الموضوع لأن يراد منه المتقدم الصريح ليتحد العلاقة في جميع أنواع الاستخدام وكيف كان فالأمر دائر بين ارتكاب خلاف الظاهر في العام وارتكابه في الضمير فهو خارج عما نحن فيه والحق فيه تقديم الاستخدام على ارتكاب التّخصيص إذا المراد بالضمير هو بعض الأفراد على أي تقدير غاية الأمر أنّه إذا حمل العام على العموم صار استعمال الضمير استخداما وإلاّ فلا فالاستخدام وعدمه في الضمير تابع لتعيّن المراد من العام وبعد تعيينه بظهوره في العموم يتفرع عليه لوازمه من الاستخدام وغيره ولا يمكن المعارضة بكون الاستخدام خلاف الظاهر لأنّه من التّوابع وبعد تعيين معنى المتبوع يترتب عليه قهرا وهو واضح ومع قطع النّظر عن هذا الكلام فإن قلنا بكون التّخصيص حقيقة كالاستخدام وجب التّوقّف كما إذا قلنا بكونهما مجازين وإن قلنا بكون التّخصيص مجازا دون الاستخدام فيتعيّن الحمل على الاستخدام عند من يجري أصالة الحقيقة تعبدا دون من يقول بحجيتها للظّهور النّوعي لإمكان نفي الظهور النوعي بملاحظة الضمير وإن قلنا بمجازيّة الاستخدام دون التّخصيص قدم التّخصيص بناء على التّعبّد دون القول الآخر ولا يمكن التّمسّك في حمل العام على العموم بأصالة عدم القرينة إذا المراد بها إمّا استصحاب عدم كون الضمير قرينة وإمّا القاعدة العقلائية أي الحكم بالعدم في كل ما شكّ فيه وإمّا استصحاب عدم وجود القرينة أو عدم تعويل المتكلم عليها والأوّلان باطلان إذ ليس عدم القرينة للضّمير حالة سابقة حتى يستصحب والكلية في بناء العقلاء ممنوعة وأمّا الآخران فمسلمان لكن حجيتهما ليس إلاّ من باب الظّنّ كما عرفت

 

سابقا والمفروض عدمه فيما نحن فيه كما عرفت ثم إنّ الظهور النّوعي الحاصل بإرادة الحقيقة حجة من باب الظّنون الخاصّة لا المطلقة من غير فرق بين المخاطب وغير المخاطب الإجماع العلماء من متقدميهم ومتأخّريهم وإطباق أهل اللّسان والعرف مضافا إلى تقرير المعصومين عليه ولم يناقش في ذلك أحد من العلماء سوى الفاضل القمي ره حيث فرق بين المخاطب وغيره فجعل حجية ظاهر اللّفظ بالنسبة إلى الأوّل من باب حجية الظنون الخاصة دون الثّاني فجعله من باب حجيته الظّنون المطلقة وهو غير سديد لأنّ كل دليل دلّ على حجيته للمخاطب فهو دالّ على حجيته لغيره أيضا وهو الإجماع والتّقرير فإنا نراهم يحكمون عند شهادة الشهود بأنّ فلانا أقر لفلان بأن قال له علي كذا بأنه لزمه ذلك ولا يتوقفون في ذلك مع أنهم لم يكونوا مخاطبين بكلام المقر لا يقال إنهم يحكمون بذلك لحصول الظّنّ لهم به وقد سلمنا حجيّة الظّنّ مطلقا لغير المخاطب أيضا لأنّا نقول لا وجه لحجيّة الظّنّ مطلقا في أمثال هذه المقامات لأنّها من قبيل الموضوعات الصرفة الّتي ليس مدارها إلاّ على العلم أو الأسباب الخاصة ولا انسداد لباب العلم فيها لإمكان الاحتياط أو العمل بالبراءة فيها غالبا أو بالجملة لا خلاف لأحد في حجيّة الظواهر بالنّسبة إلى المخاطب وغيره وما يرى من منع الأخباريين حجيّة الكتاب ليس لعدم حجية الظواهر بل إنّما هو لزعمهم وقوع التّحريف فيه المانع عن حجيته أو لصدوره بسبك خاص لخصوص بعض الأشخاص فلم يرد منه إلاّ فهمهم بخصوصهم وفهم سائر المكلفين ببيانهم فافهم

فرع

ما ذكرنا من حجية الظهور النّوعي في إرادة الحقيقة إنّما هو في قبال المجاز وأمّا تعيين المراد فهو مقام آخر وبيانه أنّه قد يتحد المعنى الحقيقي وقد يتعدد أمّا في الأوّل فيتعين الحمل عليه وأمّا في الثاني فإمّا أن يكون التّعدّد في اصطلاح واحد وزمان واحد فهو المشترك ويأتي الكلام فيه إن شاء الله وإمّا أن يكون التّعدّد بالنسبة إلى زمانين أي اللّغة والعرف وهو على ضربين أحدهما أن يكون له في اللّغة معنى وفي عرف المتشرعة معنى ولم نعلم أنّه كان في زمان الشارع حقيقة في أيّهما وهذا هو النّزاع في الحقيقة الشرعية وسيأتي إن شاء الله والثاني أن يكون له في اللّغة معنى وفي العرف العام معنى ولم نعلم والموضوع له في زمان الشارع وإمّا أن يكون التّعدد في زمان واحد بالنسبة إلى اصطلاحين كلفظ رطل له بالعراق معنى وبالمدينة معنى فلو وقع في تخاطب المدني والعراقي يقع الإشكال في حمله على أحد الاصطلاحين ونتكلم هنا في القسمين الآخرين أحدهما في تعارض العرف العام مع اللّغة والثاني في تعارض عرف المتكلم والمخاطب أمّا الأول فاختلفوا فيه على أقوال الأوّل الحمل على اللّغة لأنّ النّقل إلى العرف ثابت والشّكّ إنّما هو في ثبوته في زمان الشارع وتأخّره عنه فالأصل تأخّره والثاني الحمل على العرف لغلبة اتحاد الشرع والعرف والثالث التّوقف لتعارض الأدلة الرّابع التّفصيل

 

بين أن يكون المراد من اللّغة ما ذكروه في الكتب المصنفة مثل الصحاح والقاموس وغيرهما من الكتب المؤلفة بعد زمان الشارع فيحمل على اللّغة وبين أن يكون المراد اللّغة السابقة على زمان الشارع فيحمل على العرف أمّا في الأول فلاحترازه عن تعدد النّقل إذ لو حمل على المعنى العرفي وجب التزام نقله منه إلى المعنى اللّغوي لتأخّره ثم إلى المعنى العرفي وأمّا في الثاني فلغلبة اتحاد الشرع والعرف الخامس التّفصيل بين ما لو علم تاريخ الصدور والنّقل فيحمل بمقتضى العلم وما لو جهل تاريخهما معا فيحكم بالمقارنة لأصالة عدم التّقدم في كل من الصدور والنّقل لكونهما حادثين وحينئذ يجب الحمل على المعنى اللّغوي إذا كان النّقل تخصيصيا إذ النّقل يحصل مقارنا للخطاب ويجب في الاستعمال تقدم الوضع وأمّا لو كان تخصصيا فلا يحمل على اللّغوي جزما إذ النّقل لو كان مقارنا للصدور كان الصدور مسبوقا بمجازيته في المعنى العرفي مجازا مشهورا وتقديم الحقيقة على المجاز المشهور محل إشكال وما لو علم تاريخ الصدور فقط فيحمل على المعنى اللّغوي لأصالة تأخّر النّقل وما لو علم تاريخ النّقل فقط فيحمل على العرفي لأصالة تأخّر الصدور وفي الجميع نظر لما عرفت سابقا من أنّ المدار في اللّغات على الظّنّ المطلق الفعلي وهو لا يحصل بأصالة تأخّر النّقل إذ لا يفيد الاستصحاب الظّنّ بنفسه ولا غلبة لتأخّر النّقل حتى يحصل الظّنّ بسببها إذ النّقل في نفسه قليل وفيما ثبت النّقل أيضا ليس الغالب تأخّره والمدار في أمثال ذلك على الغلبة الصنفيّة لا الجنسيّة فلا يرد أنّ الغالب في جنس الحادث هو التّأخّر إذ لا نعلم أنّ المناط هو الحدوث أو غيره والغلبة المعتبرة هي الصنفية وغلبة اتحاد العرف والشرع إنّما هي في الألفاظ الّتي يتحد فيها اللّغة مع العرف وأمّا في ما اختلفا فيه كما هو محل النّزاع فلا نسلمها فإنّ موارده في نفسه قليل لا يوجد فيه إلاّ مثال واحد أو أكثر فادعاء غلبة الاتحاد في مثله غير مسموع وبهذا علم بطلان القول الأول والثاني والرّابع والخامس لأنّ متمسكهم هو أصالة التّأخر وغلبة الاتحاد وقد عرفت بطلانهما مضافا إلى أنّ ما ذكره الرّابع باطل في نفسه فإنّ المراد باللّغة في المقام هو العرف السابق على زمان الشارع كما هو محل النّزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وليس الكلام في عرف صاحب الصحاح والقاموس وهو واضح فالحق في المقام أنّ المدار على الظّنّ الشخصي لرجوعه إلى الشّكّ في الموضوع له لا المراد بعد تميز الموضوع له فإن لم يحصل فالتوقف

تنبيه

أشرنا إلى عدم حجية أصالة التّأخر في المقام ولا بأس بتطويل الكلام لتوضيح المراد فنقول إنّ أصالة التّأخّر ليس معناها استصحاب التّأخر إذ ليس التّأخر محرزا في الزّمان السّابق حتى يستصحب بل المعنى القاعدة التي مفادها التّأخر وهي إبقاء الشيء على عدمه السابق إلى زمان تيقن وجوده فهناك شيئان الوجود في الزّمان السابق وهو مشكوك والوجود في الزّمان اللاحق وهو

 

مقطوع فبأصالة التّأخّر يثبت العدم في الزّمان السّابق فلو كان للعدم السّابق حكم ترتّب عليه وكذا الأحكام المترتّبة على نفس الوجود اللاحق وهذا لا إشكال فيه إنّما الكلام في أن الوجود اللاحق حدوث وابتداء وجود لا بقاء ووجود بعد وجود فإنّه إذا ثبت الوجود في اللاّحق والعدم في السّابق يستلزم أن يكون ذلك الوجود حدوثا لا بقاء فهل يثبت بها ذلك ويترتب عليه إمكان كونه حدوثا أو لا وكذا إذا كان لتأخّر ذلك الوجود عن وجود شيء آخر سابق حكم فهل يثبت بها تأخّره عنه ويترتّب عليه الحكم أو لا مثل أنه نذر شخص أنه لو قدم زيد بعد عمرو تصدق بدرهم ولو قدم زيد يوم الأحد تصدق بدرهمين ونذر أنّه يتصدق ثلاثة دراهم في كل يوم كان زيد في البلد فرأى زيدا في يوم الأحد وشك في أنّه قدم ذلك اليوم أو في يوم السّبت وعمرو قد قدم يوم السّبت فبأصالة التّأخّر يحكم بأنه قد قدم زيد يوم الأحد ويترتب عليه لوازم وجود يوم الأحد من التّصدق بثلاثة دراهم وكذا لوازم عدم وجوده في السّابق من عدم التّصدق فيه بثلاثة وحينئذ فهل يحكم بسببها بأن القدوم تحقق في يوم الأحد فيجب عليه التّصدق بدرهمين أو لا وهل يحكم بتأخّره عن عمرو فيجب التّصدّق بدرهم أو لا محل إشكال وكما إذا شك في أن المبيع كان معيبا قبل البيع حتى يثبت الخيار أو بعده فلئن كان العيب ثابتا في يوم السّبت فبأصالة التّأخّر يحكم بثبوت البيع يوم الأحد وهل يثبت بها تأخّره عن العيب ليترتب ثبوت الخيار أو لا إشكال وبما ذكرنا من أن موردها ما لو كان للمشي حالتان السّابق المشكوك واللاحق المتيقّن علم أنها لا تجري في الأمور الآتية الغير القابلة للبقاء كولادة زيد إذ الشك في تحققها يوم السّبت أو الأحد فإن ثبوتها في يوم الأحد ليس متيقنا بل أصالة عدمها يوم السّبت معارضة بأصالة عدمها يوم الأحد كالشبهة المحصورة ولذا ذكروا أنّه إذا صلى الصّلاة الخمس بخمس وضوءات ثم تيقّن بطلان أحدها وجب عليه قضاء الجميع إذ البطلان أمر إنّي ليس له قدر متيقن يؤخذ به فإن أصالة عدم بطلان الصبح يعارضها أصالة عدم بطلان الأخريات وهكذا وكذا في مسألة خيار الحيوان حيث اختلفوا في أنّ ابتداءه عند العقد أو بعد الافتراق فلا يمكن التّمسّك بأصالة التّأخّر لإثبات كونه بعد الافتراق لأن كون الخيار ثلاثة أيام متيقن أمّا كونه من حين العقد أو الافتراق فمشكوك وأصالة العدم في كلّ منهما معارض منهما بالآخر وهو ظاهر لا إشكال فيه إنّما الشّأن في بيان ثبوت كون الوجود اللاحق حدوثا ومتأخرا عن شيء آخر بها وعدمه فنقول إن تنقيح المطلب موقوف على بيان مقدّمات الأولى معنى الاستصحاب إبقاء الشّيء ليترتب الحكم عليه وهو على ضربين أحدهما أن يكون الحكم ثابتا لأمر كليّ أعمّ من الموضوع الواقعي والموضوع الظاهري الثّابت بالاستصحاب كوجوب الإطاعة

 

فإنه حكم عقلي موضوعه مطلق التّكاليف الشّرعيّة أعم من التّكليف الواقعي والتّكليف الظاهري الثّابت بالاستصحاب كما إذا شكّ في بقاء حرمة وطي الحائض بعد الانقطاع فتثبت بالاستصحاب حرمته الظاهريّة فيحكم العقل بوجوب إطاعته وفي هذا القسم يثبت بالاستصحاب الصغرى وهي أنّ ذلك تكليف وأمّا الكبرى فدليله العقل وثانيها أن يكون الحكم ثابتا للموضوع الواقعي كحرمة التّصرّف في المال فإنّها من أحكام الحياة الواقعيّة فباستصحاب حياة زيد يراد جعل الأحكام الثّابتة للحياة الواقعيّة للموضوع المشكوك وفي هذا القسم يثبت الكبرى بالاستصحاب وهو أنّ كلّ حيّ يحرم التّصرف في ماله حتى الحيّ بالاستصحاب وأمّا الصغرى فليس المراد إثباتها بالاستصحاب إذ ليس الحياة أمرا قابلا للجعل بل المقصود جعلها مفروض الوقوع ليترتّب عليه الآثار والحاصل أنّ الغرض في هذا القسم ليس إثبات الصغرى بل المراد فرضه واقعا ولا يكفي فرض الصغرى في إثبات الحكم كالقسم الأوّل لأن الدّليل الدال على ثبوته مختصّ بالموضوع الواقعي وهو لا يثبت بالاستصحاب وإنّما يثبت الموضوع الظّاهري فالغرض من الاستصحاب حينئذ جعل الأحكام للموضوع المستصحب فيتحقّق في هذا القسم جعلان أحدهما جعل الأحكام للموضوع الواقعي وهو ثابت بالدليل الدالّ عليه والثّاني جعل الحكم للموضوع المستصحب وهو ثابت بالاستصحاب وحينئذ فلا بدّ أن يكون الآثار التي يراد إثباتها أمرا قابلا لجعل الشّارع كعدم جواز التّصرف في المال في المثال المفروض وأمّا اللّوازم العادية كبياض اللّحية في المثال فلا ينجعل بالجعل الحقيقي وهل ينجعل بالجعل الفرضي ليترتّب عليه الآثار أو لا فلو نذر التّصدّق بدرهم عند بياض لحية زيد فبعد استصحاب حياته يترتب عليه عدم جواز التّصرّف في ماله بلا إشكال وهل يحكم بانجعال بياض لحيته بمعنى ترتب الآثار عليه وهو وجوب التّصدّق بدرهم في المثال المذكور أو لا هذا هو الأصل المثبت الذي يتنازع في حجيّته وحاصله أن يثبت باستصحاب شيء الآثار المترتّبة على لوازمه العادية أو العقليّة الثّانية إذا كان للشّيء الواحد عنوانان وكان له حكم بعنوان فلا يسري إلى العنوان الآخر ويظهر الثّمرة عند انفكاك العنوانين إمّا واقعا أو ظاهرا فالأوّل كالبنت فإنها موضوع ذات عنوانين البنتيّة وأخت الولدية والحرمة إنّما هي لعنوان البنت فلا يسري إلى أخت الولد فيجوز نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللّبن لو لا النصّ فإنّ أولاده أخت للولد لا بنت والثّاني كالماء الكر المتحقّق في الحوض فهناك عنوانان أحدهما وجود الكر في الحوض والثّاني كريّة الماء الموجود في الحوض وصيرورة المغسول طاهرا إنّما هو من لوازم العنوان الثّاني وهو كريّة الماء الموجود فلا يسري إلى الأوّل ويظهر الثّمرة فيما إذا نقص الماء قليلا وشكّ في كرّيته ثم غسل الثّوب

 

النجس به وحينئذ لا يمكن استصحاب كريّة الماء الموجود في الحوض لتغيّر الموضوع ولم يكن الكريّة لهذا الماء الموجود محرزا في السّابق فلا يترتّب عليه الحكم بطهارة المغسول به نعم يمكن استصحاب وجود الكر في الحوض أعني العنوان الأوّل لكن الحكم لا يترتب عليه لما عرفت ولا يبعد استصحاب وجود الكر في الحوض مع عدم الحكم بكريّة الماء الموجود لجواز الانفكاك بين اللوازم في الظّاهر كالزوجة المقرة والزوج المنكر فيحكم بأنّها زوجة له وإنّه ليس زوجا لها والحاصل أن إثبات طهارة المغسول باستصحاب وجود الكر في الحوض أصل مثبت لأنه لا يمكن إلاّ بضميمة إثبات لوازمه العقليّة أعني كون الماء الموجود كرّا وقد عرفت جواز انفكاكهما ظاهرا الثّالثة الأصل المثبت هو استصحاب شيء يترتب على وجوده الواقعي في خصوص المقام موضوع حكم يراد ترتيبه على الاستصحاب كاستصحاب عدم المانع فإنّه استصحاب شيء لو كان واقعا لترتب عليه وصول الماء إلى البشرة في خصوص المقام للعلم بتحقق الارتماس ووصول الماء إلى البشرة هو موضوع لحكم الذي يراد ترتيبه على استصحاب عدم المانع وهو رفع الجنابة مثلا وكذا في مسألة الكر فإنه يترتب على وجود الكر في الحوض في الخارج موضوع الحكم وهو كريّة الماء الموجود وكذا في تأخّر الحادث يراد استصحاب عدم الشّيء في السّابق الذي يلزمه في خصوص المقام حيث علم تحقق الوجود موضوع حكم وهو الحدوث أو تأخّره عن شيء آخر وبالجملة الأصل المثبت استصحاب موضوع لترتيب أحكام موضوع آخر وهل هو حجّة أو لا الحقّ عدمه إذ المثبت يتمسّك في وجه حجيّته بأحد أمور ثلاثة أحدها أنه إذا كان الحكم لأحد العنوانين الحاصلين لمصداق واحد يسري إلى الآخر فإذا ثبت أحد العنوانين بالاستصحاب ثبت الحكم أيضا ولا نحتاج إلى إثبات العنوان الآخر فإذا ثبت وجود الكر في الحوض ترتب عليه طهارة المغسول به ولا نحتاج إلى إثبات كريّة الماء الموجود والثّاني أن يقول إنّ الملزوم لا ينفكّ عن اللازم فإذا وجب التّعبّد بالملزوم بحكم الاستصحاب ثبت لازمه أيضا بالملازمة فإذا ثبت وجود الكر في الحوض ثبت كريّة الماء الموجود أيضا بالملازمة والثّالث أنّ التّعبّد بالملزوم متلازم مع التّعبّد باللازم فإذا وجب الأوّل بحكم الاستصحاب وجب الثّاني أيضا للملازمة بين التّعبّدين والكلّ باطل أمّا الأوّل فلما مر في المقدّمة الثّانية من أن حكم أحد العنوانين لا يسري إلى الآخر وأمّا الثّاني فلما عرفت فيها أيضا من جواز الانفكاك بين اللازم والملزوم في الظّاهر كما في مسألة الزوج والزّوجة وأمّا الثّالث فإتمامه مبني على ادعاء أن الظاهر من أدلة الاستصحاب جعل مطلق الآثار فالآثار الشّرعيّة ينجعل جزما والآثار الغير الشّرعيّة ينجعل بجعل آخر نظير جعل نفس المستصحب بمعنى أن جعله عبارة عن جعل آثاره وهو خلاف الحق إذ الظاهر منها ليس إلاّ جعل واحد لنفس الشّيء المستصحب غاية الأمر أنّه عبارة عن جعل الآثار فينجعل منها ما كان قابلا للجعل وأمّا جعل الآثار العادية أيضا بمعنى جعل

 

آثار الآثار فلا يتبادر من الأدلّة وأمّا الآثار الشّرعيّة فهو لا يثبت بالاستصحاب بل إنّما يترتّب للكلّيّة الكبرى الثّابتة بدليل آخر فاستصحاب حياة زيد معناه جعل آثار الحياة من وجوب الاتفاق على زوجته مثلا وأمّا جواز إجباره عليه لو امتنع الذي هو من لوازم وجوب الإنفاق فهو لا يترتّب على الاستصحاب بل ثابت بدليل آخر وهو أن كل من وجب عليه الإنفاق جاز إجباره لو امتنع ولو بالوجوب الظاهري والاستصحاب إنّما يثبت موضوعه وقد عرفته في المقدمة الأولى ولا يمكن ذلك فيما نحن فيه إذ موضوع الآثار الغير الشّرعيّة ليس قابلا للجعل حتى ينجعل بالاستصحاب ويترتّب عليه الحكم بدليل آخر بل المراد بالاستصحاب فيه جعل أحكام تلك الآثار وقد عرفت أنّه محتاج إلى جعل آخر غير جعل الآثار الشّرعيّة وهو غير متبادرة من الأدلة فإن قلت إنّا نقول إنّ المتبادر منها جعل الآثار الشّرعيّة مطلقا سواء كان بالواسطة أو بدونها فليس إلاّ جعل واحد فمعنى لا تنقض اليقين بالشك أنّ في كلّ مقام شككت في شيء فافرض اليقين في موضع الشّكّ فكل حكم شرعيّ كان يلزمك بسبب اليقين فأبقه عند الشّكّ فإذا ارتمس في الماء وشكّ في وجود المانع فلو فرض في موضعه اليقين لكان حكمه رفع الجنابة فيجب ترتيبه على الاستصحاب عند الشّكّ قلنا لا نسلّم تبادر ذلك بل المتبادر جعل أحكام المتيقن السّابق باقيا لا أحكام مورد اليقين والمتيقّن هو عدم المانع وليس من أحكامه رفع الجنابة وبعبارة أخرى الظاهر من الرّوايات كقوله عليه‌السلام فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشّكّ إبقاء الحكم الذي كان مترتّبا على نفس اليقين السّابق وفي المقام ليس ارتفاع الجنابة من أحكام اليقين بعدم المانع بل يجب فيه انضمام يقين آخر أعني حصول الإتمام وهذا القسم ليس متبادرا من الرّوايات فإن قلت إنّه لو كان كما ذكرت لم يجز إلاّ ترتب الأحكام الثّابتة لليقين السّابق فعلا وأمّا الأحكام المترتّبة عليه تعليقا فلا مع أنّ غالب الموارد من هذا القبيل فإنّ استصحاب نجاسة الشّيء يراد منه ترتيب أحكام النجس عليه من نجاسة شيء الذي لاقى معه ونحو ذلك وهذا ليس من الأحكام المترتّبة على اليقين السّابق بل هو من أحكام اليقين السّابق مع اليقين بتحقق الملاقاة في خصوص المقام فيكون أصلا مثبتا إذ لا يكفي اليقين السّابق في ترتّب الحكم بل يلزم فيه من يقين آخر في خصوص المقام وكذا في كل استصحاب تعليقي وهو في كل مورد كان الحكم للشيء معلقا على شرط غير حاصل في حال اليقين وإنّما يحصل في حال الشّكّ في بقاء ذلك الشّيء فبعد استصحابه يراد إثبات الحكم مع أنه ليس حكما لنفس ذلك الشّيء بل لا بد فيه من اليقين بتحقق الشّرط أيضا كالعصير العنبي فإنّه إذا غلا واشتد ينجس على قول فإذا تحقق الغليان وشككنا في تغيير حالة العنب قبل الغليان

 

فباستصحابه يحكم ببقاء العنبيّة ويحكم بالنجاسة مع أنّ النجاسة ليست من الأحكام المترتبة على العنب الذي كان متعلّق اليقين السّابق بل هو مترتّب على ذلك مع اليقين بتحقق الغليان وهكذا في سائر الموارد فبناء على ما قررت يلزم عدم حجيّة الاستصحاب في هذه الموارد مع أنّك قائل بحجيّتها فيها قلت فرق بيّن بين ما ذكرت وما ذكرت إذا الأصل المثبت على ما عرفت من تعريفه عبارة عن إثبات حكم ثابت لموضوع آخر على الشّيء المستصحب كعدم المانع فإنّه يراد من استصحابه إثبات ارتفاع الجنابة الذي هو من أحكام وصول الماء إلى البشرة لا عدم المانع إذ ليس في شيء من أدلة الشّرع أنّ ارتفاع الجنابة من أحكام عدم المانع والحاصل أنّ الذي يثبت بالاستصحاب هو الأحكام المحمولة على اليقين السّابق شرعا ولو بالحمل التّعليقي فالنجس ينجس لكن بشرط الملاقاة فالتنجيس من أحكام النجس شرعا وإن كان مشروطا بالملاقاة والعصير ينجس إذا غلا وهكذا بخلاف عدم المانع إذ ليس الحكم مترتّبا عليه لا تعليقا ولا تنجيزا هذا في المانع العقلي أمّا المانع الشّرعي كالجنابة مثلا فيمكن استصحاب عدمه وترتيب الحكم عليه من صحّة الصّلاة وغيرها لأنّ عدم المانع الشّرعي شرط شرعيّ الحكم ومحمول عليه شرعا وقد ذكرنا أن أحكام نفس عدم المانع يترتّب عليه وكذا إذا كان موضوع الحكم شرعا مركّبا من جزءين فثبت أحدهما بالحس والآخر بالاستصحاب ترتّب الحكم لأنّ المركب إذا صار عنوانا للحكم صار كل جزء أيضا عنوانا بشرط انضمام الآخر فيصح ترتيب وجوب الحجّ على استصحاب عدم الدّين مع وجود المال حسا لأنّه مشروط بالاستطاعة التي هي مركبة من وجود المال وعدم الدّين فيكون عدم الدّين أيضا عنوانا وشرطا بضميمة وجود المال وبالعكس فلا تغفل فإن موارد الاشتباه كثيرة وقد خلط على بعضهم حيث زعم أنّ الاستصحاب في الأمثلة المذكورة في الإيراد من الاستصحاب التّعليقي وغيره لا حجيّة فيه لأنّه أصل مثبت وقد عرفت الفرق فتلخّص بما ذكرنا أنّ الأصل المثبت عبارة عن ترتيب الحكم على غير موضوعه الشّرعي فإثبات أحكام تأخّر شيء عن شيء بأصالة التّأخّر أصل مثبت لأنّك قد عرفت أن أصالة التّأخر معناها استصحاب العدم السّابق وليس من أحكامه تأخّر الشّيء عن الشّيء الآخر بل هو من لوازم وجوده الواقعي في خصوص المقام حيث علم تقدم ذلك الشّيء وحينئذ فلا يمكن إجراء أحكام تأخّر الشّيء عن الشّيء بأصالة التّأخّر فإن قلت قد ذكروا أنه إذا شكّ في تأخّر موت الأب عن إسلام الابن مع معلومية تاريخ الإسلام حكم بتأخّر الموت وأن الابن يرث أباه مع وجود الابن المسلم في حياة أبيه بالحياة اليقيني فهل هذا إلاّ إثبات تأخّر شيء عن شيء بالأصل وإثبات أحكامه قلت لا بل الأحكام المترتبة في المقام إنّما يترتّب على استصحاب حياة الأب

 

إلى زمان إسلام الابن فمحض حياة الأب موضوع الحكم إلاّ أنه مشروط بشرط هو إسلام الابن فالحاصل أن العنوان الشّرعي له مدخليّة في صيرورة الأصل مثبتا وعدمه ولذا ذكروا أنه إذا غسل اليد النجسة بالماء ثم علم بأنه كر وشكّ في أن الكريّة كانت متقدّمة على غسل اليد به أو بالعكس فإن كان تاريخ الغسل معلوما وتاريخ الكريّة مشكوكا حكم بتأخّرها ونجاسة الماء واليد لأنّ استصحاب عدم الكريّة حين الغسل يكفي في ترتيب النجاسة لأن من أحكام الماء القليل أن ينجس بالملاقاة وإن كان تاريخ الكريّة معلوما وتاريخ الغسل مشكوكا لا يحكم بتأخّره وطهارة اليد لأن طهارة اليد ليست من أحكام عدم الغسل الذي هو مستصحب بل يلزم فيه إثبات تأخّر الغسل عن الكريّة حتى يترتب الطهارة وقد عرفت أنه لا يجوز إثبات تأخّر شيء عن شيء بها وإجراء أحكام ذلك عليها إذا عرفت هذه المقدّمات علمت عدم جواز إجراء أحكام تأخّر الشّيء عن الشّيء بأصالة التّأخر وأمّا إثبات الحدوث فإن قلنا إنّ الحدوث أمر لازم للعدم السّابق والوجود اللاحق لم يجز ترتيب أحكامه لأنّ العدم السّابق الذي هو مستصحب ليس موضوعا للأحكام وإنّما يراد من استصحابه ترتيب أحكام موضوع آخر مترتب عليه في خصوص المقام وهو الحدوث حيث علم بتحقق الوجود وإلاّ فالعدم السّابق يمكن تحقّقه بدون الحدوث وإن قلنا إنّ الحدوث مركب من العدم السّابق والوجود اللاّحق أمكن إثبات أحكامه لأنّ العدم المستصحب يكون عنوانا لأحكام الحدوث لما عرفت من أن الحكم إذا تعلق بمركب كان كل جزء من أجزائه أيضا عنوانا بضميمة الآخر وبما ذكرنا من تنقيح المطلب علم فساد التّفصيل الخامس وكذا كل استدلال بأصالة التّأخّر لما عرفت من أنّ إثبات أحكام تأخّر شيء عن شيء بالأصل غير جائز لكونه أصلا مثبتا وكذا ما ذكر من الحكم بالتقارن عند الجهل بكلا التّاريخين لأنّ التّقارن ليس من لوازم العدم السّابق إلاّ في خصوص المقام حيث علم تحقّق الوجودين فإذا لم يكن أحدهما مقدما على الآخر بحكم الأصل ثبت التّقارن وهل هذا إلاّ أصل مثبت لا حجيّة فيه كما بينا

تتميم

نظير ما ذكرنا من عدم جواز إثبات الآثار العادية وأحكام تلك الآثار بالاستصحاب ما ذكره بعضهم في ردّ من تمسّك بحديث رفع عن أمتي تسعة على أن الأصل في الشّرطيّة والجزئيّة أن يكون في حال العمد والعلم أو الاختيار أيضا بتقريب أن ليس المراد رفع نفس الأمور التّسعة لكثرة وجود الخطإ في الأمة وكذا السّهو وأمثاله ولا رفع المؤاخذة بل المراد رفع جميع الأحكام وليس المراد الأحكام المحمولة على نفس الأمور المذكور كوجوب السّجدة على من سها في الصّلاة مثلا إذ لا معنى لرفعه ولا الأحكام المقيّدة بحال مخالف الأمور المذكورة كالعمد والعلم كوجوب الكفّارة على من أفطر في رمضان عامدا إذ لا معنى لرفعه إذ هو يرتفع بارتفاع موضوعه بل المراد الأحكام المطلقة القابلة للتقييد فجزئيّة السّورة

 

للصّلاة من أحكامها وجوب الإعادة بتركها فيرتفع ذلك في حال السّهو والجهل ومقتضاه كون السورة جزء في حال العلم والذّكر ونحو ذلك وكذا في الشروط فأورد عليه البعض بأن المراد رفع الأحكام الثّابتة لنفس ذلك الشيء لا الأحكام الثّابتة بتوسّط الوسائط العقليّة إذ كما أنّ ذلك لا يجوز إثباتها كذا لا يجوز رفعها ووجوب الإعادة ليس من أحكام ترك السّورة حتى يرتفع حال السّهو بل هو حكمه بضميمة الوسائط من أن ترك السّورة مستلزم لترك الصّلاة المأمور بها فيبقى الأمر بحاله فيجب امتثاله نعم لو قال الشارع من ترك السّورة وجب عليه الإعادة صحّ ما ذكر من ارتفاعه حال السّهو بالحديث المذكور هذا ثم إنه يشكل الفرق بين الاستصحاب والحديث المذكور ونحوهما من الأصول التّعبّديّة وبين البيّنة وخبر الواحد وغيرهما من الأمارات التّعبّديّة حيث أثبتوا بهما أحكام اللّوازم العقليّة والعادية حتى أنه لو شهد الشاهدان بوقوع البيع يوم الأحد مع ثبوت العيب يوم السّبت يحكمون بتأخّره عنه وثبوت الخيار مع أنا ذكرنا أنه لا يجوز إثباته بالاستصحاب وكذا ذكر بعضهم أنه إذا نقل واحد من العلماء فتوى من جماعة الأصحاب فهو خبر واحد وحجة تعبّدا يثبت به قولهم فإذا انضمّ إليه قول جماعة أخرى مما رأيناه في كتبهم مثلا صار كاشفا عن قول المعصوم ويثبت بذلك حكم الله تعالى في الواقعة مع أنّ حكم الله تعالى ليس من لوازم ذلك النّقل حتى يترتّب عليه تعبّدا وإنّما هو من لوازمه في خصوص المقام حيث ضم إليه أقوال البواقي وصار سببا للكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام فيكون نظير الأصل المثبت فكيف يجتمع ذلك مع تفيهم الحجيّة الأصل المثبت ويمكن الفرق بأن وجه منع ذلك في الاستصحاب إنّما هو لأنّ المتبادر من أخباره جعل واحد متعلق بالآثار الشّرعيّة لنفس المستصحب لا جعل متعدّد وهذا الوجه مفقود في البينة إذا الأدلّة الدالّة على حجيّتها دالة على حجيّة كل ما كان مدلولا لقول البيّنة حتى المدلول الالتزامي لعدم الدليل على اختصاص الحجيّة بالمدلول المطابقي لدلالة الأدلّة على أنه يجب تصديق البيّنة في كل ما أخبر به بمعنى أنه فيجعل في حقنا جميع الأحكام الشّرعيّة الثّابتة لما أخبر به البيّنة ومن جملته المدلول الالتزامي فينجعل أحكامه الشّرعيّة وبالجملة أحكام المدلول المطابقي والالتزامي في عرض واحد لا أن نقول إنّ الذي ينجعل أولا هو آثار المدلول المطابقي ومن جملة تلك الآثار المدلول الالتزامي ومعنى جعله جعل أحكامه حتّى يقال إنّه لا يفترق مع الأصل المثبت فافهم لكن هذا إنّما يتمّ في المدلول الالتزامي الذي قصده المتكلّم بكلامه وإلا فلا إذ لا يصدق حينئذ أنه مما أخبر به البيّنة حتّى ينجعل أحكامه بل لو ترتب الحكم عليه فإنّما هو للملازمة فيكون نظير الأصل المثبت ولا حجيّة فيه ولهذا لم يقولوا

 

بكفر الأشاعرة مع أنهم يجوزون الرؤية وهي ملازمة للجسميّة والقول بها كفر وبهذا يشكل ما ذكره البعض من إثبات حكم الله بنقل واحد من العلماء فتوى جماعة من العلماء مع ضم قرائن أخر فإن حكم الله ليس مترتبا على المدلول المطابقي لما أخبر به الناقل ولا للمدلول الالتزامي له بل هو يثبت به بضميمة المقدمات الخارجيّة فيكون نظير الأصل ثبوت المثبت وحجيته في المقام مشكل فافهم

تنبيه

لا بدّ أن بعلم أن جميع ما ذكر من عدم ترتيب آثار اللّوازم العادية والعقليّة إنّما هو مبني على القول بحجيّة الاستصحاب تعبدا وأمّا على القول بحجيته لإفادته الظنّ فيترتب عليه لعدم انفكاك الظنّ بالملزوم عن الظن باللاّزم فإذا ظن بعدم المانع ظن بوصول الماء إلى البشرة أيضا لكن حجيّة الظن تابع لكون اللاّزم مما يكفي فيه الظنّ ولا يلزم فيه العلم وإلاّ فلا لجواز حجيّة الظّنّ في الملزوم وعدم حجيّته في اللاّزم كالظّنّ بالقبلة المستلزم للظّنّ بدخول الوقت فإنّ الأوّل حجة دون الثّاني وعلى فرض حجيّة الظّنّ في اللازم لا بدّ في حجيته من اتحاده مع الظنّ الحاصل بالملزوم نوعا وفعلا فلو كان اللاّزم مما يلزم في إثباته الظّنّ الفعلي لا يكفي في حجيّته حصول الظّنّ النوعي باستصحاب الملزوم وهكذا فلا بدّ من تميز الموارد فإن قلت إذا حصل الظّنّ باللاّزم فترتب أحكامه عليه إنّما هو لحصول الظّنّ به لا الاستصحاب الملزوم فلا دخل له بما نحن فيه قلت نعم لكن الظّنّ الحاصل باللاّزم إنّما هو بتبعيّة الظنّ بالملزوم ففي الحقيقة يترتب على الظّنّ بالملزوم أحكام اللازم لكونه سببا لحصول الظّنّ به ولو قطع النظر عن استصحاب الملزوم لكان المظنون عدم تحقق اللاّزم كوصول الماء فإنّ الأصل عدمه مع قطع النّظر عن استصحاب عدم المانع لكن بعد استصحاب عدم المانع وحصول الظّنّ به يرتفع الظّنّ بعدم الوصول ولا يعارضه استصحاب عدم الوصول لأنّه تابع والاستصحاب في المتبوع وارد على استصحاب عدم التّابع وهو ظاهر ثم إن الثّمرة لا تنحصر في ترتّب آثار اللّوازم العادية والعقليّة بل يظهر في ترتّب الملزوم لو كان للمستصحب ملزوم سواء كان شرعيّا أو غيره وكذا في اللاّزم والمقارنات الاتّفاقيّة فعلى التّعبد لا يثبت شيء مما ذكر لما عرفت لكن على الظّنّ يمكن إثبات بعضه وفيه تفصيل فنقول أمّا الملزوم فلا شبهة في أنّ الظّنّ باللاّزم يستلزم الظّنّ به كاستصحاب طهارة المائع الكر المردد بين المطلق والمضاف مع وقوع نجاسته فيه فإنّ الظّنّ بطهارته يستلزم الظّنّ بكونه مطلقا وأمّا الملازم فيمكن في بعض موارده ففي المثال المذكور يمكن حصول الظّنّ برفع الحدث بالوضوء بالمائع المذكور إذ الظّنّ بالطّهارة يوجب الظّنّ بكونه مطلقا وهو يوجب الظّنّ برفع الحدث ورفع الحدث والطّهارة لازمان لإطلاق الماء وقد لا يمكن بأن لا يكون الملزوم علة تامّة لهما بل كان مقتضيا فلا يلزم من حصول الظّنّ بأحدهما الظّنّ

 

بالآخر لجواز انفكاكهما بعدم المانع في أحدهما فيؤثر المقتضي ووجوده في الآخر وأمّا المقارن كطهارة أحد الإناءين المشتبهين فإنها مقارنة لنجاسة الآخر للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما فلا يحصل الظّنّ في أحد من الجانبين لمعارضته بالجانب الآخر نعم يمكن ذلك لو لم يكن الحالة السابقة في أحدهما معلومة كالإناءين الذين علم مائيّة أحدهما وشكّ في الآخر هل هو بول أو ماء ووقع النجاسة في أحدهما فيستصحب طهارة المعلومة المائيّة ويظن بنجاسة الآخر لعدم كونه معارضا بالمثل وكذا إذا كان بحالة السّابقة في أحدهما موافقا للعلم الإجمالي كما لو علم وجود زيد أو عمرو على سبيل منع الجمع والخلوّ في يوم الأحد وعلم وجود زيد وعدم عمرو يوم السّبت فيستصحب وجود زيد ويحكم بعدم عمرو يوم الأحد ولا يعارضه شيء هذا كلّه بالنسبة إلى حصول الظّنّ ما حجيته وكيفيته من الفعلي والنوعي فهو تابع لمورده على ما عرفت والحق أن الأصل في اللّغات حجة من باب الظنّ لا التّعبّد فيكون الأصل المثبت حجة فيها مضافا إلى أنّ جميع الأصول الجارية في اللّغات أصول مثبتة كأصالة عدم الوضع وعدم القرينة ونحوهما فلو لم يكن حجّة لانسدّ باب إثبات اللّغات هذا ولنقتصر من الكلام في المقام على ما بينا ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول قد ثبت ممّا ذكرنا عدم إثبات التّقارن بأصالة التّأخر لعدم إفادة أصالة عدم التّقدّم الظّنّ لعدم غلبة في البين كما بينا هذا الكلام في تعارض العرف واللّغة وأمّا الكلام الثّاني أعني تعارض عرف المتكلّم والمخاطب ومع عرف البلد أيضا فقيل يحمل على عرف المتكلّم لأنّه موضوع له عنده فلو حمل على عرف المخاطب لكان مجازا وقيل يحمل على عرف المخاطب لأنّه ظاهر عنده والخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره إغراء بالجهل وكلاهما باطلان أمّا الأوّل فلعدم كونه مجازا لو حمل على مصطلح المخاطب إذ ليس استعماله فيه استعمالا في غير ما وضع له عند المتكلّم من حيث إنه غير ما وضع له بل هو استعمال فيما وضع له عند المخاطب من حيث إنّه موضوع له فيكون حقيقة وأمّا الثّاني فلأنّا نفرض المخاطب عالما باصطلاح المتكلّم فلا يكون إرادة الموضوع له في عرف المخاطب ظاهرا عند المخاطب ولهذا قيل إن قام قرينة عقليّة على الحمل على أحدهما فهو كما إذا كان المتكلّم جاهلا فعرف المخاطب فحينئذ لا يمكن الحمل على عرف المخاطب كما إذا كان المخاطب جاهلا بعرف المتكلّم مع علم المتكلّم بجهله فإنّه يجب الحمل على العرف المخاطب للزوم الإغراء بالجهل وإلاّ وجب التّوقّف والرجوع إلى الأصول العمليّة فلو قال الإمام وهو مدنيّ الكر ألف وماتا رطل والمخاطب عراقي فمقتضى الأصل طهارة مقدار ذلك من الرطل العراقي وعدم نجاسته بالملاقاة لأصالة الطّهارة وأمّا في مسألة الزّكاة فمقتضى الأصل عدم وجوبه إذا وصل إلى مقدار النّصاب بالرطل العراقي لأصالة البراءة وهكذا وقيل إنّ في صورة عدم القرينة

 

يحمل على عرف المتكلّم لأنّه عادته في التّكلّم ومقتضى الغالب تكلمه بمقتضى عادته نعم لو انتقل إلى بلد مخالف له في الاصطلاح وكان اللّفظ من ألفاظ الأوزان والمقادير الكثيرة الاستعمال في ذلك البلد مع طول مكثه فيه حمل على عرف البلد للغلبة أيضا وهو حسن والمدار في ذلك على الظّنّ فإن حصل وإلاّ فالتّوقّف

فرع

إذا تعدّد المخاطبون ولكل اصطلاح لم يجز حمله بالنسبة إلى كل مخاطب على عرف بل دار الأمر حينئذ بين حمله على عرف المتكلّم وأحد المخاطبين ومقتضى ما ذكرنا أن المدار على الظّنّ والتّوقّف فيما لم يحصل وقال العلامة رحمه‌الله إنّه يجب حمله بالنسبة إلى كل مخاطب على عرفه مستدلا بدليلين أحدهما لزوم الإغراء بالجهل لو لم نقل بذلك لظهوره عند كلّ منهم في عرفه فإرادة غيره منه إغراء بالجهل والثّاني أنه لو لم يكن ذلك فإمّا يراد منه بالنسبة إلى كل مخاطب جميع المعاني أو يراد من الجميع معنى معيّن منها أو يراد معنى خارج عن عرف الجميع والأول باطل للقطع بأنّه ليس المراد من كل واحد إلاّ معنى واحد وكذا الثّاني للزوم التّرجيح بلا مرجّح وكذا الثّالث للزوم ترجيح المرجوح وهو فاسد بكلا الدّليلين أمّا الأوّل فلما عرفت من أنه لا يلزم ذلك عند علم المخاطب وإلا لزم حمل كل كلام صدر من كل متكلّم على مصطلح المخاطب ولو كان المتكلّم هو الشّارع مع أنّه خلاف ما هو معروف عند القوم كما سنشير إليه وأمّا الثّاني فيعلم بطلانه من إبطال أصل المدّعى بثلاثة وجوه الأول أنه استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد وهو فاسد والثّاني أنه ينافي أدلّة اشتراك التّكليف إذ مقتضاها اتحاد جميع أفراد عنوان كان موضوعا لحكم في ذلك الحكم كأفراد المسافر والحاضر بل اتحاد جميع المكلفين في الحكم فالمسافر حكمه حكم الحاضر لكن لو صار حاضرا وبالعكس وهكذا واختلاف العرف ليس موجبا لاختلاف العنوان فمقتضى الأدلّة أن يكون حكم جميع المخاطبين متّحدين في الحكم ولو سلم اختلاف العنوان أيضا غاية الأمر أنّ أحد الأحكام فعلي والباقي مشروط بحصول العنوان فيه وحينئذ فلو حمله كلّ مخاطب على عرفه ثبت ذلك المعنى في حق الباقين أيضا ولو مشروطا فيراد من كل مخاطب جميع المعاني وقد حكمت ببطلان ذلك لا يقال إنّ اختلاف الأحكام باختلاف الأسماء غير عزيز حتى أنّه قيل الأحكام تدور مدار الأسماء لأنّا نقول إنّ ذلك إنّما هو في اختلاف المسمّى بدخوله تحت مسمّى آخر كالعذرة تصير رمادا والخمر خلاّ والمكيل معدودا والمعدود مكيلا لا بمحض اختلاف الاصطلاح ولهذا قيل الأحكام لا تتغير بتغير الأسماء وإلاّ فلو صار الحنطة مسمّى باسم الخمر وجب أن يصير حراما وبالعكس وهكذا ولا يخفى وضوح بطلانه الثّالث أنّ غير المخاطب حكمه أي معنى من المعاني فالجميع مع أنه غير مراد قطعا لو لم تقل به في المخاطبين

 

واحد المعاني ترجيح بلا مرجّح والقول بأنّ العراقيين حكمهم حكم المخاطب العراقي والمدنيين حكم المدني مع أنه لا دليل عليه لا يثبت حكم من لم يكن له عرف من سائر المكلفين ويمكن حمل كلام العلامة على صورة تعدّد الخطاب أيضا كالمخاطب إلاّ أنّه مع عدم موافقة أدلته عليه ينافي أدلّة الاشتراك بل مقتضاها أن يكون المراد من الجميع معنى واحد

تتميم

ربما يفهم التّناقض بين قول المعروف بالتوقف في تعارض عرف المتكلّم والمخاطب وبين ما ذكروه في الحقيقة الشرعيّة من أنّه إن ثبت الوضع للمعنى الشرعي حمل اللّفظ عليه وإلاّ فعلى اللّغوي حيث يفهم منه وجوب الحمل على المعنى الشرعي على فرض الثّبوت حتى لو كان المخاطب له عرف غير عرف الشارع ويمكن دفعه بوجهين أحدهما أنّ الكلام ثمة إنّما هو في بيان الثّمرة على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمها وأنه لو ثبت وجب حمل اللّفظ عليها لو خلي وطبعه لأنّها الموضوع له مع قطع النّظر عن شيء آخر مما يكون صارفا عن جملة عليها فلا ينافي التّوقّف بالنّسبة إلى ملاحظة أن للمخاطب عرفا آخر ويؤيّده ما ذكروه أنه إذا لم يثبت الحقيقة الشرعيّة حمل على اللّغوي مع أنه قد يكون المعنى الشرعي مجازا مشهورا وقد ذهبت جماعة إلى التّوقّف وعدم ترجيح الحقيقة عليه ومع ذلك فكيف يحمل على المعنى اللّغوي فالغرض بيان فائدة الوضع مع قطع النّظر عن الصارف والثّاني أنه لا دخل له بتعارض العرفين لأنّ الوضع الشرعي على القول بثبوته طارد ناسخ للعرف السّابق فليس هناك لا عرف الشارع فيحمل عليه أمّا طريانه فظاهر وأمّا كونه ناسخا فلأن الوضع إمّا تعيّني أو تعييني فعلى الأول لا بدّ فيه من كثرة الاستعمال عند الشارع وتابعيه وكلما ازداد المعنى الشرعي قربا ازداد المعنى العرفي بعدا وإذا وصل الأوّل إلى حد الوضع خرج الثّاني عن حدّه وعلى الثّاني فحكمة الوضع تقتضي أن يكون الشارع الواضع وضع اللّفظ للمعنى الشرعي بحيث لا يكون الغير موضوعا له لأنّ الغرض من الوضع تسهيل أمر التّفهيم والتّفهم بعدم الحاجة إلى نصب القرينة مضافا إلى أنّ القرائن ربما تخفى بمرور الدّهور فيحمل على غير المراد فلو كان مع المعنى الشرعي معنى غيره أيضا بحيث كان اللّفظ مشتركا لكان الاحتياج إلى القرينة أكثر لوجوب نصبها في كل من المعنيين وهي مناف لحكمة الوضع كذا قيل وأورد على الأوّل بأنه إنّما يدلّ على النّسخ بالنسبة إلى من كثر استعمال اللّفظ عنده أمّا غيرهم كالنائين عن بلد الشّارع ونحوهم فلا نفرض الكلام فيما إذا وقع التّخاطب معهم وعلى الثّاني بأنا لا نسلم كون ذلك حكمة الموضع فلعلّها شيء آخر وأقول الإيراد الأوّل حسن لكن الثّاني ظاهر البطلان لما يظهر من استقراء أرباب الحرف والصنائع وغيرهم حيث إن غرضهم من أوضاع الألفاظ المستعملة عندهم في المعاني الخاصّة ليس إلاّ تقليل المئونة والاحتياج إلى القرينة والأولى في تقرير الدفع الثّاني للتّناقض أن يقال إن كون

 

الوضع الشرعي ناسخا للعرفي يمكن بوجهين أحدهما أن يكون الغرض أن لا يكون المعنى العرفي معنى للّفظ أصلا والثّاني أن يكون الفرض أن لا يكون للّفظ في مقام بيان الشريعة إلاّ المعنى الخاصّ والمراد هو الثّاني فإنّ كل من يوضع اللّفظ للمعنى في اصطلاح غرضه أن لا يستعمل في ذلك الاصطلاح إلاّ في ذلك المعنى فالفعل إذا استعمل في اصطلاح النحو لا يراد منه إلاّ المعنى الاصطلاحي فالمعنى اللّغوي منسوخ بالنسبة إلى الاصطلاح الخاصّ فكذا اصطلاح الشّارع فإذا استعمل الشارع اللّفظ في مقام الشريعة لا يريد منه إلاّ المعنى الشرعي لحكمة الوضع وكلّ من يكون مخاطبا له في ذلك يكون تابعا له نعم لو تكلّم في غير مقام الشريعة حمل على المعنى العرفي كما أن يتخاطب مع النّحوي في صناعة النّحو يكون تابعا في اصطلاحه وإن تكلّم معه في غيره حمل على مقتضى العرف فالحاصل أنّ اللّفظ الّذي له حقيقة شرعيّة إن استعمله الشارع في مقام بيان الشريعة حمل على المعنى الشرعي ولم يكن له معنى سوى ذلك كما في كلّ أهل اصطلاح إذا تكلّم فيما يتعلّق باصطلاحه وإن استعمله في غير ذلك حمل على العرفي ولا توقف في شيء من المقامين فالمسألة خارجة من محلّ النزاع في تعارض عرف المتكلم والمخاطب وأمّا حكاية الرّطل إذا تكلّم به الإمام فلا دخل له بذلك إذا الإمام ليس له فيه اصطلاح خاصّ وصناعة خاصّة بحيث لا يكون للّفظ في ذلك الصناعة إلاّ المعنى الواحد إذ ليس الرطل مما ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة بل الوضعان كلاهما ثابتان عند الإمام غاية الأمر أنّ أحدهما لسانه وعرفه والآخر ليس عرفه فلا دخل له بالحقيقة الشرعيّة فافهم ثم إنّ ما ذكره بعضهم من الفرق بين ما إذا وقع اللّفظ الّذي له معنى شرعي بعد النّهي فيحمل على المعنى اللّغوي أو العرفي دون الشرعي وبين ما لو وقع في مقام آخر فيحمل على المعنى الشرعي إذ المعنى الشرعي هو الصحيح والصحيح عبارة عن ما يطابق الأمر فلا يمكن تعلق النّهي للزوم اجتماع الأمر والنّهي ففساده أظهر من أن يحتاج إلى البيان إذ لا نسلم أن المعنى الشرعي هو الصحيح ومع التّسليم يمكن إرادة الأعمّ مجازا ومع التّسليم لا نسلم كون الصحيح عبارة عما يطابق الأمر كما سيظهر فيما سيذكر إن شاء الله

المقام الثّاني في بيان أن الضّابط في الحمل على المجاز ما ذا

فنقول لا شبهة في أن المدار في الحمل على المجاز قبالا للحقيقة وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي والقرينة إمّا حاليّة أو مقاليّة لا تتعدّاهما والقرينة العقليّة والغلبة ونحوهما راجعة إلى الحاليّة فإنّه إذا شاع استعمال اللّفظ في المعنى المجازي فحال المتكلم يقتضي إرادته من اللّفظ جريا على عادته وكذا العقليّة وإن احتاج إرجاعها إلى الحاليّة إلى نوع تحمل واختلف في أنّه يجب أن يكون الكلام مع ما يلحقه من القرائن ظاهرا بالظهور الفعلي في إرادة المجاز حتى يحمل عليه أو يكفي كونه ظاهرا

 

فيه نوعا كاختلافهم في الحمل على الحقيقة والمختار في المقامين واحد وهو أن المدار ظهور الكلام نوعا مع ملاحظة القرائن المكتنفة في إرادة المجاز ولا يضر ارتفاع الظّنّ الفعلي بسبب ملاحظة الأمور الخارجة كظهور الأمر الواقع عقيب الحظر في رفع الحظر نوعا فيحمل عليه حتى لو ارتفع الظّنّ فعلا بسبب قياس أو شهرة أو غيرهما مما لا يحتمل استناد المتكلّم إليه في إفهام مراده وعلى ذلك جرى عادة العرف وسيرتهم وهو من الظّنون الخاصة المعلوم حجيّته بالإجماع والتّقرير على ما عرفت سابقا في بيان ضابط الحمل على الحقيقة فإنّ الإجماع المدعى ثمة إنّما هو على الحمل على المعنى الّذي يكون الكلام ظاهرا فيه حقيقة كان أو مجازا ثم إنّ ذلك إنّما هو في مقام الحمل على المجاز قبالا للحقيقة وأمّا تعيين المراد فهو مقام آخر فنقول إن اتحد المجاز فلا إشكال وإن تعدّد فهو على قسمين إذ المراد بالمجاز فيما نحن فيه ما يحتاج فهمه من اللّفظ إلى القرينة فيشمل المجاز والتّخصيص والتّقييد والإضمار والنسخ فإما يدور الأمر بين نوعين منها أو بين شخصين من نوع واحد ولكل مقام يجب المتكلّم فيه وهذا هو الّذي يسميّه الأصوليّون بتعارض الأحوال يريدون به دوران الأمر في المراد بين واحد من الأمور المذكورة وأمّا مثل الاشتراك والنّقل فهو خارج عن محلّ الكلام إذا الكلام إنّما هو في تمييز المراد لا في تمييز الحقيقة عن المجاز فإنّ ذلك قد مضى الكلام فيه مفصّلا فما ذكره بعضهم من دخولهما في تعارض الأحوال لا وجه له وقبل الخوض في المبحث لا بأس بتحقيق القول في أن المدار في القرينة على أيّ شيء دفعا لما توهّم من المنافاة بين كلماتهم في المقام فنقول قد ذكرنا أنّ المدار في الحمل على المجاز ظهور الكلام مع ما يلحقه من القرائن المكتنفة عرفا في إرادة المجاز فلا عبرة بالأمور الخارجة إذا ارتفع بسبب الظّنّ الفعلي ولهذا ذكر بعض المحقّقين أنّ الأمور الغير المعتبرة كالشّهرة والقياس على القول بعدم حجيّتهما وكذا فهم الأصحاب لا ينجبر بهما ضعف سند الخبر ودلالته إذا المدار هو ظهور الكلام في المراد بنفسه أو بالقرائن المكتنفة فالشّهرة القائمة في المسألة أو فهم الأصحاب من الخبر معنى لا يجعل الخبر ظاهرا في المعنى أمّا الأوّل فظاهر وأمّا الثّاني فلأنّ فهم الأصحاب لا يمكن أن يكون قرينة في نظر المتكلّم لتأخّره عنه بمدة وأورد عليه بأنّهم قد ذكروا أنّ المدار في القرينة أن يكشف عن المراد ولو ظنّا لحجيّة الظّنّ في المقام وقسموا القرينة إلى متّصلة ومنفصلة ومقتضى مجموع ذلك أنّ كلّ ما يكشف عن المراد ولو ظنّا فهو قرينة متّصلا كان أو منفصلا وفهم الأصحاب يكشف عن المراد ظنّا فيكون قرينة ولا يضر انفصاله ولو سلم فنقول إنّه يكشف عن وجود القرينة حين التّكلّم ولو ظنّا والظّنّ بوجود القرينة حجة لرجوعه

 

إلى الظّنّ بالظّهور اللّفظي إذا الظّهور إمّا مستند إلى الوضع أو إلى القرينة والأوّل يكفي في ثبوته الظّنّ والثّاني إمّا أن يكون نفس القرينة معلوما وكشفها ظني وإمّا أن يكون كشفها على فرض الوجود معلوما ووجودها مظنون أو يكون كلاهما مظنونا والظّنّ في الجميع حجّة لأنّه ظنّ بالظّهور اللّفظي وقد أطبقوا على حجيّته وكذا الكلام في الشّهرة والقياس أقول المراد بما ذكروه في تقسيم القرينة إلى المتّصلة والمنفصلة الاتّصال بمعنى عدم الاستقلال كالاستثناء والوقوع عقيب الحظر والانفصال بمعنى الاستقلال كقوله لا تكرم زيدا بعد أكرم العلماء لكن يشترط أن يكون موجودا حين التّكلّم حاضرا في ذهنه بحيث لو أراد لذكره لا ما يوجد بعد مدة كالشّهرة في المسألة ونحو ذلك فإنّه فما لا يتصور استناد المتكلّم إليه في الإفهام والظّنّ بوجود القرينة لا نسلّم حجيّته ولا يرجع إلى الظّنّ بالظّهور إذا المراد به الظّنّ بدلالة اللّفظ بعد تحقّق الدّالّ علما وأمّا إثبات نفس الدّالّ بالظّنّ فلا دليل عليه ودليل الانسداد لا يجري في المقام لأنّه إنّما يجري لو علم أنّ بعض الخطابات مما اقترن به القرينة إجمالا ولم يتميز إلاّ بالظّنّ وليس كذلك وحينئذ فأصالة الحقيقة المحكمة لما عرفت من أنّ المدار في الحمل على الحقيقة الظّهور النّوعي ولا عبرة بالأمور الخارجة الغير المعتبرة مما يوجب ارتفاع الظّنّ فعلا بإرادة الحقيقة ونظير ما ذكرنا ما ذكروه من أنّه إذا حصل الظّنّ بالحكم بسبب الظّنّ بالموضوع فيه الخارجي لا حجيّة فيه كما إذا حصل الظّنّ بالحرمة بسبب الظّنّ بأنّ المائع الموجود بول وكذا ما ذكروه من أنه إذا نقل العادل رواية فهو حجة أمّا إذا حصل الظّنّ بسبب الشّهرة الغير المعتبرة بأن العادل نقل الخبر فلا حجيّة فيه لاشتراط العلم بالنقل في حجيّة خبر العادل فإذا نرجع ما كان فيه ونقول إنّه إذا قام قرينة على عدم إرادة الحقيقة ودار الأمر بين الأمور المذكورة فاختلفوا على أقوال الأوّل التّوقّف لعدم وجود المرجح والثّاني جواز التّرجيح بأيّ شيء كان ولو اعتباريّا فالتّخصيص مقدّم على المجاز لكونه أتمّ فائدة والإضمار على المجاز لأنّه أوجز ونحو ذلك وأرجعوا ذلك إلى القرائن الحاليّة فإن حال الشّخص العاقل الحكيم يشهد بأنّه في مقام إظهار مراده يلاحظ الأكمل والراجح ولا يرجح المرجوح خصوصا إذا وقع في كلام الشّارع والثّالث أنّه يجوز التّرجيح بخصوص الغلبة دون الأمور الاعتباريّة وهو الحق لما عرفت سابقا من عدم جواز إثبات الوضع بالظّنون اللّميّة وكذا نقول مثله في تمييز المراد إذ لا نعلم أن المتكلّم اعتبر هذه الأمور إذا المقصود في المتكلّم عرفا هو بيان مطالبهم وأمّا ملاحظة هذه النّكات فلا والشّارع أيضا طريقه في التّكلّم طريق العرف مضافا إلى أن مقتضى الفصاحة عدم ملاحظة هذه الأمور لعدم تفطّن المخاطبين لها والتّكلّم مع الغبيّ على نحو المتكلّم مع الزّكيّ خلاف البلاغة ولهذا

 

قيل إن هذه الوجوه الاعتباريّة مظنّة التّرجيح والمعتبر هو ما كان مأنة للتّرجيح والمراد بالأوّل شأنيّة التّرجيح وبالثّاني فعليّته كالغلبة فبالجملة المدار في التّرجيح هو الغلبة وأمّا تفصيل أقسام التّعارض بين النوعين منها فالأوّل تعارض النسخ مع الأربعة الباقية وقد ذكروا وجوب تقديم غيره عليه لوجوه أحدها ندرة النّسخ وغلبة غيره والثّاني أنه إذا عارض مع التّخصيص دار الأمر بين رفع اليد عن ظهور العام في العموم ورفع اليد عن ظهور الحكم في التّأبيد أقوى من ظهور العام في العموم كذا قيل وفيه نظر لأنّ ظهور العام في العموم وضعي وظهور الحكم في التّأبيد إنّما هو لإطلاقه وظهور المطلق في جميع الأفراد إنّما هو لحكم العقل بأنّه متى لم يبيّن القيد كان المراد لجميع والظّهور الوضعي أقوى وهو كالبيان للقيد فإذا قال لا تكرم زيدا بعد قوله أكرم العلماء واحتمل التّخصيص والنسخ فإن حملناه على التّخصيص لم يقيد الإطلاق بالنسبة إلى الأزمان وإن حملناه على النّسخ لم يخصّص العام ولما كان ظهور العام في العموم وضعيّا يحمل عليه بمقتضى وضعه ويقيد الإطلاق ولا يعارضه حكم العقل بالإطلاق لأنّه مشروط بعدم القيد فإذا ثبت القيد بالدليل لم يبق حكم للعقل كما قيل بتقديم النّهي في مسألة اجتماع الأمر والنّهي لأنّ دلالته على العموم وضعي ودلالة الأمر عليه إطلاقي الثّالث الأخبار الدالة على عدم وقوع النّسخ في الشّريعة نحو حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة إلخ ونحو حكم الله على الأوّلين والآخرين سواء فمتى ثبت النّسخ بالدّليل فهو وإلاّ بقي تحت الأخبار المذكورة كذا قيل وفيه أنّ المراد في الأخبار إمّا نفي النّسخ الشّريعة نوعا بشريعة أخرى أو نفي نسخ الأحكام الثّابتة للموضوعات وعلى الأوّل لا دخل له بالاستدلال هو ظاهر وعلى الثّاني أيضا كذلك إذ المراد أنّ الحكم الثّابت لموضوع لا يتغيّر بتغير الأزمنة بأن يكون حكم الغائبين مخالفا مع حكم الحاضرين من حيث كونهم غير الحاضرين وأمّا عدم تغيّره بتغيّر المصلحة والمفسدة المغيّرة للموضوع واقعا فلا دلالة فيها عليه فالأحسن هو التّمسّك بندرة النّسخ لما عرفت من أنّ المدار في التّرجيح في المقام على الغلبة ثم إنّهم فصّلوا في تعارض النّسخ والتّخصيص تفصيلا وهو أنّه إن كان الخاصّ مقدّما على العام وجب القول بكون العام ناسخا له ولا يمكن جعل الخاصّ مخصّصا للعام لعدم جواز تقديم البيان على المبين وأورد عليه بجواز تقديم ذات البيان وتأخير وصف المبيّنة وإن كان الخاصّ متأخّرا فإن كان قبل حضور وقت العمل بالعام وجب جعله مخصّصا لعدم جواز النّسخ قبل وقت العمل وإن كان بعده وجب جعله ناسخا لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن وقع العام في كلام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخاص في كلام الإمام ففيه إشكال إذ لا يمكن جعله ناسخا لعدم جواز النّسخ بعد انقطاع الوحي إجماعا ولا مخصّصا لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا

 

يمكن جعله كاشفا عن سبق البيان إذ من البعيد أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّنه وخفي على الجميع إذ المفروض عدم ذكر الخاص في غير كلام الإمام وذكر بعضهم أنه يجوز جعله مخصّصا ونلتزم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة لحكمة اقتضت إخفاء المخصّص عليهم وجعل العموم حكما ظاهريّا لهم إذ لم يكن الفرد المخرج مرادا من العام أوّلا لكن أخفى الخروج لمانع عن إظهاره أو حكمة في ذلك وفيه إشكال الثّاني تعارض التّخصيص والتّقييد وبما ذكرنا من أن ظهور العام وضعي وظهور التّقييد إطلاقي وأنّ الأوّل يقدّم على الثّاني عرفت لزوم تقديم التّقييد على التّخصيص ومثلوا لذلك بقوله تعالى أوفوا بالعقود فإنّ ثبوت الخيار للغبن في الجملة لا إشكال فيه إنّما الخلاف في أنّه فوري أو متراخ فقيل بالثّاني لاستصحاب الخيار وقيل بالأول لدوران الأمر بين جعل الخيار متراخيا وإخراج البيع المغبون فيه عن عموم العقود الواجب الوفاء بها وبين جعله فوريّا وتقييد إطلاق لزوم الوفاء بغير الحالة الآنية المتعقبة بالعلم بالغبن والتّقييد مقدم على التّخصيص فيثبت الفوريّة وبعده لا يجري الاستصحاب لأنّه مناف مع عموم الآية كما عرفت ورده بعض المحققين بأنّ الآية ليست موردا لتعارض التّقييد والتّخصيص لأنّ إطلاق اللّزوم المستفاد من الآية يفيد العموم بالنسبة إلى جميع الأزمان فإن كان العموم المستفاد منه عموميّا مجموعيّا يكون المعنى يجب الوفاء الدائم بكلّ عقد فيكون لكل عقد حكم واحد هو وجوب الوفاء المستمر فإذا ثبت الخيار لبيع المغبون في الجملة فقد ارتفع الحكم المذكور عن هذا العقد إذ لا يجب فيه الوفاء المستمر فيخصّص به عموم العقود سواء ثبت التّراخي أو الفور وحينئذ فيجوز التّمسّك للتّراخي باستصحاب الخيار وإن كان العموم المستفاد منه عموما أفراديّا يكون المعنى يجب الوفاء بكل عقد في كل زمان فيكون لكل عقد أحكام متعدّدة بحسب تعدّد أجزاء الزّمان فوجوب الوفاء في الزّمان الأوّل غيره في الزمان الثّاني فإن قلنا بثبوت الخيار فورا خصّص العموم المذكور بالنّسبة إلى الزمان الأول وإن قلنا بكونه متراخيا خصّص العموم بالنّسبة إلى جميع الأزمان وخصّص عموم العقود أيضا ولا يمكن التّمسك للتّراخي باستصحابه إذ إثبات الخيار في الزمان الثّاني تخصيص آخر يحتاج إلى دليل والحكم الثّابت فيه غير الثّابت في الأول فبارتفاع أحدهما لا يرتفع الآخر وبالجملة الأمر في الآية إمّا منحصر في التّخصيص وذلك إذا قلنا بإفادة العموم المجموعي أو دائر بين تخصيص واحد وأكثر وذلك إذا قلنا بإفادة العموم الأفرادي وعلى الأوّل يمكن استصحاب الخيار دون الثّاني فالمثال الأصحّ لمورد تعارض التّقييد والتّخصيص هو ما إذا تعلق حكم بمطلق وآخر بعام وكان بينهما تناف كما لو قال أكرم العلماء وإن ضربك رجل فلا تكرمه فلا بد إمّا من تقييد الرّجل بغير العالم أو تخصيص العلماء بغير الضّارب لا إذا تعلق حكم مطلق بعام كالآية هذا

 

حاصل ما أفاده والحق أنّ الآية ليست موردا لتعارضهما لا لما ذكره وأن التّمسك بالاستصحاب باطل مطلقا وذلك لأن مقتضى الأمر في الآية هو وجوب الوفاء في الجملة وأمّا الإطلاق المقتضي للعموم فإنّما هو لحكم العقل بأنّه متى لم يذكر القيد فالمراد هو الجميع وأدلّة إثبات الخيار أيضا دالّة على ثبوته في الجملة فلا تعارض بينهما وبين الآية مع قطع النظر عن الإطلاق إذ لا تعارض بين المهملتين كما يقال الحيوان ناطق والحيوان غير ناطق والإنسان ضاحك والإنسان غير ضاحك فعموم العقود سالم عن المعارض ولا وجه لتخصيصه إنّما التّعارض بين إطلاق الآية وأدلّة ثبوت الخيار فيقيد الإطلاق بما ثبت التّقييد فيه وهو الآن الأوّل ويبقى الباقي تحت الإطلاق وبعد ثبوت الإطلاق لا وجه للاستصحاب لأنّه دليل حيث لا دليل وما ذكره الفاضل المذكور من أنه إذا كان المستفاد هو العموم المجموعي جاز الاستصحاب لا وجه له لما عرفت أن العموم هو مفاد الإطلاق بحكم العقل لا بمقتضى اللّفظ فإنّه لا يدلّ إلاّ على نفس الماهيّة وحينئذ إذا ارتفع العموم المجموعي بأدلّة الخيار ارتفع الإطلاق المقتضي له لكن بقي مقتضى اللّفظ وهو وجوب الوفاء في الجملة بعد الآن الأوّل الّذي هو المتيقّن في القيد فيقتضي العقل الإطلاق بعد الآن الأوّل لعدم المقيد وبعد وجود الإطلاق لا معنى للاستصحاب نعم لو قلنا إن بارتفاع الإطلاق بسبب وجود قيد يرتفع مقتضى اللّفظ كليّة لأنّ مقتضاه هو الإطلاق صح ما ذكر لكن ليس كذلك إذ الإطلاق شيء ونفس الماهيّة شيء آخر لا يرتفع بارتفاعه فافهم الثّالث تعارض التّخصيص والمجاز والتّخصيص مقدّم على المجاز سواء كان المجاز في العام أو في غيره إلاّ في الأمر باحتمال إرادة النّدب منه إذ المدار على الغلبة والتّخصيص أغلب من المجاز نوعا إلاّ من استعمال الأمر في النّدب فإنه أيضا لا يقصر عن التّخصيص في الشّيوع ومثال تعارضهما في العام قولك أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم لاحتمال إرادة الجهلاء من العلماء مجازا فلا تخصيص وتعارضهما مع كون المجاز في شيء آخر المقال المذكور إذا احتمل إرادة ولد زيد مجازا وتعارضهما مع كون المجاز في الأمر قوله تعالى فاستبقوا الخيرات لعدم وجوب الاستباق إلى جميع الخيرات فإما يراد بعض الخيرات أو يراد النّدب من الأمر هذا بالنظر إلى ملاحظة المجاز والتّخصيص في نفسه ومع قطع النظر عن خصوص المقامات وإلاّ فقد يوجد مرجح للمجاز وموهن للتّخصيص فيجب تقديم المجاز كما في الآية لضعف التّخصيص فيه بكونه تخصيص الأكثر الرابع تعارض التّخصيص والإضمار ولا شبهة في تقديم التّخصيص لغلبته وما قيل من أنّه لا يخلو كلام عن إضمار لعدم خلوّ النسبة عن زمان ومكان وهما لا يذكران في الكلام غالبا ففي مثل ضربت زيدا أو قام زيد أضمر في الدّار يوم الجمعة مثلا ففيه أن الكلام في الإضمار الّذي يكون مقصودا للمتكلّم وهو نادر جدّا

 

الخامس تعارض التّقييد والمجاز ولا شبهة في تقديم التّقييد إن قلنا بأنّه لا يوجب تجوزا في اللّفظ لوجود أصالة الحقيقة قرينة على إرادة التّقييد مضافا إلى شيوعه وغلبته وإن قلنا بأنّه موجب للتّجوز فالمرجع هو الغلبة وفهم العرف ويمكن ترجيح التّقييد لغلبته كما ذكرنا وبالجملة حكمه حكم التّخصيص إلاّ أن لزوم تقييد الأكثر ليس موهنا هنا لجوازه قطعا وعدم ندرته بل هو أشيع من غيره بخلاف التّخصيص السّادس تعارض التّقييد والإضمار والسّابع تعارض المجاز والإضمار والإضمار مؤخر في القسمين لندرته كما عرفت من أن المراد هو الإضمار المقصود فافهم ثم إن في المقام أمرين يمكن فرض التّعارض بينهما وبين الخمسة المذكورة أحدهما الاستخدام فإذا تعارض مع التّخصيص قدم عليه كما في قوله تعالى والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ لاختصاص استحقاق الرد بخصوص الرّجعيات فالضمير يرجع إلى بعض المطلّقات إمّا بإرادة الرّجعيات من المطلّقات فيكون تخصيصا أو إرادة العموم فيكون استخداما وقد عرفت فيما مضى وجه تقديم لاستخدام لكونه تابعا لا يختلف به المراد من الضمير بخلاف التّخصيص وكذا إذا تعارض مع التّقييد كما لو كان المطلّقة بدل المطلّقات في الآية لما عرفت من التّبعيّة هذا لو قلنا بمجازيّة التّقييد والأقدم على الاستخدام لأن الإطلاق حكم عقلي ناش من عدم ما يصلح قيدا وحمل الضمير على ظاهره وهو عدم الاستخدام يصلح قرينة للتّقييد مضافا إلى غلبة التّقييد وكذا لو تعارض مع النّسخ كالآية لاحتمال ثبوت حكم الرّد لجميع المطلّقات بأن يكون ناسخا للحكم بعدم استحقاق الرّدّ لغير الرّجعيات لأنّ النسخ إمّا تخصيص في الأزمان وذلك إذا كان الدليل الدالّ على ثبوت الحكم المنسوخ عاما بالنّسبة إلى الأزمان وإمّا تقييد فيها وذلك إذا كان مطلقا وقد عرفت وجوب تقديم الاستخدام على التّخصيص مطلقا وعلى التّقييد إن قيل بمجازيّته وكذا إن قيل بحقيقيّته لكن في خصوص هذا القسم من التّقييد أعني النّسخ لندرته وفيه إشكال لندرة الاستخدام أيضا والأمر سهل وهكذا إذا تعارض مع المجاز إمّا في الإسناد كالآية لاحتمال إرجاع الضمير إلى جميع المطلّقات وإسناد الحكم إلى الجميع باعتبار ثبوته للبعض وإمّا في الكلمة كقوله إذا نزل السّماء بأرض قوم دعيناه وإن كانوا غضابا لاحتمال إرادة شربنا من دعينا وذلك لأصالة الحقيقة إن قلنا بمجازيّة الإسناد إلى المجموع باعتبار ثبوت الحكم للبعض وإلاّ فالمدار على الغالب وكذا إذا تعارض مع الإضمار كما في الآية لاحتمال كون التّقدير وبعولة بعضهن لما عرفت من تقديمه على المجاز المقدم على الإضمار الثّاني التّضمين ومثال تعارضه مع المجاز قوله تعالى فليحذر الّذين يخالفون عن أمره حيث عدّي الفعل بعن فإما يقال باستعماله في يعرضون مجازا أو يقال بتضمينه معنى يعرضون وعلى الأوّل

 

لا يدلّ الآية على دلالة الأمر على الوجوب لحرمة الإعراض عن المستحبات أيضا وعلى الثّاني تدلّ على ذلك وبيان ذلك يحتاج إلى بيان حقيقة التّضمين فنقول ذكر بعضهم أنه عبارة عن إرادة المعنى الحقيقي من الفعل مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر فقولنا أحمد إليك الله معناه أحمده منهيا حمده إليك وقيل إنّه عبارة عن إرادة المعنى المجازي بتبعيّة المعنى الحقيقي من اللّفظ وجعله نظير الكناية والحقّ أنه عبارة عن ملاحظة عنوان مقارن مع مدلول اللّفظ في الخارج وإجراء أحكامه على مدلول اللّفظ فإن ترك الامتثال شيء ينتزع منه عنوانان أحدهما المخالفة والثّاني الإعراض والأول يتعدى بنفسه والثّاني بعن والتضمين عبارة عن إجراء أحكام الإعراض على المخالفة لمحض تقارنهما في الخارج ولو في بعض الأحيان فمعنى الإعراض ليس مقدرا ولا مستعملا فيه اللّفظ بل هو ملحوظ لمحض أمر صناعي هو جواز تعديته بعن كما في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد فإن المانع عن الشيء قد يكون مقتضيا لترك ذلك الشيء كالاستكبار في إبليس وقد لا يكون كذلك كما لو كان الشخص مريدا للفعل فمنعه عنه مانع فإتيان لا في الآية للإشعار بأن المانع في إبليس كان مقارنا مع عنوان الداعي إلى الترك فأجري على المانع أحكام الداعي على الترك ولو ترك لا لتوهم أنه كان مريدا للسّجود لكن منعه عنه مانع فافهم فإنّه دقيق حينئذ فالتّضمين حقيقة وليس كناية ولا مجازا في الحذف وحينئذ فيقدم على المجاز عملا بأصالة الحقيقة ولما لم يكن لباقي صور التعارض مورد على الظّاهر لم يكن للتعرض لها وجه ولذا أعرضنا عنها وأمّا تفصيل التعارض بين الشخصين من نوع واحد أعمّ من أن يكون التّعارض في كلمة واحدة أو في كلمتين كأن يكون الأمر دائر بين القول بإرادة المجاز من هذه الكلمة أو الكلمة الأخرى كما في تعارض مفهوم الغاية في قراءة التخفيف في قوله تعالى ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن لدلالته على حلّيّة الوطي قبل الغسل مع منطوق الآية في قراءة التّشديد حيث يدلّ على حرمته قبله فإمّا يقال بعدم إرادة الغاية من كلمة حتّى مجازا في قراءة التخفيف أو باستعمال النّهي في مطلق المرجوحيّة مجازا في قراءة التشديد ولنفرض الكلام أولا في تعارض المجازين فنقول ذكر بعضهم أنّ الضّابط في ترجيح بعض المجازات على بعض واحد من ثلاثة أمور أحدها تبادر أحد المجازات بعد وجود القرينة الصّارفة عن إرادة الحقيقة وذلك إذا كان المجاز المتبادر واحدا وإذا كان متعدّدا احتاج تعيينه إلى وجود القرينة الصارفة عن المجاز الآخر أيضا والأوّل كقولنا رأيت أسدا في الحمام فإن الكون في الحمام قرينة صارفة عن إرادة الحيوان المفترس وأمّا تعيين أن المراد هو الرّجل الشجاع دون البخر فهو لتبادر الشجاع من الأسد بعد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي والثّاني كقولهم لزيد يد عند أوليائه فإن اليد مجاز في النّعمة والقدرة وغيرهما لكنهما المتبادران بعد المعنى الحقيقي من بين

 

المجازات وقولهم عند أوليائه كما يكون صارفا عن إرادة المعنى الحقيقي وهو الجارحة فكذا يكون صارفا عن إرادة القدرة أيضا إذ لا معنى لكون قدرته عند أوليائه فتعيين النّعمة مستند إلى التّبادر بعد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي وعن المعنى المجازي الآخر المتبادر وهو القدرة ثانيها غلبة استعمال اللّفظ في بعض المجازات عند وجود القرينة الصارفة عن الحقيقة إما لكشفها عن تبادر ذلك المعنى أو لأنها مورثة لحصول الظّنّ بالإرادة وهو حجّة ويظهر الثّمرة فيما إذا علم بعدم التبادر فلو قيل بحجيّتها من باب الكشف عن التبادر لم تكن حجّة حينئذ للقطع بعدم التبادر بخلاف ما إذا قيل بحجيّتها لإيراثها الظّنّ بالإرادة لإمكان حصول الظّنّ بها مع القطع بعدم التّبادر ثالثها الأقربيّة الاعتباريّة كنفي الصحّة في التراكيب الموضوعة لنفي الذّات فإنّها أقرب إلى نفي الذات من نفي الكمال قال وهذا أيضا حجة لكشفه عن غلبة الاستعمال فإن الأقربيّة مظنّة الغلبة لانتقال الذّهن بعد عدم إرادة الحقيقة إلى أقرب المجازات غالبا فحجيّة الأقربيّة إنما هي لكشفها عن الغلبة لا لأنها سبب للتّبادر كما قيل نظرا إلى أن الأقربيّة سبب لعدم الانفكاك في التّصوّر وهو معنى التبادر وذلك لأنّه لو كان محض عدم الانفكاك في التّصوّر كافيا وجب حمل اللّفظ الموضوع لأحد المتضائفين على الآخر عند العلم بعدم إرادة الموضوع له فيحمل الأبوّة على البنوّة والعليّة على المعلوليّة لعدم الانفكاك في التّصوّر مع ظهور بطلانه انتهى ملخّص مراده أقول الأولى أن يقال إنّ المعنى للمجاز هو التّبادر أعني ظهور اللّفظ في المعنى المجازي عرفا بعد القرينة الصارفة وهو مسبّب عن غلبة استعمال اللّفظ في ذلك المجاز من بين المجازات وأمّا عن أقربيّة ذلك المجاز إلى الحقيقة فالتّبادر ليس شيئا مقابلا للوجهين الآخرين وجعل غلبة الاستعمال حجة لإيراثه الظّنّ بالمراد لا وجه له إذ لا حجيّة للظّنّ بالإرادة إذا لم يكن ناشئا عن ظهور اللّفظ الذي هو معنى التّبادر كما عرفت سابقا أن فهم الأصحاب ليس جابرا لضعف الدلالة وجعل الأقربيّة كاشفة عن الغلبة دون أن تجعل مستقلة باطل لما عرفت أنها من أسباب التّبادر في نظر العرف ولذا يحكمون بإرادة نفي الصحّة عند وجود القرينة الدالة على عدم إرادة نفي الذات في التراكيب الموضوعة له لأنه أقرب إليه من نفي الكمال والنقض بالمتضائفين فاسد إذ المتضائفان متكافئان وليس أحدهما لازما للآخر والانتقال في المجاز من قبيل الانتقال من الملزوم إلى اللاّزم فإنّ الأبوّة لا تتصوّر إلاّ مقارنا لتصوّر البنوّة نعم ذات الأب مقدم على ذات الابن وهو غير مفيد والحاصل أنّ المعيّن للمجاز ظهور اللّفظ فيه عرفا ظهورا ناشئا عن الغلبة أو عن الأقربيّة ولا يكفي محض الظّنّ بالإرادة إذ لا حجيّة فيه إذا لم يكن سببا للظّهور كما مرّ مرارا أو لا ينافي ذلك ما ذكرنا سابقا من أنّ أقربيّة المعنى إلى المنقول عنه لا يوجب

 

كونه منقولا إليه إذا كان النقل تعيّنيّا وذلك لأنّ النقل مسبوق بغلبة الاستعمال ولو مع القرينة وهي تابعة للحاجة لا للأقربيّة وحاصل الفرق أنّ الكلام هنا أن بدون القرينة يحمل على الأقرب وهناك إنّما هو في جعل المعنى الغالب الاستعمال ولو مع القرينة هو المعنى الأقرب وهو ممنوع والفرق أنّ الأقربيّة يمكن الاستناد إليها في التّعيين عند عدم ذكر القرينة وأما كثرة الاستعمال ولو مع القرينة فهي تابعة لشدّة الحاجة وهي حاصلة في غير الأقرب أيضا ثم إن ذلك في تعارض المجازين في كلمة واحدة ظاهر وأمّا في تعارضهما في كلمتين فلا يثمر أقربيّة أحد المجازين إلى حقيقته دون الآخر في ترجيحه وكذا شيوع استعمال أحدهما في ذلك المجاز بعد القرينة الصارفة عن الحقيقة دون الآخر وذلك لأنّهما يجريان فيما إذا قطع بوجود الصارف عن الحقيقة فيحمل على الأقرب أو الأشيع وهنا ليس كذلك للشّكّ في إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي في كلّ من اللّفظين والقرينة الصارفة إنّما دلت على عدم إرادة الحقيقة في كليهما نعم إذا كان نوع التجوّز في أحد اللّفظين شائعا بالنّسبة إلى التّجوز في الآخر غلبة معتدا بها قدم على الآخر إذ يمكن للمتكلّم التعويل عليها في التعيين فافهم وذكر بعضهم مرجحا آخر في تعارض المجازين وهو ترجيح المشهور أحدهما على الآخر وقد عرفت ضعفه فإن ترجيح المشهور لا يجعل اللّفظ ظاهرا نعم لو حكموا كليّة بترجيح القسم الخاصّ من المجاز على الآخر كقولهم إن التخصيص مقدّم على المجاز كان معتبرا لكشفه عن الظهور المعتبر في مقام تمييز المراد

فائدة

ومن المرجّحات لزوم مخالفة أصل من الأصول اللّفظيّة عند تقديم مجاز بخلاف ما لو قدم الآخر فإنه يقدم الآخر إجراء للأصل المذكور مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمّتي تسعة فإنّ نفي الذّات غير مراد حقيقة فإما يراد نفي خصوص المؤاخذة مجازا أو نفي جميع الآثار وعلى الأوّل لا يلزم مخالفة أصل بخلافه على الثّاني لأنّه حينئذ يثبت أن الشرط والجزء شرط وجزء حال العلم والذكر فيخصّص الأدلّة الدالّة بعمومها على شرطيّة الشرط حال الجهل والنسيان أيضا فيجب القول بتقديم الأوّل عملا بأصالة الحقيقة في تلك العمومات وهذا من باب المثال تقريبا فلا يناقش فيه وهذا نظير ما أسبقنا أن المتشابه يرد إلى المحكم فقوله أكرم العلماء مبيّن لإرادة الجاهل من قوله لا تكرم زيدا إذا كان مشتركا بين العالم والجاهل وهذا لا يتفاوت سواء كان المجازان في كلمة واحدة أو في كلمتين فهل يكون الترجيح للأقلّ مخالفة أو لا وهل يفرق بين ما إذا كانا في كلمة واحدة وما إذا كانا في كلمتين أو لا محلّ إشكال وهذا الكلام جار في تعارض الأصول أيضا إذا كان التّعارض بين أصل وأصلين وقد ذكر بعضهم أنه منشأ للتّرجيح وجعل ذلك وجها لترجيح الأكثر

 

في تعارض الأخبار فإنّه إذا كان في جانب خبر وفي جانب آخر خبران قدم الآخر حيث قال ووجهه أنّ تقديم الخبر على الخبرين موجب لزيادة التّخصيص لأدلّة حجيّة الخبر إذ يخرج عنه خبران بخلاف ما إذا رجح الخبران فيلزم خروج خبر واحد والتّحقيق في المقام يتوقّف على بسط الكلام فنقول الّذي يتوهّم في بادي النظر الفرق بين ما إذا دار الأمر بين أحد المجازين اللّذين يلزم من أحدهما مخالفة الأصل ومن الآخر مخالفة الأصلين وبين ما إذا دار الأمر بين ارتكاب المجاز في كلمة والمجازين في كلمتين آخرين بأن يقال بترجيح الأقلّ في الأوّل لأنّه القدر المتيقّن بخلاف الثّاني مثال الأول قوله تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا إذ ليس المراد الفاسق الحقيقي أعني الخارج عن الطاعة مطلقا لو قلنا بأن ذلك معناه الحقيقي والأمر دائر بين إرادة فاعل الكبائر منه وفاعل مطلق المعصية وعلى الأوّل يكون العادل تارك الكبائر وإن كان فاعلا الصغيرة مثلا وعلى الثّاني يكون العادل تارك مطلق المعاصي فإن رجحنا الأوّل لزم تخصيص الأدلّة النّاهية عن العمل بالظّنّ أكثر مما لو رجحنا الثّاني فإنّ فاعل الصّغيرة يكون قوله حجة على الأول دون الثّاني فالقدر المتيقّن هو خروج تارك جميع المعاصي وأما تارك الكبيرة فقط فمشكوك والأصل عدمه بخلاف ما ليس فيه قدر متيقّن هذا والأولى في المقام تأسيس الأصل الكلي وبيان الضّابط وهو أنه فيما إذا دار الأمر في الخروج عن ظاهر اللّفظ بين قلة الخروج وكثرته فهل يكون القلة مرجحا أو لا ولنفرض الكلام في خصوص التّخصيص بأن كان المخصّص مجملا لا يعلم إخراجه لفرد أو أكثر ليظهر حكم الباقي بالقياس إليه فنقول إن في مسألة العام المخصّص بالمجمل يتصوّر اثنا عشر قسما لأنّ المخصّص إمّا مستقلّ أو غير مستقلّ وعليهما فإمّا أن يكون الإجمال في المراد من المخصّص أو في مصاديقه وعلى التقادير الأربعة إمّا أن يكون الأمر دائرا بين المتباينين أو الأقل والأكثر المتداخلين بأن يكون الأقلّ داخلا في الأكثر أو غير المتداخلين والحق في جميع أقسام المخصّص الغير المستقلّ وهي الأقسام السّتة إجمال العام وعدم جواز التّمسّك بعمومه في مورد الشّكّ فإنّ قوله أكرم العلماء إلاّ الفساق إذا شكّ في المراد من الفاسق مثلا لا يكفي صدق عنوان العالم على زيد مثلا في وجوب إكرامه مع الشّكّ في عدالته لأنّ المخصّص الغير المستقلّ يوجب انحلال الكلام إلى حكمين على عنوانين واقعيين إذ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة فينحلّ الكلام المذكور إلى قضيتين إحداهما يجب إكرام العالم العادل والثّانية لا يجب إكرام العالم الفاسق فإذا شكّ في زيد أنّه عادل أو فاسق فإجراء أحد الحكمين عليه دون الآخر ترجيح بلا مرجح نعم لو ثبت عدالته أو فسقه بأصل من الأصول الشرعيّة

 

جاز إجراء حكمه عليه لكن الكلام في التّمسّك بنفس العموم مع قطع النّظر عن شيء آخر هذا هو الحقّ الحقيق بالتّصديق وقد وقع عن جماعة ما ينافي ذلك فمنه ما قيل إنّ العام ظاهر في كل فرد من الأفراد فإخراج كل واحد محتاج إلى مخصّص فإذا كان المخصّص مجملا فبالنّسبة إلى ما علم تخصيصه له نأخذ به لا بالنّسبة إلى ما لا يعلم وذلك نظير خطابين عامين ومخصّص مجمل علم كونه مخصّصا لأحدهما دون الآخر فذلك لا يوجب إجمال الآخر وفيه أنّ ذلك إنما يتمّ لو قلنا بأن العام ظاهر في كل فرد ظهورا غير ظهوره في الفرد الآخر وليس كذلك بل العام ظاهر بظهور واحد في الجميع فإذا خصّص ارتفع هذا الظهور وصار ظاهرا في تمام الباقي فإذا كان المخصّص مجملا كان الباقي غير معلوم فلا معنى للتّمسّك بالظّهور والقياس بالخطابات المتعدّدة قياس مع الفارق لتعدد الظهور هناك بخلاف العام بالنّسبة إلى الأفراد ومنه ما يظهر من بعضهم من أنّ عنوان العام مقتض للحكم وعنوان الخاصّ مانع فإذا أحرز المقتضي وشكّ في المانع نفي بالأصل فإذا علم علم زيد وشكّ في فسقه ارتفع بالأصل ويظهر ذلك من الشّهيد الثّاني رحمه‌الله حيث حكم بقتل الخنثى لو ارتد عملا بعموم قوله من ارتد عن دينه فاقتلوه للشّكّ في وجود المانع أي الأنوثيّة ومن المحقّق الكركي حيث حكم بلزوم العقد المشتبه المردّد بين العقد الجائز واللاّزم عملا بعموم قوله أوفوا بالعقود وفيه أولا أن عنوان العام لا دليل على كونه مقتضيا لجواز أن يكون المقتضي مختلفا بالنّسبة إلى كلّ فرد ولكن لمّا كان العنوان العام جامعا لتلك الأفراد جعله موضوعا للحكم كما لو قال أكرم من في الدار فإنّ الكون في الدار ليس مقتضيا للإكرام بل المقتضي كونهم ضيفه أو صديقه أو كليهما وغير ذلك ولذا ذكروا أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليّة وليس إلى حدّ الدلالة المعتبرة وثانيا أنّ كون الخاص مانعا ممنوع إذ لعلّ العنوان المناقض لعنوان الخاصّ كالعدالة في المثال المذكور يكون شرطا لاقتضاء المقتضي فقبل إحراز وجوده لا معنى للتّمسّك بوجود المقتضي وثالثا أنه على فرض تسليم جميع ذلك لا نسلّم جواز نفي المانع بالأصل كليّة إذ قد لا يكون المانع مسبوقا بالعدم ورابعا أنّ موضع الكلام هو إذا لم يمكن تعيين عنوان الخاصّ أو عدمه بالأصل والنزاع إنّما هو في جواز التّمسّك بالعام نفسه وقد علم عدم جوازه فالتّمسّك بأصالة عدم المانع خروج عن موضع النزاع فتأمّل ومنه ما ذكره شريف العلماء بيانا للثّمرة بين القول بأنّ العام المخصّص حقيقة بأن يكون مستعملا في العموم ويكون الإخراج من الحكم والقول بأنه مجاز بأن يكون مستعملا في الباقي وحاصله أنه لو كان حقيقة أمكن التّمسّك بأصالة عدم إخراج الأكثر إذا كان المخصّص مجملا مردّدا بين الأقل والأكثر فيحكم بشمول الحكم للفرد المشكوك إذ العام مستعمل في العموم ومقتضي نسبة الحكم إليه نسبته إلى جميع أفراده حقيقة فإذا تحقق المخرج

 

حكم بخروجه عن متعلّق الحكم وإذا شك في إخراج فرد فالأصل عدمه فيبقى تحت متعلّق الحكم ولا يعارض بأصالة عدم تعلق الحكم به لأنّ أصالة عدم الإخراج وارد على الأصل المذكور وبعد ثبوت عدم الإخراج يترتّب عليه تعلّق الحكم به ولو كان مجازا لم يمكن ذلك لأنّ العام حينئذ مستعمل في الباقي وهو مشكوك لإجمال المخرج لا يقال إنّ الإخراج مقطوع به إنّما الشّكّ في تعدّد المخرج ووحدته وتعدد المخرج لا يوجب تعدّد الإخراج فلا معنى لإجراء أصالة عدم الإخراج على فرض كونه حقيقة لأنّا نقول ليس المراد إجراء أصالة العدم في نفس الإخراج بل نجريها في لوازم تعدد المخرج فإنّ لازم ذلك ارتفاع الحكم الوارد على العام عن الفرد الزائد والأصل عدمه كما إذا شكّ في وقوع الضّربة الواحدة على زيد أو عليه وعلى عمرو فلا يمكن إجراء أصالة عدم تعدّد الضرب لأنّ وحدته متيقّنة ولا يتعدد بتعدد المضروب لكن يتمسّك في إثبات وحدة المضروب باستصحاب حياة عمرو هذا وفيه أن أصالة عدم ارتفاع حكم العام لا معنى له هنا لما عرفت أنّ المدار في الحمل على المعنى هو الظهور عرفا والعام المتعقب بالمجمل مجمل عرفا لا ظهور له ولو سلم فالفرق بين القول بالحقيقيّة والمجازيّة لا وجه له إذ على فرض المجازيّة أيضا قد استعمل كلمة إلاّ مثلا في الإخراج الصوري كما في صورة الحقيقيّة إذ ليست مهملة قطعا غاية الأمر أنّه ليس إخراجا عن المراد بل هو إخراج عن المدلول اللّغوي للّفظ العام ومراد المتكلّم هو ما بقي تحت المدلول بعده الإخراج وحينئذ فإذا شكّ في تعدّد المخرج وقلته فليتمسّك بأصالة عدم التعدّد ويحكم بأنّ الباقي هو الأكثر كما في صورة كونه حقيقة ومستعملا في العموم نعم لو قيل إنّ كلمة الأقربيّة على التخصيص ولم تستعمل في معنى أصلا كان لما ذكره وجه لكن ليس كذلك هذا الكلام في أقسام المخصّص المتّصل أمّا أقسام المنفصل فالحكم الحكم أي الإجمال في خمسة منها وهي ما عدا ما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر المتداخلين عند الشّكّ في المفهوم أما في التباينين مصداقا ومفهوما وكذا الأقل والأكثر المتباينان مطلقا فالقول بأن ترجيح الخبرين على الخبر الواحد إنّما هو من هذا الباب لا وجه له بل هو بقوة الظّنّ في جانب الكثرة وأما المتداخلان في الشبهة المصداقيّة فلأن العام قد خصّص بعنوان معلوم إنما الشّكّ في المصداق وظاهر أنّ عنوان العام أو الخاص لا يعيّن المصداق نعم لو عيّن بأصل من الأصول عمل به فإنّ قوله أكرم العلماء ولا تكرم الفساق لا يدلّ على وجوب إكرام زيد العالم إذا شكّ في فسقه نعم لو ثبت عدم فسقه بالأصل مثلا وجب إكرامه وأما المتداخلان في الشبهة المفهوميّة فذكر بعضهم أنه يمكن نفي الزائد بالأصل أخذا بظاهر العام فإنّ العام حينئذ له ظهور في الجميع لتمام الكلام فإذا تعارض معه المخصّص رفع اليد عن الظهور بقدر ما ثبت المعارضة فيه وهو القدر المتيقّن وأورد عليه بوجهين أحدهما أنّه

 

لا فرق في ذلك بين المتّصل والمنفصل فإن رفع اليد عن ظهور العام في المتّصل إنّما هو لمعارضة القرينة فليأخذ بقدر ما ثبت المعارضة فيه وفيه أن المدار في الفرق هو فهم العرف حيث يحكمون بالإجمال وعدم المعارضة في المتّصل دون المنفصل فالعام لا ظهور له عرفا عند تعقبه بالمجمل بخلاف ما إذا لم يتعقب به بل ذكر منفصلا والحاصل أنّ العام وإن كان ظاهرا في العموم إلاّ أن تعقبه بالمجمل يوجب رفع الظّهور لا أنه ليس ظاهرا قبل تمام الكلام بل هو ظاهر قبله ولذا إذا مات الموصي في أثناء الوصية اتبع ما أوصى به ولم يعتبر باحتمال أنّه لو لم يمت لعقّبه بمخصّص مثلا ولقائل أن يمنع فرق العرف وادعاء أنهم يعدّون العام المخصّص بالمجمل في عداد المجملات مطلقا والثاني أنّ المخصّصات المنفصلة كاشفة عن سبق المخصّص المتّصل إذ لو لم يقترن المخصّص بالعام استلزم الإغراء بالجهل غالبا لتفرق المخاطبين ولا يمكن استماعهم بخطاب واحد فلا بدّ من النّقل لهم فربما نقل لبعضهم العام بدون المخصّص وهو إغراء بالجهل بخلاف ما لو اقترن بالعام إذ من ينقل العام حينئذ ينقل المخصّص أيضا لتقارنه معه وفيه أوّلا أنّه يكفي في رفع الإغراء بالجهل اقتران المخصّص بالعام وأما كونه هو المخصّص المجمل فلا فلعلّه هو القدر المتيقّن فإذا قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم الفسّاق فهو يكشف عن سبق المخصّص ويكفي فيه أن يقترن بالعام قول إلاّ فاعل الكبيرة وأما كونه هو المخصّص المجمل فلا وثانيا أنه إنّما يكشف عن سبق المخصّص المقترن وهو يصدق باقتران العام بالمخصّص المنفصل إذ المراد بالمنفصل هو المستقل لا المتأخر زمانا فلم يدل على سبق المخصّص المتصل بمعنى غير المستقل والثمرة بين القول بإجمال العام بسبب المخصّص المنفصل وعدمه يظهر في أمور منها إذا ذكر عامان عقب أحدهما بمخصّص مجمل وكان ذلك المخصّص بالنسبة إلى الآخر منفصلا كما إذا قال حينئذ لا يجوز الصّلاة في النّجس ثم قال لا يجوز الصّلاة في الدّم إلاّ إذا كان دون درهم والدّرهم مجمل المقدار فإن قلنا بعدم إجمال العام نحكم بأن الدّرهم هو المقدار الأقل عملا بعموم قوله لا يجوز الصّلاة في النّجس وإن قلنا بإجماله فلا إذا عرفت ذلك علمت أن كون أحد المجازين أقلّ مخالفة للأصل من الآخر ليس مرجحا نعم لو كان أحدهما مخالفا للأصل والآخر غير مخالف أصلا كان التّرجيح لغير المخالف وكذا إذا دار الأمر بين المجاز والمجازين إذ لا قدر متيقن في البين فعدم التّرجيح فيه أولى إلاّ أن يكون التّرجيح للأقل في نظر العرف فيتبع هذا وإن لم يمكن ترجيح أحد المجازين بالأمور المذكورة وجب التّوقّف والرّجوع إلى الأصول العملية على حسب مقتضى المقامات وبالجملة المدار في الحمل على المجاز هو الظّهور بسبب التّبادر أو موافقة الأصل وإن لم يكن فالتّوقف والرّجوع إلى الأصل العملي ولك أن تقول إنّ المرجح هو التّبادر فإن لم يكن فالتّوقف والرّجوع إلى الأصل

 

اللّفظي إن وجد وإلاّ فالأصل العملي والفرق أن الأصل اللّفظي يكون مرجحا على الأول ويكون مرجعا على الثاني وكذا في سائر أقسام التّعارض بين الوجوه المذكورة المرجح هو الظّهور ويعلم التّفصيل بالقياس إلى المجاز فإن لم يكن فالرّجوع إلى الأصل فما قيل إنّه عند عدم التّرجيح يجب تأويل أحدهما ليجمع مع الآخر ومقتضاه التّخيير إن لم يكن لتأويل أحدهما مرجح لا وجه له فإن حمل الخطاب على ما ليس ظاهرا فيه عرفا فاسد منهي عنه فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فإن كلام الشّارع نازل على طريق العرف وليس بناؤهم في مقام إفهام المقاصد بالألفاظ إلاّ على ما كان ظاهرا في المراد فالحمل على خلاف الظّاهر من دون قرينة خلاف القاعدة

خاتمة

ما ذكر في المبحث إنّما هو في تعارض الأحوال التي يختلف بها المراد بدون اختلاف حال اللّفظ بها وهناك يختلف بها حال اللّفظ يقع التّعارض بينها وهي المجاز والاشتراك والنّقل فقد تقع التّعارض بينها بنفسها وقد يقع التّعارض بين واحد منها وبين واحد من الوجوه التي تختلف بها حال المراد ولكل مقام يجب التكلّم فيها الأول في تعارض واحد من هذه الوجوه مع تلك الوجوه كتعارض النّقل والإضمار في قوله تعالى وحرم الرّبا إذ لو كان الرّبا منقولا إلى العقد لم يحتج إلى إضمار وإلاّ بأن كان باقيا على معناه اللّغوي وهو الزّيادة احتاج إلى إضمار الأخذ وكتعارض الاشتراك والنّسخ فيما إذا قال ليكن ثوبك جونا ثم قال لا يكن ثوبك أسود فإن كان جون مشتركا بين الأسود والأبيض لا يكون الخطاب الثاني نسخا وإن كان مختصا بالأسود كان نسخا وهكذا ولا يخفى أن الشّكّ في تحقق الإضمار والنّسخ وغيرهما سبب في المقام عن الشّكّ في حال اللّفظ من الاشتراك والنّقل مثلا فلا تعارض بينهما بل يجب أولا استعلام حال اللّفظ من الأدلّة فإن ثبت عدم الاشتراك وعدم الفعل بالأصل مثلا ترتب عليه النّسخ والإضمار قهرا ولا يعارضه أصالة عدمهما لتبعيتهما وهو ظاهر الثاني في تعارض بعض هذه الوجوه مع بعض أما المجاز والاشتراك فقد مضى البحث فيه سابقا وأما الاشتراك والنّقل فيتصور التّعارض بينهما بوجوه منها أن يعلم اللّفظ معنى في اللّغة ومعنى في العرف ويشك في أن المعنى العرفي كان في اللّغة حتى يكون اللّفظ مشتركا في اللّغة أو لا بل هو حادث حتى يكون منقولا ولا شبهة في تقديم النّقل هنا لأصالة عدم الاشتراك وتأخر الحادث ولا يعارض بأصالة عدم النّقل لأنه إنّما يجري فيما إذا وجد المعنى في العرف وشك في اتحاده مع المعنى اللّغوي فيحكم بالاتحاد حذرا من تعدد الحادث وأما فيما نحن فيه فلا للقطع بتعدد المعنى إنّما الشّك في سبق التّعدد وعدمه فالأصل عدمه ومنها عكس هذه الصّورة وهو أن يشكّ في بقاء المعنى اللّغوي في العرف حتى يكون مشتركا

 

في العرف وهجره حتى يكون منقولا ويجب هنا تقديم الاشتراك استصحابا للمعنى اللّغوي إلاّ أن يدعى أن الغالب في الأوضاع المستحدثة هجر المعنى السّابق فإن أفادت الغلبة ظنا فهو وإلاّ فلا حجيته فيها ومنها أن يكون في العرف له معنيان وشك في كونهما معنى اللّفظ في اللّغة وعدمه بأن كان في اللّغة له معنى غير هذين المعنيين ونقل إليهما والاشتراك مقدم هنا لأصالة عدم الوضع للمعنى الثالث ولأصالة عدم النّقل ولا يعارض بأصالة تأخر الحادث وهو الوضع للمعنيين لأنها إنّما تجري فيما إذا لزم من عدم إجرائها تعدد الحادث وهنا يلزم من إجرائها تعدد الحادث أعني الوضع للمعنى الثالث والهجر عنه والوضع للمعنيين بخلاف ما إذا لم تجر إذ لا يلزم إلاّ الوضع للمعنيين ومنها عكس ذلك بأن يشك في بقاء المعنيين الثابتين في اللّغة في العرف وهجرهما وحدوث الثالث ولا شبهة في استصحاب المعنيين وإجراء أصالة عدم الوضع للمعنى الجديد ويمكن فرض التّعارض في صور آخر يعلم حكمها مما ذكرنا وأما المجاز والنّقل فيقدم المجاز لغلبته وندرة النّقل

فرع

قد يقع التّعارض بين شخصين من نوع واحد من هذه الأنواع كالنّقلين والاشتراكين والمجازين وقد علم حكم تعارض المجازين وأمّا تعارض النّقلين فقد مضى أنه إذا دار الأمر في المنقول إليه بين شيئين وكان أحدهما أقرب إلى المنقول منه كان مقدما على ما قيل لكن فيه تفصيل إذ النّقل إمّا تعييني أو تعيّني فإن كان تعيينيا فلا ترجيح وإن كان تعيّنيّا فذكر بعضهم أنه يرجح الأقرب لأن النّقل التّعيّني مسبوق بغلبة الاستعمال في المعنى المجازي وأقرب المجازات معتبر في الحمل عليه والحق أن يقال إنّ الأقرب إن كان بحسب الاعتبار والذّات فليس مرجحا وإن كان من حيث كثرة الاستعمال فحق لما ذكر أن النّقل مسبوق بغلبة الاستعمال فيحصل الظّنّ بأن المعنى الغالب الاستعمال هو المنقول إليه لبعد النّقل إلى المعنى الذي يندر الاستعمال فيه وهجر المعنى الذي شاع الاستعمال فيه والنّقل مسبوق بالغلبة ولذا قيل إن الصّلاة مثلا لو كانت حقيقة في الصّحيح أو الأعم في عرف المتشرعة حمل عليه كلام الشّارع عند وجود القرينة الصّارفة عن المعنى اللّغوي لكشف النّقل عن غلبة الاستعمال السّابق وأمّا الأقربية الاعتبارية فلا تكفي في النّقل لاحتياج النّقل إلى كثرة الاستعمال المسببة عن الاحتياج إلى بيان المقصود وقيل إنه إذا دار الأمر بين النّقل من الكلي إلى الفرد والنّقل من المباين إلى المباين قدّم الأوّل لغلبته وقد مر أنه لا يخلو عن إشكال وإذا دار الأمر بين نقل المادة ونقل الهيئة وكذا مطلق التّصرف في أحدهما بارتكاب خلاف الظّاهر قدّم التّصرف في المادة للاستقراء إلاّ في الأمر فالتّصرف في هيئته أكثر وهذا أيضا لا يخلو عن إشكال وإذا دار الأمر بين النّقل إلى العام والنّقل إلى الخاص فلا ترجيح إلاّ للغالب كالرّبا إن علم نقله إلى العقد وشكّ في أن المنقول

 

إليه هو مطلق العقد أو خصوص عقد البيع وبالجملة المدار في الجميع على الظّنّ الحاصل من الغلبة ولا ضابط كلي سواها وأمّا تعارض الاشتراكين فيظهر المدار فيه بملاحظة ما سبق

خاتمة تتضمن مطالب

الأوّل في تعارض الحقيقة مع المجاز المشهور

فقيل بتقديم المجاز وقيل بتقديم الحقيقة وقيل بالتّوقّف ونسب إلى المعروف وربما ظهر من بعضهم منع إمكان تحقق المجاز المشهور نظرا إلى أنهم عرفوا المجاز المشهور بأنه المجاز الذي بتبادر من اللّفظ بملاحظة الشّهرة وهذا غير معقول إذ التّبادر عبارة عن خطور المعنى بالبال وهو مقارن مع ملاحظة الشّهرة لا أنّه يحصل بها إذ المراد بملاحظة الشّهرة ملاحظة غلبة استعمال اللّفظ في المعنى لا مطلق الشّهرة فملاحظة الشّهرة عين ملاحظة المعنى فالمجاز الذي يتبادر بسبب ملاحظة الشّهرة غير معقول فإن ملاحظة الشّهرة مقارن مع خطور المعنى فلا يتصور خطور مسبب عن ملاحظة الشّهرة وإلاّ لزم تحصيل الحاصل وفيه أوّلا أن التّبادر عبارة عن خطور المعنى بعنوان أنه مراد لا محض الخطور كما عرفت وحينئذ فيمكن كون التّبادر مسببا عن ملاحظة الاشتهار وثانيا أنه على فرض تسليمه لا يضر بما نحن فيه إذ النّزاع هنا إنّما هو في أن غلبة الاستعمال في المجاز تكون قرينة على إرادة المجاز أو لا وإن لم يكن هناك تبادر وقد عرفت أن فيه أقوالا واستدل الأوّلون بالاستقراء فإنّه إذا كان الغالب استعمال اللّفظ في المعنى المجازي وجب إلحاق الاستعمال المشكوك بالغالب ورده الآخرون بأنّ المشكوك ليس من صنف المستقرإ فيها فإن الموارد التي استعمل فيها اللّفظ في المعنى المجازي كانت مقترنة بالقرينة فإلحاق الاستعمال المجرد عن القرينة بتلك الموارد لا وجه له يجب إلحاقه بصنفه المجرد عن القرينة والغالب فيه الاستعمال في الحقيقة إمّا في نفس ذلك اللّفظ إذا كان له استعمال متعدد مجرد عن القرينة وإمّا في نوع اللّفظ الموضوع فإن الغالب في الألفاظ الموضوعة المجردة عن القرينة إرادة الحقيقة وأيضا لو كان غلبة الاستعمال موجبا لصرف اللّفظ عن الحقيقة لوجب حمل اللّفظ الموضوع للعموم على الخصوص لكون العام مجازا راجحا فيه حتى أنه قيل ما من عام إلاّ وقد خص ولا ريب أن استعمال كل فرد من العمومات في الخصوص أكثر مع أنا نراهم أطبقوا على وجوب عمل ألفاظ العموم على العموم إلاّ عند قرينة التّخصيص ومما يوضح ذلك أنهم قد ذكروا أن أغلب لغة العرب مجازات ومع ذلك لا يحملون اللّفظ المجرد عن القرينة على المعنى المجازي للغلبة المذكورة وليس ذلك إلاّ لأنّ حجية أصالة الحقيقة على الغلبة المذكورة ثم إنّهم استدلوا على تقديم الحقيقة بالاستصحاب وهو يقرر بوجوه أحدها استصحاب وجوب حمل اللّفظ على المعنى الحقيقي الثابت ذلك الوجوب قبل الوصول إلى

 

إلى حد الاشتهار الثاني استصحاب ظهور اللّفظ في المعنى الحقيقي والثالث استصحاب عدم وجود القرينة لا عدم كون الشّهرة قرينة إذ ليس لها حالة سابقة حتى يستصحب الرّابع استصحاب عدم التفات المتكلّم إلى الشّهرة إذ في إرادة المجاز يجب الالتفات إلى القرينة لعدم إمكان إرادة المجاز بدون الالتفات إلى القرينة وهو مشكوك فيستصحب عدمه وتحقيق المرام يحتاج إلى تطويل الكلام فنقول يتصور النّزاع في مقامات ثلاثة أحدها في أن الشّهرة هل تكون قرينة للمجاز أو لا والثاني في أنه إذا لم يمكن تعيين كونها قرينة ولا عدمه بأن شك في ذلك فالمرجع ما ذا والثالث أنه إذا علم أن المرتبة الفلانية من الشّهرة تكون قرينة وشك في بلوغ الاستعمال الخاص إلى تلك المرتبة فالعمل على أي شيء ويظهر من أدلة النّافين وبعض أدلة المثبتين كالاستقراء والنّقض بالعام وهو الظّاهر من كلامهم أن النّزاع في المقام الأول وحينئذ فلا وجه للتمسّك بالاستصحاب لأنه مرجع عند الشّك ويرجع الكلام فيه إلى المقام الثاني فلنقدم الكلام فيه ونقول الحق فيه وجوب التّوقّف لما مر مرارا أن المدار في دلالة الألفاظ وتعيين المراد على الظّهور بمعنى كون الكلام مع ما يكتنفه من اللّواحق والأحوال ظاهرا في المعنى وهو مفقود في المقام فلا مجرى لأصالة الحقيقة فيه لما عرفت أنّ المدار على الظّهور وبهذا أظهر الجواب عن وجوه الاستصحاب المدعى في المقام لعدم إفادتها الظّنّ مضافا إلى أن الاستصحاب بين الأولين لا معنى لهما أصلا أعني استصحاب وجوب الحمل على الحقيقة واستصحاب الظّهور لأن الموضوع فيهما هو اللّفظ المستعمل المجرد عن القرينة ومع الشّك في كون الشّهرة قرينة لا يعلم باتحاد الموضوع الذي هو شرط في الاستصحاب وأما المقام الأوّل فالحق فيه التّفصيل وذلك أن المجاز يحتاج في بدو الاستعمال إلى قرينتين صارفة ومعيّنة ثم قد يكثر الاستعمال فيه إلى أن ينتقل الذّهن إلى المعنى المجازي في الجملة لكن انتقالا ضعيفا لا يصلح صارفا عن الحقيقة فيحتاج أيضا إلى القرينتين ثم قد يبلغ الكثرة إلى حد لو وجد القرينة الصّارفة عن الحقيقة لتعين ذلك المجاز من بين المجازات فيحتاج إلى القرينة الصّارفة دون المعيّنة وقد تبلغ إلى حد يتردد الذّهن بينه وبين الحقيقة فيصير اللّفظ مجملا كالمشترك فيحتاج إلى إرادة كل منهما إلى القرينة المعيّنة وقد يقوى الكثرة إلى حد يترجح المجاز وتكون الشّهرة بنفسها صارفة معيّنة والحكم في هذه المراتب ظاهر وليس هناك مثال واقع في الخارج للمجاز المشهور حتى ينظر فيه أنه في أي مرتبة من المراتب هذا هو الذي يقتضيه التّحقيق ويجب تنزيل الخلاف في المقام والجمع بينها يجعل اختلافهم ناظرا إلى المراتب المذكورة وأما ما استدل به القائلون بترجيح الحقيقة من رد الاستقراء بأن المشكوك ليس من جنس المستقرإ فيه فقد ظهر فساده لأنّ الشّهرة أمر مفيد للظّنّ بالإرادة فتكون قرينة فيكون من جنس المستقرإ فيه

 

إذ لا يجب وجود شخص القرينة الموجودة في أفراد المستقرإ فيه لاختلافها بالنسبة إلى كل واحد ففي بعضها حالية وفي بعضها مقالية ونحو ذلك وكذا النّقض بعدم حمل الألفاظ على المجاز مع قولهم إن أغلب لغة العرب مجازات إذ لا نسلم أن الاستعمال في المجاز أغلب بل المراد من تلك العبارة أن المعاني المجازية أكثر من المعاني الحقيقيّة ذاتا لا استعمالا وكذا النّقض بعدم حمل العام على الخصوص مع قولهم ما من عام إلاّ وقد خص إذ هو أي عدم حملهم على الخصوص ممنوع في العمومات الواردة في الشّرع الذي ورد العبارة المذكورة فيها وذلك أنه لم يوجد في الشّرع عام مشكوك التّخصيص حتى يتمسك بأنهم حملوه على العموم نعم هو مسلم في العمومات العرفية ولكن العبارة المذكورة لم يرد فيها فإن أكثر العمومات العرفية غير مخصصة مثل كل إنسان حيوان وأشباهه وربما يجاب أيضا بأن الحمل على العموم إنّما هو لأن التّخصيص الغالب هو نوع التّخصيص لا مرتبة معينة منه فلذا لم يعبئوا بهذه الغلبة وهو فاسد إذ لا فرق بين الغلبة النّوعية والشّخصية في وجوب الأخذ بها فيقال بأن اللّفظ قد استعمل في الخصوص ويكون كالمخصّص بالمجمل بالنسبة إلى مراتب التّخصيص حينئذ ومما بينا ظهر الحكم في المقام الثالث إذ يمكن فيه إجراء الاستصحاب إن أفاد الظّنّ ولا فائدة في البحث فيه لما ذكر من عدم وجود مثال مخصوص في المقام

المطلب الثاني قد ذكروا أنه إذا تعلق الحكم بمطلق انصرف إلى الفرد الشّائع منه

وأنه إجماعي ولا خلاف فيه نعم قد نسب إلى السّيّد المخالفة فيه وليس كذلك لما سيتضح لك إن شاء الله في مقامه أنه مقام آخر وأن السّيّد يقول إذا قام الإجماع على اتحاد حكم الفرد النّادر مع الشّائع كان ذلك قرينة على إرادة الطّبيعة اللابشرط من المطلق وقال غيره إنه إنّما يثبت به اتحادهما في الحكم لا في الإرادة ويظهر الثمرة في إلحاق الفرد النّادر الذي لم يقم عليه الإجماع بما قام عليه الإجماع عند السّيد لإرادة الطّبيعة اللابشرط الشّاملة للجميع وعدم الإلحاق عند غيره لعدم إرادة غير الفرد الشّائع وبنى السّيّد على ذلك جواز التّطهير بالمضاف تمسكا بإطلاق الغسل الذي أقيم الإجماع على جوازه بماء النّفط والكبريت الذي هو فرد نادر كالغسل بالمضاف ثم إنه ربما يدعى التّناقض بين الإجماع المدعى في المقام والخلاف في المجاز المشهورة نظرا إلى أن المناط هو صيرورة الشّهرة معينة للمراد وعدمه فإن كانت معينة فلا تفاوت في المقامين وإلاّ فلا فيهما فما وجه الفرق وليس الفرق كون المطلق حقيقة في الفرد لما ذكرنا أن المناط واحد وهو كون الشّهرة قرينة ولا بد لتحقيق المقام من ذكر وجه الانصراف المذكور حتى يظهر المرام فنقول قد ذكر في وجهه وجوه منها ما ذكره الشّريف ره وهو أن المطلق موضوع للطبيعة وسراية الحكم إلى جميع الأفراد متوقّف على التفات المتكلّم إلى الجميع فإذا كان بعض الأفراد نادرا فإما يعلم عدم التفات المتكلم إليه أو يشك فيه فيحمل على القدر

 

المتيقّن يعني الأفراد الشّائعة وعلى أي تقدير يتعلّق بالأفراد الشّائعة دون النّادرة لعدم التفاته إليه أو للشّكّ فيه أخذا بالمتيقّن والحاصل أنّ المراد معلوم وهو الطّبيعة والسّراية إلى الأفراد مرددة بين الجميع والأفراد الشّائعة فتحمل على المتيقّن عند الشّكّ قال ويدل على أنّ المراد منه معلوم لا مجمل أنّه لو كان مجملا بأن كان الشّكّ في أنّ المراد هو الطّبيعة أو الأفراد الشّائعة وكان الحمل على الأفراد لكونه قدرا متيقّنا لكان في كلامهم التّناقض حيث اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة واتفقوا على عدم وجود البيان في المطلق الّذي كان له فرد شائع فلو كان مجملا لناقض الخلاف في ذلك الإجماع هنا لا يقال إنّ الخلاف في وجوب البيان إنّما هو في المجمل الّذي لم يكن له قدر متيقّن لأنّا نقول إن أريد القدر المتيقّن من حيث الإرادة فهو في المقام مفقود إذ الطّبيعة غير الأفراد المخصوصة وإن أريد المتيقّن في العمل فهو موجود في جميع المقامات كالمشترك مثلا فإنه يقطع فيه بالامتثال بإتيان جميع المحتملات وباب الاحتياط واسع ومنها ما ذكره الشّريف أيضا وهو أنّ الشّيوع إما استعمالي أو وجودي وعلى الأول فشيوع الاستعمال إمّا يجعل الفرد ظاهرا فينصرف إليه إذ المدار في مباحث الألفاظ على الظّهور وإمّا يكون مجملا فيؤخذ بالشائع أخذا بالمتيقّن وعلى الثّاني فشيوع وجود فرد سبب لحضوره في الذّهن فينصرف إليه فيكون الفرد النّادر نازلا منزلة المعدوم في عدم سراية الحكم إليه والمطلق إنّما يسري حكمه إلى أفراده لا إلى غير فرده فإذا نزل النّادر منزلة غير الفرد لم يكن للسّريان إليه معنى هذا حاصل ما أفاده رحمه‌الله وكلا الوجهين محل نظر وذلك لأنّ الطّبيعة الّتي هي المقسم لا يتصوّر جعلها موضوع الحكم لأنّها أعم من اللابشرط والمشروط بل لا يكون الموضوع إلاّ الطّبيعة اللابشرط أو المشروط ومتى لم تقيد وجب كونها مطلقة وهي موجودة في جميع الأفراد فيسري إلى الجميع كما اعترف به في مبحث العام والخاص والحاصل أن الالتفات لا مدخل له في السّراية وأمّا ما ذكره من أنّ الفرد النّادر بمنزلة المعدوم ففاسد من وجهين أحدهما أنّ الفرد المعدوم أيضا يكون متعلّق الحكم قطعا لعدم اختصاص الأحكام بالأفراد الموجودة غاية الأمر أنها محكومة بالأحكام الثّانية والثّاني وجود الفرق بين النّادر والمعدوم لوجوده وصحة تعلّق الحكم به فعلا فالتحقيق أن وجه الانصراف منحصر في أن يكون هناك قرينة مقيدة إمّا صارفة إن كان استعمال الكلي في الفرد بطريق التّجوز أو مفهمة إن كان بطريق الحقيقة لما ذكرنا من أنّها ما لم تقيّد لم يكن لاختصاصها ببعض الأفراد معنى فالشّأن إنّما هو في إثبات أنّ شيوع الاستعمال في فرد هل يصلح للتّقييد بالنّسبة الغير المقرونة بالقرينة أو لا وأن شيوع وجود فرد هل يكون قرينة لإرادته من اللّفظ أو لا فيقع الكلام في مقامين أحدهما أنّ الشّيوع الوجودي هل يكون قرينة ولا فنقول إنّه لا تلازم

 

بين شيوع الوجود وكونه قرينة إذ غاية ما يقال في وجهه إنّ الفرد الشّائع لحضوره في الذّهن ينصرف الذّهن إليه وهذا لا يكفي في إرادة الفرد بخصوصه لما نرى في العرف غالبا من إرادة الطّبيعة المطلقة مع وجود الفرد الشّائع وإنما يقصد الفرد الشّائع لا لخصوصية فيه بل لاتحاده مع الطّبيعة ويكون المقصود هو الطّبيعة نعم يمكن أن يقال إن هذا إنما يتم إذا قلنا إنّ العموم المستفاد من المطلق المتواطي إنّما هو للسّراية فإنّه حينئذ لا بد من السّراية إلى جميع الأفراد وليس كذلك بل هو ثابت بدليل الحكمة وبيانه أنّ الطّبيعة لا تكون موضوعا للأحكام الشّرعيّة التّابعة للمصالح والمفاسد لأنّ وجود المصلحة في الطّبيعة ليس ملازما لوجودها في فرد من الأفراد فضلا عن جميع الأفراد غاية الأمر أنّ الطّبيعة تكون مقتضية لتلك المصلحة وفعليّتها في الأفراد متوقّف على عدم وجود المعارض والمانع ولذا قيل إنّ نحو الرّجل خير من المرأة لا ينافي مع خيرية كل فرد من أفراد المرأة من كل فرد من الرّجل ومن المذكور في الكتب أنّ القضايا الطّبيعيّة لا يبحث عنها في العلوم لأنها لا فعليّة لها وإنّما يبحث في العلم عما كان له فعلية مضافا إلى أنّ الأحكام الشّرعيّة لم تتعلّق بالطبائع قطعا وإلاّ لم تنفك عنها في الوجود الذّهني أيضا فيجب أن يكون تصوّر الزّنا حراما وتصوّر الصّلاة واجبا مثلا وليس كذلك وإنّما الأحكام متعلّقة بالوجودات الخارجية وحينئذ فإما يكون المتعلّق الجميع فهو المراد أو البعض الغير المعيّن وهو موجب للإجمال الغير الواقع في كلام الحكيم أو البعض المعيّن وهو موجب للتّرجيح بلا مرجح ومقتضى هذا الدّليل أنّه متى كان لبعض الأفراد مرجح لم يكن وجه للحمل على العموم والشّيوع الوجودي يصلح مرجحا لإرادة الشّائع لكونه محل الحاجة غالبا وأنّه قدر متيقّن مثلا لكن مقتضى التّحقيق أن يقال إن المطلوب وإن كان هو الوجودات الخارجيّة لا الطّبيعيّة وتلك الوجودات متشخصة بذاتها لكن لما كان لا يمكن تعقل تلك الوجودات بنفسها لأنها خارجة لا يمكن مجيئها في الذّهن فما يتعقل منها في الذّهن هو مفهوم الوجود الّذي هو عام بالنّسبة إلى الجميع وبالجملة لا بدّ في الحكم على تلك الوجودات من ملاحظة عنوان منتزع منها فإن كان الحكم متعلّقا بجميع الوجودات وجب جعل العنوان أمرا شاملا للجميع أو البعض فالبعض وحينئذ فإذا جعل الطّبيعة متعلّقا للطّلب وعنوانا للحكم على أفرادها تعلّق الحكم بالأفراد الّتي يشملها عنوان الطّبيعة قضية وجوب مطابقة العنوان أو المعنون فإذا أريد تخصص الحكم ببعض تلك الوجودات وجب انضمام لازم من لوازم ذلك البعض إلى الطّبيعة حتى لا تشمل فاقده مثل قولك أعتق رقبة مؤمنة ولا يكفي محض تباين تلك الوجودات في الخارج حتى يقال إنّ المحكوم به هو الوجودات وهي متباينة فيدور الأمر بين إرادة الجميع ولبعض الخاص فيؤخذ بالقدر المتيقّن وذلك لما عرفت من عدم إمكان

 

تعقلها بدون الإحساس إلاّ بعنوان عام متى لم ينظم إليه لوازم بعض تلك الوجودات لم يكن لاختصاص الحكم به معنى بل هو مستلزم للإغراء بالجهل وحينئذ فنقول إن جعل الطّبيعة عنوانا ظاهر عرفا في العموم بضميمة المقدمة العقلية وشيوع وجود فرد فرد منها لا يصلح مقيدا للعنوان لما مر من أنّ الحضور الذّهني لا يوجب إرادة الفرد بخصوصه بل قد يجعله مرادا من حيث اتحاده مع الطّبيعة هذا مضافا إلى أنّ الشّيوع الوجودي لو صلح للتّقييد لزم وجوب تقديمه على شيوع الاستعمال في الفرد النّادر مع أنّه خلاف الاتّفاق بيان الملازمة أنّه ربما يكون اللّفظ قبل شيوع وجود الفرد شائع الاستعمال في الطّبيعة وحينئذ يكون ظاهرا في إرادة الطّبيعة فإذا قدم عليه الشّيوع الوجودي وجب تقديمه على شيوع الاستعمال في الفرد النّادر أيضا لعدم مزية له على شيوعه في الطّبيعة لأنّ مدار الحمل في الجميع على الظّهور العرفي فالحق أنّ الشّيوع الوجودي لا يوجب حمل المطلق على الفرد الشّائع المقام الثّاني في الشّيوع الاستعمالي ولا شبهة في أنّه سبب للحمل على الشّائع لأنه موجب لظهور اللّفظ فيه والمدار في الحمل في باب الألفاظ على الظّهور لكن يجب الاقتصار في الحمل على الشّائع على المقام الّذي تحقق الشّيوع فيه فإنه يختلف حال اللّفظ بالنسبة إلى المقامات كما أن العبد في باب البيع مثلا يحمل على العبد الصّحيح السّليم فلو قال اشتر لي عبدا حمل على السّليم لشيوع استعماله فيه في مقام البيع بخلاف ما لو قال لله علي أن أعتق عبدا فإنه يحمل على الطّبيعة المطلقة فلا تغفل ثم إنّ الشّيوع في ذلك له مراتب كما عرفت تفصيله في المجاز المشهور طبق النّعل بالنّعل إذا المناط في الجميع واحد وهو إمكان تعيين المراد بالشّهرة وعدمه ولا فرق في ذلك بين كون المطلق مجازا في الفرد شائعا أو حقيقة فالحق عدم الفرق بين المقامين والقائلون بالفرق قد غفلوا عن التّحقيق في المقام وربما يذكر للفرق وجوه منها أن وجه حمل المطلق على العموم هو عدم ترجيح بعض الأفراد فلو كان هناك مرجح لم يكن مقتضي للحمل على العموم وبالجملة ليس اللّفظ مقتضيا للعموم حتى يكون الشّهرة معارضا له بخلاف المسألة السّابقة لمعارضة الشّهرة مع أصالة الحقيقة وفيه أوّلا مع عدم المقتضي لما عرفت أنّ المقتضي هو جعل العنوان للطّبيعة ووجوب مطابقته للمعنون وثانيا منع معارضة الشّهرة لأصالة الحقيقة لأنّ مقتضى أصالة الحقيقة الحمل عليها إذا لم يكن قرينة وإذا كان الشّهرة قرينة لم يبق موضوع لأصالة الحقيقة ومنها أنّ الحمل على الفرد الشّائع إنّما هو لكونه قدرا متيقّنا فالحمل عليه مقتضى الفقاهة لا الاجتهاد وليس في المسألة السّابقة قدر متيقّن وفيه أنّه مخالف لظاهر كلماتهم لظهورها في كون الشّيوع هنا قرينة فيكون الحمل عليه مقتضى الاجتهاد ومنها أنّ الحمل على الفرد الشّائع إنما هو لكونه منقولا عرفيا إليه أو مشتركا والفرد هو القدر المتيقّن وفيه أنّ القول بذلك نادر ودون إثباته

 

خرط القتاد فكيف اتفقوا على لازمه ومنها أن الشّهرة في المجاز لو كانت قرينة لكانت صارفة لمخالفتها لأصالة الحقيقة بخلاف المطلق فإنها فيه قرينة مفهمة لا معارض لها وهذا يرجع إلى الأوّل والجواب ما عرفت والتّحقيق ما ذكرنا من عدم الفرق فتأمّل

المطلب الثّالث المشترك إذا اشتهر وغلب استعماله في بعض المعاني أو غلب وجود بعض معانيه فحكمه حكم المجاز المشهور

من أنّ الغلبة المفيدة للظّنّ معتبرة فيه للاعتبار في باب الدّلالات

أصل في الحقيقة الشّرعيّة

عرف الحقيقة بالكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنّه موضوع له واعتبار الحيثيّة إنّما هو عوض عن قولهم في اصطلاح به التّخاطب وأحسن منه لشموله للمشترك المستعمل في بعض معانيه بمناسبة الآخر أن يصدق عليه الاستعمال فيما وضع له في الاصطلاح الّذي به وقع التّخاطب لفرض اللّفظ موضوعا للمعنيين في اصطلاح واحد مع أنه مجاز فلا يكون مانعا لكن ليس استعماله في المعنى من حيث إنه موضوع له بل من حيث إنّه مناسب للموضوع له وبعضهم أبدل الكلمة باللّفظ ليشمل المركبات وهو باطل لأنّ وضع المركب يتصور بوجهين أحدهما أن يكون المفردات موضوعة لمعانيها والمجموع موضوعا للمعنى المجموعي بالوضع النّوعي بمعنى أنّ الواضع لاحظ هيئة الجملة الخبريّة مثلا مع نوع المادة ووضعها لمعنى الإخبار عن المعاني المخصوصة فالموضوع هو كل واحد من المواد المنضمة إلى الهيئة وإن لوحظ إجمالا والثّاني أن يكون المفردات موضوعة لمعانيها والهيئة التّركيبيّة موضوعة لمعناها وهو النّسبة والرّبط وقد قيل بكلا الوجهين في المشتقّات والثّاني هو الحق في المقام إذ يرد على الأول أوّلا أنّه مستلزم لتكرار فهم المعنى من اللّفظ مرة تفصيلا لكونه موضوعا له بالاستقلال ومرة إجمالا لكونه موضوعا له في ضمن التّركيب وثانيا أنّه مستلزم لإرادة المعنيين من اللّفظ المعنى التّفصيلي والمعنى الإجمالي والفرق بين هذا والسّابق اعتباري وثالثا أنّه يستلزم كون المركب من حيث الوضع التّركيبي مفردا إذ لا يقصد دلالة جزء لفظه على جزء معناه بهذا الوضع التّركيبي بل إنّما يقصد دلالة المجموع على المجموع فيكون كلمة لكونه لفظا مفردا وحينئذ فنقول أمّا على القول بالوضع بالطريق الأوّل فقد عرفت أنّ المركب لا يكون مركبا بناء عليه فيصدق عليه الكلمة فلا يحتاج إلى إبدالها باللّفظ وأمّا على القول بالوضع بالنّحو الثّاني فلا شكّ أنّ الموضوع في المركب هو الهيئة وهي ليست بكلام فإن كانت لفظا كانت كلمة وإلاّ فلا فائدة في الإبدال وأمّا كون الهيئة لفظا فيتوقّف على أمرين أحدهما كونها عبارة عن الحركات والسّكنات لا عن الكيفية الحاصلة للّفظ بواسطتها والثّانية كون السّكون أمرا وجوديّا يستلزم الأمر العدمي لا أن يكون أمرا عدميا إذ لا يكون حينئذ لفظا ولا إذا كانت عبارة عن الكيفية ولا ينافي

 

ذلك كونها جزءا من اللّفظ كما أنّ الواحد جزء العدد وليس من العدد فتأمّل فإن قلت قد ذكر البيانيّون أنّ التّمثيل عبارة عن المجاز في المركب كقولهم في الصّيف ضيّعت اللّبن وقولهم للمتحير أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى وذكروا أنّ التّجوز في المذكورات ليس في المفردات ولا في الهيئة بل إنما هو في المجموع المركب حيث شبه تردد القلب في شيء بتقدم رجل وتأخر أخرى واستعمل المركب في ذلك المعنى وعلى هذا يكون استعارة أو أن تقدم رجل وتأخر أخرى لازم لتردد القلب غالبا فاستعمل اللازم وأريد به الملزوم وعلى هذا يكون مجازا مرسلا وكيف كان إذا لم يكن لمجموع المركب معنى موضوع له فكيف يوصف بالمجاز وليس المجاز إلاّ الكلمة المستعملة في غير الموضوع له لمناسبة الموضوع له قلت الظّاهر أنّهم تسامحوا في تعريف المجاز وأنّه يجب تعريفه بحيث يشمل ما اصطلحوا عليه من المجاز في المركب وهو استعمال المركب في معنى يناسب مجموع معاني مفرداته على التّطبيق وهذا اصطلاح لا يستلزم كون المركب بمجموعه موضوعا للمجموع لما عرفت من فساده جدا ثم الحقيقة بحسب اختلاف الواضعين تنقسم إلى لغوية وعرفية وشرعية فاللّغوية ما كان واضعه واضع اللّغة والعرفية ما كان واضعه أهل العرف عموما فعام أو خصوصا فخاص والشّرعية ما كان واضعه الشّارع كذا قيل ويشكل بأن الوضع الشّرعي إن كان تعيينيا فقد دخل الشّرعية في اللّغوية بناء على أن واضع اللّغات هو الله سبحانه كما أنه هو الشّارع وإن كان تعيّنيّا فقد دخل في العرفية إذ صار حقيقة بسبب كثرة الاستعمال في العرف ويمكن الجواب بأن اللّغوية ليست عبارة عما كان واضعه واضع اللّغات بل هذا مع زيادة حصوله في الصّدر الأول والعرفية العامة عبارة عما لم يكن وضعه مختصا بطائفة مخصوصة أو صناعة خاصة وإلاّ فعرفية خاصة وحينئذ فإن قلنا بأنّ الوضع في الحقائق الشّرعية تعييني كانت قسيما برأسها لعدم دخولها في اللّغوية وإن قلنا بأنه تعيني صارت قسما من العرفية الخاصة وتخصيصها بالذكر لمزية شرفها والظّاهر الأول لأنّ ثمرة النّزاع إنما يظهر بناء عليه إذا الوضع التّعيني لا يثمر في الحمل عليه بلا قرينة مع جهل تاريخ الاشتهار بخلاف التّعييني فإنه يحمل عليه وسيجيء تحقيقه إن شاء الله ثم إنّه هل يشترط في اللّغوية الأولية وعدم المهجورية الأظهر لا فالمنقول منه والمنقول كلاهما حقيقة لغوية وكذا المشترك اللّغوي وإن ترتب وضعه للمعاني فالمتأخر أيضا حقيقة لغوية لأن غالب الألفاظ اللّغوية مشتركة فلو لم يكن الحقيقة إلاّ الأولى لم يكن جميع المعاني حقيقة لثبوت التّرتّب غالبا وليس كذلك بل المشترك حقيقة في جميع معانيه وهل يشترط في العرفية تحقق اللّفظ في اللّغة وحدوث الوضع عرفا أو لا يضر حدوث اللّفظ أيضا في العرف والظّاهر أنّه ليس في الألفاظ

 

الّتي لها حقائق عرفية لفظ حادث ومحل النّزاع هو هذه الألفاظ الموجودة لا ما يفرض وجودها وقد يطلق العرفيّة ويراد بها ما كان مستعملا في المعنى عند العرف بطريق الحقيقة وإن كان في اللّغة أيضا كذلك فيقال إنّ اللّفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني لغة للتّبادر عرفا فيثبت الحقيقيّة عرفا وبضميمة أصالة عدم النّقل يثبت لغة ثم الحقيقة الشّرعيّة لها مصداق ومفهوم أمّا المصداق فهو عبارة عن الألفاظ المخصوصة الّتي علم لها معنى في اللّغة وعلم لها معنى في اصطلاح المتشرعة مباين مع المعنى اللّغوي أو كان الفرق بينها بالإطلاق والتّقييد والكلية والفردية والنّزاع إنما هو في صيرورتها حقيقة في ذلك المعنى الجديد في زمان الشّارع إمّا بالوضع التّعيني أو التّعيني أو في زمان الصّادقين عليه‌السلام وعدمه وأمّا المفهوم فهو أمر ينزع من هذه المصاديق ولا يجوز تعريف مفهوم الحقيقة الشّرعيّة إذ ليس النّزاع في أنّ ذلك المفهوم يصدق على أي لفظ إنّما النّزاع في أن الألفاظ المخصوصة الموجودة هل هي حقائق في زمان الشّارع أو الصّادقين أولا لا في مفهوم الحقيقة الشّرعية لكن القوم قد تعرضوا لتعريف مفهومها ولا بأس بذكر ما ذكروه والنّظر فيه فمنها ما ذكره الشّريف ره وهو أنها كل لفظ استعمله الشّارع في معنى شرعي بطريق الحقيقة تعيينا أو تعيّنا ويرد عليه أمور الأوّل أنّ التّعريف للماهية فذكر لفظ كل مستدرك والثّاني أنّه يشمل ما لو استعمل الشّارع في لفظ الرّكن الّذي هو من مصطلح المتشرّعة في معناه الشّرعي أي الجزء المخصوص من العمل مع أنّه ليس بحقيقة شرعية والثّالث أنّه يخرج عنه ما وضعه الشّارع للمعنى الشّرعي ولم يستعمله فيه بل استعمله فيه غيره من متابعيه مع أنّه حقيقة شرعية لكفاية الوضع في الاستناد إليه كما يقال اللّغوية لما وضعه الواضع اللّغة وإن لم يستعمله فيه والرّابع أنّ الظّاهر منه أنّ اللّفظ المستعمل للشّارع حين استعمال الشّارع له حقيقة شرعيّة فلو استعمله غيره لم يكن حقيقة شرعية وهو باطل وهذا مما يفهمه الذّوق السّليم من هذه العبارة الخامس أنّ التّقييد بالوضع أولى من الحقيقة لأنّ الحقيقة بعد ذكر الاستعمال كالتكرار لأنّها مشتملة على الاستعمال ومنها ما ذكره بعضهم وهو أنها الكلمة المستعملة في المعنى الشّرعي بوضع شرعي قال وقيل المعنى بالشرعي ليخرج المعنى الغير الشّرعي وإن كان الوضع شرعيا كإبراهيم لولده صلى‌الله‌عليه‌وآله والقيد الأخير لإخراج المستعملة في المعنى الشّرعي بالوضع الغير الشّرعي كلفظ الرّكن مثلا قال والحيثية ملحوظة في التّعريف ليخرج مثل لفظ الحسن والحسين فإن الوضع فيهما شرعي والمعنى أيضا شرعي لأنّ له تعلّقا بالشرع لوجوب إطاعتها شرعا لكن الاستعمال لهما ليس من حيث إنّه شرعي وفيه أوّلا أنّه لا فرق بين إبراهيم والحسن والحسين إذ لو أريد من المعنى الشّرعي ما له تعلّق بالشرع بأن كان موضوعا

 

لحكم من الأحكام فلا ريب أن إبراهيم أيضا يحرم قتله وإيذاؤه وأكل ماله وغير ذلك وعلى هذا لا يوجد معنى غير شرعي أو كاد أن لا يوجد وإن أريد منه ما كان من مخترعات الشّارع تشريعا لا تكوينا فكلاهما خارجان وثانيا أنّ قيد الحيثيّة يغني عن المعنى الشّرعي إذ الكلمة المستعملة في أي معنى كان بوضع شرعي من حيث إنّه شرعي حقيقة شرعية كالصراط والميزان والجنّة والحساب ونحو ذلك وكيف كان قد علمت أنّه لا فائدة في التّعرض للمفهوم إذ النّزاع إنّما هو في المصاديق المخصوصة وإنها هل صارت حقيقة في زمان الشّارع تعيينا أو تعيّنا أو إلى زمان الصّادقين عليه‌السلام أو لا وتسميتها بالشرعية بناء على الوضع التّعييني ظاهر وأمّا على الوضع التّعيني فقيل في وجهه إنّه وإن حصل النّقل بسبب استعمال الشّارع فهي في الحقيقة منتسبة إلى الشّارع لكون استعماله سببا له في الحقيقة وفيه أن ذلك يقتضي كون الألفاظ الّتي صارت حقائق في معانيها المجعولة شرعا في زماننا هذا حقائق شرعية لأن الاستعمال فيها تابع لاستعمال الشّارع وليس كذلك قطعا فالأولى في وجه التّسمية أن يقال إنّ المراد بالحقيقة الشّرعية الحقيقة المنسوبة إلى الشّرع من حيث هو شرع فيجب حدوثها في زمان صاحب الشّرع كالأحكام الشّرعية وأمّا ما صارت حقيقة في زمان الصّادقين عليه‌السلام وما بعدهما فهي حقيقة متشرعة أو شارعية ويكفي في نسبتها إلى الشّارع كونه سببا للنّقل كما ذكره ثم إنّ مقتضى ما ذكرنا من محل النّزاع أنّه لا بد من كون اللّفظ مستعملا شرعا في المعاني الجديدة ومن صيرورته حقيقة فيها في زماننا وكان الشّكّ في بدء حدوث الوضع وفيه أقوال فقيل بالثبوت وقيل بالنفي واختلف القائلون بالثبوت فقال بعضهم بالوضع التّعييني وظاهره الإطلاق وقال بعضهم بالتعيّني وظاهره التّفصيل بين الألفاظ ونسب إلى القاضي الباقلاني القول بنفي الاستعمال رأسا فهنا مقامات أحدها في بيان الاستعمال شرعا في المعاني المتجددة والثّاني في ثبوت الوضع التّعييني ونفيه والثّالث بعد عدم ثبوت الوضع التّعييني في أنّه تعيّني أو لا أما المقام الأوّل فنقول فيه قد يتوهّم في بادي النّظر عدم معقولية ما قاله القاضي إذ لا شبهة في إرادة الماهية الخاصية من لفظ الصّلاة مثلا إذ هو أيضا قائل بأنه لم يرد محض الدّعاء بل زاد عليه القيود واللّواحق وقد ذكرنا أنّه قد يكون بين المعنى اللّغوي والشّرعي الفرق بالإطلاق والتّقييد فقد سلم القاضي الاستعمال في المعاني المستحدثة لكن بعد إمعان النّظر يعلم أن مراد القاضي أن لفظ الصّلاة مستعمل في الدّعاء بعنوان أنّه دعاء والقيود خارجة فالخاص وإن كان مرادا من اللّفظ إلاّ أنّه مراد بعنوان كونه فردا من الكلي لا بعنوان الخصوصية وإنّما يكون مستعملا في معنى جديد إذا أريد منه الخاص بعنوان الخصوصية وهو المراد مما ذكرنا سابقا وبما ذكرنا ظهر الثّمرة بين قوله

 

وقول المشهور فإنّه يقول عنوان المطلوب هو الدّعاء فكل ما علم تقيده به من الخارج فهو وإلا فالأصل عدمه والمشهور لا يقدرون على إجراء الأصل كلية كما سيظهر لك إن شاء الله ثم إنّ قول القاضي باطل من وجوه أحدها أنه مستلزم لعدم جواز نية مجموع العمل المعين امتثالا للأمر بالصّلاة بل يجب نية الدّعاء امتثالا للأمر بها ونية البواقي امتثالا للأوامر المتعلقة بها فإن التّكليف المتعلّق بالصّلاة إن أريد بها الدّعاء لا يجوز نية امتثالها بمجموع الدّعاء وغيره كما لا يجوز نية الامتثال للأمر بالصّلاة بمجموع الصّلاة والوضوء مع أن صحة النّية المذكورة مما لا خلاف فيه والثّاني أنّه مستلزم لعدم اشتراط السّتر مثلا في الرّكوع ونحوه لأنه من شرائط الصّلاة والرّكوع ليس صلاة ولا من أجزائه والثّالث أنّه مستلزم لخروج الأخرس المنفرد المصلي عن كونه مصليا لأنّ الصّلاة في اللّغة إمّا بمعنى الدّعاء أو المتابعة وكلاهما مفقود في الأخرس المنفرد وتعميم الدّعاء بحيث يشمل الطّلب القلبي أو المتابعة بحيث يشمل متابعة صاحب الشّرع فإن المصلي تابع لأمر الشّارع وإن كان منفردا خلاف الظّاهر المتبادر فالحق تحقق الاستعمال في المعاني الجديدة ويدلّ عليه مضافا إلى ما ذكر نقل الإجماعات المنقولة والأخبار المذكورة في بيان الماهيات كقوله الوضوء غسلتان ومسحتان وتكبيرها تحريمها وتسليمها تحليلها ونحوه مما هو ظاهر في عدم إرادة المعنى اللّغوي ويعلم أيضا بالرجوع إلى العرف والحكم باتحاده مع زمان الشّارع في المستعمل فيه وبالجملة هذا مما لا يعتريه شبهة ولا ريب وأمّا المقام الثّاني فنقول فيه الحق هو الثّبوت لوجوه أحدها أن الوضع تخصيص شيء بشيء بحيث متى أطلق أو أحس الشّيء الأوّل فهم الشّيء الثّاني ولا يلزم طريق خاص بأن يقال وضعت اللّفظ الفلاني للمعنى الفلاني بل يكفي فيه جعل اللّفظ لفظا للمعنى الخاص وعلامة له ولا شبهة في أنّ الشّارع لم يستعمل لفظ الصّلاة مثلا في الماهية الخاصة لأجل إفادتها مرة واحدة أو مرتين مثلا لأجل المناسبة بينها وبين المعنى اللّغوي بل أراد جعل هذه اللّفظ لفظا لما اخترعه وعلامة بحيث إذا أطلقه يفهم منه المراد ولذا لم يستعمل لفظ آخر في الشّرع بحيث يعبر به عن ماهية الصّلاة ولو كانت الصّلاة مجازا في المعنى المستحدث لوقع هناك إطلاق لفظ آخر أيضا كما يعلم ذلك من التّعبير عن معنى واحد في المجازات بألفاظ مختلفة فقد يقال هو أسد وقد يقال لقيني منه أسد وقد يقال شاكي السّلاح ويعبرون عن الجواد بكثير الرّماد ومهزول الفصيل وجبان الكلب وذلك لأنّ الغرض من الأمور المذكورة يحصل باستعمال واحد لأنّه قلّما يحتاج إليه وأمّا ما كان محتاجا إليه في كل يوم وليلة ويريد الشّارع بيان ماهية لهم فلا ريب أن الظّاهر أنّه يجعل اللّفظ علامة له في لسانه وهو معنى الوضع والثّاني أنه مقتضى اللّطف لأنّ الغرض المقصود وهو بيان الماهية حصوله بالوضع أقرب فيجب في الحكمة وضع

 

لفظ وقد مر أنّ دليل الحكمة قد يعتبر في الأوضاع لأجل كون العلة شيئا يعتبره الواضع في الأوضاع ولا ريب في أن الاحتياج إلى الاستعمال منها والثّالث حمل الماهية على اللّفظ وقد ذكرنا أنّ صحة الحمل من علامات الوضع كقوله عليه‌السلام الوضوء غسلتان ومسحتان ونحوه والرّابع الاستقراء بالرجوع إلى أرباب الصّنائع فإنه يعلم به أن من كان له اصطلاحات خاصة فقد وضع في إفادتها ألفاظا مخصوصة فيظنّ من ذلك أنّ الشّارع أيضا قد وضع الألفاظ للمعاني المستحدثة والظّنّ الحاصل بالاستقراء حجة في باب الأوضاع لغوية كانت أو شرعية والخامس الإجماعات المنقولة في المقام فقد نقل السّيّد المرتضى الإجماع على وجوب حمل الألفاظ المستعملة في كلام الشّارع على المعاني المستحدثة سواء كانت مقترنة بالقرائن أو لا فإنه يدلّ على الوضع التّعييني إذ لولاه لم يمكن الحمل أما على القول بالوضع التّعيّني فلأن الحمل عليه فرع العلم بالتّاريخ وقد حكموا بوجوب الحمل كلية وأمّا على القول بالمجازية فلأنّ غاية الأمر أن يكون مجازا مشهورا وتقديم المجاز المشهور على الحقيقة محل الكلام فكيف يدعي الإجماع عليه في المقام والعجب من الفاضل الشّريف حيث سلم وجوب الحمل على المعاني المستحدثة للإجماع المذكور دون الوضع وذكر في وجهه أنّه إذا نظرت في كتاب ورأيت لفظا مستعملا في مواضع منه في معنى مخصوص تحمله في سائر مواضعه أيضا على ذلك المعنى بدون القرينة وإن لم يكن هناك وضع وبهذا أبطل الثّمرة الّتي ذكروها بين القول بثبوت الحقيقة الشّرعية ونفيها وأنّه يجب الحمل على المعنى الجديد بناء على الأوّل عند عدم القرينة والحمل على المعنى اللّغوي بناء على الثّاني وحاصل الرّد أنّه يجب الحمل على المعنى الشرعي إجماعا وفيه أنّ مشاهدة استعماله في موارد عديدة من الكتاب توجب حصول الظّنّ بأنّ بناء مصنفه في ذلك الكتاب على جعل ذلك اللّفظ علامة لذلك المعنى وهذا هو الوضع مع أنّ الشّريف رحمه‌الله يقول بتقديم المجاز المشهور على الحقيقة فيقال له إنّ غاية الأمر كون اللّفظ مجازا مشهورا إن لم يكن حقيقة فلم يفرق فيه بين الثّابت في الكتاب وبين المنطوق به حيث يحمل على المجاز في الأوّل دون الثّاني فتأمّل وأمّا المقام الثّالث فنقول مع الغضّ عن ثبوت الوضع التّعييني فلا شك في ثبوت الوضع التّعيّني للألفاظ الكثيرة الدّوران على ألسنة الشّارع وتابعية والشّكّ في ذلك كالشّكّ في البديهيات الأولية وقد ذكروا لإثبات الحقيقة الشّرعية بالوضع التّعييني يعني ثبوت الوضع في بدء الشّرع وجوها أخر لا بأس بالإشارة إليها منها ما ذكره في الفصول وحاصله أن بعض الألفاظ المتداولة كلفظ الصّلاة والزّكاة والحج قد كانت حقائق في معانيها قبل زمان الشّرع كقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام وَأَوْصاني بالصَّلوةِ وَالزكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وأَذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ فمفهوم اللّفظ كان ثابتا في الزّمان السّابق والنّسخ إنّما تعلّق بالمصاديق فإن مفهوم الصّلاة عبارة عن العمل الصّحيح المركب من الأجزاء المعهودة في الجملة

 

مثلا هذا المفهوم لا يتغير بتغير كيفية العمل فإنّ الكيفيّة قد تكون صحيحة فتدخل في مصداق المفهوم وقد تكون فاسدة فتخرج عن المصداق ولا يتغير المفهوم كما لا يتغير المفهوم نسخ كيفية العمل في شرعنا كما وقع في نسخ القبلة كالنّحاس يصير ذهبا ولا يوجب تغيير مفهوم النّحاس فهذه المفاهيم قد كانت ثابتة قبل الشّرع بمقتضى الآيات وحينئذ فإمّا أن يكون هذه الألفاظ أيضا ثابتة في السّابق أو لا وعلى الأول فثبوت المدعى وهو ثبوت الوضع في بدء الشّرع ظاهر وعلى الثّاني فنقول إنّ مقتضاه كون الآيات من قبيل النّقل بالمعنى فلا بد أن يكون بلفظ دال على ذلك المعنى فيعلم أنّ لفظ الصّلاة مثلا في الشّرع مما يدل على الماهية المخصوصة وذكر للدّلالة عليها والقرينة منتفية فثبت الوضع مضافا إلى أنّ مقتضى الفصاحة في النّقل بالمعنى نقل المعنى الحقيقي بالحقيقي والمجازي بالمجازي فنقل الماهية الّتي هي معنى حقيقي للّفظ الثّابت في الشّرع السّابق بلفظ الصّلاة يدل على أنها معنى حقيقي لها في شرعنا أيضا وهو المطلوب فتأمّل مضافا إلى أنّ اللّفظ الموضوع في الشّرائع السّابقة لو كان غير لفظ الصّلاة لنقل ولا أقل من نقل اللّفظ الموضوع لها في زمان الجاهلية أو في زمان عيسى عليه‌السلام في لسان العرب ولم ينقل فيعلم أنّ لفظ الصّلاة هو الموضوع لها في السّابق أيضا وهذا وجه وجيه ومنها التّبادر وليس المراد به التّبادر في عرف زماننا هذا لأنّه إمّا يراد به إثبات الوضع في زمان الشّارع بدون ضميمة أصالة عدم النّقل فباطل إذ التّبادر عند عرف علامة الوضع عند ذلك العرف دون غيره وإمّا يتمسك بأصالة عدم النّقل وهي لا تجري فيما تحقق النّقل فيه كغير لفظ الصّلاة والزّكاة والحج لإمكان القول بثبوت المذكورات في اللّغة أيضا أعني قبل زمان الشّارع كما ذكرنا أمّا غيرها فالنقل فيه محرز والشّكّ إنّما هو في ابتدائه فهو مجرى أصالة تأخر الحادث بل المراد التّبادر في عرف الشّارع ومن تبعه ويعلم ذلك من مراجعة الأخبار وغيرها مما يعلم منه سبق الخاصة من لفظ الصّلاة مثلا إلى أذهان المتشرعة الموجودين في زمن الشّارع وما بعده فافهم احتج النّافون بالأصل يعني أصالة عدم النّقل ويعلم جوابه بعد التّأمّل فيما ذكرنا بقي الكلام في بيان ما يترتّب على هذا النّزاع من الثّمرات فنقول ذكر الشّريف ره في بيان الثّمرة أنّه قيل بالوضع التّعييني وجب حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشّرع خالية عن القرينة على المعاني الشّرعية وإن قيل بنفي الوضع رأسا تجب وجب حملها على المعنى اللّغوي وإن قيل بالوضع التّعييني فإن كان التّاريخ معلوما في الوضع والاستعمال فلا إشكال إذ يحمل على اللّغوي عند تقدم تاريخ الاستعمال وعلى الشّرعي عند تأخره وإن جهل أحدهما وعلم الآخر حكم بتأخر

 

المجهول عن المعلوم لأصالة تأخر الحادث فيحمل على اللّغوي إن علم تاريخ الاستعمال دون الوضع وعلى الشّرعي إن عكس الأمر وإن جهلا معا فمقتضى القاعدة الحكم بالتقارن عملا بأصالة عدم تقدم أحدهما على الآخر فيحمل على المعنى الشّرعي لأنه الموضوع له حين الاستعمال إلاّ أنّ الأصل هنا لا يفيد الظّن إذ ليس الاستعمال المقارن للوضع إلاّ استعمالا واحدا وسائر الاستعمالات إما مقدم أو مؤخر فالمظنون خلاف التّقارن للغلبة فيرفع حجية الأصل وإن قلنا بحجيته تعبدا لأن الظّنّ المذكور معتبر في تشخيص المرادات والأوضاع فيقدم على الأصل ويصير المقام كمقام علم فيه بعدم التّقارن مع جهل التّاريخ فيجب التّوقّف والرّجوع إلى الأصول العملية واعترض عليه بوجوه منها أنّه لا يجوز الحمل على المعنى الشّرعي بناء على الوضع التّعييني إذ اللّفظ الّذي كان في اللّغة موضوعا لمعنى لا يهجر معناه بمجرد الوضع لمعنى آخر بل يصير مشتركا بينهما وبعد تكثير الاستعمال يتحقق الهجر فقبله لا يجوز الحمل على المعنى الشّرعي بلا قرينة ومنها أن الفرق بين التّعييني والتّعيّني في ملاحظة التّاريخ لا وجه له إذ التّعيين يحتمل أن يكون بعد استعمالات عديدة ولا يلزم أن يكون في بدء الاستعمال إذ لا دليل عليه ومنها أنّ الحمل على المعنى الشّرعي عند العلم بتأخر الاستعمال أو عند العلم بتاريخ الوضع دون الاستعمال لا وجه له لأنه يكون عند الوضع التّعيّني أيضا مشتركا فلا يجوز حمله على أحد معانيه بلا قرينة ومنها أن حمله على اللّغوي عند العلم بتأخر الوضع أو عند العلم بتاريخ الاستعمال دون الوضع باطل إذ اللّفظ قبل الوضع التّعيّني وصل إلى حد المجاز المشهور وتقديم الحقيقة عليه محل كلام هذا وذكر بعضهم أنّه لا ثمرة لهذا النّزاع أصلا لوجوب الحمل على المعاني الشّرعية عند عدم القرينة مطلقا سواء قلنا بالوضع بأحد الوجهين أو لا وصاحب الفصول واستدلّ على ذلك بوجوه أحدها أن استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشّرعيّة أغلب فإذا شككنا في مورد يحمله على الأغلب والقول بأن المشكوك فيه ليس من جنس الأغلب لأنه لا قرينة فيه قد عرفت فساده في محله من أنّه إن أريد بالقرينة أشخاص القرائن الثّابتة للأغلب فهو غير لازم وإن أريد نوع القرينة فهو موجود وهو غلبة الاستعمال فإنها تصلح قرينة في العرف الثّاني أنّه لا نزاع في ثبوت اشتهار الألفاظ في المعاني الجديدة في زمان الشّارع وإن لم نقل بوصوله إلى حد الوضع والمجاز المشهور مقدم على الحقيقة فالاستعمالات الثّابتة بعد الاشتهار يحمل على المعاني الشّرعيّة وكذا المشكوكة إذ لا يعلم أنها بعد الاشتهار أو قبله فيعمل بأصالة التّأخر الثّالث أن استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشّرعية والمعاني اللّغوية ثابت لكن نعلم إجمالا أن هناك استعمالات

 

لتلك الألفاظ في المعاني الشّرعية في غير ما عثرنا عليه من الموارد لأن شأن الشّارع كان بيانه آنا فآنا لأفراد الأشخاص والآحاد ولكن لا نعلم أنها مستعملة في الشّرع في غير ما نعلمه من موارد استعمالها في المعاني اللّغوية فإذا رأينا استعمالا وشككنا فيه لحمله على أنّه من الموارد المعلومة ثبوتها إجمالا وهو الاستعمال في المعاني الشّرعيّة لا على أنّه من الموارد المشكوكة الثّبوت لأصالة عدم زيادة الاستعمال في المعاني اللّغوية على ما نعلمه من الموارد فلو حملناه على المعنى الشّرعي دخل في الموارد المعلومة ثبوتها إجمالا وإن حمل على اللّغوي لزم زيادة الاستعمال في المعنى اللّغوي على ما كنا نعلمه والأصل عدمه فإن قلت إنّا نعلم إجمالا أن الشّارع قد استعمل ألفاظا في معانيها اللّغوية فلعل هذا منها فلو حملناه على الاستعمال في المعنى اللّغوي لا يخرج عن المعلوم بالإجمال لدخوله في الألفاظ الّتي علمنا إجمالا باستعمالها في المعاني اللّغوية قلت العلم الإجمالي إذا لم يوجب ارتفاع الظّنّ من الأصل لا يوجب طرح الأصل كالشبهة الغير المحصورة حيث لا يوجب العلم الإجمالي بنجاسة جزء من كرة الأرض ارتفاع الظّنّ بالطهارة في الأمكنة الّتي يحتاج الشّخص إليها مثلا وبهذا رد ما ذكره بعضهم من أن الحمل على المعنى الشّرعي في صورة الجهل بتاريخ الاستعمال عملا بأصالة التّأخر فاسد للعلم الإجمالي بتقدم بعض الاستعمالات وحاصل الرّد أن هذا العلم لا يوجب ارتفاع الظّن بالأصل هذا ما ذكروه في المقام أقول كلما ذكره الشّريف من الاعتراضات فمردود أمّا الأول فإن المشترك إن كان شاملا لما كان موضوعا لمعنيين في اصطلاحين نسلم كون هذه الألفاظ مشتركة لكن نمنع إجمال جميع المشتركات بل إذا استعمل فيما يتعلّق بأحد الاصطلاحين لا يراد منه إلاّ الموضوع له في ذلك الاصطلاح فالشّارع إذا استعمل تلك الألفاظ في مقام بيان الشّرع يريد منها المعنى الشّرعي كالنحوي إذا استعمل لفظ الفعل في كتابه الموضوع لبيان النّحو فالوضع الشّرعي بالنسبة إلى بيان الأحكام نسخ للوضع اللّغوي وإن صدق المشترك عليه من حيث إنّه موضوع لمعنيين في اصطلاحين وإن شك في أن الشّارع كان في مقام بيان الأحكام أو لا حكم بالأوّل إذ هو الغالب كما ذكروا أنّه إذا قال الفقاع خمر وشك في أنّه أراد بذلك بيان أفراد الخمر أو بيان أنّه في حكم الخمر حكم بالثاني فالأصل في كلمات الشّارع بيان الأحكام وهذا إجماعي وإن قلنا إن المشترك لا يطلق إلاّ على لفظ كان موضوعا لمعنيين في اصطلاح واحد فلا إشكال إذ ليس الألفاظ المذكورة مشتركة حينئذ وأمّا الثّاني قبل الدّليل على بدء الوضع وجهان أحدهما استقراء أرباب الصّنائع فإن شأنهم في مصطلحاتهم وضعهم الألفاظ

 

قبل الاستعمال والثّاني أنّ الحكمة المقتضية للوضع وهو اللّطف موجود في بدء الاستعمال والشّارع ملتفت إليها فيجب تحقق الوضع حينئذ وإلاّ لزم ارتكاب خلاف اللّطف وهو باطل وأمّا الثّالث فبأنّا لا نسلم أنّ الوضع التّعيّني مسبوق بالاشتراك لم لا يجوز أن يكون وصول الثّاني إلى حد الوضع وخروج الأوّل متقارنين فلا يتحقق الاشتراك ولو سلم فنقول غلبة الاستعمال في المعنى الجديد قرينة معيّنة لأحد معنى المشترك وأمّا الرّابع فبأنّ قولهم بالحمل على المعنى اللّغوي إنّما هو بالنظر إلى الوضع من حيث هو لا فيما إذا قامت القرينة على عدمه أيضا فليس كلامهم ناظرا إلى جهة صيرورته مجازا مشهورا فإنّ كلامهم إنّما هو مع قطع النّظر عن الأمورات الخارجية وهم قد ذكروا أنّه إذا فرضنا عدم الوضع للمعنى الشّرعي فهل هو أقرب المجازات إلى المعنى اللّغوي حتى يحمل عليه عند القرينة الصّارفة أو لا وهل هو مجاز مشهور حتى يحمل عليه اللّفظ مجردا عن القرينة بناء على ترجيح المجاز المشهور أو لا فافهم ثم إن ما ذكره الشّريف رحمه‌الله من أن مقتضى القاعدة عند الجهل بالتّاريخ الحكم بالتّقارن والحمل على المعنى الشّرعي كصورة العلم بالتقارن باطل فإن الحمل على المعنى الشّرعي في صورة العلم بالتقارن أيضا لا وجه له فإن الاستعمال في المعنى لا بد له من مصحح مقدم على الاستعمال فإن كان هو الوضع فقد تقدم الوضع على الاستعمال وإن كان القرينة فقد تأخر كما ذكروا أن الماء إذا صار كرا ووقع النّجاسة فيه حال صيرورته كرا أنّه نجس إذ المعتبر في عدم التّنجس هو سبق الكريّة على وقوع النّجاسة مضافا إلى أن التّقارن غير متصوّر لأنّ الوضع التّعيّني يحصل بالاستعمال فإن كان الوضع حاصلا بغير الاستعمال الّذي فرضته مقارنا ارتفع التّقارن وتقدم الوضع وإن كان حاصلا بنفس ذلك الاستعمال فقد تقدم الاستعمال فالتقارن غير معقول وأمّا ذكره البعض من نفي الثّمرة وأن العلم الإجمالي لا يوجب رفع الظّن ففاسد أمّا قوله بعدم إيجاب العلم الإجمالي ارتفاع الظّنّ في كلامه الأخير فلأنّ معنى العلم الإجمالي هو العلم بحكم مردد بين شيئين على سبيل الانفصال الحقيقي ومعه لا يمكن إجراء أصالة العدم في شيء منهما لأن إجراءه في الجميع مخالف للعلم وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح نعم لو كان الحكم في أحدهما مظنونا وفي الآخر موهوما أمكن ترجيح الموهوم لكنه ليس لمحض مقتضى الأصل بل هو لأمور خارجة والكلام إنّما هو مع قطع النّظر عن الخارج نعم هذا الكلام إنّما يصح إذا كان العلم به علما في الجملة كالعلم بثبوت القضاء المردد بين فريضتين وثلاثة فرائض فإنه ينحل إلى العلم التّفصيلي بوجوب الفريضتين والشّكّ التّفصيلي في الثّالثة فيجري فيها الأصل ومن ذلك ما قاله في الدّليل الثّالث إفاضة

 

على نفي الثّمرة حيث قال العلم الإجمالي باستعمال ألفاظ في المعنى اللّغوي لا يوجب رفع الظّنّ من أصالة عدم زيادة الاستعمال فإنّه أيضا على في جملة لأنّه ينحل إلى العلم التّفصيلي باستعمال غير الألفاظ المتنازع فيها والشّكّ التّفصيلي فيها وأمّا أدلته الثّلاثة فلأنّ الأوّل منهما يرجع إلى الثّاني وذلك لأنّ محض غلبة استعمال اللّفظ في المعنى الشّرعي بلا قرينة إنّما يصح إذا أمكن جعل الغلبة قرينة عليه والغلبة المتأخّرة لا يمكن فيها ذلك فالشّكّ في التّأخر والتّقدم شك في إمكان كون الغلبة قرينة وعدمه وضع الشّكّ في ذلك لا يمكن حمل اللّفظ على المعنى الشّرعي إلاّ إذا أثبت تأخّر الاستعمال بأصالة التّأخّر فيكون الغلبة قرينة فرجع إلى الدّليل الثّاني وهو أيضا لا ينفي الثّمرة فإن كلام القوم ناظر إلى نفس الوضع مع قطع النّظر عن الخارج فلا يرد عليهم شيء كما أشرنا إليه فإنهم أيضا ذكروا هذه المسألة وأنّه على فرض عدم الوضع فهل تحقق المجاز المشهور أو لا ومع التّحقق هل يحمل عليه أو على الحقيقة أو فيه تفصيل وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وأشرنا إلى جملة منها فيما سبق وأمّا الثّالث فلأنا لا نسلم أن العلم الإجمالي حاصل بالاستعمال في المعنى الشّرعي بل العلم الإجمالي حاصل بثبوت استعمالات أخر غير ما بأيدينا أمّا في المعنى الشّرعي أو في اللّغوي فلو حمل على اللّغوي أيضا لا يلزم زيادة الحادث فتأمل

تتميم

إذا قطع النّظر عن الوضع للمعنى الشّرعي وقيل بعدم ثبوته فيقع الكلام حينئذ في وجهين أحدهما أن المعنى الشّرعي هل بلغ في الاشتهار إلى حد يقدم على المعنى اللّغوي عند التّجرد عن القرينة بأن يكون الشّهرة فيه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي أو لا والثّاني أنّه على فرض عدم وصوله إلى هذا الحد هل وصل إلى حد يحمل عليه اللّفظ عند قيام قرينة صارفة عن المعنى اللّغوي بأن يكون أقرب المجازات أو لا والتّرجيح في المقامين تابع لحدس المجتهد ولا يبعد ترجيح جانب الثّبوت فيهما نظر إلى الاستقراء فإن الألفاظ المتداولة في اصطلاح المعنى المصطلح فيها يبلغ في الاشتهار في أدنى زمان إلى حد يقدم على الموضوع له ومع التّنزل نقول يحمل عليه إذا قام القرينة الصّارفة عن الموضوع له ويمكن التّمسك بملاحظة أن المعنى لا شبهة في أنّه قد نقل إليه بعد زمان الشّارع وأمّا تعيين كونه في بدء الشّرع أو وسطه أواخره فمتوقّف على النّقل والحدس ومع الشّكّ يعمل بمقتضاه ويمكن التّمسك للثّبوت في الوجه الثّاني بأنّا بعد التّتبّع في مستعملات الشّارع علمنا أنّه لا يستعمل تلك الألفاظ إلاّ في المعنى اللّغوي أو الشّرعي ولا ثالث لهما فإذا قامت القرينة الصّارفة عن اللّغوي حمل على الشّرعي إذ لا ثالث في البين وبالجملة لا يكون اللّفظ مجملا على ما توهمه بعض الأفاضل ثم إنّه إذا تحقق الوضع للمعنى

 

الشّرعي وقام القرينة الصّارفة عنه فهل يحمل على المعنى اللّغوي أو لا والأوجه نعم لما بينا أنّه لا ثالث لهما في استعمالات الشّارع فهو أقرب المجازات وقد يتمسك لذلك بوجهين آخرين أحدهما أن اللّفظ لم يهجر وضعه اللّغوي وإنّما حدث الوضع الجديد ليستعمل فيه اللّفظ المجرد عن القرينة في الاصطلاح الخاص وبعد قيام القرينة الصّارفة عن المعنى الجديد يحمل على اللّغوي لأصالة الحقيقة وفيه أوّلا أنّه لا يتم بناء على الوضع التّعيّني لتحقق الهجر بالنسبة إلى المعنى اللّغوي وثانيا أن ثمرة الوضع للمعنى الجديد ليست محض الحمل عليه عند التّجرد عن القرائن بل ثمرته هو الثّمرة في سائر الأوضاع وهو أن يحمل عليه اللّفظ عند التّجرد ويحمل على مناسبه عند قيام القرينة وبعد اعتبار المناسبة يكون مجازا لا حقيقة والثّاني أنّ اللّفظ قبل الوضع للمعنى الجديد كان ظاهرا في المعنى اللّغوي وبعد الوضع الجديد إذا قامت القرينة الصّارفة عنه نشك في ارتفاع ذلك الظّهور فيستصحب وفيه أنّ ذلك الظّهور كان مستندا إلى الوضع وبعد نسخ ذلك الوضع في الاصطلاح الخاص لا معنى لاستصحاب الظّهور المستند إلى الوضع وهو ظاهر

أصل اختلفوا في أن ألفاظ العبادات مستعملة في الصّحيح أو الأعم

وقبل الخوض في المطلب لا بد من تمهيد مقدمة وهي أنهم ذكروا أنّ هذا النّزاع مختص بالقائلين بالمعاني المستحدثة فلا يدخل القاضي في هذا النّزاع ولكن بعد القول بالمعاني المستحدثة لا يختص النّزاع بالقائلين بالحقيقة الشّرعية وهذا بحسب الظّاهر غير تمام وبيان ذلك أن الصّحة عبارة عن كون العمل جامعا للأجزاء والشّرائط بحيث يترتّب عليه الدّاعي إلى الأمر ويلزمها بهذا المعنى امتثال الأمر وليس معنى الصّحة امتثال الأمر فإنّ المأمور به هو الصّحيح فلو كان امتثال الأمر مأخوذا في معنى الصّحة لكان المأمور به الصّلاة الّتي يحصل بها امتثال الأمر فيجب تحقق أمر آخر غير هذا الأمر المتعلّق بالصحيح وإلاّ لزم الدّور وحينئذ فتفسير بعضهم للصّحة بما يوافق الأمر تفسير باللازم ثم إنّ المعنى الّذي يتعلّق به الأمر إمّا بسيط أو مركب انضمامي له أجزاء في الخارج أو مركب تقييدي له شروط والأوّل لا يتصف بالصحة والفساد إذ لا جزء له ولا شرط فصحته وجوده وعدم صحته عدمه من رأس بخلاف الآخرين والألفاظ المستعملة في الشّريعة على أقسام قسم استعمل فيما لا يغاير المعنى اللّغوي بالتّباين وقسم فيما يغايره بالكلية والجزئية وقسم فيما يغايره بالإطلاق والتّقييد ومن القسم الثّاني الصّلاة ونحوها على القول بأنها مستعملة في المعاني المستحدثة المركبة من الأجزاء والشّرائط ومن الثّالث ألفاظ المعاملات فإن الملحوظ فيها هو المعنى اللّغوي والزّائد شروط ولواحق وألفاظ العبادات عند القاضي من هذا القبيل وقد عرفت أن هذا المعنى يصح اتصافه بالصّحة والفساد فيجري هذا النّزاع على مذهب

 

القاضي أيضا كما أجروها في المعاملات ولا فرق بين الألفاظ العبادات على مذهب القاضي وبين ألفاظ المعاملات عندهم في أن المعنى الشّرعي مغاير مع اللّغوي بالإطلاق والتّقييد فالقاضي أعمي لقوله بالبقاء على المعنى اللّغوي الّذي هو أعم من الصّحيح والفاسد فالأولى تعميم العنوان بحيث يشمل القاضي أيضا ويمكن الجواب بأن هذا النّزاع في المعاني المتغايرة مع المعنى اللّغوي بالتباين أو الكلية والجزئية يمكن من كل واحد من القائل بثبوت الحقيقة الشّرعية وعدمه بخلاف المعاني المتغايرة معه بالإطلاق والتّقييد فإن القائل بالصحة فيها يلزمه القول بالوضع وبالعكس والقائل بالأعم يلزمه القول بنفي الوضع وبالعكس فالقول بالصحة متلازم مع القول بالحقيقة الشّرعية والقول بالأعم متلازم مع نفيها فالنّزاع في ثبوت الحقيقة الشّرعيّة فيها وعدمه نعني عن النّزاع هنا وأمّا ذكر النّزاع في المعاملات فإنّما هو من باب المناسبة والمساهلة أمّا التّلازم المدعى في المقامين فبيانه أن بعد القول بالبقاء على المعنى اللّغوي لا معنى للقول بالصحة إذ هو أعم من الصّحيح والفاسد ولو كان إرادة المقيد من المطلق حقيقة أو مجازا موجبا للإجمال كما هو مقتضى قول الصّحيحين كما سيأتي إن شاء الله لزم خروج جميع الخطابات عن الحجية وصارت مجملة لا يمكن التّمسك لا يمكن التّمسك بإطلاقها حتى في لفظ الماء مثلا ومن قال بالوضع قال بالوضع للصّحيح إذ لا معنى لاعتبار اشتراط بعض الشّرائط في المسمى دون بعض فثبتت الملازمة في المقامين ومع الغض عن ذلك نقول على القول بالوضع والنّقل يدخل في القسم الثّاني وهو المركب الانضمامي الّذي يمكن فيه القول بالصحة والفساد ولكن لا يمكن للقاضي ذلك لأنّه قائل بالتركيب التّقييدي فلا يمكن له القول بالصحة والحاصل أنه على القول بعدم النّقل كما هو قول القاضي لا يمكن إلاّ القول بالأعم لكونه من القسم الثّالث وهو المركب التّقييدي لما عرفت أن القول بالصحة بناء عليه فاسد لا قائل به وعلى القول بالنّقل يدخل في القسم الثّاني وهو المركب الانضمامي الّذي يجري فيه النّزاع بكلا القولين وكيف كان فالقاضي خارج عن النّزاع في هذه المسألة فإنّ محل النّزاع لا بد أن يكون معنى قابلا لكلا القولين وهو لا بد أن يكون مغايرا للمعنى اللّغوي بغير الإطلاق والتّقييد ولو كان مغايرا له بالإطلاق والتّقييد فلا يجري النّزاع فيه إلاّ على القول بالحقيقة الشّرعية والقاضي لا يقول بها ثم إنّ إدخال النّافين للحقيقة الشّرعيّة في هذا النّزاع بحسب الظّاهر فاسد لوجوه منها أنّ النّزاع إمّا يكون في الوضع أو في الاستعمال والأوّل لا يتصوّر من النّافين والثّاني ليس محل النّزاع إذ الاستعمال في كلا المعنيين واقع في الشّرع وليس قابلا للإنكار ومنها أنّهم ذكروا أن الاستعمال

 

في الأعمّ من باب سبك المجاز عن المجاز إذ المعنى الصّحيح عندهم أيضا مجاز ومنها منافاة عنواناتهم لذلك وهو أن الألفاظ الّتي لها معان جديدة هل هي أسام للصّحيحة أو للأعمّ فإنّ الاسم لغة وعرفا يطلق على اللّفظ الموضوع للمعنى لا للمجاز مضافا إلى استدلالهم في المبحث بعلائم الوضع كالتّبادر وعدم صحّة السّلب ونحو ذلك مما يدلّ على أن النّزاع إنّما هو في الوضع فلا يشمل النّافين ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّ النّزاع إنّما هو على قول النّافين إنّما هو في أقرب المجازات في زمان الشّارع ليحمل عليه اللّفظ عند قيام القرينة الصّارفة على المعنى اللّغوي والميزان لذلك هو الحقيقة المتشرعة فكل معنى نقل إليه اللّفظ في عرف المتشرعة إلى زمان الصّادقين عليه‌السلام فهو أقرب المجازات وأشهرها في زمان الشّارع لكشف النّقل عن كثرة الاستعمال السّابق فالصحيحيّة يقولون إنّ الصّحيح هو الموضوع له في عرف المتشرعة فهو أقرب المجازات في زمان الشّارع والأعميّة يقولون هو الأعم وعن الثّالث بأن العنوان المذكور إنّما ابتدأ به القدماء المثبتون للوضع وتبعهم النّافون فلم يغيروا جريا على مذاهبهم وكذا الأدلة المذكورة أو نقول أن المقصود من العنوان والأدلة هو تعيين الموضوع له في عرف المتشرعة ليتفرع عليه تعيين الموضوع له في كلام الشّارع على مذهب المثبتين وتعيين أقرب المجازات على مذهب النّافين وكذا الأدلّة المذكورة ناظرة إلى عرف المتشرعة الّذي هو الميزان لعرف الشّارع وعن الثّاني بالتسليم وضع فساد سبك المجاز عن المجاز لشيوعه فإنّ استعمال أسد في زيد مثلا من هذا القبيل حيث شبه الرّجل الشّجاع بالحيوان المفترس فاستعمل فيه لفظه فهذا مجاز ثم أريد من ذلك المجاز الّذي هو كلي فرده وهو زيد وهذا أيضا مجاز لاستعمال الكلي في الفرد بعلاقة العموم والخصوص وكذا في نظائره وكذا إذا جعل المراد بالعلم في تعريف الفقه ملكة الظّن فإنه مجاز عن إرادة الظّن مجازا من العلم بمعناه الحقيقي بمعناه الحقيقي وهو الجزم إذ لا يمكن إرادة ملكة الظّن من العلم بمعنى الجزم إذ ليس بينهما علاقة بخلاف ملكة الظّن مع الظّن فإنه مناسب معها بالسّببية والمسبّبيّة وكذا الظّن بالنّسبة إلى الجزم لتشابههما في كشف الواقع كذا قيل وفيه نظر لأن إرادة زيد من الأسد ليس من قبيل استعمال الكلي في الفرد بل هو من باب إطلاق الكلي على الفرد بإرادة الخصوصية من الخارج فليس مجازا ولا نسلم أن ملكة الظّن ليست مجازا عن المعنى الحقيقي وهو الجزم لوجود المناسبة بينهما في كون كل منهما سببا لظهور الواقع فالأولى في الجواب أن يقال إنّا لا نسلم لزوم سبك المجاز عن المجاز عند إرادة الفاسد بمشاكلته للصّحيح وذلك لأنّه من قبيل تنزيل المعدوم منزلة الموجود ادعاء فإنه شائع في العرف ولا يلزم منه مجاز في الكلمة كما يطلق الحقة في العرف على مقدار نقص عن الحقة بمثقال فيطلقون

 

الصّلاة على الفاسد بادعاء كونه صحيحا لمشاكلته له في الصّورة والحاصل أن اللّفظ قد أطلق على الصّحيح الّذي هو الموضوع له لكن بتنزيل الفاسد منزلة الصّحيح بالمشاكلة وهذا غير قول السّكاكي في الاستعارة حيث يقول إنّ التّصرف إنّما هو في أمر عقلي فإنّ مراده أنّ أسد يراد منه الرّجل الشّجاع لكن تنزيله منزلة الحيوان المفترس وهذا يرد عليه أن التّنزيل المذكور لا يخرج الرّجل الشّجاع عن كونه غير ما وضع له فاللّفظ مجاز فيه ونحن نقول إنّ اللّفظ يراد به المعنى الموضوع له حقيقة كإطلاق الحقة فيما ذكر لكنه بادعاء كونه تماما وبالجملة الفرق بين الكلامين يظهر بالتأمّل وإن أبيت عن ذلك فقل في الجواب إن القول بأن إرادة الأعم إنّما هي للمشاكلة في الصّورة إنّما هو من بعض الصّحيحيّة لا من جميعهم ولعله كان قائلا بالوضع وهو لا يوجب اختصاص النّزاع بالقائلين بالوضع وهذا ظاهر ثم إنّك بعد ما عرفت من أنّ النّزاع المذكور إنّما يجري على القول بالمعاني المستحدثة أو النّقل تعلم أن إجراءه في المعاملات وعدمه مبني على القول بكونها ماهيات مجعولة أو منقولة وعدمه فمن أدخلها في النّزاع قال بكونها ماهيات مستحدثة أو بالنقل ومن أخرجها جعلها مبقاة على المعاني اللّغوية ولا يخفى أن أكثر المعاملات باقية على معانيها اللّغوية ولم يتحقق فيها نقل كالبيع ونحوه وإنّما زيد لصحتها شروط في الشّريعة لكن بعضها قد حدث له معنى جديد في الشّرع كالطلاق فإنه ليس الملحوظ في إطلاقه معناه اللّغوي أصلا فهو داخل في محل النّزاع وهذا عكس العبادات فإنّ أكثرها معاني مستحدثة في الشّرع وبعضها باق على معناه اللّغوي كالسّجود والرّكوع ونحوهما وبالجملة فدعوى الكلية في كل من المقامين لا وجه له بل لا بد من التّفصيل والرّجوع في كل لفظ إلى ما يقتضيه الدّليل ولا بأس بالإشارة إلى بعض كلماتهم في المقام ليتّضح المرام فنقول قال الشّهيد في القواعد الماهيات الجعلية كالصّلاة والصّوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضي فيه وظاهر هذا الكلام تحقق الماهيات الجعلية في المعاملات أيضا بناء على أن يعطف سائر العقود على الصّلاة والصّوم قال بعض المحققين إن مراده أنها لا تطلق على الفاسد بعد الأوامر الشّرعية إلاّ الحج حيث أمر بإتمام فاسده أيضا وليس مراده الإطلاق مطلقا إذ لا مجال لإنكاره واعترض عليه في الفصول وذكر أن مراد الشّهيد من عدم الإطلاق على الفاسد الإطلاق بطريقة الحقيقة إذ الاستعمال المطلق في الفاسد لا مجال لإنكاره وليس مراده الإطلاق بعد الأوامر وإلاّ لورد عليه أن الفاسد الّذي هو المأمور به في الحج إن أريد به الفاسد خصوص الفرضي بمعنى أنّه فاسد إن لم يتعلّق الأمر بإتمامه إذ مع ملاحظة الأمر يكون صحيحا لكونه موافقا

 

للأمر فهذا يجري في جميع العبادات فإنها فاسدة قبل أن يؤمر بها إذا الصّحة إنّما تحصل بموافقة الأمر فلا معنى لحصولها قبلها فقد أطلق ألفاظها على الفاسدة ولا وجه لاختصاص الحجّ وإن أريد به الفاسد الواقعي نظرا إلى أن الصّحة لا بد أن تكون متحققة قبل تعلق الأمر وهي منتفية في الحجّ الفاسد ففيه منع لزوم ذلك لجواز كون الأمر منشئا للصحة فلا يلزم تحققها قبل الأمر وإن أريد أنّه فاسد بالنظر إلى الأمر الأوّلي بالحج وإن كان صحيحا بالنظر إلى الأمر الثّاني فهو مع أنّه بعيد عن مساق كلامه مما لا يساعد عليه تفريع مسألة الحنث عليه كما لا يخفى انتهى وفيه أن كونه فاسدا بالنسبة إلى الأمر الثّاني المتعلق به غير معقول فالقول بأنه يطلق على الفاسد نص في الفاسد بالنظر إلى الأمر الأوّل في جعل ذلك بعيد إلاّ وجه له فنقول إن مراد الشّهيد من الصّحيح الّذي هو المراد بعد الأوامر هو العمل التّام الأجزاء والشّرائط بحيث يترتب عليه المصلحة الدّاعية إلى تعلق الأمر الأولي في بدء الشّريعة لا الصّحيح الّذي يترتب على طرو الفساد وحينئذ فسائر الماهيات لا تطلق بعد الأوامر على غير هذا بخلاف الحج لإطلاقه على ما طرأ عليه الفساد أيضا وأمّا قوله لا يجب تحقق الصّحة قبل الأمر لجواز إنشائها بالأمر ففيه أو لا أنّه يتم في الصّحة بمعنى موافقة الأمر وأمّا الصّحة بمعنى جامعيّة الأجزاء والشّرائط فهي متقدمة على الأمر بلا شبهة وثانيا أن إنشاء الصّحة بالأمر لا معنى له أمّا أوّلا فلأنّ الصّحة حكم العقل بأنه متى تحقق العمل مطابقا للمأمور به كان صحيحا وهو ليس أمرا قابلا للجعل وأمّا ثانيا فلأن الصّحة إن كانت بموافقة الأمر فلا حينئذ هي منتزعة من العمل الموجود في الخارج مطابقا للمأمور به فتكون متأخرة عن الأمر جزما لا منشأ به وإن كانت بمعنى الجامعيّة المذكورة فقد فهي منتزعة من ذات الشّيء ومتقدمة على الأمر جزما وهي مراد الشّهيد من الصّحة في المقام ولا يرد النّقض بصلاة العاجز حيث إنّها فاسدة بالنظر إلى الأمر المتعلق بصلاة المختار فكيف قال إنّها لا تطلق على الفاسد وقد ذكر أن مراده الفاسد بالنسبة إلى أمر آخر وذلك لأن صلاة المضطر والمختار كلاهما جامعان للأجزاء والشّرائط الّتي يترتب عليها المصلحة الداعية إلى الأمر الأولي فهما في عرض واحد تعلقا بمكلفين متغايرين فهذا حكم القادر وهذا حكم العاجز وليس أحدهما مترتبا على طرو الفساد في الآخر بخلاف الحج فإن تحقق المصلحة في الفاسد منه إنّما هو بعد طرو الفساد في المأمور به بالأمر الأولي فافهم نعم غاية ما يرد على هذا التّقرير أنّه لا يلائم تفريع مسألة الحنث إذ ليس الصّلاة الواقعة بعد النّذر واقعة بعد الأمر حتى تحمل على الصّحيح ثم إنّه بعد ما اختار أن مراد الشّهيد بيان أنها حقائق في الصّحيح اعترض عليه بالنّقض بالصّوم لوجوب إتمام فاسده فلا اختصاص للحجّ مضافا إلى أنّ وجوب المضي فيه لا يدل على كونه موضوعا له ثم قال فإن قيل الحج الفاسد صحيح باعتبار

 

الأمر الثّاني لموافقته له وإن كان فاسدا باعتبار الأمر الأول فالتسمية فيه أيضا لاحقة للحج الصّحيح فما معنى استثناء الشّهيد له قلنا الأمر الثّاني إنّما يتعلق بإتمامه لا بتمامه لامتناع تعلق الأمر اللاحق بالفعل السابق ولا ريب أن الباقي بعض الحج فلا يكون حجا والمجموع ليس مأمورا به فيكون فاسدا وقد أطلق عليه الحج انتهى ملخصا وفيه أن النّقض بالصوم لا وجه له إذ ليس في الأخبار ما يدل على وجوب إتمام الصّوم نعم يجب الإمساك بعد إفساد الصّوم وهو تكليف مستقل بخلاف الحج حيث أمر بإتمامه وأطلق عليه الحج بخلاف الصّوم إذ لا يطلق على الفاسد أنّه صوم وما أجاب به عن الإيراد يمكن المناقشة فيه بأن المجموع أيضا صحيح لكونه موافقا لأمرين فأجزاؤه المتحققة قبل الإفساد موافقة للأمر الغيري الّذي كان متعلقا بتلك الأجزاء لكونها مقدمة للكل فهي حين وجودها متصفة بالصحة بهذا المعنى وطرو الفساد لا يخرجها عن الصّحة بهذا المعنى لتحققها جزما والأجزاء المتأخرة موافقة للأمر الثّاني فيصدق على المجموع أنّه صحيح ثم إنّ هذا لا يناسب ما ذكره في الاعتراض من أن المطلوب لا يكون فاسدا بل المناسب أن يقول إنّ المطلوب ليس حجا في الجواب عما ذكره المفسر من أن المطلوب هو الحج الفاسد فإنه أراد من كونه مطلوبا أنّه مأمور بإتمامه لا بتمامه فهو يسلم أن المطلوب هو الصّحيح وهو الأجزاء وأن المجموع فاسد فمراده أن المجموع الّذي هو فاسد يصدق عليه أنّه مطلوب ولو بالنسبة إلى بعض أجزائه فالجواب عنه أن يقال إنّ المطلوب ليس حجا لا أنّ المطلوب ليس فاسدا فإنه لا نزاع فيه فتأمّل ثم إنّه يحتمل أن يقال إن مراد الشّهيد أن تلك الألفاظ لا ينصرف إلى الفاسد عند الإطلاق فينصرف مطلقها إلى الصّحيح فلو حلف على ترك الصّلاة في مكان مكروه انصرف إلى الصّحيح فلا يحنث بالفاسد ولو حلف على إتيان الصّلاة انصرف إلى الصّحيح فلو أفسدها لم يبرأ ولم يجب عليه إتمامها إلاّ الحج فإن هذه الثّمرة أعني ثمرة الانصراف إلى الصّحيح منتفية فيه لوجوب إتمام فاسده أيضا وهو بعيد ويحتمل أن يكون المراد أن تلك الألفاظ متى وردت في الشّرع مطلقا حكم بإرادة الصّحيح منها لأي حكم كان بخلاف الحج فإنه لخصوص الحكم بوجوب المضي فيه أريد منه الأعمّ في الشّرع فالحج مطلقا يجب المضي فيه بخلاف سائر الأحكام فإنها منصرفة إلى الصّحيح فلو قال حججت مثلا انصرف إلى الصّحيح أيضا فقوله لوجوب المضي فيه ليس علة وإنّما هو متعلق بيطلق محذوفا إلاّ الحج فإنه يطلق على الأعمّ لخصوص حكم وجوب المعنى دون سائر الأحكام فتأمل ثم قال الشّهيد فلو حلف على ترك الصّلاة والصّوم اكتفى بمسمى الصّحة وهو الدّخول فيها فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ويحتمل عدمه لأنه لا يسمى بصلاة شرعيا ولا صوما مع الفساد ومراده أنّه لو حلف على ترك الصّلاة في مكان مكروه يكفي في الحنث مجرد الدّخول فيها صحيحا وأشكل بأنه بعد تعلق الحلف حرم إتيان الصّلاة وتعلق بها النّفي المفسد

 

للعبادة فلا معنى لتحقق الحنث بعد القول بأن الحلف إنّما تعلق بالصلاة الصّحيحة والجواب أنّه متعلق بالصحيحة قبل الحلف وهي يمكن فعلها بعد الحلف بقصد القربة تشريعا وهو يكفي في الحنث وأشكل أيضا بأن الحلف إنّما تعلق بترك مجموع الصّلاة فاحتمال تحقق الحنث بمحض الدّخول ولو تعقبه الإفساد لا وجه له والجواب أن الظّاهر من ذلك في العرف أن الحلف إنّما هو على ترك التّعرض لها بالكليّة فيحنث بالشّروع فيها صحيحا ثم إن قوله وسائر العقود إن عطف على الصّلاة والصّوم كان مثالا للماهيات الجعليّة مع أن المعاملات ليست بمجعولة للشارع بل هي باقية على المعاني القديمة وإنّما زيد لها في الشّرع شروط ولواحق ويمكن التّفصي عنه بأن المراد من الماهيات الجعليّة الماهيات الّتي اخترعها الشّارع ولو في سابق الزّمان ولا ريب في أن ماهيّة المعاملات أيضا مخترعة للشارع في سابق الزّمان لكونها مما يحتاج إليه الخلق في أمور معاشهم كما يحتاجون إلى العبادات في أمور معادهم وعلم من جميع ذلك أن التّعليل المذكور في كلام الشّهيد لا ينطبق على أي وجه حمل عليه كلامه فالأولى الإعراض عن التّكلّم في ذلك ورد فهمه إلى قائله وهو أعلم بما قال ولنتكلم في أن هذا النّزاع هل يجري في المعاملات أو لا فنقول لا ريب في أن المعاملات ليست ماهيّة مخترعة في شرعنا بل هي ثابتة عند النّافين للشرائع والأديان أيضا لأنها من متعلقات المعاش ولكن الشّارع أمضى بعض أفرادها فحكم بصحته دون بعض فهي باقية على معانيها اللّغويّة والعرفيّة وذهب صاحب الفصول إلى أنها موضوعة للصحيحة أيضا لا كالعبادات بتقريب أنها موضوعة لأمور نفس الأمريّة كالبيع مثلا فإنه موضوع للأثر الخاص وهو النّقل والانتقال وهي شيء ثابت في العرف أيضا ولذا يتبادر منه الصّحيح ويصح سلبه عرفا عن بيع الهاذل ونحوه فلا يسمى بيعا في العرف فهي موضوعة للصحيح عرفا لا يقال فحينئذ ما معنى زيادة الشّروط واللواحق في الشّرع لأنا نقول المفهوم عند الشّرع والعرف واحد وإنّما الاختلاف في المصداق فالعرف يحكم بأنّ البيع الرّبوي مثلا بيع لأنه يحصل به النّقل والشّرع يحكم بأنه ليس بيعا إذ لا يحصل به النّقل والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلاف المفهوم فإن قلت يلزم من ذلك عدم جواز التّمسك بالإطلاقات كأحل الله وأوفوا بالعقود ونحوهما كما هو ثمرة القول بالصحة في العبادات مع أن العلامة رحمه‌الله نقل الإجماع على التّمسك بالإطلاقات في مقام الشّك في الشّرطيّة والجزئيّة في المعاملات قلت ليس المعاملات كالعبادات إذ الماهيّة المجعولة في العبادات ليست معهودة في غير الشّريعة المحمّديّة فينحصر طريق تحديدها في السّؤال من الشّرع بخلاف المعاملات فإن معانيها معهودة في العرف فيمكن تحديدها بالرجوع إلى العرف وفيه أن القول باختلاف الشّرع والعرف في المصداق

 

دون المفهوم لا وجه له إذ لو كان كذلك لوجب ارتداع العرف عن ذلك بعد تنبيه الشّارع لهم على خطائهم في المصداق وليس كذلك فإنّهم يحكمون على البيع الرّبوي بأنّه بيع بعد نهي الشّارع عنه أيضا فيعلم أنّ النّزاع ليس في المصداق وإلا لارتدعوا عن الحكم المذكور بعد نهي الشّارع مع أن الرّجوع إلى العرف حينئذ إنما يكون لتمييز المصاديق الصّرفة لمفهومها المعلوم وقد عرفت سابقا عدم حجيّة قول العرف في تعيين الموضوعات الصّرفة فالأولى أن يقال إنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح العرفي وإنّه أعمّ من الصّحيح الشّرعي لأنهم يعدون مثل القمار ونحوه أيضا صحيحا مع فساده في الشّرع وحينئذ فإذا تعلق بها حكم في الشّرع انصرف إلى الصّحيح العرفي فلو علم زيادة شرط في الشّرع حكم به وإلاّ نفي بالإطلاق أو يقال بأنها موضوعة للصحيح الشّرعي كما يقوله الشّهيد ويلتزم بإجمال تلك الألفاظ وعدم التّمسك بإطلاقها إذا تمهد هذه المقدمة فنقول ذهب جماعة إلى أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصّحيحة وجماعة إلى أنّها موضوعة للأعمّ من الصّحيحة والفاسدة وقد عرفت أن الصّحة عبارة عن كون العمل جامعا لجميع الأجزاء والشّرائط والوضع للمعنى الصّحيح كما هو مذهب الصّحيحيّة يتصور بوجوه لا يخلو كل واحد منها من الإشكال وذلك لأنّ الموضوع له إمّا شخص الصّحيح وهو الصّلاة الّتي يفعلها القادر والمختار العالم العامد جامعا لجميع الشّرائط والأجزاء وسائر الأفراد أبدال مسقطة وليست بصلاة حقيقة وإمّا نوعه ولا يخلو إمّا أن يكون مشتركا لفظيا بين الأفراد كصلاة المختار والعاجز والجاهل والعالم والنّاسي والعامد وغير ذلك أو معنويا والأوّل ظاهر والثّاني يتصور بوجهين الأول أن يكون الموضوع له معنى بسيطا بحيث يكون تلك الأفراد مصداقا له حال صحتها لا حال فسادها كأن يكون الموضوع له للصّلاة هو مفهوم مبرئ الذّمة أو النّاهي عن الفحشاء ونحوهما فتلك الأفراد صلاة حين صحتها لا حين فسادها والثّاني أن يكون الموضوع له مركبا ويكون قدرا مشتركا بين تلك الأفراد ولا يمكن هذا إلاّ بأن يكون موضوعا لجملة من الأجزاء الّتي توجد في ضمن الجميع إذ لا يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الزّائد والنّاقص بحيث يكون الزائد أيضا فردا له إلاّ إذا كان الزّائد أيضا من جنس القدر المشترك كالحنطة فإنّها موضوعة للقدر المشترك بين المنّ والمنين مثلا لأنّ المنّ الزّائد أيضا من جنسها بخلاف الصّلاة فإنها لا يمكن أن تكون مشتركة معنويّة بين الزّائد والنّاقص إذ الزّائد فيها ليس من جنس القدر المشترك وحينئذ فتلك الأجزاء المعتبرة في المسمى قد توجد في ضمن الصّحيح وقد توجد في ضمن الفاسد فالوجوه أربعة الأول أن يكون الموضوع له شخصيا والثّاني أن يكون مشتركا لفظيا بين الأفراد والثّالث أن يكون موضوعا للمعنى البسيط الّذي يكون كل واحد من الأفراد محصلا له والرّابع أن يكون موضوعا للمعنى المركب اللابشرط

 

الموجود في ضمن الجميع ويرد على الأول أنّه مخالف لديدن العلماء حيث يستدلّون بالأدلّة الدّالّة على حكم الصّلاة على حكم صلاة المضطر والسّاهي وغيرهما أيضا فإنّ قوله عليه‌السلام لا صلاة إلاّ بطهور يثبت وجوب الطّهارة لصلاة السّاهي أيضا من غير احتياج إلى دليل خارجي ولو كانت الصّلاة موضوعة لشخص خاص لم يمكن ذلك وهذا يرد على الثّاني أيضا مضافا إلى أنّه موجب للإجمال حتى بالنّسبة إلى صلاة القادر المختار أيضا أو مستلزم لإرادة أكثر من معنى واحد من المشترك وعلى الثّالث أمران الأوّل أن من الواضح أنّ الصّلاة ليست اسما للمفهوم البسيط لأنّها مركبة قطعا أولها التّكبير وآخرها التّسليم والثّاني أنّه مستلزم لعدم جواز إجراء أصالة البراءة عند الشّك في الشّرط والجزء إذ المفهوم المكلف به معلوم تفصيلا والشّك إنّما هو في حصوله في ضمن هذا الفرد وهذا مورد الاحتياط إجماعا نعم لو كان المكلف به مركبا وشك في قلة أجزائه وكثرته حكم بالأقلّ لأصالة البراءة مع أن أكثر الصّحيحين قائلون بإجراء أصالة البراءة فإنّ إجراءها لا يختص بالأعمّيّة بل المختص بهم هو التّمسك بالإطلاق وعلى الرّابع أنّه عين مذهب الأعمّيين فإنّ القدر المشترك الّذي يوجد في الجميع لا يختص بالصحيح لوجوده في ضمن الفاسد أيضا وبالجملة للخدشة في جميع الوجوه محل والأقرب منها هو الاحتمال الأوّل بتقريب أن يقال إنّ الموضوع له اللّفظ في صدر الشّريعة هو المعنى الشّخصي المذكور وهو العنوان في خطابات الشّارع وأمّا غيره فقد استعمل فيه اللّفظ وصار حقيقة فيه في لسان المتشرّعة فاللّفظ متى أطلق انصرف إلى ذلك المعنى وأمّا التّمسك بالإطلاقات فإنّما هو بعد إحراز أن حكم البدل حكم المبدل منه بالإجماع ونحوه مثلا كما يستدلّون بالخطابات المتعلقة بالمشافهتين على أحكام غير المشافهين للإجماع على الاشتراك في التّكليف ولكونه ظاهرا لا يحتاج إلى البيان هذا وأمّا الوضع للأعمّ فهو أيضا يتصور بوجوه منها ما ذكره الفاضل القمي ره من أنها موضوعة لذات الرّكوع والسّجود والتّكبير والقيام والباقي شروط ولواحق وفيه أنّا نقطع بعدم صدقها على الأركان المخصوصة إذا وقع فيها بعض المنافيات كالطفرة والتّكلّم بما شاء خصوصا مع عدم الاستقبال والسّتر ونحو ذلك وبالصدق العرفي على الجامع للشّرائط والأجزاء سوى الرّكوع مثلا مع أنها لو كانت موضوعة للأركان لكان إطلاقها على الجامع للأجزاء والشّرائط مجازا تسمية للكل باسم الجزء مع أنّه ليس كذلك قطعا ومنها ما ذكره الشّريف من أنّها موضوعة لما يصدق عليه الصّلاة عرفا وفيه أنّه إن أريد بالعرف عرف العوام فهم لا يفهمون معنى الصّلاة ومسماها إلا بتقليد العلماء فلا يمكن التّحديد بالرجوع إليهم وإن أريد عرف العلماء فهو عين المتنازع فيه

 

عندهم وقال بعضهم إنّها موضوعة لمعظم الأجزاء ويرد عليه ما ورد على الفاضل القمي رحمه‌الله من أنّه يلزم أن لا يطلق على المجموع إلاّ مجازا وقيل إنّها ما يقوم به الهيئة وهو أيضا غير تمام إذا المراد بالهيئة إمّا هيئة الصّلاة فهو عين المتنازع فيه أو غيرها وهو ليس معنى الصّلاة قطعا والّذي يمكن أن يقال إنّ كون الموضوع له هو المعنى الصّحيح الجامع لجميع الأجزاء والشّرائط الشّخصيّة قطعي ولا ريب في صيرورة اللّفظ حقيقة في الأبدال المسقطة أيضا بكثرة الاستعمال توسعا فالصحيحيّة يقولون بانحصار الموضوع له بالوضع التّعيّني المسبوق بالاستعمال توسعا في خصوص الصّحيح والأعمّيّة يقولون قد صار حقيقة في الفاسدة أيضا بعد الاستعمال توسعا أو يقال بأنها من حيث الأجزاء موضوعة للصحيح إمّا بالاشتراك اللّفظي أو بطريق كون الوضع عاما والموضوع له خاصا بأن لاحظ الأركان مع جملة من الأجزاء لا على التّعيين ووضع اللّفظ بإزاء كل واحد من الأفراد المختلفة نظير وضع الأعلام فإنّه لوحظ النّفس مع ما يتبعه من البدن ووضع اللّفظ لكل واحد من الخصوصيات المختلفة وكلفظ الدّار والبيت ونحوهما وحينئذ لا بد من التزام الإجمال في الخطابات الصّادرة وأمّا من حيث الشّرائط فيصح النّزاع المذكورة فالصحيحيّة يقولون بدخولها في المسمى فلا يمكن التّمسك بالإطلاق والأعمّيّة على عدم الدّخول وأمّا الأعمّ من جهة الأجزاء فقد عرفت أنّه غير معقول إذ لا يمكن تحديد المسمى بحيث يشمل الصّحيح والفاسد من حيث الأجزاء ويكون المعنى شيئا واحدا كما هو مذهب الأعمّيّين نعم يمكن بطريق كون الوضع عاما والموضوع له خاصا كما ذكرنا لكنه يتعدد المعاني ويلزم القول بتحقق ألف ماهيّة للصلاة والأعمّيّة قد فروا من ذلك فتأمل جدا وكيف كان يجب ذكر ما رتبوه على النّزاع المذكور من الثّمرات والنظر في جرحه وتعديله على مذاقهم فنقول من الثّمرات إجراء الأصل فإنه يمكن على مذهب الأعمّيّة دون الصّحيحيّة والمراد بالأصل أصالة عدم التّقييد وذلك بناء على جعل المسمى عند الأعمّيّة شيئا واحدا موجودا في ضمن الصّحيح والفاسد وحينئذ فنقول الأمر إذا تعلق بالمطلق كان ظاهرا في أنّه لا مدخليّة لغير الطّبيعة في المطلوبيّة فكلما أريد تقييد المطلوب به وجب بيانه فإذا لم يبين نفي بالإطلاق كما إذا قال المولى لعبده أعتق رقبة فمتى لم يبين مدخليّة الإيمان وكونه قيدا للرّقبة جاز للعبد نفيه بالأصل ولما كان المسمى عند الأعمّيين معلوما والطّلب وارد عليه فكلما علم تقييده به من الدّليل الخارج فهو وما شك فيه فالأصل عدمه بخلاف الصّحيحيّين لأن المسمى عندهم عين المطلوب فإذا شك في ثبوت جزء أو شرط يرجع الشّك إلى تحقق أصل المسمى فلا إطلاق يتمسك به وأمّا أصل البراءة فلا يتفاوت القولان في إجرائه لأنّه مبني على أن العلم الإجمالي بالتكليف عمل يوجب تحصيل البراءة القطعيّة

 

أولا بل لا يجب الامتثال ما لم يقطع بالمكلف به تفصيلا فمن قال بالأوّل قال بوجوب الاحتياط عند الشّكّ في شرط أو جزء على القولين مع قطع النّظر عن تعيين المكلف به بالإطلاق على مذهب الأعمّيّة ومن قال بالثّاني قال بالبراءة مطلقا على القولين فافهم بل الثّمرة إنّما تظهره بالتمسك بالإطلاق وعدمه لا يقال إنّ الأعمّ لا يكون مطلوبا قطعا بل المطلوب هو الصّحيح على كلا القولين فقول الشّارع صل قد تعلق فيه المطلب على الصّلاة الصّحيحة دون الأعمّ قطعا وهذا المعنى يشترك فيه المذهبان فلا إطلاق على القولين لأنّا نقول إن أريد بالصّحيحة موافق الأمر فلا شك أنّ هذا متفرع على الأمر وليس مأخوذا في المكلف به وحينئذ إذا تعلق الأمر بالطّبيعة الغير المقيدة كان جميع أفرادها مطلوبة لموافقتها للأمر وإن تعلق بالطّبيعة المقيدة كان ما حصل القيد فيه صحيحا وغيره فاسدا والأعمّيّة يقولون إنّ الصلاة اسم لماهيّة مطلقة ولما تعلق أمر الشّارع بها مقيدا فحينئذ وجد لها فردان صحيح وهو ما وجد فيه القيد وفاسد وهو ما لم يوجد فيه وإذا شك في التّقييد بشيء حكم بعدم اعتباره في الامتثال وإلاّ لبيّن وإن أريد بالصّحيحة ما جمع الشّرائط والأجزاء فلا شك أن للكاشف عن ذلك هو لفظ الشّارع فإذا كان متعلق الأمر ماهيّة مطلقة فظاهره أنّه الجامع للأجزاء والشّرائط فإن اعتبر فيه قيد آخر أخذ به وإلاّ نفي بالإطلاق لأن المسمى معلوم وكذا الكلام في المعاملات فيعلم من إطلاق قوله تعالى أحل الله البيع حليّة جميع الأفراد إلاّ أنّ يبيّن القيد من الخارج ولو تم الاعتراض المذكور لجرى في المعاملات أيضا مع أنّ التّمسك فيها بالإطلاق مما لا ريب فيه وهذا بخلاف قول الصّحيحيّة إذ ليس المسمى عندهم معلوما فيصير أصل الخطاب مجملا عندهم عند الشّك في الشّرائط والأجزاء فافهم وأورد على الثّمرة المذكورة وجوه منها أن التّمسك بالإطلاق باطل على قول الأعمّيّة أيضا أن يشترط في التّمسك به أن يكون في مقام البيان ولا يكون المراد به بيان حكم للطّبيعة على وجه الإجمال والإهمال والأدلّة المطلقة في الشّريعة مهملة غالبا فإن المراد بقوله تعالى أقيموا الصّلاة مثلا وجوب هذه الطّبيعة في الجملة أمّا مطلقا فلا والبيان موكول إلى مقام آخر وكذا مثلءاتوا الزكاة وأمثاله وقد يطلق على مثل هذا أن المطلق وارد مورد حكم آخر بمعنى أنّه ليس لبيان حكم الطّبيعة كليّة بل على وجه الإهمال وأورد نظير ذلك على تمسك الشّيخ الطّوسي رحمه‌الله بقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم على طهارة موضع عضّ الكلب المعلم وذلك أن الأمر بالأكل إنّما هو ناظر إلى جوازه من حيث التّزكية لا من وجوه آخر أيضا ولذا لو تنجس بنجاسة أخرى أو كان ملكا للغير لم يجز كله قطعا ومنها أنّه وإن سلم الإطلاق والعموم لكن قد قيل وخصص بالمجمل كقوله في الحج خذوا عني مناسككم وفي الصّلاة صلوا كما رأيتموني أصلي وفي

 

الوضوء هذا وضوء لا يقبل الله الصّلاة إلاّ به ونحو ذلك ولا ريب أن العام والمطلق المخصص أو المقيد بالمجمل ليس حجة ومنها أن شرط التّمسك بالإطلاق تساوي أفراد المطلق ظهورا وخفاء ولا ريب في شيوع استعمال هذه الألفاظ في الصّحيح فينصرف إليه عند الإطلاق والكل فاسد أمّا الأوّل فلأنّه مستلزم لعدم جواز التّمسك بالإطلاق في شيء من المقامات لورود الاحتمال المذكور في جميع الموارد وليس كذلك فيجب من ذكر ضابط كلي يرجع إليه عند الشّكّ فنقول ذكر بعضهم أنّ التّمسك بالإطلاق وعدمه عند الشّكّ في كونه واردا في مقام الإجمال مبني على أن الورود في ذلك المقام هل هو مانع عن التّمسك به أو أن عدم الورود شرط فعلى الأول يرفع بأصالة عدم المانع وعلى الثّاني يلزم الشّكّ في الشّروط وفيه أنّ عدم الورود إن أمكن إثباته بالأصل فلا يتفاوت كونه شرطا وكون الورود مانعا إذ بناء على كونه شرطا يثبت وجوده بالأصل أيضا نعم يثمر هذا الكلام إذا تردد الأمر بين كون وجود شيء شرطا وبين كون شيء آخر مانعا هذا وربما يقال في الضابط إنّ من البديهيات أنّه لا يجوز تعليق الحكم على الطّبيعة مرددا بين اللابشرط وبشرط شيء أو بشرط لا على الطّبيعة الّتي هي المقسم بين الأقسام الثّلاثة إذ لا بد في الحكم على الشّيء من كونه معينا عند الحاكم ولذا ذكروا أنّه لا معنى للإجمال في الأحكام العقليّة لأن الحاكم فيها هو العقل ولا بد من تعيين الموضوع عند الحاكم نعم يجوز تحقق الإجمال عند غير الحاكم بأن لا يعلم مراد الحاكم وحينئذ فلا معنى للإهمال في خطابات الشّارع بل في مطلق الخطابات بل الموضوع لا بد أن يكون مقيدا أو لا بشرط ولا معنى للإجمال لا يقال إنّ وجود الخطابات المهملة في الشّرع مقطوع به فكيف ذلك قلت فرق بين الخطابات الواردة في الشّرع ابتداء والخطابات المتأخّرة المؤكدة للخطابات السابقة ففي الأوّل لا يجوز الإجمال لما ذكرنا بخلاف الثّاني لأن الخطابات المتأخرة بمنزلة المعهودة فلا يضر الإهمال فيها لانصرافها إلى ما بين في السابق إذا تحقق هذا فنقول إن في جملة هذه الخطابات المطلقة نقطع بوجوه خطاب ابتدائي فيتمسك بإطلاقه ويحمل عليه باقي الخطابات لكونها مؤكدة له هذا حاصل ما قيل ويرد عليه لا نسلم امتناع الإهمال في الخطابات الابتدائيّة والوجه المذكور في بيانه مغالطة إذ الإجمال الّذي يستحيل في موضوع الحكم إنّما هو التّردد الواقعي ولا نقول به في المقام بل نقول إنّ المتكلّم قد لا يكون في مقام بيان تفصيل مراده بل يبينه إجمالا ويحيل بيانه إلى وقت آخر كما يقول الطّبيب للمريض لا بد لك من أكل الحامض ثم يبين له نوعه وصنفه وحينئذ فإذا شك أن المتكلّم هل هو في مقام البيان أو لا لم يجز التّمسك بإطلاق كلامه ومقتضى هذا إجمال الخطابات الواردة في الشّرع حيث لا يعلم

 

ورودها في مقام البيان والأولى في الجواب أن يقال إن الغالب في كلام الشّارع وروده في مقام البيان مضافا إلى أنّه شأن الشّارع وحينئذ فهو الأصل في كلامه فمتى شك في مورد الحق بالغالب وهو البيان وأمّا الثّاني فلأنّه إن أريد بالمجمل أنّه أطلق في اللّفظ ثم بينه بالبيان الفعلي وليس بأيدينا ففيه أن البيان الفعلي ليس مقيدا للمطلق لأن بيان المطلق يمكن ببعض أفراده كما يظهر من تعليم الصّلاة والوضوء للأطفال في أوّل الأمر وهو لا يدل على إرادة الفرد المخصوص من المطلق وإن أريد أنّه قد قرن العمل بلفظ دال على الحصر كقوله في الحج خذوا عني مناسككم وفي الوضوء هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به وفي الصّلاة هكذا صل ففيه أنها لا توجب إجمال الإطلاقات فإنّ مفاد الأوّل وجوب أخذ المناسك من الشّارع لا من غيره ولا شبهة فيه فإن التّمسك بإطلاق كلام الشّارع أخذ من الشّارع وأمّا الثّاني فهو أيضا لا إشكال فيه إذا حمل على ظاهره أعني جعل الجملة صفة للوضوء فيكون مفاده أن هذا من أفراد الكلي الّذي هو شرط الصّلاة وهذا لا يفيد الحصر وإن جعل الجملة خبرا بعد خبر وجب تأويله للقطع بعدم انحصار الوضوء فيما فعله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن عمله لم يكن منحصرا في أقل الواجبات بالعلم العادي والمراد من قوله هكذا أصل أن هذا من أفراد الصّلاة لوجود المستحبات الكثيرة فيما فعله الإمام عليه‌السلام المشار إليه بهكذا مضافا إلى أن الأمر لا يفيد الوجوب التّعييني بل هو أعمّ من التّخييري فتأمّل وكذا قوله صلوا كما رأيتموني أصلي فإنه نظير قولك تعلم مني وجميع ذلك لا يدل على الانحصار لما ذكرنا من وجود المستحبات الكثيرة في الأفعال البيانيّة وبهذا ظهر أنّه لا يمكن تحديد الماهيّة مع قطع النّظر عن الإطلاق بهذه الأخبار لأنها إنّما تدل على أن ما لم يفعله الإمام ليس واجبا بضميمة مقدمة خارجيّة وهي أن الإمام لا يترك الواجب وأمّا تحديد الواجبات فلا فافهم وأمّا الثّالث فيمكن الجواب عنه بوجهين أحدهما أن الفرد الشّائع هو الصّلاة الكاملة المتعارفة ونقطع بعدم إرادتها من المطلقات لوجود المستحبات الكثيرة فيها والشّيوع إنّما يصير سببا للانصراف إذا لم نقطع بعدم إرادة الشّائع والثّاني أن شيوع الاستعمال في الصّحيح إنّما حصل بعد زمان ورود تلك الخطابات إذا الشّيوع حصل بسبب كثرة الامتثال لتلك الطّبيعة بالفرد الخاص فكيف يصير الشّيوع المتأخر سببا لانصراف الطّبيعة إلى الفرد الشّائع نعم يصح ذلك فيما إذا كان إطلاق الطّبيعة متأخرا عن شيوع فرد منها فإن قلت قد شاع الفرد المخصوص في زمان الأئمة عليهم‌السلام فينصرف إطلاقات كلامهم إليه قلت إذا كان المطلق الوارد في كلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مرادا به نفس الطبيعة كان مراد الأئمة أيضا ذلك لعدم كونهم مؤسسين للشّرع وإنّما يبيّنون الأحكام الصّادرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فافهم ولنذكر شطرا من أدلّة الطّرفين ليظهر

 

الحق المحقق في البين فنقول قبل الخوض في المطلب إنّ الأصل في المقام هل يقتضي الوضع للصحيح أو الأعمّ ليرجع إليه عند عدم الدّليل فنقول إن كان الشّكّ في أن الموضوع له هو الصّحيح أو الأعمّ فلا ريب أنّ الأصل لا يقتضي شيئا منهما لا يقال إنّ الوضع للصحيح متيقّن والأصل عدم الوضع للفاسد لأنّا نقول لا قدر متيقن في البين من حيث الموضوع له إذ لو كان هو الأعمّ لم يكن الصّحيح موضوعا له وقد أشرنا إلى هذا في المباحث السّابقة هذا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو المركب السّاري في جميع الأفراد وإن قلنا بأنه القدر المشترك بناء على قول الأعمّيّة فيمكن أن يقال إنّ الأمر دائر بين الاشتراك المعنوي كما يقتضيه قول الأعمّيّة والحقيقة والمجاز كما يقتضيه قول الصحيحيّة والأصل في لفظ استعمل في معنيين بينهما جامع قريب هو الاشتراك المعنوي لكن قد ذكرنا أن المدار على الغلبة ولا غالب لنا بل الاستعمال في خصوص الصّحيح أغلب وإن قلنا إنّ الموضوع له هو الفرد الكامل والنّزاع إنّما هو في صيرورة الفاسد أيضا موضوعا له في لسان المتشرعة كسائر الأبدال الصّحيحة فلا ريب أن الأصل مع الصّحيحيّين لأصالة عدم طريان الوضع بالنّسبة إلى الفاسد استدل الصحيحيّون بوجوه منها تبادر الصّحيح في لسان المتشرعة الّذي هو الميزان لعرف الشّارع وفيه أن المراد إن كان تبادر مفهوم الصّحيح فقد ذكرنا أن الصّلاة ليست اسما للمفهوم وإن كان تبادر المصداق فإن أريد جميع المصاديق فلا يخفى بعده وإن أريد الفرد الكامل فيرد أنّه لو كان ذلك معنى اللّفظ لما كان مجملا مع إطباق الصّحيحيّين على إجمال المعنى وبهذا أظهر فساد ما قيل في جواب الإشكال الوارد على الصحيحيّين حيث ينافي قولهم بالإجمال استدلالهم بالتبادر من أن التّبادر لا ينافي الإجمال لجواز أن يكونوا عالمين بمعنى اللّفظ إجمالا فيكشف تبادرهم عن المعنى إجمالا وذلك لأنّ اللّفظ قد وضع للمعنى المعين الواقعي ولا إجمال فيه بوجه فتبادر المعنى معناه تبادر ذلك المعنى الواقعي المبين فتبادر المعنى إجمالا ليس تبادرا للمعنى عن اللّفظ بل هو انتقال إلى المعنى للعلم بوضع اللّفظ لمعنى إجمالا وليس تبادرا للمعنى عن اللّفظ هذا وأورد أيضا بأنّ التّبادر المذكور غير مثمر إذ الشّائع المتبادر هو الفرد الكامل وهو غير مراد من الإطلاقات لاشتمال الفرد المذكور على المستحبات والسّنن الغير الدّاخلة في المعنى قطعا وأورد أيضا بأنّه يلزم على القول بالصّحة أن لا يصح الإخبار بأنّ فلانا يصلي إلاّ بعد العلم بصحة صلاته لأنّه في معنى أن صلاة فلان صحيحة وهو غير جائز إلاّ بعد العلم مع أنّه يجوز الإخبار بذلك ولو حين الصّلاة وأجيب بأنه من باب حمل فعل المسلم على الصّحة فيجوز الحكم بصحة صلاته أيضا كذا قيل واعترض عليه بأن الأصل المذكور لا يثبت عنوان الصّلاة بل مفاده وجوب ترتيب آثار

 

الصّحة ولذا إذا شككت في أن ما تكلم به زيد سلام أو شتم نحكم بعدم كونه شتما لكن لا تثبت كونه سلاما وتحكم بوجوب الرّد فالأصل المذكور لا يوجب صحة القول بأنّ فلانا يصلي وأن معنى قولنا صلاة زيد صحيحة أنها صحيحة واقعا وهي لا تثبت بالأصل وإنّما تثبت به الصّحة الظّاهريّة فالأخبار بذلك لا يجوز إلاّ بإرادة الصّحيح في اعتقاد المخبر وهو مجاز إذ هو موضوع للصحيح الواقعي أقول أمّا عدم إحراز الأصل عنوان الصّلاة فصحيح ولكن قوله إن معنى صحة صلاة زيد صحتها واقعا وهي لا تثبت بالأصل فيه أن الأصل ليس ناظرا إلى الواقع ولا إلى الظّاهر بل مفاده وجوب ترتيب الآثار وحينئذ فيجوز بمقتضى الأصل أن يقال صلاة زيد صحيحة أي في الواقع ولا يكون تجوز في شيء من المحمول والموضوع ويكون التّجوز في الحمل والمعنى أنها في حكم الصحيحة كقولهم الفقاع خمر وكيف كان فالإشكال المذكور لم يندفع بالجواب المذكور والأولى في الجواب أن يقال أن القرينة موجودة في أمثال هذه المقامات على أن المراد الإخبار بكونه متلبسا بهذا العمل على أي نحو كان فمعنى فلان يصلي أنّه متعرض لهذا العمل متلبس به وبهذا يندفع الإشكال الآخر الوارد على قول الصّحيحيّة وهو أنّه لا يطلق تارك الصّلاة على من يفعل الفاسدة وذلك لأنّ المراد من تارك الصّلاة من لا يتعرض لهذا العمل بوجه ولذا لو تعرض له بوجه ما ولو بما لا يطلق عليه الصّلاة عند الأعمّيّة أيضا لا يطلق عليه تارك الصلاة فافهم ومنها أنّه على قول الصّحيحيّة يوجد للصلاة حد محدود وكالعمل الصحيح والعمل المبرئ للذمة والعمل الّذي هو عمود الدّين والنّاهي عن الفحشاء ونحو ذلك بخلاف قول الأعمّيّة إذ الأعمّي الأركاني لا وجه لقوله بعد ما عرفت من الإطلاق على فاقد بعض الأركان وعدم الإطلاق على جامعها إذا اشتمل على كثير من المنافيات والأعمّي العرفي يدور أمره مدار العرف وليس له حد مضبوط وفيه ما عرفت أن الصّلاة اسم للمركّب لا للمفهوم فلا يكون لها حد محدود عند الصّحيحيّة أيضا إلاّ بأن يجعل اسما للفرد الكامل أو لجميع الأفراد بطريق كون الوضع عاما والموضوع له خاصا وكلاهما بعيد عن مساق كلماتهم ومنها صحة السّلب شرعا وعرفا عن الفاسدة أمّا عرفا فلما يظهر من المراجعة إليهم حيث يصح سلب الصّلاة عندهم عما لا طهور فيه ولا استقبال إذا كانوا في مقام التّحقيق والمداقة لا في مقام المسامحة إذ لا عبرة فيه ولذا نقول بأن ألفاظ المقادير كالمثقال والمنّ وغيرهما موضوعة للكامل لصحة السّلب عن النّاقص ولو يسيرا عند المداقة كما في ميزان الذّهب ونحوه وإن أطلق على النّاقص عرفا عند المسامحة لتنزيل وجود الشّيء منزلة عدمه مضافا إلى أن الوضع للصحيح مسلم وبهذا الاعتبار يجب سلبه

 

عن الفاسدة لانتفاء المركّب بانتفاء بعض الأجزاء ضرورة وما يقال إنّ الجزء قد يكون جزءا حال وجوده لا حال عدمه كأجزاء الأعلام الشّخصيّة مسلم لكنه لا يمكن بوضع واحد بل لا بد من تعدد الوضع بالنّسبة إلى الزّائد والنّاقص كما في الأعلام وإلاّ فصحة السّلب عن النّاقص بالنّظر إلى الوضع للزائد بديهي والأعمّي يلزمه إثبات وضع آخر للفاسد فتأمّل وأمّا شرعا فلقوله لا صلاة إلاّ بطهور ولا عمل إلاّ بنيّة ونحو ذلك فإن مثل هذا التّركيب موضوع لنفي الذّات فيحمله عليه لأصالة الحقيقة وأورد عليه بأنّ حجيّة أصالة الحقيقة إنّما هي من حيث الظّنّ وهو مفقود في المقام لشيوع استعمال التّركيب المذكور في نفي الصّفات حتى قيل فيه بالنّقل وحينئذ فيرتفع ظهور الحقيقة ولا أقلّ من التّوقّف وفيه أن الشّائع ليس هو الاستعمال في نفي الصّفات كيف وقد ترى أنّه لا يستعمل في مقام نفي الصّفات إلاّ مبالغة ولا مبالغة إلاّ إذا أريد به نفي الذّات ألا ترى أنّه لو قيل لا صلاة كاملة لجار المسجد إلاّ في المسجد لم يكن فيه مبالغة كما في لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد وهذا شاهد على بقائه على المعنى الأصلي وهو نفي الذّات نعم لو ادعي شيوع استعماله في نفي الذّات مبالغة وبه يخرج عن الظهور في إرادة السّلب حقيقة لكان له وجه لو لا يتوجه عليه من منع ذلك في الموارد الخالية عن القرينة والعلم بوجود أصل الذّات في تلك الموارد قرينة على المبالغة ولذا لا يتوقف في الحمل على السّلب حقيقة إذا لم يعلم بوجود الذّات ومنها قوله تعالى إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقوله عليه‌السلام الصلاة عمود الدّين وقربان كلي تقي وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ترتب الآثار على عنوان الصّلاة بإطلاقه فيدل على كونها اسما للصحيح وفيه أنّ الإطلاق في أمثال هذه المقامات لا حجيّة فيه إذ ليس إلاّ في مقام الإهمال والإجمال وإحالة البيان إلى مورد آخر ومنها أن موضوعات العبادات توقيفيّة كالأحكام الشّرعيّة ولا بد فيها من الرّجوع إلى الشّارع بخلاف المعاملات وبخلاف الألفاظ الّتي تذكر في بيان تلك الموضوعات وحينئذ فلا يمكن تحديدها بالرجوع إلى العرف كما هو مذهب الأعمّيّين لمنافاته للتوقيفيّة وبعبارة أخرى يرجع الشّك في تلك الموضوعات جزءا أو شرطا إلى الشّك في نفس الحكم وأنّ الواجب هل هو المركب من الجزء الفلاني أو غيره وتعيين حكم الشّرعي لا يمكن بالرجوع إلى العرف وأورد عليه أولا بالنّقض فإن الصّحيحيّين أيضا يرجعون إلى العرف حيث يتمسكون بالتبادر وثانيا بالحل فإن العرف الّذي هو المرجع للأعمّيّين هو عرف لمتشرعة الّذي هو الميزان لعرف الشّارع لا عرف العوام كما هو المرجع في المعاملات ونحوه فحصل الفرق وقد ذكر بعض المحقّقين أنّه لا تفاوت بين الصّحيحيّين والأعمّيّين في تعيين المعنى بالرجوع

 

إلى العرف لأنّه ميزان عرف الشّارع كما يرجع في تعيين المعنى اللّغوي إلى عرف العوام ولا يضر الاختلاف في العرف كما لا يضر في المعاني اللّغويّة كالغسل حيث قيل إنّه يعتبر فيه العصر وقيل إنّه يصدق بالماء المضاف وقيل لا وقلّ مقام خال من الخلاف وفيه نظر فإن رجوع الصحيحيّين إلى تبادر العرف على فرض صحته إنّما هو لتحديد المعنى على نحو الإجمال وإن معنى الصّلاة هو الصّحيح لا التّحديد كليّة كما هو مذهب الأعمّيّين حيث يريدون نفي الجزء المشكوك بصدق اللّفظ عرفا على فاقده وهو لا يمكن إلاّ بتحديد الماهيّة كليّة ولا ريب أنّ التّحديد الإجمالي يحصل بالرّجوع إلى العرف وأمّا التّحديد كليّة فلا إذ المعنى مجمل عند المتشرعة أيضا كما يرى من اختلافهم في الأجزاء والشّرائط ليس المعنى مبنيا عندهم باقيا على ما كان لكثرة التّغير والتّحريف ولا أقل من الشّك لتوفر الدّواعي إلى التّغيير بخلاف المعاني اللّغويّة إذ لا داعي إلى تغييرها فتأمّل نعم لو كان المعنى محدودا في عرف المتشرعة لكان للرجوع إليه في التّحديد الكلي وجه حيث إنّه ميزان لعرف الشّارع وليس كذلك واستدل الأعمّيّون بوجوه منها التّبادر لما يرى من أنّه لو أخبر بأنّ فلانا يصلي وكان صلاته فاسد لم يكذب القائل بخلاف ما لو قال حينئذ إنّه لا يصلي فإنّهم يكذبونه ومنها عدم صحة السّلب والجواب المنع والتّكذيب في المثال وعدمه إنّما هو لما ذكرنا أن المراد بذلك عرفا هو التّعرض للعمل وعدمه فلا يطلق التّارك على المتعرض للعمل ولو على وجه الفساد كما سبق ومنها اتفاق العلماء مع كونهم صحيحيّين على التّمسك بالإطلاقات في نفي الشّرط والجزء المشكوك وهو لا يمكن إلاّ على مذهب الأعمّيّين أمّا الثّاني فلإجمال اللّفظ عند الصّحيحيّين وأمّا الأوّل فيظهر من المراجعة إلى كتبهم ألا ترى الشّهيد الثّاني رحمه‌الله مع أنّه صحيحي في المعاملات أيضا بتمسك في نفي اشتراط حضور الإمام في وجوب الجمعة بإطلاق الأمر بصلاة الجمعة والحاصل أن عمل الصّحيحيّين أيضا على طبق الأعمّيّين وهذا في الواقع إيراد للتّناقض بين أقوال الصّحيحيّين وبين عملهم والجواب منع ذلك الاتفاق وما نقله عن الشّهيد رحمه‌الله لا دخل له في المقام إذ الكلام إنّما هو في التّمسك بإطلاق لفظ العبادة فهذا لا يمكن للصحيحيّين والشّهيد رحمه‌الله لم يتمسك بذلك بل إنّما تمسك بإطلاق الأمر فإن الظّاهر منه عدم كون الوجوب مشروطا والفرق واضح بين شرائط الوجوب وشرائط الصّحة والّذي لا يمكن نفيه بالإطلاق هو الثّاني والشّهيد رحمه‌الله إنّما تمسك به في الأوّل نعم يمكن أن يقال بأنّ نفي الاشتراط بإطلاق الأمر إنّما يتم لو كان الأمر شاملا للمعدومين وإلاّ فلا لأن اختصاص الأمر بواجدي الشّرائط حينئذ يغني عن التّصريح بالشرائط كما يقال للمستطيع حج مطلقا لوجدانه للشرط فلعل وجود الإمام شرط لكن لما كان المخاطبون واجدين له لم يصرح بالاشتراط بخلاف ما لو قيل بشموله للمعدومين لقبح توجيه الخطاب المطلق إلى

 

فاقد الشّرط فإن ظاهر الخطاب قدرة المخاطب فعلا على الامتثال وهو مناف لكونه مشروطا بشرط غير حاصل ولو فرض استدلال من سائر العلماء بالإطلاق فإنّما هو نظير استدلال الشّهيد رحمه‌الله وهذا التّوجيه لا بد منه وإن فرض بعده فإنه أولى من حمل كلمات العلماء على كونها مناقضة لعملهم فافهم وربما قيل في وجه الجمع أن الصّحيحيّين أيضا يمكنهم التّمسك بالإطلاق بعد الفحص إذ من البعيد أن يكون هناك جزء أو شرط ولا يبين في الشّرع مع عموم البلوى فيعلم من عدم الوجدان عدم الوجود لعموم البلوى وفيه أنّه تمسك بأصالة البراءة لا بالإطلاق إذ لا إطلاق على مذهب الصحيحيّة ومنها أنّه يلزم على قول الصّحيحيّين أن يدل النّهي في العبادات على الصّحّة كما هو مذهب أبي حنيفة إذ اللّفظ موضوع للصحيح والنهي عن الصّحيح مستلزم للقدرة عليه إذ لا معنى للنهي عن غير المقدور كما لا يجوز نهي الإنسان عن الطّيران مع أنّ دلالة النّهي على الصّحة فاسدة قطعا فيكون قول الصّحيحيّة باطلا والجواب أنّه إن أراد من لزوم دلالة النّهي على الصحة أنّه يلزم الصّحة بمعنى موافقة الأمر ففاسد إذ ليس هذا هو الموضوع له عند الصّحيحيّين وإن أراد الصّحة بمعنى تماميّة الأجزاء والشّرائط فنقول إنّ ظاهر اللّفظ دال على كون المنهي عنه تام الأجزاء والشّرائط لكن نقول إنّ النهي مانع عن وجود الأمر إذ لا يجوز اجتماعهما وحينئذ فيكون هذا الفعل منهيا عنه فقط كصلاة الحائض وهذا الفعل بعينه مأمور به بالنسبة إلى شخص آخر وبالنسبة إلى ذلك الشّخص في زمان آخر فلو لم يكن فيه منقصة لم يتعلق به النّهي في تلك الحالة للزوم التّناقض إذ لا معنى للنهي عن الشّيء في زمان والأمر به في زمان آخر مع عدم التّفاوت في التّماميّة والنّقصان وحينئذ فيكشف النّهي عن نقصان في العمل المنهي عنه فهذه القرينة العقليّة قائمة على إرادة النّاقص من المنهي عنه ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة ومنها أنّه يلزم على قول الصّحيحيّين عدم الفرق بين الشّرائط والأجزاء لاعتبار كل منهما في الماهيّة عندهم بخلاف الأعميّة لخروج الشّرائط عندهم عن الماهيّة بل هي شرائط لمطلوبيّتها لا لقوامها وفيه أنّ هذا الكلام يرجع إلى نفي الفرق بين شرائط القوام وبين الأجزاء والفرق بينهما واضح فإن الجزء بنفسه داخل في الماهيّة والشّرط بنفسه خارج لكن مقارنة الماهيّة به معتبرة بمعنى أنّ التّقييد داخل والقيد خارج والحاصل أن المسمى عند الصّحيحيّة هو المركب من الأجزاء الخاصة المقارنة للشرائط المخصوصة كالمطلوب بالنسبة إلى الأعميّة فإنّ له عند الأعمّيّة أجزاء وشرائط

 

والمطلوب هو الأجزاء المقارنة للشرائط ومعنى شرط القوام ما يلزم انتفاء الماهيّة من انتفائه وهذا يكفي فيه اعتبار التّقييد به ولا يلزم فيه كونه داخلا في الأجزاء حتى يلزم عدم الفرق فالماهيّة عند الصّحيحيّة تنتفي بانتفاء الشّرائط لكونها شرائط القوام بخلاف الأعمّيّة فإنّ الشّرائط عندهم شرائط للصحّة لا للقوام فتنتفي الصّحة عندهم بانتفائها لا الماهيّة ويظهر الثّمرة بين كون الشّيء شرطا للقوام وجزءا في موارد منها عدم بطلان العمل بوقوع ذلك الشّيء رياء بناء على الشّرطيّة وبطلانه بذلك على الجزئيّة لما ذكروا أنّه لا يعتبر القربة في الشّرط إن لم يكن عبادة كستر العورة بخلاف الأجزاء إذ لا بد من كونها عبادة ومنها الشّكّ بعد المحل فإنّه غير معتبر في الأجزاء بخلاف الشرائط فإنّه لا يتحقق فيها ذلك الفراغ عن العمل لاعتبار استمرار شرط العمل إلى تمامه ومنها غير ذلك ثم إن تمييز مصاديق الشرائط والأجزاء في غاية الصّعوبة ولا يعلم إلاّ بالرجوع إلى الأدلة وهو أيضا مشكل فإنه لا فرق في المفاد بين قوله لا صلاة إلاّ بطهور وقوله لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب مع أن الطّهور شرط والفاتحة جزء وعليك بالتأمّل في الموارد ومنها أنهم قد ذكروا أن الرّكوع والسّجود وسائر الأركان يبطل الصّلاة عمدا وسهوا فأطلقوا الرّكوع على الرّكوع الزّائد مع أنّه فاسد ولا ريب في أن الرّكوع والسّجود من ألفاظ العبادات وقد أطلقوهما على الفاسد ولا يمكن أن يكون مرادهم بزيادة الرّكوع زيادة الانحناء لأنه ليس مبطلا على إطلاقه فإن من انحنى بقدر الرّكوع بقصد قتل حيّة ونحوه لم يكن عمله باطلا من جهة زيادة الرّكن وفيه أن غاية مفاد هذا الدّليل إطلاق الرّكوع على مطلق الانحناء بقصد الرّكوع والاستعمال أعمّ من الحقيقة مضافا إلى تحقق الإشكال في ثبوت الوضع الجديد لمثل الرّكوع ونحوه ومنها أنّه على قول الصّحيحيّة يلزم تكرار الطّلب فإن معنى صل أطلب منك الصّلاة الصّحيحيّة والصّحيحيّة هي المطلوبة فيكون المعنى أطلب مطلوبي وفيه أن المراد بالصحيح الّذي هو المسمى للّفظ ليس الموافق للأمر بل المراد الجامع لجميع الأجزاء والشّرائط كما سبق ومنها أنّه يلزم المحال على قول الصّحيحيّة فيما إذا نذر الشّخص ترك الصّلاة في الحمام مثلا فإن متعلق نذره حينئذ هو الصّحيحة عندهم وبانعقاد النّذر تصير الصّلاة منهيّة عنها فتفسد وإذا فسدت خرجت عن متعلق النذر لتعلقه بالصحيح وإذا خرجت عن متعلق النّذر لم يتعلق بها نهي فتكون صحيحة داخلة في متعلق النّذر فيلزم من انعقاد النّذر عدم انعقاده وهو محال بخلاف الأعمّيّة لأن الفاسدة أيضا تدخل في متعلق النّذر عندهم وفيه أولا النّقض بما إذا نذر ترك الصّلاة الصّحيحة في الحمام وثانيا بالحل وهو أن متعلق النّذر هو الصّلاة الصّحيحة مع قطع النّظر عن النّذر فيحنث بفعل ذلك وإن كانت

 

فاسدة نظرا إلى النّذر ويشكل بأن الصّحيحة قبل النّذر كانت مشتملة على أجزاء وشرائط منها نيّة القربة وهي مما لا يمكن تحقّقها بعد النّذر فالصلاة الصّحيحة قبل النّذر لا يمكن فعلها بعد النّذر ولا معنى لوجوب الوفاء بهذا النّذر ولا لحرمة حنثه لعدم إمكان حنثه وهذا الإشكال جار في التّشريع أيضا فإنّهم ذكروا أنّ التّشريع عبارة عن إدخال ما يعلم أنّه ليس من الدين في الدّين على أنّه من الدّين فإنّه إن أريد منه إتيان العمل بدون قصد القربة فهو غير حرام وإن أريد إتيانه معه فكيف يمكن الإتيان مع قصد القربة مع القطع بعدم حصولها مع أن النّيّة هي الدّاعي وكيف يكون القربة داعيا مع الاعتقاد بعدمها ولذا لما ذكروا أن العتق لا يصح من الكافر لعدم إمكان قصد القربة في حقه وأورد عليهم الشّهيد أنّه يختص عدم الإمكان بالكافر الجاحد للإله دون غيره من الكفار أوردوا عليه بأنّ الكافر بالرّسول أيضا لا يمكن قصد القربة في حقه للقطع بفساد عمله وعدم ترتب أثر عليه ويمكن الجواب بأن النّيّة عبارة عن الدّاعي على العمل وأن يكون ذلك الدّاعي تعريض العمل في مقام الامتثال وفعله بعنوان الامتثال فهذا القدر كاف في تحقق النّيّة فإن كان ذلك العمل مأمورا به في الواقع أو في اعتقاد الفاعل كان العمل مما يترتب عليه الثّواب وإن لم يكن مأمورا به في الواقع وفي اعتقاد الفاعل كان معاقبا لإتيانه إيّاه في مقام الامتثال وبعنوان الامتثال وهذا معنى التّشريع ولا تفاوت في النّيّة على التّقديرين وهذا القدر من النّيّة ممكن في الكافر فالأولى في تعليل بطلان عتقه أن يقال إنّه يشترط في صحة العتق الإسلام مضافا إلى القربة وبهذا يجاب عن استدلال الأعمّيّة بقوله للحائض دعي الصّلاة أيام أقرائك حيث إنها لا يمكن لها إتيان الصّلاة الّتي كانت تفعلها قبل النّهي لاعتبار قصد القربة فيها مع أن الأمر هنا أسهل لأن نهي الحائض عن الصّلاة كاشف عن عدم دخولها في إطلاق الأوامر لأن هذا المعنى التّخصيص وحينئذ فهي قبل النّهي أيضا لم تكن متمكنة من إتيان العمل الصحيح الواقعي إذ لم تكن في الواقع مكلفة بالصلاة لكنها لدخولها تحت إطلاق الأوامر ترى نفسها مكلفة وكانت تتعرض في مقام إيجاد الواقع وحينئذ فمعنى النّهي لا تتعرضي لإيجاد العمل الواقعي كما كنت سابقا لأنك لا تقدرين على ذلك فهو كقوله إذا لم تستطع أمرا فدعه فافهم ومنها ورود الحكم بإعادة الصلاة في كثير من الموارد ولا شك أن المراد بها الأعم إذ الصّحيح لم يكن واقعا حتى يصدق الإعادة على إتيانه والجواب أوّلا أن الاستعمال أعمّ وثانيا أنّه يمكن حمله على إرادة الصّحيح بأن يقال إن الشّخص لما كان في مقام إتيان العمل الصّحيح ولم يقع منه صح أن يقال أعد صلاتك يعني عد في مقام الامتثال بالصلاة هذا تمام الكلام في نقل الأقوال والاحتجاجات والتّحقيق في المقام هو القول بالصحة من حيث

 

الأجزاء والشّرائط جميعا يدل على ذلك صحة السّلب كما مر تقريره ويدل عليه الاستقراء أيضا فإن دأب أرباب الصنائع إذا اخترعوا ماهيّة مركبة أن يضعوا اللّفظ أوّلا للجامع لجميع الأجزاء والشّرائط ثم يستعملونه في كل ما يرتب عليه ثمرته ويصير حقيقة بأدنى زمان وإن نقص أجزاؤه أو راووه وأمّا ما لا يفيد ثمرته فلا يطلق عليه اللّفظ إلاّ مسامحة ومساهلة ويدل عليه العقل أيضا لأن الحكمة المقتضية لوضع اللّفظ موجودة في الصّحيح لأنّه المطلوب المحتاج إلى البيان وأمّا الفاسدة فلا حاجة إلى الوضع لها وما يقال إن لها أيضا ثمرات متحققة في الشّرع كجواز أكل ذبيحته ونحو ذلك مدفوع بأن عليهم‌السلام ذلك على الفاسدة إنّما هو لتنقيح المناط وهو الإسلام والفاسدة يكشف عنه وأمّا الشّرائط فهي وإن توهم بحسب الظّاهر خروجها لكن الإنصاف أنها أيضا معتبرة إذ كانت شرائط لتأثير الماهيّة أمّا ما يكون شرطا لظهور الأثر كعدم المانع مثلا فلا ويعلم ذلك كله بسلوك سبيل الإنصاف والميل عن طريق الاعتساف

تذييل

ربما اشتمل العبادة على الأعمال المستحبّة وقد ذكرنا أن كيفيّة الوضع بحيث يشمل المستحبات أيضا غير معلوم وأن القدر المشترك غير معقول ويعلم أن ما يقع في الصّلاة من الأعمال المستحبة قسمان أحدهما ما يكون جزءا من العمل ولا ينافي بين كون العمل واجبا تخييريا وكون جزئه مستحبا لما سيأتي أن الواجب هو الكلي والفرد مستحب عيني وواجب تخييري ولا منافاة وهذه الأجزاء تدخل في محل الكلام والثّاني ما يكون عملا مستقلا مستحبا ومحل استحبابه الصّلاة مثلا كاستحباب الدّعاء في السّجود مثلا وهذه خارجة عن العمل قطعا والفرق بينهما أنّه يشترط في الأول شروط العمل بنفس دليل ثبوت الاشتراط في العمل لكونه جزءا للعمل بخلاف الثّاني فالقنوت رياء مبطل للصلاة لكونه جزءا بخلاف الدّعاء في السّجود مثلا إن قلنا بأن الكون المتصل من أول العمل إلى آخره ليس جزءا للعمل وإلاّ فهو أيضا مبطل لفساد الكون المقارن للدعاء رياء إذا عرفت هذا فنقول ذكر العلامة رحمه‌الله أنّه إذا كان في ذمة الشخص قضاء لم يجز له الإتمام في مواضع التّخيير لكونه مستحبا بناء على عدم جواز التّطوع لمن عليه فريضة وهذا لا يصح إن قلنا إن الإتمام مهية برأسه والرّكعتان الأخيرتان جزء مستحب للصلاة لا صلاة برأسها فتصير كالقنوت ولم يقل أحد بعدم جواز القنوت لمن في ذمته فريضة نعم يصح ذلك إن قلنا إن فعل الرّكعتين مستحب مستقل ولكن محل استحبابها بعد التّشهد فإنهما حينئذ خارجتان عن العبادة وصلاة مستحبة مستقل لا يجوز فعلها لمن عليه فريضة على القول به فتأمل

أصل

اختلفوا في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد على أقوال وقبل الخوض في المطلب لا بد

 

من تمهيد مقدمات الأولى في بيان معنى المشترك فنقول عرف الاشتراك بأنه عبارة عن كون اللّفظ موضوعا بوضعين فصاعدا لمعنيين فصاعدا بطريق التّعيين أو التّعيّن والمراد باللّفظ اللّفظ الواحد لا جنس اللّفظ وإلاّ لصدق المشترك على مجموع اللّفظين الموضوع كل منهما لمعنى واحد لصدق جنس اللّفظ الموضوع لمعنيين عليهما والمراد بالوحدة الوحدة الأصليّة لا العارض بسبب الإعلال كالمختار فإن اسم الفاعل من باب الافتعال هو مفتعل بكسر العين واسم المفعول بفتحه فهو في الأصل مختير بالكسر ومختير بالفتح والإعلال أوجب الاتحاد وكذا العارض بسبب الإعلال والتّركيب مع كلمة أخرى مثل كلمة إنّ فإنّها حرف وفعل وأمر من وأى يئي إذا وعد أكد بالنون فإن فعل الأمر منه أبعد الإعلال وبعد تركيبه مع النّون اتحد مع الحرفيّة نعم لو كان الوضع ثابتا بعد الإعلال الموجب للاتحاد لصدق عليه الاشتراك كما يمكن ذلك في مثل إن فإنّه حرف شرط وفعل أمر من وأن يئن لإمكان أن يقال إنّ إن بنفسه موضوع للأمر لا أن صيغة افعل موضوعة وأصل إن أوئن صار بالإعلال إن والضّابط هو الاتحاد الحاصل قبل الوضع فإن حصل صدق الاشتراك سواء كان أصليا أو عارضيا وإلاّ فلا ثم إنّ المراد بتعدد الوضع إمّا تعدد الإنشاء كأن يقول وضعت العين للباصرة ووصفته للجارية أو المراد كون الملحوظ له بالاستقلال متعددا وإن اتحد الإنشاء لإمكان وضع اللّفظ بإزاء معان عديدة بإنشاء واحد وهو على قسمين أحدهما أن يلاحظ تلك المعاني بعنوان خاص ويضع لها اللّفظ باعتبار دخولها في ذلك العنوان فلا يكون كل واحد من تلك المعاني ملحوظا بالاستقلال ككلمة هذا إذ لوحظ عنوان المشار إليه ووضع هذا بإزاء جزئيّاته فإن الملحوظ حينئذ ليس كل واحد واحد من حيث الخصوصيّة والاستقلال بل الملحوظ هو كل منها بعنوان المشار إليه والثّاني أن يلاحظ تلك المعاني بعنوان مخصوص هو آلة لملاحظتها لكن يضع اللّفظ لكل منها بخصوصه كما يقول وضعت لفظ زيد بإزاء هؤلاء الجماعة فإن الموضوع له حينئذ هو كل واحد منهم بخصوصه لا لكونه من جملة عنوان الجماعة وذكر العنوان المذكور إنّما هو لمحض كونه آلة لملاحظة تلك الأشخاص إذا عرفت هذا فنقول لا يطلق الاشتراك على القسم الأوّل وأما القسم الثّاني فالتحقيق أنّه داخل في الاشتراك وحينئذ فالأولى إرادة المعنى الثّاني من الوضعين أعني ما تعدد فيه المعنى الملحوظ المستقل ليشمل هذا القسم إذ لو أريد منه تعدد الإنشاء خرج هذا القسم عن الاشتراك ويشكل الأمر في المشتقات الّتي لها معان متعددة باعتبار اشتراك مصادرها كالضارب فإنّه بمعنى من صدر منه الضّرب بمعنى السّير أو المعنى المعروف مثلا إن قلنا باشتراك الضّرب

 

بينهما فقد يتوهم بحسب الظّاهر أنّها من قبيل أسماء الإشارة إذ الملحوظ عند وضع الضّارب مثلا هو ذات ثبت له المبدأ واستعماله فيمن قام به السّير أو الضّرب إنّما هو من حيث كونه من أفراد من قام به المبدأ كاستعمال هذا في الأفراد باعتبار كونها من أفراد المشار إليه لكن التّحقيق تحقق الاشتراك فيها أيضا فإن الواضع لاحظ هيئة فاعل ووضعها لمن قام به المبدأ وملاحظة الكلي في جانب الموضوع والموضوع له إنّما لكونه آلة لملاحظة الأفراد فقد أراد وضع ضارب لمن قام به الضّرب وقال لمن قام به القتل لكن لاحظ ذلك بعنوان كلي كملاحظة الأشخاص الخاصة بعنوان هؤلاء الجماعة فكأنه قال وضعت ضارب لمن قام به الضّرب ولمن قام به السّير لكنه لاحظهما بعنوان من قام به المبدأ لأنّه لاحظ الموضوع أيضا بعنوان صيغة فاعل والمرجع هو ما ذكرنا عند التّوزيع أعني توزيع أفراد الموضوع وهو صيغة فاعل على أفراد الموضوع له وهو من قام به المبدأ وهذا هو الملحوظ المستقل واعتبار الكلي إنّما هو لكونه آلة للملاحظة فافهم ثم إن التّعريف المذكور بحسب الظّاهر يشمل المنقول بالنسبة إلى المعنى الجديد والمعنى المهجور وكذا يشمل اللّفظ الموضوع للمعنيين في اصطلاحين ولا بأس بدخول الثّاني وإن لم يكن مجملا ويمكن إخراج الأول بأن الظاهر من قوله موضوع بوضعين تحقق الوضعين فعلا فيخرج المنقول بالنّسبة إلى المعنى المهجور وقوله تعيينا أو تعينا يشمل أقسام المشترك بتمامها إلا أن صدق المشترك على ما إذا كان أحد الوضعين تعينيا سواء كان الآخر أيضا تعينيا أو لا مشكل لاشتراطهم في المشترك عدم اعتبار المناسبة حين الوضع والوضع التّعيني عبارة عن الوضع الحاصل بسبب شيوع الاستعمال في المعنى الجديد مجازا وبالمناسبة لا يقال إنّه بعد وصوله إلى حد الوضع لا يعتبر المناسبة لأنّا نقول هذا غير كاف فإن الاستعمال الأخير الّذي به يحصل الوضع قد اعتبر فيه المناسبة نعم يمكن الجواب بوجهين أحدهما أن حصول الوضع ليس باعتبار المناسبة فإن المستعمل الأخير ليس ملتفتا إلى حصول الوضع حتى يعتبر في الوضع المناسبة والثّاني أن المناسبة الّتي يجب عدم اعتبارها في المشترك هي مناسبة أحد المعنيين مع الآخر وفيما ذكرنا لم يعتبر مناسبة المعنى التّعيني مع المعنى التّعييني بل اعتبرت مع المعنى المهجور ولا بأس به نعم يرد النّقض حينئذ بما إذا كان المعنى التّعيني مسبوقا بكونه مجازا بالنسبة إلى ذلك المعنى التّعييني فوصل إلى حد الوضع قبل هجر المعنى التّعييني على القول بجواز ذلك فحينئذ يدخل في التّعريف مع أن أحد المعنيين قد اعتبر فيه المناسبة بالنسبة إلى الآخر إلاّ أن يجاب هنا بالجواب الأول فتأمل الثّانية في أحكام المشترك من حيث

 

الإمكان والامتناع والوجوب واختلف في ذلك على أقوال والمراد بالإمكان الإمكان بالنظر إلى الحكمة لا الإمكان بالذّات وكذا المراد من أخويه احتج الأول بوجود أحدها أن الوجوب يحتاج إلى رجحان طرف الوجود والامتناع يحتاج إلى رجحان طرف العدم بخلاف الإمكان فإنه تساوي الطرفين والأصل عدم الزّيادة فيثبت الإمكان والثّاني أن إمكان الاشتراك شيء وكل شيء مخلوق لله تعالى فإمكان الاشتراك مخلوق لله تعالى والثّالث قاعدة الإمكان المذكورة في كتب الحكماء وقد صرح بها الرّئيس حيث قال كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يدرك عنه قائم البرهان والجواب أمّا عن الأول فبأن الأصل عبارة عن استصحاب العدم الثاني في الزّمان السّابق والاشتراك لو كان راجحا وجودا أو عدما في الحكمة لكان كذلك في الأزل فالرجحان ليس شيئا متيقن العدم في الزّمان السّابق حتى يستصحب عدمه وأمّا عن الثّاني فبالنّقض بأن وجوب الاشتراك شيء وكل شيء مخلوق لله وحله أن الله تعالى قادر على كل شيء لا أنّه خالق كل شيء بالفعل والتّحقيق في الجواب أن الإمكان ليس أمرا مجعولا بل هو أمر منتزع عقلي غير قابل للجعل وكذا أخواه وأمّا عن الثالث فبأن القاعدة المذكورة لا ربط لها بالمطلوب فإن المراد منها أن الشخص إن لم يجد دليلا على الوجوب والإمكان والامتناع فلا يحكم بأحدها جزما بل يذره في بقعة الاحتمال بأن يقول يحتمل كل منها والحاصل أن الإنسان لا يجوز له أن يجرم بطرف بدون البرهان نعم يمكن الاستدلال بطريق العقلاء فإنهم يحكمون بالإمكان بمحض عدم وجود الدليل على الامتناع كما تراهم يقولون في إثبات مطلب إنّ المقتضي موجود والمانع غير معلوم فيثبت المطلوب ولا زال ذلك طريقة مستمرة بيد العقلاء وهو كاف في إثبات المطلوب وإن لم يعلم وجهه ويظهر ذلك لمن تتبع كلمات القوم في مقام الاستدلال ألا ترى صاحب الفصول رحمه‌الله يقول بأن أحكام الشّرع تابعة لحسن التّشريع لا لحسن الفعل إذ ربما يكون الفعل حسنا ولم يتعلق به الأمر لوجود المانع عن الأمر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وربما لا يكون حسنا وقد تعلق به الأمر كجل العبادات فإن المأمور به فيها هو العمل الخالي عن قصد القربة لأن القربة فرع الأمر فكيف تؤخذ في المأمور به والفعل الخالي عن القربة لا حسن فيه هذا قوله ومع ذلك يقول إذا وجدنا الفعل حسنا حكمنا بأنه مأمور به كما يقوله الباقون نظرا إلى أن الشّك في تعلق الأمر إنّما هو بسبب احتمال وجود المانع عن التّشريع وهو مدفوع لا يعتنى به عند العقلاء احتج الموجبون بأن الحكمة الموجبة لوضع الألفاظ هو إبراز المعاني والألفاظ محصورة والمعاني غير متناهية

 

فلو لم يتكرر وضع الألفاظ لبقي بعض المعاني ولم يوضع له لفظ وهو خلاف الحكمة وفيه أوّلا أن ذلك يستلزم حصول الأوضاع الغير المتناهية للمعاني الغير المتناهية وقد برهن أن حصول غير المتناهي في الخارج محال قالوا ما ضبطه الوجود كان متناهيا وثانيا أنّه إن أريد الوضع للجزئيات فلا نسلم الاحتياج إليها بل المحتاج إليه هو الوضع للكليات وهي متناهية والجزئيات قد استغني عنها بوضع الأعلام ولا نحتاج فيها إلى وضع الواضع وإن أريد أن المعاني الكليّة غير متناهية ففساده ظاهر احتج القائلون بالامتناع بأن حكمة الوضع هو التّفهيم على الوجه الأسهل والمشترك إن استعمل بلا قرينة فإن التّفهيم وإن استعمل مع القرينة لم يكن على الوجه الأسهل فهو مناف للحكمة ولو سلم فلا أقلّ من أن لا يقع في القرآن إذ لو استعمل بلا قرينة فات التّفهيم أو مع القرينة كان تطويلا منافيا للفصاحة والجواب عنه ظاهر لكثرة الفوائد في المشترك إذ ربما كان المقصود تفهيم المعنى إجمالا لا تفصيلا فيذكر المشترك بلا قرينة وقد يكون الغرض الإطناب في الكلام لفوائد يظهر للمتتبع الثّالثة الجواز قد يطلق على مقابل الامتناع العقلي وقد يطلق على مقابل القبيح وهو الجواز بالنّظر إلى الحكمة وقد يطلق على الأعم من الأحكام الأربعة أعني الوجوب والكراهة والاستحباب والإباحة وقد يطلق على الإباحة وقد يطلق ويراد به الصّحة والمراد به في المقام هو الصّحة لغة كما سيظهر لك في طي المبحث الرّابعة إرادة الأكثر من معنى من المشترك يتصور بوجوه أحدها أن يراد به المعنيان والمعاني بطريق المجموع بحيث يكون كل واحد منها جزءا من المراد نظير قولك أكرم العشرة والثّاني أن يراد به المعنيان أو المعاني في ضمن القدر المشترك وهذا بناء على تعلق الأحكام بالأفراد بإرادة الطبيعة من اللّفظ والخصوصيّة من القرينة يكون من قبيل إطلاق الكلي على الفرد وهو خارج عن محل النّزاع إذ ليس استعمالا في المعينين بل لم يستعمل إلاّ في الكلي وهذا على ضربين لأن القدر المشترك إمّا يؤخذ فيه التّرديد كمفهوم أحد المعنيين أولا كمفهوم المسمى والثّالث هذا إلى أن يراد به كلا المعنيين بطريق الاستقلال والانفراد من غير أخذ التّرديد وهذا هو محل النّزاع في المسألة والرّابع أن يراد به المعنيان بطريق التّرديد بدون النّظر إلى القدر المشترك كأن يريد بالعين الذّهب أو الفضة وبالقرء الطهر أو الحيض ثم إن ما ذكرنا من الاستقلال إنّما هو بالنظر إلى الإرادة لا الحكم ولا ملازمة بين الاستقلال في الإرادة والحكم بل بينهما عموم من وجه فالاستقلال في الحكم دون الإرادة كقولك أكرم العشرة فإن كل واحد مستقل في حكم وجوب الإكرام ولذا لو أكرم بعضا دون بعض امتثل في إكرامه للبعض وإن عصي بالنسبة إلى الباقي لكن ليس مستقلا

 

في الإرادة دون الحكم كقولك زيد وعمرو يرفعان هذا الحجر إذا لم يقدر كل منهما منفردا على رفعه وقد اجتمعا في قولك أكرم زيدا وعمراً فافهم فلنرجع إلى ما كنا فيه ونقول قد توهم بعضهم أن مذهب السكاكي هو جواز استعمال المشترك في أكثر من المعنى بالطريق الرّابع بل أنّه مقتضى وضع المشترك فإنه قال المشترك كالقرء مثلا مفهومه أن لا يتجاوز الطّهر والحيض غير مجموع بينهما ما دام منتسبا إلى الوضعين فزعم التّفتازاني أن مراده أن المشترك لما وضع لكل واحد من المعنيين بوضع مستقل حصل من مجموع الوضعين وضع ضمني يحمل عليه اللّفظ عند عدم القرينة وهو المعنيان بطريق التّرديد فيكون المخاطب مخيرا في الامتثال بأيّهما شاء وهذا كلام ظاهر الفساد إذ لا وجه لحدوث الوضع الضّمني كما لا يخفى وليس ذلك مراد السّكاكي بل مراده بيان إجمال المشترك عند عدم القرينة فلا يجوز للمخاطب التّجاوز عن المعنيين ولا الجمع بينهما فالترديد إنّما هو للمخاطب لا أنّه ثابت واقعا وبالجملة لا ينبغي الإشكال في عدم جواز ذلك بطريق الحقيقة وهل يجوز مجازا أو لا محل كلام ومقتضى ظاهر النّظر عدم الجواز لأن المدار في التّجوز على العلاقة والتّرديد المأخوذ بين المعنيين معنى حرفي لا يجوز إرادته من الاسم إذ لا مناسبة بين المعنى الاسمي والحرفي ولا علاقة بينهما بوجه ولذا رد الأشاعرة في قولهم بأن المأمور به في الواجب التّخييري هو أحدهما الكلي بأن قولنا افعل هذا أو ذاك ليس فيه شيء صالح لأن يراد به الكلي المذكور فإن لفظ هذا أو ذاك لا ترديد فيهما وكلمة أو حرف لا يجوز أن يراد بها المعنى الاسمي وزعم بعض الأفاضل أن هذا غير معقول نظرا إلى أن التّرديد بين المعنيين ترديد بين الجزئيّين لأن كلا منهما نكرة والنّكرة جزئي مردد بمعنى أن لفظها موضوع للطبيعة وقد اعتبر معها الخصوصيّة المرددة والتّرديد بين الجزئيّين لا يمكن إلاّ بالنظر إلى القدر المشترك كما في النكرة فإن لوحظ القدر المشترك في المقام خرج عن محل الكلام وإلاّ لم يكن متعقلا وفيه نظر لأن التّرديد بين الجزئيّين يمكن بالنظر إلى الحكم الثّابت في الكلام كقولك ليكن ثوبك إمّا أسود أو أبيض وما الفرق بين هذا وقولك ليكن ثوبك إذا أريد به المعنيان بالترديد ولا يلزم من عدم النّظر إلى القدر المشترك تحقق التّرديد بين الجزئيّين حتى يكون غير معقول هذا وأمّا الاستعمال بالطريق الأوّل فلا يجوز حقيقة فإن مجموع المعنيين من حيث إنّه مجموع المعنيين غير موضوع له للّفظ قطعا نعم قد يفرض الوضع المستقل للمجموع فيكون حقيقة لكنه حينئذ يكون معنا ثالثا لا كلام فيه في المقام وأما الاستعمال مجازا فيظهر من بعضهم للمنع منه مطلقا ومن الآخر الجواز مطلقا وذكر بعضهم أنّه جائز إن وجدت العلاقة وهذا ظاهر إنّما الشّأن في تحقق العلاقة فنقول الّذي يظهر في المقام عدم تحقق العلاقة لأنها في المقام إمّا علاقة الكل

 

والجزء بأن استعمل اللّفظ الموضوع للكل في الجزء بناء على اعتبار قيد لوحدة في المعنى وإمّا علاقة الجزء والكل بناء على عدم اعتبار قيد الوحدة فإن اللّفظ حينئذ موضوع لمعنى لا بشرط وقد استعمل في المعنيين الّذي هو كل بالنسبة إلى الموضوع له وكلاهما فاسد أما الأوّل فلأن مجموع المعنيين ليس جزءا لشيء بل هو مركب من جزأي المعنيين وأمّا الثّاني فلاشتراط كون ذلك الجزء مما ينتفي الكل بانتفائه وأن يكون المركب حقيقيا لا اعتباريا نعم قد يقال لا ينحصر العلاقة فيما ذكر ويمكن أن يكون العلاقة هنا شيء آخر فإنه قد يطلق اللّفظ الموضوع للواحد على الجماعة لتنزيلهم منزلة شخص واحد كما يطلق اللّفظ الموضوع للجماعة على الواحد تعظيما له بتنزيله منزلة الجماعة وقد ذكر المفسرون أن المراد بقوله تعالى مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا الجماعة الّذين استوقدوا وكذا قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا فأطلق اللّفظ الموضوع للواحد على الجماعة فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل ويمكن الخدشة فيه بأن الآية الأولى تشبيه للمثل بالمثل وهما مثلان مع أن التّشبيه غير المجاز والآية الثّانية لا شاهد فيها بل كلمة الّذي فيه لغة في الذين وليس من باب التّنزيل غاية الأمر تحقق الاحتمال وهو كاف في دفع الاستدلال الخامسة قال في المعالم إن استعمال المشترك في الأكثر من معنى واحد مجاز لاعتبار قيد الوحدة في الموضوع له فاستعماله في الأكثر استعمال في جزء الموضوع له وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الوحدة داخلة في الموضوع له وجزءا منه والثّاني أن يكون الوحدة شرطا بأن يكون خارجا ويكون الجزء هو التّقييد بالوحدة وبعبارة أخرى أن يكون القيد خارجا والتّقييد داخلا والأول أظهر ويظهر من الفاضل القمي رحمه‌الله قول آخر يحتمل وجهين وذلك أنّه يقول إنا لا نحكم صريحا بأن الموضوع له هو المعنى لا بشرط شيء ولا أنّه المعنى بشرط الوحدة إذ لا نعلم شيئا منهما لكن نعلم تحقق الوضع في حال الوحدة فهو المتيقن ولا بد من التّوقف في غيره لأن الوضع توقيفي حقيقة ومجازا فالاحتمال الأوّل أن يقرر كلامه بأنا لا نعلم أن الوحدة داخلة في الموضوع له أولا وأصالة عدم التّقييد بالوحدة معارض بأصالة عدم التّقييد بالإطلاق فإن الإطلاق في المقام أمر توقيفي لا بد أن يكون ملحوظا للواضع فيجري فيه الأصل وحينئذ فالمتيقن هو حال الوحدة ويجب التّوقّف في غيره والثّاني أن يقال إنا نعلم عدم تقيد الموضوع له بالوحدة حيث نرجع إلى أنفسنا في تسمية الأولاد لكن يحتمل أن الواضع خصص الوضع بحال الوحدة وعدمه والمتيقّن تحققه حال الوحدة ويتوقف في غيره والفرق بين هذا والأول أنّه لا يلزم الالتفات إلى قيد الوحدة عند الاستعمال على هذا ويلزم ذلك على الأول لو كان الوحدة جزءا للموضوع له

 

ونظير ذلك الواجب المطلق بالنسبة إلى شروطه والمشروط بالنسبة إلى شروطه فإن الصّلاة لوحظت مقيدة بوصف الطّهارة فتعلق بها الأمر فالمأمور به مقيد والأمر مطلق بخلاف الحج فإنه لم يلاحظ مقيدا بالاستطاعة بل لوحظ مطلقا لكن الأمر إنّما يتعلق به في خصوص حالة الاستطاعة وإن كان وجود الحج في الخارج مقارنا مع الاستطاعة على أي تقدير ويظهر الثّمرة في وجوب تحصيل المقدمة فيجب في الأول دون الثّاني هذا الكلام في تقرير مرام الفاضل المذكور قدس‌سره والظّاهر فساد كلا الاحتمالين أمّا الأول فلما عرفت سابقا أن الوضع إذا دار الأمر فيه بين أمرين لم يكن هناك قدر متيقن إذ لو كان المعنى مع الوحدة موضوعا له لم يكن المعنى موضوعا له بل يكون جزءا له حينئذ مضافا إلى أنّا نقطع بعدم اعتبار الوحدة في الموضوع له وإلاّ لوجب أن يلتفت إليه المتكلّم عند الاستعمال ويلاحظه لأنّه حينئذ جزء المعنى مع القطع بخلاف ذلك وقد صرح هو بأنه خلاف الوجدان حيث نرجع إلى أنفسنا عند التّسمية وأمّا الثّاني فهو وإن وجد فيه القدر المتيقن لكن نعلم أن الواضع لم يلاحظ التّخصيص بحالة الوحدة مع أن أصالة عدم التّقييد يكفي في المقام ولا تعارض بأصالة عدم الإطلاق لأن الإطلاق يكفي في تحققه عدم اعتبار التّقييد ولا يلزم فيه اعتبار زائد فإن قيل هب إنّه لم يلاحظ التّقييد وحصل القطع بذلك لكنا نقول إن المعنى حين الوضع كان متصفا بالوحدة وهذا يكفي في اختصاص الوضع بتلك الحالة قلنا هذا غير كاف بل لا يوجب الاختصاص إلاّ إذا اعتبر قيدا كما لا يوجب صغر جسم الولد الحاصل حين التّسمية اختصاص التّسمية بتلك الحالة فافهم ثم إنّه استدل على اعتبار الوحدة بأن الحكمة في الوضع هو أن يفهم المعنى من اللّفظ بلا حاجة إلى نعم قرينة مفهمة ولو كان الموضوع له هو المعنى لا بشرط لكان له فردان المعنى الواحد والمعنى مع الغير فلا بد من نصب قرينة يفهم أن أيهما المراد وهو خلاف الحكمة وفيه أن اللازم من هذا هو أن الواضع قد لاحظ المعنى ووضع له اللّفظ بحيث لا يراد من اللّفظ غيره من سائر المعاني بالإرادة المتعلقة بذلك المعنى وأمّا عدم جواز إرادة سائر المعاني بإرادة تلك الإرادة كما هو المتنازع فيه فغير معتبر في نظر الواضع ولا يضر جوازه بالحكمة فإن اللّفظ قد وضع لكل واحد من المعاني بمعنى أن يجوز إرادة ذلك المعنى منه بإرادة مستقلة وأن يدل اللّفظ على ذلك المعنى بنفسه وأمّا تعيين المراد وأنّه هذا المعنى أو ذلك المعنى أو هما معا بإرادتين فيحتاج إلى قرينة معينة ولا يضر الاحتياج إليها بالحكمة فافهم ثم إنّه يرد على القائلين باعتبار الوحدة إيراد آخر وهو أن الوحدة المعتبرة عندهم

 

معناها انفراد المعنى في الإرادة من اللّفظ وليس المراد مفهوم الانفراد المذكور بل المراد فعليته فالموضوع له هو المعنى الّذي استعمل فيه اللّفظ ولم يكن له شريك وحينئذ فيكون الوضع متفرعا على الإرادة لاعتبار الإرادة في تحققه والدّلالة فرع الوضع فيلزمهم القول بأن الدّلالة تابعة للإرادة مع أنهم لا يقولون بذلك وهو تناقض وارد عليهم نعم القائلون بالتبعيّة قالوا بجواز كون الوضع متفرعا على الإرادة فإن قلت تبعيّة الوضع للإرادة غير معقول لأن الإرادة فرع الاستعمال والاستعمال فرع الوضع الحقيقي أو المجازي فلو كان الوضع فرع الإرادة لزم الدّور مضافا إلى ما ذكروا من أنّ الحقيقة استعمال اللّفظ فيما وضع له ولازمه تحقق الوضع قبل الاستعمال فما مراد المجوزين قلت ليس مرادهم بالإرادة الإرادة من اللّفظ بل المراد منها القصد الذّهني واللّفظ موضوع للكشف عنه فالوضع متفرع على هذه الإرادة وهذه الإرادة ليست متفرعة على الاستعمال حتى يلزم الدّور بل هي سابقة على الاستعمال فافهم واستدل أيضا على اعتبار الوحدة في الموضوع له بالتبادر فإن المتبادر من المشترك معنى واحد وهذا ثابت في غير المشترك أيضا لكن تبادر الواحد في غير المشترك إنّما هو لعدم المقتضي للغير وأمّا في المشترك فالمتقضي وهو الوضع موجود فتبادر الواحد فيه إنّما هو لاعتباره في الموضوع له وأورد عليه بأن التّبادر عبارة عن خطور المعنى بالبال وهو حاصل في المشترك بالنسبة إلى جميع المعاني ورد بأن التّبادر ليس مطلق الخطور ولانتقض بأجزاء المركب لخطورها بالبال عند سماع اللّفظ الموضوع للمركب بل التّبادر هو الخطور بعنوان كونه مرادا وهو ليس في المشترك إلاّ بالنسبة إلى معنى واحد أقول مع الغض عن أن التّبادر هو الخطور المطلق وتسليم كونه عبارة عن الخطور بعنوان كونه مرادا أن هذا الدليل لا يثبت كون الوحدة جزءا للموضوع له لأن تبادر الوحدة يتصور بوجهين أحدهما تبادر وإرادة ذات المعنى المتصف بالوحدة في نفس الأمر من دون أن يكون الوحدة ملحوظة في نظر المتكلّم بل الوحدة حينئذ وصف اعتباري منتزع من إرادة المعنى وعدم إرادة غيره معه والثّاني تبادر إرادة المعنى الواحد أعني المعنى مع الوحدة بحيث يكون الوحدة جزءا للمراد فإن أراد من تبادر الواحد التّبادر بالوجه الثّاني فممنوع إذ ليس المتكلم ملتفتا إلى الوحدة غالبا وإن أراد التّبادر بالوجه الأول فغاية ما يثبت به أن الموضوع له هو ذات المعنى المتصف بالوحدة الغير الملحوظة في نظر المتكلم كالصغر الّذي يتصف به المولود المسمى بزيد مثلا فإن الاتصاف بوصف لا يوجب كونه معتبرا في الوضع إلاّ أن يكون ملحوظا في النظر وقد منعنا كون الوحدة ملحوظة ونظير ذلك أنّهم استدلوا على كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة

 

دون المعاني النّفس الأمريّة بأن الاستعمال ليس محققا إلاّ في الأمور المعلومة لعدم براز الحكم بالنّسبة إلى غير المعلوم فرد بأنّ الاستعمال وإن لم يتحقق إلاّ في المعلوم لكن فرق بين كون المعنى متصفا بالمعلوميّة وبين كون المعلوميّة ملحوظا في الموضوع له فعلى الأول لا يجب الالتفات إلى وصف المعلوميّة في الاستعمال بخلافه على الثّاني والمدعى هو الثّاني وهو لا يثبت بالدليل المذكور وحينئذ فنقول لم يثبت تبادر الوحدة في الموضوع له إلاّ بالوجه الثّاني وهو مسلم ويثبت به أن الموضوع له هو ذات المعنى الّذي يجتمع مع إرادة الوحدة ومع إرادة الكثرة فلو اتصف اللّفظ أو المعنى بضد الوحدة لا يلزم محذور لأنّه لم يعتبر فيه الوحدة ولا الكثرة وهذا مراد المحقق الشيرواني حيث قال ما لفظه أراد بالوحدة أن يكون منفردا عن مشاركة المعنى الآخر له في كونه مرادا وأنت خبير بأن معنى اللّفظ هو ما يكون مدلولا بالدلالة اللّفظيّة ومتعلقا للحكم بحيث لو اتصف اللّفظ بضد ما أريد منه لم يلزم منه محذور وكذا لو اتصف به المعنى أو جزؤه فينبغي أن لا يضاد كون الوحدة مرادا من اللّفظ مشاركة معناه للمعنى الآخر في الاستعمال فيه ووجوب تجريده عن قيد الوحدة إنّما يلزم على تقدير المضادة والمنافاة فهذا أول دليل على أن الحق أن الوحدة والانفراد من عوارض الاستعمال انتهى والمراد بقوله بضد ما أريد منه بضد الوحدة الّتي أريدت منه في الاستعمال يعني لو اتصف بالاشتراك ولم يرد الوحدة لا يلزم محذور لأنّ المعنى لم يعتبر فيه الوحدة وإنما انتزع الوحدة من عدم اعتبار المشارك فلا ينافيه اعتباره في مورد آخر بخلاف ما إذا كان قيد الوحدة جزء للمعنى فإن إرادة المعنى حينئذ لا يجتمع مع إرادة الشّركة وحينئذ فإذا أريد الشّركة وجب تجريده عن قيد الوحدة فافهم وذهب الشّريف رحمه‌الله إلى أن المشترك وضع تارة بالوضع الشخصي لذات المعنى لا بشرط شيء وتارة بالوضع النّوعي للمعنى مع الوحدة وكلامه هذا يحتمل وجوها أحدها أن الواضع وضع الألفاظ أوّلا لذات المعنى ثم بدا له فنسخ ذلك الوضع وقال وضعت كل تلك الألفاظ للمعاني مع قيد الوحدة حتى يكون كالنقل والثّاني أن لا ينسخ الوضع الأوّل لكن يزيد عليه الوضع النّوعي للمعنى مع الوحدة حتى يكون اللّفظ مشتركا بين ذات المعنى وبين المعنى مع الوحدة والثالث أن يكون المراد بالوضع النّوعي إذن الواضع في كيفيّة الاستعمال بمعنى أنّه وضع الألفاظ لمعانيها ثم قال إني لا آذن في استعمالها إلاّ في المعنى المتصف بالوحدة من غير أن يكون الوحدة قيدا للمعنى والاحتمالان الأولان فاسدان أمّا الأول فلأنه موجب للسفه بالنسبة إلى الواضع مع أنّه لا قائل به وأمّا الثّاني فلأنّه حينئذ لا يمنع من جواز استعمال المشترك في

 

الأكثر من معنى لجوازه حينئذ في حقيقة بالنسبة إلى الوضع الشّخصي والشّريف أراد بإثبات الوضعين منع جواز الاستعمال وأمّا الثّالث فالقول به وإن كان صحيحا قد ذهب إليه الفحول لكن تسمية الإذن في كيفيّة الاستعمال وضعا نوعيا لا وجه له السّادسة اختلفوا في جواز استعمال المشترك في أكثر من المعنى في التّثنية والجمع كاختلافهم في المفرد وليس الخلاف في إرادة المعنيين من العلامة لأنها ليست مشتركة ومحل النّزاع هو استعمال المشترك فالنزاع في التّثنية والجمع أيضا إنّما هو في إرادة المعنيين أو المعاني من ملحوق العلامة فإن لفظ المشترك قد يكون ملحوقا وقد لا يكون والنّزاع جار في كلا الحالتين ومعنى النّزاع في ذلك مع الاتفاق على دلالة العلامتين على التعدد أنّه هل يشترط في التّثنية أن يكون المفرد شاملا لكلا المعنيين بأن يكون له معنى كلي يشمل كليهما أو لا بل يكفي كونه موضوعا لهما وبعبارة أخرى هل وضع العلامة للدلالة على فردين من معنى واحد أو تدل على المعنيين أيضا وهذا معنى قولهم يكفي في التّثنية اتحاد اللّفظ أولا ولكن لو لم يكن المفرد شاملا لهما بالتكرير لا بالوضع ولا معنى كما في التّغليب فهو مجاز اتفاقا فإن قلت ما المراد بقولهم اتحاد اللّفظين وما وجه مجازيّة التّغليب مع أن المفرد فيه شامل لهما فإن القمرين في تثنية الشّمس والقمر قد جعل فيه القمر أولا عبارة عن المسمى بالقمر ثم أدخل الشّمس تحت هذا الكلي ادعاء ولو أريد شمول معنى المفرد لهما بالوضع لزم كون الأداة في نحو الأسدين للرجلين الشّجاعين مجازا لأن المفرد لا يشملهما بالوضع قلت قد اتفقوا على وجوب اتفاق اللّفظين والخلاف إنّما هو في أن اتفاق اللّفظين هل يجب أن يكون ناشئا عن الاتحاد في المعنى الكلي أو لا بل يكفي محض الاتفاق اللّفظي لكن على الأوّل يجب أن يكون ذلك الكلي شاملا لهما حقيقة الادعاء فإن لم يكن الاتفاق اللّفظي ولا المعنوي بهذا المعنى كما في التّغليب كان مجازا فإن الشّمس ليس داخلا في المسمى بقمر واقعا وإن كان الاتفاق اللّفظي والمعنوي كلاهما كان حقيقة كأسدين للرجلين إذا أريد من الأسد الشّجاع فإن صدق الشجاع على الرّجلين واقعي لا ادعائي ولا ينافي حقيقيّة العلامة كون المفرد مجازا وإذا كان الاتفاق لفظيا فقط دون المعنوي فهو محل النّزاع في هذه المسألة وبما ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لما ذكره بعضهم من أنّ محل النّزاع في التّثنية والجمع هو إرادة المتعدد من جنس التّثنية والجمع كأن يراد من المعنيين العينان مرتين أو ثلاث مرات وكذا الجمع وحينئذ جعل ذلك محتملا لإرادة الفردين من كل معنى بأن يراد من العينين فردان من الذّهب وفردان من الفضة وهكذا حتى يكون إرادة المعنيين من الملحوق ومحتملا

 

لإرادة تعدد المعنيين كأن يراد منه أربعة معان أو أزيد حتى يكون إرادة المعنيين من كل من الملحوق واللاحق وجعل ذلك منوطا باشتراط الاتحاد المعنوي في التّثنية وعدمه فعلى الاشتراط يراد به الفردان من كل من المعاني وعلى عدمه يجوز إرادة أربعة معان أيضا بناء على القول بالجواز ووجه عدم صحة هذا الكلام هو ما قلنا إن محل النزاع هو استعمال المشترك والعلامة ليست مشتركة فافهم لكن يشكل ما ذكرنا بأن محل النّزاع إنّما هو في إرادة الأكثر من المعنى بأن يكون كل واحد من المعنيين مرادا بالاستقلال ولا يجري هذا في التّثنية والجمع إذ لو أريد من العينين الذّهب والفضة لم يكن كل منهما مستقلا بالإرادة فما ذكره البعض من أن محل النزاع هو إرادة المتعدد من جنس التّثنية والجمع أوفق بمحل النّزاع لكن بناء على الوجه الأول أعني أن يكون المراد بالتثنية فردان من كل معنى حتى يكون كل معنى من المعاني ملحوظا بالاستقلال وإن لم يكن كل فرد من فرديه ملحوظا بالاستقلال بخلاف الوجه الثاني أعني أن يكون المراد من المعنيين العين المكررة مرتين ويراد من كل منهما المعنيان حتى يكون المراد من العينين الذّهب والفضة والباصرة والنّابعة مثلا فجعل الأوّلان بمنزلة فرد واحد والأخيران كذلك فاستعمل التّثنية فيها لأن كل واحد من تلك المعاني ليس حينئذ ملحوظا بالاستقلال بل الملحوظ بالاستقلال هو اثنان اثنان والاثنان ليس معنى المشترك حتى يكفي استقلاله في الدّخول في محل النّزاع هذا ويشكل أيضا دخول التّثنية والجمع في محل النّزاع بوجه آخر وذلك لما ذكرنا أن محل النزاع هو إرادة كل واحد من المعنيين بقصد مستقل ولا يراد المجموع من حيث المجموع فإنه غير جائز لعدم العلاقة وإرادة المعنيين والمعاني في التثنية والجمع إنّما هو من حيث المجموع وإن فرض الاستقلال في الحكم إذ لا تلازم بين الاستقلال في الحكم والاستقلال في الإرادة ويمكن الجواب على كلا الإشكالين بأن يقال إن إرادة المتعدد من التّثنية والجمع ليس بطريق المجموع من حيث المجموع بل هو كإرادة المتعدد من كلمة جميع والفرق بينهما أن الجميع معناه الأفراد بأسرها بملاحظة واحدة من غير ملاحظة الهيئة الانضماميّة والمجموع معناه الأفراد مع ملاحظة الهيئة الانضماميّة ومعنى التّثنية هو الأول فمعنى النّزاع فيه أنّه هل يجوز إرادة المعنيين من التّثنية بأن يكون المراد جميعهما بإرادة واحدة والمراد بقولهم إن محل النّزاع في المفرد هو إرادة كل من المعنيين استقلالا أن يكون كل منهما ملحوظا بدون ملاحظة الانضمام قبالا لإرادة المجموع من حيث المجموع لا أن يكون كل منهما مرادا بإرادة مستقلة وحينئذ فيتحد محل النّزاع في التثنية والمفرد وهو

 

أنّه هل يجوز إرادة المعنيين من اللّفظ بدون ملاحظة الانضمام ولو بإرادة واحدة أو لا هذا ويرد عليه أن اعتبار الانضمام بين المعنيين ليس معناه إلاّ إرادتهما بقصد واحد وإلاّ فهما ليسا كمركب خارجي ذي مادة وهيئة كالسّرير مثلا وليس المراد الانضمام في الحكم لما عرفت أنّه خارج عن محل الكلام إذ الكلام في الإرادة وحينئذ فنقول الاستقلال في الإرادة معناه إرادته منفردا والانضمام معناه إرادة الشيئين بإرادة واحدة ولا يظهر الفرق بين الجميع والمجموع في الإرادة وإن ظهر الفرق بحسب الاستقلال في الحكم وعدمه وهو ناش من فهم العرف والحاصل أن ما ذكروا من أن إرادة المعنيين من حيث المجموع من المفرد غلط معناه إرادة المعنيين بقصد واحد فليس ذلك محل النّزاع بل محل النزاع هو إرادة كل منهما بطريق الاستقلال وبالجملة لا يمكن تطبيق محل النزاع على المفرد والتّثنية والجمع إلاّ بأحد وجهين أحدهما أن يجعل النزاع في المفرد في إرادة المعنيين بإرادة واحدة وقد عرفت أنهم حكموا بكونه غلطا والثّاني أن يجعل محل النّزاع في التّثنية والجمع في إرادة كل واحد من المعنيين بإرادة مستقلة ولم يقل بجواز ذلك أحد فالأولى أن يقال إن محل النّزاع في المفرد غيره في التّثنية والجميع وذلك لأن النّزاع في المفرد إنّما هو في جواز إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة وفي التّثنية والجمع في أنّه هل يكفي الاتحاد في اللّفظ أو يجب الاتحاد في المعنى وعلم مما ذكرنا ضمنا لزوم الاتحاد المعنوي وذلك لما علمت أن إرادة المتعدد من التّثنية والجمع إرادة واحدة وقد ذكروا أن إرادة المعنيين من المفرد بإرادة واحدة غلط فكيف جوز هذا الغلط في التثنية والجمع فإن علامتهما إنّما وضعت لتكون قرينة إرادة المتعدد على وجه يكون جائزا وأمّا ما كان غلطا فلا يجوزه وضع العلامتين فإرادة الفرسين من الزّيدين غلط قطعا لعدم جواز استعمال زيد في الفرس ولا يجوزه وضع العلامة والمفروض أن الموضوع في التّثنية والجمع هو العلامة لا المجموع المركب وحينئذ فيجب أن يقصد من المفرد معنى كلي حقيقة كما في الرّجلين أو مجازا كما في زيدين حيث أريد من مفرده المسمى وتجعل العلامة قرينة على أن الكلي مراد في ضمن فردين أو أفراد من دون أن يلزم مجاز في إرادة الفرد من الكلي إذ الخصوصيّة مقصودة لا من لفظ المفرد بل هي مرادة من الخارج والقرينة الدّالة عليها هي العلامة كالتنوين في رجل وداخل في داخل السّوق ومما يشهد على اعتبار مفهوم المسمى في تثنية الأعلام وجمعها معاملتهم معهما معاملة النّكرات فلا يقال زيدان قائمان بل يقال للزيدان ثم إن الاكتفاء بالاتحاد اللّفظي لا يجامع القول باعتبار الوحدة في معنى المفرد إذ الوحدة تزول بإرادة المعنيين في التّثنية فينبغي أن يكون وضع العلامتين منافيا مع وضع ملحوقها مع أنّه ليس كذلك قطعا فلا بد لمعتبر الوحدة في المفرد أن يشترط الاتحاد المعنوي في التثنية والجمع

 

لئلا يلزم إلغاء قيد الوحدة لأن المفرد حينئذ يؤول بالمسمى وهو كلي لا ينافي وضعه إرادة الفردين منه بسبب القرينة فافهم ثم لا يخفى أن ما جعل محلا للنزاع في المفرد غير معقول أعني إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة في استعمال واحد وذلك لأن إرادة المعنى مستقلا معناه توجه النّفس إليه بانفراده وذكر اللّفظ لإظهاره وحينئذ فإذا توجه إلى أحد المعنيين وجعل ذكر اللّفظ لإفادته كيف يعقل إرادة الآخر أيضا إذ لم يستعمل لفظا آخر حتى يريد منه المعنى الآخر بإرادة منفردة وبالجملة النّفس لا تتوجه توجهين في زمان واحد فعند ذكر اللّفظ ليست متوجهة إلاّ بتوجه واحد والمفروض أنّ التّوجه الواحد ليس متعلقا إلاّ بأحدهما فيكون هو المراد باللّفظ ويحتاج إظهار التّوجه الآخر إلى لفظ آخر فتأمل السّابعة إذا شك في المركب أنّه موضوع بوضع مغاير لأوضاع أجزائه بحيث يوجب إرادة معنى مغاير لمعانيها الثّابتة عند الأفراد فالأصل عدمه إلاّ إذا قام الدّليل على الوضع الجديد فمقتضى الأصل في المركب أن لا يكون معنى أجزائه إلاّ ما كان قبل التّركيب غاية الأمر أنّ الهيئة موضوعة لربط بعضها ببعض ولذا قيل إنّ الجمع المحلى إنّما يفيد استغراق الجماعات لا الأفراد لأن الملحوق موضوع الكلي ما فوق الاثنين واللام موضوعة للدلالة على استغراق مدخولها فتدل على استغراق أفراد ما فوق الاثنين وكذا إرادة النفي موضوعة لنفي المعنى المراد من مدخولها فإن أريد من مدخولها معنى واحد كان النّفي دالا على انتفائه غاية الأمر أن لازم النّفي الوارد على الطّبيعة اللابشرط شموله لجميع أفرادها والحاصل أنّه لا فرق بين المثبت والمنفي إلاّ في النّفي والإثبات ولازم النفي إفادة الشّمول بالنسبة إلى جميع الأفراد بخلاف الإثبات وعلى هذا فلا يتفاوت حال المشترك في سياق الإثبات والنّفي فإذا لم يخبر إرادة المتعدد من المثبت لم يجز في المنفي أيضا فالنفي إنّما يدل على انتفاء المعنى الواحد بجميع أفراده وأمّا إرادة نفي جميع المعاني فلا يجوز فما قيل من أن إرادة المتعدد لا يجوز في المثبت ويجوز في المنفي لدلالة النفي على الاستغراق فاسد وبالجملة يجب اتحاد المثبت والمنفي من جميع الوجوه عدا النّفي والإثبات وأمّا الاختلاف بالشمول وعدمه فإنّما هو من لوازم الاختلاف في النّفي والإثبات كما ذكروا أنّه يجب اتحاد المنطوق والمفهوم من جميع الوجوه عدا النّفي والإثبات ومع ذلك قد يختلفان بالعموم والخصوص فإنه إذا قيل إن جاء زيد وجب عليك إكرامه كان المراد بالوجوب العيني مع أنّ مفهومه نفي الوجوب مطلقا العيني والتّخييري وهذا ليس اختلافا يضر بما ذكروه من اشتراط عدم الاختلاف لأنّه إنّما نشأ من الاختلاف في النفي والإثبات ويؤيد عدم الفرق في المشترك بين المثبت والمنفي أنّه لو كان الاستغراق مجوزا لإرادة المتعدد لجاز في المثبت عند إدخال إرادة العموم عليه كما إذا قال كل عين عندي مع أن القائل لا يجوزه

 

فافهم إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول قد تحقق مما سطر أنّ النّزاع في المفرد غير معقول فإن إرادة المعنيين بإرادة واحدة قد نصوا على فساده وأمّا بإرادتين فقد ذكرنا أنّه غير متصور نعم لو كان متصورا لكان على وجه الحقيقة لما عرفت من عدم اعتبار قيد الوحدة لكنه مخالف لقانون الاستعمال فلا يجوز بهذا الوجه أيضا ومما يؤيد عدم الجواز أنّه لو جاز ذلك لاستغنى عن وضع التّثنية والجمع في المشترك خصوصا على قول من يجعل المشترك المجرد عن القرينة ظاهرا في الجميع وكذا الكلام في التّثنية والجمع لما عرفت أن وضعهما ليس بحيث يخالف وضع المفرد فإذا لم يتصور ذلك في المفرد لم يتصور فيهما أيضا وهذا في أسماء الأجناس ظاهر وأمّا في الأعلام فلأنّه يلزم فيها ارتكاب تجوز لا محالة لكن التّجوز بإرادة مفهوم المسمى من المفرد قطعي الجواز وإرادة المعنيين لم يعلم جوازه ورخصة الواضع فيه وكيفيّة الاستعمال توقيفيّة وقد عرفت أنّه لا يجوز بطريق الحقيقة إذ ما يتعقل هو إرادة المعنيين بإرادة واحدة وهو غير الموضوع له وليس بينه وبين الموضوع له علاقة مصححة كما صرحوا به في المفرد فافهم وقد عرفت أنّه لا فرق بين المثبت والمنفي ومما يؤيد عدم الجواز في المفرد الاتفاق على عدم جواز الإشارة بهذا إلى شخصين ولو جاز ذلك في المشترك لجاز هذا أيضا وإلاّ فما وجه الفرق وبالجملة الحق عدم الجواز مطلقا بقي أمور لا بأس بالإشارة إليها الأوّل اختلفوا في أن المشترك عند تجرده عن القرينة هل هو مجمل أو ظاهر في جميع المعاني وبما ذكرنا من عدم جواز استعماله في المتعدد يعلم أنّه مجمل ولا يجوز حمله على جميع المعاني إلاّ بإرادة مفهوم المسمى وهو مجاز لا يحمل عليه بدون القرينة وإن كان هو أيضا من جملة المعاني فلا يحمل عليه أيضا بدون القرينة المعيّنة لكن مع القرينة يكون حقيقة وأمّا بناء على القول بجواز استعماله في المتعدد فلا يحمل أيضا على الجميع لأنّ الشّائع استعماله في الواحد دون المتعدد احتجوا بوجوه منها قوله تعالى إِنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأَرْضِ إلى آخره وقوله تعالى إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ إلى آخره فإنّ السّجود من النّاس وضع الجبهة على الأرض ومن غيرهم تبعيّته لإرادة الله تعالى والصّلاة من الله الرّحمة ومن غيره طلبها وفيه بعد تسليم أن ليس المراد القدر المشترك وأنّه لا حذف في الآيتين أن غاية ما يثبت بهما الاستعمال في المتعدد بقرينة والمدعى هو الظّهور في الجميع عند عدم القرينة ومنها أنّ الاحتياط يقتضي حمله على الجميع لاحتمال كونه مرادا وفيه أن غاية ذلك أن يجب الإتيان بالجميع لاحتمال المطلوبيّة ولا يثبت ظهور الإرادة ومنها دليل الحكمة وهو أنّه إن لم يحمل على شيء لزم اللّغو في كلام الحكيم وإن حمل على البعض المعين كان ترجيحا بلا مرجح وإن حمل على البعض الغير المعين لزم الإجمال في كلام الحكيم فيجب الحمل على الجميع نظير ما استدلوا به

 

في دلالة المفرد المحلى على العموم مضافا إلى أن الحمل على الجميع مؤيد بأصالة الحقيقة لأنّ كل واحد من المعاني موضوع له ولم يقم قرينة صارفة عنه فيجب إرادته وفيه أنّه لا بأس بتحقق الإجمال في كلام الحكيم إذا كان له فائدة ونفيه في المفرد المعرف إنّما هو لغلبة البيان في كلام الشّارع وهي وإن أمكن ادعاؤها في المقام لكن نقول إنّها معارضة بغلبة استعمال المشترك في معنى واحد والعرف يساعد في مثل المقام على الإجمال وهو متبع في مثل ذلك وأصالة الحقيقة لا تقتضي إلاّ إرادة الحقيقة وأمّا جميع الحقائق فلا يساعده العرف وهو المناط في حجيّة الأصل على ما سبق تحقيقه الثّاني من جملة القرائن المعيّنة لإرادة أحد المعاني غلبة استعماله فيه فإنها موجبة للظّنّ بإرادته والظّنّ معتبر في المقام وذلك أعم من المشتركات في الأجناس والأعلام المذكورة في سند الرّواية وفي كتب الرّجال لكن يشترط في حمله على المعنى الغالب أمران العلم بتحقق الغلبة في زمان التّكلّم والعلم بأن المتكلّم عالم بالغلبة حتى يمكن له الاعتماد عليها وإذا شك في كل منهما فالأصل عدمه وهو ظاهر الثّالث قيل يظهر الثّمرة بين القول بجواز استعمال المشترك في المتعدد وعدمه في قوله تعالى وَأُمُّهاتُ نِسائِكُم وَرَبائِبُكم اللاّتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُم اللاّتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فإن كلمة من إن تعلقت بربائبكم كانت نشوية وابتدائيّة وإن تعلقت بنسائكم كانت بيانيّة ولا يقيد تحريم أمهات النّساء بصورة الدّخول بالنّساء وعلى الثّاني تقيد لكن لا يقيد تحريم الرّبائب بصورة الدّخول بأمهاتهن وإن علقت بالجملتين فقد استعلمت في المعنيين وقيد التّحريم في الموضعين وحينئذ فعلى القول بجواز الاستعمال في المتعدد يحمل كلمة من على معنييها ويقيد الجملتان وعلى القول بعدم الجواز يجب حملها على أحدهما والأولى أن يقرر الثّمرة بوجه آخر بأن يقال القيد الواقع عقيب الجمل إن كان ظاهرا في التّعلق بالجميع ظهر الثّمرة بين القولين في الآية إذ على القول بالجواز يجب الحمل على الجميع وتقييد الحرمة في الموضعين بالدّخول وعلى القول بعدمه فلا يجوز ذلك لأن القيد وإن كان ظاهرا إلاّ أنّ المانع موجود فيدور الأمر بين حمله على الجميع بإرادة القدر المشترك مجازا وبين تعليقه بالأخير فقط والقدر المتيقن من التّقييد هو الأخيرة وفي غيره مشكوك فيرجع إلى الأصل وإن كان القيد ظاهرا في التّعلق بالأخيرة فلا يظهر ثمرة بين القولين إذ على القول بالجواز أيضا يجب تعليقه بالأخيرة لظهور القيد هذا وقالوا ويظهر الثّمرة بين القولين فيما إذا وردت رواية ظاهرة في إرادة المتعدد من المشترك أو رواية كان ظاهرها غير مراد وكان تأويلها منحصرا في حملها على إرادة المتعدد من المشترك فعلى القول بالجواز لا إشكال وعلى القول بالعدم ففيه تفصيل لأنّ تلك الرّواية إن كانت

 

مقطوعة الصّدور وحصل القطع بإرادة المتعدد منه كانت دليلا على الجواز ولا تجامع القول بالعدم وكذا إن كان تأويلها منحصرا في ذلك وإن كانت ظاهرة في ذلك فإن كان عدم الجواز مستندا إلى الأصل التّوقيفيّة الاستعمال فحينئذ تكون الرّواية دليلا فيلغو الأصل وإن كان مستندا إلى الدّليل وجب التّأويل في تلك الرّواية وإن كانت مظنونة الصّدور وكانت ظاهرة في ذلك فعلى الاستناد إلى الأصل تكون ظهور الرّواية دليلا فيلغو الأصل وعلى الاستناد إلى الدّليل يجب التّأويل وإن كان ظاهرها غير مراد وانحصر تأويلها فيما يوجب الاستعمال في المتعدد فعلى الاستناد إلى الدّليل لا إشكال في طرحها وأمّا على الاستناد إلى الأصل فهل يوجب الرّواية إلغاء الأصل الحق عدمه لأنّ الرّواية الغير المقطوعة إذا كان لها معارض أقوى جاز طرحها وأمّا التّأويل فيها فلا وجوب فيه لأنّ وجود المعارض الأقوى كاشف عن فساد سند تلك الرّواية وإنّما التّأويل تبرع لئلا يطرح ما نسب إلى المعصوم وليس التّأويل فيها واجبا حتى يكون دليلا على جواز الاستعمال في المتعدد بحيث يلزم إلغاء الأصل فتأمل

تذنيب

ربما يتوهم التّناقض في كلام الفاضل القمي رحمه‌الله حيث ادعى أولا أنّ التّثنية حقيقة في الفردين من ماهيّة واحدة لا في المعنيين من لفظ للتّبادر ثم ذكر ثانيا أنّه لا يجوز الاستعمال في المعنيين في التّثنية مجازا لأنّ هذا التّجوز لا يرجع إلى وضع العلامة لأنّها موضوعة للإشارة إلى متعدد أيا ما كان إنّما التّجوز يرجع إلى المفرد حيث أريد منه المعنيان ولا دليل على جواز هذا النّوع من التّجوز فادعى أولا التّبادر في الفردين من ماهيّة واحدة وذكر ثانيا أنها موضوعة لمطلق الاثنين وهذا تناقض بين والجواب أن المراد من ادعاء التّبادر إنّما هو تبادر الفردين بالنّظر إلى مجموع المفرد والعلامة فإنّ المفرد موضوع للمعنى في حال الوحدة بمذهبه والعلامة موضوعة للإشارة إلى المتعدد فيكون المجموع دالا على الفردين من معنى واحد وما ذكره ثانيا إنّما هو بالنّظر إلى العلامة فقط فلا تناقض فافهم

أصل اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في معنييه الحقيقي والمجازي

على نحو اختلافهم في المسألة السّابقة فيكون محل النّزاع هو إرادتهما مستقلا بإرادتين لا إرادتهما في ضمن القدر المشترك ويعبر عنه بعموم المجاز ولا إرادة المجموع من حيث المجموع على ما سبق فذهب جماعة إلى الجواز وأخرى إلى المنع واختلف المجوزون فذهب بعضهم إلى أنّه مجاز وآخر إلى أنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين وتحقيق المطلب يستدعي رسم مقدمتين الأولى قالوا المجاز هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له مع وجود القرينة المعاندة لإرادة الموضوع له والكناية هي الاستعمال في غير ما وضع له مع جواز إرادة الموضوع له واختلفوا في أن المراد بالقرينة المعاندة الّتي يشترط تحققها في المجاز

 

ماذا فالمشهور على أن المراد بها أن تكون معاندة لإرادة الحقيقة مطلقا ولذا استدل به على عدم جواز الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي ويظهر من بعضهم في رد الاستدلال المذكور أن المراد بها أن تكون معاندة لإرادة الحقيقة وحدها فلو أريد الحقيقة والمجاز معا لم يكن القرينة مانعة وجعل الشّاهد على ذلك جواز استعمال الجزء في الكل كالرّقبة في الإنسان مع أن المعنى الحقيقي أيضا مراد مع المجازي لاشتمال الإنسان على القربة أيضا ويظهر من بعض المحققين في رد الاستدلال المذكور أيضا أن المراد بها أن تكون معاندة لإرادة الحقيقة بالإرادة المتعلقة بالمجاز بأن يرادا معا بإرادة واحدة ولا تمنع من إرادتهما بإرادتين مستقلتين كما هو محل النّزاع ولكن لا يخفى ما في الوجهين الآخرين من الفساد لأنّ ما ذكراه تقييد لكلمات القوم بلا دليل واستشهاد الأوّل بمثل الرّقبة واضح الفساد إذ لم تستعمل إلاّ في المعنى المجازي وهو الكل وليس المراد بها المعنى الحقيقي أصلا نعم تدل عليه بدلالة الإشارة الغير المقصودة وذلك لا دخل له بالمقام مضافا إلى أنه يرد عليه أنّه لو كان مرادهم ما ذكره هذا لم يكن للفرق بذلك بين المجاز والكناية وجه لوجود القرينة المعاندة بهذا المعنى في أكثر الكنايات فإنّ القرينة المفيدة لإرادة اللازم هي بعينها مانعة عن إرادة الملزوم منفردا فلا وجه لتخصيص ذلك بالمجاز على ما صرحوا به ثم إنّه قد ذكر بعض المدققين أن النّزاع في المقام لفظي لأنّ المجاز باصطلاح الأصوليّين أعم من الكناية لأنه عبارة عن الاستعمال في غير ما وضع له سواء كان هناك قرينة معاندة أولا وباصطلاح البيانيين قسيم للكناية لاشتراط وجود القرينة المعاندة فيه دونها وحينئذ فمن قال بعدم جواز الاستعمال في الحقيقي والمجازي نظر إلى المجاز باصطلاح البيانيين ومن قال بالجواز أراد بالمجازي الكنائي لإطلاق المجاز عليه عند الأصوليّين ولا ريب أن عدم الجواز بالنّسبة إلى الحقيقي والمجاز البيانيين وكذا الجواز بالنّسبة إلى الحقيقي والكنائي وإنّما نشأ النّزاع حيث أطلقوا المجاز على الكناية فتوهم المانع أن المراد هو المجاز البياني فقال إنه لاشتراط القرينة المعاندة وفيه أمّا في المعنى فلا نزاع بينهما أقول لا بد من بيان الفرق بين الحقيقة والمجاز والكناية ليظهر الحال فنقول الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له بحيث يكون هو المراد استقلالا وهو المستعمل فيه والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له بحيث يكون هو المراد والمستعمل فيه والكناية هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له لكن لينتقل إلى غير الموضوع له فالمراد مستقلا هو غير الموضوع له لكن اللّفظ قد استعمل فيما وضع له وربما يكون هو أيضا مرادا لكن لا بد من ملاحظة كونه واسطة للانتقال أيضا وبهذا علم أن طريقة الاستعمال في كل منها مغاير للآخر

 

ثم إن كلا من المجاز والكناية محتاج إلى نصب قرينة دالة على إرادة غير الموضوع له لكن فرق بين القرينتين من وجهين أحدهما أن القرينة في المجاز إنّما هي لإرادة غير ما وضع له والاستعمال فيه أيضا بخلاف الكناية فإنّ القرينة فيها إنّما هي لمحض إرادة غير ما وضع له لا للاستعمال فيه ولما كان عدم جواز الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي مجردا عندهم قالوا إنّ القرينة في المجاز معاندة لإرادة الحقيقة فإنّ المجاز قد استعمل في غير ما وضع له فلا يجوز استعمال فيما وضع له أيضا فيكون القرينة فيه معاندة لإرادة الموضوع له لدلالتها على الاستعمال في غير الموضوع له ولا يجوز الاستعمال في المعنيين بخلاف الكناية فإنّ القرينة فيها إنّما تدل على إرادة غير الموضوع له لا على الاستعمال فيه فلهذا قالوا إنّها غير معاندة وبالجملة قولهم إن القرينة في المجاز معاندة لإرادة الحقيقة إنّما هو لما تحقق عندهم من عدم جواز الاستعمال في المعنيين فالتّمسك لعدم الجواز بكون القرينة معاندة كالدّور والثّاني أنّ القرينة في المجاز غالبا موجبة لكون اللّفظ نصا في غير الموضوع له بحيث لو أراد المتكلّم إنكاره لم يمكنه بخلاف الكناية ولهذا سمي كناية لبنائه على التّستر وإخفاء الأمر وبالجملة الكناية غير المجاز قطعا وليست مستعملة إلا في المعنى الحقيقي وبما ذكرنا ظهر أن الاستدلال لعدم الجواز باحتياج المجاز إلى القرينة المعاندة فاسد وكذا الاستدلال للجواز بالكناية وكذا القول بأن النّزاع لفظي ونظر المجوز إلى الكناية لما عرفت أن الكناية ليس فيها جمع بين المعنيين أصلا بل النّزاع معنوي وهو أنه هل يجوز استعمال اللّفظ فيما وضع له وفي غير ما وضع له أو لا وأمّا الكناية فلا دخل لها بمحل الكلام أصلا فافهم الثّانية ربما يتوهم أن الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي موجود في كلماتهم ومثلوا له بأمور منها الكناية وقد مر فساده ومنها التّضمين كقوله تعالى فَليَحْذَر الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ فإن يخالفون قد استعمل في معناه الحقيقي وفي معنى يعرضون وهو غير الموضوع له ومنها التّغليب فإنّ المراد من ملحوق العلامة القمر وهو الموضوع له والشّمس وهو غيره ومنها الأواني المعلقة لشيء على شيء كما لو قال إن جامعت في نهار رمضان فكفّر وقد قيل إن الأصل في مثل ذلك عدم تكرر الجزاء بتكرر السّبب وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأنّ الكفارة مثلا بالنّسبة إلى السّبب الأوّل طبيعتها فإن كان المراد تكرارها بسبب تكرار الجماع وجب أن يكون المراد بها بالنّسبة إلى السّبب الثّاني غير ما حصل أوّلا وهو الفرد الآخر غير الفرد الّذي أوجده أوّلا فيكون المراد بها بالنّسبة إلى السّبب الأوّل الطّبيعة وهي الموضوع له وبالنّسبة إلى الثّاني الفرد وهو غير الموضوع له ومنها الأوامر المتعلقة بالشّخص المختلف حاله بالقدرة والعجز فقوله صل يراد به الصّلاة قائما بالنّسبة إلى القادر على القيام

 

والصّلاة المطلقة اللابشرط بالنّسبة إلى العاجز ومنها الاستخدام حيث يراد من المرجع عند ذكره المعنى الحقيقي وعند ذكر الضّمير المعنى المجازي ومنها القرآن بالنّسبة إلى ظهره وبطنه والتّحقيق أن شيئا من ذلك ليس مقطوعا به بحيث يستدل به على الجواز أمّا التّضمين فلوجود احتمالات عديدة فيه الأوّل أن يكون من قبيل الجمع بين المعنيين والثّاني أن يكون معنى الفعل الّذي يراد تضمينه محذوفا في الكلام والثّالث أن يكون من قبيل الكناية حيث أطلق المخالفة لينتقل إلى لازمها الّذي هو الإعراض وفيه بعد لأنّ الانتقال في الكناية إنّما هو بعد تمام الكلام وفي الآية لا يتم الكلام بذكر يخالفون حتى ينتقل إلى لازمه ويوجب صحة تعلق الجار به بل الانتقال فيها لو كان فإنما هو بعد ذكر الجار وهو لا يوجب تصحيح تعلق الجار كما لا يخفى والرّابع وهو التّحقيق ما سبق إليه الإشارة من أن المخالفة ملازمة في الخارج مع عنوان آخر وهو الإعراض فجاز إجراء أحكام الإعراض عليه نظرا إلى تلازم العنوانين فلم يستعمل اللّفظ إلا فيما وضع له وأمّا التّغليب فلما عرفت أن المفرد قد استعمل في مفهوم المسمى مجازا وأشير بالنّون إلى فردين منه أحدهما فرده الحقيقي والثّاني فرده الادعائي وأمّا الأوامر فلأن المراد فيها هو الطّبيعة وأمّا تكررها بتكرر السّبب فهو غير مراد من اللّفظ بل هو حكم العقل بأن السّبب إذا تكرر تكرر المسبب مضافا إلى أنّ ذلك وارد على القول بأصالة التّداخل أيضا لوجود الموارد الّتي قد أجمع فيها على عدم التّداخل والحد ما ذكرنا وكذا الخطابات المتعلقة بالمكلف فإنّ المراد بها الطّبيعة غاية الأمر تقيدها بقيد بحسب بعض الحالات وهو لا يوجب إرادة المقيد من اللّفظ حتى يكون مجازا وأمّا الاستخدام فلما عرفت مفصلا أن المراد بالمرجع ليس إلا معنى واحد والضّمير إنّما يرجع إلى شيء تقدم ذكره التزاما لدلالة المرجع عليه في الجملة وهذا كاف في صدق تقدم مرجع الضّمير وأمّا البطون فلعدم استعمال اللّفظ فيها بل هي إمّا من قبيل الكناية أو من قبيل إفهام المطلب بذكر أشباهه ونظائره فافهم إذا تمهد هذا فنقول استدل المانعون بتوقيفيّة الاستعمال ولم يثبت جواز ذلك في لسانهم وبأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة والثّاني فاسد لما أشرنا إليه أن القرينة في المجاز إنّما هي ذكر شيء من لوازم المعنى المجازي ليدل على إرادته وهذا لا يوجب عدم جواز إرادة الحقيقة لكن لما ثبت عندهم عدم الجواز قالوا إنّه إذا قامت قرينة على المجاز لم يمكن إرادة الحقيقة فكان القرينة معاندة لإرادة الحقيقة وبالجملة كون قرينة المجاز معاندة فرع عدم جواز الاستعمال فلا يمكن الاستدلال به على عدم الجواز وفصل صاحب المعالم فقال إن أريد الجمع بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي بتمامه فالمانع مستظهر لوجهين أحدهما أن الوحدة معتبرة في الموضوع له فلا يمكن إرادة غيره معه والثّاني

 

أنّ المجاز ملزوم للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة وإن أريد الجمع بين المعنى المجازي وذات المعنى الحقيقي فنقول إنّه جائز مجازا لإلغاء قيد الوحدة فيكون مجازا فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده هذا حاصل كلامه وهو بإطلاقه يشمل التّثنية والجمع أيضا ويرد عليه أوّلا ما عرفت من عدم اعتبار الوحدة وثانيا أن مرادهم بالقرينة المعاندة أن تكون معاندة لإرادة ذات المعنى الحقيقي لا لإرادة الحقيقة وحدها وإلا لم يكن بذلك فرق بين المجاز في الكناية لأن القرينة في الكناية معاندة أيضا لإرادة الحقيقة وحدها وبالجملة ما ذكره من لزوم المجاز للقرينة المعاندة مأخوذ من كلمات البيانيّين وظاهر كلامه تسليم ما ذكروه وهم إنّما يذكرون ذلك في مقام الفرق بين المجاز والكناية وهو لا يمكن إلا بأن يراد أن القرينة في المجاز معاندة لإرادة الموضوع له مطلقا بخلاف الكناية وحينئذ فمقتضى ذلك عدم جواز إرادة الحقيقة ولو مع إلغاء الوحدة عند إرادة المجاز وثالثا أن إطلاق كلامه يدل على الجواز مجازا بالنّسبة إلى التّثنية والجمع مع أنّه غير مناسب لمذهبه لأنّه كما يظهر من كلامه في المشترك حيث جوز استعماله في المعنيين في التّثنية والجمع حقيقة أنّه قائل بعدم اعتبار الوحدة في الموضوع له بالنّسبة إلى ملحوق العلامة وإلا لم يكن حقيقة وحينئذ فيكون مذهبه أن الملحوق موضوع للمعنى اللابشرط وعلى هذا فلا يوجب إرادة المجاز معه إلغاء الوحدة حتى يكون مجازا أو لا تعانده القرينة بل هو باق على حقيقته فتعانده القرينة وحينئذ فلا بد أن لا يجوزه في التّثنية والجمع أصلا وربما اعتذر عن ذلك بأن إطلاق كلامه ناظر إلى المفرد لأنّه الّذي يجري فيه التّرديد المذكور دون التّثنية والجمع لعدم احتمال إرادة المعنى مع الوحدة فيهما لكن مذهبه في التّثنية والجمع هو الجواز مجازا لأنّه قال باعتبار الوحدة في الموضوع له للمفرد وقال بجواز استعمال تثنية المشترك وجمعه في المعنيين حقيقة ومقتضى الجمع بين الكلامين إمّا أن يقال إنّه قائل بأنّ المفرد حين تجرده عن العلامة موضوع للمعنى مع الوحدة وعند اللحوق موضوع للمعنى لا بشرط حتى يكون إرادة المعنيين منه في المشترك حقيقة أو يقال إنّه قائل بأن التّثنية والجمع كل منهما موضوع بوضع مستقل لإرادة المعنيين الحقيقيّين أو المعاني كذلك وحمل كلامه على الأوّل بعيد جدا بأن يلتزم تعدد الوضع بالنّسبة إلى المفرد فيجب حمله على الثّاني وحينئذ فيتم ما ذكر في التّثنية والجمع بالنّسبة إلى المعنى الحقيقي والمجازي لما عرفت أنهما حينئذ موضوعان لإرادة المعنيين الحقيقيّين أو المعاني كذلك فاستعمالهما في الحقيقي والمجازي استعمال في غير الموضوع له فيكون مجازا أقول ويمكن الجمع بين الكلامين بوجه آخر وهو أن يقال إن المفرد حين تجرده عن العلامة موضوع للمعنى مع الوحدة وحين اللحوق موضوع للمعنى الحقيقي بشرط انضمامه لمعنى حقيقي آخر ويكون العلامة قرينة على إرادة هذا المعنى وحينئذ فلو أريد المعنيان الحقيقيان من التّثنية كان حقيقة كما في المشترك وإن

 

أريد المعنى الحقيقي مع المجازي كان كل منهما مجازا لعدم وجود الشّرط وهو الانضمام بالمعنى الحقيقي الآخر فيكون حينئذ مستعملا في مجازين كما في المفرد ولا يبعد أن يكون مذهب صاحب المعالم في وضع التّثنية والجمع ما ذكر واستدل المجوز مجازا على كونه مجازا بأنّه قد دخل في المستعمل فيه ما هو خارج عن الموضوع له فيكون مجازا وأورد عليه بأنّه إن أريد بدخول المعنى المجازي في المستعمل فيه دخوله فيه كدخول الأجزاء في الكل بأن يكون المراد مجموع المعنيين من حيث المجموع أو كدخول الأفراد في الكلي بأن يكون المراد معنى عام يشمل المعنيين ففيه أن هذا خارج عن محل النّزاع لما عرفت أن النّزاع إنّما هو في إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة وإن أريد بدخوله فيه أن المراد والمستعمل فيه شيئان فيكون كل منهما داخلا في مفهوم المستعمل فيه وإن كان مستقلا في الإرادة ويكون ذلك مجازا لأنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له فقط فالوحدة معتبرة في الحقيقة وإن لم تكن معتبرة في الوضع ففيه أن الوحدة إن اعتبرت في الحقيقة اعتبرت في المجاز أيضا وإلا لزم التّفكيك بينهما وحينئذ فيكون هذا الاستعمال خارجا عن الحقيقة والمجاز وإن لم تعتبر الوحدة أصلا كما هو الحق لعدم دلالة ما ذكروه في التّعريف على اعتبارها يكون الاستعمال المذكور على فرض جوازه حقيقة ومجازا لا يقال إن الاستعمال واحد ويلزم كونه حقيقة ومجازا بالنّسبة إلى مجموع المعنيين وهو تناقض لأنّا نقول الحيثيّة معتبرة في التّعاريف فالكلمة المذكورة من حيث إنها مستعملة في الموضوع له حقيقة ولا ينافيه استعماله في غيره أيضا ومن حيث إنها مستعملة في غيره مجاز هذا لكن قد عرفت أن هذا الاستعمال غير جائز لتوقيفيّته أو أنّه غير معقول كما سبق إليه الإشارة في المشترك

أصل اختلفوا في أنّ ألفاظ المقادير كالمثقال والمن والفرسخ والكر وأمثالها حقيقة في خصوص الكامل ومجاز في النّاقص ولو بيسير أو حقيقة في الأعم من الكامل وما نقص منه بيسير

ذهب بعضهم إلى الثّاني مستدلا بإطلاقها على النّاقص يسيرا في العرف وعدم صحة سلبها عنه وأورد عليه بأنّه لو كانت حقيقة في الأعم لزم التّسلسل لأنّ النّاقص بيسير إذا كان من أفراد الموضوع له كان النّاقص عنه بيسير أيضا من أفراده وهكذا مع أنّه يلزم كون المن حقيقة في المثقال وفيه أن المراد أنّه حقيقة فيما نقص بيسير عن الفرد الكامل لا عما كان موضوعا له والحق في الجواب أن يقال إنّه يصح سلبها عن النّاقص في العرف وإطلاقها عليه مسامحة من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود ومما يدل على ذلك ملاحظة أحوالهم فيما يعتنى بشأنه كميزان الذّهب فإنّه لو نقص عن المثقال بحبّة يقولون إنّه ليس بمثقال ولا شبهة أنّه لا يتفاوت معنى المثقال بالنّسبة إلى الذّهب وغيره بل له معنى واحد لكنهم يتسامحون في بعض الأشياء دون بعض والمعتبر صحة السّلب

 

وعدمها في غير مقامات المسامحة فإن قلت لا ريب في كثرة استعمالها في الأعم عرفا وشيوعه بحيث صار من المجازات الرّاجحة فلا بد من حمل اللّفظ عليه لقرينة الشّهرة إذا ورد في كلام الشّارع قلنا بعد التّسليم أن الاشتهار إنّما يسلم في الأمور الحقيرة الّتي لا يعتنى بها دون الأمور الخطيرة وما يتعلق به الأحكام أمور خطيرة أو غير معلوم الحال فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الحد التّام وبالجملة يجب حمل المذكورات في الشّريعة على الحد التّام الّذي لا مسامحة فيه لكن يغتفر التّسامح في طريق تحصيله فإنّ الأشبار المقدرة في تحصيل الكر وكذا الأرطال مختلفة غالبا فلا يجب التّدقيق في ذلك ولذا قيل إن ذلك تحقيق في تقريب مسائل الأولى إذا علق الحكم على مقدار وعلمنا أن الحكمة شيء يتخلف عن ذلك المقدار من دليل آخر فهل يجب التّعبد بذلك المقدار أو لا بد من ملاحظة وجود الحكمة مثلا علق وجوب القصر على قصد ثمانية فراسخ وعلمنا أن الحكمة فيه لزوم الحرج لتعليله به في بعض الأخبار والحرج قد يتحقق في أقل من ثمانية فراسخ وقد لا يتحقق في الثّمانية وأزيد فنقول إن الواجب هو ملاحظة الحد المذكور دون العلة لأن الأحكام الشّرعيّة لا بد أن تعلق على أمور منضبطة وأمّا الأمور الغير المنضبطة فلا يجوز تعليق الحكم عليها لأنّه يوجب الهرج والمرج وملاحظة الحرج في مثل ذلك أمر غير منضبط والشّارع إنّما يلاحظ في الحكم أمرا منضبطا يغلب وجود الحكمة فيه فيعلق عليه الحكم ولزوم انتفاء الحكم في بعض موارد وجود الحكمة ووجوده في بعض موارد عدمها غير مضر لأنّه كارتكاب شر قليل الخير كثير فإن الحكمة في تشريع العدة هي عدم اختلاط الأنساب وهذه منتفية في العقيمة لكن أوجب عليها العدة لئلا يلزم الهرج لأنّ العقم أمر غير منضبط ولذا قيل إن التّغير التّقديري لا يوجب نجاسة الكر لأنّ الحكم لا بد أن يعلق على أمور منضبطة محسوسة والتّقدير غير منضبط هذا لكن إذا استفيد من الأخبار الّتي ذكر فيها حكمة الحكم أن تعليق الحكم على الحد المذكور إنّما هو من جهة المثال أو جهة أخرى وكان الحكمة المذكورة فيها أمرا مضبوطا جاز أن يحكم بأن المناط هو وجود العلة وإلى هذا ينظر بعضهم حيث حكم بطهارة الماء القليل بالملاقاة مستندا بأن حكمة قوله إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء هي أنّ الكرّيّة كاشفة عن عدم تغيّر الماء بالملاقاة غالبا والمناط هو التّغير فيه ويستظهر ذلك من الأخبار

تنبيهات

الأول

قد ذكروا أن حكم الكر يجري فيما إذا كان الماء بنفسه أنقص من الكر ولكن قد اختلط بأمر خارج كالطّين بحيث صار معه كرا ولم يخرج عن إطلاقه وكذا إذا بلغ الحنطة المختلطة بالتّراب المعتاد حد النّصاب وجب الزّكاة وإن لم يكن الحنطة المحضة بالغة حده وربما يظن أن ذلك من باب إطلاق الكر على ذلك والنّصاب على هذا مسامحة وقد أجري عليه الحكم للدليل لكن التّحقيق

 

أنّه ليس من باب المسامحة بل هو كر من الماء حقيقة وكذا الحنطة نصاب حقيقة وذلك لأنّ الطّين المخلوط بالماء ماء عرفا حقيقة وكذا التّراب المخلوط بالحنطة ويظهر الثّمرة في الماء فإنّه إذا أراد تطهير لباسه للصلاة ولم يتمكن من غسله بالقليل وكان عنده مقدار من الماء أقل من الكر قليلا بحيث لو مزج به شيئا من التّراب لبلغ الكر فإن قلنا إنّه كر حقيقة وجب عليه إلقاء التّراب فيه تحصيلا للغسل الواجب وإن قلنا إنّه مسامحة لم يجب عليه لعدم الدّليل فإنّه يصدق عليه أنّه غير متمكن من تحصيل الكر بخلافه على الأول لتمكنه منه بناء عليه وهذا الثّمر لا يجري في الزّكاة لعدم وجوب تحصيل النّصاب فلا يجب إلقاء التّراب قليلا في الحنطة النّاقصة من النّصاب وإن قلنا إنّه بعد الإلقاء يصير الحنطة نصابا حقيقة

الثّاني

ما ذكرنا من وجوب حمل المقدار على التّام إنّما هو فيما إذا كان المقدار موضوعا للحكم الشّرعي كالكر فإنّه موضوع لعدم نجاسة الماء وكالنّصاب فإنّه موضوع لوجوب الزّكاة وأمّا إذا كان المقدار قيدا للعمل الّذي هو موضوع الحكم كوجوب التّراوح يوما فهو قسمان لأنّ الحكم المتعلق على الموضوع المذكور إمّا حكم بدوي وجعله الشّارع كالوجوب للتّراوح وأمّا حكم يجعله المكلف على نفسه كالأخير لخياطة يوم مثلا وقد فرقوا بين القسمين فحكموا بوجوب الاستيعاب في الأول وكفاية اليوم العرفي في الثّاني فيكفي شروعه في الخياطة بعد طلوع الشّمس ولعل وجه الفرق هو أن المقصود في المعاملات العرفيّة من اليوم نحوه هو ما يصدق على ما بعد طلوع الشّمس أيضا وكلمات العرف ينزل على مقاصدهم ولكن قصد هذا في العرف لا في المعاملات لا يوجب صرف لفظ الشّارع إليه في مقام بيان الأحكام وهاهنا بحث وهو أنهم قد ذكروا في مسألة المجمل والمبين أن اليد في آية السّرقة لا إجمال فيها وردوا على السّيد حيث ادعى إجمالها تمسكا باستعمالها في كل من الأشاجع والكف وإلى المرفق وإلى الزّند وفي تمامها فتكون مجملة بأن اليد حقيقة في تمام العضو ولكن يكفي في نسبة الحكم إلى المجموع تعلقه بالبعض وحينئذ فنقول مقتضى هذا الكلام أن يصدق تراوح اليوم حقيقة بالتّراوح في بعض اليوم وإلا فما الفرق والجواب أن القيد الّذي يقيد به العمل قد يكون المقصود به تحديد العمل بمقدار ذلك القيد كما في التّراوح فإنّ المقصود تحديد التّراوح بمقدار اليوم فيلزم الاستيعاب قد يكون المقصود محض تعلق العمل بذلك القيد في الجملة لا تحديده به كقطع اليد فإن المقصود وقوع القطع على اليد في الجملة وهو يصدق بقطع البعض أيضا لا يقال إن مثل الخياطة أيضا محدودة بالزّمان فلم لا يلزمه الاستيعاب لأنّا نقول قد ذكرنا الفرق بينهما بوجود القرينة على عدم إرادة الاستيعاب في العرف دون الشّرع

الثّالث

اختلفوا في تحديد بعض

 

المقادير الّتي حدد بها الأحكام في الشّريعة لا بأس بالإشارة إليها لكثرة ما يترتب عليها من الفروع الفقهيّة فمن جملتها اليوم وله إطلاقات أحدها ما بين طلوع الفجر إلى الغروب والثّاني ما بين طلوع الشّمس إلى الغروب الثّالث مجموع الليل والنّهار وهل هو حقيقة في كل واحد منها بنحو الاشتراك اللّفظي أو المعنوي أو حقيقة في أحد المعنيين الأولين الحق أنّه حقيقة في خصوص المعنى الأول لتقابل اليوم والليل قطعا ولا ريب أن بين الطّلوعين ليس من الليل لصحة السّلب فيكون داخلا في اليوم لعدم تحقق الواسطة بين اليوم والليل وقيل إنّه لم يطلق على المعنى الثّالث أصلا وما يوهم ذلك أنّه قد أجرى الحكم المتعلق بالأيام على لياليها أيضا كما في خيار الحيوان لثبوته في الليالي أيضا وهذا لا يدل على المدعى لأنّ الليل في مثل ذلك داخلة تبعا لأنّ الثّابت خيار واحد مستمر في الثّلاثة فيثبت في الليل تبعا ويظهر الثّمرة في ثبوت الخيار في ثلاث ليال وثلاثة أيّام في خيار الحيوان على المعنى الثّالث وثبوته في ثلاثة أيّام وليلتين على المعنيين الأوّلين وكذا في غير ذلك من الموارد ثم إنّ مقتضى ما ذكرنا من كونه حقيقة في ما بين طلوع الفجر والغروب أن لا يطلق على الملفق من اليومين حقيقة وهو كذلك لكن قد ثبت في بعض الموارد إجراء حكم اليوم التّام على الملفق أيضا لكن في كيفيّة التّلفيق خلاف فقيل بأنّه يؤخذ من اليوم الثّاني مقدار ما مضى من اليوم الأول فلو باع الحيوان بعد مضي ثلاث ساعات من الخميس الّذي هو اثنتا عشر ساعة أخذ ثلاث ساعات من يوم الجمعة واعتبر يوما وإن فرض كون الجمعة أطول من الخميس بأربع دقائق وقيل يوضع من آخر اليوم الثّاني مقدار ما بقي من اليوم الأوّل ويضم إليه الباقي فيسقط التّسعة من يوم الجمعة ويضم الباقي بما بقي من يوم الخميس فيزيد حينئذ على الأوّل بأربع دقائق وقيل يعتبر نسبة ما مضى من يوم الخميس إلى ما بقي ويؤخذ من يوم الجمعة بتلك النّسبة فيؤخذ من يوم الجمعة ثلاث ساعات دقيقة لأنّها ربعه ويضم بما بقي من يوم الخميس والحق هو الأول لأنّه المتبادر من التّلفيق عرفا وملاحظة النّسبة فاسدة جدا لأنّ المقدار الحاصل حينئذ ليس بمقدار واحد من اليومين الّذي اعتبر التّلفيق منهما استدلوا على ملاحظة النّسبة تارة بأنّ الملفق من اليومين معناه أن يكون مباينا لهما وليس ذلك إلا لاختلافه منهما في المقدار وتارة بأن أخذ مقدار أحد اليومين ترجيح بلا مرجح وملاحظة النّسبة عدالة والجواب عن الأول منع كون التّلفيق مستلزما للمباينة في المقدار وعن الثّاني أنّه استحسان وفهم العرف مرجح

أصل اختلفوا في أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني النّفس الأمريّة أو المعاني المعلومة

فقيل بالأوّل وعليه المحققون وقيل بالثّاني إمّا في كل الألفاظ أو في خصوص المشتقّات وهذا غير ما ذهب إليه صاحب الحدائق من اختصاص النّجس بما علم نجاسته لأنّه

 

لا يقول بذلك لغة بل يقول إنّه كذلك شرعا نظرا إلى الأخبار والمراد بالعلم المأخوذ في الموضوع له عندهم على ما يظهر من كلماتهم هو الاعتقاد باندراج الجزئي تحت الماهيّة المخصوصة لا التّصور لما ذكروا عند الأولين موضوع للماهيّة المخصوصة وعند الآخرين لما اعتقد أنّه من جزئيات تلك الماهيّة وحينئذ فلازم هذا القول القول بوضع الألفاظ للجزئيات الخارجيّة المتعلقة للاعتقاد المذكور فإن قلت قد ذكروا أن كل واحد من القائلين في هذه المسألة يمكنهم القول بكل من الأقوال في المسألة الآتية وهي أن الألفاظ موضوعة للأمور الخارجيّة أو الذّهنيّة أو للماهيّة لا بشرط بتقريب أن القائل بوضعها للأمور الخارجيّة قد يقول بوضعها لها مع قطع النّظر عن كونها معلومة وقد يقول بوصفها لها حالكونها معلومة والقائل بوضعها للأمور الذّهنيّة قد يقول بوضعها للصور الذّهنيّة المطابقة للخارج وقد يقول بوضعها للصور الّتي اعتقد مطابقتها للخارج والقائل بوضعها للماهيّة قد يقول بوضعها للماهيّة الواقعيّة وقد يقول بوضعها للماهيّة الّتي علم تفصيلا أنها الماهيّة المتصورة إجمالا فما ذكرت من الملازمة المذكورة فاسد قلت ما ذكرناه إنّما هو بالنّظر إلى ما يلزم من كلماتهم في المقام على ما عرفت ويشهد له ما ذكروه أن مجهول الحال داخل في مفهوم آية النّبإ عند هؤلاء لأن الفاسق هو من علم اندراجه تحت عنوان الفاسق ثم إنّ الحق هو القول الأول ويكفي في بطلان غيره أنا نقطع بأنّه لو فرض عدم تحقق العالم والعلم في الخارج فالأسماء يصدق على تلك الماهيات فالخمر موجود في الخارج وإن انعدم جميع العالمين فرضا ولو كان كما ذكروا لانعدم الخمر بانعدامهم لأنّه اسم لما علم خمريّته وهو بديهي البطلان مضافا إلى عدم الدّليل على اعتبار العلم في الموضوع له إذ ما يمكن التّمسك به أمران أحدهما أن الحكم في القضايا تابع للعلم بالموضوع والمحمول والثّاني أن التّكليف بدون العلم قبيح ويرد عليهما أن غاية ما ثبت من ذلك وجوب معلومية الموضوع والمحمول والمكلف به وأمّا اعتبار العلم في الموضوع له فلا يثبت بهما وعلى الأول أن العلم المتعلق بالموضوع والمحمول هو التّصور لا الإذعان المذكور وعلى الثّاني أوّلا أنّه لا يتم في الأخبار وثانيا أن العلم الإجمالي بالمكلف به كاف في تعلق التّكليف ولا يلزم العلم به تفصيلا كما هو المطلوب ثم إنّ مقتضى الدّليل الأوّل هو اعتبار علم المتكلّم إذ هو الحاكم ومقتضى الثّاني هو اعتبار علم المكلف ومقتضى الأول كفاية مطلق الاعتقاد وإن لم يكن مطابقا للواقع ومقتضى الثّاني أن يكون المكلف به هو المعنى الواقعي بشرط تعلق الاعتقاد به لأنّ هذا الاشتراط يكفي في دفع لزوم التّكليف بما لا يطاق وأمّا كفاية مطلق الاعتقاد فغير لازم منه ثم إنّه قد ذكر في بيان الثّمرة بين القولين أمور منها أنّه على

 

القول بوضعها للأمور الواقعيّة يجب القول بالتّخطئة لأنّه شيء واحد إن أصابه الشّخص أصاب وإلاّ أخطأ وعلى القول بوضعها للأمور المعلومة يجب القول بالتّصويب لأنّ كل ما اعتقده الشّخص يصير موضوعا له وفيه نظر لأنّ مسألة التّخطئة والتّصويب لا ربط لها بالمقام لأنّها في الأحكام الشّرعيّة والنّزاع فيها إنّما هو في أن لله تعالى في كل واقعة حكما واقعيا قد يصاب وقد يخطأ أو لا بل حكمه تعالى تابع لآراء المجتهدين وكلا القولين يجتمع مع كلا القولين هنا لأنّ القائل بأن الخمر موضوع للماهيّة الخاصة قد يقول بأنّه حرام واقعا وقد يقول بأنّه حرام لمن اعتقد حرمته وكذا القائل بوضعه لما اعتقد أنّه من تلك الماهيّة قد يقول بأن ذلك حرام واقعا وقد يقول بأنّه حرام على من اعتقد حرمته والتّصويب في الموضوعات غير معقول فإن الاعتقاد بأن الجسم الخاص من أفراد الحيوان النّاطق والاعتقاد بأنّه من أفراد النّاهق لا يمكن كونهما صوابا وإن لزم على الأول تسميته باسم الإنسان في الواقع وعلى الثّاني باسم الحمار ولا دخل لذلك في تصويب الاعتقاد ومنها أنّه على القول باعتبار العلم في الموضوع له لا يجب الفحص في الموضوعات المشتبهة بخلافه على القول بعدمه فيجب فلو قال المولى أكرم كل بالغ اختص بمن علم بلوغه على الأوّل فلا يجب الفحص لعدم وجوب تحصيل موضوع الحكم كما لا يجب تحصيل الاستطاعة إذا قال يجب الحج على المستطيع ووجب الفحص على الثّاني لتعلق الحكم بالبالغ الواقعي فيجب الفحص وأورد عليه أوّلا أن ذلك لا يتم إلاّ فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة كاللباس المنحصر المردد بين كونه ملكا للشخص حتى يجب الصّلاة فيه أو غصبا حتى تحرم فحينئذ يجب الفحص على الثّاني أمّا إذا دار الأمر بين الحرمة وغيرها أو الوجوب وغيره كالخبز المردد بين الملك والغصب فلا يجب الفحص بل إمّا الفحص وإمّا الاحتياط وثانيا أن وجوب الفحص في الموضوعات خلاف إجماعاتهم من عدم وجوب الفحص والاحتياط في الشّبهات الموضوعيّة وإنّما يجب ذلك في الشّبهات الحكميّة نعم قد ذكروا أنّه يجب الفحص عن بلوغ الأموال إلى حد الاستطاعة وإلى حد النّصاب وهو أيضا محل إشكال وتحقيق المقام أن في مسألة التّكليف ثلاثة احتمالات بل أقوال الأوّل أن الألفاظ موضوعة للمعاني النّفس الأمريّة فمقتضى الخطاب هو تعلق التّكليف بنفس الأمر بدون التّقييد بالعلم والجهل والعقل لا ينافي هذا الإطلاق لأنّه إنّما يحكم بأنّه متى تمكن المكلف من الامتثال جاز عقابه على التّرك وإن كان عاجزا عن تحصيل العلم بالمكلف به فإن الّذي يقبح على الحكيم هو تكليف الغافل الصّرف وأمّا القادر على الامتثال العاجز عن تحصيل العلم فلا قبح في عقابه فعلى هذا يجب على الشّخص في الجزئيات المشتبهة الفحص أو

 

الاحتياط وهذا طريقة العرف في أوامر المولى إلى العبيد فإنّه إن أمره المولى باشتراء اللحم فاعتذر بأني لا أعرفه مع تمكنه من المعرفة بالسّؤال لجاز عقابه ولهذا اتفقوا على وجوب النّظر في المعجزة مع أنّه فحص عن الجزئيات المشتبهة وهي نبوة الشّخص الخاص وفي الفقه موارد قد ذهبوا فيها إلى وجوب الفحص كمسألة الاستطاعة والزّكاة الثّاني أنّه لا يجوز التّكليف إلاّ بعد حصول العلم التّفصيلي أو الإجمالي بالمكلف به لقبح عقاب الجاهل سواء كان جهله بالحكم من جهة الجهل بالكبرى أعني الحكم الكلي وهو قوله الخمر حرام مثلا أو من جهة الجهل بالصّغرى وهي أن هذا خمر وإذا حكم العقل بقبح العقاب مع الشّبهة صار عدم العقاب في صورة الاشتباه مقطوعا فيخرج عن مورد الاحتياط الّذي هو مقام ظن الضّرر والعقاب وأيضا لا فرق بين الشّبهات الموضوعيّة والشّبهات الحكميّة فكما لم يكن الفحص عن الشّبهات الحكميّة واجبا في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يكن بناء الصّحابة على التّفحص والسّؤال عن أنّه هل ورد حكم جديد فكذا في الشّبهات الموضوعيّة إذ كما أنّ العلم بكليّة الكبرى موجود في هذا وهي أن الخمر حرام فكذا هناك وهي أن إطاعة الرّسول واجبة فعلى هذا لا ثمرة في المسألة الثّالث أن مقتضى إطلاق الخطاب تعلق التّكليف بالأفراد النّفس الأمريّة مع العلم والجهل لكن العقل يحكم بأنّه مختص بمن يتمكن من تحصيل العلم فلا يشمل العاجز ولا يختص بالعالم الفعلي فكل من تمكن من تحصيل العلم التّفصيلي أو الإجمالي بالمكلف به جاز تكليفه وعقابه على التّرك عقلا دون العاجز فالواجب على المكلف الفحص في الموارد المشتبهة فإن عجز فالبراءة لا الاحتياط وهذا هو الحق المحقق وعليه بناء العرف والعادة فإنّ المولى إذا أمر عبده باشتراء اللحم فتفحص وسأل ولم يعرف ما هو لحم لم يكن للمولى أن يقول هلاّ أتيت بكل ما احتمل عندك لحميّته وهو ظاهر ولهذا اتفقوا على وجوب النّظر في المعجزة لجواز التّكليف مع التّمكن عن العلم ثم إنّه لا فرق فيما ذكر بين الشّبهة في الموضوع والشّبهة في الحكم فيجب الفحص ثم البراءة بمقتضى العقل لكن قد رخص الشّارع في ترك الفحص في الشبهات الموضوعيّة لمصلحة يعلم ذلك من إجماعهم على عدم وجوب الفحص فيها وأمّا عدم فحص الأصحاب فلعلمهم عادة بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو ورد تكليف جديد لأخبرهم وأبلغهم قبل السّؤال ولهذا كان الواجب على البلاد النّائية النّفر والتّفقه فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة وليس ذلك إلاّ لوجوب الفحص بقي الكلام في وجه وجوب الفحص في الاستطاعة والزّكاة وهلال رمضان وبلوغ المسافة في السّفر ونحو ذلك من الموارد الّتي ذهب جماعة إلى وجوب الفحص فيها وإن كان المعروف فيها أيضا عدم وجوب الفحص فيقول قيل الضّابط الّذي يقتضي وجوب

 

الفحص في موارده وخروج موارده عن الإجماع هو أن يكون طريق الامتثال في تلك الموارد منحصرا في الفحص بحيث لو لا الفحص لزم المخالفة غالبا ومن ذلك النّظر في المعجزة فإن طريق الامتثال بخطاب صدق النّبي منحصر في الفحص بحيث لولاه لم يحصل الامتثال لذلك الخطاب لعدم حصول العلم بالنّبوة بدون الفحص غالبا فلو لم يجب الفحص لزم أن يكون التّكليف المذكور لغوا وهذا بخلاف الخمر المشتبه لكثرة موارد الخمر المعلوم بدون الفحص فلا يلزم لغويّة خطاب اجتنب عن الخمر وهذا الكلام في مثل تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صحيح لكنّه لا يجري في الاستطاعة والزّكاة ونحوهما لكثرة الموارد المعلومة فيها واعتذر بعضهم عن ذلك بأن الخطاب الشّرعي المعلق بالمذكورات وارد بحيث يجعل المكلفين منقسما إلى قسمين فإن قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنْ استَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً في معنى يجب الحج على المستطيع ولا يجب على غيره وحينئذ فيجب على الشّخص الفحص عن أنّه داخل في أي العنوانين كما ترى أن المولى لو قال لعبيده من كان منكم واجد ألف دينار فليحضر منه خمسين دينارا ومن كان واجدا مائة فليحضر عشرة فالّذي يشك من تلك العبيد ترى أنّه يحاسب أمواله ليرى أنّه داخل في أي العنوانين هذا حاصله وفيه نظر لإمكان تحليل كل خطاب شرعي بحيث يوجب تقسيم المكلفين فإنّ قوله اجتنبوا عن الخمر ينحل إلى قضيتين من صادف الخمر فليجتنبه فعلا ومن لم يصادفه فعلا يجب عليه الاجتناب الفعلي مع أنّه لا فرق بين قوله من استَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً فليحج وبين قوله من كان عليه فائتة فليقضها مع أنّهم لا يحكمون بوجوب الفحص على من شك في أن عليه فائتة أو لا فافهم ثم إنا إذا بنينا الأمر على اشتراط العلم الفعلي بالموضوع في التّكليف عقلا أو إجماعا فينتفي الثّمرة على الظّاهر في المسألة بين القول باعتبار العلم في المعنى وعدمه ويمكن أن يقال إنّ القائل باشتراط العلم لا يقول بأن العلم شرط للتّكليف الشّرعي وهو الطّلب بل يقول بأنّه شرط لاستحقاق العقاب على التّرك أعني الحكم العقلي لأنّ جعله شرطا للتّكليف مستلزم للدّور لأنّ العلم تابع للمعلوم فيجب تحقق المعلوم أوّلا ثم تعلق العلم به ومقتضى ذلك ثبوت التّكليف أوّلا قبل العلم به فلو اشترط ثبوته بالعلم به لزم الدّور وبهذا رد على المصوّبة حيث قالوا بتبعيّة الأحكام لظن المجتهد لا يقال إن الكلام إنّما هو في العلم بالموضوع وأخذه شرطا لتعلق التّكليف لا يستلزم الدّور لأنّا نقول اشتراط العلم بالموضوع إنّما هو لاستلزام الجهل بالموضوع الجهل بالتّكليف المتعلق به والتّكليف بدون البيان قبيح فرجع الأمر إلى اشتراط العلم بالتّكليف الشّخصي في ثبوته وربما يجاب عن الدّور المذكور بأن العلم ليس

 

شرطا للتّكليف بل هو زمان لفعل المكلف به فمعنى اجتنب عن الخمر اجتنب عن الخمر النّفس الأمري في زمان العلم به فإن بقي الشّخص جاهلا إلى آخر عمره لم يتعلق به التّكليف وإن صار عالما كشف ذلك عن كونه مكلفا قبل العلم فلم يلزم تقدم العلم على المعلوم وذلك نظير بلوغ الموسم فإنّه شرط زماني لفعل الحج فيجب الحج بمحض الاستطاعة لكن زمان فعله بلوغ الموسم وفيه أوّلا أن هذا مستلزم لانتفاء الثّمرة بين القول باعتبار العلم في الموضوع له وعدمه إذ لا يجب الامتثال إلاّ بعد العلم على القولين وثانيا أنّه لا يدفع الدّور لأنّ أخذ شيء لا يمكن تحققه بدون الطّلب في متعلقات الطّلب دور فإن العلم بالتّكليف لا يمكن أن يحصل إلاّ بعد التّكليف فأخذه في متعلق التّكليف دور لوجوب تحقق متعلق الطّلب قبله وهذا ليس نظير بلوغ الموسم لأنّه شيء يمكن حصوله بدون طلب الحج بل هذا نظير نيّة التّقرب فإنّها لا يمكن تقييد المكلف به بها لأنّها فرع التّكليف فلا يمكن أخذها في متعلقه وإذا علم ذلك تبين أن العلم شرط لاستحقاق العقاب لا للحكم الشّرعي الّذي هو عبارة عن الطّلب بل الحكم الشّرعي شامل للعالم والجاهل كأوامر الموالي إلى العبيد عند غيابهم بقوله ليفعل فلان كذا أو لا يفعل كذا فإن الطّلب يوجد بمحض هذا الإنشاء علم العبد أو لا ولكن العقل يحكم بأنّه لو ترك العبد قبل العلم لم يكن مستحقا للعقاب وحينئذ فيظهر الثّمرة بين القولين في مسألة الإجزاء ويشكل الأمر من حيث لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في زمان واحد أحدهما الواقعي الثّابت حال الجهل أيضا والثّاني الظّاهري الثّابت حال الجهل فإنّ ظاهر الأدلة أنّ الإباحة حال الجهل والشّبهة حكم ظاهري لا أن يكون معناها عدم الحرج مع أن الكلام يجري فيما إذا ظن المجتهد بتحقق الحكم من دليل اجتهادي وكان خطأ فإن مفاد الدّليل حكم ظاهري في حقه والأحكام الخمسة كلها متضادة لا يجتمع اثنان منهما في زمان واحد وبالجملة إمّا يقال بأن التّكليف مشروط بالعلم وهو دور وتصويب أو يقال بأن الحكم الظّاهري قد اجتمع مع الواقعي في الجاهل وهو موجب لتجويز اجتماع المتضادين أو يقال بعدم ثبوت الحكم الظّاهري والشّخص في حال الجهل لا حرج عليه بحكم العقل وهو خلاف الأدلة أو يقال بأخذ العلم في الموضوع له وهو باطل هذا حاصل الإشكال وأجيب عنه بوجوه منها ما ذكره بعضهم من أن التّكليف مشروط بالعلم ولا يلزم دور ولا تصويب وذلك لأنّ العلم بالتّكليف ليس شرطا للتّكليف بل العلم بالخطاب شرط في تحقق التّكليف فالخطاب الصّادر من الشّارع محض صورة لا يراد منه المعنى وبعد علم المكلف به بتحقق التّكليف فلم يلزم الدّور لأن العلم بالخطاب ليس موقوفا على تقدم التّكليف حتى يلزم الدّور من اشتراط تحقق التّكليف بالعلم

 

بالخطاب ولم يلزم التّصويب لأنّ المصوبة لا يقولون بثبوت خطاب في الواقع وهذا الجواب إن تم ظهر ثمرة المسألة فيما إذا علم الشّخص بالخطاب التّكليفي إجمالا وإن جهل خصوصيّة الموضوع كما إذا لم يعلم إذ الماء الّذي في الإناء نجس أو مغصوب فإنّه يعلم حينئذ بثبوت خطاب اجتنب عنه لكفاية العلم الإجمالي بالخطاب في ثبوت التّكليف بخلاف ما لو أخذ العلم في الموضوع له فإنّه حينئذ لا يجب الاجتناب عنه للعلم بأنّه ليس نجسا ولا مغصوبا أي معلوم النّجاسة ومعلوم الغصبيّة لكن يرد على الجواب المذكور أوّلا أن تحقق التّكليف بعد العلم بالخطاب مع كون الخطاب محض صورة إمّا يراد منه أن المتكلّم بعد ما علم المخاطب خطابه يقصد المعنى من كلامه فهو غير معقول لأنّ الكلام إنّما يقصد منه المعنى عند صدور أمّا إذا انعدم ومضى فلا يعقل قصد المعنى منه بعد انعدامه وإمّا يراد منه أنّه بعد علم المخاطب يوجد المعنى في ذهن المتكلّم من دون أن يكون مقصودا من الخطاب فهو مستلزم لأنّ يكون الخطاب لغوا حيث لم يقصد منه المعنى أصلا وثانيا أنا نرى أن بالعلم بالخطاب يحصل العلم بالتّكليف فلو لم يكن بين الخطاب والتّكليف علقه فكيف يلزم من العلم به العلم بالتّكليف وهذا شاهد على أن التّكليف يتحقق عند الخطاب وإلاّ لكان الواجب أن يحصل العلم بالتّكليف به بيان ذلك أن نسبة قدرة الشّخص إلى الوجود والعدم متساوية فلا بد في إتيانه الفعل من داع يوجب ذلك وغرض الشّارع من التّكليف هو أن يكون داعيا للمكلف على فعل المكلف به ولا يحصل هذا الغرض إلاّ بعد العلم به وإلاّ لم يكن التّكليف داعيا وحينئذ فنقول إن العلم شرط حسن التّكليف فالشّارع الحكيم العالم بالعواقب يعلم أن زيدا يتعقبه العلم بالطّلب لو طلب منه وعمرا لا يتعقبه العلم فيقول يا زيد افعل ولا يخاطب عمرا أصلا فزيد إذا علم بالتّكليف كشف ذلك عن سبق التّكليف وثبوته حال الجهل لكن بالنّسبة إلى زمان العلم وعلى هذا فلا يلزم الدّور لعدم أخذ عنوان العلم في متعلق الطّلب بل المكلف هو ذات الشّخص الّذي يعلم الآمر أنّه إذا طلب منه تعقبه العلم ولا يلزم التّصويب لثبوت الحكم الواقعي حال الجهل بالنّسبة إلى زمان العلم وعدم تحققه بالنّسبة إلى زمان الجهل ليس لعدم المصلحة الّتي هي المقتضى بل لأنّ الجهل عذر مانع عن حسن التّكليف ولا يلزم اجتماع الحكمين المتضادين حال الجهل لأنّ الحكم الواقعي ليس بالنّسبة إلى زمان الجهل وإن كان ثابتا حال الجهل بالنّسبة إلى زمان العلم ويظهر الثّمرة في مسألة الإجزاء لأنّ من توضأ باستصحاب طهارة الماء كان حكمه حال الجهل جواز الصّلاة معه فإذا صلى ثم علم نجاسته ارتفع المانع عن تكليفه بالاجتناب وعلم فوات المصلحة الكائنة في الصّلاة مع الطّهارة الواقعيّة وارتفع المانع عن التّكليف بها فيجب الإتيان بها لأنّه

 

حينئذ علم بالتّكليف فصدق عليه أنّه حال الجهل متصف بوصف التّعقب بالعلم فيكشف عن أنّه كان مكلفا بها بالنّسبة إلى زمان العلم فتأمّل ولكن هذا الكلام لا يتم في الجاهل بالعواقب حيث لا يعرف المتصف بوصف التّعقب بالعلم عن غيره ولا يمكن جعله معلقا لعدم جواز تعليق الطّلب لأنّه إنشاء يحصل من حينه ولا يمكن جعله قيدا للمطلوب لأنّ عدم جواز تعليق الطّلب ثابت بالنّسبة إلى سائر شرائط التّكليف أيضا ولا يمكن في الجميع جعل الشّرائط قيدا للمطلوب إذ المطلوب حينئذ يكون أمرا مقيدا فيجب تحصيل القيد أيضا كما لو أمر بالصّلاة مع الوضوء مع أن الواجبات المشروطة ليست واجبة قبل حصول شرطها ولا يجب تحصيل شرائطها ويمكن أن يقال في الجواب إن الاتصاف بتلك الشّرائط قيد في الموضوع ولا يجب أن يكون الموضوع أمرا خارجيا لجواز كونه أمرا كليا ذهنيا يتعلق به الطّلب وإن لم يكن لفرده وجود فعلا فإن الشّخص يتصور عنوان المستطيع ويطلب منه الحج فكل شخص دخل في هذا العنوان يكون الحج منه مطلوبا ولا يجب إيجاد موضوع الطّلب على المكلف وحينئذ فكل الواجبات بالنّسبة إلى موضوعاتها مطلق لكن بالنّسبة إلى الذّوات الخارجيّة مشروط بدخولها تحت عنوان الموضوع لكن هذا لا يتم فيما نحن فيه إذ لا يمكن تصور عنوان من يتعقبه العلم ثم يطلب منه لأنّ الموضوع لا بد أن يكون أمرا يمكن أن يوجد مع قطع النّظر عن الطّلب وهذا العنوان أعني من يتعقبه العلم بالطّلب لا يمكن وجوده إلاّ بعد الطّلب بخلاف من يتعقبه الحياة أو القدرة أو الاستطاعة أو نحوها فافهم وتأمّل ومنها ما قيل من أن العلم بالإرادة شرط في الطّلب وبيانه يتوقف على بيان معنى الطّلب والإرادة فنقول اختلف الأشاعرة والمعتزلة فذهبت المعتزلة إلى أنّ الطّلب عين الإرادة مستدلا بأن الأمر مثلا قد وضع لأمر معلوم هو الطّلب ونحن إذا راجعنا أنفسنا لم نجد شيئا غير الإرادة فيجب أن يكون الطّلب عين الإرادة وإلاّ لكان الطّلب أمرا مخفيا لا يعرفه أحد وليس كذلك وذهبت الأشاعرة إلى أن الطّلب غير الإرادة مستدلا بوجوه منها أنا إذا راجعنا أنفسنا وجدنا أنا قد نريد شيئا من واحد ولا نطلبه منه وقد نريده ثم يطلبه فيعلم أنهما متغايران ولذا ترى في العرف يقولون أراد مني ولم يطلب ومعنى الإرادة شيء يعبر عنه بالفارسيّة بخواستن ومعنى الطّلب شيء يعبر عنه بخواهش فيقال خواستم وليك خواهش نكردم وهذا ظاهر لمن رجع إلى العرف ومنها أن الإرادة أمر يستند وجوده إلى دواعي خارجيّة والمطلب إنشاء وعرف الإنشاء بأنّه ما يوجد مدلوله فلا يكون الطّلب إرادة لأنّ الإرادة موجودة قبل الأمر والطّلب يوجد بالأمر ولو كان مدلول الأمر هو الكشف عن تحقق الإرادة لم يبق فرق

 

بين الإنشاء والإخبار ومنها أنهم ذكروا أن لله تعالى إرادتين إرادة تكوين وإرادة تشريع وليس إرادة التّشريع غير الطّلب فلو كان الطّلب عين الإرادة بالمعنى الأوّل لم يكن له إرادتان مع أنه يستلزم أن يوجد كل ما أمر به تعالى ويمتنع كل ما نهى عنه لأنّ معنى الأمر إرادة الفعل والنّهي إرادة التّرك وإرادته تعالى بالمعنى الأوّل لا ينفك عن المراد ومنها دلالة بعض الأخبار على الفرق كما ورد ما معناه أن الله تعالى أمر إبليس بالسّجود ولم يشأ أن يسجد ونهى آدم عن أكل الحنطة وشاء أن يأكل وذكر في الثّمرة بين القولين أمور منها أنّه يجوز التّكليف بالمحال على قول الأشاعرة دون المعتزلة لأنّ إرادة صدور المحال غير ممكن الحصول لكن طلبه جائز ومنها أنه يجوز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه على الأول ومنها أنّه يجوز النّسخ قبل حضور وقت العمل على الأول ومنها أنّه يجوز اجتماع الأمر والنّهي في الواحد الشّخصي على الأول وليس نفس التّكليف محالا كما ذكر في المعالم لأنّه إنّما يكون محالا إذا كان الطّلب عين الإرادة لأنّ إرادة الفعل وإرادة التّرك لا تجتمعان ولا استحالة في اجتماع الطّلبين من دون الإرادة إذا قلنا بانفكاكهما هذا حاصل ما ذكروه في المقام والتّحقيق أن يقال إنّ وجود الفعل المختار محتاج إلى تصور ما في ذلك الفعل من المنفعة وهذا هو الدّاعي وإلا فنسبة القدرة إلى الوجود والعدم متساوية فإذا تصور ذلك المنفعة تشوق نفسه إلى تحصيلها وازداد الشّوق شيئا فشيئا إلى حد يتحقق الفعل بعده بلا فصل والمرتبة الأخيرة الّتي تليها الفعل يعبر عنها بالإرادة والمرتبة الأضعف بالمشيئة هذا في الممكنات وأمّا الواجب فالإرادة فيه عين الدّاعي وهو العلم بالأصلح فإنّه هو السّبب في تأثير القدرة في الوجود وبهذا علم بطلان ما قيل إن المرجح لوجود الفعل يمكن أن يكون هو الإرادة وذلك لأن تعلق الإرادة بالوجود دون العدم محتاج إلى مرجح لكن هذا في الممكن لا في الواجب لأنّ إرادة عين الدّاعي كما عرفت فيكون مرجحا إذا عرفت ذلك فنقول لا معنى لكون الطّلب عين الإرادة بالمعنى المذكور أعني الشّوق المؤكد الّذي يليه الفعل بلا فصل لأن طلب فعل من الغير لا يليه الفعل من الطّالب حتى يكون إرادة بهذا المعنى فنقول إن طلب الشّيء عبارة عن الجهد والاجتهاد والتّحرك في تحصيله كما ورد في الحديث اطلبوا العلم أي تحركوا في تحصيله واطلبوا الماء غلوة سهمين مثلا والتّحرك كما يمكن في الجوارح فكذا للنفس أيضا تحرك وجهد في تحصيل محبوبها وحينئذ فنقول إن محبوبها إن كان فعلا لها فتحركها أو جهدها إنّما هو بأعمال الجوارح لتحصيله وإن كان فعلا للغير فتحرك النّفس إلى تحصيله هو إلزام الغير بتحصيله وقد وقع صيغة الأمر للإلزام المذكور الّذي يوجد باللفظ الّذي هو طريق طلب النّفس كالمشي لتحصيل

 

العلم إذا ثبت ذلك تبين أنّ الطّلب شيء غير الإرادة وغير المحبوبيّة لكنه لا يصدر إلا بسبب سوق النّفس وميلها إلى الشّيء فينتفي الثّمرات المذكورة لأنّ الطّلب وإن لم يكن عين المحبوبيّة لكنهما متلازمان ولا يتصور محبوبيّة اجتماع الأمر والنّهي ولا التّكليف بالمحال وغيرهما من الأمور المذكورة فيجب أن يكون الطّلب في الأوامر الامتحانيّة الّتي تنسخ قبل حضور وقت العمل أو يعلم انعدام شرطه طلبا صوريا لم يستعمل في معناه على ما حققنا ولا يرد على ما ذكرنا أنّه يلزم كون الأمر إخبارا وذلك لأنّ الإلزام ليس موجودا قبل الأمر فالأمر هو الموجد له وليس لنسبة خارج تطابقه أو لا تطابقه ودلالته على محبوبيّة الفعل إنّما هو دلالة التزاميّة من مقدمات عقليّة وهو أن الإلزام لا يصدر من العاقل إلا مع كون الفعل محبوبا له فهو كدلالة قولك زيد قائم على أنك قصدت إسناد القيام إليه وعلى أنك عالم بذلك فهو من هذه الجهة ليس إخبارا بل هو من جهة أن لنسبة القيام إلى زيد خارجا جعل النّسبة في الكلام حاكية عنه وهذا ليس في الأمر فافهم إذا تحقق ما ذكرنا فنقول إن كون الفعل محبوبا أو مبغوضا دائر مدار المصالح والمفاسد ولا مدخليّة للعلم والجهل فيها وأمّا الإلزام فشرطه علم المخاطب بمحبوبيّة الفعل ومبغوضيّته والحاصل أن العالم بالعواقب إنّما يكلف الأشخاص الذين يعلم أنهم يصيرون عالمين بعد الطّلب فالدّور فيه مرتفع والجاهل بالعواقب يتصور عنوان من يتعقبه العلم بمحبوبيّة الفعل ومبغوضيّته ويلزمه فكل من دخل في هذا العنوان أي علم المحبوبيّة مثلا ولو من نفس ذلك الخطاب دخل في موضوع التّكليف وكشف ذلك عن كونه مكلفا حال الجهل بالنّسبة إلى زمان العلم هذا فيظهر الثّمرة بين القول بأخذ العلم في الموضوع له والقول بعدمه مع اشتراط التّكليف بالعلم في أمور منها ما إذا علم إجمالا بالتّكليف فيجب الاحتياط على الثّاني بناء على القول بكفاية العلم الإجمالي في جواز التّكليف ولا يجب على الأول ومنها ما إذا علم تفصيلا بثبوت التّكليف ولم يعلم الموضوع كالإناء المردد بين الخمريّة والغصبيّة فيحرم على الثّاني دون الأول ومنها في الإجزاء فإنّه إذا قال لا تصل مع النّجاسة فصلى الشّخص جاهلا بنجاسة ثوبه فعلى الأول يجزيه لأنّ مجهول النّجاسة ليس بنجس في الواقع فالصّلاة فيه محبوبة واقعا وعلى الثّاني لا لأن الصّلاة المبغوضة هي الصّلاة مع النّجاسة الواقعيّة والجهل بالنّجاسة يوجب عدم الإلزام على تركها فإذا ارتفع العذر وجب الامتثال ولا ينافي مبغوضيتها الإذن في فعلها بحسب الظّاهر لأن الشّارع أمر بالإتيان بها وفرضها الواقع ما دام جاهلا لمصالح اقتضت ذلك ولم يلزم التّصويب لتحقق الحكم وهو

 

المحبوبيّة والمبغوضيّة أعني المقتضي للإلزام حال الجهل وإن كان الجهل مانعا عن تأثره ولا تقول المصوبة بذلك ولم يلزم اجتماع المتناقضين لأنّ المحبوبيّة والمبغوضيّة لا تنافي الإباحة لعذر فافهم وتأمل

أصل اختلفوا في أن الوجود مأخوذ في مداليل الألفاظ أو لا على أقوال

الأول أنها موضوعة للأمور الخارجيّة والثّاني أنها موضوعة للأمور الذّهنيّة والثّالث أنها موضوعة للمعنى لا بشرط أحد الوجودين والرّابع أن الأمور الّتي لها مصداق موضوعة للأمور الخارجيّة وما لا مصداق له كالمعدوم واللاشيء ونحوهما للأمور الذّهنيّة والخامس أنها موضوعة للماهيّة والسّادس أن الكليات موضوعة للماهيّة والجزئيات الخارجيّة للموجودات الخارجيّة والذّهنيّة للذهنيّة وتحقيق المطلب يستدعي بيان أمور الأوّل في بيان الألفاظ الّتي يذكر في طي المسألة فتقول إن منها الوجود الخارجي والذّهني الوجود على أقسام خارجي وذهني ونفس الأمري وعرّف الوجود الخارجي بأنه الوجود الّذي يترتب عليه الآثار المقصودة كوجود النّار حيث يترتب عليه الإحراق وعرف الوجود الذّهني بأنه حصول صورة الشّيء في الذّهن مجردة عن آثاره المقصودة كصورة النّار حيث لا يترتب عليها الإحراق وعرف الوجود النّفس الأمري بأنه وجود الشّيء في نفسه فأمّا الأمر بمعنى الشّيء والمراد أن يكون للشيء مع قطع النّظر عن فرض الفارض واعتبار المعتبر وجود وتحقق والنّسبة بين الوجود النّفس الأمري والخارجي عموم مطلق لأنّ كل وجود خارجي فهو نفس الأمري ولا عكس لتحقق النّفس الأمري في الوجود الذّهني بدون الوجود الخارجي وبين الوجود النّفس الأمري والذّهني عموم من وجه لتصادقهما في مثل زوجيّة الأربعة فإنّ وجودها ذهني ونفس الأمري وصدق الذّهني بدون نفس الأمري في مثل زوجيّة الخمسة وبالعكس في الوجودات الخارجيّة وبين الخارجي والذّهني تباين مصداقا وعموم من وجه موردا فإنّهما لا يصدقان على وجود واحد ولكن يجتمعان في مورد كالماهيّة فإنّها موجودة ذهنا وخارجا لا يقال إنّ العلم بالنّار مثلا وجود ذهني لأنه صورة للنار ولكنه أيضا وجود خارجي لما يترتب عليه الآثار كالخوف ونحوه وأيضا فإنّه عرض قائم بالنّفس والنّفس موجود خارجي والقائم بالموجود الخارجي موجود خارجي فاجتمعا في العلم فيكون بينهما العموم من وجه مصداقا لأنّا نقول ما هو وجود ذهني هو حصول صورة المعلوم فإنّه وجود ذهني للمعلوم وما هو وجود خارجي هو الوجود للصورة فالموجود بالوجود الذّهني هو المعلوم ووجوده الذّهني عبارة عن حصول صورته

 

في الذّهن والموجود بالوجود الخارجي هو الصّورة ووجودها الخارجي عبارة عن قيامها بالنّفس فلم يصدق الوجودان على وجود شيء واحد فافهم ومنها الأمر الخارجي والأمر الذّهني والمراد بالأمر الخارجي هو الخارج عن مدلول الكلام سواء كان الخارج ظرفا لوجوده أو ظرفا لنفسه أو يكون الذّهن ظرفا لوجوده أو لنفسه وذلك لأنهم قد ذكروا أن الخبر ما لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ولا ريب أن الخارج في مثل الحيوان جنس ليس ظرفا فالنّفس النّسبة ولا لوجودها فإن جنسيّة الحيوان موجود ذهني لأنّه من المعقولات الثّابتة وحينئذ فيكون نسبته إلى الحيوان من الأمور الّتي يكون الذّهن ظرفا لنفسها والأمر الخارجي بهذا المعنى مساوق للموجود النّفس الأمري على ما عرفت والمراد بالأمر الذّهني على ما ذكروا هو ما يتمثل منه الصّورة في الذّهن طابقته أو لا وهذا يساوق الموجود الخارجي بالمعنى السّابق وذلك لأنهم قد استدلوا على وضع الألفاظ للأمور الذّهنيّة بأن الشّبح الّذي يرى من البعيد قد يظن أنّه زيد فيطلق عليه زيد ثم يتبين أنّه عمرو فيطلق عليه عمرو فيختلف اسم الشّبح باختلاف صورته في الذّهن فإن هذا الكلام دال على أن الاسم إنّما هو لنفس الشّبح الّذي هو موجود خارجي وإلا لم يصح أن يقال يختلف اسم الشّبح ولقيل أنّه يختلف اسم الصّورة فافهم ومقابل الأمر الذّهني بهذا المعنى الأمر الخارجي بمعنى النّفس الأمري لأنّه لا يرى للتمثل والاعتقاد أثر بخلاف من يجعلها اسما للمتمثل كما سيظهر ومنها الماهيّة وهي ما يطلق على الشّيء لا باعتبار الوجود وإذا اعتبر معه الوجود سمي حقيقة فلا يطلق على ما هو عين الوجود كالواجب تعالى ولا على الذّوات المشخصة لأنّ التّشخص يساوق الوجود وقال بعض الأفاضل إنّ الماهيّة عبارة عن ذات الشّيء لا باعتبار الوجود سواء كان جزئيا أو كليا وهو مناف لما ذكروه من أن التّشخص يساوق الوجود لأنّ الجزئي عبارة عن الشّيء المتشخص فكيف يكون ماهيّة لا يعتبر فيه الوجود ولعله مبني على القول الآخر وبيان ذلك أنهم قد اختلفوا في أن التّشخص إنّما هو بالوجود أو لا بل هو بشيء نسبته إلى النّوع كنسبة الفصل إلى الجنس المحققون على الأول وجماعة على الثّاني ومرادهم أن التّشخص شيء إذا ضم إلى النّوع خرج عن الإبهام وصار قابلا لعروض الوجود كما أنّ الفصل إذا ضم إلى الجنس تم معناه وصار قابلا للتشخص فالتّشخص عندهم إنّما هو بالأعراض المكتنفة كالكم المخصوص والكيف الخاص وأمثالهما وعلى هذا فالفرد ينحل إلى ثلاثة أشياء نوع وتشخص ووجود والحق هو الأول لأنّ التّشخص يجب أن يكون بشيء متشخص بالذّات وإلا لزم التّسلسل وكل شيء سوى الوجود أمر كلي

 

يتشخص بالوجود وعلى هذا فالفرد ينحل إلى أمرين نوع ووجود وأمّا الأعراض فهي من لوازم الوجود إذا تحقق هذا فنقول ما ذكره الفاضل المذكور من معنى الماهيّة مبني على القول بأن التّشخص غير الوجود فإنّه حينئذ يكون الفرد المتشخص ماهيّة بذلك المعنى إذ يمكن عدم اعتبار الوجود فيه لأنّ الوجود أمر يعرض بعد التّشخص ويتفرع على هذا إمكان القول بوضع الأعلام الشّخصيّة للماهيات وإلا فالقول بوضعها للكليات فاسد جدا وهذا هو السّر في تفسيره الماهيّة بما ذكر دفعا لشناعة القول بوضع الألفاظ مطلقا للماهيّة إذ لا يمكن ذلك بالنّسبة إلى الأعلام لو أريد بالماهيّة ما ذكرنا وعلى ما ذكره يرجع القول بوضعها للماهيّة وهو القول الخامس إلى القول الثّالث أعني المعنى اللابشرط وكذلك أرجع جميع الأقوال إليه عدا القول الرّابع فإنّه في الحقيقة احتمال لا قائل به كما سيظهر وتقرير الإرجاع أن المراد بالأمر الخارجي في القول الأول هو النّفس الأمري مقابل الصّورة الذّهنيّة وذلك لأنهم لما توهموا أن مراد من يجعلها موضوعة للأمور الذّهنيّة الصّور الذّهنيّة وقطعوا بفساده لعدم إمكان ذلك في الأعلام الشّخصيّة لأنّها ليست موضوعة للصورة قطعا حكموا بأنها موضوعة للخارجيّة في مقابل الصّورة ومرادهم الأمور النّفس الأمريّة لا بشرط أحد الوجودين فرجع إلى القول الثّالث والمراد بالأمر الذّهني في القول الثّاني هو الأمر الّذي يمكن تحققه في الذّهن في مقابل الوجود الخارجي بالمعنى المتقدم في صدر المسألة فإنّه لا يمكن تحققه في الذّهن فالمراد الماهيّة اللابشرط لأنّها الّتي يمكن تحققها في الذّهن وهو القول الثّاني وذلك لأنهم لما توهموا أن مراد من يجعلها موضوعة للأمور الخارجيّة الأمر الخارجي بالمعنى المتقدم وقطعوا ببطلانه لعدم إمكان ذلك في مثل كليّة الإنسان ونحوها حكموا بأنها موضوعة لما يمكن تحققها في الذّهن أي الماهيّة وأمّا التّفصيل السّادس فالمراد أن الكلي موضوع للماهيّة اللابشرط والجزئيات الخارجيّة موضوعة للأمور الّتي لو وجدت لكانت في الخارج والجزئيات الذّهنيّة موضوعة للأمور الّتي لو وجدت لكانت في الذّهن فاعتبار الوجودين في الموضوع له إنّما هو على التّقدير وإنّما الموضوع له حقيقة هو ذات الشّيء لا باعتبار الوجود وهذا هو القول الثّالث وإنّما حاول إرجاع الأقوال إليه لأنّ الأقوال المذكورة لو أبقيت على ظاهرها لكانت في غاية السّخافة بحيث لا يصدر من جاهل فضلا عن فاضل هذا وكيف كان فلا بد من تحقيق المطلب وأن الدّليل يقتضي أي شيء بناء على حمل الأقوال المذكورة على ظاهرها من دون

 

إرجاعها إلى واحد ولكن الواجب هو ملاحظة التّرجيح بين الأقوال الخمسة لأنّ القول الرّابع احتمال ذكره بعض المتأخرين حيث قال بالمعنى وقيل بالتّفصيل بين ما لا مصداق له فهو موضوع للأمر الذّهني وبين ما له مصداق فهو موضوع للأمر الخارجي وهذا الكلام بظاهره يقتضي أن ما له مصداق ولو ذهنا موضوع للموجود الخارجي وهو بديهي الفساد لكن المراد بالمصداق المصداق الخارجي وهذا القول إنّما نشأ احتماله مما قيل إن هذه المسألة وهي أن الموضوع له هو الموجود الخارجي أو لا مبنيّة على مسألة المعلوم بالذّات فإن العلم قسمان حصولي وهو عبارة عن العلم بشيء بواسطة حصول صورة منه في النّفس وحضوري وهو حضور نفس المعلوم في النّفس بدون توسط الصّورة كالعلم بالصّورة في القسم الأول فالمعلوم في العلم الحصولي شيئان الصّورة وذو الصّورة واختلفوا في أن أيهما المعلوم بالذّات فقيل إن المعلوم بالذّات هو الصّورة لأنّها مدركة أولا وذو الصّورة مدرك بالطّبع وقيل إن المعلوم بالذّات هو ذو الصّورة لأنّه المقصود بالملاحظة والصّورة آلة لملاحظته ملحوظة تبعا وقيل بالتّفصيل بين ما له مصداق في الخارج فالمعلوم بالذّات هو ذو الصّورة وبين ما ليس له مصداق فالمعلوم بالذّات هو الصّورة والاختلاف في الموضوع له فرع ذلك المسألة فكل ما تحقق أنّه المعلوم بالذّات يكون هو الموضوع له إن خارجيا فخارجيا وإن ذهنيا فذهنيا أو بالتّفصيل فبالتّفصيل وعن بعض الأفاضل أنّه جعل النّزاع في تلك المسألة لفظيا بإرجاع الإطلاقين إلى التّفصيل فتكون في هذه المسألة أيضا لفظيا بناء على صحة التّفريع المذكور وبالجملة فاحتمال القول بالتّفصيل في هذه المسألة إنّما هو لتوهم تفرع هذه المسألة على تلك ووجود القول بالتّفصيل في تلك المسألة ثم إن القول بالتّفصيل في هذه المسألة فاسد جدا أمّا أولا فلأنه معنى على التّفريع المذكور وهو مما لا وجه له إذ لا ملازمة بين كون شيء معلوما بالذّات وكونه الموضوع له لجواز الوضع للمعلوم بالتّبع فإن الوضع يتبع الحاجة لا كونه معلوم الذّات وأمّا ثانيا فلأن القول بالتّفصيل في تلك المسألة فاسد ويتفرع على ذلك فساد ما تفرع عليه أيضا ووجه بطلانه أن في كل معلوم بالعلم الحصولي يوجد الصّورة وذو الصّورة وقد عرفت أن المناط في المعلوميّة بالذّات إمّا كونه مدركا أولا وهو الصّورة أو كونه مقصودا بالملاحظة وهو ذو الصّورة وهذا مما لا فرق فيه بين ما له مصداق وبين ما لا مصداق له فالتّفصيل خال عن الدّليل لا يقال لعل نظر المفصّل إنّما هو إلى أن الموجودات الخارجيّة معلومة بأنفسها

 

لا بصورتها كما قيل بذلك في الإبصار من أنّه ليس بانطباع الصّورة في الجليديّة بل المرئي هو الشّخص الخارجي بواسطة خروج الشّعاع الّذي هو سبب الانكشاف فليس المعلوم فيها إلا شيئا واحدا والموجودات الذّهنيّة أيضا معلوم بنفسها فليس في المقامين إلا معلوم واحد هو في الأول نفس الموجود الخارجي وفي الثّاني نفس الصّور الذّهنيّة وإذا اتحد المعلوم يكون هو المعلوم بالذّات لأنّا نقول أولا إنّه مخالف لعنوان المسألة وهو أن المعلوم بالذّات أي شيء فإن معناه إن تعدد المعلوم معلوم وإنّما الإشكال في تعيين المعلوم بالذّات وثانيا أن القول بأن الموجود الخارجي لا يوجد صورته في الذّهن بخلاف الموجود الذّهني فإنّه أمر يوجد في الذّهن خلاف لما يظهر من اتفاقهم حيث إن المتكلمين والحكماء بين من ينفي الوجود الذّهني كليّة وبين من يثبته كليّة فالفرق من حيث إثباته للموجودات الذّهنيّة دون الخارجيّة خلاف للجميع الثّاني في بيان النّسبة بين هذه المسألة والمسألة السّابقة فنقول قد ذكروا أن النّسبة بينهما عموم من وجه بمعنى أن كل واحد من هذه الأقوال يجتمع مع كلا القولين في تلك المسألة وذلك لأنّ الأقوال هنا ثلاثة في الحقيقة القول بالمعنى اللابشرط وأخذ الوجود الخارجي والذّهني لرجوع القولين الآخرين إليها فنقول أمّا اجتماع القول بالمعنى اللابشرط مع القولين في المسألة السّابقة فظاهر لجواز أن يقال إن الألفاظ موضوعة للمعنى اللابشرط النّفس الأمري أو ما اعتقد أنّه من أفراد المعنى اللابشرط وأمّا القول بالأمور الخارجيّة فلأنّه إمّا المراد به الموجودات الخارجيّة فيمكن القول بالوضع للموجود الخارجي في نفس الأمر أو ما اعتقد أنّه الموجود الخارجي وإمّا المراد به الخارج عن الذّهن المرادف النّفس الأمر فيمكن القول بالوضع للأمر النّفس الأمري في نفس الأمر أو ما اعتقد أنّه الأمر النّفس الأمري وأمّا القول بالأمور الذّهنيّة فإن جعلناها بمعنى الأمور الّتي يمكن دخولها في الذّهن فيكون نظير القول بالمعنى اللابشرط وقد عرفت اجتماعه مع القولين وإن جعلناها بمعنى الصّور المرتسمة فيمكن القول بالوضع للصورة الواقعيّة أو ما اعتقد أنّه صورة وإن جعلناها بمعنى ما يتمثل صورته في الذّهن فاجتماعه مع القولين مشكل وذلك لأن معنى ما يتمثل صورته هو الأمر المعتقد فلا يجتمع القول به مع القول بالوضع للأمر الواقعي وأمّا القول الآخر وهو الأمر المعلوم فإن كان المراد به الأمر المعتقد مطلقا فيكون عين هذا القول وإن كان المراد الأمر النّفس الأمري المعتقد بالاعتقاد الصّحيح المطابق فيكون مباينا لهذا القول لأنّ معناه الوضع لمطلق الأمر المعتقد غاية الأمر أنّه يصدق الموضوع له على المعتقد بالاعتقاد

 

الصّحيح على القولين وهو لا يرفع التّباين من البين لتباين القول بالوضع للعام مع القول بالوضع للخاص وإن صدق الموضوع له على الخاص على القولين وحينئذ فما ذكره شريف العلماء من أن نسبة هذه المسألة مع المسألة السّابقة عموم من وجه لا يتم على إطلاقه سيما وهو قد جعل الذّهني هنا بمعنى ما يتمثل صورته حيث جعل الثّمرة بين القول بأخذ الوجود الخارجي والذّهني لزوم التّصويب في الموضوعات وحصول الامتثال بالأمر المعتقد على الثّاني دون الأول لظهور أن التّصويب أو حصول الامتثال بالمعتقد لا يلزم إن جعل الذّهني بمعنى ما يقبل الوجود الذّهني وكذا إن جعل بمعنى الصّورة الذّهنيّة ثم إن جعل حصول الامتثال بالأمر المعتقد ثمرة غير التّصويب لا وجه له لأنّه من فروع التّصويب فتأمل الثّالث هل الصّور الذّهنيّة أفراد للماهيّة حقيقة وحملها عليها كحملها على الأفراد الخارجيّة أو لا بل هي مباين لها ونسبتها إلى الماهيّة كنسبة الظّلّ إلى الشّيء الحق هو الثّاني كما صرح به علماء المعقول وبه ينحل الشّبهات الواردة على العلم من أنّه حصول صورة الشّيء عند العقل فيلزم كون العلم بالجوهر جوهرا مع أن العلم مطلقا من مقولة العرض ويلزم كون تصور النّار محرقا وغير ذلك والحاصل أن ليس الماهيّة قدرا مشتركا بين الصّورة الذّهنيّة والأفراد الخارجيّة وإن حمل عليها الماهيّة فهو من باب التّسامح كما يقال الصّورة الفرس إنها فرس فالماهيّة أفرادها منحصرة فيما يترتب عليه الآثار الأصليّة للماهيّة وليس ذلك إلا الوجود الخارجي إذ الوجود الذّهني وجود تبعي ظلّي يحكي عن الخارج ولا يترتب عليه الآثار الأصليّة إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول الحق هو أن ألفاظ الكليات موضوعة للماهيات بالنظر إلى جهة أصالتها وتقررها لا بالنّظر إلى جهة الحكاية ولا بشرط الوجود الخارجي بأن يكون الوجود قيدا ولا مع الوجود بأن يكون جزءا وبالجملة إنّما لوحظ في وضعها للماهيات جهة الأصالة الّتي ليست في الأفراد الخارجيّة المقابلة للصورة الذّهنيّة الحاكية سواء كانت موجودة في الخارج وفي الذّهن أو قابلا لأحدهما فقط كالكليّة أو لم يكن قابلا لشيء منهما كالمعدوم واللاشيء فإن لفظ المعدوم لم يوضع للصورة الذّهنيّة الحاكية عن الخارج بل وضع لنفس الماهيّة بالنّظر إلى جهة تقررها وأصالتها فإن لماهيّة العدم أيضا جهة تقرر بالنّسبة إلى تلك الصّورة الحاكية وهذا مرادنا بالخارج وعلى هذا يحمل ما ذكره بعض المحققين من أن الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث الوجود الخارجي لا بشرط الوجود الخارجي وإن كان في الظّاهر غير واف بالمراد لأنّ الحيثيّة إمّا تعليليّة ولا يحتملها المقام

 

أو تقييديّة فيكون بشرط الوجود ويدل على المختار أمور منها التّبادر إذ لا ريب أن المتبادر من كل لفظ ليس إلا المعنى في جهة أصالته لا في جهة الحكاية بل لا يلتفت المخاطب إلى الحكاية أصلا ومنها صحة السّلب عن الأمر الذّهني فيصح أن يقال ليس صورة الإنسان إنسانا مضافا إلى ما عرفت من أن أهل المعقول قائلون بعدم كون الماهيّة صادقة على الصّورة الذّهنيّة ومنها صحة الحكم على الماهيّة بالوجود والعدم فيقال الإنسان موجود أو يقال معدوم ولا يلزم التّكرار ولا التّناقض ولو كان الوجود الخارجي مأخوذا لزم التّكرار في الأول والتّناقض في الثّاني وأيضا لم يكن للشك في الوجود المعنى في قولك الإنسان موجود أو معدوم وأيضا لكان طلب الماهيّة بقولك اضرب طلبا لتحصيل الحاصل وغير ذلك هذا في المعاني الكليّة وأمّا الأعلام الشّخصيّة فإن قلنا بأن التّشخص يساوق الوجود فلا ريب أن الموضوع له هو الموجود الخارجي لكن بالنّظر إلى جهة تشخصه وإن قلنا بأن الجزئي أيضا ماهيّة والتّشخص حاصل بغير الوجود فالكلام فيه كالكلام في المعاني الكليّة والموضوع له هو الماهيّة بالنّظر إلى جهة الأصالة ويشكل الأمر في المبهمات والأفعال الإنشائيّة وأعلام الأجناس من وجهين الأوّل أن الموضوع له فيها كلي أو جزئي والثّاني أنّه على الثّاني فهل هو جزئي خارجي أو ذهني فنقول المعروف أن صيغ الأمر والنّهي موضوعة للطلب الخاص الموجود في نفس المتكلم بذكر اللّفظ ولذا قالوا إن الإنشاء هو ما يوجد مدلوله وذهب بعضهم إلى أن الموضوع له فيها هو مفهوم الطّلب الّذي هو أمر كلي لكن قد اعتبر في جواز إرادته من لفظ اضرب مثلا أن يوجد ذلك الكلي بنفس هذا اللّفظ فاللّفظ إنّما استعمل في المفهوم الكلي لكن من حيث كونه منشأ باللّفظ وبالإنشاء يصير فردا وهو لا يوجب كون الصّيغة مستعملة في الفرد كما أن إيجاد الماهيّة معناه الإتيان بالفرد لأنّ الفرد هو الكلي الموجود على التّحقيق من أن التّشخص عين الوجود وهو لا يوجب كون الأمر الدّال على طلب إيجاد الماهيّة مستعملا في طلب الفرد فكذلك لزوم كون مدلول الصّيغة منشأ بالصّيغة وهو لا يمكن إلا في ضمن الفرد لا يوجب كون الصّيغة مستعملة في فرد الطّلب وربما يستدل على مذهبه بأنّه لو كان الأمر موضوعا للطلب الموجود الخاص لزم أن لا يكون للشرط مفهوم في قولك أكرم زيدا إن جاءك لأنّ مقتضى التّعليق انتفاء المعلق عليه فلو كان معنى الأمر هو الطّلب الجزئي لكان هو المعلق على الشّرط فينتفي بانتفاء الشّرط فلا ينافي أن يوجد طلب آخر عند انتفاء الشّرط أيضا مع أنهم ذكروا أنهم إذا قام الدّليل على ثبوت الحكم عند انتفاء

 

الشّرط تعارض مع المفهوم فالمفهوم هو الحكم بانتفاء الطّلب مطلقا لا الطّلب الخاص ويشهد لذلك أنهم اتفقوا على أن الوصف يخصص العموم في نحو أكرم العلماء الطّوال مع أنهم قد اختلفوا في ثبوت المفهوم للوصف فإن المراد بالتّخصيص هو أن الحكم الخاص إنّما يتعلق بالموصوف لا بغيره وأمّا أنّه هل ينافي مع تحقق الحكم لغير الموصوف بخطاب آخر أو لا فهذا النّزاع في ثبوت المفهوم وبالجملة انتفاء الحكم المتعلق بموضوع عند انتفائه بديهي حتى في الأعلام فقولك أكرم زيدا مختص بجعل وجوب الإكرام لزيد لا عمرو وهذا غير المفهوم فإنّه لا ينافي ثبوت الحكم لغيره بخطاب آخر نعم قد ينافيه في بعض الموارد لعدم قابليته للحكمين كما إذا قال وقفت الدّار على الفقراء فإنّه لا يمكنه أن يقول بعد ذلك وقفتها على الأغنياء لانتفاء ملكه بالصّيغة الأولى فالمنافاة إنّما هو بين المنطوقين وليس هذا من المفهوم فما ذكره الشّهيد من أنّه من باب المفهوم لا وجه له وبالجملة لو كان الأمر موضوعا للطلب الجزئي لكان تعليقه على الشّرط موجبا لانتفاء الطّلب الخاص وهذا غير مفهوم الشّرط كما عرفت مع أن القائل بذلك قائل بثبوت المفهوم للشرط وحينئذ فيجب القول بأن الموضوع له هو الطّلب الكلي وهو المعلق على الشّرط فينتفي بانتفائه ولا يوجب اشتراط إيجاده بالصّيغة كون الصّيغة مستعملة في الجزئي هذا حاصل مراده وبعبارة أخرى الموضوع له هو الطّبيعة لكنها قد اعتبرت بحيث لا يمكن استعمالها إلا موجودة من دون أن يكون التّقييد بالوجود معتبرا في الموضوع له فالموضوع له مطلق لا يمكن استعماله إلا مقيدا بسبب نفس الاستعمال وهو لا يوجب كون الموضوع له مقيدا وكذا يقال بهذا في وضع الحروف وأسماء الإشارة أن الموضوع له فيها هو مطلق الابتداء والمشار إليه لكن قد لوحظ معه حيثيّة بحيث لا يمكن استعمالها إلا جزئيا وهو ملاحظة كونه مرآة لملاحظة حال الغير من دون أن يكون الحيثيّة المذكورة جزءا للموضوع له أو شرطا له هذا حاصل ما يمكن أن يقال في تقرير وجه القول المذكور والتّحقيق أن الموضوع له في الأمر هو الطّلب الجزئي الموجود في الخارج الآخر بالخطاب لأنّه المتبادر عند سماع اللّفظ ولا ينتقل الذّهن إلى مفهوم الطّلب أولا ثم إلى وجوده وهو ظاهر والإشكال بلزوم انتفاء المفهوم غير وارد لأنّ تعليق الفرد الخاص من من الطّلب على الشّرط لا بد له من فائدة وهي ليست انتفاء الفرد الخاص لانتفائه بمحض انتفاء موضوعه وإن لم يذكر الكلام بصورة الشّرط بل الفائدة هي الدّلالة على أن تعليق الفرد الخاص إنّما هو عنوان لتعليق المطلق فيدل على انتفائه بانتفاء الشّرط وهذا هو المفهوم ثم إنّه

 

لا يتعقل اعتبار حيثيّة الإنشاء في الموضوع له من دون أن يكون جزءا ولا شرطا إذ لا محالة يكون التّقييد داخلا وإن كان القيد خارجا والقول بأن مدلول الأمر هو المنشأ وهي الطّبيعة لورود الإنشاء عليها لا على الفرد مغالطة لأنّا نسلم أنّ الإنشاء يرد على الطّبيعة لكن نقول إن الطّبيعة المنشأة فرد وذلك نظير أن يقال في أعتق رقبة مؤمنة إن المطلوب هو عتق الرّقبة المقيدة والتّقييد يرد على المطلق فالمطلوب عتق الرّقبة المطلقة وما يقال إن المقيد إذا كان هو نفس الاستعمال لا ينافي كون الموضوع له هو المطلق غير تمام بل هو صحيح في جانب الموضوع فإن لفظ زيد ليس موضوعا من حيث الخصوصيات الصّادرة من اللافظين بل وضع مطلقا ليذكر ويراد منه المعنى فلا محالة يصير بالاستعمال فردا وهو لا ينافي كون الموضوع هو المطلق لكن لا يتم في الموضوع له إذ لا يخلو إمّا أن يكون الموضوع له المطلق لا بشرط ولا يقولون به أو بشرط الوجود فيكون جزئيا وهو الحق وأمّا الحروف فالحق أنها موضوعة لذات الابتداء لكن قد اعتبر فيها جهة وقوعه آلة لملاحظة شيء بالوقوع الفعلي لا مفهوم الوقوع فإنّه معنى اسمي والوقوع آلة شيء لا يتم معناه إلا بضميمة الغير فمعنى قولهم الحرف ما دل على معنى في غيره أن معناه أمر لا يتم إلا بالغير فهو بنفسه يدل على معناه لكن معناه ناقص محتاج فالنّقص إنّما هو في المدلول لا في الدّال والابتداء بتلك الملاحظة يصير جزئيا حقيقيا من جزئيات مفهوم الابتداء الواقع مرآة وإن أمكن كونه كليا من حيث دخوله في مفهوم الابتداء المطلق فإن الابتداء الملحوظ آلة لملاحظة السّير والبصرة جزئي حقيقي لمفهوم الابتداء الآلي لكن فات ابتداء البصرة كلي له أفراد من حيث إمكان تحققه من أي مكان من أمكنة البصرة فالمراد بجزئيّة معنى الحرف جزئيته بالنّظر إلى الحيثيّة المأخوذة في الموضوع له ونظيره الموصولات فإن الموضوع له فيها هو ما تعين بالصّلة فعلا فلا بد أن يكون جزئيا من هذه الحيثيّة مندرجا تحت مفهوم المتعين بالصّلة وإن كان بالنّظر إلى ذاته عاما كليا كما في قولك أكرم من جاءك أمّا أسماء الإشارة فالكلام فيها هو الكلام في الحروف نظرا إلى جهة وضع الإشارة فإنّه لا بد أن يكون جزئيا مندرجا تحت مفهوم الإشارة وأمّا ذات المشار إليه فإن قلنا بأنّ الإشارة يجب أن تكون حسيّة فيجب أن يكون حسيا لأنّ الإشارة الحسيّة لا تتعلق بالأمر العقلي وإن قلنا بجواز الإشارة العقليّة فيجوز أن يكون كليا وغيره وأمّا أعلام الأجناس فهي أيضا موضوعة لنفس الماهيّة لكن بملاحظة حضورها في الذّهن هذا الكلام في جهة الكليّة والجزئيّة وأمّا من جهة الخارجيّة

 

والذّهنيّة فالجميع موضوعة للأمور الخارجة عن الصّور الذّهنيّة جزءا كانت أو كليّة لكن قد اعتبر في بعضها حضور صورة الشّيء الخارجي في الذّهن إمّا بنحو المرآتيّة كما في الحروف ونحوها أو لا كما في أعلام الأجناس فالموضوع له ذات الأمر الخارجي لكن بشرط حضور صورتها في الذّهن وهذا لا يوجب أن يكون الموضوع له هو الصّورة فتلخّص بما ذكرنا أن الأعلام الشّخصيّة موضوعة للموجودات الخارجيّة كالأفعال الإنشائيّة وما سواها موضوعة للأمور الخارجة عن المدركات إمّا مع قطع النّظر عن حضور صورتها في الذّهن كأسماء الأجناس ونحوها أو مع اعتبار حضور صورتها إمّا بنحو المرآتيّة كما في المبهمات وبدونها كما في أعلام الأجناس فتدبر احتج القائل بأنّها موضوعة للموجودات الذّهنيّة بأنها لو كانت موضوعة للموجودات الخارجيّة لزم عدم تحقق الصّدق والكذب في الجملة الخبريّة لأن هذه الكلمات كما تجري في أوضاع المفردات تجري في الهيئات أيضا والقول فيهما واحد وأمّا لزوم ذلك فلأن الصّدق والكذب مطابقة مدلول الخبر للخارج وعدمها وإذا كان مدلول الخبر نفس الخارج فلا يتصور مطابقة ولا عدمها وفيه أن الدّليل أخص من المدعى إذ لا تلازم بين أوضاع المفردات وأوضاع الهيئات فيمكن القول بوضع المفردات للأمور الخارجيّة والهيئات للصور الذّهنيّة والتّمسك بعدم القول بالفصل في أمثال هذه المسائل الاجتهاديّة فاسد لكن الدّليل المذكور بالنّسبة إلى الجمل تام لا غبار عليه وما قيل في رده تارة بالنّقض بما إذا كانت موضوعة للصّور الذّهنيّة فإنّه حينئذ أيضا لا يتحقق مطابقة للواقع ولا عدمهما لأنّ واقع الصّورة هو نفس تحققها في الذّهن فلا معنى لمطابقتها له ولا مطابقتها وأخرى بأن الدّلالة الوضعيّة ليست كالدّلالة العقليّة بحيث لا يجوز انفكاكها عن المدلول فإن الدّال العقلي إنّما هو من آثار المدلول فلا محالة لا ينفك عنه بخلاف الدّال بالوضع فإنّه يمتنع انفكاكه عن المدلول وحينئذ فالخبر دال على الوقوع الخارجي ويحضر صورة ذلك الوقوع في ذهن المخاطب ويجوز انفكاكه عنه فإن طابق الصّورة الحاصلة بسبب الخبر في ذهن السّامع للواقع في الخارج كان الخبر صدقا وإن خالفه كان كذبا فاسد أمّا الأول فلأنّه لا يقول إن الموضوع له هو الصّورة الذّهنيّة من حيث هي بل يقول إنّها الموضوع له من حيث كونها حكاية عن الخارج عن الذّهن وحكاية قد تخالف المحكي فيكون كذبا وقد توافقه فيكون صدقا فإن بين زيد والقيام نسبة في الخارج عن الذّهن إمّا إيجابيا أو سلبيا فالصّورة الحاصلة منها في الذّهن الحاكية عن الخارج موضوع له

 

لهيئة زيد قائم فإن وافقت الخارج في الإيجاب والسّلب كان صدقا وإلاّ كان كذبا وأمّا الثّاني فلأنّه لا ربط له بكلام المستدل لأنّه لم يقل إنّه يجب عدم انفكاك الخبر عن الخارج بل حاصل كلامه أن اتصاف الخبر بالصّدق والكذب إنّما هو بالنّظر إلى مدلوله فإذا كان المدلول هو الخارج لم يمكن فرض المطابقة واللامطابقة لوجوب تغاير المطابق والمطابق ولا يمكن أن يقال الخارج يطابق الخارج وجعلهما باعتبار مطابقة الصّورة الحاصلة في ذهن السّامع للخارج خارج عن الاعتبار لأنّهما من صفات مدلول الخبر وليس المدلول هو الصّورة الحاصلة في ذهن السّامع قطعا فيجب أن يكون المدلول هو الصّورة الحاصلة في ذهن المتكلم من حيث كونها حكاية عن النّسبة الخارجيّة وهو الحق

تتمة

في بيان ما يترتب على المسألة من الثّمرات والتّحقيق أنّها مسألة علميّة لا يترتب عليها ثمر عملي وما ذكروا من الثّمرات فاسد غير قابل للذكر نعم قد ذكر ثمرة يمكن ترتيبها عليها على إشكال وهي أنّه لو كان الوجود الخارجي مأخوذا في الوضع لم يجز اجتماع الأمر والنّهي ولو كانت الألفاظ موضوعة للماهيات جاز وذلك لأنّ الغصب والصّلاة مثلا إن اعتبر فيهما الوجود الخارجي كان المأمور به بقوله صل هو الأفراد والمنهي عنه بقوله لا تغصب هو الأفراد والمفروض وجود الكليّين بوجود واحد في مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة فهذا الوجود الواحد صلاة وغصب قد تعلق الأمر والنّهي به ابتداء من الأمر وهو محال وإن لم يعتبر إلاّ نفس الماهيّة كان المأمور به ماهيّة الصّلاة والمنهي عنه منهية الغصب غاية الأمر اجتماع الكليّين في فرد واحد وهو لا يستلزم أن يتعلق الأمر والنّهي بجهة واحدة كالأوّل حتى يكون محالا فهو كاجتماع عنوان العلم والفسق في زيد والأوّل محبوب والثّاني مبغوض لكن هذا لو تم فإنّما هو مبني على جواز تعلق التّكليف بالطّبائع وأمّا على القول بعدمه وأن المراد في التّكليف الوارد على الطّبيعة هو أفرادها لم يترتب الثّمرة المذكورة فتأمل

أصل اختلفوا في ما وضع له المشتق على أقوال

والواجب أوّلا بيان المراد بالمشتق في محل النّزاع فنقول للمشتق تعريفان أحدهما باعتبار معناه الأعمّ وهو أنّه اسم المعنى الّذي غير عن شكله بزيادة حرف أو حركة أو نقصانهما والمراد باسم المعنى اسم دل على معنى قائم بغيره سواء دل على الغير أيضا أو لا فيشمل المصدر ويخرج بالقيود اللاحقة ويدخل في التّعريف ما غير لفظه دون معناه كالمصدر الميمي وما غير لفظه ومعناه كسائر المشتقات ويخرج ما غير معناه دون لفظه كمفتون مصدرا ومفعولا وذلك مفردا وجمعا ثم أن ما يشمله التّعريف من صور التّغيير خمسة عشر نوعا وحاصله أن التّغيير إمّا بزيادة أو نقيصة وكل

 

منهما إمّا بحرف أو حركة فهذه أربعة وكل مشتق قد يقع فيه نوع واحد وقد يقع فيه اثنان أو ثلاثة أو أربعة فما يقع فيه نوع واحد أربعة أقسام لأنّ الزّيادة إمّا حرف فقط نحو كاذب من كذب أو حركة فقط كنصر من نصر والنّقصان إمّا حرف فقط كخف من الخوف أو حركة فقط كالضّرب من ضرب على قول الكوفيين باشتقاق المصدر وما يقع فيه اثنان ستة أقسام لأنّه إمّا زيادة حرف وحركة كضارب من الضّرب أو نقصانهما كعد من العدة أو زيادة حرف ونقصان حرف كديان من الدّيانة أو زيادة حركة ونقصان حركة كحذر من الحذر أو زيادة حرف ونقصان حركة كعاد من العدد أو بالعكس كخذ من الأخذ وما يقع فيه ثلاثة أربعة أقسام لأنّه إمّا زيادة حرف وحركة ونقصان حركة نحو يضرب من الضّرب أو زيادة حركة وحرف ونقصان حرف نحو خاف من الخوف على احتمال باقي أو نقصان حرف وحركة مع زيادة حركة نحو عد من الوعد أو مع زيادة حرف نحو كالّ من الكلال وما يقع فيه أربعة أقسام قسم واحد نحو ارم من الرّمي فهذه خمسة عشر نوعا وفي شمول التّعريف لما إذا كان التّغيير بسبب النّقل كما في جبذ وجذب أو بسبب الإعلال والإبدال كمختار من مختير إشكال والظّاهر عدم شموله لهما أمّا الأوّل فلعدم تغير الشّكل بسبب تغيير التّرتيب وأمّا الثّاني فلأنّ الإبدال وإن كان في الحقيقة زيادة حرف ونقصان آخر إلاّ أن الظّاهر من التّعريف خلاف هذا النّوع لخفائه كما لا يخفى وقد اعترض على التّعريف المذكور بأنّه غير مانع وجامع أمّا الأوّل فلشموله التّثنية والجمع مثل ضربان وضروب وليس بمشتق وأمّا الثّاني فلخروج المشتق بالاشتقاق الجعلي كتمار ولبان لبائع التّمر واللّبن لأنّ المتغير عن شكله هو التّمر واللّبن وهما ليسا اسمي المعنى ولهذا أراد بعضهم قيدا آخر وهو أن يصير المعنى الأوّل عرضا في ضمن الشّكل الثّاني بمعنى أنّ يعتبر قيامه بالموضوع وعلى هذا يخرج مثل ضربان وضروب لعدم اعتبار قيامه بالموضوع لكن يبقى المشتقات الجعليّة خارجة وكذا يخرج المصدر الميمي ولا ضير في ذلك لأنّ إطلاق المشتق عليها مسامحة الثّاني باعتبار معناه الأخص وهو أنّه ما دل على اتصاف الذّات بالمبدإ فيشمل اسم الفاعل والمفعول والصّفة المشبهة وأفعل التّفعيل وهذا هو موضع النّزاع في هذه المسألة وربما نوزع في الفعل الماضي والمضارع وأسماء الزّمان والمكان والآلة أيضا الّتي هي داخلة في المشتق بالمعنى الأعم إذا علم ذلك فيجب لتنقيح المسألة بيان أمور الأوّل اختلفوا في أن الموضوع في المشتق بالمعنى الأعم هل هو الهيئة النّوعيّة أو الهيئة الشّخصيّة وعلى أي تقدير فهل الموضوع هو الهيئة مستقلة والمادة مستقلة أو هما موضوعان بوضع

 

واحد وكيف كان فهل الموضوع له كلي أو جزئي والحق في مقام دوران الأمر بين الوضع النّوعي والوضع الشّخصي هو الوضع النّوعي وبيانه أن الوضع النّوعي عبارة عن ملاحظة هيئة خاصة مع قطع النّظر عن مادة معينة ووضعها لشيء إمّا بنفسها أو وضع جزئياتها فإذا لوحظ هيئة فاعل مع قطع النّظر عن مادة ووضعت هي أو جزئيّاتها لمعنى فأفراد الهيئة المذكورة يقال إنّها موضوعة بالوضع النّوعي وأمّا الهيئة فهي موضوعة بالوضع الشّخصي في مقابل هيئة أخرى فإن هيئة فاعل موضوعة بوضع خاص غير الوضع المختص باسم المفعول والمراد بالهيئة النّوعيّة هي القدر المشترك بين الجزئيات المشتركة في الهيئة كهيئة فاعل بالنّسبة إلى جزئيّاتها كضارب وقاتل وأمثالهما والمراد بالهيئة الشّخصيّة هو الهيئة الجزئيّة الحاصلة في ضمن المادة الخاصة وهي أيضا إمّا تعتبر كليّة بمعنى أن يعتبر وضع ضارب مع قطع النّظر عمن يتكلم به وقد يعتبر وضع جزئياته الصّادرة من المتكلمين وسيأتي الكلام في ذلك هذا ولا شبهة في أنّه إذا أمكن وضع أمور متعددة بوضع واحد كان تكرير الوضع سفها فإذا أمكن وضع هيئة ضارب وقاتل بوضع واحد كان أولى من وضع هيئة ضارب بوضع وهيئة قاتل بوضع آخر وهو ظاهر والحق في المقام الثّاني هو أن الموضوع في المشتق هو الهيئة مع المادة لا أن يكون الهيئة موضوعة بوضع والمادة بوضع آخر وذلك لأن كيفيّة اشتقاق ضارب من الضّرب مثلا يحتمل وجوها ثلاثة أحدها أنّ الواضع وضع هيئة فاعل بوضع وقال إنّ المصدر أيضا موضوع في ضمن هذه الهيئة لإفادة هذا المعنى بالوضع الّذي كان له سابقا والثّاني أن يوضع الهيئة بوضع والمادة بوضع غير وضع المصدر والثّالث أن يوضعهما معا لإفادة معنى المصدر مع زيادة والأوّل فاسد قطعا لأنّ المصدر موضوع في ضمن الهيئة الخاصة وهي قد انتفت بسبب الاشتقاق فكيف يفيد المصدر هذا المعنى من دون وضع جديد وقد انتفى وضعه السّابق إلاّ أن يقال إنّ المصدر لم يعتبر في وضعه هيئة وهذا هو مذهب الشّريف وقد سبق أنّه مخالف لتصريحاتهم مع أنّه غير موجود ولا يصدق التّعريف المذكور حينئذ على المشتقات إذ لم يتغير حينئذ شكل أصلا والثّاني موجب لكثرة الأوضاع والأصل عدمها فتعين الثّالث وإذا ثبت أنّ الموضوع هو مجموع الهيئة والمادة علم أن الحق في المقام الأوّل هو أن الموضوع هو الهيئة الحاصلة في ضمن المادة لكن لوحظ في وضعها عنوان الهيئة الكليّة مع المادة الكليّة ووضعت هي أو جزئياتها فضارب موضوع وقاتل موضوع وهكذا هذا وهل المعتبر هو كلي الضّارب مثلا

 

أو الجزئيات وبما استشكل الأوّل بأنّه مستلزم لعدم كون الألفاظ حقيقة ولا مجازا لأنّهما من صفات الألفاظ الموضوعة والألفاظ كلها جزئي فلا يكون موضوعا كما سبق إليه الإشارة في المسألة السّابقة وأورد ذلك على القول بأنّ الموضوع هو الهيئة الكليّة أيضا إذ ليس المستعمل إلاّ الهيئة الشّخصيّة فيلزم أن لا تكون مجازا ولا حقيقة وفيه أنّه لا منافاة بين كون الموضوع هو الكلي ولا يستعمل إلاّ الفرد وذلك لأنّ المستعمل في الحقيقة هو الكلي وأنّه بنفس الاستعمال يصير فردا فالاستعمال إنّما ورد على الكلي وهو الّذي يتصف بالحقيقة والمجازيّة لكونه مستعملا وإن صار بالاستعمال فردا لكن هذا الجواب لا يمكن إجراؤه في ما ورد على القول بأنّ الموضوع هو الهيئة الكليّة لأنّها ليست مستعملة إنّما المستعمل هو الهيئة الخاصة اللهم إلاّ أن يمنع ذلك ويقال إنّ المستعمل هو الكلي غاية الأمر أنّ لازم استعماله وجوده في مادة معينة فالإيراد التّحقيقي على القول المذكور هو أن يقال إنّه لو كان الموضوع هو الكليّة وكان المادة موضوعة بوضع آخر فنقول إنّ الموضوع له أيضا إمّا كلي من تلبس بالمبدإ أو جزئياته فعلى الثّاني يلزم أن يكون الهيئة متكثر المعنى مع القطع بخلافه وعلى الأوّل فنقول إنّ دلالة الضّارب على من تلبس بالضّرب يلزم أن لا يكون لها دال لأنّ وضع الهيئة إنّما يقتضي دلالته على من تلبس بالمبدإ ووضع المادة إنّما هو للدّلالة على الضّرب فمن أين جاءت الدّلالة على من تلبس بالضّرب فيجب القول بأن الضّارب بمجموعه موضوع لمن تلبس بالضّرب فافهم هذا تمام الكلام في الموضوع وأمّا الموضوع له فالحق أن كل من تلبس بالضّرب مثلا لا جزئياته إذ ليس المتبادر من الضّارب إلاّ المتلبس بالضّرب لا الجزئيات وهو ظاهر الثّاني لا شبهة في أن الفعل الماضي موضوع لمن تلبس بالمبدإ في الزّمان الماضي سواء كان ماضيا بالنّظر إلى حال المنطق أو بالنّظر إلى زمان اعتبره المتكلّم كقولك سيجيء الأمير غدا وقد ركب قبله زيد بساعة واختلفوا في الفعل المضارع فقيل إنّه موضوع لمن تلبس بالمبدإ في الحال وقيل في الاستقبال وقيل فيهما لفظا وقيل معنى وهو الحق فإن المتبادر من قولك يضرب ويدور في الأعمّ من الزّمان اللاحق للمتكلم ومن الزّمان المتأخّر والمراد بالأوّل ما يشمل اللاحق لزمان اعتبر المتكلّم كما لو قال يضرب زيد بعد غد وكقوله تعالى وزلزلوا حتى يقول الرّسول بناء على قراءة نصب يقول فالمضارع نظير الأمر فإنّه حقيقة في الأعم من الفور والتّراخي هذا بحسب الوضع الأولى لكن ربما يلحق بهما حروف توجب انقلاب الموضوع له ويحدث الوضع النّوعي في غيره كما يلحق الماضي بعض أدوات الشّرط فيقلبه إلى الاستقبال ويلحق المضارع لم ولما فينقلب إلى الماضي ولا شبهة في أن اسم الآلة موضوع لما أعد

 

للمبدإ وإن لم يتلبس به فعلا كمفتاح لما أعد للفتح وإن لم يفتح به قط وأمّا أسماء المكان والزّمان فسنشير إليهما إن شاء الله الثّالث لا خلاف في أن المشتق أعني اللّفظ الدّال على الذّات باعتبار اتصافه بالمبدإ وكذا أسماء الزّمان والمكان موضوع لمن تعلق به المبدأ تعلق القيام به كاسم الفاعل أو الوقوع عليه كاسم المفعول والثّبوت له كالصّفة المشبهة واسم التّفضيل أو الحلول فيه كاسمي الزّمان والمكان إنّما الخلاف في أن التّعلق المذكور وهل يعتبر فعليّة أو لا اختلفوا فيه على أقوال أحدها أنّه موضوع لمن تعلق به المبدأ فعلا والثّاني أنّه موضوع لمن تعلق به المبدأ أعمّ من أن يكون فعلا أو في الماضي والثّالث أنّه موضوع لمن تعلق به المبدأ في الأعمّ من الحال والماضي والاستقبال والمعتبر في الفعليّة والمضي والاستقبال إنّما هو زمان النّسبة والحمل فقولنا زيد كان ضاربا أمس حقيقة على الأوّل أيضا إذا صدر منه الضّرب في الأمس فعلم مما ذكرنا أن الزّمان ليس بمأخوذ في معنى المشتق على شيء من الأقوال إنّما النّزاع في زمان التّعلق وعلم أيضا أنّهم لا يقولون بالاشتراك اللّفظي بين من تلبس فعلا ومن تلبس في المضي كما قيل بل يقولون بأنّه موضوع للقدر المشترك وهو من صدر منه المبدأ ووجد منه إمّا فعلا أو في المضي فافهم هذا بحسب مفهوم المشتق وأمّا إذا حمل المشتق على شيء فحقيقيته ومجازيته تختلف على الأقوال المذكورة بالنّسبة إلى زمان الحمل فعلى القول الأوّل يعتبر اتحاد زمان التّعلق وزمان النّسبة أي الحمل فاستعماله فيمن انقضى عنه المبدأ أو لم يتلبس بعد بالنّسبة إلى ظرف الحمل يستلزم المجاز وعلى القول الثّاني يعتبر اتحاد زمانيهما أو تأخر زمان الحمل فلو استعمل فيمن لم يصدر منه بعد لزم المجاز وعلى الثّالث لا مجاز إلاّ إذا استعمل فيمن لا يتعلق به المبدأ أصلا لكن لزوم المجاز في المذكورات لا يجب أن يكون في كلمة المشتق بل يحتمل وجوه ثلاثة فإنك إن قلت زيد ضارب الآن وقد انقضى عنه المبدأ أو لم يتلبس بعد فإمّا يكون المقصود من الضّارب من تلبس به فعلا وهذا يكون حمله على زيد مجازا باعتبار ما كان أو باعتبار ما يؤوّل وإمّا يكون ضارب مستعملا في ما جعله القائل الثّاني حقيقة فيه أو القائل الثّالث أعني المعنى الأعمّ مجازا وإمّا يكون مستعملا في معنى ضرب أو يضرب وعليهما فالمجاز في الكلمة هذا على القول الأوّل والاحتمالات الثّلاثة ثابتة على القول الثّاني إذا قلت زيد ضارب الآن ولم يتلبس به بعد وأمّا على القول الثّالث فقد عرفت أنّه لا يلزم التّجوز وما ذكرنا من المجاز في الحمل باعتبار ما كان أو ما يؤوّل إليه غير ما ذكره البيانيون فإنّه عندهم مجاز في الكلمة فإن المقصود من الخمر في أني أراني أعصر خمرا هو العنب لكن ذكر اسم الخمر باعتبار اتصاف العنب به في المستقبل وهذا لا يمكن اعتباره في المشتق المحمول على الشّيء فإن إرادة

 

محض الذّات من الضّارب موجب لحمل الذّات على الذّات نعم لو لم يكن محمولا جاز اعتبار ذلك كما لو قال رأيت ضاربا وأراد به زيدا الّذي انقضى عنه الضّرب أو لم يتلبس به بعد وذكر اسم الضّارب له باعتبار ثبوته له في السّابق أو اتصافه به في المستقبل فافهم إذا عرفت هذا فنقول الحق أن المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ فعلا بالنّسبة إلى ظرف الحمل للتبادر فإن كلمة ضارب إذا سمع من وراء الجدار تبادر منها إلى الذّهن المتلبس بالضّرب ويظهر ذلك إذا قلت زيد الآن ضارب فذكرت ظرف الحمل فإنّه يتبادر منه قطعا تلبسه بالضّرب في الآن وكذا إن قلت زيد كان في الأمس ضاربا أو سيكون في الغد ضاربا بحيث لو ذكرت ظرف التّلبس بعد ذلك بأن قلت زيد الآن ضارب الآن لزم التّكرار وليس ذلك إلاّ الاتحاد زمان التّلبس وزمان النّسبة بحيث يدل ذكر زمان النّسبة أي الحمل على زمان التّلبس أيضا فيلزم التّكرار عند ذكرهما ولهذا يتبادر من قولك زيد ضارب أنّه متلبس بالضّرب حال النّطق فإنّه يفهم من عدم ذكر ظرف الحمل أنّ الظّرف حال النّطق ولاتحاده مع زمان التّلبس يفهم ثبوت التّلبس أيضا حال النّطق لا لأنّ المشتق موضوع لمن تلبس بالمبدإ في حال النّطق كما توهمه بعضهم حيث رأى أن المتبادر من قولنا زيد ضارب تلبسه به حال النّطق فافهم ولصحة السّلب عن غير المتلبس فإن الّذي صدر منه الضّرب أمس يقال إنّه ليس الآن بضارب بحيث يكون الآن ظرفا للسّلب لا للمسلوب فلا يرد أن نفي ضرب الآن لا يدل على نفي إطلاق الضّارب عليه فافهم ثم إنّ تحقق التّبادر وصحة السّلب إذا أثبت الوضع فيما وجدناه من الصّيغ وجب قياس البواقي عليه لأنّ وضع المشتق نوعي كما سبق وليس لخصوصيات المصادر مدخل في تغيير معنى المشتق بأن يوضع الضّارب لمن تلبس به فعلا وقاتل للأعم منه وممن انقضى عنه بل نقطع باتحاد الوضع في الجميع كما أنّا إذا شاهدنا دلالة طائفة من صيغ الفاعل على من قام به المبدأ حكمنا بأنّ الموضوع هو الهيئة على القول بها فلا يرد أن ثبوت الوضع في بعض الصّيغ لا يوجب ثبوته في الجميع لاحتمال عدم تحقق التّبادر في الصّيغ الّتي لم نرها فالاستقراء ناقص لا يفيد المطلوب فافهم ثم اعلم أن القول في المسألة بين القدماء إنّما هو القول بوجوب التّلبس فعلا والقول بالأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ ولم يكن بينهم قول ثالث لكن حدث بين المتأخرين تفاصيل شتى حيث ورد عليهم شبهات عجزوا عن حلها ففصلوا ولا بأس بالإشارة إلى منشإ توهمهم حتى يظهر فساد ما ذكروه من التّفاصيل في طي فوائد الأولى المعتبر في التّلبس بالمبدإ هو التّلبس العرفي لا العقلي والتّلبس العرفي يختلف بحسب المبادي لأنّ المبدأ قد يكون من الأمور الواقعة في تدريج الزّمان بحيث لا يمكن اجتماع أجزائه في الوجود كالتّكلّم وقد يكون من الأمور الواقعة في الآن وهذا قسمان لأنّه بعد تحققه

 

إمّا يبقى في الزّمان أو لا فالأوّل كالعلم فإنّه يحصل في الآن ويبقى في الزّمان والثّاني كالضرب فإنّه يوجد في الآن فينعدم والتّلبس في الأوّل إنّما هو بكون الشّخص مشغولا به ولو يحرم من أجزائه وفي الثّاني والثّالث بأن يكون متلبّسا به فعلا وبعضهم لما توهم أن المراد من التّلبّس هو التّلبّس العقلي أشكل عليه الأمر في المبادي السّيالة كالتّكلّم فحكم بأنّ المتكلّم موضوع للأعمّ ممن تلبّس وممن انقضى عنه وإلاّ لم يصدق المتكلّم على أحد لعدم إمكان التّلبّس بالكلام وتلبّسا عقليّا بخلاف الغير السّيالة فإنّه موضوع لمن تلبس به فعلا وقد عرفت فساده الثّانية المعتبر في التّلبّس وجود المبتدإ للذات في الواقع وإن لم يكن ملتفتا إلى وجوده فالمؤمن النّائم متلبّس بالإيمان حال النّوم وبهذا ظهر فساد التّفصيل بين ما إذا طرأ على المحل ضد وجودي فلا يصدق المشتق وبين عدمه فيصدق التّوهم أن المؤمن يصدق على النّائم مع انتفاء المتلبّس لعدم طريان الضّد الوجودي ولا يصدق على من كفر بعد إيمانه لطريانه فافهم الثّالثة إذا علق الحكم على عنوان المشتق فقد يعتبر صدق العنوان في بقاء الحكم أيضا كالحكم بنجاسة الماء الجاري المتغير إذ لو زال التّغير صار طاهرا وقد يعتبر في محض حدوث الحكم ولكن بعد حدوثه يبقى وإن انتفى العنوان وهو لا يوجب استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ كقوله تعالى الزّانِيَةُ وَالزّاني فاجلدوا فإن وجوب الجلد يحدث عند صدق العنوان ولكن يبقى بعد انتفاء العنوان أيضا نعم ظاهر التّعليق هو الاشتراط حدوثا وبقاء لكن القرينة هنا موجودة على أنّه شرط حدوثا لا بقاء لعدم إمكان الجلد حال الزّنا أو الإجماع على عدمه وذلك لا يوجب استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ فالزّاني يوم السّبت لا يصدق عليه الزّاني يوم الأحد لكن يجب حده لأنّ الحكم حدث بصدق الزّنا يوم السّبت لا بشرط بقاء العنوان وبهذا ظهر فساد التّفصيل بين ما إذا كان المشتق محكوما عليه فهو حقيقة في الأعم مما انقضى لهذه الآية وبين غيره فيشترط التّلبّس وأضعف من ذلك ما توهم من أنّه حقيقة في الأعم من الاستقبال أيضا لهذه الآية وإلاّ لم يجب الحد على من يصدق عليه الزّاني بعد صدور الخطاب ووجه ضعفه أن التّعميم ليس لصدق الزّاني حال الخطاب على من يتلبّس به بعده بل لعموم الزّاني فكأنّه قال كل زانية وزان يجب حده فيعتبر صدق الوصف بالنسبة إلى كل شخص في زمان تلبّسه به وأمّا بالنسبة إلى من مضى فقد عرفت أنّه لعموم الحكم لا لاستعمال المشتق فافهم الرّابعة قد فصل بعضهم بين المتعدي فلا يعتبر التّلبّس فيه فعلا وغيره فيعتبر نظرا إلى صدق قاتل زيد بعد انقضاء التّلبّس أيضا بخلاف الماء الطّاهر بعد عروض النّجاسة وفيه أن إطلاق القاتل بعد الانقضاء إنّما هو بالنظر إلى زمان التّلبّس فظرف الحمل فيه الزّمان الماضي وقد شاع هذا

 

الاستعمال بحيث يفهم ذلك عند عدم ذكر ظرف الحمل وعدم صحة سلب القاتل عنه إنّما هو لأنّ السّلب يعم الماضي والحال فلا يمكن بالنسبة إلى من اتصف به في الماضي ولذا يصح أن يقال إنّه ليس يقاتل الآن فتأمل الخامسة المبدأ قد يكون فعلا وقد يكون ملكة وقد يكون حرفة والتّلبّس في كل منها بحسبه وبهذا ظهر فساد القول بأنّه حقيقة في الأعمّ مما انقضى إذا كان التّلبّس بالمبدإ أكثريا كما في الخياط والمعلم والقاري وأمثالها ووجه الدّفع أن صدق ذلك على غير المتلبّس إنّما هو لأن المبدأ فيها عبارة عن الملكة والحرفة والتّلبّس يلاحظ بالنظر إليها فمن زال عنه ملكة الخياطة لا يطلق عليه الخياط لأنّ معناه من تلبس بملكة الخياطة فعلا فافهم تنبيهات الأوّل قد عرفت أن أسماء الآلة حقيقة فيما أعد للشيء وإن لم يتلبّس به فعلا وأمّا أسماء الزّمان والمكان كمقتل فالحق فيها هو الحق في أسماء الفاعلين من اشتراط التّلبّس ولا ينافي ذلك إطلاقها على ما انقضى عنه لما عرفت أنّ ظرف الحمل يختلف بحسب ذلك وإن لم يذكر نعم بعضها قد غلب عليه جهة الاسميّة بحيث صار كاسم الآلة كالمسجد والمذبح وأمثالها الثّاني ثمرة المسألة أنّه إذا علّق حكم على عنوان مشتق فلا يشمل من ليس متلبّسا به فعلا على المختار ويشمل ما انقضى عنه المبدأ أيضا على القول الآخر ولا ينافي المختار مثل قوله تعالى الزّانية والزّاني فاجلدوا لأنّ المشتق إنّما وضع للذات المتلبّس والحكم المتعلّق عليه يمكن أن يعلق على الذّات المتلبّس بحيث يكون المناط هو الذّات فلا يزول بزوال العنوان يعلّق عليه بحيث يكون العنوان مناطا لحدوث الحكم لا لبقائه أن يعلق عليه بحيث يعتبر العنوان حدوثا وبقاء وقد شاع الاستعمال في القسم الأخير بحيث صار الكلام المعلّق على المشتق ظاهرا في اشتراطه حدوثا وبقاء بحيث لو أريد غير ذلك لم يمكن بدون قرينة وقد بينا أنها موجودة في الآية فافهم الثّالث اختلفوا في أن المبدأ يجب أن يكون مغايرا للذات في المشتق أو لا ذهب الأشاعرة إلى الأوّل وبنوا عليه القول بأن صفاته تعالى غير ذاته لحملها عليه مشتقا بقولنا هو العالم القادر ولهم على ذلك أدلة أخر أيضا منها أنّها لو كانت عين الذّات لكان حملها على الذّات غير مفيد لأنه في معنى حمل الشّيء على نفسه ومنها أنّه يلزم على ذلك أن يكون إثبات الذّات مغنيا عن إثبات الصّفات ومنها أنّه يلزم أن يكون إثبات إحدى الصّفات مغنيا عن إثبات البواقي ومنها أن ذاته تعالى غير معلوم وصفاته معلوم وغير المعلوم غير المعلوم فذاته غير صفاته وذهب غيرهم إلى الثّاني بتقرير أن المغايرة لا يجب تحققها في الخارج بل يكفي المغايرة الذّهنيّة ومعنى العالم هو الذّات الّذي ينكشف له الأشياء وهذا المفهوم ملزم وغير

 

الذّات لكن مصداقه في الواجب عين الذّات فإنّ نفس ذاته مبدأ الانكشاف وفي الممكن غير الذّات لأنّ مبدأ الانكشاف فيه قوة زائدة على الذّات كما ثبت بالبراهين القاطعة وحينئذ فيكون حمل العالم عليه مفيدا لأنه بحسب المفهوم والمفهوم غير الذّات بل هو من أفراده فهو من قبيل حمل الكلي على الفرد وقد اندفع جميع الوجوه المذكورة أمّا التّمسك باللّغة فلأنّه على فرض اعتبار المغايرة الخارجيّة فيها نحمله على المجازيّة لثبوت الاتحاد بالبرهان الغير القائل للتّأويل وأمّا لزوم عدم إفادة الحمل فقد ظهر فساده لمغايرة المحمول مفهوما وكذا لزوم الاستغناء لجواز ثبوت الذّات بلا انتزاع تلك المفاهيم منه وكذا انتزاع البعض منه دون بعض فإثباته لا يغني عن إثباته وكذا القياس الأخير لأنّ المعلوم من الصّفات هو المفاهيم ومغايرتها للذّات مسلم وأمّا مصداقها فهو عين الذّات ومجهول الكنه

بقي الكلام

في أن حمل الموجود عليه من أي قبيل حيث إن الوجود عين ذاته فحمله عليه كحمله على الوجود ويتم ذلك على القول بأنّ المشتق يجب أن لا يكون فاقدا للمبدإ أو الشّيء ليس فاقدا لنفسه فيصح أن يقال الوجود موجود بمعنى أنّه ليس فاقدا لنفسه وتفصيل القول في المقام أن المشتق كعالم مثلا إذا اعتبر فيه العلم بمعنى المصدر وهو المعنى الحدثي فيتصور له مفهومان الأوّل من قام به العلم بمعنى أنّه قد ثبت له حصة من هذا المفهوم وثبوته له أعم من أن يكون المعنى المذكور موجودا في الخارج أو لا بل يكون ثابتا في الذّهن ويكون منشأ انتزاعه في الخارج كالإمكان للإنسان إذ يصح حمل الممكن عليه مع أنّ الإمكان أمر ذهني والفرق بين الحصة والفرد أنّ الحصة يلاحظ في المفهوم باعتبار إضافته إلى شيء كعلم زيد مثلا فإنّه بهذا الوجه أمر اعتباري والفرد يلاحظ باعتبار وجوده الأصلي الخارجي ومعنى المشتق على هذا هو الأوّل أعني من قام به الحصّة من هذا المفهوم والثّاني من قام به فرد من العلم موجود في الخارج وهذا على وجهين أحدهما أن يكون قيامه بالذات كقيام الصّفة بالموصوف بأن يكون مغايرا للموصوف والثّاني أن يكون قيامه بالذات أعم من قيام الوصف بالموصوف من قيام الشّيء بنفسه وعلى الثّاني يكون معنى العالم من قام به فرد من العلم موجود في الخارج إمّا قيام الوصف بالموصوف وإمّا قيام الشّيء بالنفس بأن يكون العالم معناه فرد من العلم قائم بنفسه والحق في مفهوم المشتق هو القسم الأوّل لعدم صحّة سلب العالم عن الله وليس إلاّ لثبوت العلم له بذلك المعنى ولا يلزم التّركيب الخارجي لما عرفت أنّه لا يلزم منه وجوده في الخارج بل يكفي كون منشإ الانتزاع موجودا في الخارج وهو قد يكون زائدا على الذّات كما في الممكن وقد يكون عينه كما في الواجب وهذا هو الخروج عن حد التّعليل حيث أثبت له الصّفات وعن حد التّشبيه حيث

 

جعل صفاته عين الذّات وليس معنى المشتق من قام به الفرد الموجود وإلاّ لكان حمل الممكن على الإنسان مجازا وأيضا لا يصح ذلك في الحمل عليه تعالى أمّا على فرض المغايرة فلاستلزامه تعدد القدماء وأمّا على فرض الاتحاد فلأنه مستلزم لجواز حمل العلم بالمعنى المصدري عليه تعالى وهو محال وأيضا لو كان ذلك معنى المشتق لجاز أن يحمل التّمار على التّمر لأنّ معناه حينئذ من قام به التّمر قيام الوصف بالموصوف أو قيام الشّيء بالنفس والتّمر قائم بالنفس فيصح أنّه تمار مع أنّه باطل ثم إنّه على فرض كون المراد من قام به الفرد هل يكون صدق المبدإ الكلي على الفرد صدقا ذاتيا أو عرضيا فيه إشكال وطيّ الكلام عن ذكره أولى الرّابع هل يعتبر كون المبدإ قائما بالموصوف أو يكفي صدوره عنه ذهب الأشاعرة إلى الأوّل وبنوا عليه القول بالكلام النّفسي لصدق المتكلّم عليه تعالى فيعتبر قيام المبدإ به تعالى فلا يمكن أن يكون لفظا لحدوثه قالوا ولا يكفي صدور المبدإ في الصّدق وإلاّ لصدق المتحرك عليه تعالى لإيجاده الحركة في الفلك وذهبت المعتزلة إلى الثّاني وأجابوا عن النّقض بأنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة والتّحقيق أن يقال إنّه يجب قيام المبدإ بالموصوف لكن المبدأ في المتكلّم ليس الكلام بل التّكلّم ومعناه إيجاد الكلام وهو قائم به تعالى لأنّه هو عين القدرة ومن آثارها بخلاف التّحرك فإنّ معناه الانتقال لا إيجاد الحركة مضافا إلى أن ما ذكره الأشاعرة لا يختص بالواجب تعالى بل يجري في الممكن لأنّ الكلام قائم بالهوى لا بالشخص قطعا فيجب أن يكون صدق المتكلّم على الممكن أيضا باعتبار الكلام النّفسي ولم يقولوا بذلك الخامس هل المبدأ مغاير للمشتق أو هو هو ذهب أهل المعقول إلى أن المبدأ عين المشتق والفرق بينهما اعتباري بمعنى أن المبدأ أخذ بشرط لا والمشتق لا بشرط كالفرق بين الجنس والمادة والفصل والصّورة ومعنى كونه بشرط لا أنّه لوحظ وحده بحيث إنّ كل ما كان غيره يكون أمرا خارجا عنه بخلاف اللابشرط ولهذا لا يحمل المادة على النّوع ويحمل الجنس عليه لأن الجنس مأخوذ لا بشرط والجنس لا بشرط قد يكون عين ذلك النّوع الّذي هو الموضوع بخلاف المادة وكذا الضّرب إن اعتبر بشرط لا لم يحمل على الذّات وكان هو المبدأ وإن اعتبر لا بشرط حمل عليه وكان هو المشتق فمعنى النّطق والنّاطق أمر واحد وليس الذّات مأخوذا في المشتق لأنّ أخذ مصداق الذّات يوجب انقلاب الممكنة ضروريّة كقولك زيد كاتب بالإمكان لأنّه حينئذ في معنى زيد زيد وأخذ مفهومه موجب لصيرورة الحدود رسوما لأنّ النّاطق إذا أخذ فيه مفهوم الذّات لم يكن ذاتيا للإنسان بل يكون عرضيا فلا يكون فصلا وفيه نظر لأنّ الذّات مأخوذ مفهوما قطعا وتسمية النّاطق فصلا مسامحة إذ لا اطلاع لغير علاّم الغيوم على ذاتيات الأشياء لكنهم

 

لاحظوا لبعض خواص النّوع مما هو أقرب إلى فصله فاشتقوا منه ما جعلوه فصلا ولذا ذكروا الحساس والمتحرك بالإرادة معا فصلا للحيوان مع امتناع أن يكون للشّيء الواحد فصل في عرضه واحدة لكن لما وجدوا له خاصيتين ولم يتبينوا أن أيّهما أقرب إلى الفصل ذكروهما معا في التّعريف فتأمّل وبما ذكرنا علم أن المعنى المشتق مركب من الذّات والعنوان في مقام التّحليل وإن عبر عنه بلفظ بسيط فافهم

أصل في الأوامر

والكلام في مقامين أحدهما في مادة الأمر والثّاني في هيئته ووجه ذكرهما في علم الأصول كثرة وقوع الاختلاف فيهما فلا يرد أن مسائل العلم ما كان موضوعه موضوع العلم أو نوع منه وعرض ذاتي له ما يكون المراد من الأوامر خصوص ما في الكتاب والسّنة أو العموم وكيف كان لا وجه لتخصيصهما من بين سائر المواد والهيئات الثّابتة في الكتاب والسّنة ولا حاجة إلى ما قيل في الاعتذار من أن مواد اللّغة ليس مستندها معلوما معرفتها هو الرّجوع إلى النّقلة بخلاف الهيئات للعلم باتحاد معناها بالنظر إلى اللّغات فيمكن للشّخص الاجتهاد فيها بالرّجوع إلى مرادفاتها مع أن هذا الاعتذار لا يجري في ذكر مادة الأمر والأمر سهل

المقام الأوّل

وفيه مطالب الأوّل عرف الأمر تارة بأنه القول الدّال على الطّلب وأخرى بأنه الطّلب المدلول بالقول وربما أرجع الأوّل إلى الثّاني بأنّ المراد بالقول في الأوّل القول النّفسي وهذا فاسد لأنّ القول النّفسي إمّا عبارة عن مدلول القول اللّفظي فهو عين الطّلب لا أنّه دالّ على الطّلب وإمّا عبارة عن صورة الألفاظ المرتبة في الذّهن فهو غير الطّلب المدلول وربما قيل إنّ التّعريف الثّاني تسامح ومراده هو القول وهو بعيد والحق أنّه عبارة عن الطّلب بالمعنى الحدثي المصدري لا المعنى الحاصل بالمصدر في نفس الطّالب لاشتقاق أمر ويأمر وغيرهما منه فإنّ الأصل في الاشتقاق أن يكون من المصدر وبهذا يضعف جعله بمعنى القول لاختلاف معنى القول والمأمور بخلاف ما إذا جعل بمعنى الطّلب إذا المراد به الإلزام والمأمور هو الملزم لا يقال إنّ القول بمعنى الخطاب والمأمور هو المخاطب لأنّا نقول القول غير الخطاب لأنّ الخطاب هو توجيه الشّخص بالكلام فقد لوحظ فيه الشّخص بخلاف القول ثم إنّه هل يعتبر فيه كونه مدلولا عليه باللّفظ الحقيقي أو لا بل يكفي إفادته بالإشارة والكناية أو باللّفظ المجازي وغير ذلك الحق هو الثّاني لصدق الأمر على الجميع عرفا الثّاني اختلفوا في أنّ معناه هو مطلق الطّلب أو خصوص المانع من النّقيض أعني الوجوب والثّمرة بينهما ظاهر لأنه على الأوّل لا يحمل على أحدهما إلاّ بالقرينة بخلافه على الثّاني لكن من الأوّلين من ادعى أنّه منصرف إلى خصوص الطّلب الوجوبي انصراف الكلي إلى الفرد الشّائع الظّاهر والحق هو القول الثّاني لتبادر الوجوب منه عرفا مضافا إلى ما ذكروه

 

من قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الّذينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ وقوله تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ لا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ وحديث بريرة أتأمرني قال بل أنا شافع وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وغير ذلك ودعوى التّبادر إنّما تنفع قبالا لمن يقول بوضعه لمطلق الطّلب من دون دعوى الانصراف وأمّا من يقول بأنّه منصرف إلى خصوص الوجوب فلا يضره التّبادر فيحكم بأنه لغلبة الاستعمال فهو إطلاقي لا وضعي ويمكن أن يقال إن المتبادر في العرف هو الوجوب بخصوصه وإن كان لغلبة الاستعمال وغلبة الاستعمال من أمارات الحقيقة كما مر سابقا ومقتضى ذلك كونه حقيقة في خصوص الوجوب لا يقال إن كونه حقيقة في الوجوب لا ينافي وضعه لمطلق الطّلب لأنّه من باب إطلاق الكلي على الفرد لأنّا نقول ليس المتبادر أولا مطلق الطّلب ثم ينصرف إلى الوجوب بل المتبادر ابتداء خصوص الوجوب كما لا يخفى على من رجع إلى العرف ثم إنّ هذا القائل لم يفرق بين مادة الأمر وهيئته فحكم بالانصراف في الهيئة أيضا وهو ينافي ما ذكروه من أن معنى الإنشاء جزئي وهو الفرد الموجود في النّفس عند إنشاء اللّفظ والانصراف لا يطلق اصطلاحا إلاّ على الكلي المنصرف إلى فرده لا يقال إن الطّلب الحاصل في النّفس إنّما يحكم بجزئيته من حيث إنّه من أفراد مطلق الطّلب قائم بالنفس فلا يمتنع كونه كلها بالقياس إلى الوجوب والنّدب لأنّا نقول الجنس لا تقوم له في الخارج بدون الفصل فحصول الطّلب في النّفس لا يمكن بدون أحد الفصلين من الوجوب والنّدب فإن وجود الطّلب في الخارج هو قيامه بنفس الطّالب فلا يمكن بدون الفصل وعلى هذا فيجب أن يقول إنّه لوحظ مطلق الطّلب ووضع بإزاء جزئيات الوجوب وجزئيات النّدب لا جزئيات مطلق الطّلب الّتي هي كليات بالنسبة إلى الوجوب والنّدب لما علمت أنّه لا يوجد في الخارج أي في النّفس والحاصل أن مراد من يقول إن الموضوع له هو مطلق الطّلب في الهيئة أن آلة الملاحظة في الوضع هو مطلق الطّلب والموضوع له كل واحد من جزئيات الوجوب والنّدب ومن يقول إن الموضوع له هو الوجوب مراده أنّه الملحوظ والموضوع له جزئياته خاصة وبهذا ظهر فساد ما قالوا في ترجيح القول الثّاني على الأوّل بأنّه على الأوّل يكون استعماله في كل من الوجوب والنّدب مجاز بخلافه على الثّاني وكذا ما قيل في رده بأنّه على الثّاني أيضا يكون استعماله في النّدب وفي المطلق مجازا فتساويا مع أنّه قد لا يكون استعماله على الأوّل مجازا في الوجوب والنّدب لجواز كونه من باب إطلاق الكلي على الفرد وذلك لما بينا أنّ مراده أن الموضوع له هو جزئيات الوجوب والنّدب والملحوظ حال الوضع هو المطلق والمستعمل فيه لا يكون إلاّ جزئيات الوجوب والنّدب واستعماله فيهما استعمال فيما وضع له لا من قبيل إطلاق الكلي على الفرد فتلخّص من ذلك

 

أن دعوى الانصراف لا تصح في الهيئة إن قلنا بأنّ المنع من التّرك والإذن فيه فصلان للطّلب وكذا لو قلنا بأنّ الطّلب نوع وهما عرضان له لأنّ النّوع أيضا لا يوجد في الخارج بدون عوض من الأعراض ولا يمكن أن يقال إنّ الطّلب قد يوجد في النّفس من دون الفصلين حال الغفلة لأنّا نقول الوجوب والنّدب أمران بسيطان وإنّما ينتزع منهما الطّلب والمنع من التّرك أو الإذن فيه عقلا فلا يمكن حصول الطّلب بدون حصول أحدهما نعم يمكن كون الملحوظ في الوضع هو جهة الطّلب دون الخصوصية بأن يقال قد لوحظ مطلق الطّلب ووضع اللّفظ بإزاء جزئيات الوجوب والنّدب من حيث إنّها من جزئيات الطّلب لا من حيث إنّها من جزئيات الوجوب أو النّدب ولا ثمرة في ذلك فتأمّل وحينئذ فيشكل الأمر في نحو اغتسل للجمعة والجنابة إلاّ أن يجاب بالحذف وأنّ التّقدير واغتسل للجنابة وكذا في نحو أكرم العلماء حيث استعمل في الأكثر من طلب واحدا لا أن يلتزم بجوازه في خصوص المقام فتأمل جدا الثّالث اختلفوا في اعتبار الاستعلاء والعلوّ في معنى الأمر على أقوال اعتبارهما واعتبار الاستعلاء دون العلوم وبالعكس اعتبار أحدهما وهو الحق أمّا كفاية الاستعلاء فظاهر كما ترى أنّه يذم الدّني المستعلي على الغير في الطّلب ويقال له أتأمره وهو أعلى منك وهذا الذّم يمكن أن يكون لتصدي الدّاني لأمر لا يقدر عليه أعني إنشاء الأمر لاعتبار العلوّ في الأمر ولا علوّ في الدّاني ويمكن أن يكون لتصديه لأمر لا يليق به وهو الاستعلاء وهو الأصح وأمّا كفاية العلوّ فلصدق الأمر على طلب المولى من العبد شيئا من دون استعلاء لكن يشترط عدم كونه بخضوع فالمعتبر إمّا الاستعلاء أو العلوّ الّذي لا يكون مع الخضوع والاستدلال على عدم اعتبارهما بقوله تعالى حكاية عن فرعون لقومه فما ذا تأمرون وكذا بلقيس وقول عمرو بن عاص لمعاوية أمرتك فعصيتني مع أنّهم رعايا لا علوّ فيهم ولا استعلاء فاسد لأنّ السّلطان في مقام المشورة أدنى من الوزير المستشار ثم إن المراد بالعلوّ كونه بحيث يجب إطاعته عقلا أو شرعا أو عادة الرّابع قيل في تعريف الأمر أنّه طلب الفعل فأورد عليه بأنّه إن كان المراد بالفعل الأمر الوجودي خرج مثل اترك أو مطلق الحدث دخل النّهي لأنّه طلب التّرك وربما زاد بعضهم أنّه طلب الفعل غير الكف فأورد عليه بخروج مثل كفّ عن الزّنا فأجيب بأنّ المراد من الكفّ الكفّ الّذي هو مدلول النّهي بناء على دلالته على الكفّ وهو باطل كما سيأتي والتّحقيق أن يقال إنّ الأمر هو طلب الشّيء بمعنى أنّه الإغراء على الشّيء والنّهي هو المنع عن الشّيء فمثل قولك كفّ عن الزّنا من حيث إنّه باعث على الكفّ وإغراء به أمر ومن حيث إنّه مانع عن الزّنا نهي فالاختلاف بينهما لغة إنّما هو بالحيثيّة فافهم

المقام الثّاني

وفيه مطالب الأوّل صيغة افعل وما بمعناها حقيقة في الوجوب للتّبادر ولذم العبد التّارك للضرب بعد قول المولى له اضرب وليس القرينة فيه علوّ

 

المولى لأنّ المولى يطلب المستحبات أيضا وللآيات والأخبار السّابقة بتقريب أنّه إذا قال العالي اضرب يقال إنّه أمر وقد ثبت أن الأمر للوجوب بتلك الآيات والأخبار لا يقال إنّ العلوّ شرط في إفادة الوجوب لأنّا نقول إمّا يعتبر العلوّ في جانب الموضوع فيقال الصّيغة الصّادرة من العالي حقيقة في الوجوب فهو فاسد لأنّه احتمال ضعيف مع أنّه عديم النّظير في الألفاظ حيث لم يعتبر خصوصيّة المتكلّم فيها وإمّا يعتبر في جانب الموضوع له فيقال الصّيغة حقيقة في الطّلب الصّادر من العالي كلفظ الأمر فهو أيضا باطل لأنها إنشاء فيكون مراد القائل إنّها وضعت لتصدر من العالي فيلزم أن يكون صدورها من الدّاني غلطا وليس كذلك بخلاف لفظ الأمر لأنّه إخبار ولا ضير في كون إطلاقه على الدّاني مجازا الثّاني الوجوب على أقسام مطلق ومشروط نفسي وغيري عيني وكفائي تعييني وتخييري تعبدي وتوصّلي وهل الوجوب حقيقة في الجميع أو لا وهو موقوف على تحقيق أن الوجوب حقيقة واحدة واختلافه إنّما هو باختلاف المتعلقات أو لا بل هو هذه الأقسام مختلفة الحقائق فعلى الأوّل لا معنى للنّزاع في أنّه حقيقة في الجميع أو مجاز وعلى الثّاني يمكن ذلك فنقول أمّا القسمان الأوّلان أعني المطلق والمشروط فالحق أنّهما متفقان في الحقيقة واختلافهما إنّما هو بالاختلاف في المتعلق وذلك لأنّ الوجوب في الواجب المشروط يحصل بمحض الطّلب لكن المتعلق شيء مقيد فقولنا حج إن استطعت الوجوب حاصل فيه من حيث حين الخطاب لأنّه إنشاء لا يقبل التّعليق لكن المطلوب الحج المقيد بالاستطاعة بخلاف ما إذا قيل حج فإنّه مطلق لعدم تقييد المتعلق بشيء كذا قيل ويشكل بأنهم قد فرّقوا بين الواجب المطلق والمشروط بأنّ الأوّل يجب مقدماته بخلاف الثّاني فلو قال المولى صل مع الطّهارة وجب تحصيل الطّهارة بخلاف ما لو قال صل إن تطهرت فلو كان الشّرط بمنزلة قيد المطلوب وجب تحصيله أيضا فالأولى أن يقال إن الشّرط في الواجب المشروط قيد في المكلف فقوله حج إن استطعت بمنزلة المستطيع يجب عليه الحج ولا يجب على الشّخص أن يدخل نفسه في موضوع التّكليف ومن ذلك ما لو قيل أكرم زيدا إذا طلعت الشّمس فإنّ المكلف هو الشّخص المصادف للطلوع ولا فرق بينه وبين قولنا أكرم زيدا في الغد فإنّه أيضا مشروط فالضابط أنّ كل قيد كان الطّلب مترتبا عليه كالأمور الغير الاختياريّة كالوقت وكالاستطاعة في الحج فالواجب بالنسبة إليه مشروط وهو معتبر في عنوان المكلف وكل قيد ترتب هو على الطّلب كان الواجب بالنّسبة إليه مطلقا كالطّهارة وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل إنّه إذا قال المولى حج في الموسم فهو واجب مطلق معلّق وإذا قال حج إن دخل الموسم فهو واجب مشروط وذلك لما عرفت أنّ الواجب بالنّسبة إلى الأمر الغير الاختياري لا يمكن أن يكون مطلقا ويمكن أن يقال في الفرق إنّ وجود القيد في المشروط معتبر في المكلف وكون الشّخص ممن يحصل فيه الوصف موضوع

 

للمعلق فالقيد في المعلق حاصل للمكلف من حين الخطاب فيتعلق به الطّلب ويجب مقدماته المقدرة بخلاف المشروط فافهم فحاصل الكلام أنّهما متحدان في الحقيقة وإن اختلفا بحسب الموضوع والمكلف ثم لا يخفى أن هذا لا ينافي حمل الخطاب على الواجب المطلق ما لم يبين الشّرط وذلك لأنّه ليس لكون الأمر مجازا في المشروط بل إنّما هو لأنّ المكلف يكون ذات الشّخص عند عدم ذكر الشّرط نظير اللّفظ الموضوع للطّبيعة فإنّه يحمل على الإطلاق ما لم يذكر القيد فإذا ذكر القيد لم يكن مجازا وهذا يكفي في رد السّيد المرتضى ره حيث ادعى أنّه إذا ورد الخطاب المطلق لم يمكن حمله على الوجوب المطلق لاشتراك الأمر بينه وبين ذلك المشروط ولا يحتاج رده إلى ما ذكره بعضهم من أنّه مجاز في الواجب المشروط إذ هو ليس بواجب حقيقة قبل حصول الشّرط مع أن ما ذكره فاسد من أصله لما عرفت أن الوجوب إنشاء يحصل بمحض إنشاء الصّيغة ولا يلزم في تحقق الوجوب تحقق المكلف في الخارج لجواز أن يلاحظ عنوان المستطيع في الذّهن ويطلب منه الحج فكل من دخل تحت العنوان وجب عليه حينئذ لا لأنّ الوجوب لم يكن حاصلا قبل دخوله تحت العنوان بل لأنّه لم يكن من أفراد عنوان المكلف فافهم أو تأمل تفهم وأمّا بالنّسبة إلى التّعيين والتّخيير فالظّاهر من المشهور عن غير الأردبيلي رحمه‌الله أنّه حقيقة فيهما وذلك لأنّهم ذكروا في وجه حمل المطلق على المقيد أنّ المقيد هو المتيقّن ولو كان الأمر مجازا في التّخييري لقالوا بأنّ أصالة الحقيقة في الأمر يقتضي الحمل المذكور إذ لو لم يحمل المطلق على المقيد فمقتضى اتحاد التّكليف حمل أمر المقيد على التّخييري وهو مجاز بخلاف إرادة المقيد من المطلق فإنّه ليس مجازا على التّحقيق ثم إنّ تحقيق المطلب يتوقف على بيان أن الوجوب حقيقة واحدة بالنسبة إليهما أو هما حقيقتان مختلفان وفهم ذلك موقوف على فهم معنى الوجوب التّخييري فنقول ذهب الأشاعرة إلى أنّ الواجب في التّخييري هو أحد الأبدال لا بعينه وعند المشهور أنّ الواجب كل واحد منها لا إلى بدل وأورد على الثّاني بأنّه إن كان المراد أن وجوب كل منها مشروط بترك الآخر لزم أنّه حين ترك الجميع يكون كل منها واجبا معينا لوجود شرطه وهو ترك الآخر وإن كان المراد أنّ الواجب مقيد بمعنى أن الوجوب عبارة عن الطّلب مع المنع من التّرك المطلق أمّا التّرك إلى بدل فليس بنوع لزم تعدد العقاب عند ترك الجميع لأنّ كل واحد ترك مطلقا وقد كان ممنوعا وأيضا تعدد المطلوب كاشف عن تعدد الطّلب وحدة الطّلب كاشف عن وحدة المطلوب إذ لا يمكن وحدة الطّلب وتعدد المطلوب بمعنى أن يكون كل منها مطلوبا بالاستقلال وذلك لأنّ مقتضى المطلوب المستقل أنّه لو أتى به سقط الطّلب فيلزم بقاء المطلوب الآخر بدون الطّلب أو سقوطه فلا يكون مستقلا والمفروض أن الطّلب في التّخييري واحد فيجب أن يكون المطلوب أيضا

 

واحدا وهو الكلي المنتزع الّذي يدل عليه أداة التّخيير وهو أحد الأبدال لا بعينه وهو واجب معين يلزم تركه من ترك الجميع فيثبت عقاب واحد على تركه وحينئذ فاتحد حقيقة الوجوب بالنسبة إليهما لكن إذا ورد الأمر حمل على التّعييني لأنّ ظاهر الهيئة مطلوبيّة المادة لا الأمر المنتزع ويبعد القول المذكور أنّه يلزم عليه عدم كون الفرد واجبا أصلا عند الأمر بالكلي مع أنهم ذكروا أنّه واجب مقدمة بالوجوب التّخييري إذ صار حاصل الوجوب التّخييري وجوب الكلي وأيضا فإن الحكم يتبع المصالح ولا مصلحة في مفهوم أحدهما بل هي في الفردين فالتّحقيق أنّ الواجب هو الفردان على التّرديد بمعنى أنّ التّرديد يعتبر أوّلا ثم يطلب الأمر المردد فيحصل المطلوب بأحدهما وينتفي بانتفاء المجموع وأمّا بالنسبة إلى النّفسي والغيري فحقيقة فيهما لرجوع النّفسي إلى المطلق والغيري إن كان بصدد وجوب الغير فيرجع إلى المطلق وقبله إلى المشروط وكذا بالنسبة إلى العيني والكفائي فإنّهما يرجعان إلى التّعييني والتّخييري إلاّ أنّ التّرديد هنا إنّما هو بالنّسبة إلى المكلف ولا دخل له في اختلاف مفهوم الوجوب وكذا التّعبديّة والتّوصّليّة لا توجبان تعدد حقيقة الوجوب هذا لكن الظّاهر من الأمر هو الوجوب المطلق النّفسي التّعييني العيني التّوصّلي أمّا الأوّل والثّاني فلأصالة عدم التّقييد كما مر وأمّا الثّالث والرّابع فلأنّ الظّاهر من الأمر طلب مادته لا مفهوم أحدهما لأصالة عدم السّقوط بفعل الآخر وأمّا الأخير فلعدم فهم اشتراط القربة من الأمر وسيأتي تحقيقه إن شاء الله ثم إنّه إذا قامت قرينة موجبة للخروج عن الأصل ودار الأمر بين وجهين من الوجوه المخالفة للأصل فيتصور هناك صور منها دوران الأمر بين كون شيء شرطا للوجوب وكونه شرطا للوجود فقيل بترجيح الثّاني لأنّ الأوّل ينافي عموم الهيئة بخلاف الثّاني فإنّه يقيد إطلاق المادة ولأنّه إذا كان قيدا للوجوب كان قيدا للوجود الواجب أيضا فتقييد الوجود هو القدر المتيقن وفيه أنّ الهيئة أيضا مطلق فعمومها عقلي لا لغوي وتقيد الوجوب لا يقتضي تقييد الوجود فإنّ التّقييد تابع للاعتبار والّذي يلزم من تقييد الوجوب هو تقيد الوجود قهرا لا تقييده كما هو المطلوب ومنها دوران الأمر بين كون الشّيء شرطا للوجوب حدوثا أو حدوثا وبقاء فمقتضى أصالة البراءة هو الثّاني ومنها دوران الأمر بين كون الحدوث شرطا لحدوث الوجوب والبقاء لبقائه أو البقاء للوجود فقط ومنها دورانه بين كون الحدوث شرطا لحدوث الوجوب والبقاء لبقائه أو كلاهما للوجود وفي كلا الصّورتين قبل حدوث الشّرط الأصل هو البراءة وبعده يستصحب الاشتغال ويكون شكا في المكلف به ومنها دورانه بين المشروط والتّخييري فقبل حصول الشّرط الأصل هو البراءة وبعده الأصل عدم سقوطه بفعل لآخر ومنها دورانه بين المشروط والكفائي فقبل الشّرط يجري البراءة وكذا

 

بعده إن قارن العلم بقيام الغير به للشّك في تعلق التّكليف رأسا وإلاّ فالأصل عدم سقوطه بفعل الغير ومنها دورانه بين التّخييري والكفائي فقبل قيام الغير يجب الفرد المحتمل التّعين للاشتغال وبعده يتخير بينهما إذ لو كان معينا فقد سقط بفعل الغير ومنها دورانه بين أحد الوجوه والاستحباب بناء على كونه حقيقة فيها مجازا في الاستحباب فمقتضى الأصل تقديم الوجوه المذكورة لكن ربما يقدم الاستحباب لبعض الوجوه كما حكموا بأنّ الأمر بالنزح محمول على الاستحباب النّفسي وقدموه على الوجوب الغيري كما قدموا حمل المطلق على المقيّد مع قولهم بمجازيته على حمل أمر المقيّد على التّخييري لفهم العرف هذا مقتضى القواعد وأمّا مقتضى الأصل العملي فهو نفي الوجوب إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب وقد يحكم بثبوت الرّجحان إذا كان متيقّنا بقي الكلام في دوران الأمر بين التّعبدي والتّوصّلي والتّحقيق فيه يحتاج إلى بسط في الكلام فنقول أوّلا أنّه قيل الفرق بين الواجب التّعبدي والتّوصّلي وجوه الأوّل أنّ الواجب التّعبدي محتاج إلى قصد القربة بخلاف التّوصّلي وهذا ينحل إلى أمرين القصد والقربة والتّوصّلي لا يحتاج إلى شيء منهما والثّاني أن الأوّل يجب فيه المباشرة بخلاف الثّاني والثّالث أن الأوّل لا يجتمع مع الحرام بخلاف الثّاني وقد ينتقض بأن وقاع المرأة الواجب في القسم لا يحتاج إلى القربة مع وجوب المباشرة فيه وأن الحج محتاج إلى نيّة التّقرب مع أنّه قد يقبل النّيابة وكيف كان فهل الأمر بنفسه يقتضي التّعبديّة أو التّوصّليّة فنقول أمّا وجوب نيّة التّقرب فليس مدلولا للأمر لأنّه فرع الأمر فلا يكن إرادته منه بل هو مستلزم للدور وأمّا وجوب المباشرة فالتّحقيق أن الأمر يقتضيه كما يقتضي تعيين الفعل فقولك اضرب كما يقتضي وجوب الضّرب دون القتل فكذا يقتضي صدوره من المخاطب دون غيره مضافا إلى أن المأمور هو المخاطب فلا يمكن أن يكون المأمور به فعل غيره ولا الأعم لعدم كونه مقدورا له نعم يمكن كونه مسقطا للواجب لحصول لا لتحقق الامتثال فإن حصوله بفعل الغير غير ممكن وأمّا وجوب القصد قولان أحدهما عدمه لعدم دلالة الأمر عليه لغة ولا عرفا ولا عقلا والثّاني ثبوته لوجوه الأوّل أنّ الأمر مشتق من المصدر والمصدر إنّما وضع للفعل الصّادر عن القصد فالضرب لم يوضع إلاّ للمقصود منه أو يقال إن معنى اضرب اطلب ضربك والمصدر المضاف حقيقة في الفعل المقصود يعني أن هيئة الإضافة وضعت لذلك وعلى الأوّل فيحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا عمل إلاّ بالنّيّة على نفي الذّات والثّاني أن الأمر وإن لم يكن حقيقة في ذلك لكنه ينصرف إليه لشيوع استعماله في المقصود والثّالث أن العقل يقتضي ذلك لأنّ المأمور في الحقيقة هو النّفس لا البدن لكن العامل هو البدن فتكليف النّفس بعثه البدن على العمل والبعث على الشّيء لا يمكن بدون تصوره وقصده والرّابع أن المأمور به هو

 

الفعل الاختياري والفعل الاختياري لا يمكن صدوره بدون القصد بل بدون الغاية لأنّ نسبة الاختيار إلى الوجود والعدم متساوية فتأثيره في أحدهما بدون القصد والمرجح محال فكل فعل لم يصدر بالقصد فهو غير اختياري يستحيل التّكليف به أو بالأعم منه ومن الاختياري هذا لكن الوجه الأوّل فاسد لعدم صحة سلب المصدر عن الأفعال الغير الاختياريّة كما يقال جرى الماء وتحرك الحجر وسقط الجدار وغير ذلك وكذا الوجه الثّالث إذ لا نسلم أن العامل هو البدن حتى يحتاج بعث النّفس له إلى القصد بل العامل هو النّفس والبدن آلة فإذا جاز صدور الفعل من العاقل بلا قصد جاز من النّفس أيضا فتأمّل وهل يعتبر القصد بالعنوان الّذي تعلق به الأمر أو يكفي القصد بعنوان آخر وأن غفل عن ذلك العنوان الحق هو الأوّل لما ذكر أن التّكليف إنّما يتعلق بالأمر الاختياري فالعنوان المتعلق للأمر يجب أن يكون اختياريّا وهو لا يمكن بدون القصد فلو شرب الخمر باعتقاد أنّه ماء لم يفعل حراما حيث لم يقصد شربه بعنوان الخمريّة نعم إذا لزم من قصد عنوان قصد العنوان المتعلق للأمر تبعا كفى في التّكليف كما لو كان ملتفتا بأنه خمر وشربه بعنوان أنّه مائع مسكن للعطش فإنّه حرام حينئذ فافهم فعلم مما ذكرنا أن اعتبار المباشرة مقتضى الأمر واعتبار قصد العنوان مقتضى العقل والعرف وأمّا الفرق بجواز الاجتماع مع الحرام ففاسد لأنّ المناط فيه هو أن تعدد الجهة مجد في جواز اجتماع الأمر والنّهي أوّلا فعلى الأوّل يجوز في التّعبدي أيضا وعلى الثّاني لا مطلقا نعم قد يكون الحرام مسقطا عن الواجب التّوصّلي فالفرق بينها جيد هذا ثم إنّ الأصل في الواجب هل هو اشتراط نيّة القربة فيه أو لا بمعنى أنّه هل يوجد من الخارج ما يدل على أن القاعدة في الواجب هي اشتراط ذلك ولا بعد ما عرفت من عدم دلالة الأمر عليه فنقول مما تمسكوا به على ذلك قوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ بتقريب أنّ مفادها حصر غاية الأوامر في العبادة لله على وجه الإخلاص فإنّ تعدية الأمر إلى المأمور به إنّما هو بالباء فذكر اللام إنّما هو العلة الغائيّة ولبيان غاية المأمور به وهذا يدل على المطلوب لوجهين أحدهما أن العبادة لغة هو الفعل على وجه الامتثال فتدل على أن الغرض هو العمل على وجه الامتثال وهو المراد بقصد القربة والثّاني أنّ ذلك معنى العبارة على وجه إخلاص للدين لأنّ الدّين إمّا بمعنى القلب أو بمعنى الشّريعة وكيف كان يدل على اعتبار إتيان الفعل خالصا لله بأن يلاحظ فيه دون غيره فيدل على اعتبار القربة مع اعتبار عدم غيرها من الدّواعي كالوضوء للقربة والتّبرد مثلا وأورد عليه بأنّ الآية في بيان تكاليف أهل الكتاب في شريعتهم فلا يدل على أنّ ذلك هو تكليفنا ولا يمكن إجراء أصالة عدم النّسخ لأنّها إمّا ترجع

 

إلى أصالة عدم التّقييد الزّماني وهو إنّما يمكن فيما إذا كان المكلف عموم النّاس بإطلاق الزّمان وأمّا إذا كان المكلف خصوص بعض الأشخاص كالمشافهين فلا وإمّا ترجع إلى استصحاب الحكم السّابق وهو أيضا باطل لأنّ الموضوع هو أهل ذلك الزّمان من المكلفين فلا يمكن الاستصحاب في حق غيرهم لأنّ ثبوت الحكم في حقهم مشكوك ابتداء مع أنّ العلم الإجمالي بثبوت النّسخ يمنع عن إجراء الاستصحاب كما في الشّبهة المحصورة وأجيب أوّلا بأنّا لا نحتاج إلى الاستصحاب لأنّه قوله تعالى وَذلكَ دينُ القَيِّمَة دالّ على أنّه تكليفنا مضافا إلى سياق الآية وثانيا أن الاستصحاب لا مانع من إجرائه لأنّ الحكم السّابق إنّما كان لعنوان المكلف من دون مدخليّة لخصوصيات الأشخاص حتى أنّ أهل الشّريعة المتأخرة لو كانوا موجودين في الشّريعة السّابقة لكانوا مكلفين بها بل الموجب لنسخ الأحكام هو اختلاف الزمان وحينئذ فإذا شك في أنّه هل صار سببا لارتفاع الحكم الفلاني جاز استصحابه وأمّا العلم الإجمالي فلا يضر في المقام بيان ذلك أن السّر في مانعيّة العلم الإجمالي في الشّبهة المحصورة وحكمه بوجوب الاحتياط فيه إنّما هو لوجود العلم بالتّكليف ولا يتيقن بامتثاله إلاّ بترك الجميع فيجب من باب المقدمة لكن إذا كان أحد الطّرفين معلوم الحكم من وجه آخر لم يكن العلم الإجمالي مانعا كما إذا وقع نجاسة في أحد الإناءين وكان أحدهما بولا والآخر ماء لم يمنع من جواز استعمال الماء للشّك في أنّه بوقوعه هل أحدث تكليفا جديدا أو لا فالأصل البراءة إذا علم هذا فنقول إنّ الأحكام الّتي يعلم أنّها منسوخة في الشّريعة إجمالا إمّا نعلم أنّها كانت وجوبات نسخت إلى الإباحة وحينئذ فلا يخفى أنّ مقتضى الاحتياط الحكم ببقاء الوجوب ولا ينافي كونه مباحا في الشّريعة لأنّه لا ينافي الإتيان باحتمال الوجوب من باب المقدمة كما فيما نحن فيه لأنّ قصد القربة كانت واجبة ونشك في كونها منسوخة إلى الإباحة فيجب إتيانها احتياطا وإمّا نعلم أنّها نقلت من الإباحة إلى الوجوب فحينئذ نقول إنّ هناك وجوبات معينة معلومة في الشّريعة ولا نعلم أنها هي الوجوبات المنقول إليها حتى يكون غيرها أعني الموارد المشكوكة باقيا على ما كان عليه من الإباحة أو لا بل الموارد المشكوكة من جملة الواجبات المنقول إليها فلا شبهة أنّا نحكم ببقاء الموارد المشكوكة على إباحتها السّابقة ولا يضره العلم الإجمالي لما عرفت من مثال الشّبهة المحصورة هذا لكن في الاستدلال بالآية نظر من وجوه أخر أوجهها أنّ اللاّم ليس للغاية لأنّ قوله تعالى وَيُقيمُوا الصلاة وَيُؤْتُوا الزكاة معطوف على يَعْبُدُوا اللهَ فلو كان اللاّم للغاية لزم أن يكون غاية كل عمل إقامة الصّلاة وإتياء الزّكاة بل اللام للتّعدية كما في قوله تعالى وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ والمراد بالعبادة هو المراد في قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ والمراد بالإخلاص عدم

 

جعل الشّريك له تعالى فافهم ومنها أنا سلمنا أنّ اللاّم للغاية والمراد قصد القربة لكن يتعارض الآية مع كل ما علمت من الأدلّة الواردة في الأفعال الواجبة إذ لم يعتبر فيها بقصد القربة وتلك أخص مطلقا من الآية فيقدم عليها ولا أقل من كونها أخص من وجه فيثبت التّعارض فلا يتم الاستدلال وفيه أنّ الآية واردة على تلك الأدلّة ومفسرة لها فلا يمكن تقديم تلك الأدلّة عليها وإلاّ لزم طرح الآية رأسا ومنها أن المستثنى منه المحذوف هو الغاية لا المفعول والمعنى وما أمروا لغاية إلاّ ليعبدوا وليس المعنى وما أمروا بشيء لشيء إلاّ ليعبدوا وحينئذ فيصدق مضمون الآية بلزوم قصد القربة في واجب من الواجبات لأنّها حينئذ مهملة من جهة المأمور به وفيه أنّ الظّاهر هو العموم مضافا إلى إفادة حذف المتعلق ومنها أنّ الحصر إنّما يرجع إلى الإخلاص لأنّه القيد في الكلام فالمعنى حصر غاية العبادة في الإخلاص لا حصر غاية الأوامر في العبادة وفيه أنّ هذا إنّما يتم لو قال وما أمروا بالعبادة إلاّ للإخلاص وليس كذلك بل المعنى أنّ غاية كل الأوامر منحصرة في العبادة على وجه الإخلاص ومنها أنّه لا شك في وجود الواجبات التّوصّليّة في تلك الشّريعة واللاّم في الآية يحتمل أن تكون مستعملة في الغاية القريب فيلزم التّخصيص بخروج الواجبات التّوصّليّة إذ ليس القربة غايتها القريبة ويحتمل أن تكون مستعملة في الأعمّ من الغاية القريبة والبعيدة فلا تخصيص لأن العبادة غاية لجميع الواجبات بهذا المعنى قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ولا يخفى أنّه إذا دار الأمر في مجمل بين جعله مخصصا للعام وعدمه فأصالة الحقيقة وعدم التّخصيص يوجب الثّاني كما سبق وحينئذ فلا تدلّ الآية على أن نيّة القربة غاية قريبة لجميع الواجبات حتى يصير الأصل التّعبديّة في الجميع خرج ما خرج مضافا إلى أنّ ظاهر الآية يأبى عن التّخصيص فتأمّل ومنها أنها إنّما تدل على أصالة التّعبديّة في هذه الشّريعة إذا دلت على أصالتها في الشّريعة السّابقة وليس كذلك لأنّها إنّما تدل على أنّ الأوامر الّتي ثبتت في تلك الشّريعة فكلها تعبديّة لا أنّ الأصل فيها ذلك والاستصحاب أو قوله وذلك دين القيّمة يدل على ثبوت تلك الواجبات التّعبديّة في هذه الشّريعة فإذا شككنا في واجب أنّه تعبدي أو لا يجب أولا إحراز أنّه كان واجبا في الشّريعة السّابقة حتى يمكن إثبات تعبدية بالآية مع أنّه على فرض إحراز الوجوب أيضا مشكل للقطع بثبوت الواجبات التّوصّليّة أيضا في تلك الشّريعة فيكون الآية من قبيل المخصص بالمجمل فلا يمكن التّمسك بها في شيء مما ثبت وجوبه في تلك الشّريعة أيضا نعم لو ثبت أنّ الأصل في كل الواجبات هو التّعبديّة في تلك الشّريعة أمكن استصحاب الأصل أو التّمسك بقوله تعالى وذلك دين القيّمة على ثبوته في هذه الشّريعة أيضا ومما تمسكوا به على الاشتراط قوله تعالى

 

أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ بتقريب أنّ الإطاعة هو الإتيان بداعي الأمر والأمر في الآية للوجوب فتدل على وجوب قصد القربة وكل من قال بوجوبه شرعا قال بأنّه شرط الصّحة وما نقل عن السّيّد المرتضى ره من القول بوجوبه استقلالا لم يثبت وثبت لم يضر بالإجماع لأنّ مبناه على الكشف واعترض عليه بوجوه منها أنّ الإطاعة هو إتيان المأمور به ولو سلم أنّه يجب كون الأمر داعيا في صدقها فنقول يجب حملها في الآية على ما ذكرنا لئلا يلزم التّخصيص بل تخصيص الأكثر لكثرة الأوامر التّوصليّة مع خروج مطلق النّواهي أيضا لعدم وجوب قصد القربة في التّرك قطعا أو نقول نحمل الطّاعة على ما ذكرت لكن نمنع كون الأمر للوجوب بل الأمر قد استعمل في مطلق الرّجحان ورجحان نيّة القربة مسلم في كل الواجبات التّوصليّة أيضا فلا تدل على التّعبديّة أو نقول إنّ الطّاعة هو إتيان الفعل على وجهه إن كان تعبديا فبقصد القربة وإلاّ فلا فلا تدل على المطلوب ومنها أنّ الأمر بالإطاعة إرشادي لا تشريعي والفرق بينهما أن الأوّل لا يترتب على مخالفته أثر إلاّ الآثار المترتبة على الأوامر المتعلقة بنفس الأفعال مخالفة قوله أطيعوا الرّسول لا يترتب عليه عقاب زائد على العقاب المترتب على قول الرّسول أقيموا الصّلاة فالعقاب إنّما يترتب على ترك الصّلاة لأنّه إذا قال أقيموا الصّلاة فمقتضاه بحكم العقل ترتب العقاب على تركها وإذا قال أطعني فيما أمرتك لا يترتب عليه عقاب زائد على ذلك العقاب إذ لا عقاب إلاّ عقاب واحد على ترك الصّلاة والأمر المتعلق بها كاف في استحقاقه بحكم العقل والثّاني هو الّذي يترتب الآثار على مخالفته كالأمر بالصلاة وحينئذ فالأمر بالإطاعة إرشاد إلى ما ثبت في العقل من الحكم بلزوم الإطاعة في جميع الأوامر ولا يثبت الوجوب الشّرعي حتى يتم شرطيتها بالإجماع المركب وأورد عليه بأنّه على هذا ليس قابلا للحكم الشّرعي لأنّ الحكم الشّرعي حينئذ حكم بتحصيل الحاصل وحينئذ فلا يمكن القول بالاشتراط في شيء من الواجبات إذ ليس معنى الاشتراط أنّا مأمورون بالعمل المقرون بقصد الامتثال فيلزم أن يدخل تحت حكم الشّرع وقد ثبت أنّه غير قابل للحكم الشّرعي وربما قيل في رد الجواب المذكور إنّ الإطاعة لها معنيان أحدهما إتيان المأمور به والثّاني إتيانه لأجل أنّه مأمور به والأوّل هو الحكم العقلي الّذي لا يقبل الحكم الشّرعي لأنّ نفس الأمر كاف في لزوم ذلك بحكم العقل فلو أمر ثانيا لزمه الحكم بتحصيل الحاصل بخلاف الثّاني لأنّه غير لازم من الأمر فهو قابل للحكم الشّرعي واستشكل ذلك بأنّ العقل أيضا بحكم بلزوم أن يكون الدّاعي للمكلف على الفعل أمر المولى وحينئذ فيحكم به الشّرع أيضا قضيته للتّطابق وحينئذ يلزم وجوب قصد القربة في جميع الواجبات شرعا وعقلا ولا معنى حينئذ لدعوى عدم القول بالفصل بين الوجوب والاشتراط وأيضا يجب أن يتحقق على ترك كل واجب عقابان وكذا على

 

فعله بدون القربة عقاب واحد على ترك قصد القربة وليس كذلك خصوصا في التّوصليات وأجيب عن الأوّل بأنّا لا نثبت الاشتراط بالإجماع المركب حتى يرد ما ذكرت بل نثبته بإطلاق الآية في الحكم بوجوب الإطاعة فمتى لم يحصل قصد القربة لم يتمثل مضمون الآية فيجب الإعادة وهذا بمعنى الاشتراط وعن الثّاني بأنّا نسلم أنّه يلزم عقابان على تركه وأمّا لزوم العقاب على فعله بدون القصد فمدفوع بما ذكروا في مقدمة الواجب من أن الواجب منها لا يكون حراما لكن يجوز أن يكون الحرام مسقطا عنها فعند إتيانها في ضمن الحرام ليس إلاّ عقاب واحد على فعل الحرام على ترك المباح فنقول هنا إنّ إتيان الفعل بلا قربة مسقط عن القربة وفيهما نظر أمّا الأوّل فلأنّ الإطلاق إنّما يحكم بوجوب إطاعة الأمر فإذا صلى المكلف بلا قصد القربة فمقتضى إطلاق الأمر المتعلق بها حصول الامتثال وارتفاع الأمر ومعه يرتفع موضوع الإطاعة فلا معنى لوجوبها غاية الأمر أنّه خالف الأمر وفعل حراما كما لو أحرق الميت قبل أن يصلي عليه فارتفع موضوع وجوب الصّلاة وهو الميت وأمّا الثّاني فلأنّ عدم ترتب العقاب على ترك المقدمة ليس لحصول الغرض بفعل الحرام بل لأنّ ترك المقدمة لا يترتب عليه شيء مطلقا حتى لو فرض ترك جميع المقدمات بحيث استلزم ترك المطلوب بل العقاب إنّما هو على ترك المطلوب بخلاف ما نحن فيه ولو سلم أنّ السّقوط هناك إنّما هو لحصول الغرض فلا يجري هنا لأنّ الأمر بالإطاعة ليس الغرض منه معلوما حتى يقال إنّه يحصل بدون القصد فيسقط بل هو حينئذ واجب مستقل يجب ويترتب العقاب على تركه فيلزم المحذور والتّحقيق أن المراد بالإطاعة الّتي يحكم العقل بحسنها صفة نفسانيّة توجب كون الشّخص منقادا للمولى وموطنا نفسه على الطّاعة وإن لم يكن هناك أمر كما يحكم بحسن العدالة أي الملكة الرّاسخة ولا يحكم بوجوب إتيان الأفعال لأجل أنّها مأمور بها إذ لو قلنا بذلك لزم إمّا عدم وجود أمر توصلي بأن يكون القربة شرطا في الجميع حتى لا تنفك عن الوجوب وإمّا بطلان الإجماع المركب بأن تكون واجبة ولا تكون شرطا ومع ذلك لا يثبت المطلوب وهو أصالة الاشتراط ثم إنّ ما ذكرنا من معنى الإطاعة ليس حكما إلزاميّا للعقل بحيث يترتب العقاب على تركه بل هو يحكم بحسنه كما يحكم بحسن العدالة وإنّما يترتب على تركه العتاب لا العقاب وهذا هو المراد بالإطاعة في الآية بقرينة عطف وأطيعوا الرّسول إذ لم يقل أحد بوجوب قصد القربة إلى الرّسول في أوامر الرّسول فالمراد الإرشاد على أمر ثابت في العقول وهو حسن الإطاعة بالمعنى الّذي ذكرنا الّذي هو قابل لحكم الشّارع لكن قرينة العطف تعين أنها ليست في مقام التّشريع أو المراد الإرشاد إلى وجوب الإطاعة العقليّة بمعنى عدم المخالفة الّذي

 

ليس هو قابلا لجعل الشّارع وكيف كان فالتّمسك بها على الاشتراط فاسد ومما تمسكوا به على على ذلك الأخبار الدّالة بعضها صريحا على اعتبار القربة كقوله لا عمل إلاّ ما أريد به وجه الله وبعضها على اعتبار النّيّة كقوله لا عمل إلاّ بالنّيّة وإنّما الأعمال بالنيات ووجه التّمسك بالأول ظاهر وبالأخيرين هو أنّ النّيّة في لسان الشّرع يراد بها قصد القربة وليس المراد نفي الذّات لأنّه كذب فالمراد نفي الصّحة لأنّه أقرب إلى الحقيقة وأورد على الأوّل بأنّ حمله على المطلوب مستلزم لتخصيص الأكثر لخروج أكثر الأعمال عنه ولا يدفع ذلك بحمل العمل فيه على الواجبات لأنّ الواجبات التّوصليّة أيضا أكثر من غيرها فلا بد إمّا من حمله على الأعمال المعهودة أي العبادات أو الحمل على نفي الكمال وفيه أن عموم النّكرة في سياق النّفي ليس عموما وضعيا حتى يلزم التّخصيص بل هو عموم عقلي بالنظر إلى عدم ذكر القيد فيكون خروج ما ذكر تقييدا وهو جائز إلى الواحد وربما يجاب بأنّ العموم فيه إنّما هو بالنظر إلى الأصناف والصّنف الخارج أقل من الأصناف الباقية من حيث الصّنفيّة وإن كان أكثر أفراد من مجموعها وهو لا يوجب تخصيص الأكثر وفيه أنّ حمله على ذلك خلاف الظّاهر فحمله عليه دون حمله على العهد أو على نفي الكمال يحتاج إلى مرجح نعم هو يتم فيما إذا كان الظّاهر إرادة الأصناف كما لو قال أكرم النّاس إلاّ الجهال ونحو ذلك أو ثبت بالدليل إرادة الصّنف كما لو استدل الفقهاء بالعام في مورد وكان بحيث لو حمل على عموم الأفراد لزم تخصيص الأكثر فيعلم أنّهم فهموا منه العموم الصّنفي كاستدلالهم بقوله تعالى أوفوا بالعقود على أصالة الصّحة في العقود مع خروج أكثر أفراد العقود عنه فيعلم أنهم فهموا العموم الصّنفي وما نحن فيه ليس كذلك والتّحقيق في رد الاستدلال هو أن المتبادر من الحديث نفي ترتب الثّواب على العمل بدون القربة لا نفي الصّحة وكذا قوله لا عمل إلاّ بالنيّة ونظائره وأورد على الثّاني بأنّ النّيّة هو القصد فيدل على اشتراط القصد لا القربة وأجيب بأنّ كل من قال باشتراط القصد في غير الأمور المحتاجة إلى الإنشاء اللّفظي كالجماع وغسل الثّوب ونحوهما قال بأنّه قصد القربة والتّحقيق أنّ المراد بالنّيّة ليس هو قصد ذلك العمل بل المراد الغاية المترتبة عليه وحاصل المعنى أنّ العمل إنّما هو بحسب النّيّة في الثّواب والجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر وكذا قوله إنّما الأعمال بالنيات ولكل أمر ما نوى ثم إنّه لو فرض دلالة الأدلّة المذكورة على اشتراط القربة فنقول يشكل الأمر من جهة أنّ ذلك غير معقول حيث إن اشتراط سقوط التّكليف بالقربة لا يمكن إلاّ بجعل الأمر بالقربة مقيدا للأمر بالعمل وقد مر أنّ جعل القربة قيدا للمأمور به غير ممكن لترتبها على الأمر ولهذا الإشكال ذهب بعضهم إلى أنّ الأحكام تابعة لحسن التّشريع لا لحسن الفعل لأنّ أصل الفعل في العبادات لا حسن فيه

 

بدون القربة وهي ليست داخلة في المأمور به فالحسن إنّما هو في الأمر والتّشريع وربما يجاب عن الإشكال بأنّ المأمور به هو إتيان الفعل بالعنوان الّذي هو متعلق الأمر فلو قال اضرب للتّأديب فضرب لا له لم يسقط عنه الأمر ثم إن العنوان المطلوب قد يكون معلوما للمكلف فيقصده كالمثال المذكور وقد لا يكون معلوما فقصده إنّما يمكن بقصد ما يكشف عنه وهو الأمر لأنّه يكشف عن وجود العنوان المطلوب قطعا كما أن الشّخص إذا علم باشتغال ذمته بفائت لم يدر أنّه ظهر أو عصر مثلا فطريق تعيينه قصد ما هو مطلوب منه شرعا والعنوان في التّوصليات معلوم فلذا لا يحتاج إلى قصد القربة بخلاف العبادات فلذا تحتاج إليه وفيه نظر لأنّ قصد المطلوبية بعنوان الكاشفيّة غير قصد القربة لإمكان أن يقصد الصّلاة بالعنوان المطلوب شرعا لكن للرياء مثلا مع أن العنوان إنّما هو الّذي تعلق به الأمر فلو قال صل فالعنوان هو الصّلاة فيلزم أن يكفي قصدها في سقوط الأمر ثم إن الإشكال المذكور يجري في مواضع آخر أيضا فإنّ الدّعاء والشّفاعة إن تعلقا بفعل حسن لم يخبر لأنّه يجب عليه تعالى فلا يحتاج إليها وإن تعلقا بالقبيح لم يجز طلب القبيح منه مع أنّه محال في الحكمة والتّحقيق في الجواب أن متعلق الطّلب هو ذات الفعل والغرض هو أن يكون الأمر داعيا للمكلف على الفعل ومعنى ذلك إتيانه بقصد الامتثال والغرض من هذا الغرض هو إيصال المنفعة إلى المكلف ولا ريب أن التّكليف إنّما يسقط بحصول الغرض فمتى أتى بالفعل لأجل أنّه مطلوب سقط عنه الأمر فبقي الفرق بين العبادات وغيرها فنقول الدّاعي إلى الغرض المذكور وهو الإيصال إلى النّفع والنّفع قد يكون في ذات الفعل فإذا أتى به الشّخص لا لأجل أنّه مطلوب فقد وصل إلى النّفع وحصل غرض الغرض فسقط التّكليف وإن لم يحصل الامتثال وهذا في التّوصليات وقد لا يكون النّفع في ذات الفعل مطلقا بل النّفع فيه إذا فعل بقصد الإطاعة فإذا أراد الشّارع إيصال هذه المنفعة إلى المكلف أمره بنفس الفعل ليمكن تحصيل تلك المنفعة الّتي هي الغرض فمتى لم تحصل لم يسقط التّكليف لعدم حصول الغرض وبهذا إيجاب في مسألة الدّعاء والشّفاعة فإن نفس الفعل لا حسن فيه بل فيه القبح لكن إذا صار معنويا بعنوان الإجابة كان حسنا فالشخص بطلبه ليوجد فيه عنوان الإجابة حتى يحسن من الله تعالى فيجيب فتأمّل وافهم ونظير الإشكال المذكور ما ذكروه في كيفيّة اشتراط قصد القربة في الواجب المقدمي كالوضوء فإنّه واجب توصلي ومعنى الواجب التّوصلي أنّه واجب للتّوصل إلى الغير فلا معنى لقصد القربة فيه فإن قيل إنّه إنّما يرد إذا لم يكن المقدمة عبادة وأمّا إن كانت بنفسها عبادة فلا إشكال في ذلك قلت كون الوضوء عبادة إنّما هو للأمر المتعلق به استحبابا فإن قلنا بعدم بعدم استحبابه بعد دخول الوقت لم ينفع الجواب المذكور لانحصار أمره في التّوصليّة وإن قلنا ببقاء الاستحباب فمقتضى الجواب المذكور اشتراط نيّة الوضوء استحبابا لأنّه العبادة الّتي حكم بكونها مقدمة

 

فلو نوى الواجب للصلاة لوجوبه كان باطلا ولم يقل به أحد ومحل الجواب عن هذا الإشكال بحيث مقدمة الواجب

فائدة

في تحقيق مسائل وقعت في كلمات القوم مختلطة بعضها ببعض الأولى إذا تعدد الأمر المتعلّق بمفهوم واحد فهل يقتضي تعدد التّكليف أو لا وعلى الأوّل هل يقتضي تعدد المكلّف به أو لا الثّانية إذا تعدد الأمر المتعلّق بمفهوم واحد باعتبار أسباب مختلفة فهل يقتضي تعدد التّكليف والمكلّف به أو التّكليف فقط أو لا والفرق بين هذه والسّابقة أن القائل بعدم اقتضاء التّعدد هناك يقول بأنّ الثّاني تأكيد للأوّل لكن القائل بعدمه هنا لا يمكنه ذلك لتعدد السّبب وهذه المسألة هي المعبرة عندهم بتداخل الأسباب الثّالثة إذا تعدد الأوامر المتعلقة بمفهومات مختلفة متصادقة في فرد واحد باعتبار أسباب مختلفة فهل يكفي إتيان ذلك الفرد في امتثالها أو لا وهذه معبرة بتداخل المسببات والفرق بينها وسابقتها أنّه لا شبهة هنا في تعدد التّكليف والمكلّف به بخلاف السّابقة وأيضا لا يمكن للقائل بتعدد المكلّف به في السّابقة القول بالتّداخل لأنّ مقتضى تعدده وجوب الفردين من المفهوم الواحد ولا يمكن التّداخل في الفردين بخلاف التّداخل في الكليّين المتصادقين في فرد أمّا المسألة الأولى فيتصور فيها ثمانية صور لأنّ الأمر الثّاني إمّا معطوف على الأوّل أو لا وكيف كان إمّا أن يكون متعلقهما منكرا أو معرفا إمّا الأوّل معرفا والثّاني منكرا أو بالعكس أمّا صور العطف فقيل إنّه لا إشكال في اقتضاء التّعدد لظهور العطف في المغايرة ولأولويّة التّأسيس من التّأكيد إلاّ في صورة كون الأوّل نكرة والثّاني معرفة ففيه خلاف فقيل بالتّعدد لما سبق وقيل بالاتحاد لظهور اللاّم في العهد وقيل بالتّوقف لتعارض الظّهورين فيرجع إلى أصالة البراءة عن التّعدد وأمّا صور الخلو عن العطف فقيل أيضا بعدم الإشكال في التّعدد لأولويّة التّأسيس من التّأكيد إلاّ في الصّورة المذكورة ففيها قولان التّعدد لما مر والاتحاد لظهور اللام في العهد ولا قول بالوقف هنا كذا قيل وتحقيق المطلب يتوقف على تنقيح مطالب الأوّل اختلفوا في اقتضاء العطف المغايرة وعدمه ذهب بعضهم إلى الأوّل وبعضهم إلى الثّاني ومن الأوّلين من جعله من جهة الوضع ومنهم من جعله من جهة الظّهور ونظر من قال بنفي الظّهور أيضا إلى كثرة عطف المترادفات نحو لا تَرى فيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا وألفى قولها كذبا ومينا وغيرهما مما لا يخفى ويظهر من ابن الحاجب القول بوضعه للمغايرة فإنّه عرف المعطوف بأنّه تابع مقصود بالنسبة مع متبوعه وذكر الشّارح الرّضي ره أنّه خرج التّأكيد من قوله مقصود بالنسبة وأيضا ذكر أن إدخال الواو على التّأكيد غير صحيح في الكلام لأنّه للجمع ولازمه المغايرة نعم يجوز في مثل الفاء وثم لدلالتهما على التّرتيب وهو يحصل في التّأكيد بالنسبة إلى زيادة التّقرير في التّكرار وهذا هو الحق فليس معنى حروف العطف المغايرة لكنها لازمة

 

لمعانيها وأمّا كثرة عطف المترادفات فممنوع لأنّ المترادف في نفسه قليل لأنّه عبارة عن اتحاد اللّفظين في المفهوم وأمّا الاتحاد في المصداق فليس ترادفا وما يتراءى مترادفا أكثرها متغايرة مفهوما وإن كان في الجملة والحاصل أن مقتضى العطف هو المغايرة سيما في العطف بالواو الثّاني ذكروا في أولويّة التّأسيس على التّأكيد وجهين أحدهما أن التّأكيد مناف لغرض الواضع لأنّ الغرض إظهار ما في الضّمير لا تقرير أمر قد ظهر والثّاني أن التّأكيد مجاز لأنّ اللّفظ لم يستعمل في معناه بل استعمل في تقرير معنى اللّفظ السّابق وفيهما نظر لأن ذلك هو الغرض من وضع المفردات ولكن الهيئات أيضا موضوعة بإزاء معان زائدة على معان المفردات ربما يحتاج الشّخص إليها والتّأكيد من هذا القبيل فإنّه يحصل من هيئة التّكرير لا من اللّفظ المفرد فاللّفظة لم تستعمل إلاّ في الموضوع له فالأولى الرّجوع إلى المرجحات الخارجيّة وملاحظة الأغلب والغالب عند وحدة المتكرر التّأكيد كقولك جاءني زيد زيد اضرب اضرب ونحوهما فتأمل هذا لكن الإشكال في إمكان تحقق التّأكيد بالنسبة إلى الطّلب إذ ربما يتوهم أنّه غير معقول لأنّ الأمر إنشاء يوجد مدلوله فالأمر الثّاني إن أوجد مدلول الأمر الأوّل كان تحصيلا للحاصل أو غيره لم يكن تأكيدا له فإن الطّلب ليس حكاية عن نسبة خارجيّة حتى يعقل تكراره والجواب أنّه قد سبق أنّ الطّلب غير الإرادة فالإرادة حاصلة في النّفس قبل الطّلب وهي سبب للطلب والطّلب عبارة عن التّعرض لتحصيل المراد وهو قد يكون بإعمال الجوارح وقد يكون بتحريض الغير عليه وإلزامه إيّاه فالأمر موضوع لجعل مبدئه على المخاطب وإلزامه إيّاه به وهذا شيء قابل للتّكرار فإن كان المراد في الأمرين واحدا كان تأكيدا وإلاّ تأسيسا وربما استشكل أيضا بأنّ الإيجادين متغايران في الزّمان فليس الثّاني تأكيدا وفيه أنّه لا ينافي التّأكيديّة مع فرض اتحاد المراد كما لا ينافي تأكيديّة الأخبار عند وحدة المخبر به ثبوت التّغاير بالزمان الثّالث هل المعرف باللام المسبوق بالنكرة ظاهر في العهد أو لا ذهب بعضهم إلى الأوّل وبعضهم إلى أنّ وجود الفكرة في السّابق موجب لصحة حمله عليه بقرينة لا لتعين حمله عليه والتّحقيق أنّ اللام لها معنى واحد فإنها وضعت للإشارة إلى مدلول مدخولها باعتبار معهوديته وهو قد يعتبر جنسا وقد يعتبر فردا معينا أو غير معين أو جميع الأفراد ولا يختلف أصل معنى اللام لكن إذا كان هناك أمر أعرف انصرف إليه لأنّ الأعرفيّة أنسب بالإشارة الّتي هي مدلول اللام لكن ربما يكون له معارض في خصوص المقام يوجب عدم حمله على ذلك الأمر الأعرف كما في قوله عليه‌السلام ولا ينقض اليقين بالشّك بعد قوله فإنّه على يقين من وضوئه فإنّه لسبق اليقين ظاهر في العهد لكن العرف في مثل المقام يفهم منه أنّه كبرى كليّة فيحمله على الجنس أو الاستغراق ثم إنّه ربما يتوهم أن هذه الكلمات لا تثمر في المقام لأنّ متعلّق الأمر

 

الثّاني إن كان معرفة والأوّل نكرة جاز القول بوحدة التّكليف وتعدده سواء حمل اللام على العهد أو الجنس أمّا على الثّاني فظاهر وأمّا على الأوّل فلأنّ متعلّق الأمر الأوّل هو البليغة فالمراد بالأمر الثّاني أيضا الطّبيعة لكن يجوز إرادتها باعتبار وجودها في فرد آخر غير الفرد المأتي به في الأوّل فحينئذ يتعدد التّكليف وفيه نظر لأنّ متعلّق الأمر الأوّل هو الطّبيعة لا بشرط فلو كان الثّاني للعهد أكان المطلوب به أيضا الطّبيعة لا بشرط الّتي هي المطلوبة بالطلب السّابق فلا يتعدد لكن على الجنس يحتمل الوجهان لإمكان إرادة فرد آخر من الجنس بقرينة أولويّة التّأسيس ونحو ذلك فتأمل إذا علم هذه الأمور فنقول لا ريب في وجوب الحمل على التّعدد في الصّور الثّلاث الأوّل لظهور العطف في المغايرة وكذا في الصّورة الرّابعة وإن كان الظّاهر من اللام العهد لكن العطف أظهر منه وأمّا الصّور الأخيرة فالحمل على الاتحاد لما ظهر من عدم الدّليل على أرجحيّة التّأسيس مضافا إلى ظهور التّكرار في التّأكيد عند عدم العطف سيما في الصّورة الأخيرة لظهور اللام في العهد بلا معارض ومع التّنزل لا أقل من الشّك فالأصل البراءة من تعدد التّكليف ثم إنّ ظاهر الأكثر إن تعدد الأمر حيث يفيد التّعدد ظاهر في تعدد المكلّف به عرفا ويظهر من بعضهم أنّه يفيد تعدد التّكليف ولعله اكتفى به للملازمة بين تعدده وتعدد المكلّف به لكن ذهب بعضهم إلى أنّه يقتضي تعدد التّكليف فقط ويجوز اجتماع الطّلبين على مطلوب واحد والحق هو القول الأوّل ومع التّنزل فالثاني وسيتضح فيما سيأتي بطلان الثّالث وأمّا المسألة الثّانية فالكلام فيها في مطالب الأوّل في بيان الأسباب العقليّة والشّرعيّة ومقتضاها فنقول من الواضح أن تعدد السّبب المستقل يقتضي تعدد المسبب لأنّ اجتماع الأسباب المستقلة على مسبب واحد موجب للتّناقض لأنّ اجتماعها عليه كاشف عن احتياجه إليها واستقلال كل منها معناه استغناؤه عن الباقين ولا فرق في ذلك بين أسباب الموجودات الخارجيّة والأمور الذّهنيّة كالعلم وفرق بعضهم بين أسباب الأمور الخارجيّة فلم يجوز تعددها بالنسبة إلى سبب واحد وبين أسباب الأمور الذّهنيّة كالعلم والمعرفة نظرا إلى أنّ كل سبب يقتضي مسببا فإذا تعدد السّبب تعدد المسبب وفي الأمور الخارجيّة لا يمكن الاتحاد بين شيئين بخلاف الأمور الذّهنيّة فيجوز اتحاد الشّيئين فيه ولذا نرى أن الكلي ينتزع من كل واحد من الأفراد بتجريده عن المشخصات ومع ذلك هو أمر واحد وأيضا يقوم أدلة متعددة على مطلب واحد وكل منها يفيد العلم وإذا زال أحدها بقي العلم بحاله والعلم شيء واحد اجتمع له أسباب مختلفة وفيه نظر لأنّ علة عدم جواز الاتحاد في الخارج موجودة في الأمور الذّهنية أيضا لأنّ الاثنين حال الاتحاد إن بقيا على الاثنينيّة فلا اتحاد وإن زالا إلى شيء ثالث فلا اتحاد وإن زال أحدهما وبقي

 

الآخر فلا اتحاد وما ذكره من تجريد الفرد وإقامة الأدلة فلا يدل على مطلبه لأنّ صورة الكلي إنّما تحصل في الذّهن بتجريد أحد الأفراد فإذا جرد الفرد الآخر لم يكن سببا مؤثرا لحصول الصّورة لأنّ شرط تأثير السّبب بقاء القابليّة كجزّ رقبة الميت فإنّه سبب للقتل لكن لا تأثير له بعد الموت غاية الأمر أنّه سبب ثاني بمعنى أنّه يؤثر لو فرض قابليّة المحل وكذا الكلام في الأدلة فصدق أنّ اجتماع الأسباب المؤثرة المستقلة على مسبب واحد محال وبما ذكرنا ظهر عدم جواز تعدد العلل الشّرعيّة أيضا على معلول واحد إذ غاية الأمر أنها معرفات وقد عرفت أنّه لا فرق بين علة العلم وغيره الثّاني هل العلل الشّرعيّة معرفات أو علل واقعيّة المعروف هو الأوّل وذهب بعضهم إلى أن العلل الشّرعيّة نوعان الأوّل ما اعتبره الشّارع سببا للحكم من دون أن يكون سببا في الواقع بل هو معرف وكاشف عن العلة الواقعيّة كالبول لوجوب الوضوء وهذا النّوع مما يجوز اجتماع فردين منه على معلول واحد وليس المنصوص العلة منه حجة والثّاني ما هو سبب واقعي وعلة للحكم كالإسكار لحرمة الخمر وهذا لا يجوز الاجتماع فيه والمنصوص العلة منه حجة واستدل على أنّ القسم الأوّل معرفات بأنّ العلة أقسام أربعة وليس القسم الأوّل داخلا في شيء منها المادّيّة والصّوريّة والفاعليّة والغائية لأنّ العلة إمّا أن تكون داخلة في القوام أو لا وعلى الأوّل إمّا أن يكون ما به الشّيء بالقوة وهو المادة أو بالفعل وهو الصّورة وعلى الثّاني إمّا أن يكون ما به الشّيء وهو الفاعليّة أو ما لأجله الشّيء وهو الغائيّة وظاهر أن البول للوضوء ليس داخلا في شيء من الأقسام بخلاف الإسكار فإنّه علة غائية لحرمة الخمر ثم إن القسم الثّاني إن وجد متحدا فلا إشكال وإن تعدد وتعاقب فإن كان الحكم مما يقبل الشّدة والضّعف كالوجوب انقلب المعلول الموجود بالعلة الأولى إلى المرتبة الشّديدة عند وجود العلة الثّانية وإلاّ كان العلة الثّانية كاشفة عن تحقق المعلول بالعلة الأولى هذا خلاصة كلامه وفيه نظر من وجوه أحدها أن اجتماع المعرفين على معلول واحد إن أريد به المعرف الفعلي فظاهر البطلان لما سبق أو المعرف الثّاني فهو جائز في الأسباب الواقعيّة أيضا فالفرق بينهما لا وجه له والثّاني أنّ المعرف إذا كان كاشفا عن تحقق العلة فأينما وجد كشف عن ذلك لا وجه عدم حجيّة المنصوص العلة منه والثّالث أنّ الاستدلال على معرفيّة المذكورات باطل لأنّهم عرفوا العلة بما يحتاج إليه الشّيء في الوجود وهو شامل لآلات العمل وشرائط الفعل فلا بد من إدخالها في العلة الفاعليّة وتعميمها بحيث تشمل الآلات والشّرائط أيضا أو القول ببطلان الحصر المذكور بزيادة العلة الآليّة وهي ما يتوقف عليه الشّيء وحينئذ فتحقق البول مثل الشّرط للحكم بوجوب الطّهارة والرّابع أنّ جعل الإسكار

 

علة غائيّة فاسد بل العلة الغائيّة هي حفظ المكلّف عن السّكر مع أن العلة المذكورة في الأخبار هي الإسكار ولا فرق بينه وبين البول فكما أنّ البول موجب لحصول الحدث الباعث على إيجاب التّطهير لرفعه فكذا الإسكار موجب لحصول السّكر الموجب لتحريم الخمر لدفعه وكون المطلوب في أحدهما الرّفع وفي الآخر الدّفع لا يوجب ما ذكره من الفرق والخامس أن جعل العلة المتأخرة في صورة التّعاقب وعدم قابليّة الحكم للاشتداد كاشفة موجب لتخصيص الأدلّة الدّالة على أ