غاية المسؤل في علم الاصول

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي شيّد دعائم الإسلام بقوانين الدّين المبين ونوّر معالمه بلمعة من هداية المسترشدين والصّلاة على من أرسل لإيضاح مناهجه وبيان ضوابطه منتهى التبيين محمّد خاتم النبيّين وآله مفاتيح الحكم ومصابيح الظلم وأنوار المستوحشين سيّما باب مدينة العلم وأساس السّكينة والحلم أمير المؤمنين عليهم صلوات ربّ العالمين إلى يوم الدّين (وبعد) يقول الرّاجي عفو ربّه السّني محمّد حسين بن محمّد علي الحسيني الشهرستاني عفا الله عنهما إنّ هذا غاية المسئول ونهاية المأمول من علم الأصول كم حوت من تحقيقات شريفة هي عمدة أفكار المتقدّمين وتدقيقات لطيفة هي نبذة أنظار المتأخّرين ودقائق نكات فلمّا تنبّه لها أفهام المتبحّرين يظهر لمن تعمّق النّظر فيها فتلطف لا لمن قصر فهمه عنها فتكلّف كتبته حين قراءتي على الحبر الوحيد المتبحّر الفريد الأستاذ الفاضل والعالم العامل أبو الفضائل والفواضل قطب فلك التحقيق ومركز دائرة التّدقيق سمي جديّ وأحد السّبطين المولى الأردكاني محمّد حسين أدام الله على رءوس العالمين ظله الظليل أبد الآباد وأقام عليه أيادي نعمه إلى يوم التّناد بمحمّد وآله الأمجاد وسميّته (غاية المسئول) ونهاية المأمول ورتّبته ككتب القوم على مقدّمة وأصول وبالله أستعين إنّه خير معين

مقدمة

أصول الفقه اسم للعلم الخاصّ وله اعتباران علمي وإضافي وذكرهما في المقام ليعلم وجه المناسبة بين المنقول إليه والمنقول عنه ولنقدم

تعريفه

بالمعنى العلمي ليفيد الإضافي حين ذكره فائدة أصل الكلام بخلاف ما إذا قدم الإضافي فإنّه لا يفيد حين ذكره فائدة إذا المقصود بالذات هو المعنى العلمي فهو يفيد حين ذكره فائدة بخلاف الإضافي وقولنا المعنى العلمي يراد به مقابل الإضافي

 

لا العلم الاصطلاحي للخلاف في أنّ الأسماء العلوم أعلام شخصيّة أو أعلام جنسيّة أو أسماء أجناس وهذا مبنيّ على أنّ المسمّى هل هو المسائل أو الملكة والتّصديق فعلى الأوّل يكون علم شخص إذ المسائل أشخاص معينة مخصوصة لا يقال إنّ المسائل تتزايد كلّ يوم لأنّا نقول إنّ جميعها معينة مخصوصة في الواقع وإن كان التفات الواضع إلى جميعها بالعنوان الإجمالي وعلى الأخيرين يكون علم جنس أو اسم جنس فإن لوحظ الموضوع له بقيد الحضور الذّهني فهو علم جنس وإلاّ فاسم جنس وهذا يعلم من معاملتهم معه معاملة المعارف والنكرات فعلى الأول يكون علما وإلاّ فلا قيل الحق إنّها ليست أسماء للمسائل كما سيأتي فينتفي احتمال كونها أعلاما شخصيّة وأنّهم يعاملون معها معاملة النكرات من إدخال أل والإضافة والوصف بالجمل وغير ذلك من صفات النكرات وهكذا أسماء الكتب إلاّ أنّ احتمال العلمية الشخصيّة فيها منتفية قطعا إذ لم يوضع لفظ المعالم مثلا للكتاب المشخّص الجزئي الحقيقي وإلاّ لكان إطلاقه على غير النّسخة الأصلية إطلاقا على غير الموضوع له بل هو موضوع لنوع النقش المخصوص بملاحظة دلالتها على الألفاظ أو لنوع الألفاظ المدلول عليها بالنّقوش وهكذا الموضوع ليس لفظ المعالم المخصوص بل الموضوع أيضا نوع لفظ المعالم وإلاّ لكان إطلاقه من غير واضعه لا حقيقة ولا مجازا إذ ليس موضوعا وهما تابعان للوضع لا يقال ينافي ذلك عدم استعمال النّوع وعدم وجوده لأنّا نقول الاستعمال الخاصّ هو عين إيجاد النّوع والفرد إنّما يكون بعد الاستعمال فردا فالاستعمال والإيجاد إنّما يتعلقان بالنّوع لا بالفرد فافهم فنقول قد عرف بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ولنتكلم في أمور يوجب تحقيق المرام الأوّل قد ذكروا أنّه لا يمكن تعريف العلوم بالحدّ قبل إتمامها وتعاريف العلوم كلها رسميّة والمراد بالحد التعريف بالذاتي لا ما يطلق عليه في اصطلاح الأصوليّين أي التعريف الجامع والمانع ووجه عدم إمكان ذلك بأنّ ذاتي العلم ومسائله ولا يمكن تعريف العلم بها إلاّ بعد المعرفة بها وهي لا تمكن إلاّ بعد تعلّمها بالتمام والكمال حتّى يعلم جميع مسائلها وفيه أولا أنّه يكفي في التّعريف التصوّر بل هو معنى التّعريف لا التّصديق فإن أردت بعدم إمكان معرفة المسائل قبل الشروع التّصديق بها فمسلّم لكن لا يحتاج في التعريف إلى التّصديق بالذّاتي وإن أردت منه التّصور فممنوع لإمكان تصور جميع مسائل العلم قبل الشروع فيه وهو واضح وثانيا أنّه لا يتمّ بناء على جعل المسمّى هو الملكة أو التّصديق وثالثا أنّ هذا إنّما نشأ من الخلط بين الجوهر والجوهري والعرض والعرضي وذلك لأنّ الجوهر عبارة عن

 

الموجود لا في موضوع والعرض هو الموجود في الموضوع والجوهري عبارة عن الداخل في حقيقة الشيء والعرضي عبارة عن الخارج عن حقيقة الشيء فقد يكون الجوهر عرضيّا كالصّورة للهيولى فإنّها خارجة عن حقيقته وقد يكون العرض جوهريّا كهيئة السرير بالنّسبة إلى مفهوم مسمّى السّرير فإنّها عرض لكن داخل في حقيقة مفهوم السّرير إذا عرفت ذلك فنقول إنّ العلوم كلّها مشتركة في معنى هو الإدراك وليس لها مميّز ذاتيّ وإنّما امتيازها بامتياز العوارض ومتعلّقات العلم فتعريف العلوم بمتعلقاتها بالنّسبة إلى حقيقة ذلك العلم رسم وتعريف بالعارض لكن بالنّسبة إلى مفهوم المسمّى لذلك اللّفظ جوهري ذاتي فإن كان التعريف ناظر إلى حقيقة العلم كان رسما وإن كان ناظرا إلى مسمّى اللّفظ كان حدّا لفظيّا إذا لم يكن تعريفا بالغاية والفائدة وإلاّ كان رسما من كلّ جهة إذا الغاية أو الثمرة ليست جوهريّا بالنّسبة إلى مفهوم المسمّى أيضا إذ ليست مأخوذة في الموضوع له فتعريف الأصول رسم قطعا وإن جاز إطلاق الحدّ على تعريف الكلام مثلا بأنّه العلم الباحث عن أحوال المبدإ والمعاد والحكمة بأنّه العلم بحقائق الأشياء بقدر الطّاقة البشريّة الثاني في ذكر قيود التعريف المذكور فنقول قد اشتمل التّعريف على قيود ومقتضى النظم والترتيب أن يخرج بكلّ قيد منه ما لم يخرج من سابقه قال في المعالم وخرج بقيد الأحكام العلم بالذوات واعترض عليه في القوانين بأنّ الذّوات قد خرجت بقيد الشّرعية ولكن خرج بقيد الأحكام العلم بالماهيّات كمسألة الحقيقة الشرعيّة ونظائرها ربما ذكرنا من التّرتيب الطبيعي عرفت عدم ورود الإيراد على المعالم فإنّ خروج الذّوات بقيد الشرعيّة لا ينافي خروجها بالأحكام أيضا فإنّ مقتضى النّظم أن يخرج بالقيد السّابق كلما يخرجه فإن بقي شيء جيء بالقيد اللاّحق لإخراجه فخرج بقيد الأحكام الذّوات والماهيات مثلا وبقي الأحكام الغير الشّرعية فخرج بقيد الشّرعية والحاصل أنّه يجب الإخراج بالقيد اللاحق ما بقي بعد القيد السّابق لا أن يخرج بالقيد السّابق ما يبقى بعد القيد اللاّحق وأورد على القوانين بأنّ إخراج الماهيات بقيد الأحكام فاسد إذ المراد من استنباط الماهيّات بالقواعد إمّا التصديق بها فلا يخرج بالأحكام إذا الحكم عبارة عن النّسب الخبريّة كما صرّح به وإمّا قصورها فهو باطل إذ القواعد عبارة عن القضايا والمجهولات التصوّرية إنّما تكتسب من المعلومات التصوّرية لا من المعلومات التصديقية كذا قيل وفيه نظر إذ ليس المراد استنباط الماهيات أو الأحكام من القواعد الممهّدة بل المراد أنّ وجه تمهيد تلك القواعد استنباط الأحكام أو الماهيّات من غير تلك القواعد ومن الظاهر أنّ الحكم الشرعي لا يستنبط من مسألة أنّ الأمر للوجوب بل إنّما مهّدت هذه المسألة ليستنبط

 

الحكم من قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) كما أنّ تمهيد مسألة المعرّف في المنطق إنّما هو لاستنباط المجهولات التصوّرية من المعلومات التصوريّة مع أنّ مسائل المعرّف كلّها قضايا مثل أنّه يشترط أن يكون مساويا وأجلى ولا يجوز بالأعمّ وغير ذلك وحينئذ فلا يلزم أن يكون استنباط التصوّر من التّصديق كما ذكره المعترض فالأولى في الاعتراض أن يقال إنّه إن أريد التصديق بالماهيّات فلا يخرج بقيد الأحكام وإن أريد تصوّرها فليس ما مثل به قاعدة ممهّدة لاستنباط تصوّر الماهيات فإنّه مثل بالحقيقة الشرعية وهو فاسد فإنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو أن الألفاظ المستعملة في المعاني المستحدثة الموضوعة لها في زمان المتشرّعة هل كانت موضوعة لها في زمان الشّارع أو لا ولا يخفى على امرئ أنّ المطلوب فيها التّصديق لا تصوّر الماهيّة فالحق أن القواعد الممهّدة لاستنباط الماهيات أي التّصديق بها داخلة في الأصول لصدق التعريف عليه ولا ضرر في دخولها فلنرجع إلى تحقيق المطلب فنقول قد خرج بالقواعد العلم بالجزئيّات وبالممهّدة ما لم يمهد أصلا كقاعدة الكل أعظم من الجزء وكل نار حارّة ونحو ذلك وو بقيد الاستنباط ما مهد للاستنباط كالمسائل الكلامية فإنّها مقصودة بذاتها لا للاستنباط شيء وبالأحكام المنطق إذ ليس ممهّدا لخصوص استنباط الأحكام لاستنباط التّصورات منه أيضا وبالشرعيّة العقليّة وبالفرعيّة الأصوليّة كذا ذكروا (أقول) ويرد على التّعريف أنّ مقتضاه عدم كون الأصول علما برأسه بل يكون تابعا لاعتبار المعتبرين إذ المراد بالتمهيد ليس تمهيد شخص خاصّ بل كلما مهده الشّخص للاستنباط يكون أصولا فلو ذكر شخص في كتابه جميع مسائل النحو والصّرف والبيان والمنطق وغير ذلك بقصد الاستنباط يجب أن يكون أصولا لا يقال إن المراد الممهّدة بتمهيد أئمة الفنّ لأنّا نقول المسائل والقواعد الأصوليّة تتزايد يوما فيوما ويظهر ذلك من اختلاف الكتب الأصولية في ذكر المسائل وأيضا يرد على التعريف وشموله للقواعد الفقهيّة مثل أنّ كل عقد يجب الوفاء به فإنّها قاعدة كلية مهدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة وهي أنّ عقد المعاطاة يجب الوفاء به وهكذا سائر العقود فإن القاعدة عبارة عن قضية كليّة يستنبط منها أحكام جزئيّات موضوعها وسيجيء تحقيق المطلب عند ذكر الموضوع وهناك يعلم أنّ الأصول علم أو لا وهل له تعريف صحيح أو لا الثّالث في وجه المناسبة بينه وبين المعنى الإضافي وهو متوقّف على فهم المعنى الإضافي فنقول إنّه مركّب من المضاف والمضاف إليه والإضافة ولنتكلّم في كلّ منها أمّا الكلام في المضاف فنقول الأصول جمع أصل وهو في اللّغة عبارة عما يبتني عليه الشيء وفي اصطلاح الأصوليّين يطلق على الأمور الأربعة الدّليل والقاعدة والظاهر والاستصحاب وإطلاقه على كل واحد من هذه

 

الأربعة ليس باعتبار رجوعه إلى الآخر بخلاف سائر الإطلاقات فإنّها ترجع إلى أحد الأمور الأربعة فإنّ قولهم أصالة الحقيقة معناه ظهور الحقيقة لا باعتبار أنّه يرجع إلى القاعدة وكذا أصالة العدم معناه استصحاب العدم لا باعتبار كونه قاعدة فافهم وأمّا الكلام في المضاف إليه فنقول الفقه في اللّغة الفهم إمّا مطلقا أو مع جودة الذّهن وغير ذلك ممّا هو مذكور في كتب اللّغة وفي الاصطلاح عرّف بأنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية والمراد بالعلم التّصديق لا الإدراك المطلق إذ الفقه منحصر في التّصديقات والحكم عبارة عن النسبة الخبرية قيل ويلزم منه خروج الإنشاءات عن الفقه فالمراد النسب الجزئية وفيه أنّ الإنشاءات ليست من الفقه قطعا لما عرفت أنّ الفقه عبارة عن التصديق ولا يتعلّق التصديق بالإنشاءات إلاّ باعتبار ما تضمّنت من النسب الخبرية مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) فإنّه لا يتعلق التّصديق به إلاّ باعتبار ما تضمّنه من أنّ الصّلاة واجبة والنّسب الجزئية إن أريد مقابل مفهوم النسبة فالقيد لغو لأنّه ظاهر أن ليس العلم بمفهوم النسبة فقها وإن أريد الجزئية الاصطلاحيّة فهي عبارة عن قضيّة كان موضوعها جزئيا والقضايا الفقهيّة كلها موضوعها كلي ولا يحكم في الفقه على الموضوعات الجزئية لفظ والشرعيّة يحتمل وجوها ثلاثة أحدها أن يكون المراد به ما صدر من الشارع فعلا والثّاني أن يكون معناه ما من شأنه أن يؤخذ من الشارع والثالث أن يكون معناه ما يمكن أن ينسب إلى الشارع من حيث إنّه شارع والأوّل مستلزم لخروج الأحكام العقلية مع أنّه داخل في الفقه إذا العقل أحد الأدلّة والثاني مستلزم لخروج مسألة وجوب النظر في المعجزة عن الفقه إذ ليس من شأنها أن يؤخذ من الشارع لاستلزامه الدّور مع أنّه واجب شرعا فالمراد هو المعنى الثالث لإمكان أن ينسب ذلك إلى الشّارع من حيث إنّه شارع وخرج بقيد الحيثيّة مثل الحكم بأن مشي الإنسان أبطأ من مشي الفرس لإمكان نسبة هذا الحكم إلى الشارع لكن لا من حيث أنّه شارع والفرعيّة معناها المنسوب إلى الفرع والمراد به الحكم الّذي كان الموضوع فيه عمل المكلف أو يفهم منه حكم عمل المكلف بلا حاجة إلى خطاب آخر فالأوّل كالأحكام التكليفيّة والثاني كالوضعيّة فإنّ قوله الكلب نجس يعلم منه وجوب الاجتناب عنه الّذي هو حكم شرعي لعمل المكلّف بخلاف مثل الكتاب حجّة إذ لا يفهم منه حكم العمل إلاّ بضميمة قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) مثلا فافهم وعن أدلتها إمّا متعلّق بالعلم أو بالأحكام باعتبار قيد المستنبطة وعلى أيّ تقدير فإمّا المراد به الأدلّة المعهودة أو لا فإن كان المراد به الأدلة المعهودة كان قيد التفصيليّة لغوا وخرج علم المقلّد وعلم الله وعلم

 

الأنبياء والملائكة إن تعلق الظّرف بالعلم بخلاف ما لو تعلق بالأحكام لأنّهم عالمون بالأحكام المستنبطة إلاّ أن يعتبر قيد الحيثيّة لأنّ علمهم بالأحكام المستنبطة ليس من حيث كونها مستنبطة وفيه أنّ أخذ الحيثيّة إنّما يثمر في أن العلم بالأحكام المستنبطة يلاحظ فيه جهة الاستنباط أيضا وهذا لا يقتضي أن يكون العلم ناشئا عن الدليل فإنّ قولنا علمت زيدا الفاضل من حيث إنّه فاضل أنّي أحضرته في الذّهن مع ملاحظة الفضل فيه لا أنّ فضله كان سببا لعلمي فافهم وإن أريد مطلق الأدلة خرج علم المقلد بقيد التّفصيلية لأن علمه إنّما هو من دليل إجمالي وهو أن هذا الحكم مما أفتى به المفتي وكلما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقي فهذا حكم الله في حقي وأورد عليه أمّا أوّلا فبأنّ علم المجتهد ناشئ من الدّليل الإجمالي بضميمة التفصيلي فإنّه إذا لاحظ الأدلة التّفصيلية وحصل له الظن بالحكم يرتّب القياس هذا ما ظننت أنّه حكم الله وكلما ظننت أنّه حكم الله فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلدي فهذا حكم الله في حقي وحق مقلّدي فإسناد العلم إلى الأدلة التفصيلية لا وجه له وأمّا ثانيا فبأنّ المقلد أيضا له دليل تفصيلي ودليل إجمالي وعلمه حاصل منهما فإنّه يلاحظ فتوى المجتهد في خصوص كلّ واقعة فهذا دليله التفصيلي ويضمّ إليه المقدمات المذكورة وهو الدليل الإجمالي فيحصل له العلم فما الفرق بين المجتهد والمقلّد في ذلك (أقول) الإيراد الثاني وارد ولا مدفع عنه مع عدم جعل المراد الأدلة وأمّا الإيراد الأوّل فقد يجاب عنه بأنّ علة الشيء إذا كان مركبا يجوز استناده إلى مجموع الأجزاء وإلى الجزء الأخير والأدلّة التفصيلية جزء أخير لعلة حصول العلم بالحكم إذ لا بدّ أوّلا من إثبات أن الكتاب حجّة مثلا ثمّ ملاحظته تفصيلا لاستنباط الأحكام منه ونظير هذا قيل في الجواب عما قيل إنّ الدّليل العقلي إن كان عبارة عمّا كان بجميع أجزائه عقليا فما وجه عدهم الاستصحاب من الأدلة العقلية مع أن حجيّته يثبت بالنقل عند القائلين بالظنون الخاصّة وإن كان عبارة عمّا كان بعض أجزائه عقليّا فما وجه عدم جعلهم الكتاب من الأدلة العقلية مع أنّ حجيّته تثبت بحكم العقل وحاصل الجواب أنّ المعتبر هو الجزء الأخير الّذي يتعاقبه الاستنباط وهو في الاستصحاب حكم العقل بالبقاء وفي الكتاب حكم النّقل بوجوب الصّلاة مثلا وفيه أنّ هذا الجواب لا يتمّ إذا كان العلم بالحجيّة متأخّرا عن العلم بالتّفصيل كما إذا اجتهد الكافر بطريقة الإسلام ثم أسلم فالأولى في الجواب أن يقال إن المراد بالأحكام الأحكام الخاصّة من حيث الخصوصية كوجوب الزكاة وحرمة الخمر ونحو ذلك وحجيّة الكتاب لا توجب العلم بالخصوصية بل العلم بالخاص من حيث الخصوصيّة لا يستنبط إلاّ من قوله تعالى (آتُوا الزَّكاةَ) و (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ونحو ذلك فلا يجوز

 

إسناد العلم بالخصوصية إلى المجموع ولا إلى الدّليل الإجمالي فافهم ولما علم مفردات التّعريف فلنتكلّم في أمور يحتاج إلى بسط الكلام الأوّل قد فسّر الحكم في التّعريف بخطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا والمراد من الأفعال والمكلفين الجنس ليشمل خصائص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا والقيود الثلاثة الأخيرة ليشمل الأحكام التكليفيّة والوضعيّة قيل إنّ تعريف الحكم المذكور في التّعريف بخطاب الله تعالى مستلزم لاتحاد الدّليل والمدلول إذا الكتاب من جملة الأدلة وهو أيضا خطاب الله تعالى إلاّ على مذهب الأشاعرة حيث قالوا بالخطاب النّفسي الّذي هو مدلول الخطاب اللّفظي وفيه أنه لم يعرّف الحكم بالخطاب إلاّ من ذهب إلى الخطاب النّفسي ولم يقل أحد إنّ الحكم عبارة عن الخطاب اللّفظي حتّى يرد عليه اتحاد الدّليل والمدلول ثمّ إنّه أجاب عن الإيراد بناء على عدم القول بالكلام النّفسي بأنّ الأحكام عبارة عن الخطابات المعلومة بالإجمال والأدلة خطابات مفصّلة فنحن نعلم أن لشرب الخمر قد ورد خطاب في الشريعة ونعلم تفصيله بقوله تعالى فاجتنبوه مثلا وفيه أنه لا يتمّ هذا الكلام في الجواب إذ يكون معنى التّعريف أن الفقه عبارة عن العلم بالخطابات المجملة عن الخطابات التفصيليّة فإن أريد العلم الإجمالي بالخطابات المجملة فهو لم يحصل من الأدلة بل هو معلوم بالضّرورة وإن أريد العلم التفصيلي بالخطابات المجملة فهو عين العلم بالخطابات المفصّلة لا أنه حاصل منها فإنّ معنى العلم التّفصيلي معرفة الشيء مفصّلا والخطابات المفصّلة عين المجملة والفرق إنما هو بالإجمال والتفصيل فالعلم التفصيلي بالخطابات المجملة عين العلم بالأدلة المفصّلة وهو يحصل بالنظر فإنّ من أراد أن يعلم شيئا بالتّفصيل ينظر فعلمه يحصل بالنّظر لا بالعلم التّفصيلي (فافهم) وأمّا على القول بالخطاب النّفسي فيرد أمور منها ما ذكره الفاضل القميّ رحمه‌الله من أنّ اللفظ كاشف عن المدّعى لا أنّه مثبت للدعوى ومعناه أنّ الخطاب اللفظي دالّ على مدلوله الّذي هو الكلام النّفسي لا أنّه دليل عليه والفرق بين الدّال والمدلول أنّ الأوّل يوجب تصوّر مدلوله والثّاني موجب للتّصديق بالمدعى ويظهر منه في الحاشية وجه آخر وهو أنّ الدليل عبارة عما يتوصّل بصحيح النّظر (فيه) إلى مطلوب خبري فيجب أوّلا تصوّر المطلوب الخبري ثم ترتيب المعلومات لتحصيله كما هو طريقة النّظر والكلام النّفسي لا يتصوّر إلاّ بعد ذكر الكلام اللّفظي فكيف يكون دليلا عليه وفيه أنّه لا يجوز أن يتصور أنّ في شرب الخمر مثلا خطابات نفسيّة ثم يستنبط تفصيلها بالخطابات اللّفظية فالأولى هو الوجه الأول إلاّ أنه قد أورد عليه بأنّ اللفظ وإن كان بالنّسبة إلى نفس المعنى دالا أنّه بالنّسبة إلى ثبوت المعنى في ذهن المتكلّم دليل بضميمة مقدمات أخر من كون المتكلم عاقلا غير عابث واللفظ موضوع للمعنى ولم ينصب القرينة فيجب أن يكون المعنى

 

مراده فاللّفظ بالنّسبة إلى ثبوت المعنى في نفس المتكلّم الّذي قد يقال إنّه الكلام النفسي دليل لا دال فتأمّل (ومنها) أنّ الكلام النّفسي غير معقول وبيان هذه الدّعوى محتاج إلى بسط المقال فنقول قد ذكر الأشاعرة أنّ من جملة صفاته تعالى المتكلم ويشترط في صدق المشتق على شيء قيام المبدإ بذلك الشيء ومبدإ المتكلّم الكلام فيشترط في صدق المتكلّم عليه تعالى باعتبار إيجاده الصّوت القائم بالهواء لما قلنا من اشتراط قيام المبدإ بالموصوف وإلاّ لجاز إطلاق المتحرك عليه باعتبار إيجاده الحركة في الأفلاك وحينئذ فلا بد أن يكون معنى قائما بذاته تعالى ثم إنّ بعضهم قال إنّه عبارة عن مدلول الألفاظ وهذا لا يدفع المحذور لأنّ مدلول الألفاظ حادث كحدوثها فإنّ مدلول قال الله (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) لا يمكن أن يكون قديما لأنّه إخبار عن الماضي ولذا قال بعضهم إنّ الكلام معنى بسيط قديم قائم بذاته تعالى قابل للشئونات المختلفة من الأمر والنّهي والإخبار وغير ذلك باعتبار المتعلّقات والإضافات وقد يتمسّك لمذهبهم بأنّ الكلام لغة موضوع لمعاني الألفاظ أو للألفاظ المتصوّرة الذّهنية قبل النطق فإنّ النطق متأخّر عن تصوّر الألفاظ والكلام اسم لذلك ولذا قال الشاعر إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فهو لغة اسم للنفسيّ لا للفظي (ثم) إنّهم بنوا على قولهم من اشتراط قيام مبدإ المشتق بموصوفه دعواهم أنّ صفاته تعالى مغايرة مع ذاته فإنّ صدق قيام شيء بشيء يستدعي تحقّق المغايرة بينهما واستدلّ الرّازي على هذا المطلب بوجوه لا بأس بذكرها لتعلّقها بالمقام (منها) القياس بهذا الترتيب ذاته تعالى غير معلوم لنا وصفاته تعالى معلومة لنا وغير المعلوم غير المعلوم فذاته غير صفاته (ومنها) أنّه لو لا المغايرة لكان قولنا الله عالم قادر بمنزلة الذات ذات فلم يكن للنزاع في ثبوت الصفات له تعالى معنى لبداهة كون الذات ذاتا (ومنها) أنّه لو لا المغايرة لكانت الصفات أيضا متّحدة لأنّها عين الذّات وحينئذ فيكون إثبات إحدى الصفات مغنيا عن إثبات البواقي لاتحادها (ومنها) أنّ صفاتها الثبوتيّة موجودات لا سلوب وإضافات والموجودات لا يمتاز أحدها عن الآخر إلاّ بالمغايرة هذا ما ذكروه في المقام ولا بدّ أوّلا من ذكر معنى الصّفة وأقسامها ليظهر ما هو الحق في المقام فنقول من المعلوم أن الصّفة غير الموصوف إذا الصّفة عرض والموصوف معروض لكن المغايرة على قسمين حقيقي وهو أن يكون الصّفة موجودة في الخارج بوجود مشتمل غير وجود الموصوف كالبياض للجسم والكتابة للكاتب ويسمّى الوصف الخارجي واعتباري وهو أن لا يكون لها وجود مستقل في الخارج غير وجود الموصوف بل لها منشأ انتزاع في الخارج وهو إمّا

 

ذات الموصوف كالوجود للواجب فإن ذاته كاف في انتزاع الوجود منه وإمّا بواسطة ملاحظة حيثية من الحيثيّات الاعتباريّة كالوجود للممكن فإنّه ينزع منه بملاحظة حيثية الاستناد إلى العلّة لا من نفس ذاته وهذه الحيثيّة المذكورة قد تكون تقييديّة وقد تكون تعليلية لثبوت الوصف كالاستناد إلى العلة فإنّه علة لاتّصاف الممكن بالوصف وهذا لا دخل له بما يكون فيه الحيثيّة للحكم بالاتصاف لا لنفس الاتّصاف فإنه لا يستلزم حيثية أخرى زائدة ولو اعتبارا بل يكون نفس ملاحظة الاتصاف كافيا في الحكم به ومن هذا القسم صفاته تعالى الذاتية فإن حيثيّة انكشاف الأشياء له تعالى ليست علة لاتّصافه بوصف العلم بل هي علّة للحكم بالاتّصاف فالوصف فيه عين الموصوف وحينئذ فنقول لا كلام في الوصف الخارجي وأمّا الاعتباري فلا شبهة في أنّ الّذي ينتزع من نفس الذّات هو عين الموصوف فإنّ معنى العينيّة أنّهما ليسا موجودين بوجودين ومعنى الانتزاع أنّ العقل إذا لاحظ الشيء حكم بأنّه متّصف في الخارج بهذا الوصف الذّهني ولا ينافي ذلك عدم وجود الوصف في الخارج كالإمكان للشيء فإن العقل إذا لاحظ الإنسان حكم عليه بأنّه ممكن والإمكان ليس وصفا خارجيّا بل هو وصف ذهني ومع ذلك حكم به على الأمر الخارجي ومن الاعتباري المعقولات الثانية كالكلية والجزئيّة فإنّها وصف ذهني للأمور الذّهنية بشرط الوجود الذّهني وبهذا يفترق عما ذكرنا إذ يمكن فيه كون الموضوع فيه موجودا خارجيا كالإمكان وقد يقال إنّ القسم الّذي ينتزع فيه الوصف بواسطة الحيثية التّعليليّة الوصف فيه أيضا عين الموصوف كما قال الأشاعرة إنّ وجود الإنسان عين ماهيّته وفيه نظر فإنّ الحيثيّة التقييديّة أو التّعليليّة لا بدّ من اعتبارها مع الذات في انتزاع الصّفة وهي علة لها في الواقع أيضا وواسطة في الثبوت فكيف يكون الوصف فيه عين الموصوف ولا دخل له بقول الأشاعرة فإن مرادهم من عينيّة الوجود والماهيّة أنّهما ليسا بمنزلة السواد والجسم وهاهنا إشكال يرد على القول بعينيّة الأوصاف الاعتباريّة مع موصوفها وهو الإشكال الّذي ورد على القول بأن الإمكان وجودي وهو أنّ الإمكان ليس شيئا موجودا في الخارج بل هو موجود ذهني على القول بوجوده والذّهن مرآة الخارج وظلّ للموجودات الخارجيّة فإذا كان الشيء موجودا في الذّهن دون الخارج كان جهلا مركّبا ونظيره أورد في المقام فإن الوصف الاعتباري الموجود في الذّهن لو لم يكن موجودا في الخارج كان جهلا مركّبا وإن كان موجودا في الخارج كان غير الموصوف ولذا قال جماعة إنّ صفاته تعالى يراد منها سلب الأضداد فالمراد بكونه عالما أنّه ليس جاهلا وهكذا لأنّ الصّفة

 

إن كانت موجودة في الخارج لزم التركيب في الخارج وإلاّ كان جهلا مركبا وأيّدوه بقوله تعالى وكمال توحيده نفي الصّفات عنه والجواب أن الذهن إن كان حاكيا عن الخارج ولم يطابقه كان جهلا مركبا وأمّا إن لم يكن حاكيا عن الخارج فلا يلزم فيه المطابقة للخارج بل يكفي فيه المطابقة لنفس الأمر ومعنى عدم الحكاية عن الخارج أنّه حكم عقلي الموجود الخارجي وصدقه إنما هو بالمطابقة لنفس الأمر فقولنا الإنسان ممكن معناه أنّ الإنسان محكوم بحكم العقل بالإمكان فصدقه مطابقته لنفس الأمر ولا يكفي المطابقة للذّهن لإمكان تصور الكواذب وبهذا نجيب عن الإشكال في المقام فإن ذاته تعالى بسيط من جميع الجهات لكن العقل يحكم باعتبار الحيثيّات بأحكام من كونه عالما قادرا بمعنى أنّ الذات الخارجي هو المنشأ لهذه الآثار بخلاف الممكنات فإنّ ذواتها ليست منشأ لهذه الصّفات بل بواسطة قوّة ذهنيّة موجودة معها في الخارج والصفة قد يراد منها المعنى المصدري ويطلق عليه الأثر بهذا الاعتبار وقد يراد منها المبدأ للأثر فعلى المعنى الأوّل معنى كون الصّفة عين الذّات أنّ الذّات هو المنشأ لهذه الآثار من دون حاجة إلى ضمّ ضميمة إليه وعلى المعنى الثاني معناه أن الذّات يترتّب عليه ما يترتب على هذه المبادي فافهم فلا يلزم تركيب في الذات ويظهر وجه اتحاد الصّفة والموصوف ولا يلزم الجهل المركب وهذا الجواب أحسن مما قيل إنّ صفة العلم والقدرة لانتزع من نفس الذّات حتّى يلزم التركيب بل إنما تنزع منه بواسطة الحيثيّات وملاحظة ترتب الآثار وإن كان ترتب الآثار ناشئا من نفس الذّات بلا واسطة لكن انتزاع مفهوم العالم مثلا إنّما هو من الذات مع ملاحظة ترتب الآثار عليه فالعلم ينتزع باعتبار ملاحظة المعلوم والقدرة باعتبار المقدور فليس منتزعا من الذات حتى يلزم التركيب وفيه أنّه يستلزم الفرق بين صفة الوجود والعلم مع أنّهم لم يفرقوا بينهما من حيث كونهما من صفات الذّات وإن فرقوا بينهما من جهة أخرى وهي أنّ الوجود من صفات الذات غير ذات الإضافة والعلم من صفات الذّات ذات الإضافة وفرق بين صفة الذّات ذات الإضافة وبين الصّفات الإضافيّة وهي صفات الفعل فإنّها إضافيّة لا بدّ في اعتبارها من ملاحظة الطرف المقابل كالأخوّة والأبوّة مثلا بخلاف العلم أو القدرة فإنّ معنى العلم ما به ينكشف الأشياء وهو في الممكن أمر زائد وهو الصّورة الحاصلة وفي الواجب هو الذات وكيف كان فهو شيء مستقل يلزمه تعلقه بشيء آخر فافهم والحاصل أنّهما ينتزعان من الذّات ومعنى الانتزاع حكم العقل بأنّ الذات منشأ لهذه الآثار ولا يلزم التركيب إذ لا يلزم أن يكون له وجود في الخارج كما عرفت ويؤيّد ما ذكرنا من أنّ الوجود في الذهن لا يستلزم الوجود في الخارج ما ذكره الشيخ في الإشارات من أنّ أجزاء حدّ

 

البسيط أجزاء لحدّه لا لقوامه وهو شيء نفرضه وأمّا هو في ذاته فلا جزء له وأمّا الحق فاعتقادنا فيه أنّه ليس مركبا من الأجزاء الخارجيّة وأمّا الأجزاء الذهنيّة فهي لم تثبت في الماهيّات المتأصّلة الممكنة فضلا عن الواجب إذ ما يعبرون به في حدودها يحتمل أن يكون من قبيل إطلاق صفة العلم والقدرة ونحوهما على الواجب فكما أن تلك الصفات مع تكثّرها لا توجب التركيب في الذات فكذا ما يعبرون به في الماهيّات انتهى مع أدنى تغيير وجه التأييد أنّ معنى ما ذكر هو أنّ أجزاء حد البسيط ليست أجزاء خارجيّة بل إنّما هي أجزاء ذهنيّة فيمكن فرض الجنس والفصل للبسيط إذ لا يلزم التركيب الخارجي ويمكن أن يكون المراد أن ما يذكر في حدود البسائط كالألوان مثلا إنما هو من العوارض واللوازم كغير البسائط فإنّ النّطق ليس من ذاتيات الإنسان بل هو كالضّحك وإنّما الذّاتي هو مبدؤه ومنشؤه وحاصل الكلام أن الصّفة إن كانت مطلقا بالمعنى المصدري فمعنى كونها عين الذّات أنّ الذّات هو مبدؤها ومنشؤها وإن كانت بمعنى المبدإ والصورة الحاصلة فمعنى كونها عين الذّات أنّ الذّات وحده يترتب عليه ما يترتب على الذّات مع المبدإ في الممكن وهو ظاهر لا إشكال فيه إنما الإشكال في الفرق بين صفات الذات كالعلم وصفات الفعل كالخلق إذ لو أريد مفهوم اللفظ فهو غير الذّات مطلقا قطعا وإن أريد المصداق والمبدأ فهو نفس الذّات في الجميع ويمكن الجواب بأنّ صفات الفعل معناها نفس الفعل كالخلق والرزق ونحوهما فإنّ فعل الشخص من صفاته هي لكونها أمرا اعتباريا منتزعا من تأثير العلة في المعلول لا يمتنع كونها زائدة على الذّات والكمال هو كون العلّة بحيث يترتّب عليه الآثار لا أصل نفس الفعل فلا يقدح حدوثه إذ لا يلزم النّقص في الواجب حين انتفائه بخلاف العلم والقدرة فإنّ المراد بهما المبدأ وهو نفس الذّات وأمّا أنّ المراد بالعلم هو المبدأ وبالخالق الذات باعتبار الفعل فهو ناظر إلى الأمر العرفي فإنّه تعالى وصف نفسه بالعالم والخالق فيرجع إلى اصطلاح القوم وهم يفهمون من العالم من له قوة العلم ومن الخالق الخلق الفعلي ولا مشاحة في الاصطلاح كذا أجاب بعضهم وما ذكرنا من عينيّة الصفات بالمعنى الّذي تقدّم هو مذهب الإماميّة والمعتزلة وهناك أقوال آخر لا بأس بالإشارة إليها منها مذهب الأشاعرة وهو أن علمه تعالى زائد على ذاته وموجود مستقل وصور مرتسمة في ذاته تعالى إلاّ أنّ العلم على قسمين أحدهما انتقاش صورة الشيء بعد رؤيته مثلا كالعلم بالشمس بعد رؤيتها والثّاني تصوّر الشيء قبل وجوده كما يتصوّر الفخار وصورة الكوز ويسمى الأوّل بالعلم الانفعالي والثّاني بالعلم الفعلي وعلمه تعالى من القسم الثّاني ومنها أنّ علمه ليس بالصّورة

 

الحاصلة بل هو عبارة عن الأعيان الثابتة القائمة بذاتها الواسطة بين الموجودات والمقدمات وعلمه بها حضورها عنده تعالى لا بصورها كعلم الشخص بنفسه فإنّه ليس بالصورة بل بحضوره عنده إذ ليس الشخص فاقدا لنفسه ومنها مذهب الحكماء وهو أنّ علمه تعالى إنما هو بالصور الحاصلة في العقل الأوّل وعلمه بالعقل الأوّل حضوري لأنّه حاضر عنده بغير صورة ومنها ما ذكره بعضهم من أنّ علمه بالأشياء زائد على ذاته ولا يلزم تركّب الواجب فإنّه إنّما يلزم ذلك إذا كان علمه بالأشياء في مرتبة الذّات وليس كذلك فإنّه ثابت بواسطة علمه بذاته فإن علمه بذاته حضوري وذاته علة جميع الآثار فيستلزم علمه بذاته علمه بجميع آثار ذاته أيضا والكل فاسد أمّا إجمالا فبالإجماع وأمّا تفصيلا فبأنّهم قد ذكروا أن الواجب الوجود بالذّات من جهة يجب أن يكون واجبا من جميع الجهات إذ لو كان فيه جهة ممكنة لكانت محتاجة إلى علة ينتهي إلى الواجب وقد ثبت ببرهان التوحيد أنّ الواجب لا يتعدّد فيجب أن يكون علّة تلك الجهة نفس الواجب فيلزم أن يكون الواجب فاعلا وقابلا من جهة واحدة إذ المفروض أنّ تلك الجهة مأخوذة في الواجب وإن فرضت فيه الجهتين لزم التركيب في الواجب من جهة الفعل وجهة القبول وهو محال وبهذا يظهر أنّ كل صفة أمكن وجودها في الواجب بالإمكان العام وجب ثبوتها له وكونها عين الذّات إذ لو كانت ممكنة بالإمكان الخاصّ لاحتاج ثبوتها للواجب إلى علّة هي نفس الواجب فيلزم تركب الواجب من جهتي الفعل والقبول وقد يقرر هكذا لو كان في الواجب جهة إمكان لاحتاج ثبوتها وعدم ثبوتها إلى علة إذ هو معنى الممكن فيجب أن يكون الواجب معلولا في بعض جهاته إمّا لنفسه وهو مستلزم لتقدّم الشيء على النّفس أو لغيره وهو يقتضي الخروج عن الوجوب وقد يقدر بأن جهة الإمكان إن كانت معتبرة في جهة الوجوب خرج جهة الوجوب إلى الإمكان وإلاّ فلا معنى لجواز ثبوته للواجب إذ لا يجوز التغيّر في الواجب وكيف كان ظهر لك بطلان الأقوال الأخر إذ الأوّل مستلزم للتّركيب والثّاني غير معقول إلى الواسطة بين الوجود والعدم والثالث مستلزم للنقص إذ لم يجعل العلم في مرتبة الذات مضافا إلى أنّ علم العقل الأوّل لا بدّ له من علة تنتهي إلى علم الواجب وكذا الرابع فإنّه جعل العلم في غير مرتبة الذات فهو مستلزم لأن يكون في مرتبة الذات ناقصا وهو باطل بإجماع الأنبياء وأهل الملل والعقلاء وإقرار الخصم وعلم مما ذكرنا بطلان ما استدلّ به الرازي من الوجوه الأربعة أمّا الأوّل فبأنّ كنه الذات مجهول ومفهوم الصّفات معلوم وكنه الذّات غير مفهوم الصّفات كما ذكرنا وأمّا الثّاني فبأنّ النزاع يرجع إلى أنّ الذات هل ينتزع منها الصّفة الفلانية أو لا وبه يعلم بطلان الثالث أيضا فإن مصاديق الصّفات واحدة وأمّا المفاهيم فمتغايرة

 

والنزاع يرجع إلى جواز انتزاع هذا المفهوم من الذات وعدمه وأمّا الرّابع فبأنّ مصداق الصفات موجود وأمّا مفهوماتها فأمور اعتبارية متغايرة وهو لا يوجب تغاير المصداق بقي الجواب عن استدلال الأشاعرة بالمسألة اللغوية فنقول الجواب الإجمالي أنّه بعد ما قام الدّليل العقلي على أن صفاته تعالى عين ذاته نقول إنّ إطلاق المشتق عليه مجاز لغوي وأمّا الجواب التفصيلي فهو متوقف على فهم معنى المشتق والمبدإ وأنّه هل يشترط المغايرة بينهما وهل يشترط قيام المبدإ به أو لا فنقول قيل إنّ الذّات غير مأخوذة في المشتق بل المشتق عين المبدإ إلا أنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا والمشتق مأخوذ لا بشرط كالفرق بين الجنس والمادة فإنّ الجسم إن لوحظ بشرط أن لا يكون معه شيء آخر بل كل ما فرض معه يكون خارجا عنه يكون مادة وإن لوحظ لا بشرط بحيث يجوز فرض شيء آخر معه داخل فيه فهو جنس ولهذا يجوز حمل الجنس على النوع ولا يجوز حمل المادة عليه فكذا نقول في المبدإ والمشتق وحينئذ يكون الفرق بينهما اعتباريّا كما ذكر المنطقيّون أنّ الفرق بين النّطق والناطق اعتباري وحينئذ فنقول الحمل عبارة عن اتحاد الوجودين ووجود العلم عين وجود العالم إذ ليس المراد وجود ذات العالم بل المراد وجود العالم بعنوان أنّه عالم فالوجودان متحدان فلا ضرر في حمل أحدهما على الآخر فيقال العالم علم وبالعكس إذا لاحظ المبدأ لا بشرط ولو كان الذات مأخوذا في المشتق فإمّا يكون المراد مفهوم الذات فيلزم أن يكون الفصل عرضيّا كالناطق فإنّ مفهوم ذات ثبت له النطق ليس ذاتيّا للإنسان وإمّا أن يكون المراد مصداق الذات فيلزم انقلاب الممكنة ضروريّة فإنّ قولنا زيد كاتب ممكنة ولو لوحظ مصداق الذّات لكانت ضرورية لضروريّة أنّ الذات ذات انتهى وفيه نظر لأن كلمات المنطقيين ليست بملاحظة اللغة وإنّما هي لبيان ما يتعلّق به غرضهم من الأجناس والفصول فإنّ كنه الفصول مما لا يدركه العقل وإنما يدرك ببعض الخواصّ النّاشئة منه فالمراد بالنطق الّذي هو الفصل مبدؤه الّذي هو غير مدرك بكنهه وقولهم الناطق متّحد مع المبدإ وجودا ليس المراد به مبدأ الاشتقاق بل المراد به مبدأ النطق وهو القوّة فليس له تعلق بالاشتقاق وأمّا انقلاب الممكنة فباطل لأن الذّات مع أخذ الكتابة فيه ليست بضروري الثبوت لزيد نعم الذات البحت ضروري الثبوت وهو ليس معنى المشتقّ فالحق أنّ الذّات مأخوذة في المشتق لغة ولكن المغايرة المفهوميّة كافية بين الذات والصّفة وهي المغايرة الذهنيّة كما سلف فافهم ولعلّك تسمع للمطلب زيادة توضيح في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى الثاني أنّ المراد بالأحكام إمّا العموم فيلزم خروج أكثر الفقهاء بل كلهم وإن أريد البعض دخل المتجزي وأجيب أوّلا باختيار الشقّ الأوّل وهو أنّ المراد جميع الأحكام ولكن بحمل العلم على الملكة وثانيا باختيار

 

الثاني وهو أنّ المراد بعض الأحكام والتجزي إن قلنا باستحالته فلا إشكال وإن قلنا بإمكانه فإن كان علمه حجة فلا ضرر في دخوله وإلاّ فإن كان التّعريف للفقه مطلقا أعمّ من الصحيح والفاسد فلا ضرر في دخوله أيضا وإن كان للفقه الصّحيح ورد الإشكال ويمكن أن يجاب بخروجه بقيد العلم بالأحكام لما يأتي أنّ المراد الأحكام الظّاهريّة والمتجزي لا علم له بالحكم الظاهريّ إذ ليس حجّة في حقّه واعترض على المجيب بوجوه أحدها أنّ جعل العلم بمعنى الملكة باطل لوجوه منها أنّ الملكة لا تتعدّى بالباء فلا معنى لأن يقال الملكة بالأحكام ومنها أنّ ملكة الأحكام لا تحصل من الأدلّة بل من الممارسة والمزاولة إلاّ أنّ يجعل الظّرف متعلقا بالأحكام ومنها أنّ أسماء العلوم ليست أسماء للملكات بل لنفس المسائل أو لإدراكها ومنها أنّ إرادة الملكة مستلزمة لسبك المجاز عن المجاز بضميمة ما يقال إن المراد من العلم هو الظن لأنّ أكثر الأحكام ظنيّة فيكون استعمال العلم في ملكة الظنّ من قبيل سبك المجاز عن المجاز والثّاني أنّ تسليم دخول المتجزي بناء على إرادة البعض لا وجه له مطلقا لأنّ المراد ليس البعض مطلقا بل المراد القدر المعتدّ به فالمتجزّي إن لم يعلم القدر المعتدّ به فقد خرج وإن علم به وكان حجّة فلا وجه لإخراجه وإلاّ فليس بداخل لأنّ المراد الجزم بالحكم الظّاهري ولكن يلزم على هذا خروج من ليس له العلم بالقدر المعتدّ به وإن كان له ملكة الكلّ وهذا غير بعيد بل هو كذلك وإن كان تحقق هذا الفرض بعيدا أقول أمّا قوله الملكة لا تتعدى بالباء فيمكن دفعه بأنّ المراد ملكة الظنّ وأمّا قوله إنّ الملكة تحصل بالممارسة فيدفع بتعلّق الجار بالأحكام وأمّا قوله إنّ أسماء العلوم ليست أسماء للملكات فهو محلّ إشكال وفيه أقوال ثلاثة أحدها أنّها أسماء للملكات والثّاني أنها أسماء لجميع المسائل والثالث أنّها أسماء للمسائل المعروفة وأمّا المتجدّدة فراجعة إليها ويشكل الأوّل بأنّه يلزم عليه صحّة إطلاق الفقيه على من لم يعرف مسألة من الفقه فعلا ولكن كان له القوة والملكة وليس كذلك والثاني بأنّه يلزم عليه أن لا يطلق الفقيه على أحد إذ لا يعرف جميع المسائل إلاّ الله والثالث بأنّه إنما يتمّ إرجاع المسائل المتجدّدة إلى المعروفة عند اتحاد موضوع المسألتين وأمّا عند اختلافهما فلا كما لو كان المعروف من مسائل النحو أنّ الفاعل مرفوع فلا يمكن إرجاع المفعول منصوب إليه إذ لا ربط بينهما فيلزم أن لا يكون من النحو ويمكن دفع الإيراد الثاني بالتسليم بأن يقال إنّ الفقه اسم للعلم بالجميع فلا أحد يعلم الفقه بل كلّ فقيه فهو عالم ببعض الفقه فيكون الفقه علم شخص للمسائل إذ لا جامع بين المسائل المختلفة حتى يكون اسم جنس أو علم جنس ولكن إذا تعقب بالعلم أو أطلق على إدراك المسائل كان المراد أعم من بعض

 

المسائل وكلها فلو علم بعض المسائل صدق عليه الفقيه بهذا المعنى كما لو علم الجميع وكيف كان فلهذا الإشكال وجه وأمّا قوله إنّ إرادة الملكة مستلزمة لسبك المجاز عن المجاز فنقول عليه إنّ سبك المجاز عن المجاز أقسام أحدها ما هو المعروف من أن يستعمل اللّفظ في معنى مجازيّ ومنه في مجاز آخر بالنسبة إلى ذلك المعنى المجازي والثاني أن يستعمل اللّفظ في معنى لمناسبته مع المعنى المجازي من دون أن يكون له مناسبة مع المعنى الحقيقي ولو بالواسطة ولا ريب في فساد هذين القسمين والثالث أن يستعمل في معنى مناسب للمعنى المجازي بحيث يحصل المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي بواسطة تلك المناسبة كاستعمال الأسد في زيد لمناسبة مع الشجاع المناسب للأسد في الشجاعة والرابع أن يستعمل في المجاز المناسب ويراد المجاز الغير المناسب بادّعاء أنّه من الأفراد المناسبة كاستعمال العلم في الظنّ الفعلي وإرادة الملكة منه بادّعاء أنّها من أقسام الظنّ الفعلي ويمكن ادعاء عدم الدّليل على فساد هذين القسمين بل الدّليل قائم على صحتهما أمّا الأوّل فلاستعمال الأسد في زيد في العرف شائعا وأمّا الثاني فلحكم المحققين بإرادة ملكة الظنّ من العلم وهو كاف في إثبات صحّة الاستعمال ولكن التحقيق فسادهما أيضا لتوقيفية الاستعمال ولم يثبت أمّا الأوّل فلأنّ استعمال الشجاع في زيد غير ثابت بل هو من قبيل إطلاق الكلي على الفرد وهو ليس بمجاز وأمّا الثاني فلمنع عدم مناسبة ملكة الظنّ للعلم بل المناسبة متحققة وهي المشابهة في السببية للإدراك فهو مستعمل فيها ابتداء ولا يلزم سبك المجاز عن المجاز حتى يكون باطلا وأمّا الاعتراض الثاني وقوله بإرادة القدر المعتد به فقد عرفت أنّه لا وجه له بل التحقيق أن يقال إن كان المراد بالأحكام الجميع وبالعلم العلم الفعلي لم يدخل أحد في الفقيه ولكن كل فقيه يعرف بعض الفقه وأمّا علم المتجزي على فرض إمكانه فإن كان حجّة صدق عليه العلم ببعض الفقه وإلا فلا وإن كان المراد بالأحكام البعض فإن أريد القدر المعتدّ به خرج غير العالم به مطلقا ودخل المتجزي العالم به وإن أريد البعض مطلقا دخل المتجزي وعلى التّقديرين إن كان حجة فلا ضرر وإلا خرج بما بينا الثالث أنّ الفقه كله ظنيات فتعريفه بالعلم بالأحكام فاسد وأجيب عنه بوجوه منها أنّ المراد هو الظنّ بعلاقة وجوب العمل ومنها أنّ المراد الاعتقاد الراجح بعلاقة رجحان الحصول ويردّهما عدم وجود القرينة ومنها أنّ المراد من العلم هو معناه الحقيقي ولكن المراد من الأحكام الأعمّ من الأحكام الواقعيّة والظّاهرية والحكم الظّاهري معلوم واعترض عليه بأنّ الفقه هو العلم بخصوص الحكم الظّاهري لأنه الّذي يبنى عليه في مقام العمل والفقه موضوعه عمل المكلّف فالتعميم للظاهريّ والواقعي لا وجه له وفيه

 

نظر لأنّ الحكم الواقعي قد يكون معلوما فيتعلّق بالعمل ولا يسمّى حينئذ حكما ظاهريّا فالتعميم أولى ولكن فيه إشكالات أحدها أنّ الفقه ليس عبارة عن العلم بالحكم الظاهري لأنّ الفقه إنّما يبحث فيه عن ثبوت الأحكام الواقعية لموضوعاتها لأنّ الحكم الظاهري ليس قابلا للنّفي والإثبات والنّزاع والجدال فلا يكون البحث عن المسائل المختلف فيها بحثا عن الفقه وهو ظاهر البطلان لأنّ الفقه إمّا اسم للمسائل أو للعلم بها والثاني أنّ العلم بالحكم الظّاهري ليس حاصلا من الأدلّة التفصيليّة بل إنما يحصل من دليل اعتبار تلك الأدلّة إذ المراد بالحكم الظّاهري هو هذا لا مثل الوجوب الثّابت بالاستصحاب والطّهارة الثّابتة بالأصل فإنّه هنا داخل في الحكم الواقعي وإن أطلق عليه الحكم الظّاهري باصطلاح آخر وأجيب عنه بوجوه منها أنّ الظرف متعلق بالعلم باعتبار ما تضمّنه من معنى مطلق الاعتقاد فلا يجب أن يكون الجزم به أيضا حاصلا من تلك الأدلّة ولا ريب أنّ هذا بعيد جدّا ومنها أن الظّرف متعلّق بالمستنبطة المقدّرة صفة للأحكام ويخرج علم الملائكة والأنبياء بقيد الحيثيّة ومنها أنّه متعلق بالعلم والحكم مظنون فالمدرك مظنون وظنية المدرك لا يستلزم ظنية الإدراك وفيه أنّه إن كان المراد عدم التنافي بين ظنيّة المدرك وقطعيّة الإدراك الّذي أدرك به ذلك المدرك فهو ظاهر البطلان وإن أريد إدراك آخر متعلق بذلك المدرك فهو ممكن لأنّ الحكم إذا صار مظنونا بسبب الأدلّة أدرك النفس ظنيتها قطعا فينحصر الأحكام المظنونة عند النّفس بسبب تلك الأدلّة والنفس عالم بمظنوناتها ولكن يلزم كون الفقه من قبيل التّصورات وهو فاسد فالأولى أن يقال إنّ الفقه هو العلم بالأحكام عن الأدلّة المعتبرة والعلم بالحكم الظّاهري أيضا حاصل من الأدلّة المعتبرة أمّا أصل الاعتقاد فمن ذات الدليل وأمّا الجزم فمن اعتبار ذلك الدليل لكن التحقيق ما عرفت أن الفقه عبارة عن الأحكام الواقعية لا الظاهريّة فالإيراد وارد إلاّ أن يراد من العلم مطلق الاعتقاد فيرد عليه ما سلف والثالث أنه كيف يكون الواقعي مظنونا وطريقه قطعيّا كما قيل إنّ ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم وأجيب بأنّ الحكم الواقعي مظنون بمقتضى دليله ولكن مقتضى دليل حجيّة ذلك الدّليل أنّ ذلك المظنون يصير حكما شرعيّا فيكون مظنون الوجوب واجبا ومظنون الحرمة حراما ولا تنافي بين كون ذات العمل مظنون الوجوب وكونه واجبا من حيث إنّه مظنون الوجوب وقيل ليس مقتضى دليل حجية الأدلة إلاّ وجوب العمل بمقتضاها لا صيرورة مقتضاها حكما شرعيّا في الظاهر وتصوير الفرق بين القولين مشكل ومحلّه مسألة التخطئة والتصويب وسيأتي إن شاء الله هذا تمام الكلام في

 

بيان المضاف والمضاف إليه من أصول الفقه بقي معنى الإضافة ومقتضاها فنقول قيل إنّ الإضافة تفيد الاختصاص فإن كانت إضافة اسم المعنى أفادت الاختصاص في الوصف العنواني نحو هذا مملوك زيد فإنّه يفيد الاختصاص في الملك وإن كانت في الأعيان أفادت الاختصاص لكن لا يعلم جهة الاختصاص إذ ليس فيه الوصف العنواني وعلى هذا فمعنى أصول الفقه المباني المختصّة بالفقه والاختصاص أعمّ من الاختصاص في التّدوين ليشتمل بعض مسائل الأصول الّذي يستنبط منه غير الفقه أيضا ولكن تمهيد إنّما هو لأجل الفقه فينحصر في المعنى العلمي وهو علم الأصول فظهر المناسبة بين المعنى العلمي والإضافي فإنّ المراد بالأصول على ما سبق هو المعنى اللغوي لا الدليل والقاعدة لما سبق وفيه نظر إذ لا نسلم كون الإضافة مفيدة للاختصاص وإلاّ لزم إفادته في مثل الله ربّي ومحمّد نبيّي ونحو ذلك وأمّا في مثل هذا مملوك زيد فاستفادة الاختصاص إنّما هو من عدم قابلية كون المال الواحد تمامه ملكا لشخصين وتعميم الاختصاص يوجب شمول الأصول للرجال أيضا لأنّ تمهيده إنما هو لأجل الفقه وحينئذ فيشمل كلما يبتني عليه الفقه فيكون أعمّ من المعنى العلمي إلا أن يحمل الإضافة على العهد ولا دليل عليه

الأمر الرابع في بيان موضوع علم الأصول

فنقول قد استشكل في كون الأصول علما مستقلا حتّى يكون له موضوع وذلك لاختلاف موضوعات مسائله لاختلافها فبعضها من علم العربيّة وبعضها من الحكمة وبعضها من غيرهما فليس بعلم مستقل بل هو عبارة عن مجموع مسائل متفرّقة من علوم متفرّقة مختلفة في الموضوع قد اجتمعت في الأصول فيتكلّمون فيها هنا لأنّ أكثر الطلبة لا يتقنونها في محلّها ولا يمكن إتقان الفقه بدون إتقانها وهذا هو مقتضى تعريفه بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام فإنّه موجب لعدم كون الأصول علما مستقلا إذ لا موضوع له حينئذ وتمايز العلوم إنّما هو بتمايز الموضوعات وقيل إنّ موضوع الأصول هو أدلة الفقه يعني الكتاب والسنّة والإجماع والعقل بعد فرض حجيّتها ونوقش فيه بأنّه يبحث في العلم عن عوارض الموضوع بعد إحرازه فلا يمكن التكلّم في علم الأصول في حجيّة الكتاب والسنّة والإجماع والعقل مع أنّ أكثر الأصول هو التكلّم في ذلك وفيه أنّه إنما يتم بالنسبة إلى الكتاب والعقل وأمّا السنّة والإجماع فلا لأنّهم إنما يتكلّمون في حجيّة الحديث ومعنى حجيّته أنّه هل يثبت السنة أعني قول المعصوم بالحديث أو لا فيكون بحثا عن عوارض السّنّة ولا يتكلّمون عن حجيّة السّنّة وكذا الكلام في حجيّة الإجماع أنّه هل يثبت به رأي المعصوم أو لا وقيل إنّ الموضوع هو ذات تلك الأدلّة أو كلّ ما يصلح أن يكون دليلا في نظر العرف لا شرعا ليدخل القياس والبحث عن

 

دليليّتها أيضا داخل في البحث عن عوارض الموضوع ولكن يشكل الأمر في بعض مسائل الأصول كمسائل الاجتهاد والتقليد ومقدّمة الواجب وأمثال ذلك ويمكن إدخال الأوّل بأن يقال البحث عن حال الأدلّة إمّا يكون عن دلالتها وإمّا يكون عن دليليّتها وعلى الثاني إمّا أن يكون عن دليليّتها في نفسها وإمّا يكون عن دليليّتها على بعض الأشخاص دون بعض ولكن يخرج مسائل التّقليد وتكون مذكورة بالتّبع والاستطراد وأمّا المسائل الآخر فيجب في إدراجها في الأصول وتميز موضوعاتها وأنها داخلة في العلم أو في المبادي اللغويّة أو الأحكامية من إمعان نظر وإعمال فكر لأنّ بعضها مما لا يمكن إدراجها في الأصول إلاّ بتكلّف وبعضها مما وقع الخلاف فيها كمسألة اجتماع الأمر والنهي حيث قيل بدخولها في المسائل الكلاميّة وقيل غير ذلك وليس هنا مقام تحقيق ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى فلنقتصر على ما ذكرنا فإن فيه كفاية

أصل في علائم الوضع

قد تداول بين الأصوليّين ذكر جملة مما يثبت به الحقيقة والمجاز في كتبهم ويتكلّمون على كيفيّة ثبوتها بها كنقل أئمة اللّغة والاستقراء إذ لا فرق بين الوضع الهيئتي الثابت بالاستقراء والمادي الثابت بغيره وكالتبادر وصحّة السّلب والاطراد وغيرها حتى أنّ بعضهم استدل في إثبات أنّ للعام صيغة تخصه بالعقل وإنّ مقتضى الحكمة في الوضع أن يوضع للعام أيضا لفظ لكونه من المعاني المحتاج إليها في المخاطبات واقتصر الأغلب على بيان كيفية دلالتها على الحقيقيّة والمجازيّة ولم يتعرضوا لوجه حجيّة المذكورات على فرض الدلالة إلاّ القليل مع أنّه أهم فلنقدّم الكلام فيه فنقول اختلفوا في أنّ وجه حجيّة الأمور المذكورة هل هو أمر واحد هو المدار في الحجيّة إن وجد كان حجّة وإلاّ فلا أو إن كلاّ منها أمر مستقلّ ثبت حجيّته بالخصوص ذهب إلى كل فريق والأوّلون اختلفوا في أنّ المدار في الحجيّة هو حصول العلم بالوضع لانفتاح باب العلم في اللّغة وتلك المذكورات أسباب لحصوله أو لا بل المدار هو الظن والمذكورات أسباب له ذهب إلى كل جماعة والقائلون بأنّ المدار على الظنّ اختلف كلماتهم في بيان وجه حجيّته في اللّغة فتارة استدلوا بتقرير المعصومين أصحابهم على العمل بالظنون في مقام تميز الحقيقة والمجاز بل أمروهم بتدوين علم اللّغة كما قرروهم على العمل بالظواهر في تعيين المراد في مقام المخاطبة بل ادعى بعضهم الإجماع على حجيّة الظنّ في اللغات وتارة استدلوا بانسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة واستلزام الاحتياط للعسر والحرج والبراءة للخروج عن الدّين فيثبت حجيّة الظن بالحكم الشرعي ولازمه حجية كلّ ظنّ استلزم الظّن بالحكم الشرعي كالظن في اللغات بقول

 

اللّغويّين وفي الرّجال بقول أصحاب الرّجال فإنّ قول اللّغويّ الصّعيد هو التّراب مثلا يحصل منه الظّنّ بأنّه معناه ويستلزم ذلك الظّنّ بأنّ الواجب في التّيمّم هو التّراب وهو حجّة فيكون ما يستلزمه أيضا حجّة وحينئذ لا نحتاج إلى القول بانسداد باب العلم في اللّغات بل يثبت حجّيّة الظّنّ فيها بالدليل المذكور وإن كان باب العلم فيها مفتوحا وتارة استدلّ بانسداد باب العلم في نفس اللّغات بتقرير أنّ الواجب علينا هو العمل بما في الكتاب والسّنة وهما من الألفاظ الّتي نحتاج إلى فهم معانيها وكذا جميع مباحث اللّغات محتاج إليها وباب العلم في ذلك منسد فإمّا نقول بالاحتياط أو البراءة أو العمل بالظّنّ والأوّلان باطلان بما مر والثّالث هو المطلوب وعلى هذا نحتاج إلى إبطال القول بالانفتاح في اللّغة وإبطال القول بحجّيّة المذكورات بخصوصها إذا الظّنّ المطلق لا يصير حجّة إلاّ بعد عدم التّمكن من الدّليل المعتبر علما أو بالظّنّ المعتبر الخاصّ ويظهر الثّمرة بين الاستدلالين الأخيرين في حجّيّة الظّنّ في الموضوعات كما لو أقرّ بالصّعيد أو نذر أو أوصى فعلى الأوّل لا يمكن العمل في تعيين معنى الصّعيد بالظّنّ الّذي كان معتبرا في باب التّيمّم إذ لا يستلزم هنا الظّنّ بالحكم الشّرعي الكلّي الّذي هو المناط في الحجّيّة وعلى الثّاني أعني إجراء دليل الانسداد في نفس اللغات لا يتفاوت الأمر بين الأحكام والموضوعات ونظير ذلك الظّنّ الحاصل بعدالة الرّاوي بتعديل واحد من أهل الرجال فإنّه حجّة في قبول روايته أمّا في صحّة الاقتداء به في الصّلاة فإن أجرينا الانسداد في الأحكام فلا يكون ذلك الظّنّ حجّة بل يحتاج إلى المعاشرة وإن أجريناه في نفس علم الرجال فيكون حجّة في صحة الاقتداء أيضا وأمّا القائلون بحجّيّة المذكورات بخصوصها فلم يتعرضوا لذلك إلاّ في أمور أحدها نقل اللّغويّين فتمسكوا في حجّيّته بالإجماع على العمل به وتقرير المعصومين وأمرهم أصحابهم بتدوين اللّغات مع تدوين غالب اللّغات في زمانهم وإلاّ لم يكن فائدة في ضبط اللّغات وتدوينها وحينئذ فحجّيّته هل هو بقيد شرعي لا يعتبر في النّاقل ما يحصل منه الظّنّ نوعا ككونه صدوقا ضابطا أو لا بل يعتبر ذلك أو يلزم الظّنّ فعلا أمّا الأوّل فباطل جدّا إذ ما ادّعي من الإجماع والسيرة قائم على خلافه فإن بناءهم على عدم الاعتماد على نقل الكذوب أو كثير السّهو وهو ظاهر وكذا الثّالث إذ ليس بناؤهم على التّوقف في العمل على حصول الظّنّ فعلا حتّى أنّه لو زال الظّنّ بسبب معارضة القياس مثلا لم يتركوا العمل بالنّقل ولو كان الظّنّ معتبرا فعلا وجب تركه مثبت حجّيّة من باب إفادة الظّنّ نوعا ولا يعتبر في النّاقل إلاّ الصّفات الّتي تصير سببا لحصول الرّجحان نوعا والثّاني في أصالة العدم وهي عبارة عن أصالة عدم الوضع وأصالة عدم القرينة وبالأوّل يثبت المجاز

 

وبالثّاني الحقيقة فإنّه إذا شك في أنّ تبادر ذلك المعنى من اللّفظ هل كان مستندا إلى القرينة أو لا فينفيها بالأصل فيثبت أنّ التّبادر وضعي لا إطلاقي ويرجع إلى أصالة عدم الوضع أصالة عدم النقل وأصالة عدم الاشتراك وأصالة تأخّر الوضع إذا الأوّل معناه أصالة عدم الوضع للمعنى الجديد وهجر المعنى الأوّل والثّاني معناه أصالة عدم الوضع لهذا المعنى المشكوك والثّالث معناه أصالة عدم الوضع في الزّمان السّابق على الزّمان الّذي علم تحقق الوضع فيه والكلام في حجّيّة المذكورات أيضا على النحو السابق هل هي تعبدي أو من باب الظّنّ النوعي فلا يضر مخالفة القياس بحيث يرتفع الظّنّ فعلا من المذكورات أو من باب الظّنّ الشخصي فيضر ذلك والأوّل باطل كالسّابق إذا التّعبّد المدعى هنا إمّا عقلي أو شرعي والأوّل ظاهر البطلان إذا العقل ناظر إلى الواقع فمتى لم يحصل الثّبوت الوضع الواقعي رجحان في نظره لا معنى لأن يحكم به لاستحالة التّرجيح بلا مرجّح وكذا الثّاني إذ ما يستدلّ به في المقام هو أدلّة حجّيّة الاستصحاب فنقول أمّا أولا فقد قيل بعدم شموله للمباحث اللّغويّة وهو محل تأمّل وأمّا ثانيا فنقول إجراء الاستصحاب في المقام باطل لكونه أصلا مثبتا وهو عبارة عما إذا ترتّب على إثبات شيء بالاستصحاب لوازمه العادية أو العقليّة وبواسطة ذلك يثبت الحكم الشرعي مثلا إذا شك في اشتراك لفظ واقع في الكتاب فبأصالة عدم الاشتراك يثبت اتحاد الموضوع له وبه يثبت أنّه مراد في الكتاب فكونه مرادا ليس من لوازم عدم الاشتراك لأنّ عدم الاشتراك يجتمع مع كون اللّفظ مهملا بل هو من لوازم اتّحاد المعنى وهو من لوازم عدم الاشتراك في خصوص المقام والأخبار الدالة على حجّيّة الاستصحاب لا يشمل هذا لظهورها في حجّيّة الاستصحاب بالنسبة إلى إثبات الأحكام الشرعية للمستصحب بلا واسطة لا الأحكام العادية ولا الشرعيّة بالواسطة فالحجّيّة من حيث التّعبّد لا دليل عليه وكذا من حيث الظّنّ الفعلي إذ هو مخالف لطريق العرف لعدم توقّفهم على حصول الظّنّ منها بل طريقتهم الاعتماد عليها من حيث الرجحان النوعي حتى لو ارتفع الظّنّ بها فعلا لم يتركوا العمل بها بل ذلك هو سيرة العقلاء إذ لم يتوقف أحد في حمل كلام المتقدمين على المعنى الثّابت وليس ذلك إلاّ لأصالة عدم النقل ولم يتوقفوا على حصول الظّنّ فعلا مضافا إلى تقرير المعصومين إذ ليس ذلك مختصا بزمان دون زمان بل هو جار من لدن آدم إلى زماننا هذا لم ينكره أحد مضافا إلى دعوى الإجماع عليه من غير واحد فثبت أنّ ذلك أيضا من باب الظّنّ النّوعي والثّالث الاستقراء فقد ادّعوا الإجماع على حجّيّته بخصوصه بل قالوا

 

برجوع الأصول العدمية إليه وهو أيضا حجّة من باب الظّنّ النّوعي هذا حاصل ما ذكره القائلون بحجّيّة المذكورات بخصوصها وأمّا القائل بانفتاح باب العلم في اللّغات فله مسلك آخر وهو أنّ حجّيّته بعض ما ادّعوه من الظنون الخاصة مسلم لا كلّيّة والمسلم من حجّيّة نقل اللّغويّين هو النقل الّذي كان مشتملا على شرائط الشهادة من العدد والعدالة والإجماع فيما عدا ذلك ممنوع وما يوقع في الوهم هو أنهم كانوا يقولون على مطلق النّقل في حل اللّغات الواردة في الأشعار والخطب دون ما يتعلّق بالأحكام الشرعية ولا ريب في اعتبار الظّنّ المطلق في أمثال ذلك لأنّ المدار في أمثاله يكون على المسامحة ولا يثمر في المقام وأمّا الأصول العدمية فحجّيّتها بخصوصها مما لا يمكن إنكاره لكنّه لا يثمر غالبا إذ لا يثبت بها وضع لشيء معين بل ينفى بها الوضع الجديد إمّا مطلقا كأصالة عدم النقل والاشتراك أو في زمان خاص كأصالة التّأخّر وأصالة عدم القرينة فرع التّبادر بل الحق أنّ المدار في اللّغات على العلم إذا اللّغة إمّا مادة أو هيئة والعلم بالأوّل قد يحصل بنقل أهل اللّغة وإرسالهم المسلم فإذا شاهدناهم يذكرون للّفظ معنى بطريق التّسليم من دون نقل المخالف يحصل العلم بذلك خصوصا إذا تعدد الناقل وقد يحصل بالرّجوع إلى لسان أهل العرف وما يفهمونه بلا قرينة وهو أيضا يفيد العلم وإذا شكّ في استناد فهمهم إلى القرينة دفع بأصالة العدم الّتي ثبت حجّيّتها بخصوصها وإن احتاج إلى إثباته بالنّسبة إلى الزمان السّابق تمسّك بأصالة عدم النقل وهو أيضا كذلك والثّاني يعلم بالاستقراء القطعي وهو كثير وبالجملة المداد في اللغة غالبا على العلم وإن لم يتم بنفسه فبضميمة الظنون الخاصة وإذا لم يكون فالاحتياط أو البراءة لعدم استلزامهما العسر والخروج من الدين لأنّ المورد المحتاج إليها أقلّ قليل وإن لم يمكن إجراؤهما في مورد فحينئذ يعمل بالظنّ المطلوب كما لو اشتبه معنى الكلالة مثلا وتردد بين شخصين ولم يمكن تعيينه بالعلم والظّنون بخاصة فحينئذ يعمل بالظّنّ المطلوب إذ لا يمكن الاحتياط بإعطائهما معا المال الموروث ولا البراءة بمنعهما عنه والحاصل عدم حجّيّة الظّنّ المطلوب في اللّغة إلاّ في أمثال هذه الموارد هذا والحق حجّيّة الظّنّ المطلوب في اللّغات وبطلان القولين الآخرين أمّا القول الأوّل فنقول الاستدلال بالإجماع المذكور فيه غير تمام إذ الإجماع إنّما هو على العمل بالمذكورات ووجه العمل غير معلوم فلعلّه لحجّيّة الظّنّ المطلوب ولا تسلم أنّهم كانوا يعملون بالمذكورات وإن لم تفد الظّنّ فعلا ويؤيد ذلك أنّ بعض القائلين بحجّيّة نقل النقلة قد صرح في موضع آخر بتحقق الإجماع على حجّيّة الظّنّ في اللّغة أو حجّيّة الظّنّ المطلوب فيها والأوّل أيضا ظاهر في الظّنّ المطلوب لورود الحجّيّة على طبيعة الظّنّ فيه مع أنّ نقل النقلة إذا كان ظنّا خاصّا فإما يكون من باب النبإ أو الشهادة وليس كذلك لابتنائهما على العلم والحسّ

 

ونقل النقلة ليس مبنيا عليهما بل هو مبنيّ على اجتهاداتهم الظنّيّة واجتهاد شخص لا يكون حجّة على آخر إلاّ إذا أفاد له الظّنّ وحجّيّته حينئذ من باب الظّنّ المطلوب ويؤيده أنهم أوردوا على الاستدلال لحجّيّة مفهوم الوصف بفهم أبي عبيدة من قوله عليه‌السلام ليّ الواجد يحل عقوبته أنّ ليّ غير الواحد لا يحل عقوبته بأنّه كان عن اجتهاد وهو لا يكون حجّة ونظيره ما ذكروه من أنّ حجّيّة تعديل أرباب الرجال للرّاوي ليست لكونه من باب النبإ والشهادة بل هي لكونه مفيدا للظنّ المطلق لأنّه مبنيّ على اجتهاداتهم لا على العلم والحس فإن قلت إنّ عملهم على نقل النقلة كاشف عن أنّ نقلهم مبني على النقل القطعي من الواضع لا على الاجتهاد قلت إنّ هذا أمر وجداني يظهر لمن شاهد الاستدلالات المذكورات في تلك الكتب حيث يستدلّون بالوجوه الضّعيفة الّتي قد لا يحصل منها الظّنّ المطلق فضلا عن كونها مفيدة للعلم ومن العيان أنّ كل مصنّفي اللّغة لم يكن تصنيفهم ونقلهم مبنيا على الاستقراء القطعي بل كل منهم يعتمد على ما يفيد له الظّنّ وحينئذ فليجعل ذلك دليلا على أنّ وجه الإجماع على العمل بالمذكورات هو حجّيّة الظّنّ مطلقا وأمّا التّقرير فلعلّه أيضا لحجّيّة الظّنّ مطلقا بل لا يمكن أنّ يستدلّ به على الظّنّ النوعي إذا التّقرير إنّما هو لاحق لعمل العامة بالمذكورات فلا بد أن يكون عملهم بها مستندا إلى حكم العقل وهو لا يتعبّد بالشك والوهم والظّنّ النّوعي إن لم يكن فعليا فهو عين الشكّ والوهم فظهر أنّ التّقرير إنّما هو على العمل بها من باب الظّنّ الفعلي وهو عين القول بالظنّ المطلق إذ القائل بالظنّ الخاص قائل بكفاية الظّنّ النوعي وهو غير ما قرره الإمام عليه‌السلام وأمّا الثّاني فيما ذكرنا ظهر ما فيه بالنسبة إلى جعله الأصول حجّة بخصوصها وجعله نقل النقلة كذلك عند وجود شرائط الشهادة وأمّا ادعاؤه انفتاح باب العلم ففيه أنّ إرسال المسلم في كتبهم ليس كاشفا عن الاتّفاق حتى يحصل منه القطع بل ذلك لعدم عثورهم على المخالف مع أنّ ذكرهم معنى اللّفظ ليس بطريق النقل عن الواضع بل كل منهم يعتمد على ما حصل له الظّنّ به وربما كان اعتمادهم على الوجوه الّتي قد لا تفيد الظّنّ كما لا يخفى على من لاحظ استدلالهم على دلالة الأمر على الوجوب وغير ذلك من المباحث اللغوية ولو سلّم حصول القطع للنّقلة فلا يكون موجبا لحصول القطع لنا لأنّ قطعهم على فرض تسليمه مبنيّ على حدسهم واجتهادهم إذ لا ينقلون ذلك معنعنا عن الواضع وحدس شخص ليس مورّثا لحصول القطع للآخر ولهذا شرطوا في التّواتر أن يكون المخبر به محسوسا ليسلم من احتمال الخطإ لكثرة الخطإ في الحدسيات ويؤيده ما أوردوه على الأخباريين في استدلالهم لقطعية الأخبار بشهادة المحمّدين الثلاثة بصحّة ما في كتبهم ومعنى الصّحّة قطعيّة الصدور مضافا إلى ما كان دأب القدماء من النّقد والانتخاب في الأخبار وتمييز الأخبار الموضوعة عن غيرها فإذا

 

لوحظ هذه الأمور مع قرائن أخرى أيضا حصل القطع بصحّة ما في الكتب الأربعة من أنّ حكمهم بالصّحة لا يدل على القطعية لاحتمال أن يكون الاعتماد عليه لحجّيّة الظّنّ المطلوب عندهم مع أنّه لو سلم حصول القطع بالصحة لهم فلا يحصل لنا إذ كان ذلك مبنيّا على حدسهم واجتهادهم في تنقيح الأخبار وحدس المجتهد ليس سببا لحصول القطع الآخر إذ الخطاء في الحدسيّات كثير بل ربما يدعي واحد منهم الاجتماع في مورد والآخر الإجماع على خلافه وذلك ليس إلاّ لاختلاف الحدسيّات أو جواز تطرّق الخطاء إليها وأمّا الرجوع إلى العرف فنقول إنّه لا يفيد العلم إذ لا أقلّ من احتمال أنّ فهمهم مبنيّ على قرائن حالية أو مقالية والقطع بعدمها مما يتعسّر أو يتعذّر وكيف يدعي ذلك مع ما نرى أنّ الألفاظ المتداولة كالأمر والنهي ونحوهما قد صار محل الاختلاف العظيم فإذا لم يحصل العلم من العرف بهذه الألفاظ المتداولة فكيف يحصل بغيرها وإتمامه بضميمة أصالة عدم القرينة لا يثبت المطلوب وهو حجّيّة الظّنّ الخاص لما عرفت أنّ حجّيّة الأصول ليست إلاّ من باب الظّنّ المطلوب وهكذا إتمامه بالنسبة إلى الزّمان السّابق بضميمة أصالة عدم النقل إذ هي أيضا من باب الظّنّ المطلوب على ما عرفت مضافا إلى تحقق العلم الإجمالي بثبوت النقل في الألفاظ الثّابتة في الزّمان السّابق فيرتفع أصالة عدم النقل بثبوت العلم الإجمالي كما أنّ بالعلم بثبوت التّكاليف الشرعيّة انقطع أصالة البراءة وترجيح أنّ هذا اللّفظ ليس من ألفاظ المنقولة دون ذلك اللّفظ إنّما يصير بالظنّ المطلق فثبت حجّيّة الظّنّ المطلق في اللّغات بالأدلّة المذكورة سابقا من تقرير المعصوم أو من باب الاستلزام أو لإجراء دليل الانسداد في نفس اللّغات إمّا بأن يقال إنّ باب العلم في أغلبها منسدّة أو أنها منسدّة في جملة منها لسريان الاحتياج إليها في غالب موارد الفقه كلفظ الصعيد مثلا للاحتياج إليه في أبواب الصّلاة والأقارير والوصايا والعهود وأمثال ذلك يستلزم إجراء أصل البراءة فيها للخروج عن الدين بسبب المخالفة القطعيّة والاحتياط للعسر والحرج هذا ويشكل الأمر في بعض الظنون الّتي اتّفقوا على عدم حجّيّتها في اللّغات كالقياس إذ لم يجوّزه هنا من جوّزه في الأحكام وكالظّنون اللّمّيّة كالّذي استدلّوا به في تعارض الأحوال على ترجيح الاشتراك على المجاز من أكثريّة الفائدة استدلّوا على العكس بالأوسعيّة وأمثال ذلك فإنّهم ذكروا الاتّفاق على عدم حجّيّتها أيضا فكيف يجتمع ذلك مع القول بحجّيّة الظّنّ مطلقا ويمكن الجواب بوجهين أحدهما أنهم لمّا اتّفقوا على توقيفيّة اللّغة ويلزمه عدم جواز إثباتها بالعقل وإلاّ لم تكن توقيفيّة وجب إجراء دليل الانسداد على الظّنون بحيث لا ينافي التّوقيفيّة بأن يكون مقتضاه حجّيّة الظّنون الإنّيّة دون اللّمّيّة ودون القياس ليجتمع مع الإجماع على التّوقيفيّة وهذا الوجه ضعيف والثّاني

 

أنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة وهي حجّيّة الظّنّ إمّا جميع الظّنون أو البعض فهو من الخارج إذ من مقدّماته استلزام الاحتياط في جميع الموارد العسر والحرج والبراءة الخروج من الدّين فلا بد من حجّيّة جملة من الظّنون لئلاّ يلزم المحذوران فإن ثبت هناك ظنون راجحة الاعتبار بحيث يكتفى بها في أغلب الموارد ويخرج به عن المحذورين فلا مانع من عدم حجّيّة سائر الظّنون حينئذ وإلاّ وجب الحكم بحجّيّة الجميع لئلا يلزم التّرجيح بلا مرجّح وحينئذ نقول إنّ لنا ظنونا راجحة ذاتا واعتبارا في أغلب الموارد وهو ما سوى ما علم أو ظنّ عدم اعتباره وبذلك نخرج عن المحذورين والقياس والظّنون اللّمّيّة من الظّنون المقطوعة بعدم الاعتبار للإجماع المذكور فلا يضر عدم حجّيّتها بحجّيّة دليل الانسداد أقول الجواب الثّاني أصحّ إلاّ أنّ عدم حجّيّة الظّنون اللّمّيّة كلّيّة ممنوع فإنّا نراهم يستدلّون بدليل الحكمة على إثبات وضع صيغة للعموم وباستقراء أرباب الحرف والصّناعات الخاصة على ثبوت الحقيقة الشّرعيّة فالأولى القول بالتفصيل وأنّ العلة المستفادة قد تكون من الأمور الّتي نعلم أنها معتبرة عند الواضع كالاحتياج إلى الإفادة والاستفادة في الموردين المذكورين فإنّ كون العام من المعاني المحتاج إليها علة لأن يوضع له لفظ والاحتياج معتبرة عند الواضع فهو لا يقصر عن سائر الظّنون ذاتا واعتبارا حتى يرجح البواقي عليه بخلاف تكثّر الفائدة في ترجيح الاشتراك على المجاز وهو إذ لا نعلم اعتبار ذلك عند الواضع كما لا يمكن الحكم بمحض وجود مناسبة ذاتيّة بين اللفظ والمعنى بأنّه موضوع لذلك المعنى لعدم العلم بأنها معتبرة عند الواضع وبذلك علم وهن ما قيل في جواب القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة من أنّها لو كانت بالمناسبات الذاتية لما فهم المعنى بدون العلم بالمناسبات بل فهم المعنى للجاهل بها إنّما هو بالوضع نعم لو علم أحد بالمناسبة الذّاتيّة لم يحتج إلى العلم بالوضع بل نفس المناسبة حينئذ كاشفة عن الوضع بيان بطلانه أن كشف المناسبة عن الوضع مبنيّ على العلم بأنّ الواضع اعتبر المناسبات الذاتيّة وهو ممنوع إذ لا يمكن العلم بذلك فلعل المرجح له في الوضع لهذا المعنى دون غيره أمر آخر غير المناسبات الذاتيّة ثم اعلم أنّه لا يجوز العمل بالظّنون الحاصلة قبل الفحص والاجتهاد للاتّفاق على عدم حجّيّتها قبله ولذا ذكروا أنّ نقل النقلة ليس بحجّيّة إذا علم مستندهم بل يجب الاجتهاد في المستند إذ قبله يصير تقليدا إذ ليس النقل حينئذ مستندا لنا بل إنّما يكون النقل مستندا لنا إذا لم نعلم مستنده وبهذا اعتذر بعضهم عن تدوين الهيئات اللّغويّة في علم الأصول كالمشتق والأمر والنهي والعام والخاص وأمثال ذلك دون موادها لإمكان الاجتهاد في الأوّل بالرجوع

 

إلى العرف المترادف له لاتّحاد المترادفات الهيويّة معنى بالنّسبة إلى اللغات فإن صيغة افعل لو كان للوجوب لكان مترادفاتها من سائر اللغات أيضا كذلك فإذا علم دلالة مترادفة مثلا على الوجوب ثبت دلالته أيضا بخلاف المواد لعدم العلم بالمستند وعدم إمكان الاجتهاد بالرّجوع إلى المرادف إذ لا يعلم التّرادف إلاّ بعد العلم بمعناه المادّي وبعده لا نحتاج إلى ملاحظة الترادف وفيه نظر سيأتي في نقل النّقلة فافهم هذا الكلام في الحجّيّة بقي الكلام في بيان كشفها عن الوضع وهو موقوف على التفصيل فنقول إن منها نقل النّقلة والمتواتر منه وكذا الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعيّة وأمّا الآحاد المفيدة للظنّ فكشفها ظنّي وعلى أيّ تقدير فهو حجة على ما عرفت وخالف في ذلك بعضهم فقال إنّ المتواتر منه غير موجود وكذا الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعية والآحاد الغير المحفوفة لا تفيد الظنّ واستدلّ على الأوّل بوجوه منها عدم تحقّق عدد التواتر في المدوّنين للّغة من الصدر الأول بل نقل إنّ المدوّنين لا يزيدون عن ستة أو سبعة ومنها عدم تحقق الشروط المعتبرة في التواتر في جميع الطبقات وهي أن يكون عدد كلّ منها عدد التواتر وينقل كلّ واحد من أهل الطبقة اللاحقة عن كلّ واحد من أهل الطبقة السّابقة وليس فيما نحن فيه كذلك وهو ظاهر فلم يوجد فيها التواتر وإلا لم يقع الاختلاف فكيف بالألفاظ الغير المتداولة وعلى الثالث بوجود الاختلالات العظيمة الواقعة في الناقلين كعمل بعضهم بالقياس فيها كالمازني حيث قال المقيس على لغة العرب لغة العرب وارتجال ناقلي أشعار العرب الألفاظ الموضوعة ونسبتها إليهم على ما نقل من أن الشعراء الّذين يستشهد بأشعارهم قد انقرضوا في زمان النّبيّ لكثرة القتال الواقع في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله والحافظون لأشعارهم قد كانوا ينسبون الألفاظ المجعولة إليهم لأغراض دعتهم إلى ذلك ولذا قيل إن المنقول من لغة العرب أقل قليل وكذا وضع بعض النّاقلين للّغات كالأصمعي فإنه كان جعالا بوضع اللغة وكذا حكاية تصديق العرب الكسائي في المسألة الزّنبوريّة حيث أوشوا على ذلك على ما قيل ويؤيّده ما نقل عن ابن جني أنّه وضع في كتاب الخصائص بابا في تخطئة بعض الأكابر لبعض وبابا في غرائب اللغة وكتاب العين المنسوب إلى الخليل مشتمل على الأغاليط ولذا قيل إنّه ليس من الخليل وغير ذلك من وجوه الاختلالات التي بها يخرج النقل عن إفادة الظنّ نوعا فضلا عن إفادته فعلا وفي الجميع نظر أمّا الأول فلأن كلا من الوجهين الأوّلين في منعه مبني على اشتراط النقل المعنعن في حصول العلم وهو ممنوع إذ قد يحصل العلم بسبب التسامع والتظافر وإرسال المسلم بين ناقلي اللغة

 

بأن ذلك واصل إليهم من الواضع لكشفه عن تسالم الطبقة الثانية لبعد تسالم الأولى واختلاف الثانية وهكذا إلى أن يصل إلى الواضع وهذا يفيد العلم وإن لم يكن تواتر اصطلاحيّا بل قد يحصل العلم من تعدّد الطريق وإن لم يكن على شرائط التّواتر والوجه الثالث أيضا باطل إذا الاختلاف لا يضر بالتّواتر إذ لعلّ المخالف كان مسبوقا بشبهة وقد اشترط في حصول العلم بالتواتر أن لا يكون السامع مسبوقا بشبهة وكيف يضرّ ذلك وقد وقع الاختلاف في الضروريّات كوجود الصانع واحتياج الممكن إلى المؤثّر وهو لا يضرّ بكون المسألة ضروريّة نعم يمكن منع التواتر بأن يقال إنّ ضبطهم اللغة ليس مبنيّا على النقل بل هو لاجتهادهم فيها وكلّ منهم عامل برأيه وحجيّة قولهم إنما هو لكونهم نظير أهل الخبرة كالمقوم والصيرفي لا لكونه نبأ أو شهادة حتّى يرد عليه أنه ليس مبنيّا على أمر محسوس (وأمّا الثّالث) فنقول هذه الاختلالات لا يضرّ بحصول الظنّ من خبر من نثق بضبطه وتدقيقه في تميز اللغات ونقدها وانتخابها كالفيروزآبادي والجوهري وأمثالهما مع أن ما ذكر من الاختلالات يوجب ارتفاع الظنّ فيما إذا اختلف النقلة أمّا إذا اتّفقوا في مورد فلا مجال لإنكار حصول الظنّ بقولهم وبالجملة هذه من الوضوح بحيث يستغني عن البيان إنّما الشأن في تميز الحقيقة والمجاز بالرّجوع إلى نقل النّقلة فنقول لا إشكال فيما إذا صرحوا بكونه حقيقة أو مجازا أو ذكروا ما يشعر بذلك ولو ظنا كان يقال إنّه يفيد كذا أو اسم لكذا في بيان الحقيقة وقد يستعمل في كذا وقد يفيد كذا ونحو ذلك في بيان المجاز وذكر معنى واحد للفظ ظاهر في الحقيقية لبعد عدم عثورهم على الحقيقة ونقلهم المجاز وكذا عدم وجود حقيقة له أو كونها مهجورة

وأمّا إذا اشتبه الأمر ولم يتميز فهل الأصل الحمل على إرادة ذكر الحقيقة أو المجاز أو يتوقف وجوه

واستدلّ على الأوّل بوجهين الأوّل أن المجاز مبنيّ على العلائق المنضبطة والقواعد الكلية فلا حاجة فيه إلى نقل الجزئيات فيعلم أن مقصودهم نقل الحقائق لأن الوضع الحقيقي توقيفي يتوقف على نقل الجزئيّات والثّاني أن الغرض الأقصى من تدوين اللغة هو فهم الكتاب والسنّة واللفظ المذكورة فيهما إن كان مقترنا بقرينة حمل على المجاز ولا حاجة إلى بيان اللّغوي وإلا فيحمل على الحقيقة ولا بد من تعيينها بالرّجوع إلى نقل اللغويّين فيعلم أن غرضهم نقل الحقائق ليكون مثمرا في فهم الكتاب والسنّة وفيه أمّا أولا فبأن هذا يستلزم كثرة الاشتراك إذ قلما يذكرون للّفظ معنى أو معنيين فقط إلا يقال إنّ الكلام إنّما هو في موارد الاشتباه وهو قليل فلا يوجب حملها على الحقيقة كثرة الاشتراك لأنا نقول الموارد المعلومة إمّا حقائق أو مجازات فعلى الأوّل يلزم المحذور لو حمل موارد الاشتباه أيضا على الحقيقة وعلى الثّاني يجب حمل الموارد المشتبهة على المجاز حملا للمشكوك على الأعمّ الأغلب وأمّا ثانيا فالوجهان

 

اللّذان استدل بهما ليسا على وجههما إمّا الأوّل فلوجود الفوائد العظيمة في نقل موارد الاستعمالات ولا أقل من حصول العلم بالتواريخ والقصص الواقعة في الزمان الماضي وأمّا الثّاني فلأنه قد يكون المذكور فيهما قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي للفظ دون المعيّنة لشياع اللّفظ في معنى مجازي في ذلك الزّمان فلا بدّ من حصول العلم بمحازات زمان الشارع ومعرفة الشّائع منها في ذلك الزّمان حتّى نحمل اللّفظ عليه ونحو ذلك من الفوائد فالأولى في مقام الاشتباه التوقف ثمّ إنه إذا اتّفق أهل اللّغة في النّقل فلا إشكال وإن اختلفوا فيجب الجمع مهما أمكن والاختلاف المذكور يتصوّر بوجوه منها أن يكون المعنيان المنقولان للفظ متباينين كأن ينقل أحدهم أن العين هو الذهب والآخر أنه الميزان مثلا ومنها أن يكون أحدهما أقل والآخر أكثر أمّا استقلاليّا كأن ينقل أحدهم أن العين هو الذّهب والآخر أنّه الذّهب والميزان أو ارتباطيّا كنقل أحدهم أن اليد هو الكفّ والآخر أنّها مجموع العضو من رءوس الأصابع إلى المنكب ومنها أن يكون بينهما عموم مطلق كنقل واحد أن الصّعيد وجه الأرض والآخر أنه التراب أو عموم من وجه كنقل واحد أن الغناء هو الصوت المطرب والآخر أنّه الصوت مع الترجيع وقد ذكروا في وجه الجمع القول بالاشتراك في المتباينين أخذا بما أثبته كلّ منهما وطرحا لما نفاه فإن كلاّ منهما يثبت ما ادعاه وينفي الآخر وتقديم المثبت على النّافي قاعدة مسلمة وبهذا أيضا قد جمع في الوجه الأخير بحمل الخاصّ على العام إذ ناقل العموم لا ينفي الخاصّ وناقل الخاصّ ينفي العام فمقتضى طرح النفي الحمل على العام ومقتضاه في العامين مطلقا الأخذ بالعام وفي العامين من وجه الأخذ بالقدر المشترك وهو في المثال المذكور والصوت الأعمّ من المطرب وما فيه ترجيع ولازمه صدق الغناء على ما وجد فيه أحدهما وقيل في وجه الجمع هنا بحمل المطلق على المقيّد إمّا لأنّه قاعدة اجتماعهما أو لأنّه القدر المتيقّن ومقتضاه في العام المطلق الحمل على الخاصّ وفي العامين من وجه الجمع بين الخصوصيين ففي المثال المذكور نحكم بأنّ الموضوع له للغناء هو الصوت المطرب المشتمل على الترجيع ويعلم بالمقايسة أن حكم الأقل والأكثر الاستقلالي حكم المتباينين والارتباطي حكم العامين من وجه فأمّا القول بالاشتراك أو الأخذ بالكلّ أو الجزء وتحقيق الحقّ في المقام يحتاج إلى بيان أمور الأوّل الحقّ أنّه لا تعارض بين قولي النقلة عند الاختلاف إذ غاية ما يتصوّر في توجيه التعارض أن يقال إنّ الظاهر من حال اللغوي حيث إنّه في مقام استيفاء موارد الاستعمال أنه حاكم بعدم ثبوت غير ما أثبته فكل من الناقلين يثبت ما يدعيه وينفي الآخر فبينهما تعارض وفيه أنّه على فرض التّصريح بالنفي أيضا لا تعارض بينهما فإنه إنما ينفيه بحسب وجدانه ولا ينفي الاستعمال واقعا وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود الثاني

 

الظاهر من حال النّاقل للمعنى إرادة أنّه تمام الموضوع له لا الأعمّ بأن يكون مراده من نقل المعنى أنّه مربوط بالوضع وله تعلّق به إمّا بكونه موضوعا له أو جزءا للموضوع له بأن يكون تفسيرا بالأعمّ فإنّ العام جزء للخاصّ أو يكون الموضوع له جزءا له بأن يكون تفسيرا بالأخصّ مثلا إذا قال إن الصعيد وجه الأرض فالظاهر إرادة أنّه تمام الموضوع له وإرادة أن يكون جزءا للموضوع له وهو التراب بعيد وكذا إذا قال إنه التراب فاحتمال أن يريد أن الموضوع له جزء له وهو مطلق وجه الأرض بعيد بل الظاهر من ذكر كلّ منهما إرادة أنّه تمام الموضوع له الثّالث تقديم المثبت على النافي لا يتم كليّة بل فيه تفصيل والحاصل أن المتصور هناك ثلاث صور أحدها أن يقول المثبت أدري ذلك ويقول النافي أدري عدمه كأن يقول الجارح رأيته يزني في الساعة الفلانية ويقول الثاني كنت عنده في تلك السّاعة وما رأيته منه والثّانية أن يقول المثبت أدري والثاني لا أدري كأن يقول الثاني في المثال المذكور لا أدري هل صدر منه الزنا أو لا والثّالثة أن يقول المثبت لا أدري والنافي أدري كأن يقول الجارح للشاهد العادل الّذي علموا أنّه عصى ما أدري توبته وقال النافي لفسقه رأيته تاب ولا إشكال في الصورتين الأخيرتين إذ لا تعارض قطعا بل القائل أدري مقدّم على نافيه إذ ليس لمن لم يعلم حجيته على من يعلم فيقدم المثبت في الأولى والثاني في الثّانية إنما الإشكال في الصورة الأولى وقد قيل في تقديم المثبت فيها وجهان أحدهما قوّة الظنّ في جانب الإثبات لكثرة الخطاء في نفي الأفعال بخلاف إثباتها لاستناد الثّاني إلى المشاهدة بالعيان والأول إلى نفي المشاهدة وثانيهما أن المثبت مدّع والنافي منكر وقول أهل اللغة لحجيته يكون نظير البيّنة وعند تعارض البيّنتين يقدم بنية المدعي لأنّها وظيفته واليمين على من أنكر وهذا وجه استحساني لا حجية فيه الرّابع حمل المطلق على المقيّد إنما يكون إذا وقعا في كلام من لا يجوز عليه التناقض كالكتاب والسّنة وفيه أيضا مشروط بحصول التعارض وحصول التعارض مشروط بشرطين أحدهما أن يتحد التكليف وكان عينيا والثّاني أن يكون الحكم إلزاميّا لا وضعيّا ولا استحبابيّا فيحصل التّعارض فإن مقتضى إيجاب الطبيعة المطلقة حصول الامتثال لذلك التكليف بأيّ فرد كان فيتخيّر ومقتضى الأمر بالمقيّد عدم حصوله بسائر الأفراد بخلاف ما إذا تعدّد التكليف لجواز أن يحصل الامتثال لأحد التكليفين في ضمن أي فرد كان ولا يحصل الآخر إلا بالفرد الخاصّ وكذا إذا اتّحد وكان تخييريا إذ لا ينافي وجوب الفرد الخاصّ تخييرا حصول الامتثال بسائر الأفراد وكذا إذا كان وضعيّا أو استحبابيّا لسريان الحكم فيها إذا تعلّقا بالطبيعة إلى جميع الأفراد استغراقا فلا ينافي خصوصيّة الحكم في الفرد فإنّ قوله أحل الله البيع يقتضي حلّيته

 

جميع الأفراد فلا ينافي قوله أحل الله البيع المعاطاة كما لا ينافي قولنا أكرم العلماء مع قولنا بعده أكرم زيد العالم ولم يقل أحد بحمل العام على الخاصّ إذا كانا مثبتين والسرّ فيه ما ذكرنا من عدم التّعارض حينئذ بخلاف التخيير بين الأفراد وتعيين فرد واحد بالنسبة إلى التكليف الواحد فإنه تناقض يجب دفعه بحمل المطلق على المقيّد الخامس التعارض بين قول النّقلة قد يكون بضميمة مقدّمة خارجيّة فلا تعارض بالذّات بين نقل أحدهم أن العين هو الذّهب والآخر أنّه الفضة كما ذكرنا في الأمر الأوّل لكن بضميمة أصالة عدم الاشتراك يقع التعارض كما أنّه لا تعارض بالذّات بين القول بنجاسة ماء القربة بالملاقاة والقول بعدم نجاسة ماء الإناء بها لكن بضميمة الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل بين أقسام المياه القليلة يقع التعارض بينهما فإن قلت إن أصالة عدم الاشتراك لا يعارض بها الدّليل وهو نقل النقلة أمّا على حجيتها من باب التعبد فظاهر إذ الاستصحاب مورده الشكّ ومع الدليل لا شكّ هناك وأمّا على حجيّتها من باب الظنّ فلأنه ظنّ حاصل من الغلبة لندرة الاشتراك وهي من أضعف الظّنون فلا يعارض بها الدّليل فإن موردها هو فيما إذا كان بحيث لولاها لحصل الشك وفيما كان هناك أمارة معتبرة لا يحصل الشكّ لو لا أصالة عدم الاشتراك ولذا لا يقول السّيّد المرتضى بأصالة الحقيقة في الاستعمال إذا عارضها دليل كنقل الناقلين مثلا قلنا قد علمت بطلان تعبديتها سابقا مع أن جماعة ذهبوا إلى أنّ الاستصحاب كسائر الأدلّة يعارض به الدليل والظنّ الحاصل من الغلبة ليس بأضعف من سائر الظنون بل هو أقوى ولذا لو أخبر واحد بأمر يخالف الغلبة كوجود إنسان ذي قرن ونحو ذلك لم يحصل لنا الظنّ من قوله مضافا إلى المفطورية على أصالة عدم الاشتراك فإنّ الطّبع السّليم إذا شاهد النّقلين المتخالفين يحكم بالتعارض ولا يلتفت إلى احتمال الاشتراك وأيضا يؤيدها أنّ الظاهر من نقل كل واحد معنى غير ما ذكره الآخر أنه لم يجد ذلك المعنى وإلا لنقله لأنّه في مقام استيفاء المعاني ويحصل الظنّ نوعا من عدم وجدان هذا الشخص المتفحّص المتتبّع لذلك المعنى عدم وجوده وكذا من الطرف الآخر فيقع التعارض ونظيره ما قيل من حجيّة أصالة البراءة فيما إذا كان الموضوع المشكوك الحكم من الأمور العامة البلوى بحيث لو كان له حكم لاقتضى العادة نقله لكثرة الدواعي إليه واللغة أيضا من الأمور العامة البلوى فمتى لم ينقل ذلك المعنى واحد منهما يحصل الظنّ بعدم وجدانه ومن ذلك يحصل الظنّ بعدم وجوده كما عرفت فالحاصل أن أصالة عدم الاشتراك بضميمة الظن الحاصل من عدم وجدان كل منهما للمعنى الّذي ذكره الآخر سبب لإيقاع التعارض بين النقلين المختلفين وإن لم يكن بينهما تعارض بالذات نعم لا

 

تضايق عن القول بأنه إذا كان نقل النقلة موجبا لحصول ظنّ أقوى من الأصل كان متّبعا دون الأصل السادس إذا تردّد الحكم التكليفي الإلزامي بين المطلق والمقيّد أو بين العامين من وجه فحصول البراءة بفعل المقيّد في الأوّل ومورد الاجتماع في الثاني متيقّن إذ لو تعلق بالمطلق حصل الامتثال بالمقيّد وإن تعلّق بالمقيّد فواضح وكذا مورد الاجتماع وأمّا إذا تردّد الوضع بينهما فليس المقيّد ومورد الاجتماع قدرا متيقنا لعدم تحقق الوضع للمقيدان قلنا إن المطلق موضوع له لما عرفت أنّ الظاهر من كونه موضوعا له أنّه تمام الموضوع له وكذا مورد الاجتماع لا يدخل في الوضع للعام لما ذكرنا إذا عرفت هذه الأمور فلنعد إلى ما كنّا فيه ونقول إن الجمع بين النقلين بالحمل على الاشتراك باطل لما عرفت من أنّ أصالة عدم الاشتراك سبب لوقوع التعارض بين النقلين ومانع عن الحمل على الاشتراك والاستدلال بتقديم المثبت على النافي أيضا غير تمام لما عرفت في الأمر الثالث أنه إنما يسلم في موردين أحدهما أن يقول المثبت أدري الوجود وقال النافي أدري العدم والثاني فيما إذا قال المثبت أدري والنافي لا أدري بخلاف ما إذا قال المثبت لا أدري والنافي أدري كما هو الغالب في موارد نقل اللّغة فإن المثبت للوضع يقول إنّي رأيت الاستعمال ولم أر القرينة فهو حقيقة والنافي يقول إني رأيت القرينة وقد علمت أنّه حينئذ يقدم النافي وعلم من ذلك بطلان إرجاع الخاصّ إلى العام في العام المطلق والأخذ بالقدر المشترك في العامين من وجه لأنّه مبني على تقديم المثبت على النافي وقد عرفت خلافه في باب اللّغات وكذا الجمع بحمل المطلق على المقيّد لما عرفت في الأمر الرابع أن ذلك إنما هو إذا كانا في كلام من لا يجوز عليه التناقض مع باقي الشروط والجميع فيما نحن فيه مفقود ولذا لا يحمل المطلق في كلام فقيه على المقيّد في كلام آخر بل الفقيه الواحد أيضا لجواز التناقض على غير المعصوم وكذا الحمل على المقيّد لكونه المتيقن لما عرفت في الأمر السّادس أن الوضع إذا تردّد بين المطلق والمقيّد لا يكون المقيّد قدرا متيقّنا وإذا عرفت بطلان هذه الوجوه التي ذكروها في الجميع فالأولى حينئذ بحسب القواعد أن يقال بثبوت التّعارض والرّجوع إلى المرجحات الخارجيّة ولو لوجود أحدهما في كلام فقيه أو الأخذ بالمطلق لقوة الاشتراك المعنوي وبالجملة كلما كان الظنّ في طرفه أقوى فيأخذ به وإن فقد المرجّح فهل الحكم حينئذ التخيير أو الرجوع إلى الأصل المخالف لهما أو الأصل الموافق لأحدهما فنقول أمّا الأوّل فباطل إذا التخيير إمّا شرعيّ وإمّا عقلي والتخيير الشرعي مورده الخبران المتعارضان لا ما نحن فيه والتخيير العقلي إنما هو فيما إذا كان المصلحة الثابتة حين العلم باقيا حين الاشتباه كإنقاذ أحد الفريقين عند تعارضهما فإنّ المصلحة الكائنة في إنقاذ الغريق الواحد ثابتة حينئذ أيضا غاية الأمر مزاحمة الآخر وهي

 

لا يوجب رفع المصلحة الثابتة بخلاف ما نحن فيه للعلم بأن أحدهما ليس بموضوع له فالمصلحة الثابتة حال العلم وهو إدراك الواقع لا تبقى حال الاشتباه مثلا ذكر بعضهم أن الجذع هو الضأن الّذي أتى عليه ستّة أشهر وقيل ما أتى عليه ثمانية فنعلم أن أحدهما ليس بموضوع له فكيف يحكم بالتخيير وأما الرّجوع إلى الأصل المخالف لهما بأن يقال في المثال إن الأصل البراءة من التعيين لتساقطهما فيكفي مطلق الغنم فهو مبني على عدم حجية الظن الإجمالي الحاصل من النقلين المتعارضين بنفي الثالث بأن يقال إن نتيجة دليل الانسداد مهملة لا يقتضي إلاّ حجيّة الظّنون المظنونة الاعتبار والظنّ التفصيلي أقوى من الظنون الإجمالية فنعمل به وتبقى الظنون الإجماليّة تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ والأولى أن يقال إن حصل القطع بنفي الثالث فلا إشكال وكذا لو حصل الظنّ بناء على تعميم النتيجة بحيث يشمل جميع الظنون وأمّا على إهمال النتيجة فالأولى أيضا حجيّة الظن الإجمالي إذ لا نسلم قصورها ذاتا واعتبارا عن الظنون التفصيلية بل ربما كان أقوى مضافا إلى أنّه قد يستكشف من الأخبار حجيّته بخصوصه حيث حكم في مقام تعارض الخبرين بالتخيير أو الترجيح بالمرجّحات ولم يتعرض للطرح فلو لم يكن الظن فنفي الثالث حجّة لحكم بطرحهما والأخذ بالأصل للمخالف فثبت حجّية الظنّ الإجمالي ومقتضاه الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما وهو في المثال المذكور أصالة البراءة عن الزائد على ما اتفقا عليه وهو الستّة فافهم تتميم قد أشرنا سابقا إلى أن حجية نقل النقلة إنما إذا لم يعلم مستندهم وإلاّ وجب الرجوع إليه والاجتهاد فيه وبهذا اعتذر بعضهم عن تدوين الهيئات في علم الأصول دون المواد فإن مستند الأوّل هو العرف ونحن نتمكن من الرّجوع إلى عرفنا واستعلام معنى الهيئة منه لترادف اللّغات في الهيئات فنقول لهذا أعني كلام المعتذر على إطلاقه غير تام بل لا بدّ من التفصيل بأن يقال إن المتصور في المقام صور خمسة (الأولى) أن نقطع بتغاير عرفنا مع اللّغة في المعنى و (الثّانية) أن نظن بالتغاير و (الثّالثة) أن نعلم اتحادهما و (الرابعة) أن نظن الاتحاد و (الخامسة) الشك في ذلك أمّا الصورة الأولى فيجب الرّجوع فيها إلى قول النقلة إن لم نعلم مستندهم والاجتهاد في مستندهم من الأشعار والشواهد إن علمناه ولا يمكن تعيينه بالرّجوع إلى عرفنا للعلم بالنقل وكذا في الصّورة الثّانية فإن حكم الظن في اللغات حكم العلم وأما الصورة الثّالثة أعني العلم باتحادهما فيجب الرّجوع إليهما لوجوب الفحص إذ يمكن ارتفاع الظن من قول اللغوي بالرّجوع إلى العرف وبالعكس والظنّ قبل الفحص ليس حجة فإن تعيّن المعنى بأحدهما حمل عليه الآخر للعلم بالاتحاد وإلاّ فالتّوقف وإن اختلف نقل النقلة وفهم عرفنا فالمتبع هو ما كان مظنونا بالظنّ

 

الفعلي ولا يمكن حصول الظنّ منهما معا لمنافاته لفرض العلم بالاتحاد وكذا الصّورة الرابعة وأما الخامسة وهي صورة الشك فلا بد فيها أيضا من الرجوع إليها فإن تعيّن المعنى بأحدهما حمل عليه الآخر بضميمة أصالة عدم النقل وإلاّ فالتّوقف وإن اختلفا وحصل الظنّ منهما فيتعارض مع أصالة عدم النقل فإن مقتضاها الاتحاد فينافي الظنّ بالاختلاف فإن رجّحنا الثّاني حكمنا بالاتحاد وارتفع الظنّ من اللّغة أو العرف والمتبع هو ما أفاد الظنّ فعلا وإن ارتفع منهما وجب التّوقف وإن رجحنا الأول حكمنا بالنقل وكان كالصورة الثانية من الصور الخمس فحكمه حكمها

ومنها التّبادر

وهو سبق المعنى إلى الذّهن بدون ملاحظة واسطة وبعبارة أخرى فهم المعنى من اللّفظ بلا توسط شيء وكشفه عن الوضع عقلي إنّي لأن السّبق إلى الذّهن يحتاج إلى مرجّح ضرورة استحالة الترجّح بلا مرجّح وهو إمّا الوضع أو المناسبة الذاتية أو القرينة والثالثة مفروضة الانتفاء والثاني باطل لعدم العلم بالمناسبات للأغلب فتعين الأوّل وهو من قبيل الاستدلال بوجود اللاّزم على الملزوم ويكفي في ذلك عدم كونه أعمّ سواء كان مساويا للوضع أو أخصّ إذ لا يشترط في العلامة الانعكاس بل يكفي الاطراد نعم لو أريد الاستدلال بعدمه على عدم الوضع أيضا لزم إثبات كونه مساويا أيضا وقد نوقش في اطراده بوجوده في أمور بدون تحقق الوضع فيها منها المجاز المشهور ومنها المعنى اللاّزم للموضوع له إمّا بأن يكون قيدا للموضوع له كالبصر للمعنى والمفهوم للشرط أو لا بل يكون عرفيّا كالجود للخاتم ومنها جزء الموضوع له فإن التّبادر ثابت في المذكورات بدون الوضع فهو لازم أعمّ لا يمكن إثبات الوضع به ومما ذكرنا في تعريف التّبادر من قولنا بلا توسط شيء ارتفع النقض بما ذكر ضرورة توسّط الشهرة في الأوّل والموضوع له في الأخيرين وزاد بعضهم في التعريف لإخراج المذكورات قيودا لا حاجة إليها بل هي مخلة فإنه قال إن التّبادر وهو فهم المعنى من حاق اللّفظ ابتداء استقلالا وبالقيد الأوّل أخرج المجاز المشهور وبالثاني اللازم وبالثالث الجزء وإنما لم يكتف بالقيد الثاني عن الثالث توهما منه أن الجزء لا يخرج بقيد الابتداء لتقدّمه على الكلّ فتبادره ابتدائي نعم هو ليس مستقلاّ فيخرج بقيد الاستقلال وفيه أمّا أولاّ فإن مقتضى ذكر تلك القيود أنه يجب اجتماعها في التّبادر والوضعي وهو منتقض بالكلّ فإن تبادره ليس ابتداء على زعمه وأمّا ثانيا فإن الجزء ليس مقدّما على الكل في التّبادر نعم هو مقدّم عليه في الخارج فالتّبادر أولا إنّما هو للكل وبتوسّطه يثبت للجزء فتبادر الكل واسطة في عروض التّبادر للجزء كما لو تعلّق الأمر بمركب كان المقصود بالذات هو المركب وبتبعيّته يسري ذلك الوجوب بعينه إلى الأجزاء كالحركة

 

للسفينة بالنّسبة إلى الجالس فإنها أمر واحد يتعلّق بالسّفينة أوّلا ويعرض للجالس تبعا وبهذا يجاب عما قيل من أنّه لا ينبغي النزاع في وجوب المقدّمة إذا كانت جزءا لذي المقدّمة لدلالة الكلّ عليه تضمينا وذلك لأن الوجوب المتعلّق بالجزء هو عين الوجوب المتعلّق بالكل لا وجوب آخر لازم من وجوب الكلّ كما هو محل النّزاع في وجوب المقدّمة هذا وإن كان ولا بدّ من ذكر تلك القيود فليقدم الاستقلالي على الابتدائي ويلاحظ الابتدائية بالنّسبة إلى الاستقلال بمعنى أن لا يكون شيء آخر في الابتداء مستقلا غيره فيخرج الجزء أيضا إذ لو سلم كونه ابتداء فليس استقلاله ابتداء وكذا اللاّزم لعدم استقلاليته ويدخل الكل لابتدائية استقلاله والأولى الاقتصار على ما ذكرنا ثم إنه قد اعترض على الاستدلال بالتّبادر باستلزامه الدّور لتوقف التّبادر على العلم بالوضع فلو أثبت الوضع به لزم الدّور وأجيب عنه بوجوه أحدها أنّ تبادر العالمين بالوضع دليل على الوضع بالنسبة إلى الجاهل فالعلم بالوضع للجاهل موقوف على تبادر العالم بالوضع وهو غير متوقف على علم الجاهل بالوضع حتى يلزم الدّور فإن الجاهل بالوضع إذا رأى انسباق المعنى إلى ذهن العالمين بالوضع من أهل اللسان وعلم بانتفاء القرينة والمناسبات الذاتية على ما أشرنا إليه حصل له العلم بأنّه ناش عن الوضع والثّاني أنه قد يكون الشخص عالما بالوضع لكن لاغتشاش ذهنه وتخليط الأمر عليه ربما غفل عن علمه فبعد التخلية التّامة إذا رأى انسباق المعنى إلى ذهنه حصل له العلم التفصيلي بالوضع فالعلم التّفصيلي بالوضع يثبت بالتّبادر والتّبادر متوقف على العلم الإجمالي لا التفصيلي والثّالث منع توقف التّبادر على العلم بالوضع في الأوضاع التعيّنيّة وأكثر الأوضاع التعيّنيّة لأن صيرورة اللّفظ منقولا ناش من كثرة الاستعمال إلى حدّ ينسبق المعنى من اللّفظ إلى الذهن بدون ملاحظة الاستعمال فإذا حصل الانسباق بهذا المعنى يعرف النقل فالتّبادر كاشف عن النقل لا متوقف على العلم به وكذا في غالب الأوضاع التعيينيّة لأن انسباق المعنى فيها مستند إلى كثرة الاستعمال لا إلى الوضع بل لا يلتفت إلى الوضع أصلا واعترض عليه بعض المحققين بأن الغلبة المذكورة إمّا يجب ملاحظتها حتى يحصل التّبادر أو لا والأوّل ليس كاشفا عن الوضع بل اللّفظ حينئذ مجاز مشهور وعلى الثّاني فنقول التّبادر الكاشف عن الوضع لا بد أن يكون مستندا إلى الوضع ولا يكفي محض الغلبة في حصول التّبادر الكاشف لعدم كونها وضعا ولا يمكن استناد التّبادر الكاشف إليه وإلاّ لزم حصوله من أيّ سبب كان غير الوضع ولا يكفي نفس الوضع مع قطع النظر عن العلم به وإلاّ لزم العلم بجميع اللّغات لكل أحد وإن قلت إن الغلبة سبب لحصول الوضع

 

وبملاحظته يحصل التّبادر فهو قول بمسبوقية التّبادر بالوضع ويرجع الدّور ورد بأنّه لا يقول باستناد التّبادر إلى نفس الوضع ولا إلى ملاحظة الشهرة بل يقول إن الغلبة سبب لحصول ربط وألفة ذهنيّة بين اللّفظ والمعنى بحيث صار سببا لتبادر المعنى من ذلك اللّفظ فالسامع ملتفت إلى الرّبط المذكور والناشئ من كثرة الاستعمال الّتي هي مركوزة في خزانة الخيال وإن لم يلتفت إليها في التّبادر لكن لا يعلم أن الربط المذكور هل هو وضع أم لا فالتّبادر الّذي هو من لوازم الوضع يعلم أن ذلك الرّبط هو الوضع والحاصل أن العلم بالوضع حاصل له قبل التّبادر إجمالا لا بعنوان أنه وضع بل بعنوان أنه ربط وبالتّبادر يحصل له العلم التفصيلي بأنه وضع نظير العلم بحدوث العالم بعنوان التّغيير ثم يحصل العلم التفصيلي بسبب ترتيب المقدمات بحدوث العالم بعنوان أنه عالم كيف ولا حدّ للاستعمال الكثير حتى يعرف به النقل بل لا يعرف النّقل بالتّبادر والفرق بين الاشتهاد هنا وفي المجاز المشهور وجوب ملاحظة الشهرة في المجاز فيحصل العلم بالمعنى المجازي في ضمن ملاحظة الشهرة لا بملاحظة الشهرة كما توهّم فإن معنى ملاحظة الشهرة أن يلاحظ كثرة استعمال اللّفظ في هذا المعنى فقد قصور المعنى حينئذ في ضمن تلك الملاحظة ولا يحتاج إلى قصور آخر بخلاف المجاز المستعمل مع القرينة كأسد يرمي فإن تصوّر المعنى يحصل فيه بملاحظة القرينة لا في ضمن ملاحظتها وأما المنقول فلا يحتاج إلى ملاحظة الشهرة بل الشهرة بلغت إلى حدّ حصل بها الرّبط الذّهني بين اللّفظ والمعنى بحيث لو قطع النظر عن تلك الشهرة لا تنسبق ذلك المعنى إلى الذّهن وإن كانت الغلبة مخزونة في خزانة الخيال لكن لا يلتفت إليها في التّبادر نظير ما ذكره بعض الأفاضل ردا على عصام الدّين في ادعائه تبعيّة الدلالة للإرادة مستدلاّ بأنّ شرط الدّلالة العلم بالوضع للمعنى فلا يمكن أن يكون المترتّب على الدلالة هو بالمعنى العام لحصوله قبله في ضمن العلم بالوضع فلا بدّ أن يكون الدلالة عبارة عن فهم المعنى بعنوان أنه مراد من أنه يجوز أن يكون الشخص عالما بالمعنى لكن لم يكن ملتفتا إلى علمه فبسماع اللّفظ يلتفت إلى علمه فلم يلزم تحصيل الحاصل لو لم يكن الدلالة تابعة للإرادة وبما ذكرنا علم الفرق بين المنقول والمجاز المشهور وسائر المجازات لعدم ملاحظة الشهرة في الأوّل وحصول العلم بالمعنى في ضمن ملاحظة القرينة أي الشهرة في الثّاني وبملاحظتها في الثالث هذا حاصل ما ذكر في الإيراد وفيه أن التّبادر ليس محض الخطور بالبال كيف وهو حاصل في المجاز أيضا فإن اللّفظ المستعمل في المعنى الحقيقي إذا سمع خطر المعنى المجازي بالبال أيضا فإنّ خطور أحد المتلابسين في الذهن بملاحظة الآخر مما لا يمكن إنكاره

 

فقد يسمع المركوب ويخطر الراكب بالبال لتلابسهما وغير ذلك وأيضا هو أمر قلبي لا يمكن الاطّلاع عليه فكيف يمكن العلم بالوضع بالرّجوع إلى تبادر أهل اللّسان إذ لا نعلم أنه يخطر ببالهم أو لا ومحض الرّبط الذّهني ليس وضعا بل الحق أن التّبادر وهو فهم المعنى بعنوان أنه مراد كما قاله العصام وهو الّذي يعلم به بالرّجوع إلى أهل اللّسان حيث يحكمون بإرادة المعنى من اللّفظ ويعلم ذلك من علمهم على طبقه وهو لا يحصل بمحض الرّبط الذّهني الحاصل بالاشتهاد فإن حكم السامع بأن هذا المعنى مراد للمتكلّم مبنيّ على أن يعلم أنّ المتكلّم استعمله مع القرينة في ذلك المعنى أو بملاحظة الشهرة أو كان اللّفظ علامة لهذا المعنى عنده وهذا معنى الوضع والأوّلان مفروض العدم والحاصل أن السّامع قبل العلم بأن اللّفظ صار علامة لهذا المعنى عند المتكلم لا يمكن له الحكم بإرادته وإن خطر المعنى بباله لأن محض الخطور لا يكفي في الحكم بالإرادة ولذا قيل إن أصالة إرادة المعنى الحقيقي في الاستعمال مبني على مقدّمات وهي أن اللّفظ موضوع لهذا المعنى والمتكلّم عالم به والغرض من الوضع استعمال اللّفظ بدون قرينة والمتكلّم لم ينصب قرينة فيعلم أنه أراد هذا المعنى أما المعرفة بالنّقل فتحصل بالرّجوع إلى أهل اللّسان وأنّهم هل يلاحظون مناسبة المعنى المشهور مع المعنى الحقيقي أو لا فإذا رأى أنهم لا يعتبرون تلك المناسبة يعلم أن الكثرة وصلت إلى حدّ النقل فإلغاء المناسبة سبب للعلم بالنقل لا التّبادر بل التّبادر أعني الفهم بعنوان المرادية لا يحصل إلاّ بعد العلم بالنقل ويؤيّد ما هو المعروف من أن الحقيقة هو استعمال اللّفظ في الموضوع له من حيث هو كذلك وكذا المجاز فمتى لم يعلم السامع أن المتكلم استعمله في المعنى من حيث إنّه موضوع له كيف يعلم أنّه مراد وكذا في المجاز إذا لم يعلم أنّه استعمله فيه من حيث إنّه غير موضوع له بمناسبة الموضوع له لا يمكن له الحكم بأنّه مراد وبالجملة التّبادر بالمعنى المذكور مسبوق بالعلم بالنّقل نعم بعد ثبوت النّقل بما ذكرنا يكون تبادرهم كاشفا عن الوضع بالنّسبة إلى الجاهل وهو حينئذ عين الجواب الأوّل وبالجملة الجواب الأخير لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يتم إلاّ بجعل التّبادر عبارة عن محض الخطور وقد عرفت فساده والباعث على جعله بمعنى الخطور توهم عدم وجوده في المشترك بالمعنى الّذي ذكرنا والجواب أمّا أوّلا فبعدم وجوب انعكاس العلامة كما عرفت وأمّا ثانيا فبوجوده في المشترك أيضا بالمعنى المذكور لتبادر جميع المعاني على أنه مراد لكن على سبيل البدلية فإن احتمال الإرادة كاف في إثبات الوضع لعدم وجود الاحتمال المذكور في المجاز بلا قرينة فإنا إذا رأينا أن السّيّد أمر عبده بإتيان العين فالعبد من باب الاحتياط أتى بالميزان والذهب والفضة نعلم أن احتمال الإرادة

 

مقصور على الثلاثة فيثبت الوضع فيها لما عرفت هذا على القول بعدم جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وإلاّ فلا إشكال لتبادر الجميع بعنوان أنّه مراد وبهذا علم أنّ هذه العلامة على ما ذكرنا أيضا لازم مساو للعلم بالوضع فعدمها علامة المجازيّة ولا نحتاج إلى القول بأنها أخصّ منه لعدم وجوده في المشترك فلا يكون عدمها علامة المجاز وإلاّ لزم كون المشترك مجازا بل تبادر الغير علامة المجاز لما حقّقنا من وجودها في المشترك كما ذكره بعضهم من المفاتيح للسّيّد من أن عدم التّبادر علامة المجاز مع القول بوجوده في المشترك بتقريب أنّه إذا لم نعلم فيما إذا رأينا عدم التّبادر هل هو مشترك أو لا فبضميمة أصالة عدم الاشتراك وندرته نثبت أنه مجاز فعدم التّبادر كلية علامة المجاز بضميمة أصالة عدم الاشتراك لأنا نقول إنّ في هذا المقام إن كان هناك معنى متبادر غير المشكوك فقد ثبتت المجازية بتبادر الغير ولا نحتاج إلى ضميمة الأصل وإلاّ فلا يمكن إثبات المجازيّة بعدم التّبادر إذ يلزم وجود المجاز بلا حقيقة ضرورة تبادر الحقيقة لو وجدت

تتميم

لا إشكال فيما إذا علم استناد تبادر العرف إلى الوضع وكذا إذا علم استناده إلى القرينة وأمّا عند الشك أي عدم العلم بأحدهما فقيل يتصوّر حينئذ ثلاث صور الأولى أن يشك في أصل نصب القرينة والثانية أن يعلم ذلك ويشك في التفات السّامع إليها في التّبادر والثالثة أن يعلم ذلك ويشك في أن تلك القرينة هل كانت مؤكدة للموضوع له أو مؤسّسة وصارفة ففي الأوّلين يجري أصالة العدم فيثبت به الوضع وفي الثالث يجب التوقّف لمعارضة إجراء الأصل في إحدى الحادثين بإجرائه في الآخر ويمكن أن يرجح المؤكديّة بأن الأصل الاستناد إلى أقدم السّببين وهو الوضع إذا القرينة متأخّرة عن الوضع وبما ذكرنا سابقا من أن المدار في اللّغات على الظنّ وأن حجيّة الأصل فيها أيضا من باب أنّه ظنّ لا حاجة إلى هذه الشّقوق بل العنوان حينئذ أنه إذا شك في استناد التّبادر إلى الوضع أو القرينة فالمدار على قوة الظن الحاصل من الغلبة وأن الغالب هل هو الأوّل أو الثاني ويمكن ترجيح الأوّل بأن الغالب في المحاورات استعمال الحقيقة وأن كلا من المجاز والكناية وغيرهما نادر فيها وإن كثرت في الخطب والأشعار ونحوهما ويمكن منعه بأن الغالب في المحاورات تبادر بعض الأفراد من المطلق لشيوع ونحوه في ذلك الفرد دون سائر الأفراد فإنه إذا أمر المولى عبده بإتيان الماء فيأتي بالماء الحلو أو الخبز فيأتي بخبز الحنطة ونحو ذلك وجميع هذه التّبادرات مستند إلى القرينة وربّما قيل في منع استناد التّبادر غالبا إلى الوضع إن غالب الأفهام العرفية مستند إلى الشهرة إمّا في ضمن ملاحظتها أو لا ولا يلتفت إلى الوضع غالبا بل الفارق بين المعنى

 

الموضوع له وغيره عدم ملاحظة الشّهرة في الأوّل دون الثاني والملاحظة أمر مخفي لا يمكن الاطلاع عليها على ملاحظتها وعدمه غالبا ومع ذلك فكيف يقال باستناد التبادر إلى الوضع غالبا وأجيب بندرة المجاز المشهور الّذي يلزم فيه ملاحظة الشّهرة والغالب عدم ملاحظتها حتى أنّه قيل بعدم وجود المجاز المشهور والظّنّ يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب وفيه أنّ تبادر الفرد من الكليّ شائع في العرف وليس مستندا إلى الوضع فإن قلت إنّه مجاز مشهور فقد بطل القول بندرته وإن قلت إنه مستند إلى غير الشّهرة من القرائن فقد بطل القول باستناد التّبادر إلى الوضع غالبا كما أشرنا إليه والحق أن المدار على الظن الفعلي في اللّغات كما عرفت فبأيهما حصل فهو المتّبع

ومنها صحّة السّلب وعدمها

والأوّل علامة المجاز كما أن الثّاني علامة الحقيقة والمراد صحة سلب المعنى الحقيقي عن المشكوك فيه حقيقة وعدمها كذلك إلاّ سلب اللّفظ عن اللّفظ ولا عن المعنى لبداهة صحته مطلقا ولا المعاني المجازيّة لأنّ صحّة سلب المعنى المجازي ليس دليلا للمجازيّة ولا عدمها على الحقيقة بل بالعكس ولا الأعمّ من اللّفظ والمعنى أو الحقيقي والمجازي لبطلان العام من حيث إنّه عام ببطلان الخاصّ ولا السّلب ادعاء لصحّته عن المعنى الحقيقي أيضا كما يقال عمرو ليس بإنسان وعدمه عن المعنى المجازي كما يقال زيد ملك ونحو ذلك وكونها علامتين وكاشفين عن الحقيقية والمجازية واضح إنما الشّأن في دفع ما أورد من استلزامهما الدّور وقرّر بوجهين مرجعهما أمر واحد وبيانه أن صحّة السّلب ترجع إلى الشّكل الثّاني وعدمها ترجع إلى الشّكل الأوّل أمّا الأوّل فلأنّ إثبات مجازية البليد بالنسبة إلى الحمار يتوقّف على إثبات تغايره مع الحيوان النّاهق الذي هو مقطوع الوضعيّة فإثبات تغايره معه صغرى وإثبات الوضع للحيوان النّاهق كبرى وهو هكذا البليد ليس بحيوان ناهق والموضوع له للحمار هو الحيوان النّاهق ينتج البليد ليس بموضوع له للحمار وأمّا الثّاني فلأنّ إثبات حقيقيّة الإنسان في البليد يتوقّف على إثبات اتحاده مع الحيوان النّاطق الذي هو الموضوع له قطعا فإثبات الاتحاد صغرى وإثبات الوضع للحيوان النّاطق كبرى وهو هكذا البليد حيوان ناطق والحيوان النّاطق هو الموضوع له للإنسان ينتج البليد موضوع له للإنسان وحينئذ فنقول التقرير الأوّل هو ما قيل إنّ الشّكّ في النّتيجة ناشئ من الشّكّ في المقدّمتين إذ مع العلم بهما ليس هناك شكّ في النّتيجة فالشّك في مجازيّة البليد للحمار أو حقيقيّة للإنسان ناشئ عن الشّكّ في اتّحاده مع الحيوان النّاطق وتغايره مع الحيوان النّاهق إذ العلم بالاتحاد والتغاير عين العلم بالحقيقيّة والمجازيّة فالعلم بالنتيجة يتوقّف على العلم بالمقدّمتين وهو متوقّف على العلم بالنتيجة وهذا دور ظاهر وهذا الإشكال يجري في

 

جميع الإشكال ولا يختص بصحّة السّلب وعدمها إذا الشّكّ في حدوث العالم لا بد أن يكون ناشئا عن الشّكّ في المقدّمتين إذ مع العلم بهما لا يتصوّر الشّكّ في النّتيجة والحاصل أنه إذا كان الشّكّ في النّتيجة منافيا مع قطعيّة المقدّمتين فهو مستلزم للدّور كليّة على ما بينا والجواب ضع التنافي المذكور لجواز حصول العلم بشيء بعنوان مع الجهل به بعنوان آخر فنقول هناك ذاتان أحدهما مشكوك الوضعيّة وهو البليد والثاني مقطوع الوضعيّة وهو الحيوان النّاطق والنّاهق فإن كان الذّات المشكوك عين الذات المعلوم ثبت له الوضع وإلاّ فلا فبصغرى المقدمتين نثبت اتحادهما ذاتا فيتحدان وصفا أو نثبت تغايرهما ذاتا فيختلفان وصفا فالعلم بمجازيّة البليد للحمار يتوقّف على تغاير ذاته مع ذات الحيوان النّاهق وهو ليس عين العلم بالمجازية ولا متوقّف عليه بل هو مستلزم له لأنّه إذا سلب ذاته عنه يلزم سلب وصفه عنه أيضا والحاصل أن الشّخص عالم باختلاف الذّاتين غافل عن اختلاف الوصفين فيجعل الذات المعلوم حد الوسط فبسلبه عن المشكوك في الصغرى ويثبت له الوضع في الكبرى فيسلب عن المشكوك أيضا والتقرير الثّاني هو ما ذكره المحقّق القمي رحمه‌الله أمّا في صحّة السلب فبيانه أنّه لا يثبت مجازية البليد إلاّ بعد جعل كبرى الشّكل كليّة وهو قولنا الموضوع له للحمار هو الحيوان النّاهق بأن يكون الوضع منحصرا في الحيوان النّاهق وإلاّ لم يلزم من إثبات الوضع للحيوان النّاهق وسلبه عن البليد مجازية البليد للحمار لجواز أن يكون الحمار موضوعا له بوضع آخر وكلية الكبرى يتوقّف العلم بها على العلم بعدم كون البليد موضوعا له للحمار وإلاّ فمع احتمال وضعه للبليد لا يحصل العلم بانحصار الوضع في الحيوان النّاهق وبالجملة الشّكّ في النّتيجة مناف لقطعية المقدّمتين وهو مناط الدّور على ما أشرنا إليه والفرق بين التقريرين أنّ الشّكّ في الأوّل كان يرجع إلى الشّكّ في الصغرى أي الاتحاد والتغاير وهنا يرجع إلى كلية الكبرى مع فرض القطع بتغايره مع الحيوان النّاهق ومرجع التّقريرين إلى منافاة الشّكّ في النّتيجة مع قطعية المقدّمتين فافهم وأمّا في عدم صحة السّلب فقرره وإن لم يكن العلم بحقيقية البليد بالنسبة إلى الإنسان متوقّفا على عدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عنه لكفاية عدم صحة سلب بعض الحقائق في إثبات الوضع لكن لا يثبت به إلاّ الوضع في الجملة وهو مستلزم لتفكيك العلامتين حيث جعل الأوّل علامة للمجاز مطلقا وهنا للحقيقيّة في الجملة وإذا ثبت أن المراد إثبات الحقيقيّة المطلقة لئلاّ يلزم التفكيك يلزم الدّور ولأن كون البليد معنى حقيقيّا للإنسان موقوف على العلم بعدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقية الثّانية للإنسان عن البليد والعلم بعدم صحة سلب جميع المعاني

 

الحقيقيّة عنه موقوف على العلم بعدم معنى حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد والعلم بذلك موقوف على العلم بكون البليد معنى حقيقيّا للإنسان وهذا دور ظاهر هذا حاصل تقريره وأقول أمّا جعله السالبة كلية في صحّة السّلب فصحيح إذ العلم بالمجازيّة وعدم كونه موضوعا له متوقّف على ذلك وأمّا جعل الموجبة كليّة في عدم صحّة السّلب وإيراد الدّور عليه فغير واضح أمّا الأوّل فلعدم الاحتياج إليه إذ الفرض إثبات الوضع وعدمه والأوّل يحصل بمحض عدم صحة سلب بعض الحقائق بخلاف الثاني وأمّا الثاني أعني إيراده الدّور فلأنّ عدم صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة للإنسان عن البليد ليس موقوفا على عدم معنى حقيقي للإنسان يجوز سلبه عن البليد بل هو عينه إذ الفرض من جعل الموجبة كلية إثبات انحصار الموضوع له فيه إذ الحقيقيّة في الجملة للبليد تثبت بعدم سلب البعض أيضا وحينئذ فالمقصود نفي الغير والعلم بعدم صحة سلب جميع الحقائق عنه عين العلم بأنه موضوع له لا غيره وبعبارة أخرى إنا أثبتنا في الصغرى اتحاد الحيوان النّاطق مع البليد ذاتا ليثبت له الأوصاف الثابتة للحيوان النّاطق في الكبرى فإن كان الوصف الحقيقيّة في الجملة ثبت للبليد أيضا ذلك أو كليّة فكلية وإحراز أن الوصف الثابت للحيوان النّاطق هو الموضوع له المطلق أو في الجملة لا بد أن يرجع فيه إلى شيء آخر ولا يتوقّف على حقيقيّة البليد أصلا لا بواسطة ولا بلا واسطة بل الشّكّ في ذلك وعين الشّكّ في أن البليد مطلق الموضوع له أو في الجملة وبالجملة البليد حكمه حكم الحيوان النّاطق بحكم الصغرى فيثبت له الحكم الثابت له في الكبرى إن كان مطلقا فمطلقا وإن كان في الجملة ففي الجملة بخلاف صحّة السّلب لأن إثبات نفس عدم الوضع متوقّف على كليّة الكبرى لا أنه تثبت في الجملة ويثبت إطلاقه بكلية الكبرى فالعلم بتغاير البليد مع الحيوان النّاهق الذي هو موضوع له للحمار لا يوجب نفي الوضع عن البليد إلاّ إذا علم انحصار الموضوع له في الحيوان النّاهق وهو متوقّف على العلم بالنتيجة ولا يمكن إحراز الكليّة بالرجوع إلى العرف إذ ليس في العرف إلاّ قضيّة سالبة وهو قولهم البليد ليس بحمار وهو إنما يدلّ على مجازيته بالنسبة إلى بعض معاني الحمار بأن يكون المراد من الحمار المسلوب الحيوان النّاهق وبالجملة دفع الدور هنا مشكل جدّا ولا يمكن إلاّ برفع منافاة الشّكّ في النّتيجة مع العلم بالمقدّمتين وقد ذكر في رفع التنافي أجوبة أغلبها فاسدة فمنها ما ذكره الفاضل المذكور في منع كلية الكبرى وقد عرفت أن الإشكال كان ناشئا منه وقرره بأن المقصود إثبات المجازية في الجملة بالنّسبة ويكفي فيه صحة سلب بعض المعاني الحقيقيّة عنه كما في عدم صحّة السّلب وفيه ما عرفت أن الفرض من هذه العلامات إثبات الوضع وعدمه

 

والأوّل يثبت بعدم صحة السّلب في الجملة دون الثّاني ومنها ما ذكره أيضا من أنّ المقصود تعيين فرد الموضوع له ومصداقه فبصحّة سلب الماء عن الجلاب المسلوب الطعم والرائحة نعلم أنه ليس من مصاديق الماء وبعدمها عن ماء السيل المخلوط بالطين نعلم أنّه من مصاديقه وبالجملة لا نشكّ في عدم وضع الماء للجلاب بخصوصه ولكن نشكّ في أنه داخل في مصاديقه أو لا فبصحّة السّلب نعلم عدم دخوله فيه وفيه أن الشّكّ في الفرديّة إمّا ناش عن عوارض لاحقة لنفس الفرد كالبلل المشتبه بالبول وإمّا ناش عن الشّكّ في أصل المعنى كالشّكّ في ماء السّيل فإنه ناش عن الشّكّ في أن الماء موضوع للمطلق مطلقا أو للمطلق الصّافي فإن أراد الأوّل قلنا إن تشخيص الموضوعات يجب أن يكون بالعلم وهذه الأمارات لا حجّيّة فيها في الموضوعات بل الغرض منها إثبات الأوضاع اللّغويّة من الحقيقيّة والمجازيّة لا تشخيص الموضوعات العرفيّة وإن أراد الثّاني بقي الدّور بحاله لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّكّ في أصل المعنى لا إلى الشّكّ في الفردية ومنها ما ذكره بعضهم من أن كلية الكبرى في صحّة السّلب أعني صحة سلب جميع المعاني الحقيقيّة عن المشكوك فيه يعلم بالرجوع إلى العرف فإنه إذا سلب الحمار عن البليد في العرف فلا يخلو إمّا أن يكون الحمار متحدا أو مشتركا وعلى أيّ تقدير يلزم سلب جميع الحقائق أمّا على الأوّل فظاهر وأمّا على الثاني فلأنّ المراد من سلب المشترك عن شيء سلب مفهوم المسمّى عنه فإذا قيل هذا ليس بعين أريد به أنه ليس مسمّى بالعين ولازمه عدم كونه موضوعا له وإلاّ لم يجز سلب المسمّى عنه قال وهذا الجواب لا يجري في عدم صحة السّلب لأنّ معنى عدم السّلب صحة الحمل ولا يمكن العلم بكلية الكبرى وهي أنّه لا يصح سلب جميع الحقائق عنه بالرّجوع إلى العرف لأن حمل شيء على شيء لا يمكن أن يكون بإرادة مفهوم المسمّى من المحمول إذ يلزم حينئذ اتحاد المعنى الواحد مع المعاني المتعدّدة لو كان المحمول مشتركا وهو محال في غالب المشتركات حيث إن معانيها متباينة مفهوما ومصداقا نعم يصحّ ذلك فيما إذا كان المحمول معاني متعدّدة مفهوما متّفقة مصداقا كحمل العالم والنّاطق والضاحك على الإنسان مثلا وليس الكلام مختصّا بأمثال ذلك بل يعم المشترك بين المتباينين الذي لا يمكن حمله على شيء بإرادة مفهوم المسمّى وفيه أن ادّعاء أنّ سلب المشترك عن شيء يراد منه سلب مفهوم المسمّى ممنوع لأنّ إرادة مفهوم المسمّى عن المشترك مجاز لا يصار إليه بلا قرينة بل الظاهر من السّلب عرفا هو سلب الماهيّات والحقائق وحينئذ لا يمكن إرادة أكثر من واحد من المسلوب وإن كان في النّفي لما قرّر في محلّه من عدم جواز استعمال المشترك في الأكثر من المعنى مطلقا والفرق بين المثبت والمنفي شموله لجميع أفراد المعنى الواحد في النّفي دون الإثبات لا أنّه يشمل جميع المعاني لوقوعه في سياق النّفي وقوله إن ذلك لا يتم في عدم صحة السّلب لأن حمل المسمّى على شيء يستلزم اتحاد المعنى الواحد مع المعاني

 

المتعدّدة فاسد لأنّ حمل المسمى لا يقتضي إلاّ صدق المسمّى على الموضوع وكونه من مصاديق المسمى كما يقال الذّهب مسمّى العين فإنّه ليس معناه أنّه جميع مسميات العين إذ النّكرة لا تعم في سياق الإثبات اللهمّ إلاّ أن يقال إن مراده من إثبات الكلية بالرّجوع إلى العرف لا يمكن إلاّ بجعل الحمل الحاصل في العرف عبارة عن حمل المفهوم المسمّى بجميع أفراده ليتم الكليّة فإن حمل مفهوم المسمى في الجملة لا يثبت الكليّة وحينئذ فيلزم المحذور فلا يتم الجواب لا أن محض حمل المسمّى يستلزم ذلك المحذور ومنها ما ذكر الفاضل البهبهاني قدس‌سره من أن كليّة الكبرى تعلم بالرجوع إلى العرف فإذا رأينا أنّهم سلبوا لفظا مجردا عن القرينة عن شيء نعلم مجازيّته لأن تجرّده عن القرينة قرينة على اتحاده معنى إذ لو كان مشتركا لم يصحّ تجرّده عن القرينة وإذا ثبت اتحاده معنى فبسلبه عنه يلزم سلب جميع الحقائق عنه إذ لا حقيقة له سوى المسلوب وعلى هذا لا يلزم أن نعلم المعنى الحقيقي أصلا بل محض تجرّده عن القرينة الصارفة والمعيّنة دليل على كونه حقيقة دون غيره وربما يناقش في ذلك بأن سلب اللّفظ المجرّد عن القرينة عن شيء إنما يدفع احتمال اشتراكه في غير المسلوب عنه فلم لا يجوز أن يكون للّفظ موضوعا للمسلوب عنه أيضا ويكون السلب قرينة على إرادة المعنى الآخر من المسلوب لعدم جواز سلب الشّيء عن نفسه فلم يلزم من التجرّد عن القرينة سلب جميع الحقائق ونظير ذلك ما ربما يقال من أن قولهم عدم صحة السّلب معناه صحة الحمل وحمل ذات الحقيقة على شيء يستلزم ثبوت وصف الحقيقية له باطل لأنّ حمل الشّيء على شيء لو كان حقيقيّا لتم ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الحمل ادعائيا ويكون القرينة عليه علم المتسامعين بتغايرهما فإذا سمعنا أنه قال واحد من أهل العرف لآخر البليد حمار لا يمكن لنا إثبات الوضع له بذلك لجواز أن يكون الحمل ادعائيا ويكون القرينة علم المتكلّم والمخاطب بالتّغاير والجواب أمّا عن الثاني فظاهر لأن الحمل حقيقة في الحمل الحقيقي مجاز في الادعائي إذ لا تفاوت بين المادة والهيئة فكما أن الأوّل موضوع فكذا الثّاني والأصل في الاستعمال الحقيقة مضافا إلى ما هو متداول لأن في العرف من حمل الكلمات على ظواهرها وإن لم يكونوا مخاطبين بها ولو كانت هذه الاحتمالات لوجب التّوقّف لكل من لم يكن مخاطبا فيما كان هناك حمل لاحتمال ادعائية الحمل أو مجازية المحمول ويكون القرينة علم المتسامعين فلو سمع زيد ابني وجب التّوقّف لاحتمال أن يكون زيد غير ابنه وعلمهما بهذا قرينة على ادّعائية الحمل أو على مجازية الابن بإرادة التّربية منه مع أنا نشاهدهم لا يتوقّفون في ذلك أصلا وهو ظاهر وأمّا عن الأوّل فبأنه وإن صحّ ما قلت من احتمال الاشتراك بين المعنيين بأن يكون السلب قرينة على إرادة المعنى الآخر من المسلوب لكن أصالة عدم الاشتراك وندرته يدفع هذا الاحتمال أو يقال إن في غالب الموارد نعلم وحدة المعنى إنما الاشتباه في تعيينه فبصحة سلب اللّفظ

 

المجرد عن القرينة عنه عرفا نعلم أنّه ليس بموضوع له وبعدمها نعلم أنّه هو مضافا إلى ما عرفت من إثبات الحقيقيّة بعدم صحة سلب البعض ولا نحتاج إلى أخذه كلية فافهم تنبيهان الأوّل قد نوقش في كون صحّة السّلب علامة للمجاز بأن صحة السّلب معنا صحة سلب حمل المعنى الحقيقي عن المشكوك والحمل المتداول في العرف هو حمل الكليّ على الفرد فمعنى صحة السلب سلب فرديّته للمعنى الحقيقي لا سلب عينيّته له وسلب الفرديّة له الاحتمالات أحدها أن يراد بالمسلوب مفهوم المسمّى وقد أثبتنا بطلانه لأنه مجاز بل الظاهر سلب الحقائق والذوات والثّاني أن يكون المسلوب فرديته للمعنى الحقيقي بأن يكون عينه وذلك كأن يقال الذّهب ليس بذهب أي ليس فردا له بل هو عينه والثالث أن يراد سلب فرديته له بأن يكون متباينا معه وإن كان موضوعا له بوضع آخر كما يقال الذهب ليس بفضة أي ليس فردا لها لكنّه موضوع له برأسه والرابع أن يراد بسلب الفرديّة كونه مجازا وسلب الفرديّة أعم من المذكورات فهو مجمل لا يمكن به إثبات المجازيّة ونظير ذلك أن يقال في عدم صحّة السّلب أن معناه عدم صحة سلب الحمل المتعارفي بمعنى صحّة الحمل المتعارفي وغاية ما يثبت منه كونه فردا للمعنى الحقيقي لا أنّه موضوع له إذ هو لا يثبت إلاّ بالحمل الذّاتي وهو غير متداول في العرف والجواب أمّا عن الإيراد في عدم صحّة السّلب فبأنّه ليس الغرض من هذه العلامة إلاّ إثبات أنه لو استعمل في المشكوك لكان على وجه الحقيقة وهو يحصل بالفردية أيضا إذ الفرد عين الكلي الموجود غاية الأمر عدم ثبوت الوضع له بخصوصه بذلك وهو يحصل بالفردية أيضا إذا الفرد عين الكلي الموجود غاية الأمر عدم ثبوت الوضع له بخصوصه بذلك وهو مسلم هذا إن قلنا بصحة سلب الكلّ عن الجزء عرفا وإلاّ بأن نقول لا يصحّ سلب الكل عن الجزء في العرف كما هو الظاهر فإنه لو رأى ورقا من المعالم مثلا فقال ليس هذا كتاب المعالم لخطئوه في ذلك فنقول حينئذ يتردّد عدم صحة السلب بين العينيّة للمعنى الحقيقي والفردية والجزئية له فيثبت أنه مربوط بالحقيقة لا أجنبي عنه ولا يثبت به الوضع وأمّا في صحّة السّلب فنقول الاحتمال الأول مدفوع بما عرفت وأمّا الثاني فظاهر البطلان لندرته عرفا بل هو غير مستعمل قطعا وأمّا الثالث فإنه وإن كان محتملا إلاّ أنّه مدفوع بما عرفت من أصالة عدم الاشتراك وندرته والرابع هو المطلوب الثاني صحة السلب وعدمها إنما يجريان في المعاني المستقلّة التي يمكن حمل شيء بخلاف المعاني الغير المستقلّة كالمعاني الحرفيّة والفعلية إذ لا يصح حمل شيء عليهما وبهذا علم فساد قول من قال إن الاستفهام في قوله تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ لا تَسْجُدَ مستعمل في الاستفهام الحقيقي بجعله أعمّ مما كان المراد طلب الفهم لنفس المتكلّم أو غيره والمراد في الآية الثّاني والغير هو الملائكة مستدلاّ بعدم صحة سلب الاستفهام عن الاستفهام الذي كان الغرض منه طلب الفهم للغير فلا يقال إنه لم يستفهم وذلك للفرق بين مادة الاستفهام وأداته فعدم صحة سلب الأوّل

 

لا يدلّ على حقيقية الثّاني كما هو المطلوب نعم لو علم أن المعنى الحرفي مترادف مع المعنى الاسمي في غير جهة الاستقلال وعدمه لصحّ ذلك كما لو علمنا أن معنى كلمة من هو معنى الابتداء إلاّ أنّه مستقل وهذا غير مستقلّ وحينئذ فلو شككنا في أن استعمال كلمة من في ابتداء الزمان حقيقة أو مجاز لصح الاستدلال بعدم صحة سلب الابتداء عن ابتداء الزّمان فيعلم بانضمام المقدّمة الخارجيّة وهي التّرادف أن كلمة من أيضا حقيقة فيه فليتدبّر

ومنها الاطراد وعدمه

واختلف في ذلك على أقوال فقيل بأنّ الاطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز ولازم هذا القول تساوي الاطراد مع الوضع وقيل بأن الاطراد أعمّ من الحقيقة لوجوده في المجاز وعدمه أعمّ من المجاز لوجوده في الحقيقة فليس شيء منها دليلا وقيل إنّ الاطراد أعمّ وعدم الاطراد غير موجود بل جميع المجازات مطردة وقيل الاطراد أعمّ وعدم الاطراد خاصّ بالمجاز فيثبت به المجازية ولا يثبت الوضع بالاطراد فهناك أقوال أربعة والحق هو الأخير وتحقيق الحقّ يتوقّف على تمهيد مقدّمة فنقول الاطراد عبارة عن عموم صحة استعمال اللّفظ في المعنى وبعبارة أخرى أن يكون استعمال في المعنى غير مختص ببعض الموارد بأن لا يختلف باختلاف الموارد كما يصحّ استعمال زيد في مسمّاه في جميع الموارد إنشاء وإخبارا أمرا ونهيا وهكذا سواء كان اختلاف الموارد موجبا لتكثّر المعنى حقيقة أو لا فالأوّل كالنخلة في الطّويل فإنّ اختلاف موارد استعماله يوجب اختلاف حقيقة الطّويل فإنه قد يلاحظ بالنّسبة إلى الإنسان الطّويل وقد يلاحظ بالنّسبة إلى الجبل والحائط الطّويلين وحقيقة الطّول الحاصل في الإنسان غير الحاصل في الجبل حيث يلاحظ فيه القطر والعرض الخاص والثّاني كالرقبة في الإنسان فإن اختلاف موارد استعماله إنما هو باختلاف الأحكام كما يقال أعتق الرّقبة أو اضرب الرّقبة أو جاء الرّقبة فإن الرّقبة واحدة وإنما المختلف أحكامه المتعلّقة بها والاطراد عبارة عن صحّة استعماله في جميع الموارد سواء كان اختلاف الموارد موجبا لتكثر المعنى أو لا وعدمه عبارة عن عدم صحة ذلك بأن كان استعماله في بعضها صحيحا دون بعض أعمّ من أن يكون الاختلاف سببا لتكثّر المعنى أو لا هذا والفرق بين الاطراد والاستقراء ظاهر إذا الاستقراء عبارة عن الحكم على جملة بما وجد في جزئيّاتها وذلك يتصور بوجهين أحدهما أنا نرى لفظ ضارب مثلا مستعملا في من قام به الضّرب ونعلم أنّه موضوع له لكن نشكّ في أنّه لوحظ تفصيلا بمادته الخاصّة ووضع له اللّفظ أو لا بل لوحظ إجمالا في ضمن قضيّة كليّة هي آلة لملاحظة الجزئيات أعني كلّ ما كان على زنة فاعل لكلّ من تلبس بالمبدإ فنثبت بالاستقراء أن الملاحظ هو الكلّيّة لا خصوص المواد وحينئذ فالوضع عام والموضوع

 

له خاصّ والثّاني أن نشكّ في كونه موضوعا بخصوصه تفصيلا وكونه موضوعا بالعرض بأن يكون الموضوع هيئة الفاعل لمن تلبس بالمبدإ فبالاستقراء نثبت أن الموضوع هو الهيئة لمن تلبس بالمبدإ فالوضع عام والموضوع له عام ويظهر الثّمرة في صحّة قياس ما لم نجده من الأفراد على ما وجدناه لو أثبتنا أن الموضوع هو الهيئة أو أنّ المعتبر في الوضع هو القضية الكلّيّة وعدم صحته لو كان المعتبر هو خصوص كلّ واحد منها وبالجملة يعتبر في الاستقراء إحراز الوضع بالنّسبة إلى الجزئيات ويكون الشّكّ في أنّ الموضوع هل هو الهيئة أو لا فيثبت بالاستقراء بخلاف الاطراد فإن مورده الشّكّ في الوضع كما إذا رأينا استعمال الإنسان في الحيوان النّاطق وشككنا في أنّه حقيقة أو لا فباطراد استعماله فيه ثبت حقيقيّته فيه وبذلك ظهر أن تمثيل بعضهم للاطراد بوضع المشتقات ليس على وجهه إلاّ أن يقال إن في وضع المشتقات جهتين بالنسبة إلى الشّكّ في الموضوع هل هو الخصوص أو الهيئة وبالنسبة إلى الموضوع له هل هو ما تلبس بالمبدإ مطلقا أو لا بل خصوص كلّ مادة فبالاستقراء يثبت الأوّل وبالاطراد الثّاني إذا عرفت ذلك فنقول إنّه إذا لوحظ اللّفظ والمعنى الخاصّ فإمّا أن يصحّ استعماله فيه في جميع الموارد أو يختصّ ببعض موارد ذلك المعنى فالأوّل هو الاطراد والثّاني عدمه وعدم الاطراد مختصّ بالمجاز إذ لا معنى لعدم اطراد الحقيقة لأن فائدة وضع اللّفظ للمعنى أن يصح استعماله فيه في أيّ مورد أريد ذلك حتى أنّه لا يجوز للواضع بعد الوضع أن يمنع عن الاستعمال لمنافاته لغرضه وبهذا رد كون وضع المبهمات عاما والموضوع له عامّا فإنه قيل في تصحيحه إن الواضع بعد الوضع منع عن الاستعمال ولهذا لا يستعمل فيه فردّ بأنّه لا يجوز له أن يمنع عن الاستعمال بعد الوضع فإن معنى الوضع جعله علامة له فأي فائدة فيه إذا لم يجز استعماله فيه بخلاف المجاز فإنّ المدار فيه على العلائق والمناسبات الذّوقية فيجوز أن يكون المناسبة الحاصلة بين المعنى المجازي والحقيقي الّتي هي منشأ صحّة استعماله منشئا في خصوص بعض الموارد دون بعض كما نشاهد في الرّقبة حيث يصحّ استعمالها في الإنسان في مورد تعلّق العتق الّذي هو مثل فكّ القيد المناسب للرقبة ولا يصحّ في مثل جلس الرّقبة أو نامت ونحوهما نعم لو كان محض المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي معتبرا مع قطع النّظر عن مورد دون مورد الاطراد استعماله في جميع الموارد كالأسد في الشّجاع حيث لم يلاحظ فيه غير المناسبة في الشّجاعة فيصحّ استعماله فيه في جميع الموارد وبهذا صار الاطراد أعم من الحقيقة لوجوده في هذا القسم من المجاز والحاصل أنا إذا رأينا استعمال اللّفظ في معنى وشككنا في وضعه له فنلاحظ سائر الموارد فإن رأينا صحّة استعماله في ذلك في الجميع لم نعرف وضعه لاحتمال كونه مجازا على القسم الثّاني وإن رأينا اختصاص

 

الصّحّة بذلك المورد دون سائر الموارد علمنا أنّه مجاز في المورد المستعمل فيه فإذا رأينا اختصاص استعمال الرّقبة بالإنسان بمورد العتق علمنا أنّه مجاز فيه في ذلك المورد لا في سائر الموارد الغير المستعملة فلا يرد ما ذكره بعضهم أن المجاز لا يمكن أن يكون غير مطرد فإنّه فيما يصحّ استعماله فيه مطرد وفيما لا يصحّ استعماله فيه غلط إلاّ أنّه مجاز وغير مطرد وذلك لأنا لا نقول المجاز بعنوان أنّه مجاز غير مطرد بل نقول إن استعمال اللّفظ في المعنى إذا لم يطرد في جميع الموارد فعدم صحة استعماله في بعض الموارد كاشف عن كونه مجازا في الموارد التي يصحّ الاستعمال فيها وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل إن نكتة عدم الاطراد في المجاز هو أن المعتبر فيه هو نوع العلاقة والعلاقة ليست بعلة تامة بخلاف الوضع وذلك لما علمت أنّ النّكتة أن العلاقة قد تلاحظ بخصوصية المقام لا أن نوع العلاقة كافية وقد توجد ولا يصحّ الاستعمال لأن النّوع ليس كافيا كما أن الشّخص ليس بلازم بل المدار هو المناسبة الذّوقيّة وعدم الاستعمال عرفا فعلم أن الاطراد أعمّ من الحقيقة وعدم الاطراد خاصة المجاز والجواب عن عدم اطراد بعض الحقائق كالقارورة والسّخيّ والفاضل واضح نعم ربما أمكن الاستدلال بالاطراد على الحقيقة بضميمة ندرة الاطراد في المجاز ولزومه في الحقيقة إلحاقا للمشكوك بالأعمّ الأغلب فإن قلت هلا جعلت الاطراد بلا قرينة علامة للحقيقة حتّى لا يكون أعمّ كما جعلت التّبادر وعدم صحّة السّلب كذلك قلت لأن الاطراد حينئذ معناه عموم الاستعمال بلا قرينة ونفس الاستعمال بلا قرينة علامة للوضع فلا نحتاج إلى عمومه فيكون الاطراد لغوا بل المراد من الاطراد عموم الاستعمال من حيث هو مطلقا

تذنيب

قد عرفت أن إجراء الاطراد في نفس المعنى ليس علامة للحقيقة لوجوده في المجاز فاعلم أنه يمكن إجراؤه في القيود اللاّحقة ويستكشف به عن الوضع وذلك ما قيل إن صحة الاستثناء من اللّفظ دليل على وضعه للعموم فإن معنى الاعتناء حقيقة هو إخراج ما لولاه لدخل إذ هو مجاز في المنقطع وحينئذ فذكر الاستثناء دليل على شمول المستثنى منه للمستثنى وإلاّ لم يتحقق الإخراج واعترض عليه بأن غاية ما يدل عليه الاستثناء دخوله في الإرادة لولاه أمّا دخوله في الوضع فلا وأجيب بأن محض صحة الاستثناء وإن احتمل ذلك لكن اطراد الصّحّة بالنسبة إلى جميع الاستعمالات حتى فيما لم يكن قرينة دليل على العموم لوجهين (أحدهما) أنه حينئذ كاشف عن استعمال اللّفظ في العموم بلا قرينة وهو معنى الوضع لا يقال فحينئذ محض الاستعمال بلا قرينة كاف ولا يحتاج إلى الاطراد قلنا الاطراد كاشف عن استعماله بلا قرينة لا أنا نعلم الاستعمال بلا قرينة جزما ويعلم الاطراد بالرّجوع إلى العرف فيمكن تحصيل العلم به إجمالا باطراد الاستعمال ويعلم منه استعماله فيه بلا قرينة أيضا في بعض الموارد لأنه معنى الاطراد وهو كاشف عن الوضع (والثّاني) أن الاطراد

 

كاشف عن استعماله في العموم في جميع الموارد فيدلّ على وحدة المستعمل فيه والأصل في الاستعمال الواحد الحقيقة وإلاّ لزم ثبوت المجاز بلا حقيقة واعترض على الثّاني بأنه حينئذ مثبت لموضوع علامة أخرى وليس علامة مستقلة وعلى الأول بأنّه لم لا يجوز أن لا يكون المستثنى منه موضوعا للعموم واستعمل فيه مجازا بقرينة الاستثناء والجواب عن الثّاني أمّا أوّلا فبأن الاستثناء الفعلي لو سلم إمكان كونه قرينة فلا يضرّ بما نحن فيه لأنا نقول قابلية اللّفظ للاستثناء مطردا وعدم تنافره مع الاستثناء كلية دليل على أنّه موضوع لمعنى يقبله وهو العموم الاستثناء الفعلي وبهذا علم أنّه لا نحتاج إلى الدّليل الثّاني حتى يرد عليه الاعتراض بأنّه مثبت لموضوع علامة أخرى وأمّا ثانيا فبأنّ كون الاستثناء الفعلي قرينة على إرادة المجاز في العام من المستثنى منه أول الكلام لأنه مبنيّ على إجراء أصالة الحقيقة في الاستثناء وأنّه موضوع لإخراج ما لولاه لدخل ولا يمكن ذلك إلاّ بإرادة العموم من المستثنى منه فنقول لو كان المستثنى منه موضوعا للخصوص لكان مقتضى أصالة الحقيقة إرادة الخصوص فيعارض إجراء أصالة الحقيقة في الاستثناء لاستلزامه صيرورته منقطعا وترجيح الثّاني على الأوّل محل كلام كما ذكروا فيما لو أقرّ بأنّ له علي دراهم إلاّ ثوبا فالأمر دائر بين إضمار المقدار حتى يكون الاستثناء متصلا وبين إرادة الانقطاع وترجيح الأول محلّ نظر نعم يمكن ذلك أعني إجراء أصالة الحقيقة فيه وصيرورته قرينة فيما إذا لم يعارضه معارض وذلك في موضعين أحدهما ما إذا حذف مميز المستثنى منه أو نفسه كقولنا له عشرة إلاّ درهما أو ما جاءني إلاّ زيد فهو قرينة على كون المستثنى منه شاملا للمستثنى وعلى كونه من جنسه والثّاني فيما لو كان المستثنى منه مشتركا بين الخاص والعام فذكر الاستثناء قرينة على إرادة العموم بضميمة أصالة الحقيقة فإمكان كون الاستثناء قرينة لمجازية المستثنى منه مطلقا محل كلام فعلم بذلك أن اطراد صحّة الاستثناء وقابلية اللّفظ له كلية دليل على وضعه للعموم والمناقشة في ذلك باطلة

ومنها صحة التّقسيم

وهو إمّا بالأداة كالتقسيم بكلمة إمّا وأو وإمّا بالمادة كقولنا ينقسم الكلمة إلى الاسم والفعل والحرف وعلى أيّ تقدير فهو كاشف عن استعمال اللّفظ في القدر الجامع بين الأقسام وأنّه الموضوع له فهنا مقامان الأول في دلالته على الاستعمال في القدر المشترك الذي هو كلي والثّاني في إثبات أنّه موضوع له أمّا المقام الأوّل فنقول استدلّ على ذلك بالدليل العقلي وهو أن المقسم لا يخلو إمّا أن يكون أحد الأقسام أو مباينا لها أو قدرا مشتركا بينها والأوّلان باطلان فتعيّن الثّالث واستدلّ بعضهم على ذلك في خصوص المادة مضافا إلى ما ذكر بأن لفظ القسمة موضوع للدّلالة على كون المقسم قدرا مشتركا بين الأقسام ويشكل ذلك بأنّ معنى القسمة التّبعيض والتّجزئة

 

فهي تصدق بكون المقسم مركّبا والأقسام أجزاؤه لا قدرا مشتركا بينهما بل القسمة موضوعة لذلك فإن قلت إنها تستعمل في تقسيم الكلي إلى الأفراد أيضا مع أنّه ليس مركّبا ذا أجزاء قلت استعمال القسمة في ذلك إنّما هو بالنّظر إلى أن الكلي بحسب تعدّد وجوده بالنسبة إلى الأفراد معروض للكثرة التي تنقسم إلى أفراد الكليّ فالأفراد بهذا الاعتبار أجزاء فيصحّ استعمال القسمة فيه بهذه الجهة ولذا قيل إن الأمر البسيط من جميع الجهات ليس قابلا للقسمة وذلك لاشتراط الكثرة في المقسم ولا تعلق لما ذكر بالبحث إذ لا كلام لنا في خصوص المادّة إنما الكلام في القسمة مطلقا وقد عرفت دلالته على كون المقسم أمرا عاما بالدّليل العقلي أو غيره وهو ظاهر وأمّا المقام الثّاني وهو إثبات أنّ القدر المشترك هو الموضوع له فقد استدلّ له بوجوه ثلاثة (أحدها) أن معنى تقسيم شيء إلى أمور كونه موضوعا للعام الشّامل لتلك الأمور فإن معنى القسمة ضم القيود إلى الكليّ لتحصيل الأقسام و (الثّاني) أن مقتضى القسمة حمل المقسم على الأقسام فإنّ قولنا الكلمة اسم أو فعل يستلزم حمل الكلمة على الاسم والفعل بطريق العكس المستوي وهو قولنا الاسم كلمة وظاهر الحمل كون الموضوع من الأفراد الحقيقية للمحمول وبعبارة أخرى التّقسيم يستلزم صدق عنوان المقسم على مصداق الأفراد حقيقة لأن المقسم محمول في العكس والأفراد موضوع والمحمول يراد به العنوان كما أن المراد بالموضوع المصداق ومقتضاه صدق الكلمة عنوانا على مصاديق الاسم والفعل والحرف حقيقة والثّالث أن الغالب في التّقاسيم تقسيم المعنى الحقيقي وتقسيم المجازات نادرا واعترض على الأوّل بأن التّقسيم إنما يدلّ على الاستعمال في العام لا على كونه موضوعا له والقول بأصالة الحقيقة في الاستعمال باطل لما سيجيء وعلى الثّاني بأنّ قوله إن الظّاهر من الحمل كون الموضوع من الأفراد الحقيقيّة للمحمول إن أراد من الحقيقيّة فيه الواقعي مقابل الادّعائي فلا يستلزم المطلوب وهو الوضع وإن أراد به مقابل المجازي فغير مسلم لوجود الحمل بالنّسبة إلى المعنى المجازي أيضا ويشهد لذلك أنّهم أعرضوا عن صحّة الحمل إلى عدم صحة السّلب في علامة الحقيقة وأيضا لو كان صحّة الحمل علامة الحقيقة لكان مقتضاه أن الأصل في الاستعمال الحقيقة كما يقوله السّيّد المرتضى لوجود الحمل في المجازات أيضا فإن قولنا رأيت أسدا يرمي معناه رأيت من هو من أفراد الرّجل الشّجاع الّذي هو الحيوان المفترس على ما بيّن في محله فهو أيضا متضمّن لحمل الأسد على زيد مثلا ولو ضمنا ومقتضى ما ذكر أن يكون حقيقة وإن قيل أنّ الكلام في الحمل المجرّد عن القرينة والحمل في المجازات مستند إلى القرينة قلنا القرينة الخارجيّة يمكن تجرّد الحمل عنها لكن لم لا يجوز أن يكون علم السّامع والمتكلّم بالتغاير قرينة على المجازية كما يقال البليد حمار بدون نصب قرينة وذلك

 

لأن علمهم بالتغاير قرينة المجازية والحاصل أن الحمل بلا قرينة أيضا موجود في المجازات فلو قيل بأنه دليل الحقيقة لزم القول بأن الأصل في الاستعمال الحقيقة مع أنّه باطل وعلى الثّالث بمعنى الغلبة المفيدة للظّنّ وعدم كفاية مجرّد الغلبة بدون إفادتها الظّنّ هذا حاصل ما قيل في الاعتراض وأقول أمّا الاعتراض الأوّل فصحيح وأمّا الثّاني والثّالث فباطلان أمّا الثّاني فلأنّ مبناه أنّ العلم بالتغاير يمكن أن يكون قرينة على مجازيّة المحمول وهو باطل لأنّ الكلام إنما هو في أن حمل المعنى الحقيقي على شيء دليل فرديّة له وهذا مما لا يرد عليه شيء لا أن القضيّة الحملية دليل عليه مع أنّ لنا أن نقول بالثاني أيضا لأن احتمال كون العلم بالتغاير قرينة المجازيّة غير معتبر في العرف لما عرفت سابقا من أنّه يستلزم أن لا يجوز لغير المخاطب حمل كلام المتكلّم على ظاهره مضافا إلى أن العلم بالتغاير لا يعين مجازيّة المحمول بل إنما يقتضي صرف الكلام عن ظاهره إمّا بمجازية المحمول أو ادعائية الحمل فيصير مجملا فقول المتكلّم الفقّاع خمر يحتمل أنّه لما كان عالما بتباينهما فعلمه بذلك قرينة على إرادة خلاف الظّاهر إمّا بمجازية الخمر بعلاقة الشّباهة في الإسكار فيثبت بالحمل أن الفقّاع أيضا مسكر أو بادعائية الحمل بأن يكون المراد حقيقة الخمر ويكون حمله على الفقّاع ادعائية لوجود جميع أحكامه فيه فعلى الأوّل لا يثبت حكم الخمر للفقّاع بخلاف الثّاني فيصير مجملا وكذا لو قال زيد ابني يحتمل أنّه عالم بالتغاير وهو قرينة على مجازية الابن في الابن التّعليمي مثلا وادّعائية الحمل فلا يكون إقرارا مع أنا نراهم يجعلون ذلك إقرارا ولا يعتبرون هذه الاحتمالات مع أنّ الاحتمال المذكور ثابت في عدم صحّة السّلب وكذا في صحّة السّلب على ما سبق وليس وجه إعراضهم عن صحّة الحمل إلى عدم صحّة السّلب ما ذكر بل الوجه جعله مقابلا لصحّة السّلب مع أن بعضهم ذكر صحّة الحمل دون عدم صحة السّلب فافهم وأمّا الثّالث فلأنّ الإنصاف أنّ الغالب في التّقاسيم تقسيم المعنى الحقيقي وتقسيم المجازي لا يمكن إلاّ بإرادة مفهوم المسمّى وهو نادر جدّا فلو قيل العين على أقسام ذهب وفضة وغيرهما لكان قبيحا من القول كما إذا قيل زيد على أقسام زيد بن عمرو وزيد بن بكر وغيرهما

تنبيهان

الأوّل المقسم قد يكون ذاتيّا للأقسام كقولهم الحيوان إمّا إنسان أو بقر وقد يكون عرضيّا كقولهم الحيوان إمّا أبيض أو أسود لعدم مأخوذية مفهوم المقسم في الأقسام في هذا القسم ولا ينافي ذلك ما سبق أن المقسم معتبر في الأقسام لأن المراد بالأبيض في التّقسيم الحيوان الأبيض لكن ليس الحيوان معتبرا في مفهوم الأبيض من حيث هو وإذا شك في أن المقسم ذاتيّ أو عرضيّ فهل الأصل الأوّل أو الثّاني محل نظر مبني على أن الغالب أيّهما وتعيّنه مشكل ويظهر الثّمرة في تعيين معنى القسم أيضا بصحّة التّقسيم على الأوّل دون الثّاني فلو قيل الغراب على قسمين أبيض وأسود وشكّ في أنّ الأبيض أي شيء فعلى الأوّل

 

يختصّ الأبيض بنوع الغراب لأنّ الغراب حينئذ ذاتي له فلو ورد حكم على عنوان الأبيض اختصّ بالغراب الأبيض بخلاف الثّاني لاحتمال وجود الأبيض في غير الغراب أيضا لكن الأبيض من الغراب هو القدر المتيقّن فيتعلّق به الحكم قطعا وأما تعديه إلى الغير أيضا فهو موقوف على دليل خارجي يعيّن وجوده في شيء آخر أو انحصاره في الغراب مثلا ومع الشّكّ يرجع إلى الأصول العملية

الثّاني هل الظّاهر من التّقسيم انحصار المقسم في الأقسام المذكورة الظّاهر نعم لو كان في كلام جماعة من أهل اللّغة المتصفحين المتتبّعين لأن عدم ذكرهم له دليل على عدم وجدانهم ويحصل منه الظّنّ بعدم الوجود أما لو وقع في كلام غيرهم فلا يظهر الثّمرة في موضعين أحدهما في التّعارض فإنه لو أفاد الحصر تعارض مع كلام من أثبت قسما آخر والثّاني فيما إذا ورد الحكم على المقسم فلو أفاد الحصر لم يحصل الامتثال إلا بالأقسام المذكورة دون المشكوكة وإلاّ فما أمكن الامتثال بالمعلومة تعيّن وإلاّ وجب الإتيان بالمشكوكة لقاعدة الاشتغال نظير ما قيل إنه إذا أمر بعتق الرّقبة وشكّ في إرادة المؤمنة أو الأعم فما أمكن عتق المؤمنة تعيّن وإلا وجب عتق الكافرة للقاعدة المذكورة

ومنها الاستقراء

وعرفه المحقق بأنّه الحكم على جملة بحكم وجد فيما اعتبر من جزئيات تلك الجملة وهو تعريف بالغاية إذ الاستقراء هو تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي وهو باصطلاح الأصوليّين يطلق على قاعدة الغلبة أيضا وهي عبارة عن إثبات الحكم للكلي بوجوده في أغلب الأفراد وإن كان هناك فرد لم يثبت الحكم فيه قطعا لكن يستثنى الأفراد المنتفية الحكم عن الكلي كما يقال كل حيوان يحرّك فكّه الأسفل عند المضغ إلاّ التّمساح ويلحق الأفراد المشكوكة بالغالب فيدخل تحت الكلي والحاصل أنه أعمّ مما إذا ثبت الحكم في جميع الجزئيات فيحكم على الكلّي بالحكم المذكور كما إذا وجد جميع جزئيات هيئة فاعل موضوعا لمن تلبس بالمبدإ فيحكم بأن الهيئة موضوعة لذلك وكذا إن الرّفع علامة الفاعلية إذ الاستقراء كما يثبت وضع اللّفظ كذا يثبت وضع صفاته من الإعراب والبناء ونحوهما وهذا هو الاستقراء المنطقي ومما إذا ثبت الحكم في الغالب وانتفى في النّادر فتلحق المشكوكة بالغالب فيحكم على جملة المشكوكة والمعلومة بحكم الجزئيات المعلومة وهذا هو القاعدة الغلبة والغالب في الاستقراء المذكور في الأصول هو هذا القسم ويمكن دخوله في التّعريف المذكور بأن يراد من الجملة أعمّ من الكليّ الشّامل لجميع الأفراد ومن جملة الجزئيّات المعلومة والمشكوكة ثم إن بعضهم منع عن العمل بالقسم الثّاني أعني قاعدة الغلبة نظر إلى أنه قياس وهو منهيّ عنه وللاتفاق على عدم حجيّته في اللّغات وذلك لأن القياس هو مشاركة جزئي لجزئي في علّة الحكم ليثبت فيه وهنا أيضا كذلك

 

حيث الحق الأفراد المشكوكة بالمعلومة في الحكم الجامع دخولها تحت الكليّ وأجاب بعضهم بأنّ الإلحاق في القياس إنّما هو الجامع بخلاف الاستقراء فإنه عبارة عن تساوي الشّيئين في الحكم لا الجامع وفيه أنّه لا معنى لذلك فإن إلحاق شيء بشيء بدون أن يكون بينهما مناسبة لا معنى له ويؤيد الاحتياج إلى الجامع تقسيم الاستقراء إلى الجنسي والنّوعي والصّنفي وإن الصّنفي مقدّم على النّوعي وهو على الجنسي فالواحد من أفراد الجنسي يحكم بسواده إلحاقا له بصنفه لا ببياضه إلحاقا له بنوعه وليس ذلك إلاّ للاحتياج إلى الجامع وإن كان من محض الاتفاق لم يكن لتقديم الصّنفي على النّوعي وجه وكذا تقديم النّوعي على الجنسي والأولى في الجواب أن يقال إنّ الجامع في الاستقراء يعلم بنفس الغلبة ولا يحتاج إلى استنباط واجتهاد فهو كالقضايا التي قياساتها معها نظير التّجربيّات والحاصل أن الغلبة لازم الوضع للكلي وجدانا لبعد اتحاد الوضع بالنسبة إلى الجزئيات المتباينة وحينئذ فإثبات الوضع به من باب طريق الإنّ استدلالا باللاّزم على وجود الملزوم وإثبات الملازمة من الوجدان كالتّجربيّات بخلاف القياس فإن ثبوت ملازمة الحرمة مع الإسكار ليس وجدانيّا بل يحتاج إلى الاستنباط والاجتهاد في تعيين العلّة فهو الدّليل اللّمي الغير المعتبر في اللّغات بخلاف الاستقراء ولعل مراد من قال بعدم احتياج الاستقراء إلى جامع أنه لا يحتاج إلى الاستنباط والاجتهاد في تعيينه بل هو واضح بنفس الغلبة فهو كالقياس المنصوص العلة مضافا إلى أنّ تعيين الجامع بالغلبة لا يسمى قياسا في الاصطلاح والنّهي وبالاتفاق إنما تعلّقا بعنوان القياس فافهم ثم إن الغالب في الاستقراء أنّه يثبت الوضع الشّخصي كما ذكروا في إثبات الحقيقة الشّرعيّة من استقراء أرباب الحرف والصّنائع فإن كلّ لفظ كان لهم فيه اصطلاح جديد فهو مستعمل في ذلك بطريق الحقيقة لا المجاز فكذا الألفاظ المستعملة في المعاني الشّرعيّة فهذا الاستقراء وإن أثبت القاعدة الكلية وهي أن كل لفظ استعمل في معنى جديد في اصطلاح الشّارع فهو موضوع له لكن الغرض منه وضع مثل الصّلاة والزكاة ونحوهما والوضع فيها شخصي لا نوعي والفرق ظاهر بين الوضع النّوعي وبين القضيّة الكليّة المذكورة وهي أن كل لفظ إلى آخره فإنّ الوضع النّوعي عبارة عن كون الموضوع نوعا والقضية المذكورة ليس معناها أن النّوع موضوع بل هي آلة لملاحظة الأوضاع الثّابتة في الألفاظ نوعيّا كان أو شخصيا كما يقال إنّ جميع الألفاظ موضوع لمعنى فهذا غير الوضع النّوعي المتداول في الألسنة والكتب والحاصل أن الثّابت بالاستقراء هو القاعدة الكليّة سواء كان في الوضع النّوعي أو الشّخصي أو في طريقة استعمال اللّفظ في المعنى كعدم جواز استعمال المشترك في المعنيين واللّفظ في المعنى الحقيقي والمجازي أو في طريقة التّجوز وأن المدار فيه على الذّوق

 

وعدم الاستهجان ولا يلزم فيه نقل الآحاد ولا نقل أنواع العلاقة كما صرّح به بعض المحققين فكلّ ذلك يعلم من الاستقراء بل المدار في أغلب موارد اللّغة عليه هو حجّة قطعا لما مرّ في محلّه لا يعتريه شكّ وريبة ولذا أرجع بعضهم دليل الحكمة إليه بنيانه أنهم استدلّوا على إثبات أن للعام صيغة تخصّه بدليل الحكمة وأن وجه الحكمة في الوضع هو الاحتياج والعام من المعاني المحتاج إليها فلا بدّ أن يكون له صيغة موضوعة واعترض عليه بأنّه قياس ولا حجيّة فيه وقرره بعض المحقّقين بإرجاعه إلى الاستقراء بأن يقال إنا نجد أغلب المعاني التي يشتدّ إليها الحاجة قد وضع بإزائها لفظ فإذا شككنا في معنى من المعاني المحتاج إليها هل وضع بإزائها لفظ فالظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب ثم أورد عليه بأنا نجد غالب المعاني المحتاج إليها لم يوضع بإزائها لفظ كأنواع الرّوائح كرائحة المسك والعنبر والورد وأمثالها وكذا المياه المضافة كماء الورد وماء الرّمان ونحوهما فانتقض الغلبة المذكورة وأجاب بأنّ من المعاني ما يكون هي مستقلة غير مرتبطة بغيرها ولا يمكن حصولها بالإضافة ونحوها كالسّماء والأرض والتّمر والحنطة وأمثالها فهذا مما يجب أن يوضع بإزائها لفظ ومنها ما يكون مرتبطا بالغير بحيث يتميّز بانضمامه إليه فهناك قد وضع قانون الإضافة ووضع لفظ المضاف والمضاف إليه وبعد ذلك لا يحتاج إلى وضع لفظ خاصّ بإزائها فإن أراد المورد أنه لم يوضع بإزاء المذكورات لفظ أصلا ولو بأوضاع عديدة فممنوع أو عدم لفظ مفرد فقد عرفت أنّه لا حاجة إليه ثم أورد النّقض بالجزئيات الحقيقية فإنها مما يشتد إليه الحاجة مع أن الواضع لم يضع بإزائها لفظا وإنّما وضع للمعاني الكليّة التي تندرج فيها تلك الجزئيات ولو قيل إنه اكتفى في ذلك بوضع الكلي وإفهام الخصوصيات بانضمام القرائن قلنا فلا حاجة حينئذ إلى وضع الكليّات أيضا وإن اشتدّ إليه الحاجة بل يكفي وضع اللّفظ لجنس الأجناس ويفهم الأنواع والخصوصيات بالقرائن حينئذ فلا يمكن إجراء القاعدة المذكورة في الموارد المفروضة إذ هناك ألفاظ موضوعة لمعاني كليّة يندرج فيها أكثر المعاني المتداولة وأجاب عنه بالفرق الظّاهر بين الجزئيات والكلّيات إذ لا نهاية للجزئيات بل ليس الجزئي مطلوبا بخصوصه بل هو مطلوب من حيث دخوله تحت كلّي نعم قد يحصل في بعضها مزيّة لكثرة الدّوران فيحتاج إذن إلى وضع شخصي كما في الأعلام الشّخصية ولا ربط له بوضع الواضع بل يتصدّى له من يحتاج إلى التّعبير عنه بخلاف المعاني الكليّة كالتّمر فإن مطلوبيّته إنما هو بعنوان التّمرية لا لدخوله تحت الجسم مثلا فلو اكتفى بوضع اللّفظ لجنس الأجناس وفهم الخصوصية بالقرينة أو الإشارة كأن يقول جئني بهذا الجسم مشيرا إلى التّمر لفاتت ما هو المطلوب وتوهم

 

مراد بعنوان أنّه جسم ولم يكن الكلّيات أمورا غير متناهية حتى لا يمكن للواضع أن يضع لها لفظا فالمقتضي موجود والمانع مفقود بخلاف الجزئيّات هذا ولا يخفى عدم الاحتياج إلى الاستدلال بالاستقراء فيما نحن فيه لما مرّت الإشارة إليه من أنّ أمثال هذه الأقيسة حجة حيث نعلم أن العلّة المستنبطة شيء اعتبرها الواضع كالاحتياج فيما نحن فيه بخلاف ما إذا كانت بحيث لا يعلم اعتبار الواضع لها كأكثرية الفائدة ونحوها مما تمسّكوا به في تعارض الأحوال

تتميم

وقد يجري الاستقراء بالنسبة إلى ظهور اللّفظ في المعنى ولو كان مجازا كظهور الأمر الواقع عقيب الخطر في الإباحة لغلبة استعماله فيه وظهور قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمُّهاتُكُمْ في تحريم الوطي ونحو ذلك ثم إن ثبت بالاستقراء الوضع بالنوع العرفي ثبت في زمان الشّارع أيضا بأصالة عدم النّقل إنما الإشكال فيما إذا ثبت به الظّهور فإنّه لا يمكن إثباته في زمان الشّارع لأنّه مستند إلى الغلبة ومع الشّكّ في ثبوت الغلبة في زمان الشّارع يجري أصالة تأخر الحادث وحينئذ فيثبت عدم الظّهور في زمان الشّارع مع أنا نراهم يكتفون بمحض الظّهور عرفا في حمل اللّفظ الواقع في السّنّة على المعنى الظّاهر وهذا الإشكال لا يختصّ بما ثبت فيه الظّهور بالاستقراء بل يجري في المطلق الشّائع في الفرد عرفا وغلبة التّخصيص التي يستدلون بها على تقديمه على المجاز ونحو ذلك مما ثبت فيه الظّهور في عرفنا وقد عرفت عدم اطراده في زمان الشّارع وأجاب بعضهم عن الإشكال بما يرجع إلى تسليمه وحاصله أن فيما يثبت الظّهور في العرف ثلاثة صور أحدها أن نعلم ظهور اللّفظ في ذلك المعنى في زمان الشّارع أيضا وحينئذ فلا إشكال والثّاني إن نشكّ في أصل ثبوت الغلبة في زمان الشّارع وحينئذ فيجري أصالة التّأخّر ولا يمكن اطّراد الظّهور إلى زمان الشّارع والثّالث أن يعلم بثبوت الغلبة في الزّمانين ويشكّ في اتحاد المستعمل فيه وحينئذ فيحكم بالاتحاد لأصالة عدم تعدد الغلبة هذا كلامه وفيه نظر إذ لا معنى لأصالة عدم تعدد الغلبة للقطع بتعددها فإن تعدّد الغلبة ليس إلاّ بتعدد الاستعمال الغالب لا بتعدّد المستعمل فيه فالشّيوع الثّابت في زمان الشّارع غير الشّيوع في هذا الزّمان وإن كان المعنى الشّائع واحدا فوحدة المستعمل فيه لا يجعل الغلبة واحدا وإجراء أصالة عدم تعدد المستعمل فيه أيضا باطل لعدم الحجّيّة فيها وإلاّ لوجب الحكم بأن مراد زيد وعمرو لو استعمل كلّ منها لفظا مشتركا بلا قرينة متحد لأصالة عدم تعدّد المستعمل فيه ولا يخفى بطلانه والأولى أن يستدلّ في ذلك بأصالة عدم النّقل لأنّها لا تختص بإثبات تقدّم الوضع بل الضّابط في إثباتها أن يشكّ في نقل اللّفظ من الصّفة الثّابتة له سابقا إلى صفة أخرى سواء كان الصّفة الثّابتة سابقا

 

هي الوضع أو الظّهور وفيما نحن فيه نعلم بظهور اللّفظ في زمان الشّارع في معنى ونشكّ في نقله من ذلك الظّهور إلى ظهور آخر فالأصل عدمه والحاصل أن مجرى أصالة عدم النّقل هو فيما يكون بحيث لو لم يجر الأصل المذكور لزم حدوث حادث ثم هجره عنه وحدوث حادث آخر فالأصل عدم تعدّد الحوادث كما فيما نحن فيه بخلاف ما إذا يلزم ذلك ولذا لا يمكن التّمسّك لوجود الحقيقة الشّرعيّة بأصالة عدم النّقل إلى المعنى الشّرعي في زمان المتشرّعة إذ لا يلزم من عدم إجرائه حدوث حادث في زمان الشّارع ثم هجره وحدوث آخر لكفاية الوضع اللّغوي في استعماله في زمان الشّارع ولا يلزم حدوث حادث إذا عرفت ذلك علمت وجه الاطراد في الصّورة الثّالثة وبهذا التّقرير علم أنّه لا يمكن التّمسك بالأصل في الصّورة الثّانية إذ لا نعلم الغلبة أصلا في زمان الشّارع حتى يلزم الهجر عنه على تقدير عدم إجراء الأصل المذكور لجواز كون اللّفظ مجملا في زمانه أو ظاهرا في الموضوع له فإنه حينئذ لا يلزم حدوث حادث والهجر عنه حتى يجب إجراء الأصل مع أنّا نراهم لا يفرّقون بين الصّور الثّلاث في طرد الظّهور إلى زمان الشّارع أيضا ولعل ذلك لأصالة تشابه الأزمان فإنّ مدار العقلاء والعلماء على إجرائها من دون توقّف نظير التّسامع والتّظافر في وجود حاتم ورستم إذ لا نقل معنعن في البين وإنما حصل العلم بذلك بمحض تسالم أهل العصر ومنه علم تسالم الطّبقة الثّانية أيضا وهكذا لتشابه الأزمان فإذا رأينا ظهور الأمر عقيب الحظر في الإباحة في زماننا حصل لنا الظّنّ بثبوته في الزمان السّابق أيضا مضافا إلى ما نرى من ادعائه في الكتب المدوّنة في الزّمن السّابق أيضا ونحو ذلك من القرائن المفيدة للظّنّ الّذي عليه المدار في باب اللّغات على ما عرفت سابقا

ومنها الاستعمال

واختلفوا فيه على أقوال الأوّل أنه دليل الحقيقة مطلقا وهو المعروف عن المرتضى والثّاني أنه دليل المجازيّة مطلقا ويعزى إلى ابن جنّي والثّالث أنه دليل الحقيقيّة إذا كان المستعمل فيه واحدا دون المتعدّد فيحكم حينئذ بحقيقية واحد ومجازيّة غيره والرّابع التّوقّف ونسب إلى المشهور واعترض عليه بأنّ المشهور هو الثّالث للإجماع على الحكم بالحقيقيّة في المتّحد المعنى والحقّ أنهما واحد ومن عبر بالتوقّف أراد به التّوقّف من حيث الاستعمال مع قطع النّظر عن الخارج ومن ذكر التّفصيل لم يرد أن نفس الاستعمال يستلزمه بل هو لأمور خارجيّة كما سيظهر واعلم أن المراد بمتحد المعنى أن يكون المعنى المحتمل الحقيقيّة واحدا وإن كان المستعمل فيه متعدّدا أو قطع بمجازية غير واحد منها وكذا المراد من متعدّد المعنى تعدّد المعاني المحتمل الحقيقيّة ثم إن محلّ النّزاع في متعدّد المعنى هو ما إذا كان بين المعاني مناسبة مصحّحة للتجوّز وإلاّ لم يكن القول بالمجازية لأنّ

 

المجاز فرع المناسبة وأيضا يجب أن يكون للّفظ موضوع له في غير ما علم من المستعملات وإلاّ بأن قطعنا بعدم خروج الموضوع له عنها لم يجر قول ابن جنّي بمجازية الجميع لاستلزامه ثبوت المجاز بلا وضع وهو باطل إذا المجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له لمناسبة الموضوع له إذا عرفت ذلك فالحقّ هو التّوقّف من حيث الاستعمال لأنّه جنس الحقيقة والمجاز إذ قد عرفوا كلا منهما بالكلمة المستعملة والعام لا دلالة له على الخاصّ ثم إن اتّحد المعنى كان حقيقة إذ لو قلنا بكونه مجازا لزم ثبوت المجاز بلا حقيقة ظاهرة وهو نادر جدّا حتى قيل بامتناعه من جهة أن المجاز فرع الوضع وإذا ثبت الوضع لزم الاستعمال لأن فائدة الوضع هو الاستعمال والمستعمل فيما وضع له هو الحقيقة وفيه نظر لأنه غاية الوضع ولا يجب ترتّبه عليه نعم هو نادر جدّا لا ممتنع وأمّا في صورة التّعدّد فيحكم بحقيقيّة واحد ومجازيّة البواقي فإن لم يعلم حقيقية معنى خاصّ حكم بحقيقية واحد غير معيّن فيصير اللّفظ مجملا كالمشترك وإن علم أنّه حقيقة في البعض وشكّ في الباقي حكم بالمجازيّة في الباقي وحمل اللّفظ على ذلك المعنى لو استعمل ولو يعلم المراد أمّا الحكم بحقيقيّة واحد غير معين في الأوّل فلأن لا يلزم المجاز بلا حقيقة وأما الحكم بمجازية البواقي مطلقا فلندرة الاشتراك والمجاز خير منه واستدلّ له بأصالة عدم الاشتراك وفيه أنها إن أفادت الظّنّ فهو لندرة الاشتراك على ما ذكرنا لأنّ مستند الظّنّ هو الغلبة وإلاّ فلا حجيّة فيها لما عرفت من أن حجية الأصول ليست من باب التّعبّد بل لإفادتها الظّنّ لا يقال إن الظن إنما يحتاج إليه في إثبات اللّغات أما نفيها فيكفي فيه عدم الظّنّ بالوجود وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المقصود نفي الوضع لأنا نقول لو كان المقصود محض نفي اللّغة لم يحتجّ إلى الظّنّ لكن الغرض نفيه ليتفرع عليه اتحاد الموضوع له وكونه مرادا مجردا عن القرينة وغير ذلك من الأمور الوجوديّة التي لا يمكن تفريعها بدون حصول الظّنّ بالنفي المذكور وربّما قيل في ردّ الأصل المذكور بأنّه معارض بأصالة عدم الوضع المجازي وفيه أن وضع المجازات نوعي ثابت ولو مع القطع بالاشتراك لجواز استعمال المشترك باعتبار بعض معانيه في بعض بخلاف الحقيقة للزوم الوضع الخاصّ فيها ومع الشّكّ فالأصل عدمه واعترض عليه أيضا بمعارضته بأصالة عدم اعتبار المتكلم المناسبة المعتبرة في المجاز وعدم ملاحظة للقرينة الصّارفة والمعيّنة وفيه أن أصالة عدم الوضع وارد على ذلك إذ الشّكّ في اعتبار المناسبات والقرائن مسبّب عن الشّكّ في أنه موضوع له أو لا وبعد إجراء أصالة عدم الاشتراك يثبت عدم الوضع ويترتّب عليه لوازمه من اعتبار المناسبة وغير ذلك لا يقال إنّه حينئذ أصل مثبت لأن اعتبار المناسبة ليس من الأحكام الشّرعيّة للمجازيّة لأنا نقول الأصل المثبت عبارة عما إذا أريد إثبات صحّة

 

الغسل مثلا بأصالة عدم المانع من وصول الماء فإنّه ليس من لوازم ذلك بل هو من لوازم وصول الماء وهو لازم عادي لعدم المانع في خصوص المقام وهو فرض حصول الارتماس في الماء مثلا وإلاّ فيمكن عدم وجود المانع وعدم وصول الماء كتارك عن الغسل مع عدم مانع في بدنه بخلاف ما نحن فيه لأنّ لزوم اعتبار المناسبة والقرينة حين الاستعمال من لوازم عدم الوضع وليس منفكّا عنه نعم لو أريد تفريع وحدة المعنى الحقيقي وكونه مرادا في مقام الإطلاق ونحو ذلك وعليه لم يمكن لكونه أصلا مثبتا لا حجيّة فيه إلاّ من باب الظّن دون التّعبّد وهو عين ما ذكرنا فتأمّل واستدلّ ابن جنّي بأنّ أغلب لغة العرب مجازات وفيه أنّ ذلك لأنّ أغلب الألفاظ متعدد المعنى وأغلب تلك المعاني مجازات وهو لا يثبت ما ادعاه من المجازيّة في صورة وحدة المعنى ومجازيّة الجميع في صورة التّعدّد وإنما يثبت ذلك إذا كان أغلب الألفاظ مجازا في جميع المعاني وهو نادر جدا مع أنّ ما ذكره على فرض تسليمه معارض بغلبة الاستعمال في المعنى الحقيقي حتى قيل إنّ نفس غلبة الاستعمال في المعنى علامة الحقيقة واستدل السّيّد بوجهين أحدهما أنّ سجيّة العرف وأهل اللّسان الحكم بالحقيقيّة بمحض الاستعمال كما نقل عن الأصمعي حيث قال ما كنت أعرف الدّهاق حتى سمعت أعرابيا يقول اسقني دهاقا وكذا ما نقل عن بعضهم حيث فهم معنى الفاطر بقول الأعرابي هذا بئر فطرها أبي ولا زال ذلك سجيّتهم وطريقتهم في تمييز معنى اللّفظ كما يعرفه من تتبّع في العرف والثّاني أنّ قولنا الأصل في الاستعمال الحقيقة متّفق عليه عند الشّكّ في المراد مع تميز الحقيقة والمجاز وليس ذلك إلاّ ظهور الاستعمال في المعنى الحقيقي لغلبة الاستعمال فيه وإذا كانت الغلبة موجبا للحكم بأنّ المراد المعنى الحقيقي فلا يتفاوت الأمر بين أن نعلم المعنى الحقيقي ونشكّ في إرادته أو نعلم المراد ونشكّ في كونه حقيقة وأجيب عن الأول بأنّ ذلك إنما هو فيما كان المعنى واحدا إمّا بالقطع أو بالظّنّ بضميمة أصالة عدم التّعدّد فيصير متّحد المعنى والحكم بالحقيقيّة فيه مسلم ولا يثبت ذلك في متعدّد المعنى وفيه أنّ الأصل المذكور لا يجري هنا لما عرفت أنّ حجيّة الأصل في اللّغات إنّما هو لإفادة الظّنّ والظّنّ هنا على خلافه لغلبة التّعدّد ولو فرض حجيته تعبدا فإنّما هو بعد الفحص مع أنّ حكم العرف بالحقيقيّة إنّما هو بمحض الاستعمال بدون التّفحّص عن المعنى هل هو متحد أو لا والحق في الجواب عدم تسليمه كليّة بل إنما يسلم فيما إذا كان الاستعمال مقرونا بلوازم الوضع كعدم القرينة أو كونه غالبا ونحو ذلك لا مطلقا كما هو مراد السّيّد والجواب عن الثّاني بالفرق الظّاهر بين المقامين إذ المعنى الغالب في الأول معلوم والشّكّ في أنّ المعنى

 

المراد هل هو أو غيره فالظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب بخلاف المقام الثّاني للعلم بغلبة المعنى الحقيقي المردد بين المعاني المستعمل فيها اللّفظ والشّكّ إنما هو في ثبوت وصف الغلبة للمعنى المراد أي وصف الحقيقيّة فترديد إثبات محل الغلبة بنفس الغلبة وهو باطل إذ كما يحتمل أن يكون هذا المستعمل فيه هو الغالب يحتمل أن يكون المستعمل فيه الآخر هو الغالب ولو قيل يحكم بأنّ كليهما حقيقة بالغلبة قلنا أولا يلزم الاشتراك المرجوح وثانيا أنّ المفروض أنّ الغالب شيء واحد سواء كان جميع المعاني حقيقة في الواقع أو لا لأن الغالب في الحقائق أيضا معنى واحد ونظير ما ذكرنا أنّا إذا علمنا أنّ الغالب في الإنسان لون البياض وشككنا في فرد منه ألحقناه بالغالب وإذا علمنا أنّ الغالب عليه هو لون ما مرددا بين البياض والسّواد فإذا رأينا فردا أبيض لم يمكن لنا القول بأنّ الغالب هو البياض إلحاقا للفرد بالغالب إذ كما يحتمل إلحاق الأبيض بالغالب فيحكم بغلبة البياض كذا يحتمل أن يكون الفرد الأسود ملحقا بالغالب فيحكم بغلبة السّواد فافهم

مسائل الأولى

يثبت اتحاد المعنى بالعلم أو بالظّنّ أما اعتبار الأول فظاهر وأما الثّاني فلما عرفت من أنّ مدار اللّغات على الظّنون إلاّ أنّه معارض بغلبة التّعدّد والمعتبر أقوى الظّنّين والظّاهر أنّ بعد الفحص وعدم وجدان معنى آخر يحصل الظّنّ بطرف الاتحاد لأنّ الغالب أنّه لو كان له معنى آخر لعثر المتفحّص عليه وربما قيل بجريان أصالة عدم التّعدّد وفيه ما عرفت من أنّ مرجعه إلى الظّنّ نعم لو قيل بحجيّته تعبدا فلا بد من الفحص وبعده وعدم وجدان معنى آخر يحصل الظّنّ بعدمه غالبا فيكون كالسّابق وإن لم يحصل الظّنّ به ولا بالتعدد حكم بالاتحاد على هذا القول بخلاف ما اخترناه فيجب التّوقف حينئذ بناء عليه وإن حصل الظّنّ بالتعدّد بسبب غلبته فعلى جعل الأصل حجة من باب الظّن يعتبر أقوى الظّنّين وعلى التّعبّد لا عبرة به في مقابلة الغلبة لأنّه حينئذ دليل حيث لا دليل الثّانية إذا لم يكن بين المعاني المتعددة مناسبة حكم بالاشتراك اللّفظي إلاّ بحقيقيّة واحد ومجازيّة البواقي لعدم إمكان مجازيّة البواقي بالنسبة إلى ذلك المعنى الحقيقي لعدم المناسبة ولا بالنسبة إلى معنى آخر محتمل الوضع لأنّه مع أنّ الأصل عدمه يستلزم الاشتراك للحكم بأنّ أحد تلك المعاني حقيقة كما عرفت فإن كان المعنى المحتمل أيضا موضوعا له حتى يكون سائر المعاني مجازا بالنّسبة إليه لزم الاشتراك مضافا إلى ندرة ذلك وهو استعمال اللّفظ في مناسب الموضوع له وعدم استعماله فيه فالأولى القول بالاشتراك اللّفظي بين تلك المعاني للزوم الاشتراك لو قلنا بمجازيّة البواقي أيضا مع ما عرفت من ندرة ذلك الثّالثة إذا كان بين المعاني قدر مشترك قيل يحكم بالاشتراك المعنوي حذرا من المجاز والاشتراك اللّفظي واعترض عليه بأنّه لازم في الاشتراك المعنوي أيضا

 

بالنّسبة إلى الخصوصيّتين وأجيب بأنّه يمكن استعماله فيهما بطريق الحقيقة بإرادة الخصوصيّة من الخارج فليس فيه التزام بالمجازيّة بخلاف ما إذا قلنا بحقيقيّة واحد ومجازيّة الآخر إذ لا يمكن حينئذ استعماله في الآخر بطريق الحقيقيّة وفيه أنّ ذلك إثبات اللّغة بالترجيح الغير المعتبر إذ لا نعلم أنّ عدم التزام المجاز معتبر في التّرجيح عند الواضع والحق أنّ المتصوّر في المقام صور ستة الأول أن يكون الاستعمال في الكلي والخصوصيّتين معلوما والثّاني أن يكون الاستعمال في الكلي معلوما وفي الخصوصيّة مشكوكا والثّالث بالعكس والرّابع أن يكون الاستعمال في الكلي معلوما وفي الخصوصيّة معلوم العدم والخامس بالعكس والسّادس أن يكون الاستعمال فيهما مشكوكا بأنّ نعلم استعماله في الفرد ولا نعلم أنّ الخصوصيّة أيضا مراد من اللّفظ أو مفهوم بالقرينة والمراد هو الضّابط في الجميع أنّ المدار على الظّن الحاصل بالغلبة وقد يجري عليه أصالة عدم الاشتراك أيضا فإن وافق الغلبة فهو وإلاّ فإن أفاد الظّنّ فالمعتبر أقواهما وإلاّ فلا يعارض الغلبة مطلقا سواء كان حجيّة من باب الظّن أو التّعبّد وإن لم يحصل الظّنّ من شيء وجب التّوقّف إلاّ أن نقول بحجّيّة الأصل تعبد فيجري حينئذ وأمّا التّفصيل في الأقسام فنقول فيه (أما القسم الأول) فيحكم فيه بالاشتراك المعنوي إلاّ إذا كان الاستعمال في الخصوصتين غالبا فيحكم بالحقيقيّة والمجاز إن كان بينهما مناسبة وإلاّ فبالاشتراك اللّفظي أمّا الحكم بالاشتراك المعنوي في الأول فلأن الغالب في العرف أنّ اللّفظ المستعمل في الكلي والفرد موضوع للكلي دون الفرد مضافا إلى أصالة عدم الاشتراك وأما الحكم بعدمه في الثّاني فلأنّ غلبة الاستعمال علامة الحقيقة ثم الحكم بالحقيقيّة والمجازيّة في صورة وجود المناسبة ظاهر رأسا الحكم بالاشتراك اللّفظي في صورة عدم وجودها فلأنّ الاشتراك اللّفظي وإن كان نادرا إلاّ أنّه في خصوص المقام يقدم على الاشتراك المعنوي لما ذكرنا من أنّ غلبة الاستعمال أمارة الحقيقة وبهذه الغلبة يترجّح الاشتراك اللّفظي ويضعف الظّنّ الحاصل من أصالة عدم الجاري في هذه الصّورة (وأما القسم الثّاني) فيحكم فيه بالاشتراك المعنوي للغلبة المذكورة مضافا إلى لزوم المجاز بلا حقيقة لو قيل بالوضع للخصوصيّة إذا الكلي الذي علم استعماله فيه مجاز حينئذ والخصوصيّة التي يشكّ في استعماله فيها المنفي بأصالة العدم موضوع له فيلزم تحقق المجاز بلا حقيقة لا يقال إنّ كليهما حقيقة لندرة الاشتراك فإن قلت إنّ أصالة عدم تعدّد الاستعمال لا يجري في المقام إذا الغالب التّعدّد كما مر فلا يفيد الظّن وقد قلت إنّ حجّيّة الظّنّ وقد قلت إنّ حجيّة الأصل في اللّغات إنما هي لإفادة الظّنّ فلا يلزم المجاز بلا حقيقة لجواز ثبوت الاستعمال في الخصوصيّة

 

وإن لم يوجد قلت تعدّد استعمال الكلي يتصوّر بوجهين أحدهما أن يستعمل في الماهيّة مرة وفي الخصوصيّة أخرى بأن يراد الخصوصيّة من اللّفظ والثّاني أن يستعمل في الماهيّة مرة ويطلق على الفرد أخرى وما ذكرنا سابقا من غلبة التّعدّد المراد به مطلق الاستعمال الشّامل لإطلاق الكلي على الفرد وما ذكرنا هنا من أصالة عدم التّعدّد المراد به الاستعمال بالوجه الأول والتّعدّد بالوجه الثّاني موجود في الكلي فلا يضر عدم التّعدّد بالوجه الأول بما ذكرنا من غلبة التّعدّد لثبوتها في الكلي بالوجه الثّاني فافهم ومما ذكرنا علم حكم القسم الرّابع أيضا (وأما القسم الثّالث) فيحكم فيه بعدم الاشتراك المعنوي حذرا من المجاز بلا حقيقة للزوم كونه مجازا في الخصوصيّة وموضوعا للكلي مع عدم استعماله فيه بحكم الأصل وحينئذ فإن كان بين الخصوصيّتين مناسبة حكم بأنّ أحدهما حقيقة والأخرى مجاز وإلاّ فبالاشتراك اللّفظي ومنه يعلم حكم القسم الخامس أيضا وأما القسم السّادس فحكمه التّوقّف لعدم تحقق غلبة في المقام مع ندرة هذا القسم في نفسه

تذييل

ربما يتوهّم التّناقض بين قولهم الأصل في الاستعمال الحقيقة وقولهم الاستعمال أعم من الحقيقة وجمع بينهما بعض الأفاضل بحمل الأوّل على مقام الشّكّ في المراد بعد تميز الحقيقة والمجاز وعلى بعض أقسام الشّكّ في الحقيقة والمجاز بعد تميز المراد وهو الأقسام التي حكم بالحقيقة فيها أعني المتحد المعنى والمتعدد مع عدم المناسبة حيث حكم فيه بالاشتراك اللّفظي والمتعدّد مع وجود جامع بينهما حيث حكم بالاشتراك المعنوي وحمل الثّاني على غير ما ذكر وبعض المحقّقين جمعهما بحمل الأوّل على مقام الشّكّ في المراد والشّكّ في الحقيقة في بعض أقسامه وهو خصوص متحد المعنى سواء قيل فيه بالوضع للمعنى الخاص أو للقدر المشترك وحمل الثّاني على غيرهما والأولى أن يقال باختصاص الأول بالشّكّ في المراد والثّاني بالشّكّ في الوضع ولو في متحد المعنى حكم فيه بالحقيقيّة أو بالاشتراك المعنوي أو لا إذ المراد أنّ الاستعمال من حيث هو لا يدلّ على شيء وإثبات الحقيقيّة في الموارد المذكورة ليس بالاستعمال بل بالأمور الخارجيّة على ما عرفت مفصلا والغالب في استعمال هذه القاعدة هو في مقام الشّكّ في الوضع للقدر المشترك بطريق الاشتراك المعنوي فيقولون الاستعمال أعم يريدون منه أنّه إذا قطع النّظر عن غير الاستعمال فلا يدلّ الاستعمال على شيء فتأمّل واستبصر

ومنها

اختلاف الجمع والمراد به اختلاف جمع اللّفظ بالنسبة إلى المعنيين مع القطع بحقيقية أحدهما إجمالا والشّكّ في الآخر فهو دليل على مجازيته في الآخر كالأمر يستعمل في القول وجمعه أوامر وهو حقيقة فيه قطعا إما بالوضع له بخصوصه أو للقدر المشترك الذي هو فرده وفي الفعل وجمعه أمور وهو مشكوك الوضع والاختلاف

 

المذكور دليل على مجازيته فيه وينفي الاشتراك المعنوي واللّفظي معا أو هو ينفي الاشتراك المعنوي وبضميمة أصالة عدم الاشتراك اللّفظي يثبت أنّ المجازيّة على الاختلاف في تقريره ويمكن الاستدلال للطّريق الأول بوجهين أحدهما أنّ الاختلاف المذكور موجود في المجاز غالبا والظّنّ يلحق الشّيء بالأعم الأغلب أو غير موجود في الحقيقة فيدل على عدم كونه حقيقة وفيه أنّا لم نجد الاختلاف بالنّسبة إلى المعنى المجازي أصلا فكيف بأن يكون غالبا فإنّ المجاز في الجمع تابع للمفرد فكما يقال أسد للرجل الشّجاع والحيوان المفترس فكذا يقال أسود وأسد لهما بخلاف المشترك لوجود الاختلاف به كعود فإنّه يجمع على أعواد بالنسبة إلى أحد معانيه وهو الخشب وعلى عيدان لمعناه الآخر وهو آلة اللهو وكذا العين بالعيون والأعيان بالنّسبة إلى الباصرة والذّات وغير ذلك بل لا يبعد أن يقال إنّ الغالب في الاختلاف الوجود في المشترك اللّفظي فبوجوده يحصل الظّنّ بالاشتراك ويعارض أصالة عدمه التي تمسّك بها في الطّريق الثّاني لأنّ حجيّتها في اللّغات لإفادتها الظّنّ وهو غير حاصل في المقام الغلبة الاشتراك في مثله كما أشرنا إليه مضافا إلى حكمة الوضع لإغنائه عن القرينة المعيّنة في المشترك نعم يمكن به نفي الاشتراك المعنوي لأنّ الجمع للقدر المشترك يصح إطلاقه على ما يطلق عليه مفرده فلا معنى للاختلاف فيه والثّاني أن اختلاف الجمع دليل على اختلاف حال اللّفظ بالنسبة إلى المعنيين وليس ذلك في المشترك المعنوي واللّفظي وفيه أنّه إن أراد منه اختلاف حال اللّفظ بالنسبة إليهما وصفا بأن يكون موضوعا لأحدهما دون الآخر فكون اختلاف الجمع دليلا على هذا أول الكلام وإن أراد منه اختلاف حاله بالنسبة إليهما مطلقا فهو غير مسلّم مطلقا أوّلا لوجود طلب وطلاب وطلبة جمعا لطالب وموجود في المشترك ثانيا لأنّ كلاّ من المعنيين فيه موضوع بوضع مستقل وقولنا في العنوان مع القطع بحقيقيّة أحدهما إنما هو لتبعيّة القوم وإلاّ فمقتضى ما ذكروه الحكم بحقيقيّة أحد المعنيين المختلفي الجمع ومجازيّة الآخر لا على التّعيين في صورة عدم القطع بحقيقيّة المعين أيضا

ومنها

امتناع الاشتقاق من اللّفظ المستعمل في المعنى لمن قام به ذلك المعنى كالأمر فإنّه يستعمل في الفعل ولا يشتق منه بالنسبة إلى من قام به الفعل فلا يقال أمر أي فعل ولا أمر أي فاعل وهو دليل مجازيته فيه على ما قيل ولا بد في إتمامه من القول بعدم وجود الامتناع المذكور في الحقيقة أصلا أو وجوده في المجاز غالبا وهما ممنوعان أما الأوّل كأسماء العلوم والملكات فلا يشتق من مادة النّحو شيء لمن قام به ولا من الصّرف وأما الثّاني فالاستعارة التّبعيّة المشهورة في الأفعال بالنسبة إلى مصادر ما المذكورة في علم البيان يغنينا عن البيان ونطقت الحال ناطق بذلك بألف لسان حيث

 

اشتق من النّطق المستعار للدّلالة نطق لمن قام به وغير ذلك ثم لا معنى أصلا لكون الامتناع المذكور دليلا على المجازيّة إذ المراد به إمّا امتناع الاشتقاق فعلا فلا دلالة فيه مع جواز الاشتقاق شأنا وقابليّة وإن أراد به أنّه ليس قابلا للاشتقاق لمنع أهل اللّغة عنه فعدمه لا يضر بالحقيقيّة لتوقيفيّة اللّغات فيجوز وضع اللّفظ للمعنى وعدم الإذن في الاشتقاق منه

ومنها أصالة العدم

ويثبت بها الوضع سابقا ولاحقا فالأول كما إذا ثبت الوضع للمعنى عرفا ونشكّ في وضعه له لغة فنثبته بأصالة عدم النّقل والثّاني كعكسه وينفى به الوضع أيضا فيما ذكر بالنسبة إلى معنى آخر واختلف في أنها استصحاب أو لا بل قاعدة برأسها مستفادة من الغلبة وعمل العقلاء وعلى أي حال فلا كلام في حجيّتها أو لا لانسد باب العمل بظواهر الكتاب والسّنة ونحوهما مما لا يثبت فيه معنى اللّفظ إلا بأصالة عدم النّقل ويترتب على القولين وجوب إخراج الاستصحاب العدمي من محل النّزاع في حجيّة الاستصحاب لو جعلت الأصل المذكور استصحابا للإجماع على حجيّتها وعدم إخراجه عنه لو لم يجعل استصحابا وأورد على جعلها استصحابا أنه حينئذ لا يمكن إثبات الوضع سابقا بها لأنّها حينئذ هي الاستصحاب القهقرى لإثباته الشّيء الثّابت لاحقا في السّابق ولا دليل على حجيّة هذا القسم من الاستصحاب وفيه أنه حينئذ تثبت عدم النّقل المعلوم سابقا في الزّمان اللاحق ولازمه اتحاد المعنى السّابق واللاحق فهو الاستصحاب المعروف لا القهقرى وأورد بأنه حينئذ أصل مثبت لأن الاتحاد لازم لعدم النّقل في خصوص المقام وفيه أنّه لما كان المدار في اللّغات على الظّنّ فالأصل المثبت فيها حجة الاستلزام الظّنّ بالملزوم الظّنّ باللازم ويظهر الثّمرة بين القولين في لزوم ملاحظة الحالة السّابقة وإبقائها لو كانت من باب الاستصحاب وعدم لزوم ذلك لو كانت قاعدة برأسها لكن لما عرفت أن حجّيّة الاستصحاب في اللّغات أيضا من باب الظّن المطلق لا تعبدا فمستنده أيضا الغلبة والظّهور فلا ثمرة بينهما إلاّ بالاعتبار وهل يثبت بها ماهيّة الموضوع له لو شكّ في جزئيّة شيء لها أو لا الحق عدمه لكون أصالة عدم الوضع للزائد معارضا بأصالة عدم الوضع للناقص وليس هناك قدر متيقّن في الوضع فإن الزّائد إما يكون معتبرا في الوضع فالناقص ليس موضوعا له وإلاّ فلا يكون الزّائد بموضوع له فالأمر دائر بين الوضع للأقل بشرط شيء وبشرط لا والمراد من قولنا بشرط لا عدم اعتبار شيء آخر في الوضع ولازمه خروجه عن الموضوع له وإن كان حاصلا مع الموضوع له في الوجود في الأمر الدّائر بين الأخذ بشرط شيء وبشرط لا ليس في البين قدر متيقن يؤخذ به وينفى الزّائد بالأصل ولا يمكن الوضع للأقلّ لا بشرط لأنّ اللاّبشرطيّة إما يلاحظ بالنسبة إلى الوجود بمعنى جواز انضمام شيء آخر إليه في الوجود فهو لا ينافي ما قلنا من كون الزّائد حينئذ خارجا

 

عن الموضوع له وإمّا يلاحظ بالنسبة الاعتبار وفيما وضع له فهو باطل لأنّ الزائد إمّا يعتبر مع الأقل فالأقل حينئذ جزء الموضوع له أو لا يعتبر فهو تمام الموضوع له والزائد خارج ولا نعني من قولنا بشرط لا إلاّ هذا وليس بين النفي والإثبات شق ثالث وبالجملة الأمر في الموضوع له دائر بين متباينين ولا قدر متيقن في البين نعم يمكن ذلك فيما إذا كان اللّفظ المشكوك موردا للتكليف فيمكن حينئذ نفي التكليف بالزائد بأصالة البراءة لأنّ الأقل قدر متيقّن اشتغال الذّمة به والزائد مشكوك لكن فيه إشكال أيضا ولكن لا يمكن ذلك في اللّغات لما عرفت فإن قلت إنا نراهم يتمسكون بذلك في تعيين المنهيّة في بعض الموارد كالأمر يقولون إنّه موضوع لطلب الماهيّة لأصالة عدم التقييد بالمرة والتكرار وكالجمع المحلى باللام يقولون أنه موضوع لاستغراق الجماعات لا الأفراد لأصالة العدم وكذا يستدلّون في وضع المشترك للمعنى في حال الوحدة دون غيره بأنه القدر المتيقّن والأصل عدم وضعه في غير حال الوحدة لأنّه مشكوك وكذا إذا استعمل في النفي لثبوته في الإثبات ويشك في وضعه حينئذ لمعنى آخر غير ما يفيده الإثبات والأصل عدمه فكيف يجتمع ذلك مع ما حققه من عدم إمكان ذلك قلت أما التمسّك به في وضع المشترك للمعنى في حال الوحدة دون غيره فباطل إذ لا قدر متيقّن في البين لدوران الأمر بين أن يكون الموضوع له هو المعنى بدون اعتبار قيد الوحدة وأن يكون هو مع الوحدة وعلى الثاني يكون المعنى غير موضوع له بل هو جزؤه بخلاف الأوّل وحينئذ فليس المعنى يقيني الوضع حال الوحدة حتى يقال إنّه القدر المتيقّن وينفى في غيره بالأصل نعم وجود الموضوع له حال الوحدة معلوم لكن لا يعلم معيّنا وليس هناك قدر متيقّن فلا يمكن إجراء الأصل وأما التمسّك به في المشترك المنفي والجمع المحلى فلا ينافي في ما ذكرنا إذ يرجع الشّكّ فيهما إلى الشّكّ في حدوث وضع جديد فإن معنى النفي معلوم ومعنى المشترك معلوم وهو المعنى الواحد ومقتضاه دلالة المركب على نفي أفراد المعنى الواحد وإنما الشّكّ في أن المجموع منهما هل وضع بوضع آخر لنفي جميع المعاني أو لا فالأصل عدمه وكذا الجمع المحلى فإن معنى اللاّم هو الاستغراق ومعنى الجمع هو الجماعة ومقتضاه استغراق الجماعات لا الأفراد وإنما الشّكّ في حدوث وضع جديد للمجموع المركب فالأصل عدمه وهذا ليس من تعيين الماهيّة بالأصل في شيء وأما التّمسّك به في مبحث الأمر فيمكن تصحيحه بما ذكرنا بناء على القول بأنّ في المشتقّات وضعين وضع الهيئة ووضع للمادة وأن المصدر أيضا كسائر المشتقات وإنما المبدأ الموضوع هو مادة المصدر لا هي مع هيئته لوجوب سراية بلفظه ومعناه في المشتقات ولفظ المصدر ليس ساريا في المشتقات لاعتبار الهيئة الخاصة في لفظه وهي مفقودة في المشتقات فمادة ض ر ب بالترتيب الخاص موضوعة للمعنى الخاصّ وهو الجنس والماهيّة وهيئة الأمر وضعت للطلب ومقتضى ذلك إفادتها طلب الماهيّة

 

ويشكّ حينئذ في حدوث وضع آخر للمجموع المركب للمرة أو التكرار فالأصل عدمه وفيه أيضا إشكال لعدم تسليم وضع الهيئة للطلب مطلقا لم لا يجوز أن تكون موضوعة للطلب مع تقييد المطلوب بالمرة أو التكرار مثلا فيرجع الشّكّ إلى ماهيته الموضوع له وقد عرفت عدم إجراء الأصل فيها وأما على القول بأن المبدأ هو المصدر وهو موضوع بوضع واحد لا اثنين باعتبار مادّته وهيئته بل المادّة ليست موضوعة أصلا وأنّ معنى الاشتقاق تبديل صورة المصدر مع بقاء مادّته إلى صورة أخرى ليفيد ذلك المعنى مع زيادة فليس في المشتقات إلاّ وضع واحد للمجموع لما عرفت من عدم كون المادة موضوعة بوضع آخر وحينئذ فيشك في أن الموضوع له للمجموع في الأمر هل هو طلب المادة مطلقا أو طلبها مرة أو مكرّرة فيرجع الشّكّ إلى تعيين الموضوع له لا إلى حدوث وضع جديد فتأمل

فرع

إذا علم تحقق النّقل ولم يعلم المنقول إليه بخصوصه بل كان مردّدا بين شيئين لم يجر أصالة عدم النقل بالنسبة إلى أحدهما إذ يلزم الترجيح بلا مرجّح بل يجب التّوقّف والرّجوع في العمل إلى الأصول العمليّة إلاّ أن يحصل الظن بأحدهما فالمدار عليه فليس له ضابط ينضبط وذكر بعضهم في المقام تفصيلا وهو أن الأمرين المردد بينهما ما يكون أحدهما أقرب إلى المنقول عنه ذاتا أو لا وعلى الثاني يجب التّوقّف وعلى الأوّل إما يكون النقل تعيينيّا وعلى الأول يجب التّوقّف وعلى الثاني يحكم بأنّ الأقرب هو المنقول إليه كالدّابة كانت موضوعة من يدب على الأرض وقد نقلت إمّا إلى مطلق ذات القوائم الأربع أو خصوص الفرس فيحكم بأن الأوّل هو المنقول إليه لأنه أقرب إلى المنقول عنه ذاتا لأنّ النّوع أقرب إلى الجنس من الشّخص وذلك لأنّ النّقل التعيّني مسبوق بغلبة الاستعمال المجازي وقد ذكروا أنّ أقرب المجازات معتبر عرفا في حمل اللّفظ عليه وفيه أنّ المراد بتقديم أقرب المجازات الأقرب عرفا وهو المعنى المجازي الذي شاع استعمال اللّفظ فيه لا الأقرب إلى الحقيقة ذاتا وشيوع الاستعمال فيما نحن فيه غير معلوم وإلاّ لم يبق شكّ في النقل نعم لو علم نقله إلى أحدهما بخصوصه حكم بأنّه كان أقرب المجازات قبل النّقل لكشف النقل عن غلبته الاستعمال كما ذكروا أنّه إذا ثبت الحقيقة المتشرعة في الأعمّ مثلا أو الصّحيح وجب حمل كلام الشّارع عليه إذا قام قرينة على عدم إرادة المعنى اللغوي لكشف النقل عن كونه غالب الاستعمال في زمان الشّارع وبغلبة الاستعمال يكون أقرب المجازات وأمّا الأقرب ذاتا فلا دليل على اعتباره مضافا إلى أنّه لو كان المراد بقولهم أقرب المجازات معتبر عند الشّكّ الأقرب ذاتا وجب أن لا يكون خلاف في أنّ الصّلاة مثلا موضوعة للأعمّ لأنّه أقرب إلى المعنى اللغوي وهو الدعاء ذاتا من الصحيح إذ لا خلاف في تقديم أقرب المجازات مع أنّ الأكثر ذهبوا إلى الصحّة وبالجملة الأقربيّة الذاتيّة من التخريجات العقليّة لا يصحّ الاستناد إليها في باب اللّغات نعم لو كانت الأقربيّة

 

الذّاتيّة كاشفا عن كونه شائع الاستعمال صح ذلك لكنه غير مسلم لأنّ شيوع الاستعمال في المجاز مستند إلى الاحتياج وهو غير منحصر في الأقرب ذاتا كما لا يخفى وقيل لو دار الأمر في نقل الكلّي بين النقل إلى فرد والنقل إلى مباين قدم الأول لغلبة نقل الكلّي إلى الفرد دون المباين وفيه إشكال لشيوع النقل إلى المباين أيضا كالصلاة والحجّ والصوم وغيرهما فإن المعنى اللغوي ليس ملاحظا في المذكورات حتّى يقال إنّ الصّلاة نقلت إلى الدعاء الخاصّ وكذا في غيرها نعم لو ثبت الغلبة المذكورة صح ذلك إذ المدار على الظّنّ

ومنها توقف استعمال اللّفظ في المعنى على استعماله في غيره في كلام واحد

وهو دليل مجازيته فيه ومثل لذلك بقوله تعالى وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ فإنّ استعمال المكر فيما يصحّ استناده إليه تعالى متوقّف على إسناده إلى العبد أو لا ونوقش في ذلك بأنّه قد نسب إليه تعالى في آية أخرى مع عدم نسبته فيها إلى العبد كقوله تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ وبأن المجاز لا يتوقّف إلاّ على العلامة والمناسبة دون شيء آخر وفيه نظر أمّا الأول فلأنّه مناقشة في المثال ولا يجري في نحو قوله قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا إلي جبة وقميصا فإن استعمال الطبخ في الخياطة يتوقّف على استعماله في الموضوع له أوّلا وأمّا الثّاني فلجواز أن يكون محض المجاورة والمصاحبة اللّفظيّة موجبا لحصول المناسبة كما نشاهد ذلك في الطبخ فإنّه ليس مناسبا مع الخياطة بوجه ومع ذلك نرى له في الشعر المذكور حسنا وسلاسة يقبلها الذّوق ويميل إليها الطبع والأمر في المجازات دائر مدار قبول الذّوق فيعلم أنّ محض المجاورة سبب لحصول المناسبة لكن هذه العلامة يرجع إلى عدم الاطراد نظير قولنا أعتق رقبة حيث يصحّ ذلك ولا يصحّ جاءت الرقبة ونحوه

ومنها التزام التّقييد

وهو علامة المجاز وعدمه علامة الحقيقة لظهور الالتزام في أنّ اللّفظ لا يفيده بنفسه كقولهم نار الحرب جناح الذّل فإنّه لا يستعمل النّار في اشتداد الحرب إلاّ مقيدا بالحرب وكذا الجناح ونوقش فيه بوجهين أحدهما بوجود التقييد في بعض الحقائق كماء البحر والبئر ونحوهما والثاني بالتزامه في الأسماء اللازمة الإضافة مثل ذي بمعنى صاحب وفيهما نظر أمّا الأوّل فبعدم وجود الالتزام فيه وأمّا الثاني فلأنّ محلّ الكلام ما نقطع فيه بعدم احتياج أصل المعنى إلى التّقييد كالنّار والجناح فيخرج ذو وأمثاله لتوقف إفادة

المعنى فيها على التّقييد وليس الكلام فيه وبعد ما عرفت من كفاية الظّنّ في اللّغات فالأمر واضح

ومنها تقييده بقيدين مختلفين

فهو دليل وضعه للقدر المشترك كالأمر يقيد بالمرة والتكرار حذرا من لزوم التناقض إذ لو كان موضوعا لأحدهما دون الآخر كان تقييده به تأكيدا وبالآخر تناقضا وفيه نظر لعدم لزوم التناقض للمراد وعدم ضرر التناقض مع الموضوع له وإلاّ لانسدّ باب المجازات وعدم بأس في صيرورة تأكيدا

 

والأولى تقريره بأنّا نرى أنه يقيد بقيدين ولا يلزم التأكيد والتناقض عرفا بل يفيد التأسيس عرفا ولو كان مجازا في أحدهما لزم التّناقض ابتداء وإن زال بعد الالتفات إلى المعنى المجازي مع أنّا نرى عدم لزومه عرفا إلاّ أنّه يرجع إلى المنافرة وعدمها والأوّل علامة المجاز كما نشاهد من منافرة أسد مع يرمي ابتداء والثاني علامة الحقيقة ومرجعهما إلى التّبادر وعدمه ويمكن تصحيح التقرير الأول بأن يقال إنّ المراد أنّه لو قيل بمجازيّة أحدهما لزم التأكيد في أحدهما وهو الموضوع له والتأسيس في الآخر ولو قيل بالوضع للقدر المشترك كان في كل منهما تأسيسا والتأسيس أولى من التأكيد لغلبته عرفا لكن يحتاج حينئذ إلى إثبات غلبة التأسيس والمدار على الظّنّ

ومنها حسن الاستفهام

استدلّ به السّيّد على اشتراك الأمر بين الفور والتراخي بتقريب أنّ الاستفهام ملازم مع الاحتمال الملازم وللإجمال الحاصل في المشترك وفيه أنه لو أريد من الاحتمال خصوص الاحتمال الحاصل في المشترك منعنا ملازمته مع الاستفهام مع الاحتمال الضعيف الحاصل بالنسبة إلى إرادة المعنى المجازي وإن أراد منه الأعم لم يتم ما ادعاه فافهم

خاتمة

تتضمّن بعض القواعد المحتاج إليها في الباب

أحدها كل لفظ لم يثبت للشّارع فيه اصطلاح خاص إذا وقع في كلامه رجع فيه إلى ما يرجع إليه في كلام غيره كالألفاظ اللّغويّة فإذا أجمع الأصحاب على مجيء اللّفظ لمعنى فهو ليس كاشفا عن رأي المعصوم إذ ليس شأنه بيانه والأصحاب ليسوا بالعين لهم في ذلك بل يتعولون فيه على اجتهادهم فلو أفاد العلم بالواقع أو الظّنّ به فهو حجة لذلك لا للكشف ويقع التّعارض بينه وبين نقل النقلة لو لم يفد العلم نعم لو ثبت كشفه عن قول المعصوم كان حجة ومقدّما على غيره إنما الكلام في كونه كاشفا ومقتضى ما ذكرنا عدم كشفه عنه كما لا يخفى

الثّاني قد عرفت أنّ الحمل إمّا ذاتي يقصد به اتحاد الموضوع والمحمول ذاتا وإمّا متعارفي يقصد به اتحادهما وجود كحمل الكلي على الفرد وإمّا ادعائي يقصد به مشاركة الموضوع للمحمول في الأحكام فاعلم أنّ الحمل بجميع المعاني موجود في كلام الشّارع فالأوّل كقوله الوضوء غسلتان ومسحتان والثّاني نحو الارتماس في الماء غسل والثالث نحو الطّواف بالبيت صلاة ويشترط في وقوع المذكورات في كلامه كون الموضوع في الأوّل والمحمول في الثاني من مخترعاته إذ ليس شأنه بيان الماهيات العرفيّة أو اللّغويّة وأن يكون للمحمول حكم معروف في الثالث حتى يلحق به الموضوع فيه كالأمثلة وحينئذ فيشكل الأمر في نحو الحيض دم أسود ونحوه فإنّه ليس من قبيل الأوّلين لعدم كون المحمول ولا الموضوع من مخترعات الشّارع ولا من الثالث إذ ليس للدم الأسود حكم معروف في الشّريعة ويمكن أن يقال إنّ المقصود به بيان الضابط والمعرّف الغالبي ليرجع إليه عند الشّكّ فيكون من قبيل الأول لكن في خصوص حال الشّكّ

 

فإنّ الموضوعات التي يتعلّق بها الأحكام الشّرعيّة يجوز للشارع بيان ضابط في تشخيصها ليرجع إليه عند الشّكّ وهو ليس بعادم النظير كما في اليد والسّوق والفراش وأوصاف المذكورة للمعنى وذلك لعدم انضباط العرف في أمثال هذه الأمور

الثالث قد عرفت أنّ العرف محكم في باب اللّغات ونقول هنا إنّ في المقام تفصيلا وذلك لأنّ الشّكّ إمّا يكون في نفس مفهوم اللّفظ ولا شكّ في حجيّة حكم العرف بأنّ المفهوم ذلك ولا يعتني باحتمال خطئهم لما ذكرنا أنّ الظّنّ في اللّغة حجة وإمّا يكون في تحقق المفهوم في الشّيء الخاصّ أعني الشّكّ في المصداق أو هذا يتصور بوجهين (أحدهما) أن يكون المفهوم معلوما وإنما عرض الشّكّ بسبب العوارض الحاصلة في المصداق كالبلل المشتبهة بالبول ولا شكّ في عدم اعتبار الحكم العرف بكونه مصداقا لذلك المفهوم وذلك ما قيل إنّ الظّنّ ليس بحجة في الموضوعات الصرفة ولذلك لعدم تعلّق ذلك باللّغات ولا بمفهوم اللّفظ ولا دليل على حجيّة الظنّ المطلق هنا بل يجب تحصيل العلم أو الرجوع إلى الأسباب الخاصّة كالبيّنة ونحوها حتى أنه لو قال المتكلّم أكرم العلماء ثم قال زيد عالم لم يجب على المخاطب إكرامه إذا علم جهله لأنّ الرّجوع إلى المتكلم إنّما هو فيما يكون كلامه بصدد الكشف عنه وليس كلامه ذلك مسوقا لبيان مصاديق العلماء حتى يرجع إليه في تعيينه بل تمييز ذلك شأن المخاطب والمتكلّم أيضا لو اعتبر بقوله فإنّما هو من باب البينة (الثاني) أن يكون الشّكّ في المصداق بواسطة عدم تشخيص المعنى فبحكم العرف بوجود المفهوم في ذلك المصداق يعلم أنّ المعنى شيء يشمله وبهذا الاعتبار يدخل في القسم الأول وأيضا يعلم تحققه في ضمن ذلك المصداق وبهذا الاعتبار يدخل في القسم الثاني وهل حكم العرف حجة في هذا القسم محل الإشكال فقيل بعدم حجيّته وذلك لأنّ احتمال خطئهم في تشخيص المعنى أي الاعتبار الأوّل وإن كان لا يعتنى به لكن خطؤهم في تشخيص الموضوعات ليس بعيدا وهو يوجب عدم حصول الظن بقولهم وعلى فرض حصول الظّنّ أيضا لا دليل على حجيّته إذ هو باعتبار الثاني ظنّ في الموضوعات الصّرفة وإن كان بالاعتبار الأوّل ظنا في اللّغات ولا دليل على حجيّة الظنّ في اللغات إذا حصل بتوسّط الظّنّ الحاصل في الموضوعات وقيل بحجيّته لأصالة عدم الخطاء لندرته ولحمل فعل المسلم على الصحّة أقول أمّا حمل فعل المسلم على الصحة فلا دخل له بهذه المواضع وأمّا الأصل المذكور ففيه تفصيل وذلك أنه إن كان هناك احتمال السّهو والنّسيان ونحوهما للصرف فالأصل عدمه لعدم اعتبار العقلاء لهذه الاحتمالات وإن كان احتمال غفلتهم عن صفة كائنة في ذلك المصداق بحيث لو تفطنوا بوجوده لم يحكموا بدخوله تحت المفهوم فلا يجري الأصل إذ لا نسلم ندرته بل هو كثير ربما أوجب عدم حصول الظّنّ بقولهم وذلك كما لو حكموا في

 

شخص مقيم في البلد دون ستّة أشهر بأنّه غير مستوطن فيحتمل أنّهم غفلوا عن أنّ نيّة ذلك الشّخص الإقامة دائما فلذا حكموا عليه بعدم الاستيطان ولو علموا نيّته لم يحكموا عليه بذلك وهذا لا يمكن دفعه بأصالة العدم لغلبة عدم العثور على النيّات مضافا إلى أنّ الأصل عدم العلم فلا يمكن الحكم بسبب ذلك بأنّ ناوي الإقامة دائما ليس بمستوطن قبل ستّة أشهر نعم إذا فرض حصول الظن بقولهم لا يمكن نفي حجيّته بما ذكر لأنّ الظّاهر من إجماعهم على حجيّة الظّنّ في اللّغات عدم التّفاوت بين الحاصل بلا واسطة أو بواسطة فافهم

الرّابع إذا علق الحكم في الشّرع على عنوان وكان متفاهم العرف في ذلك العنوان مخالفا للواقع كأن جعلوا منه فردا ليس منه أو أخرجوا عنه فردا كان منه تعلق الحكم بما يفهمه العرف إن لم يبين الشّارع خطأهم وإلاّ لزم الإغراء بالجهل مثل أنّه علق النجاسة على عنوان الدّم وهو ليس في العرف شاملا للون المختلف عنه بعد غسله وإن كان شاملا له عقلا إذ هو من أجزائه الصغار الباقي في المحل لعدم جواز انتقال العرض من موضوع إلى موضوع وحينئذ فيجب أن يكون مراد الشّارع هو ما يفهمه العرف فلا يشمل اللون المختلف إن لم ينصب قرينة على إرادة جميع الأفراد الواقعة وينبه العرف على خطئهم هذا إن قلنا بأنّ لفظ الدّم موضوع لما يشمل اللّون وإلاّ بأن قلنا بأنّ الألفاظ اللّغويّة موضوعة لمعاني الظّاهرة عند العرف دون الخفيّة لأنّ الحكمة في الوضع أن يستعمل في مقام التّفهيم والتّفّهم وهو يحصل بالنسبة إلى الأمور الظّاهرة المحتاج إليها عند العرف دون الخفيّة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأزكياء فلا حاجة إلى ما ذكرنا لوجوب حمل اللّفظ على الموضوع له وليس إلاّ ما فهمه العرف والحاصل أنّ كلام الشّارع ينزل على مقتضى متفاهم العرف إلاّ إذا نصب قرينة على إرادة المعنى الواقعي رادعة للعرف عما فهموه مخالفا للواقع هذا إذا لم يلزم محذور آخر في الحمل على متفاهم العرف وإلاّ كأن كان متفاهمهم شيئا لا يمكن تعلق الحكم به فلا يجوز الحمل عليه وحينئذ يظهر فساد ما ذكره بعضهم عند الاستدلال لتعلّق الأمر بالطبائع من أنّه لو قيل بوجود الكلي الطبيعي فلا إشكال وإن قيل بعدم وجوده فلا بدّ من حمل اللّفظ على إرادة طلب الماهيّة أيضا لأنّها حينئذ وإن كانت غير موجودة في النظر الفلسفي لكنها موجودة عند العرف وكلمات الشّارع ينزل على مقتضى العرف والعادة وجه فساده أنّ الحمل على متفاهم العرف حينئذ مستلزم للتّكليف بالمجال أعني إيجاد الماهيّة لأنّه غير ممكن على هذا القول لكن هذا خارج عما نحن فيه إذ ليس خطأ العرف في معنى العنوان إذ لا شبهة في أنّ ظاهر الأمر طلب الماهيّة والقائلون بتعلّقه بالفرد يستدلّون بوجود القرينة الصّارفة عن الظاهر وهي عدم وجود الماهيّة وخطأ العرف حينئذ إنّما هو في نفيهم القرينة المذكورة حيث جعلوها موجودة لا في العنوان ويمكن أن يقال إنّ ظهوره

 

في طلب الماهية غير مسلم بل هو ظاهر في طلب الأفراد فخطأ العرف إنّما هو في فهم العنوان حيث فهموا منه طلب الماهية فيدخل فيما نحن فيه فهذا البعض يجعل الخطاب منزّلا عليه ونحن نقول إنه غير ممكن إذ لا معنى لطلب الماهية أصلا بل المطلوب هو إيجاد الماهيّة ومعنى ذلك إحداث وجودها ووجودها عين الفرد إذ ليس الفرد إلاّ الكليّ الموجود لما عرفت أن تشخص الكليّ إنّما هو بنفس الوجود لا بغيره فالظاهر من الأمر هو طلب الأفراد ولا معنى لطلب الماهية حتى ينزل عليه كلام الشّارع

أصل

إذا تميز المعنى الحقيقي عن المجازي وشكّ في أن المراد أيّهما هو فهل يحمل على الحقيقة أو المجاز وفيه مقامان (الأوّل) في أن المدار في الحمل على الحقيقة على أيّ شيء فنقول اختلفوا فيه على أقوال أحدها أنّه إذا تجرّد اللّفظ عن قرينة صارفة معتبرة عرفا وجب الحمل على الحقيقة تعبّدا مطلقا سواء كان إرادة الحقيقة مظنونة أو مشكوكة أو مظنونة العدم والثّاني أنّه يلاحظ الكلام بمجموعه وخصوصيته المقام فإن كان ظاهرا بنوعه في إرادة الحقيقة حمل عليها وإلاّ فلا ويظهر الثمرة بينه وبين القول الأوّل فيما إذا ارتفع الظّنّ النّوعي بسبب خصوصيات المقام مثلا أو بكونه مقرونا بما يحتمل كونه قرينة كالأمر عقيب الحظر فإن وقوعه عقيب الحظر دافع للظّنّ النّوعي بإرادة الحقيقة أي الوجوب وكالعام الأوّل في العامين المتعقبين بالاستثناء فإنّ صلاحيته الاستثناء لرجوعه إلى الجميع يرفع الظّنّ النّوعي بإرادة العموم من العام الأول كما قيل فلا يجوز حمل الأمر على الوجوب والعام على العموم في الموضعين على القول الثاني بخلافه على القول الأوّل ويجتمعان فيما إذا كان ما يحتمل أن يكون قرينة شيئا غير مقترن بالكلام كما لو قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم زيدا وكان زيد مشتركا بين العالم والجاهل فمحض احتمال إرادة العالم من زيد فيخصص العام غير رافع للظّنّ النّوعي بإرادة العموم وحينئذ فيحمل على العموم على القولين الثالث أنّ المدار على حصول الظّنّ الفعلي بإرادة الحقيقة ويظهر ذلك من الفاضل الخوانساري حيث اعترض على صاحب المعالم في حمله العام الأوّل في العامين المتعقّبين بالاستثناء على العموم بأنّه ليس المظنون إرادة العموم ولا دليل على وجوب الحمل على الحقيقة وإن لم يفد الظّنّ وكلامه كالنّصّ في إرادة الظّنّ الفعلي وإن احتمل إرادة الظّنّ النّوعي لما عرفت من ارتفاعه أيضا في المحل المفروض على قول الرّابع أنّه إذا ارتفع الظّنّ الفعلي بالأمور الخارجية الغير المعتبرة كقيام الشهرة على خلافه لا يعتنى به بل يحمل على الحقيقة تعبّدا وإلاّ بأن ارتفع بسبب اقتران الأمور الخارجية المعتبرة أو الدّاخلة مطلقا وجب التّوقّف الخامس أنّه إن كان مقترنا بما يحتمل أن يكون قرينة مطلقا لم يجز الحمل على الحقيقة لارتفاع الظّنّ النّوعي حينئذ وإلاّ بأن كان الأمر المحتمل كونه قرينة شيئا خارجا عن الكلام معتبرا كان أو لا فلا يعتنى به بل يحمل على الحقيقة لعدم ارتفاع

 

الظّنّ النّوعي وهذا القول يرجع إلى القول الثاني وتفصيله إنّما هو في موارد حصول الظّنّ النّوعي وعدمه ثم إنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا لم يكن دافع الظهور في إرادة الحقيقة ظهور آخر وإلاّ خرج عما نحن فيه ودخل في مسألة تعارض الظاهرين وسيأتي إن شاء الله بل الكلام إنّما هو فيما إذا كان الرّافع للظّهور مجملا كزيد المشترك بين الجاهل والعالم والاستثناء عقيب العمومات لعدم ظهوره في شيء ونحو ذلك وحينئذ فنقول في تحقيق الحق في المقام إنّ الحكم في المقام هو العرف والأمور الخارجية الّتي يحتمل كونها قرينة لا يعتنى بها عرفا في رفع اليد عن ظاهر اللّفظ ولو كان معتبرا بل يجعلون ظاهر اللّفظ قرينة مبيّنة لإجمال الأمر الخارجي مثلا إذا قيل أكرم العلماء ثم قال لا تكرم زيدا وكان زيد مشتركا بين العالم والجاهل يحكم بأنّ المراد منه زيد الجاهل أخذا بظاهر عموم أكرم العلماء ولا يصير احتمال كون المراد منه العالم موجبا لتوقّفهم في عموم العلماء وإن لم يحصل الظّنّ الفعلي بعمومه وهو مطابق لعمل الفقهاء أيضا كما استدلّوا على طهارة الغسالة في التّطهير بالماء القليل بعموم قوله النّجس لا يطهر مع الإجماع على مطهّريّة الماء القليل فيحكمون بعدم تنجسه حينئذ بالملاقاة ولا يتوقّفون في عموم اللّفظ لاحتمال كون الإجماع على مطهّريّته مخصصا لعموم قوله النّجس لا يطهر وكذا يتمسكون في إفادة المعاطاة الملك بقوله لا عتق إلاّ في ملك مع الإجماع على جواز عتق المأخوذ بالمعاطاة أخذا بعموم اللّفظ ولا يعتنون باحتمال كون الإجماع مخصصا له مضافا إلى أنّ ذلك مقتضى قاعدة عكس النّقيض فإنّ قوله أكرم العلماء بمنزلة كل عالم يجب إكرامه وينعكس نقيضه بقولنا من لم يجب إكرامه فليس بعالم وزيد لم يجب إكرامه لقوله لا تكرم زيدا ينتج أنّ زيد المنهيّ عن إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب وكذا في نظائره لا يقال إنّهم لا يعملون بالخبر إذا قامت الشهرة على خلافه وهي من الأمور الخارجة لأنّا نقول ليس ذلك من جهة رفع ظهور الخبر في المعنى الحقيقي بواسطة الشهرة بل لأنّ الشهرة موهنة له من حيث السّند ولذا لا يطرح عام الكتاب أو الخبر المتواتر بمحض قيام الشهرة على خلافه عند القائلين بالظّنون الخاصة وبالجملة هل العرف لا يتوقّفون في حمل اللّفظ على ظاهره بمحض احتمال كون الأمر الخارجي قرينة على مجازيّته معتبرا كان كالخطاب المنفصل أو غير معتبر كالشّهرة مثلا وإن لم يحصل لهم الظّنّ فعلا بإرادة الحقيقة بل يكتفون فيه بالظهور نوعا وحينئذ فعلم بطلان القول الثالث لعدم لزوم الظّنّ الفعلي عرفا والقول الرّابع لعدم اعتناء العرف بالأمور الخارجيّة مطلقا معتبرا كان أو لا بقي الكلام فيما إذا اقترن باللّفظ ما يحتمل أن يكون قرينة فنقول ليس في ذلك ضابط كلي بل لا بد أن يرجع في خصوص الألفاظ إلى العرف ويمكن أن يقال لو كان اللّفظ مجازا مشهورا في معنى بمعنى أن يكون الأمر المحتمل كونه قرينة

 

غلبة الاستعمال كالأمر حيث يستعمل في النّدب شائعا فيتوقّف العرف لعدم الظهور عرفا في إرادة الحقيقة وبهذا يظهر فساد القول الأوّل إذ لو كان بناؤهم على التّعبّد لم يكن للتّوقّف في ذلك وجه وأمّا لو كان مثل العامين المتعقبين بالاستثناء فيمكن ادعاء عدم ارتفاع ظهور العام الأوّل باحتمال رجوع الاستثناء إلى الجميع وبه يبطل القول الخامس حيث حكم بارتفاع الظّنّ النّوعي بسبب الأمور المقترنة مطلقا وذلك لعدم الفرق بينه وبين الكلام المنفصل المجمل كقوله لا تكرم زيدا مع اشتراكه بين الجاهل والعالم كما مر حيث يحكم العرف فيه بإرادة الجاهل بقرينة ظهور العام في العموم فليحكم هنا أيضا بعموم اللّفظ لأصالة الحقيقة ويجعل ذلك قرينة على اختصاص الاستثناء بالأخير وهذا مقتضى القاعدة أيضا فإنّه إذا دار الأمر بين حمل اللّفظ المجمل على معنى يلزم منه مجازيّة لفظ آخر وبين حمله على غيره مما لا يلزم منه ذلك تعيّن الثاني أخذا بظهور اللّفظ في الحقيقة كما ذكروا أنّه لو قال له علي عشرة إلاّ ثوبا كان المراد عشرة أثواب لأصالة الحقيقة في الاستثناء أي الاتصال ولهذا فرق صاحب المعالم بين الاستثناء عقيب الجمل وبين الأمر حيث توقف في حمل الأمر على الوجوب لغلبة الاستعمال في النّدب وحكم برجوع الاستثناء إلى الأخيرة خاصة أخذا بأصالة الحقيقة في الباقي والحاصل أنّ الاستثناء بحسب الوضع صالح للرجوع إلى الأخيرة وإلى الجميع فحمله على معنى لا يلزم منه مجاز في سائر العمومات غير الأخيرة متعين لما عرفت من بناء الفقهاء وعمل العرف وغاية ما يمكن أن يقال في الفرق بين المتصل والمنفصل هو ما ذكره الفاضل القمي رحمه‌الله في مبحث وقوع الاستثناء عقيب الجمل من أنّ الاستثناء مشترك بين رجوعه إلى الأخيرة وإلى الجميع والعمومات المتعقبة بالاستثناء مشتركة بالوضع التّركيبي بين أن يراد منها العموم بأن يراد من الاستثناء المعنى الأوّل وأن يراد منها الخصوص بأن يراد من الاستثناء المعنى الثاني وحينئذ فلا يمكن التّمسّك بأصالة الحقيقة في العام في اختصاص الاستثناء بالأخيرة أقول إذا سلم ما ذكره من الاشتراك في الوضع التّركيبي فلا شبهة في عدم جواز التّمسّك بالأصل لكن لا نسلم الوضع التّركيبي أصلا بل الاستثناء موضوع لمطلق الإخراج والعام موضوع للعموم نعم قد وضع الهيئة التّركيبيّة لربط أحدهما بالآخر كربط زيد بقائم في زيد قائم ولا يستلزم ذلك اشتراك الاستثناء ولا اشتراك العام وحينئذ فيجوز التّمسّك بأصالة الحقيقة في حمل الاستثناء على ما لا يستلزم مجازيّة سائر العمومات ولا ضير فيه وإذن فالحق هو القول الثاني ولا بد في تمييز الصغريات من الرّجوع إلى العرف وقد عرفت عدم اعتنائهم بالأمور الخارجة مطلقا وأمّا الدّاخلة فليس له حد منضبط بل لا بد من عرض الألفاظ على العرف وقد عرفت أنهم قد يتوقّفون في مثل ما لو كان الأمر المحتمل القرينية هو الغلبة فبطل القول الأوّل وإنّه يمكن منع توقّفهم

 

في مثل ما أمكن جعل ظهور الحقيقة قرينة مبيّنة لمجمل آخر كما في الاستثناء فيبطل القول الخامس فافهم ثم إنّ بعضهم مثل لما اقترن باللّفظ ما يحتمل أن يكون قرينة بالعام الذي يرجع الضمير إلى بعض أفراده لاحتمال كون الضمير مخصصا له والحق أنّه داخل في مسألة تعارض الظاهرين إذ العام ظاهر في العموم ولو قلنا بكونه حقيقة بعد التّخصيص إذ لا بعد في كون الحقيقة مخالفا للظّاهر والضمير ظاهر في المطابقة مع المرجع فالاستخدام خلاف الظاهر وإن كان حقيقة كما هو الحق إذا الضمير الغالب وضع ليكون كناية عما تقدم ذكره مطلقا ولو حكما كما لو فهم بقرينة المقام ونحو ذلك وبالجملة لا مجازيّة في الضمير إذا لم يرجع إلى المتقدم صريحا لكن ظاهره الرّجوع إلى المتقدم صريحا فالاستخدام خلاف الظاهر وإن كان حقيقة وقيل إنّه مجاز بعلاقة العموم والخصوص فيما نحن فيه لأنه إذا رجع إلى العام كان حقيقة في العموم مع أنّه أريد منه بعض الأفراد فيكون مجازا بالعلاقة المذكورة وهو باطل أمّا أوّلا فبما عرفت من عدم المجازيّة أصلا وأمّا ثانيا فلأنّ العلاقة المذكورة لا تجري في قوله إذا نزل السّماء بأرض قوم دعيناه وإن كانوا غضابا حيث أريد من الضمير معنى مباين للمراد بالمرجع فالأولى جعل العلاقة الشّباهة ويقال شبه الأمر المراد من الضمير بالأمر المتقدم صريحا فاستعمل فيه اللّفظ الموضوع لأن يراد منه المتقدم الصريح ليتحد العلاقة في جميع أنواع الاستخدام وكيف كان فالأمر دائر بين ارتكاب خلاف الظاهر في العام وارتكابه في الضمير فهو خارج عما نحن فيه والحق فيه تقديم الاستخدام على ارتكاب التّخصيص إذا المراد بالضمير هو بعض الأفراد على أي تقدير غاية الأمر أنّه إذا حمل العام على العموم صار استعمال الضمير استخداما وإلاّ فلا فالاستخدام وعدمه في الضمير تابع لتعيّن المراد من العام وبعد تعيينه بظهوره في العموم يتفرع عليه لوازمه من الاستخدام وغيره ولا يمكن المعارضة بكون الاستخدام خلاف الظاهر لأنّه من التّوابع وبعد تعيين معنى المتبوع يترتب عليه قهرا وهو واضح ومع قطع النّظر عن هذا الكلام فإن قلنا بكون التّخصيص حقيقة كالاستخدام وجب التّوقّف كما إذا قلنا بكونهما مجازين وإن قلنا بكون التّخصيص مجازا دون الاستخدام فيتعيّن الحمل على الاستخدام عند من يجري أصالة الحقيقة تعبدا دون من يقول بحجيتها للظّهور النّوعي لإمكان نفي الظهور النوعي بملاحظة الضمير وإن قلنا بمجازيّة الاستخدام دون التّخصيص قدم التّخصيص بناء على التّعبّد دون القول الآخر ولا يمكن التّمسّك في حمل العام على العموم بأصالة عدم القرينة إذا المراد بها إمّا استصحاب عدم كون الضمير قرينة وإمّا القاعدة العقلائية أي الحكم بالعدم في كل ما شكّ فيه وإمّا استصحاب عدم وجود القرينة أو عدم تعويل المتكلم عليها والأوّلان باطلان إذ ليس عدم القرينة للضّمير حالة سابقة حتى يستصحب والكلية في بناء العقلاء ممنوعة وأمّا الآخران فمسلمان لكن حجيتهما ليس إلاّ من باب الظّنّ كما عرفت

 

سابقا والمفروض عدمه فيما نحن فيه كما عرفت ثم إنّ الظهور النّوعي الحاصل بإرادة الحقيقة حجة من باب الظّنون الخاصّة لا المطلقة من غير فرق بين المخاطب وغير المخاطب الإجماع العلماء من متقدميهم ومتأخّريهم وإطباق أهل اللّسان والعرف مضافا إلى تقرير المعصومين عليه ولم يناقش في ذلك أحد من العلماء سوى الفاضل القمي ره حيث فرق بين المخاطب وغيره فجعل حجية ظاهر اللّفظ بالنسبة إلى الأوّل من باب حجية الظنون الخاصة دون الثّاني فجعله من باب حجيته الظّنون المطلقة وهو غير سديد لأنّ كل دليل دلّ على حجيته للمخاطب فهو دالّ على حجيته لغيره أيضا وهو الإجماع والتّقرير فإنا نراهم يحكمون عند شهادة الشهود بأنّ فلانا أقر لفلان بأن قال له علي كذا بأنه لزمه ذلك ولا يتوقفون في ذلك مع أنهم لم يكونوا مخاطبين بكلام المقر لا يقال إنهم يحكمون بذلك لحصول الظّنّ لهم به وقد سلمنا حجيّة الظّنّ مطلقا لغير المخاطب أيضا لأنّا نقول لا وجه لحجيّة الظّنّ مطلقا في أمثال هذه المقامات لأنّها من قبيل الموضوعات الصرفة الّتي ليس مدارها إلاّ على العلم أو الأسباب الخاصة ولا انسداد لباب العلم فيها لإمكان الاحتياط أو العمل بالبراءة فيها غالبا أو بالجملة لا خلاف لأحد في حجيّة الظواهر بالنّسبة إلى المخاطب وغيره وما يرى من منع الأخباريين حجيّة الكتاب ليس لعدم حجية الظواهر بل إنّما هو لزعمهم وقوع التّحريف فيه المانع عن حجيته أو لصدوره بسبك خاص لخصوص بعض الأشخاص فلم يرد منه إلاّ فهمهم بخصوصهم وفهم سائر المكلفين ببيانهم فافهم

فرع

ما ذكرنا من حجية الظهور النّوعي في إرادة الحقيقة إنّما هو في قبال المجاز وأمّا تعيين المراد فهو مقام آخر وبيانه أنّه قد يتحد المعنى الحقيقي وقد يتعدد أمّا في الأوّل فيتعين الحمل عليه وأمّا في الثاني فإمّا أن يكون التّعدّد في اصطلاح واحد وزمان واحد فهو المشترك ويأتي الكلام فيه إن شاء الله وإمّا أن يكون التّعدّد بالنسبة إلى زمانين أي اللّغة والعرف وهو على ضربين أحدهما أن يكون له في اللّغة معنى وفي عرف المتشرعة معنى ولم نعلم أنّه كان في زمان الشارع حقيقة في أيّهما وهذا هو النّزاع في الحقيقة الشرعية وسيأتي إن شاء الله والثاني أن يكون له في اللّغة معنى وفي العرف العام معنى ولم نعلم والموضوع له في زمان الشارع وإمّا أن يكون التّعدد في زمان واحد بالنسبة إلى اصطلاحين كلفظ رطل له بالعراق معنى وبالمدينة معنى فلو وقع في تخاطب المدني والعراقي يقع الإشكال في حمله على أحد الاصطلاحين ونتكلم هنا في القسمين الآخرين أحدهما في تعارض العرف العام مع اللّغة والثاني في تعارض عرف المتكلم والمخاطب أمّا الأول فاختلفوا فيه على أقوال الأوّل الحمل على اللّغة لأنّ النّقل إلى العرف ثابت والشّكّ إنّما هو في ثبوته في زمان الشارع وتأخّره عنه فالأصل تأخّره والثاني الحمل على العرف لغلبة اتحاد الشرع والعرف والثالث التّوقف لتعارض الأدلة الرّابع التّفصيل

 

بين أن يكون المراد من اللّغة ما ذكروه في الكتب المصنفة مثل الصحاح والقاموس وغيرهما من الكتب المؤلفة بعد زمان الشارع فيحمل على اللّغة وبين أن يكون المراد اللّغة السابقة على زمان الشارع فيحمل على العرف أمّا في الأول فلاحترازه عن تعدد النّقل إذ لو حمل على المعنى العرفي وجب التزام نقله منه إلى المعنى اللّغوي لتأخّره ثم إلى المعنى العرفي وأمّا في الثاني فلغلبة اتحاد الشرع والعرف الخامس التّفصيل بين ما لو علم تاريخ الصدور والنّقل فيحمل بمقتضى العلم وما لو جهل تاريخهما معا فيحكم بالمقارنة لأصالة عدم التّقدم في كل من الصدور والنّقل لكونهما حادثين وحينئذ يجب الحمل على المعنى اللّغوي إذا كان النّقل تخصيصيا إذ النّقل يحصل مقارنا للخطاب ويجب في الاستعمال تقدم الوضع وأمّا لو كان تخصصيا فلا يحمل على اللّغوي جزما إذ النّقل لو كان مقارنا للصدور كان الصدور مسبوقا بمجازيته في المعنى العرفي مجازا مشهورا وتقديم الحقيقة على المجاز المشهور محل إشكال وما لو علم تاريخ الصدور فقط فيحمل على المعنى اللّغوي لأصالة تأخّر النّقل وما لو علم تاريخ النّقل فقط فيحمل على العرفي لأصالة تأخّر الصدور وفي الجميع نظر لما عرفت سابقا من أنّ المدار في اللّغات على الظّنّ المطلق الفعلي وهو لا يحصل بأصالة تأخّر النّقل إذ لا يفيد الاستصحاب الظّنّ بنفسه ولا غلبة لتأخّر النّقل حتى يحصل الظّنّ بسببها إذ النّقل في نفسه قليل وفيما ثبت النّقل أيضا ليس الغالب تأخّره والمدار في أمثال ذلك على الغلبة الصنفيّة لا الجنسيّة فلا يرد أنّ الغالب في جنس الحادث هو التّأخّر إذ لا نعلم أنّ المناط هو الحدوث أو غيره والغلبة المعتبرة هي الصنفية وغلبة اتحاد العرف والشرع إنّما هي في الألفاظ الّتي يتحد فيها اللّغة مع العرف وأمّا في ما اختلفا فيه كما هو محل النّزاع فلا نسلمها فإنّ موارده في نفسه قليل لا يوجد فيه إلاّ مثال واحد أو أكثر فادعاء غلبة الاتحاد في مثله غير مسموع وبهذا علم بطلان القول الأول والثاني والرّابع والخامس لأنّ متمسكهم هو أصالة التّأخر وغلبة الاتحاد وقد عرفت بطلانهما مضافا إلى أنّ ما ذكره الرّابع باطل في نفسه فإنّ المراد باللّغة في المقام هو العرف السابق على زمان الشارع كما هو محل النّزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وليس الكلام في عرف صاحب الصحاح والقاموس وهو واضح فالحق في المقام أنّ المدار على الظّنّ الشخصي لرجوعه إلى الشّكّ في الموضوع له لا المراد بعد تميز الموضوع له فإن لم يحصل فالتوقف

تنبيه

أشرنا إلى عدم حجية أصالة التّأخر في المقام ولا بأس بتطويل الكلام لتوضيح المراد فنقول إنّ أصالة التّأخّر ليس معناها استصحاب التّأخر إذ ليس التّأخر محرزا في الزّمان السّابق حتى يستصحب بل المعنى القاعدة التي مفادها التّأخر وهي إبقاء الشيء على عدمه السابق إلى زمان تيقن وجوده فهناك شيئان الوجود في الزّمان السابق وهو مشكوك والوجود في الزّمان اللاحق وهو

 

مقطوع فبأصالة التّأخّر يثبت العدم في الزّمان السّابق فلو كان للعدم السّابق حكم ترتّب عليه وكذا الأحكام المترتّبة على نفس الوجود اللاحق وهذا لا إشكال فيه إنّما الكلام في أن الوجود اللاحق حدوث وابتداء وجود لا بقاء ووجود بعد وجود فإنّه إذا ثبت الوجود في اللاّحق والعدم في السّابق يستلزم أن يكون ذلك الوجود حدوثا لا بقاء فهل يثبت بها ذلك ويترتب عليه إمكان كونه حدوثا أو لا وكذا إذا كان لتأخّر ذلك الوجود عن وجود شيء آخر سابق حكم فهل يثبت بها تأخّره عنه ويترتّب عليه الحكم أو لا مثل أنه نذر شخص أنه لو قدم زيد بعد عمرو تصدق بدرهم ولو قدم زيد يوم الأحد تصدق بدرهمين ونذر أنّه يتصدق ثلاثة دراهم في كل يوم كان زيد في البلد فرأى زيدا في يوم الأحد وشك في أنّه قدم ذلك اليوم أو في يوم السّبت وعمرو قد قدم يوم السّبت فبأصالة التّأخّر يحكم بأنه قد قدم زيد يوم الأحد ويترتب عليه لوازم وجود يوم الأحد من التّصدق بثلاثة دراهم وكذا لوازم عدم وجوده في السّابق من عدم التّصدق فيه بثلاثة وحينئذ فهل يحكم بسببها بأن القدوم تحقق في يوم الأحد فيجب عليه التّصدق بدرهمين أو لا وهل يحكم بتأخّره عن عمرو فيجب التّصدّق بدرهم أو لا محل إشكال وكما إذا شك في أن المبيع كان معيبا قبل البيع حتى يثبت الخيار أو بعده فلئن كان العيب ثابتا في يوم السّبت فبأصالة التّأخّر يحكم بثبوت البيع يوم الأحد وهل يثبت بها تأخّره عن العيب ليترتب ثبوت الخيار أو لا إشكال وبما ذكرنا من أن موردها ما لو كان للمشي حالتان السّابق المشكوك واللاحق المتيقّن علم أنها لا تجري في الأمور الآتية الغير القابلة للبقاء كولادة زيد إذ الشك في تحققها يوم السّبت أو الأحد فإن ثبوتها في يوم الأحد ليس متيقنا بل أصالة عدمها يوم السّبت معارضة بأصالة عدمها يوم الأحد كالشبهة المحصورة ولذا ذكروا أنّه إذا صلى الصّلاة الخمس بخمس وضوءات ثم تيقّن بطلان أحدها وجب عليه قضاء الجميع إذ البطلان أمر إنّي ليس له قدر متيقن يؤخذ به فإن أصالة عدم بطلان الصبح يعارضها أصالة عدم بطلان الأخريات وهكذا وكذا في مسألة خيار الحيوان حيث اختلفوا في أنّ ابتداءه عند العقد أو بعد الافتراق فلا يمكن التّمسّك بأصالة التّأخّر لإثبات كونه بعد الافتراق لأن كون الخيار ثلاثة أيام متيقن أمّا كونه من حين العقد أو الافتراق فمشكوك وأصالة العدم في كلّ منهما معارض منهما بالآخر وهو ظاهر لا إشكال فيه إنّما الشّأن في بيان ثبوت كون الوجود اللاحق حدوثا ومتأخرا عن شيء آخر بها وعدمه فنقول إن تنقيح المطلب موقوف على بيان مقدّمات الأولى معنى الاستصحاب إبقاء الشّيء ليترتب الحكم عليه وهو على ضربين أحدهما أن يكون الحكم ثابتا لأمر كليّ أعمّ من الموضوع الواقعي والموضوع الظاهري الثّابت بالاستصحاب كوجوب الإطاعة

 

فإنه حكم عقلي موضوعه مطلق التّكاليف الشّرعيّة أعم من التّكليف الواقعي والتّكليف الظاهري الثّابت بالاستصحاب كما إذا شكّ في بقاء حرمة وطي الحائض بعد الانقطاع فتثبت بالاستصحاب حرمته الظاهريّة فيحكم العقل بوجوب إطاعته وفي هذا القسم يثبت بالاستصحاب الصغرى وهي أنّ ذلك تكليف وأمّا الكبرى فدليله العقل وثانيها أن يكون الحكم ثابتا للموضوع الواقعي كحرمة التّصرّف في المال فإنّها من أحكام الحياة الواقعيّة فباستصحاب حياة زيد يراد جعل الأحكام الثّابتة للحياة الواقعيّة للموضوع المشكوك وفي هذا القسم يثبت الكبرى بالاستصحاب وهو أنّ كلّ حيّ يحرم التّصرف في ماله حتى الحيّ بالاستصحاب وأمّا الصغرى فليس المراد إثباتها بالاستصحاب إذ ليس الحياة أمرا قابلا للجعل بل المقصود جعلها مفروض الوقوع ليترتّب عليه الآثار والحاصل أنّ الغرض في هذا القسم ليس إثبات الصغرى بل المراد فرضه واقعا ولا يكفي فرض الصغرى في إثبات الحكم كالقسم الأوّل لأن الدّليل الدال على ثبوته مختصّ بالموضوع الواقعي وهو لا يثبت بالاستصحاب وإنّما يثبت الموضوع الظّاهري فالغرض من الاستصحاب حينئذ جعل الأحكام للموضوع المستصحب فيتحقّق في هذا القسم جعلان أحدهما جعل الأحكام للموضوع الواقعي وهو ثابت بالدليل الدالّ عليه والثّاني جعل الحكم للموضوع المستصحب وهو ثابت بالاستصحاب وحينئذ فلا بدّ أن يكون الآثار التي يراد إثباتها أمرا قابلا لجعل الشّارع كعدم جواز التّصرف في المال في المثال المفروض وأمّا اللّوازم العادية كبياض اللّحية في المثال فلا ينجعل بالجعل الحقيقي وهل ينجعل بالجعل الفرضي ليترتّب عليه الآثار أو لا فلو نذر التّصدّق بدرهم عند بياض لحية زيد فبعد استصحاب حياته يترتب عليه عدم جواز التّصرّف في ماله بلا إشكال وهل يحكم بانجعال بياض لحيته بمعنى ترتب الآثار عليه وهو وجوب التّصدّق بدرهم في المثال المذكور أو لا هذا هو الأصل المثبت الذي يتنازع في حجيّته وحاصله أن يثبت باستصحاب شيء الآثار المترتّبة على لوازمه العادية أو العقليّة الثّانية إذا كان للشّيء الواحد عنوانان وكان له حكم بعنوان فلا يسري إلى العنوان الآخر ويظهر الثّمرة عند انفكاك العنوانين إمّا واقعا أو ظاهرا فالأوّل كالبنت فإنها موضوع ذات عنوانين البنتيّة وأخت الولدية والحرمة إنّما هي لعنوان البنت فلا يسري إلى أخت الولد فيجوز نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللّبن لو لا النصّ فإنّ أولاده أخت للولد لا بنت والثّاني كالماء الكر المتحقّق في الحوض فهناك عنوانان أحدهما وجود الكر في الحوض والثّاني كريّة الماء الموجود في الحوض وصيرورة المغسول طاهرا إنّما هو من لوازم العنوان الثّاني وهو كريّة الماء الموجود فلا يسري إلى الأوّل ويظهر الثّمرة فيما إذا نقص الماء قليلا وشكّ في كرّيته ثم غسل الثّوب

 

النجس به وحينئذ لا يمكن استصحاب كريّة الماء الموجود في الحوض لتغيّر الموضوع ولم يكن الكريّة لهذا الماء الموجود محرزا في السّابق فلا يترتّب عليه الحكم بطهارة المغسول به نعم يمكن استصحاب وجود الكر في الحوض أعني العنوان الأوّل لكن الحكم لا يترتب عليه لما عرفت ولا يبعد استصحاب وجود الكر في الحوض مع عدم الحكم بكريّة الماء الموجود لجواز الانفكاك بين اللوازم في الظّاهر كالزوجة المقرة والزوج المنكر فيحكم بأنّها زوجة له وإنّه ليس زوجا لها والحاصل أن إثبات طهارة المغسول باستصحاب وجود الكر في الحوض أصل مثبت لأنه لا يمكن إلاّ بضميمة إثبات لوازمه العقليّة أعني كون الماء الموجود كرّا وقد عرفت جواز انفكاكهما ظاهرا الثّالثة الأصل المثبت هو استصحاب شيء يترتب على وجوده الواقعي في خصوص المقام موضوع حكم يراد ترتيبه على الاستصحاب كاستصحاب عدم المانع فإنّه استصحاب شيء لو كان واقعا لترتب عليه وصول الماء إلى البشرة في خصوص المقام للعلم بتحقق الارتماس ووصول الماء إلى البشرة هو موضوع لحكم الذي يراد ترتيبه على استصحاب عدم المانع وهو رفع الجنابة مثلا وكذا في مسألة الكر فإنه يترتب على وجود الكر في الحوض في الخارج موضوع الحكم وهو كريّة الماء الموجود وكذا في تأخّر الحادث يراد استصحاب عدم الشّيء في السّابق الذي يلزمه في خصوص المقام حيث علم تحقق الوجود موضوع حكم وهو الحدوث أو تأخّره عن شيء آخر وبالجملة الأصل المثبت استصحاب موضوع لترتيب أحكام موضوع آخر وهل هو حجّة أو لا الحقّ عدمه إذ المثبت يتمسّك في وجه حجيّته بأحد أمور ثلاثة أحدها أنه إذا كان الحكم لأحد العنوانين الحاصلين لمصداق واحد يسري إلى الآخر فإذا ثبت أحد العنوانين بالاستصحاب ثبت الحكم أيضا ولا نحتاج إلى إثبات العنوان الآخر فإذا ثبت وجود الكر في الحوض ترتب عليه طهارة المغسول به ولا نحتاج إلى إثبات كريّة الماء الموجود والثّاني أن يقول إنّ الملزوم لا ينفكّ عن اللازم فإذا وجب التّعبّد بالملزوم بحكم الاستصحاب ثبت لازمه أيضا بالملازمة فإذا ثبت وجود الكر في الحوض ثبت كريّة الماء الموجود أيضا بالملازمة والثّالث أنّ التّعبّد بالملزوم متلازم مع التّعبّد باللازم فإذا وجب الأوّل بحكم الاستصحاب وجب الثّاني أيضا للملازمة بين التّعبّدين والكلّ باطل أمّا الأوّل فلما مر في المقدّمة الثّانية من أن حكم أحد العنوانين لا يسري إلى الآخر وأمّا الثّاني فلما عرفت فيها أيضا من جواز الانفكاك بين اللازم والملزوم في الظّاهر كما في مسألة الزوج والزّوجة وأمّا الثّالث فإتمامه مبني على ادعاء أن الظاهر من أدلة الاستصحاب جعل مطلق الآثار فالآثار الشّرعيّة ينجعل جزما والآثار الغير الشّرعيّة ينجعل بجعل آخر نظير جعل نفس المستصحب بمعنى أن جعله عبارة عن جعل آثاره وهو خلاف الحق إذ الظاهر منها ليس إلاّ جعل واحد لنفس الشّيء المستصحب غاية الأمر أنّه عبارة عن جعل الآثار فينجعل منها ما كان قابلا للجعل وأمّا جعل الآثار العادية أيضا بمعنى جعل

 

آثار الآثار فلا يتبادر من الأدلّة وأمّا الآثار الشّرعيّة فهو لا يثبت بالاستصحاب بل إنّما يترتّب للكلّيّة الكبرى الثّابتة بدليل آخر فاستصحاب حياة زيد معناه جعل آثار الحياة من وجوب الاتفاق على زوجته مثلا وأمّا جواز إجباره عليه لو امتنع الذي هو من لوازم وجوب الإنفاق فهو لا يترتّب على الاستصحاب بل ثابت بدليل آخر وهو أن كل من وجب عليه الإنفاق جاز إجباره لو امتنع ولو بالوجوب الظاهري والاستصحاب إنّما يثبت موضوعه وقد عرفته في المقدمة الأولى ولا يمكن ذلك فيما نحن فيه إذ موضوع الآثار الغير الشّرعيّة ليس قابلا للجعل حتى ينجعل بالاستصحاب ويترتّب عليه الحكم بدليل آخر بل المراد بالاستصحاب فيه جعل أحكام تلك الآثار وقد عرفت أنّه محتاج إلى جعل آخر غير جعل الآثار الشّرعيّة وهو غير متبادرة من الأدلة فإن قلت إنّا نقول إنّ المتبادر منها جعل الآثار الشّرعيّة مطلقا سواء كان بالواسطة أو بدونها فليس إلاّ جعل واحد فمعنى لا تنقض اليقين بالشك أنّ في كلّ مقام شككت في شيء فافرض اليقين في موضع الشّكّ فكل حكم شرعيّ كان يلزمك بسبب اليقين فأبقه عند الشّكّ فإذا ارتمس في الماء وشكّ في وجود المانع فلو فرض في موضعه اليقين لكان حكمه رفع الجنابة فيجب ترتيبه على الاستصحاب عند الشّكّ قلنا لا نسلّم تبادر ذلك بل المتبادر جعل أحكام المتيقن السّابق باقيا لا أحكام مورد اليقين والمتيقّن هو عدم المانع وليس من أحكامه رفع الجنابة وبعبارة أخرى الظاهر من الرّوايات كقوله عليه‌السلام فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشّكّ إبقاء الحكم الذي كان مترتّبا على نفس اليقين السّابق وفي المقام ليس ارتفاع الجنابة من أحكام اليقين بعدم المانع بل يجب فيه انضمام يقين آخر أعني حصول الإتمام وهذا القسم ليس متبادرا من الرّوايات فإن قلت إنّه لو كان كما ذكرت لم يجز إلاّ ترتب الأحكام الثّابتة لليقين السّابق فعلا وأمّا الأحكام المترتّبة عليه تعليقا فلا مع أنّ غالب الموارد من هذا القبيل فإنّ استصحاب نجاسة الشّيء يراد منه ترتيب أحكام النجس عليه من نجاسة شيء الذي لاقى معه ونحو ذلك وهذا ليس من الأحكام المترتّبة على اليقين السّابق بل هو من أحكام اليقين السّابق مع اليقين بتحقق الملاقاة في خصوص المقام فيكون أصلا مثبتا إذ لا يكفي اليقين السّابق في ترتّب الحكم بل يلزم فيه من يقين آخر في خصوص المقام وكذا في كل استصحاب تعليقي وهو في كل مورد كان الحكم للشيء معلقا على شرط غير حاصل في حال اليقين وإنّما يحصل في حال الشّكّ في بقاء ذلك الشّيء فبعد استصحابه يراد إثبات الحكم مع أنه ليس حكما لنفس ذلك الشّيء بل لا بد فيه من اليقين بتحقق الشّرط أيضا كالعصير العنبي فإنّه إذا غلا واشتد ينجس على قول فإذا تحقق الغليان وشككنا في تغيير حالة العنب قبل الغليان

 

فباستصحابه يحكم ببقاء العنبيّة ويحكم بالنجاسة مع أنّ النجاسة ليست من الأحكام المترتبة على العنب الذي كان متعلّق اليقين السّابق بل هو مترتّب على ذلك مع اليقين بتحقق الغليان وهكذا في سائر الموارد فبناء على ما قررت يلزم عدم حجيّة الاستصحاب في هذه الموارد مع أنّك قائل بحجيّتها فيها قلت فرق بيّن بين ما ذكرت وما ذكرت إذا الأصل المثبت على ما عرفت من تعريفه عبارة عن إثبات حكم ثابت لموضوع آخر على الشّيء المستصحب كعدم المانع فإنّه يراد من استصحابه إثبات ارتفاع الجنابة الذي هو من أحكام وصول الماء إلى البشرة لا عدم المانع إذ ليس في شيء من أدلة الشّرع أنّ ارتفاع الجنابة من أحكام عدم المانع والحاصل أنّ الذي يثبت بالاستصحاب هو الأحكام المحمولة على اليقين السّابق شرعا ولو بالحمل التّعليقي فالنجس ينجس لكن بشرط الملاقاة فالتنجيس من أحكام النجس شرعا وإن كان مشروطا بالملاقاة والعصير ينجس إذا غلا وهكذا بخلاف عدم المانع إذ ليس الحكم مترتّبا عليه لا تعليقا ولا تنجيزا هذا في المانع العقلي أمّا المانع الشّرعي كالجنابة مثلا فيمكن استصحاب عدمه وترتيب الحكم عليه من صحّة الصّلاة وغيرها لأنّ عدم المانع الشّرعي شرط شرعيّ الحكم ومحمول عليه شرعا وقد ذكرنا أن أحكام نفس عدم المانع يترتّب عليه وكذا إذا كان موضوع الحكم شرعا مركّبا من جزءين فثبت أحدهما بالحس والآخر بالاستصحاب ترتّب الحكم لأنّ المركب إذا صار عنوانا للحكم صار كل جزء أيضا عنوانا بشرط انضمام الآخر فيصح ترتيب وجوب الحجّ على استصحاب عدم الدّين مع وجود المال حسا لأنّه مشروط بالاستطاعة التي هي مركبة من وجود المال وعدم الدّين فيكون عدم الدّين أيضا عنوانا وشرطا بضميمة وجود المال وبالعكس فلا تغفل فإن موارد الاشتباه كثيرة وقد خلط على بعضهم حيث زعم أنّ الاستصحاب في الأمثلة المذكورة في الإيراد من الاستصحاب التّعليقي وغيره لا حجيّة فيه لأنّه أصل مثبت وقد عرفت الفرق فتلخّص بما ذكرنا أنّ الأصل المثبت عبارة عن ترتيب الحكم على غير موضوعه الشّرعي فإثبات أحكام تأخّر شيء عن شيء بأصالة التّأخّر أصل مثبت لأنّك قد عرفت أن أصالة التّأخر معناها استصحاب العدم السّابق وليس من أحكامه تأخّر الشّيء عن الشّيء الآخر بل هو من لوازم وجوده الواقعي في خصوص المقام حيث علم تقدم ذلك الشّيء وحينئذ فلا يمكن إجراء أحكام تأخّر الشّيء عن الشّيء بأصالة التّأخّر فإن قلت قد ذكروا أنه إذا شكّ في تأخّر موت الأب عن إسلام الابن مع معلومية تاريخ الإسلام حكم بتأخّر الموت وأن الابن يرث أباه مع وجود الابن المسلم في حياة أبيه بالحياة اليقيني فهل هذا إلاّ إثبات تأخّر شيء عن شيء بالأصل وإثبات أحكامه قلت لا بل الأحكام المترتبة في المقام إنّما يترتّب على استصحاب حياة الأب

 

إلى زمان إسلام الابن فمحض حياة الأب موضوع الحكم إلاّ أنه مشروط بشرط هو إسلام الابن فالحاصل أن العنوان الشّرعي له مدخليّة في صيرورة الأصل مثبتا وعدمه ولذا ذكروا أنه إذا غسل اليد النجسة بالماء ثم علم بأنه كر وشكّ في أن الكريّة كانت متقدّمة على غسل اليد به أو بالعكس فإن كان تاريخ الغسل معلوما وتاريخ الكريّة مشكوكا حكم بتأخّرها ونجاسة الماء واليد لأنّ استصحاب عدم الكريّة حين الغسل يكفي في ترتيب النجاسة لأن من أحكام الماء القليل أن ينجس بالملاقاة وإن كان تاريخ الكريّة معلوما وتاريخ الغسل مشكوكا لا يحكم بتأخّره وطهارة اليد لأن طهارة اليد ليست من أحكام عدم الغسل الذي هو مستصحب بل يلزم فيه إثبات تأخّر الغسل عن الكريّة حتى يترتب الطهارة وقد عرفت أنه لا يجوز إثبات تأخّر شيء عن شيء بها وإجراء أحكام ذلك عليها إذا عرفت هذه المقدّمات علمت عدم جواز إجراء أحكام تأخّر الشّيء عن الشّيء بأصالة التّأخر وأمّا إثبات الحدوث فإن قلنا إنّ الحدوث أمر لازم للعدم السّابق والوجود اللاحق لم يجز ترتيب أحكامه لأنّ العدم السّابق الذي هو مستصحب ليس موضوعا للأحكام وإنّما يراد من استصحابه ترتيب أحكام موضوع آخر مترتب عليه في خصوص المقام وهو الحدوث حيث علم بتحقق الوجود وإلاّ فالعدم السّابق يمكن تحقّقه بدون الحدوث وإن قلنا إنّ الحدوث مركب من العدم السّابق والوجود اللاّحق أمكن إثبات أحكامه لأنّ العدم المستصحب يكون عنوانا لأحكام الحدوث لما عرفت من أن الحكم إذا تعلق بمركب كان كل جزء من أجزائه أيضا عنوانا بضميمة الآخر وبما ذكرنا من تنقيح المطلب علم فساد التّفصيل الخامس وكذا كل استدلال بأصالة التّأخّر لما عرفت من أنّ إثبات أحكام تأخّر شيء عن شيء بالأصل غير جائز لكونه أصلا مثبتا وكذا ما ذكر من الحكم بالتقارن عند الجهل بكلا التّاريخين لأنّ التّقارن ليس من لوازم العدم السّابق إلاّ في خصوص المقام حيث علم تحقّق الوجودين فإذا لم يكن أحدهما مقدما على الآخر بحكم الأصل ثبت التّقارن وهل هذا إلاّ أصل مثبت لا حجيّة فيه كما بينا

تتميم

نظير ما ذكرنا من عدم جواز إثبات الآثار العادية وأحكام تلك الآثار بالاستصحاب ما ذكره بعضهم في ردّ من تمسّك بحديث رفع عن أمتي تسعة على أن الأصل في الشّرطيّة والجزئيّة أن يكون في حال العمد والعلم أو الاختيار أيضا بتقريب أن ليس المراد رفع نفس الأمور التّسعة لكثرة وجود الخطإ في الأمة وكذا السّهو وأمثاله ولا رفع المؤاخذة بل المراد رفع جميع الأحكام وليس المراد الأحكام المحمولة على نفس الأمور المذكور كوجوب السّجدة على من سها في الصّلاة مثلا إذ لا معنى لرفعه ولا الأحكام المقيّدة بحال مخالف الأمور المذكورة كالعمد والعلم كوجوب الكفّارة على من أفطر في رمضان عامدا إذ لا معنى لرفعه إذ هو يرتفع بارتفاع موضوعه بل المراد الأحكام المطلقة القابلة للتقييد فجزئيّة السّورة

 

للصّلاة من أحكامها وجوب الإعادة بتركها فيرتفع ذلك في حال السّهو والجهل ومقتضاه كون السورة جزء في حال العلم والذّكر ونحو ذلك وكذا في الشروط فأورد عليه البعض بأن المراد رفع الأحكام الثّابتة لنفس ذلك الشيء لا الأحكام الثّابتة بتوسّط الوسائط العقليّة إذ كما أنّ ذلك لا يجوز إثباتها كذا لا يجوز رفعها ووجوب الإعادة ليس من أحكام ترك السّورة حتى يرتفع حال السّهو بل هو حكمه بضميمة الوسائط من أن ترك السّورة مستلزم لترك الصّلاة المأمور بها فيبقى الأمر بحاله فيجب امتثاله نعم لو قال الشارع من ترك السّورة وجب عليه الإعادة صحّ ما ذكر من ارتفاعه حال السّهو بالحديث المذكور هذا ثم إنه يشكل الفرق بين الاستصحاب والحديث المذكور ونحوهما من الأصول التّعبّديّة وبين البيّنة وخبر الواحد وغيرهما من الأمارات التّعبّديّة حيث أثبتوا بهما أحكام اللّوازم العقليّة والعادية حتى أنه لو شهد الشاهدان بوقوع البيع يوم الأحد مع ثبوت العيب يوم السّبت يحكمون بتأخّره عنه وثبوت الخيار مع أنا ذكرنا أنه لا يجوز إثباته بالاستصحاب وكذا ذكر بعضهم أنه إذا نقل واحد من العلماء فتوى من جماعة الأصحاب فهو خبر واحد وحجة تعبّدا يثبت به قولهم فإذا انضمّ إليه قول جماعة أخرى مما رأيناه في كتبهم مثلا صار كاشفا عن قول المعصوم ويثبت بذلك حكم الله تعالى في الواقعة مع أنّ حكم الله تعالى ليس من لوازم ذلك النّقل حتى يترتّب عليه تعبّدا وإنّما هو من لوازمه في خصوص المقام حيث ضم إليه أقوال البواقي وصار سببا للكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام فيكون نظير الأصل المثبت فكيف يجتمع ذلك مع تفيهم الحجيّة الأصل المثبت ويمكن الفرق بأن وجه منع ذلك في الاستصحاب إنّما هو لأنّ المتبادر من أخباره جعل واحد متعلق بالآثار الشّرعيّة لنفس المستصحب لا جعل متعدّد وهذا الوجه مفقود في البينة إذا الأدلّة الدالّة على حجيّتها دالة على حجيّة كل ما كان مدلولا لقول البيّنة حتى المدلول الالتزامي لعدم الدليل على اختصاص الحجيّة بالمدلول المطابقي لدلالة الأدلّة على أنه يجب تصديق البيّنة في كل ما أخبر به بمعنى أنه فيجعل في حقنا جميع الأحكام الشّرعيّة الثّابتة لما أخبر به البيّنة ومن جملته المدلول الالتزامي فينجعل أحكامه الشّرعيّة وبالجملة أحكام المدلول المطابقي والالتزامي في عرض واحد لا أن نقول إنّ الذي ينجعل أولا هو آثار المدلول المطابقي ومن جملة تلك الآثار المدلول الالتزامي ومعنى جعله جعل أحكامه حتّى يقال إنّه لا يفترق مع الأصل المثبت فافهم لكن هذا إنّما يتمّ في المدلول الالتزامي الذي قصده المتكلّم بكلامه وإلا فلا إذ لا يصدق حينئذ أنه مما أخبر به البيّنة حتّى ينجعل أحكامه بل لو ترتب الحكم عليه فإنّما هو للملازمة فيكون نظير الأصل المثبت ولا حجيّة فيه ولهذا لم يقولوا

 

بكفر الأشاعرة مع أنهم يجوزون الرؤية وهي ملازمة للجسميّة والقول بها كفر وبهذا يشكل ما ذكره البعض من إثبات حكم الله بنقل واحد من العلماء فتوى جماعة من العلماء مع ضم قرائن أخر فإن حكم الله ليس مترتبا على المدلول المطابقي لما أخبر به الناقل ولا للمدلول الالتزامي له بل هو يثبت به بضميمة المقدمات الخارجيّة فيكون نظير الأصل ثبوت المثبت وحجيته في المقام مشكل فافهم

تنبيه

لا بدّ أن بعلم أن جميع ما ذكر من عدم ترتيب آثار اللّوازم العادية والعقليّة إنّما هو مبني على القول بحجيّة الاستصحاب تعبدا وأمّا على القول بحجيته لإفادته الظنّ فيترتب عليه لعدم انفكاك الظنّ بالملزوم عن الظن باللاّزم فإذا ظن بعدم المانع ظن بوصول الماء إلى البشرة أيضا لكن حجيّة الظن تابع لكون اللاّزم مما يكفي فيه الظنّ ولا يلزم فيه العلم وإلاّ فلا لجواز حجيّة الظّنّ في الملزوم وعدم حجيّته في اللاّزم كالظّنّ بالقبلة المستلزم للظّنّ بدخول الوقت فإنّ الأوّل حجة دون الثّاني وعلى فرض حجيّة الظّنّ في اللازم لا بدّ في حجيته من اتحاده مع الظنّ الحاصل بالملزوم نوعا وفعلا فلو كان اللاّزم مما يلزم في إثباته الظّنّ الفعلي لا يكفي في حجيّته حصول الظّنّ النوعي باستصحاب الملزوم وهكذا فلا بدّ من تميز الموارد فإن قلت إذا حصل الظّنّ باللاّزم فترتب أحكامه عليه إنّما هو لحصول الظّنّ به لا الاستصحاب الملزوم فلا دخل له بما نحن فيه قلت نعم لكن الظّنّ الحاصل باللاّزم إنّما هو بتبعيّة الظنّ بالملزوم ففي الحقيقة يترتب على الظّنّ بالملزوم أحكام اللازم لكونه سببا لحصول الظّنّ به ولو قطع النظر عن استصحاب الملزوم لكان المظنون عدم تحقق اللاّزم كوصول الماء فإنّ الأصل عدمه مع قطع النّظر عن استصحاب عدم المانع لكن بعد استصحاب عدم المانع وحصول الظّنّ به يرتفع الظّنّ بعدم الوصول ولا يعارضه استصحاب عدم الوصول لأنّه تابع والاستصحاب في المتبوع وارد على استصحاب عدم التّابع وهو ظاهر ثم إن الثّمرة لا تنحصر في ترتّب آثار اللّوازم العادية والعقليّة بل يظهر في ترتّب الملزوم لو كان للمستصحب ملزوم سواء كان شرعيّا أو غيره وكذا في اللاّزم والمقارنات الاتّفاقيّة فعلى التّعبد لا يثبت شيء مما ذكر لما عرفت لكن على الظّنّ يمكن إثبات بعضه وفيه تفصيل فنقول أمّا الملزوم فلا شبهة في أنّ الظّنّ باللاّزم يستلزم الظّنّ به كاستصحاب طهارة المائع الكر المردد بين المطلق والمضاف مع وقوع نجاسته فيه فإنّ الظّنّ بطهارته يستلزم الظّنّ بكونه مطلقا وأمّا الملازم فيمكن في بعض موارده ففي المثال المذكور يمكن حصول الظّنّ برفع الحدث بالوضوء بالمائع المذكور إذ الظّنّ بالطّهارة يوجب الظّنّ بكونه مطلقا وهو يوجب الظّنّ برفع الحدث ورفع الحدث والطّهارة لازمان لإطلاق الماء وقد لا يمكن بأن لا يكون الملزوم علة تامّة لهما بل كان مقتضيا فلا يلزم من حصول الظّنّ بأحدهما الظّنّ

 

بالآخر لجواز انفكاكهما بعدم المانع في أحدهما فيؤثر المقتضي ووجوده في الآخر وأمّا المقارن كطهارة أحد الإناءين المشتبهين فإنها مقارنة لنجاسة الآخر للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما فلا يحصل الظّنّ في أحد من الجانبين لمعارضته بالجانب الآخر نعم يمكن ذلك لو لم يكن الحالة السابقة في أحدهما معلومة كالإناءين الذين علم مائيّة أحدهما وشكّ في الآخر هل هو بول أو ماء ووقع النجاسة في أحدهما فيستصحب طهارة المعلومة المائيّة ويظن بنجاسة الآخر لعدم كونه معارضا بالمثل وكذا إذا كان بحالة السّابقة في أحدهما موافقا للعلم الإجمالي كما لو علم وجود زيد أو عمرو على سبيل منع الجمع والخلوّ في يوم الأحد وعلم وجود زيد وعدم عمرو يوم السّبت فيستصحب وجود زيد ويحكم بعدم عمرو يوم الأحد ولا يعارضه شيء هذا كلّه بالنسبة إلى حصول الظّنّ ما حجيته وكيفيته من الفعلي والنوعي فهو تابع لمورده على ما عرفت والحق أن الأصل في اللّغات حجة من باب الظنّ لا التّعبّد فيكون الأصل المثبت حجة فيها مضافا إلى أنّ جميع الأصول الجارية في اللّغات أصول مثبتة كأصالة عدم الوضع وعدم القرينة ونحوهما فلو لم يكن حجّة لانسدّ باب إثبات اللّغات هذا ولنقتصر من الكلام في المقام على ما بينا ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول قد ثبت ممّا ذكرنا عدم إثبات التّقارن بأصالة التّأخر لعدم إفادة أصالة عدم التّقدّم الظّنّ لعدم غلبة في البين كما بينا هذا الكلام في تعارض العرف واللّغة وأمّا الكلام الثّاني أعني تعارض عرف المتكلّم والمخاطب ومع عرف البلد أيضا فقيل يحمل على عرف المتكلّم لأنّه موضوع له عنده فلو حمل على عرف المخاطب لكان مجازا وقيل يحمل على عرف المخاطب لأنّه ظاهر عنده والخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره إغراء بالجهل وكلاهما باطلان أمّا الأوّل فلعدم كونه مجازا لو حمل على مصطلح المخاطب إذ ليس استعماله فيه استعمالا في غير ما وضع له عند المتكلّم من حيث إنه غير ما وضع له بل هو استعمال فيما وضع له عند المخاطب من حيث إنّه موضوع له فيكون حقيقة وأمّا الثّاني فلأنّا نفرض المخاطب عالما باصطلاح المتكلّم فلا يكون إرادة الموضوع له في عرف المخاطب ظاهرا عند المخاطب ولهذا قيل إن قام قرينة عقليّة على الحمل على أحدهما فهو كما إذا كان المتكلّم جاهلا فعرف المخاطب فحينئذ لا يمكن الحمل على عرف المخاطب كما إذا كان المخاطب جاهلا بعرف المتكلّم مع علم المتكلّم بجهله فإنّه يجب الحمل على العرف المخاطب للزوم الإغراء بالجهل وإلاّ وجب التّوقّف والرجوع إلى الأصول العمليّة فلو قال الإمام وهو مدنيّ الكر ألف وماتا رطل والمخاطب عراقي فمقتضى الأصل طهارة مقدار ذلك من الرطل العراقي وعدم نجاسته بالملاقاة لأصالة الطّهارة وأمّا في مسألة الزّكاة فمقتضى الأصل عدم وجوبه إذا وصل إلى مقدار النّصاب بالرطل العراقي لأصالة البراءة وهكذا وقيل إنّ في صورة عدم القرينة

 

يحمل على عرف المتكلّم لأنّه عادته في التّكلّم ومقتضى الغالب تكلمه بمقتضى عادته نعم لو انتقل إلى بلد مخالف له في الاصطلاح وكان اللّفظ من ألفاظ الأوزان والمقادير الكثيرة الاستعمال في ذلك البلد مع طول مكثه فيه حمل على عرف البلد للغلبة أيضا وهو حسن والمدار في ذلك على الظّنّ فإن حصل وإلاّ فالتّوقّف

فرع

إذا تعدّد المخاطبون ولكل اصطلاح لم يجز حمله بالنسبة إلى كل مخاطب على عرف بل دار الأمر حينئذ بين حمله على عرف المتكلّم وأحد المخاطبين ومقتضى ما ذكرنا أن المدار على الظّنّ والتّوقّف فيما لم يحصل وقال العلامة رحمه‌الله إنّه يجب حمله بالنسبة إلى كل مخاطب على عرفه مستدلا بدليلين أحدهما لزوم الإغراء بالجهل لو لم نقل بذلك لظهوره عند كلّ منهم في عرفه فإرادة غيره منه إغراء بالجهل والثّاني أنه لو لم يكن ذلك فإمّا يراد منه بالنسبة إلى كل مخاطب جميع المعاني أو يراد من الجميع معنى معيّن منها أو يراد معنى خارج عن عرف الجميع والأول باطل للقطع بأنّه ليس المراد من كل واحد إلاّ معنى واحد وكذا الثّاني للزوم التّرجيح بلا مرجّح وكذا الثّالث للزوم ترجيح المرجوح وهو فاسد بكلا الدّليلين أمّا الأوّل فلما عرفت من أنه لا يلزم ذلك عند علم المخاطب وإلا لزم حمل كل كلام صدر من كل متكلّم على مصطلح المخاطب ولو كان المتكلّم هو الشّارع مع أنّه خلاف ما هو معروف عند القوم كما سنشير إليه وأمّا الثّاني فيعلم بطلانه من إبطال أصل المدّعى بثلاثة وجوه الأول أنه استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد وهو فاسد والثّاني أنه ينافي أدلّة اشتراك التّكليف إذ مقتضاها اتحاد جميع أفراد عنوان كان موضوعا لحكم في ذلك الحكم كأفراد المسافر والحاضر بل اتحاد جميع المكلفين في الحكم فالمسافر حكمه حكم الحاضر لكن لو صار حاضرا وبالعكس وهكذا واختلاف العرف ليس موجبا لاختلاف العنوان فمقتضى الأدلّة أن يكون حكم جميع المخاطبين متّحدين في الحكم ولو سلم اختلاف العنوان أيضا غاية الأمر أنّ أحد الأحكام فعلي والباقي مشروط بحصول العنوان فيه وحينئذ فلو حمله كلّ مخاطب على عرفه ثبت ذلك المعنى في حق الباقين أيضا ولو مشروطا فيراد من كل مخاطب جميع المعاني وقد حكمت ببطلان ذلك لا يقال إنّ اختلاف الأحكام باختلاف الأسماء غير عزيز حتى أنّه قيل الأحكام تدور مدار الأسماء لأنّا نقول إنّ ذلك إنّما هو في اختلاف المسمّى بدخوله تحت مسمّى آخر كالعذرة تصير رمادا والخمر خلاّ والمكيل معدودا والمعدود مكيلا لا بمحض اختلاف الاصطلاح ولهذا قيل الأحكام لا تتغير بتغير الأسماء وإلاّ فلو صار الحنطة مسمّى باسم الخمر وجب أن يصير حراما وبالعكس وهكذا ولا يخفى وضوح بطلانه الثّالث أنّ غير المخاطب حكمه أي معنى من المعاني فالجميع مع أنه غير مراد قطعا لو لم تقل به في المخاطبين

 

واحد المعاني ترجيح بلا مرجّح والقول بأنّ العراقيين حكمهم حكم المخاطب العراقي والمدنيين حكم المدني مع أنه لا دليل عليه لا يثبت حكم من لم يكن له عرف من سائر المكلفين ويمكن حمل كلام العلامة على صورة تعدّد الخطاب أيضا كالمخاطب إلاّ أنّه مع عدم موافقة أدلته عليه ينافي أدلّة الاشتراك بل مقتضاها أن يكون المراد من الجميع معنى واحد

تتميم

ربما يفهم التّناقض بين قول المعروف بالتوقف في تعارض عرف المتكلّم والمخاطب وبين ما ذكروه في الحقيقة الشرعيّة من أنّه إن ثبت الوضع للمعنى الشرعي حمل اللّفظ عليه وإلاّ فعلى اللّغوي حيث يفهم منه وجوب الحمل على المعنى الشرعي على فرض الثّبوت حتى لو كان المخاطب له عرف غير عرف الشارع ويمكن دفعه بوجهين أحدهما أنّ الكلام ثمة إنّما هو في بيان الثّمرة على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمها وأنه لو ثبت وجب حمل اللّفظ عليها لو خلي وطبعه لأنّها الموضوع له مع قطع النّظر عن شيء آخر مما يكون صارفا عن جملة عليها فلا ينافي التّوقّف بالنّسبة إلى ملاحظة أن للمخاطب عرفا آخر ويؤيّده ما ذكروه أنه إذا لم يثبت الحقيقة الشرعيّة حمل على اللّغوي مع أنه قد يكون المعنى الشرعي مجازا مشهورا وقد ذهبت جماعة إلى التّوقّف وعدم ترجيح الحقيقة عليه ومع ذلك فكيف يحمل على المعنى اللّغوي فالغرض بيان فائدة الوضع مع قطع النّظر عن الصارف والثّاني أنه لا دخل له بتعارض العرفين لأنّ الوضع الشرعي على القول بثبوته طارد ناسخ للعرف السّابق فليس هناك لا عرف الشارع فيحمل عليه أمّا طريانه فظاهر وأمّا كونه ناسخا فلأن الوضع إمّا تعيّني أو تعييني فعلى الأول لا بدّ فيه من كثرة الاستعمال عند الشارع وتابعيه وكلما ازداد المعنى الشرعي قربا ازداد المعنى العرفي بعدا وإذا وصل الأوّل إلى حد الوضع خرج الثّاني عن حدّه وعلى الثّاني فحكمة الوضع تقتضي أن يكون الشارع الواضع وضع اللّفظ للمعنى الشرعي بحيث لا يكون الغير موضوعا له لأنّ الغرض من الوضع تسهيل أمر التّفهيم والتّفهم بعدم الحاجة إلى نصب القرينة مضافا إلى أنّ القرائن ربما تخفى بمرور الدّهور فيحمل على غير المراد فلو كان مع المعنى الشرعي معنى غيره أيضا بحيث كان اللّفظ مشتركا لكان الاحتياج إلى القرينة أكثر لوجوب نصبها في كل من المعنيين وهي مناف لحكمة الوضع كذا قيل وأورد على الأوّل بأنه إنّما يدلّ على النّسخ بالنسبة إلى من كثر استعمال اللّفظ عنده أمّا غيرهم كالنائين عن بلد الشّارع ونحوهم فلا نفرض الكلام فيما إذا وقع التّخاطب معهم وعلى الثّاني بأنا لا نسلم كون ذلك حكمة الموضع فلعلّها شيء آخر وأقول الإيراد الأوّل حسن لكن الثّاني ظاهر البطلان لما يظهر من استقراء أرباب الحرف والصنائع وغيرهم حيث إن غرضهم من أوضاع الألفاظ المستعملة عندهم في المعاني الخاصّة ليس إلاّ تقليل المئونة والاحتياج إلى القرينة والأولى في تقرير الدفع الثّاني للتّناقض أن يقال إن كون

 

الوضع الشرعي ناسخا للعرفي يمكن بوجهين أحدهما أن يكون الغرض أن لا يكون المعنى العرفي معنى للّفظ أصلا والثّاني أن يكون الفرض أن لا يكون للّفظ في مقام بيان الشريعة إلاّ المعنى الخاصّ والمراد هو الثّاني فإنّ كل من يوضع اللّفظ للمعنى في اصطلاح غرضه أن لا يستعمل في ذلك الاصطلاح إلاّ في ذلك المعنى فالفعل إذا استعمل في اصطلاح النحو لا يراد منه إلاّ المعنى الاصطلاحي فالمعنى اللّغوي منسوخ بالنسبة إلى الاصطلاح الخاصّ فكذا اصطلاح الشّارع فإذا استعمل الشارع اللّفظ في مقام الشريعة لا يريد منه إلاّ المعنى الشرعي لحكمة الوضع وكلّ من يكون مخاطبا له في ذلك يكون تابعا له نعم لو تكلّم في غير مقام الشريعة حمل على المعنى العرفي كما أن يتخاطب مع النّحوي في صناعة النّحو يكون تابعا في اصطلاحه وإن تكلّم معه في غيره حمل على مقتضى العرف فالحاصل أنّ اللّفظ الّذي له حقيقة شرعيّة إن استعمله الشارع في مقام بيان الشريعة حمل على المعنى الشرعي ولم يكن له معنى سوى ذلك كما في كلّ أهل اصطلاح إذا تكلّم فيما يتعلّق باصطلاحه وإن استعمله في غير ذلك حمل على العرفي ولا توقف في شيء من المقامين فالمسألة خارجة من محلّ النزاع في تعارض عرف المتكلم والمخاطب وأمّا حكاية الرّطل إذا تكلّم به الإمام فلا دخل له بذلك إذا الإمام ليس له فيه اصطلاح خاصّ وصناعة خاصّة بحيث لا يكون للّفظ في ذلك الصناعة إلاّ المعنى الواحد إذ ليس الرطل مما ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة بل الوضعان كلاهما ثابتان عند الإمام غاية الأمر أنّ أحدهما لسانه وعرفه والآخر ليس عرفه فلا دخل له بالحقيقة الشرعيّة فافهم ثم إنّ ما ذكره بعضهم من الفرق بين ما إذا وقع اللّفظ الّذي له معنى شرعي بعد النّهي فيحمل على المعنى اللّغوي أو العرفي دون الشرعي وبين ما لو وقع في مقام آخر فيحمل على المعنى الشرعي إذ المعنى الشرعي هو الصحيح والصحيح عبارة عن ما يطابق الأمر فلا يمكن تعلق النّهي للزوم اجتماع الأمر والنّهي ففساده أظهر من أن يحتاج إلى البيان إذ لا نسلم أن المعنى الشرعي هو الصحيح ومع التّسليم يمكن إرادة الأعمّ مجازا ومع التّسليم لا نسلم كون الصحيح عبارة عما يطابق الأمر كما سيظهر فيما سيذكر إن شاء الله

المقام الثّاني في بيان أن الضّابط في الحمل على المجاز ما ذا

فنقول لا شبهة في أن المدار في الحمل على المجاز قبالا للحقيقة وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي والقرينة إمّا حاليّة أو مقاليّة لا تتعدّاهما والقرينة العقليّة والغلبة ونحوهما راجعة إلى الحاليّة فإنّه إذا شاع استعمال اللّفظ في المعنى المجازي فحال المتكلم يقتضي إرادته من اللّفظ جريا على عادته وكذا العقليّة وإن احتاج إرجاعها إلى الحاليّة إلى نوع تحمل واختلف في أنّه يجب أن يكون الكلام مع ما يلحقه من القرائن ظاهرا بالظهور الفعلي في إرادة المجاز حتى يحمل عليه أو يكفي كونه ظاهرا

 

فيه نوعا كاختلافهم في الحمل على الحقيقة والمختار في المقامين واحد وهو أن المدار ظهور الكلام نوعا مع ملاحظة القرائن المكتنفة في إرادة المجاز ولا يضر ارتفاع الظّنّ الفعلي بسبب ملاحظة الأمور الخارجة كظهور الأمر الواقع عقيب الحظر في رفع الحظر نوعا فيحمل عليه حتى لو ارتفع الظّنّ فعلا بسبب قياس أو شهرة أو غيرهما مما لا يحتمل استناد المتكلّم إليه في إفهام مراده وعلى ذلك جرى عادة العرف وسيرتهم وهو من الظّنون الخاصة المعلوم حجيّته بالإجماع والتّقرير على ما عرفت سابقا في بيان ضابط الحمل على الحقيقة فإنّ الإجماع المدعى ثمة إنّما هو على الحمل على المعنى الّذي يكون الكلام ظاهرا فيه حقيقة كان أو مجازا ثم إنّ ذلك إنّما هو في مقام الحمل على المجاز قبالا للحقيقة وأمّا تعيين المراد فهو مقام آخر فنقول إن اتحد المجاز فلا إشكال وإن تعدّد فهو على قسمين إذ المراد بالمجاز فيما نحن فيه ما يحتاج فهمه من اللّفظ إلى القرينة فيشمل المجاز والتّخصيص والتّقييد والإضمار والنسخ فإما يدور الأمر بين نوعين منها أو بين شخصين من نوع واحد ولكل مقام يجب المتكلّم فيه وهذا هو الّذي يسميّه الأصوليّون بتعارض الأحوال يريدون به دوران الأمر في المراد بين واحد من الأمور المذكورة وأمّا مثل الاشتراك والنّقل فهو خارج عن محلّ الكلام إذا الكلام إنّما هو في تمييز المراد لا في تمييز الحقيقة عن المجاز فإنّ ذلك قد مضى الكلام فيه مفصّلا فما ذكره بعضهم من دخولهما في تعارض الأحوال لا وجه له وقبل الخوض في المبحث لا بأس بتحقيق القول في أن المدار في القرينة على أيّ شيء دفعا لما توهّم من المنافاة بين كلماتهم في المقام فنقول قد ذكرنا أنّ المدار في الحمل على المجاز ظهور الكلام مع ما يلحقه من القرائن المكتنفة عرفا في إرادة المجاز فلا عبرة بالأمور الخارجة إذا ارتفع بسبب الظّنّ الفعلي ولهذا ذكر بعض المحقّقين أنّ الأمور الغير المعتبرة كالشّهرة والقياس على القول بعدم حجيّتهما وكذا فهم الأصحاب لا ينجبر بهما ضعف سند الخبر ودلالته إذا المدار هو ظهور الكلام في المراد بنفسه أو بالقرائن المكتنفة فالشّهرة القائمة في المسألة أو فهم الأصحاب من الخبر معنى لا يجعل الخبر ظاهرا في المعنى أمّا الأوّل فظاهر وأمّا الثّاني فلأنّ فهم الأصحاب لا يمكن أن يكون قرينة في نظر المتكلّم لتأخّره عنه بمدة وأورد عليه بأنّهم قد ذكروا أنّ المدار في القرينة أن يكشف عن المراد ولو ظنّا لحجيّة الظّنّ في المقام وقسموا القرينة إلى متّصلة ومنفصلة ومقتضى مجموع ذلك أنّ كلّ ما يكشف عن المراد ولو ظنّا فهو قرينة متّصلا كان أو منفصلا وفهم الأصحاب يكشف عن المراد ظنّا فيكون قرينة ولا يضر انفصاله ولو سلم فنقول إنّه يكشف عن وجود القرينة حين التّكلّم ولو ظنّا والظّنّ بوجود القرينة حجة لرجوعه

 

إلى الظّنّ بالظّهور اللّفظي إذا الظّهور إمّا مستند إلى الوضع أو إلى القرينة والأوّل يكفي في ثبوته الظّنّ والثّاني إمّا أن يكون نفس القرينة معلوما وكشفها ظني وإمّا أن يكون كشفها على فرض الوجود معلوما ووجودها مظنون أو يكون كلاهما مظنونا والظّنّ في الجميع حجّة لأنّه ظنّ بالظّهور اللّفظي وقد أطبقوا على حجيّته وكذا الكلام في الشّهرة والقياس أقول المراد بما ذكروه في تقسيم القرينة إلى المتّصلة والمنفصلة الاتّصال بمعنى عدم الاستقلال كالاستثناء والوقوع عقيب الحظر والانفصال بمعنى الاستقلال كقوله لا تكرم زيدا بعد أكرم العلماء لكن يشترط أن يكون موجودا حين التّكلّم حاضرا في ذهنه بحيث لو أراد لذكره لا ما يوجد بعد مدة كالشّهرة في المسألة ونحو ذلك فإنّه فما لا يتصور استناد المتكلّم إليه في الإفهام والظّنّ بوجود القرينة لا نسلّم حجيّته ولا يرجع إلى الظّنّ بالظّهور إذا المراد به الظّنّ بدلالة اللّفظ بعد تحقّق الدّالّ علما وأمّا إثبات نفس الدّالّ بالظّنّ فلا دليل عليه ودليل الانسداد لا يجري في المقام لأنّه إنّما يجري لو علم أنّ بعض الخطابات مما اقترن به القرينة إجمالا ولم يتميز إلاّ بالظّنّ وليس كذلك وحينئذ فأصالة الحقيقة المحكمة لما عرفت من أنّ المدار في الحمل على الحقيقة الظّهور النّوعي ولا عبرة بالأمور الخارجة الغير المعتبرة مما يوجب ارتفاع الظّنّ فعلا بإرادة الحقيقة ونظير ما ذكرنا ما ذكروه من أنّه إذا حصل الظّنّ بالحكم بسبب الظّنّ بالموضوع فيه الخارجي لا حجيّة فيه كما إذا حصل الظّنّ بالحرمة بسبب الظّنّ بأنّ المائع الموجود بول وكذا ما ذكروه من أنه إذا نقل العادل رواية فهو حجة أمّا إذا حصل الظّنّ بسبب الشّهرة الغير المعتبرة بأن العادل نقل الخبر فلا حجيّة فيه لاشتراط العلم بالنقل في حجيّة خبر العادل فإذا نرجع ما كان فيه ونقول إنّه إذا قام قرينة على عدم إرادة الحقيقة ودار الأمر بين الأمور المذكورة فاختلفوا على أقوال الأوّل التّوقّف لعدم وجود المرجح والثّاني جواز التّرجيح بأيّ شيء كان ولو اعتباريّا فالتّخصيص مقدّم على المجاز لكونه أتمّ فائدة والإضمار على المجاز لأنّه أوجز ونحو ذلك وأرجعوا ذلك إلى القرائن الحاليّة فإن حال الشّخص العاقل الحكيم يشهد بأنّه في مقام إظهار مراده يلاحظ الأكمل والراجح ولا يرجح المرجوح خصوصا إذا وقع في كلام الشّارع والثّالث أنّه يجوز التّرجيح بخصوص الغلبة دون الأمور الاعتباريّة وهو الحق لما عرفت سابقا من عدم جواز إثبات الوضع بالظّنون اللّميّة وكذا نقول مثله في تمييز المراد إذ لا نعلم أن المتكلّم اعتبر هذه الأمور إذا المقصود في المتكلّم عرفا هو بيان مطالبهم وأمّا ملاحظة هذه النّكات فلا والشّارع أيضا طريقه في التّكلّم طريق العرف مضافا إلى أن مقتضى الفصاحة عدم ملاحظة هذه الأمور لعدم تفطّن المخاطبين لها والتّكلّم مع الغبيّ على نحو المتكلّم مع الزّكيّ خلاف البلاغة ولهذا

 

قيل إن هذه الوجوه الاعتباريّة مظنّة التّرجيح والمعتبر هو ما كان مأنة للتّرجيح والمراد بالأوّل شأنيّة التّرجيح وبالثّاني فعليّته كالغلبة فبالجملة المدار في التّرجيح هو الغلبة وأمّا تفصيل أقسام التّعارض بين النوعين منها فالأوّل تعارض النسخ مع الأربعة الباقية وقد ذكروا وجوب تقديم غيره عليه لوجوه أحدها ندرة النّسخ وغلبة غيره والثّاني أنه إذا عارض مع التّخصيص دار الأمر بين رفع اليد عن ظهور العام في العموم ورفع اليد عن ظهور الحكم في التّأبيد أقوى من ظهور العام في العموم كذا قيل وفيه نظر لأنّ ظهور العام في العموم وضعي وظهور الحكم في التّأبيد إنّما هو لإطلاقه وظهور المطلق في جميع الأفراد إنّما هو لحكم العقل بأنّه متى لم يبيّن القيد كان المراد لجميع والظّهور الوضعي أقوى وهو كالبيان للقيد فإذا قال لا تكرم زيدا بعد قوله أكرم العلماء واحتمل التّخصيص والنسخ فإن حملناه على التّخصيص لم يقيد الإطلاق بالنسبة إلى الأزمان وإن حملناه على النّسخ لم يخصّص العام ولما كان ظهور العام في العموم وضعيّا يحمل عليه بمقتضى وضعه ويقيد الإطلاق ولا يعارضه حكم العقل بالإطلاق لأنّه مشروط بعدم القيد فإذا ثبت القيد بالدليل لم يبق حكم للعقل كما قيل بتقديم النّهي في مسألة اجتماع الأمر والنّهي لأنّ دلالته على العموم وضعي ودلالة الأمر عليه إطلاقي الثّالث الأخبار الدالة على عدم وقوع النّسخ في الشّريعة نحو حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة إلخ ونحو حكم الله على الأوّلين والآخرين سواء فمتى ثبت النّسخ بالدّليل فهو وإلاّ بقي تحت الأخبار المذكورة كذا قيل وفيه أنّ المراد في الأخبار إمّا نفي النّسخ الشّريعة نوعا بشريعة أخرى أو نفي نسخ الأحكام الثّابتة للموضوعات وعلى الأوّل لا دخل له بالاستدلال هو ظاهر وعلى الثّاني أيضا كذلك إذ المراد أنّ الحكم الثّابت لموضوع لا يتغيّر بتغير الأزمنة بأن يكون حكم الغائبين مخالفا مع حكم الحاضرين من حيث كونهم غير الحاضرين وأمّا عدم تغيّره بتغيّر المصلحة والمفسدة المغيّرة للموضوع واقعا فلا دلالة فيها عليه فالأحسن هو التّمسّك بندرة النّسخ لما عرفت من أنّ المدار في التّرجيح في المقام على الغلبة ثم إنّهم فصّلوا في تعارض النّسخ والتّخصيص تفصيلا وهو أنّه إن كان الخاصّ مقدّما على العام وجب القول بكون العام ناسخا له ولا يمكن جعل الخاصّ مخصّصا للعام لعدم جواز تقديم البيان على المبين وأورد عليه بجواز تقديم ذات البيان وتأخير وصف المبيّنة وإن كان الخاصّ متأخّرا فإن كان قبل حضور وقت العمل بالعام وجب جعله مخصّصا لعدم جواز النّسخ قبل وقت العمل وإن كان بعده وجب جعله ناسخا لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن وقع العام في كلام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخاص في كلام الإمام ففيه إشكال إذ لا يمكن جعله ناسخا لعدم جواز النّسخ بعد انقطاع الوحي إجماعا ولا مخصّصا لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا

 

يمكن جعله كاشفا عن سبق البيان إذ من البعيد أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّنه وخفي على الجميع إذ المفروض عدم ذكر الخاص في غير كلام الإمام وذكر بعضهم أنه يجوز جعله مخصّصا ونلتزم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة لحكمة اقتضت إخفاء المخصّص عليهم وجعل العموم حكما ظاهريّا لهم إذ لم يكن الفرد المخرج مرادا من العام أوّلا لكن أخفى الخروج لمانع عن إظهاره أو حكمة في ذلك وفيه إشكال الثّاني تعارض التّخصيص والتّقييد وبما ذكرنا من أن ظهور العام وضعي وظهور التّقييد إطلاقي وأنّ الأوّل يقدّم على الثّاني عرفت لزوم تقديم التّقييد على التّخصيص ومثلوا لذلك بقوله تعالى أوفوا بالعقود فإنّ ثبوت الخيار للغبن في الجملة لا إشكال فيه إنّما الخلاف في أنّه فوري أو متراخ فقيل بالثّاني لاستصحاب الخيار وقيل بالأول لدوران الأمر بين جعل الخيار متراخيا وإخراج البيع المغبون فيه عن عموم العقود الواجب الوفاء بها وبين جعله فوريّا وتقييد إطلاق لزوم الوفاء بغير الحالة الآنية المتعقبة بالعلم بالغبن والتّقييد مقدم على التّخصيص فيثبت الفوريّة وبعده لا يجري الاستصحاب لأنّه مناف مع عموم الآية كما عرفت ورده بعض المحققين بأنّ الآية ليست موردا لتعارض التّقييد والتّخصيص لأنّ إطلاق اللّزوم المستفاد من الآية يفيد العموم بالنسبة إلى جميع الأزمان فإن كان العموم المستفاد منه عموميّا مجموعيّا يكون المعنى يجب الوفاء الدائم بكلّ عقد فيكون لكل عقد حكم واحد هو وجوب الوفاء المستمر فإذا ثبت الخيار لبيع المغبون في الجملة فقد ارتفع الحكم المذكور عن هذا العقد إذ لا يجب فيه الوفاء المستمر فيخصّص به عموم العقود سواء ثبت التّراخي أو الفور وحينئذ فيجوز التّمسّك للتّراخي باستصحاب الخيار وإن كان العموم المستفاد منه عموما أفراديّا يكون المعنى يجب الوفاء بكل عقد في كل زمان فيكون لكل عقد أحكام متعدّدة بحسب تعدّد أجزاء الزّمان فوجوب الوفاء في الزّمان الأوّل غيره في الزمان الثّاني فإن قلنا بثبوت الخيار فورا خصّص العموم المذكور بالنّسبة إلى الزمان الأول وإن قلنا بكونه متراخيا خصّص العموم بالنّسبة إلى جميع الأزمان وخصّص عموم العقود أيضا ولا يمكن التّمسك للتّراخي باستصحابه إذ إثبات الخيار في الزمان الثّاني تخصيص آخر يحتاج إلى دليل والحكم الثّابت فيه غير الثّابت في الأول فبارتفاع أحدهما لا يرتفع الآخر وبالجملة الأمر في الآية إمّا منحصر في التّخصيص وذلك إذا قلنا بإفادة العموم المجموعي أو دائر بين تخصيص واحد وأكثر وذلك إذا قلنا بإفادة العموم الأفرادي وعلى الأوّل يمكن استصحاب الخيار دون الثّاني فالمثال الأصحّ لمورد تعارض التّقييد والتّخصيص هو ما إذا تعلق حكم بمطلق وآخر بعام وكان بينهما تناف كما لو قال أكرم العلماء وإن ضربك رجل فلا تكرمه فلا بد إمّا من تقييد الرّجل بغير العالم أو تخصيص العلماء بغير الضّارب لا إذا تعلق حكم مطلق بعام كالآية هذا

 

حاصل ما أفاده والحق أنّ الآية ليست موردا لتعارضهما لا لما ذكره وأن التّمسك بالاستصحاب باطل مطلقا وذلك لأن مقتضى الأمر في الآية هو وجوب الوفاء في الجملة وأمّا الإطلاق المقتضي للعموم فإنّما هو لحكم العقل بأنّه متى لم يذكر القيد فالمراد هو الجميع وأدلّة إثبات الخيار أيضا دالّة على ثبوته في الجملة فلا تعارض بينهما وبين الآية مع قطع النظر عن الإطلاق إذ لا تعارض بين المهملتين كما يقال الحيوان ناطق والحيوان غير ناطق والإنسان ضاحك والإنسان غير ضاحك فعموم العقود سالم عن المعارض ولا وجه لتخصيصه إنّما التّعارض بين إطلاق الآية وأدلّة ثبوت الخيار فيقيد الإطلاق بما ثبت التّقييد فيه وهو الآن الأوّل ويبقى الباقي تحت الإطلاق وبعد ثبوت الإطلاق لا وجه للاستصحاب لأنّه دليل حيث لا دليل وما ذكره الفاضل المذكور من أنه إذا كان المستفاد هو العموم المجموعي جاز الاستصحاب لا وجه له لما عرفت أن العموم هو مفاد الإطلاق بحكم العقل لا بمقتضى اللّفظ فإنّه لا يدلّ إلاّ على نفس الماهيّة وحينئذ إذا ارتفع العموم المجموعي بأدلّة الخيار ارتفع الإطلاق المقتضي له لكن بقي مقتضى اللّفظ وهو وجوب الوفاء في الجملة بعد الآن الأوّل الّذي هو المتيقّن في القيد فيقتضي العقل الإطلاق بعد الآن الأوّل لعدم المقيد وبعد وجود الإطلاق لا معنى للاستصحاب نعم لو قلنا إن بارتفاع الإطلاق بسبب وجود قيد يرتفع مقتضى اللّفظ كليّة لأنّ مقتضاه هو الإطلاق صح ما ذكر لكن ليس كذلك إذ الإطلاق شيء ونفس الماهيّة شيء آخر لا يرتفع بارتفاعه فافهم الثّالث تعارض التّخصيص والمجاز والتّخصيص مقدّم على المجاز سواء كان المجاز في العام أو في غيره إلاّ في الأمر باحتمال إرادة النّدب منه إذ المدار على الغلبة والتّخصيص أغلب من المجاز نوعا إلاّ من استعمال الأمر في النّدب فإنه أيضا لا يقصر عن التّخصيص في الشّيوع ومثال تعارضهما في العام قولك أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم لاحتمال إرادة الجهلاء من العلماء مجازا فلا تخصيص وتعارضهما مع كون المجاز في شيء آخر المقال المذكور إذا احتمل إرادة ولد زيد مجازا وتعارضهما مع كون المجاز في الأمر قوله تعالى فاستبقوا الخيرات لعدم وجوب الاستباق إلى جميع الخيرات فإما يراد بعض الخيرات أو يراد النّدب من الأمر هذا بالنظر إلى ملاحظة المجاز والتّخصيص في نفسه ومع قطع النظر عن خصوص المقامات وإلاّ فقد يوجد مرجح للمجاز وموهن للتّخصيص فيجب تقديم المجاز كما في الآية لضعف التّخصيص فيه بكونه تخصيص الأكثر الرابع تعارض التّخصيص والإضمار ولا شبهة في تقديم التّخصيص لغلبته وما قيل من أنّه لا يخلو كلام عن إضمار لعدم خلوّ النسبة عن زمان ومكان وهما لا يذكران في الكلام غالبا ففي مثل ضربت زيدا أو قام زيد أضمر في الدّار يوم الجمعة مثلا ففيه أن الكلام في الإضمار الّذي يكون مقصودا للمتكلّم وهو نادر جدّا

 

الخامس تعارض التّقييد والمجاز ولا شبهة في تقديم التّقييد إن قلنا بأنّه لا يوجب تجوزا في اللّفظ لوجود أصالة الحقيقة قرينة على إرادة التّقييد مضافا إلى شيوعه وغلبته وإن قلنا بأنّه موجب للتّجوز فالمرجع هو الغلبة وفهم العرف ويمكن ترجيح التّقييد لغلبته كما ذكرنا وبالجملة حكمه حكم التّخصيص إلاّ أن لزوم تقييد الأكثر ليس موهنا هنا لجوازه قطعا وعدم ندرته بل هو أشيع من غيره بخلاف التّخصيص السّادس تعارض التّقييد والإضمار والسّابع تعارض المجاز والإضمار والإضمار مؤخر في القسمين لندرته كما عرفت من أن المراد هو الإضمار المقصود فافهم ثم إن في المقام أمرين يمكن فرض التّعارض بينهما وبين الخمسة المذكورة أحدهما الاستخدام فإذا تعارض مع التّخصيص قدم عليه كما في قوله تعالى والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ لاختصاص استحقاق الرد بخصوص الرّجعيات فالضمير يرجع إلى بعض المطلّقات إمّا بإرادة الرّجعيات من المطلّقات فيكون تخصيصا أو إرادة العموم فيكون استخداما وقد عرفت فيما مضى وجه تقديم لاستخدام لكونه تابعا لا يختلف به المراد من الضمير بخلاف التّخصيص وكذا إذا تعارض مع التّقييد كما لو كان المطلّقة بدل المطلّقات في الآية لما عرفت من التّبعيّة هذا لو قلنا بمجازيّة التّقييد والأقدم على الاستخدام لأن الإطلاق حكم عقلي ناش من عدم ما يصلح قيدا وحمل الضمير على ظاهره وهو عدم الاستخدام يصلح قرينة للتّقييد مضافا إلى غلبة التّقييد وكذا لو تعارض مع النّسخ كالآية لاحتمال ثبوت حكم الرّد لجميع المطلّقات بأن يكون ناسخا للحكم بعدم استحقاق الرّدّ لغير الرّجعيات لأنّ النسخ إمّا تخصيص في الأزمان وذلك إذا كان الدليل الدالّ على ثبوت الحكم المنسوخ عاما بالنّسبة إلى الأزمان وإمّا تقييد فيها وذلك إذا كان مطلقا وقد عرفت وجوب تقديم الاستخدام على التّخصيص مطلقا وعلى التّقييد إن قيل بمجازيّته وكذا إن قيل بحقيقيّته لكن في خصوص هذا القسم من التّقييد أعني النّسخ لندرته وفيه إشكال لندرة الاستخدام أيضا والأمر سهل وهكذا إذا تعارض مع المجاز إمّا في الإسناد كالآية لاحتمال إرجاع الضمير إلى جميع المطلّقات وإسناد الحكم إلى الجميع باعتبار ثبوته للبعض وإمّا في الكلمة كقوله إذا نزل السّماء بأرض قوم دعيناه وإن كانوا غضابا لاحتمال إرادة شربنا من دعينا وذلك لأصالة الحقيقة إن قلنا بمجازيّة الإسناد إلى المجموع باعتبار ثبوت الحكم للبعض وإلاّ فالمدار على الغالب وكذا إذا تعارض مع الإضمار كما في الآية لاحتمال كون التّقدير وبعولة بعضهن لما عرفت من تقديمه على المجاز المقدم على الإضمار الثّاني التّضمين ومثال تعارضه مع المجاز قوله تعالى فليحذر الّذين يخالفون عن أمره حيث عدّي الفعل بعن فإما يقال باستعماله في يعرضون مجازا أو يقال بتضمينه معنى يعرضون وعلى الأوّل

 

لا يدلّ الآية على دلالة الأمر على الوجوب لحرمة الإعراض عن المستحبات أيضا وعلى الثّاني تدلّ على ذلك وبيان ذلك يحتاج إلى بيان حقيقة التّضمين فنقول ذكر بعضهم أنه عبارة عن إرادة المعنى الحقيقي من الفعل مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر فقولنا أحمد إليك الله معناه أحمده منهيا حمده إليك وقيل إنّه عبارة عن إرادة المعنى المجازي بتبعيّة المعنى الحقيقي من اللّفظ وجعله نظير الكناية والحقّ أنه عبارة عن ملاحظة عنوان مقارن مع مدلول اللّفظ في الخارج وإجراء أحكامه على مدلول اللّفظ فإن ترك الامتثال شيء ينتزع منه عنوانان أحدهما المخالفة والثّاني الإعراض والأول يتعدى بنفسه والثّاني بعن والتضمين عبارة عن إجراء أحكام الإعراض على المخالفة لمحض تقارنهما في الخارج ولو في بعض الأحيان فمعنى الإعراض ليس مقدرا ولا مستعملا فيه اللّفظ بل هو ملحوظ لمحض أمر صناعي هو جواز تعديته بعن كما في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد فإن المانع عن الشيء قد يكون مقتضيا لترك ذلك الشيء كالاستكبار في إبليس وقد لا يكون كذلك كما لو كان الشخص مريدا للفعل فمنعه عنه مانع فإتيان لا في الآية للإشعار بأن المانع في إبليس كان مقارنا مع عنوان الداعي إلى الترك فأجري على المانع أحكام الداعي على الترك ولو ترك لا لتوهم أنه كان مريدا للسّجود لكن منعه عنه مانع فافهم فإنّه دقيق حينئذ فالتّضمين حقيقة وليس كناية ولا مجازا في الحذف وحينئذ فيقدم على المجاز عملا بأصالة الحقيقة ولما لم يكن لباقي صور التعارض مورد على الظّاهر لم يكن للتعرض لها وجه ولذا أعرضنا عنها وأمّا تفصيل التعارض بين الشخصين من نوع واحد أعمّ من أن يكون التّعارض في كلمة واحدة أو في كلمتين كأن يكون الأمر دائر بين القول بإرادة المجاز من هذه الكلمة أو الكلمة الأخرى كما في تعارض مفهوم الغاية في قراءة التخفيف في قوله تعالى ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن لدلالته على حلّيّة الوطي قبل الغسل مع منطوق الآية في قراءة التّشديد حيث يدلّ على حرمته قبله فإمّا يقال بعدم إرادة الغاية من كلمة حتّى مجازا في قراءة التخفيف أو باستعمال النّهي في مطلق المرجوحيّة مجازا في قراءة التشديد ولنفرض الكلام أولا في تعارض المجازين فنقول ذكر بعضهم أنّ الضّابط في ترجيح بعض المجازات على بعض واحد من ثلاثة أمور أحدها تبادر أحد المجازات بعد وجود القرينة الصّارفة عن إرادة الحقيقة وذلك إذا كان المجاز المتبادر واحدا وإذا كان متعدّدا احتاج تعيينه إلى وجود القرينة الصارفة عن المجاز الآخر أيضا والأوّل كقولنا رأيت أسدا في الحمام فإن الكون في الحمام قرينة صارفة عن إرادة الحيوان المفترس وأمّا تعيين أن المراد هو الرّجل الشجاع دون البخر فهو لتبادر الشجاع من الأسد بعد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي والثّاني كقولهم لزيد يد عند أوليائه فإن اليد مجاز في النّعمة والقدرة وغيرهما لكنهما المتبادران بعد المعنى الحقيقي من بين

 

المجازات وقولهم عند أوليائه كما يكون صارفا عن إرادة المعنى الحقيقي وهو الجارحة فكذا يكون صارفا عن إرادة القدرة أيضا إذ لا معنى لكون قدرته عند أوليائه فتعيين النّعمة مستند إلى التّبادر بعد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي وعن المعنى المجازي الآخر المتبادر وهو القدرة ثانيها غلبة استعمال اللّفظ في بعض المجازات عند وجود القرينة الصارفة عن الحقيقة إما لكشفها عن تبادر ذلك المعنى أو لأنها مورثة لحصول الظّنّ بالإرادة وهو حجّة ويظهر الثّمرة فيما إذا علم بعدم التبادر فلو قيل بحجيّتها من باب الكشف عن التبادر لم تكن حجّة حينئذ للقطع بعدم التبادر بخلاف ما إذا قيل بحجيّتها لإيراثها الظّنّ بالإرادة لإمكان حصول الظّنّ بها مع القطع بعدم التّبادر ثالثها الأقربيّة الاعتباريّة كنفي الصحّة في التراكيب الموضوعة لنفي الذّات فإنّها أقرب إلى نفي الذات من نفي الكمال قال وهذا أيضا حجة لكشفه عن غلبة الاستعمال فإن الأقربيّة مظنّة الغلبة لانتقال الذّهن بعد عدم إرادة الحقيقة إلى أقرب المجازات غالبا فحجيّة الأقربيّة إنما هي لكشفها عن الغلبة لا لأنها سبب للتّبادر كما قيل نظرا إلى أن الأقربيّة سبب لعدم الانفكاك في التّصوّر وهو معنى التبادر وذلك لأنّه لو كان محض عدم الانفكاك في التّصوّر كافيا وجب حمل اللّفظ الموضوع لأحد المتضائفين على الآخر عند العلم بعدم إرادة الموضوع له فيحمل الأبوّة على البنوّة والعليّة على المعلوليّة لعدم الانفكاك في التّصوّر مع ظهور بطلانه انتهى ملخّص مراده أقول الأولى أن يقال إنّ المعنى للمجاز هو التّبادر أعني ظهور اللّفظ في المعنى المجازي عرفا بعد القرينة الصارفة وهو مسبّب عن غلبة استعمال اللّفظ في ذلك المجاز من بين المجازات وأمّا عن أقربيّة ذلك المجاز إلى الحقيقة فالتّبادر ليس شيئا مقابلا للوجهين الآخرين وجعل غلبة الاستعمال حجة لإيراثه الظّنّ بالمراد لا وجه له إذ لا حجيّة للظّنّ بالإرادة إذا لم يكن ناشئا عن ظهور اللّفظ الذي هو معنى التّبادر كما عرفت سابقا أن فهم الأصحاب ليس جابرا لضعف الدلالة وجعل الأقربيّة كاشفة عن الغلبة دون أن تجعل مستقلة باطل لما عرفت أنها من أسباب التّبادر في نظر العرف ولذا يحكمون بإرادة نفي الصحّة عند وجود القرينة الدالة على عدم إرادة نفي الذات في التراكيب الموضوعة له لأنه أقرب إليه من نفي الكمال والنقض بالمتضائفين فاسد إذ المتضائفان متكافئان وليس أحدهما لازما للآخر والانتقال في المجاز من قبيل الانتقال من الملزوم إلى اللاّزم فإنّ الأبوّة لا تتصوّر إلاّ مقارنا لتصوّر البنوّة نعم ذات الأب مقدم على ذات الابن وهو غير مفيد والحاصل أنّ المعيّن للمجاز ظهور اللّفظ فيه عرفا ظهورا ناشئا عن الغلبة أو عن الأقربيّة ولا يكفي محض الظّنّ بالإرادة إذ لا حجيّة فيه إذا لم يكن سببا للظّهور كما مرّ مرارا أو لا ينافي ذلك ما ذكرنا سابقا من أنّ أقربيّة المعنى إلى المنقول عنه لا يوجب

 

كونه منقولا إليه إذا كان النقل تعيّنيّا وذلك لأنّ النقل مسبوق بغلبة الاستعمال ولو مع القرينة وهي تابعة للحاجة لا للأقربيّة وحاصل الفرق أنّ الكلام هنا أن بدون القرينة يحمل على الأقرب وهناك إنّما هو في جعل المعنى الغالب الاستعمال ولو مع القرينة هو المعنى الأقرب وهو ممنوع والفرق أنّ الأقربيّة يمكن الاستناد إليها في التّعيين عند عدم ذكر القرينة وأما كثرة الاستعمال ولو مع القرينة فهي تابعة لشدّة الحاجة وهي حاصلة في غير الأقرب أيضا ثم إن ذلك في تعارض المجازين في كلمة واحدة ظاهر وأمّا في تعارضهما في كلمتين فلا يثمر أقربيّة أحد المجازين إلى حقيقته دون الآخر في ترجيحه وكذا شيوع استعمال أحدهما في ذلك المجاز بعد القرينة الصارفة عن الحقيقة دون الآخر وذلك لأنّهما يجريان فيما إذا قطع بوجود الصارف عن الحقيقة فيحمل على الأقرب أو الأشيع وهنا ليس كذلك للشّكّ في إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي في كلّ من اللّفظين والقرينة الصارفة إنّما دلت على عدم إرادة الحقيقة في كليهما نعم إذا كان نوع التجوّز في أحد اللّفظين شائعا بالنّسبة إلى التّجوز في الآخر غلبة معتدا بها قدم على الآخر إذ يمكن للمتكلّم التعويل عليها في التعيين فافهم وذكر بعضهم مرجحا آخر في تعارض المجازين وهو ترجيح المشهور أحدهما على الآخر وقد عرفت ضعفه فإن ترجيح المشهور لا يجعل اللّفظ ظاهرا نعم لو حكموا كليّة بترجيح القسم الخاصّ من المجاز على الآخر كقولهم إن التخصيص مقدّم على المجاز كان معتبرا لكشفه عن الظهور المعتبر في مقام تمييز المراد

فائدة

ومن المرجّحات لزوم مخالفة أصل من الأصول اللّفظيّة عند تقديم مجاز بخلاف ما لو قدم الآخر فإنه يقدم الآخر إجراء للأصل المذكور مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمّتي تسعة فإنّ نفي الذّات غير مراد حقيقة فإما يراد نفي خصوص المؤاخذة مجازا أو نفي جميع الآثار وعلى الأوّل لا يلزم مخالفة أصل بخلافه على الثّاني لأنّه حينئذ يثبت أن الشرط والجزء شرط وجزء حال العلم والذكر فيخصّص الأدلّة الدالّة بعمومها على شرطيّة الشرط حال الجهل والنسيان أيضا فيجب القول بتقديم الأوّل عملا بأصالة الحقيقة في تلك العمومات وهذا من باب المثال تقريبا فلا يناقش فيه وهذا نظير ما أسبقنا أن المتشابه يرد إلى المحكم فقوله أكرم العلماء مبيّن لإرادة الجاهل من قوله لا تكرم زيدا إذا كان مشتركا بين العالم والجاهل وهذا لا يتفاوت سواء كان المجازان في كلمة واحدة أو في كلمتين فهل يكون الترجيح للأقلّ مخالفة أو لا وهل يفرق بين ما إذا كانا في كلمة واحدة وما إذا كانا في كلمتين أو لا محلّ إشكال وهذا الكلام جار في تعارض الأصول أيضا إذا كان التّعارض بين أصل وأصلين وقد ذكر بعضهم أنه منشأ للتّرجيح وجعل ذلك وجها لترجيح الأكثر

 

في تعارض الأخبار فإنّه إذا كان في جانب خبر وفي جانب آخر خبران قدم الآخر حيث قال ووجهه أنّ تقديم الخبر على الخبرين موجب لزيادة التّخصيص لأدلّة حجيّة الخبر إذ يخرج عنه خبران بخلاف ما إذا رجح الخبران فيلزم خروج خبر واحد والتّحقيق في المقام يتوقّف على بسط الكلام فنقول الّذي يتوهّم في بادي النظر الفرق بين ما إذا دار الأمر بين أحد المجازين اللّذين يلزم من أحدهما مخالفة الأصل ومن الآخر مخالفة الأصلين وبين ما إذا دار الأمر بين ارتكاب المجاز في كلمة والمجازين في كلمتين آخرين بأن يقال بترجيح الأقلّ في الأوّل لأنّه القدر المتيقّن بخلاف الثّاني مثال الأول قوله تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا إذ ليس المراد الفاسق الحقيقي أعني الخارج عن الطاعة مطلقا لو قلنا بأن ذلك معناه الحقيقي والأمر دائر بين إرادة فاعل الكبائر منه وفاعل مطلق المعصية وعلى الأوّل يكون العادل تارك الكبائر وإن كان فاعلا الصغيرة مثلا وعلى الثّاني يكون العادل تارك مطلق المعاصي فإن رجحنا الأوّل لزم تخصيص الأدلّة النّاهية عن العمل بالظّنّ أكثر مما لو رجحنا الثّاني فإنّ فاعل الصّغيرة يكون قوله حجة على الأول دون الثّاني فالقدر المتيقّن هو خروج تارك جميع المعاصي وأما تارك الكبيرة فقط فمشكوك والأصل عدمه بخلاف ما ليس فيه قدر متيقّن هذا والأولى في المقام تأسيس الأصل الكلي وبيان الضّابط وهو أنه فيما إذا دار الأمر في الخروج عن ظاهر اللّفظ بين قلة الخروج وكثرته فهل يكون القلة مرجحا أو لا ولنفرض الكلام في خصوص التّخصيص بأن كان المخصّص مجملا لا يعلم إخراجه لفرد أو أكثر ليظهر حكم الباقي بالقياس إليه فنقول إن في مسألة العام المخصّص بالمجمل يتصوّر اثنا عشر قسما لأنّ المخصّص إمّا مستقلّ أو غير مستقلّ وعليهما فإمّا أن يكون الإجمال في المراد من المخصّص أو في مصاديقه وعلى التقادير الأربعة إمّا أن يكون الأمر دائرا بين المتباينين أو الأقل والأكثر المتداخلين بأن يكون الأقلّ داخلا في الأكثر أو غير المتداخلين والحق في جميع أقسام المخصّص الغير المستقلّ وهي الأقسام السّتة إجمال العام وعدم جواز التّمسّك بعمومه في مورد الشّكّ فإنّ قوله أكرم العلماء إلاّ الفساق إذا شكّ في المراد من الفاسق مثلا لا يكفي صدق عنوان العالم على زيد مثلا في وجوب إكرامه مع الشّكّ في عدالته لأنّ المخصّص الغير المستقلّ يوجب انحلال الكلام إلى حكمين على عنوانين واقعيين إذ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة فينحلّ الكلام المذكور إلى قضيتين إحداهما يجب إكرام العالم العادل والثّانية لا يجب إكرام العالم الفاسق فإذا شكّ في زيد أنّه عادل أو فاسق فإجراء أحد الحكمين عليه دون الآخر ترجيح بلا مرجح نعم لو ثبت عدالته أو فسقه بأصل من الأصول الشرعيّة

 

جاز إجراء حكمه عليه لكن الكلام في التّمسّك بنفس العموم مع قطع النّظر عن شيء آخر هذا هو الحقّ الحقيق بالتّصديق وقد وقع عن جماعة ما ينافي ذلك فمنه ما قيل إنّ العام ظاهر في كل فرد من الأفراد فإخراج كل واحد محتاج إلى مخصّص فإذا كان المخصّص مجملا فبالنّسبة إلى ما علم تخصيصه له نأخذ به لا بالنّسبة إلى ما لا يعلم وذلك نظير خطابين عامين ومخصّص مجمل علم كونه مخصّصا لأحدهما دون الآخر فذلك لا يوجب إجمال الآخر وفيه أنّ ذلك إنما يتمّ لو قلنا بأن العام ظاهر في كل فرد ظهورا غير ظهوره في الفرد الآخر وليس كذلك بل العام ظاهر بظهور واحد في الجميع فإذا خصّص ارتفع هذا الظهور وصار ظاهرا في تمام الباقي فإذا كان المخصّص مجملا كان الباقي غير معلوم فلا معنى للتّمسّك بالظّهور والقياس بالخطابات المتعدّدة قياس مع الفارق لتعدد الظهور هناك بخلاف العام بالنّسبة إلى الأفراد ومنه ما يظهر من بعضهم من أنّ عنوان العام مقتض للحكم وعنوان الخاصّ مانع فإذا أحرز المقتضي وشكّ في المانع نفي بالأصل فإذا علم علم زيد وشكّ في فسقه ارتفع بالأصل ويظهر ذلك من الشّهيد الثّاني رحمه‌الله حيث حكم بقتل الخنثى لو ارتد عملا بعموم قوله من ارتد عن دينه فاقتلوه للشّكّ في وجود المانع أي الأنوثيّة ومن المحقّق الكركي حيث حكم بلزوم العقد المشتبه المردّد بين العقد الجائز واللاّزم عملا بعموم قوله أوفوا بالعقود وفيه أولا أن عنوان العام لا دليل على كونه مقتضيا لجواز أن يكون المقتضي مختلفا بالنّسبة إلى كلّ فرد ولكن لمّا كان العنوان العام جامعا لتلك الأفراد جعله موضوعا للحكم كما لو قال أكرم من في الدار فإنّ الكون في الدار ليس مقتضيا للإكرام بل المقتضي كونهم ضيفه أو صديقه أو كليهما وغير ذلك ولذا ذكروا أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليّة وليس إلى حدّ الدلالة المعتبرة وثانيا أنّ كون الخاص مانعا ممنوع إذ لعلّ العنوان المناقض لعنوان الخاصّ كالعدالة في المثال المذكور يكون شرطا لاقتضاء المقتضي فقبل إحراز وجوده لا معنى للتّمسّك بوجود المقتضي وثالثا أنه على فرض تسليم جميع ذلك لا نسلّم جواز نفي المانع بالأصل كليّة إذ قد لا يكون المانع مسبوقا بالعدم ورابعا أنّ موضع الكلام هو إذا لم يمكن تعيين عنوان الخاصّ أو عدمه بالأصل والنزاع إنّما هو في جواز التّمسّك بالعام نفسه وقد علم عدم جوازه فالتّمسّك بأصالة عدم المانع خروج عن موضع النزاع فتأمّل ومنه ما ذكره شريف العلماء بيانا للثّمرة بين القول بأنّ العام المخصّص حقيقة بأن يكون مستعملا في العموم ويكون الإخراج من الحكم والقول بأنه مجاز بأن يكون مستعملا في الباقي وحاصله أنه لو كان حقيقة أمكن التّمسّك بأصالة عدم إخراج الأكثر إذا كان المخصّص مجملا مردّدا بين الأقل والأكثر فيحكم بشمول الحكم للفرد المشكوك إذ العام مستعمل في العموم ومقتضي نسبة الحكم إليه نسبته إلى جميع أفراده حقيقة فإذا تحقق المخرج

 

حكم بخروجه عن متعلّق الحكم وإذا شك في إخراج فرد فالأصل عدمه فيبقى تحت متعلّق الحكم ولا يعارض بأصالة عدم تعلق الحكم به لأنّ أصالة عدم الإخراج وارد على الأصل المذكور وبعد ثبوت عدم الإخراج يترتّب عليه تعلّق الحكم به ولو كان مجازا لم يمكن ذلك لأنّ العام حينئذ مستعمل في الباقي وهو مشكوك لإجمال المخرج لا يقال إنّ الإخراج مقطوع به إنّما الشّكّ في تعدّد المخرج ووحدته وتعدد المخرج لا يوجب تعدّد الإخراج فلا معنى لإجراء أصالة عدم الإخراج على فرض كونه حقيقة لأنّا نقول ليس المراد إجراء أصالة العدم في نفس الإخراج بل نجريها في لوازم تعدد المخرج فإنّ لازم ذلك ارتفاع الحكم الوارد على العام عن الفرد الزائد والأصل عدمه كما إذا شكّ في وقوع الضّربة الواحدة على زيد أو عليه وعلى عمرو فلا يمكن إجراء أصالة عدم تعدّد الضرب لأنّ وحدته متيقّنة ولا يتعدد بتعدد المضروب لكن يتمسّك في إثبات وحدة المضروب باستصحاب حياة عمرو هذا وفيه أن أصالة عدم ارتفاع حكم العام لا معنى له هنا لما عرفت أنّ المدار في الحمل على المعنى هو الظهور عرفا والعام المتعقب بالمجمل مجمل عرفا لا ظهور له ولو سلم فالفرق بين القول بالحقيقيّة والمجازيّة لا وجه له إذ على فرض المجازيّة أيضا قد استعمل كلمة إلاّ مثلا في الإخراج الصوري كما في صورة الحقيقيّة إذ ليست مهملة قطعا غاية الأمر أنّه ليس إخراجا عن المراد بل هو إخراج عن المدلول اللّغوي للّفظ العام ومراد المتكلّم هو ما بقي تحت المدلول بعده الإخراج وحينئذ فإذا شكّ في تعدّد المخرج وقلته فليتمسّك بأصالة عدم التعدّد ويحكم بأنّ الباقي هو الأكثر كما في صورة كونه حقيقة ومستعملا في العموم نعم لو قيل إنّ كلمة الأقربيّة على التخصيص ولم تستعمل في معنى أصلا كان لما ذكره وجه لكن ليس كذلك هذا الكلام في أقسام المخصّص المتّصل أمّا أقسام المنفصل فالحكم الحكم أي الإجمال في خمسة منها وهي ما عدا ما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر المتداخلين عند الشّكّ في المفهوم أما في التباينين مصداقا ومفهوما وكذا الأقل والأكثر المتباينان مطلقا فالقول بأن ترجيح الخبرين على الخبر الواحد إنّما هو من هذا الباب لا وجه له بل هو بقوة الظّنّ في جانب الكثرة وأما المتداخلان في الشبهة المصداقيّة فلأن العام قد خصّص بعنوان معلوم إنما الشّكّ في المصداق وظاهر أنّ عنوان العام أو الخاص لا يعيّن المصداق نعم لو عيّن بأصل من الأصول عمل به فإنّ قوله أكرم العلماء ولا تكرم الفساق لا يدلّ على وجوب إكرام زيد العالم إذا شكّ في فسقه نعم لو ثبت عدم فسقه بالأصل مثلا وجب إكرامه وأما المتداخلان في الشبهة المفهوميّة فذكر بعضهم أنه يمكن نفي الزائد بالأصل أخذا بظاهر العام فإنّ العام حينئذ له ظهور في الجميع لتمام الكلام فإذا تعارض معه المخصّص رفع اليد عن الظهور بقدر ما ثبت المعارضة فيه وهو القدر المتيقّن وأورد عليه بوجهين أحدهما أنّه

 

لا فرق في ذلك بين المتّصل والمنفصل فإن رفع اليد عن ظهور العام في المتّصل إنّما هو لمعارضة القرينة فليأخذ بقدر ما ثبت المعارضة فيه وفيه أن المدار في الفرق هو فهم العرف حيث يحكمون بالإجمال وعدم المعارضة في المتّصل دون المنفصل فالعام لا ظهور له عرفا عند تعقبه بالمجمل بخلاف ما إذا لم يتعقب به بل ذكر منفصلا والحاصل أنّ العام وإن كان ظاهرا في العموم إلاّ أن تعقبه بالمجمل يوجب رفع الظّهور لا أنه ليس ظاهرا قبل تمام الكلام بل هو ظاهر قبله ولذا إذا مات الموصي في أثناء الوصية اتبع ما أوصى به ولم يعتبر باحتمال أنّه لو لم يمت لعقّبه بمخصّص مثلا ولقائل أن يمنع فرق العرف وادعاء أنهم يعدّون العام المخصّص بالمجمل في عداد المجملات مطلقا والثاني أنّ المخصّصات المنفصلة كاشفة عن سبق المخصّص المتّصل إذ لو لم يقترن المخصّص بالعام استلزم الإغراء بالجهل غالبا لتفرق المخاطبين ولا يمكن استماعهم بخطاب واحد فلا بدّ من النّقل لهم فربما نقل لبعضهم العام بدون المخصّص وهو إغراء بالجهل بخلاف ما لو اقترن بالعام إذ من ينقل العام حينئذ ينقل المخصّص أيضا لتقارنه معه وفيه أوّلا أنّه يكفي في رفع الإغراء بالجهل اقتران المخصّص بالعام وأما كونه هو المخصّص المجمل فلا فلعلّه هو القدر المتيقّن فإذا قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم الفسّاق فهو يكشف عن سبق المخصّص ويكفي فيه أن يقترن بالعام قول إلاّ فاعل الكبيرة وأما كونه هو المخصّص المجمل فلا وثانيا أنه إنّما يكشف عن سبق المخصّص المقترن وهو يصدق باقتران العام بالمخصّص المنفصل إذ المراد بالمنفصل هو المستقل لا المتأخر زمانا فلم يدل على سبق المخصّص المتصل بمعنى غير المستقل والثمرة بين القول بإجمال العام بسبب المخصّص المنفصل وعدمه يظهر في أمور منها إذا ذكر عامان عقب أحدهما بمخصّص مجمل وكان ذلك المخصّص بالنسبة إلى الآخر منفصلا كما إذا قال حينئذ لا يجوز الصّلاة في النّجس ثم قال لا يجوز الصّلاة في الدّم إلاّ إذا كان دون درهم والدّرهم مجمل المقدار فإن قلنا بعدم إجمال العام نحكم بأن الدّرهم هو المقدار الأقل عملا بعموم قوله لا يجوز الصّلاة في النّجس وإن قلنا بإجماله فلا إذا عرفت ذلك علمت أن كون أحد المجازين أقلّ مخالفة للأصل من الآخر ليس مرجحا نعم لو كان أحدهما مخالفا للأصل والآخر غير مخالف أصلا كان التّرجيح لغير المخالف وكذا إذا دار الأمر بين المجاز والمجازين إذ لا قدر متيقن في البين فعدم التّرجيح فيه أولى إلاّ أن يكون التّرجيح للأقل في نظر العرف فيتبع هذا وإن لم يمكن ترجيح أحد المجازين بالأمور المذكورة وجب التّوقّف والرّجوع إلى الأصول العملية على حسب مقتضى المقامات وبالجملة المدار في الحمل على المجاز هو الظّهور بسبب التّبادر أو موافقة الأصل وإن لم يكن فالتّوقف والرّجوع إلى الأصل العملي ولك أن تقول إنّ المرجح هو التّبادر فإن لم يكن فالتّوقف والرّجوع إلى الأصل

 

اللّفظي إن وجد وإلاّ فالأصل العملي والفرق أن الأصل اللّفظي يكون مرجحا على الأول ويكون مرجعا على الثاني وكذا في سائر أقسام التّعارض بين الوجوه المذكورة المرجح هو الظّهور ويعلم التّفصيل بالقياس إلى المجاز فإن لم يكن فالرّجوع إلى الأصل فما قيل إنّه عند عدم التّرجيح يجب تأويل أحدهما ليجمع مع الآخر ومقتضاه التّخيير إن لم يكن لتأويل أحدهما مرجح لا وجه له فإن حمل الخطاب على ما ليس ظاهرا فيه عرفا فاسد منهي عنه فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فإن كلام الشّارع نازل على طريق العرف وليس بناؤهم في مقام إفهام المقاصد بالألفاظ إلاّ على ما كان ظاهرا في المراد فالحمل على خلاف الظّاهر من دون قرينة خلاف القاعدة

خاتمة

ما ذكر في المبحث إنّما هو في تعارض الأحوال التي يختلف بها المراد بدون اختلاف حال اللّفظ بها وهناك يختلف بها حال اللّفظ يقع التّعارض بينها وهي المجاز والاشتراك والنّقل فقد تقع التّعارض بينها بنفسها وقد يقع التّعارض بين واحد منها وبين واحد من الوجوه التي تختلف بها حال المراد ولكل مقام يجب التكلّم فيها الأول في تعارض واحد من هذه الوجوه مع تلك الوجوه كتعارض النّقل والإضمار في قوله تعالى وحرم الرّبا إذ لو كان الرّبا منقولا إلى العقد لم يحتج إلى إضمار وإلاّ بأن كان باقيا على معناه اللّغوي وهو الزّيادة احتاج إلى إضمار الأخذ وكتعارض الاشتراك والنّسخ فيما إذا قال ليكن ثوبك جونا ثم قال لا يكن ثوبك أسود فإن كان جون مشتركا بين الأسود والأبيض لا يكون الخطاب الثاني نسخا وإن كان مختصا بالأسود كان نسخا وهكذا ولا يخفى أن الشّكّ في تحقق الإضمار والنّسخ وغيرهما سبب في المقام عن الشّكّ في حال اللّفظ من الاشتراك والنّقل مثلا فلا تعارض بينهما بل يجب أولا استعلام حال اللّفظ من الأدلّة فإن ثبت عدم الاشتراك وعدم الفعل بالأصل مثلا ترتب عليه النّسخ والإضمار قهرا ولا يعارضه أصالة عدمهما لتبعيتهما وهو ظاهر الثاني في تعارض بعض هذه الوجوه مع بعض أما المجاز والاشتراك فقد مضى البحث فيه سابقا وأما الاشتراك والنّقل فيتصور التّعارض بينهما بوجوه منها أن يعلم اللّفظ معنى في اللّغة ومعنى في العرف ويشك في أن المعنى العرفي كان في اللّغة حتى يكون اللّفظ مشتركا في اللّغة أو لا بل هو حادث حتى يكون منقولا ولا شبهة في تقديم النّقل هنا لأصالة عدم الاشتراك وتأخر الحادث ولا يعارض بأصالة عدم النّقل لأنه إنّما يجري فيما إذا وجد المعنى في العرف وشك في اتحاده مع المعنى اللّغوي فيحكم بالاتحاد حذرا من تعدد الحادث وأما فيما نحن فيه فلا للقطع بتعدد المعنى إنّما الشّك في سبق التّعدد وعدمه فالأصل عدمه ومنها عكس هذه الصّورة وهو أن يشكّ في بقاء المعنى اللّغوي في العرف حتى يكون مشتركا

 

في العرف وهجره حتى يكون منقولا ويجب هنا تقديم الاشتراك استصحابا للمعنى اللّغوي إلاّ أن يدعى أن الغالب في الأوضاع المستحدثة هجر المعنى السّابق فإن أفادت الغلبة ظنا فهو وإلاّ فلا حجيته فيها ومنها أن يكون في العرف له معنيان وشك في كونهما معنى اللّفظ في اللّغة وعدمه بأن كان في اللّغة له معنى غير هذين المعنيين ونقل إليهما والاشتراك مقدم هنا لأصالة عدم الوضع للمعنى الثالث ولأصالة عدم النّقل ولا يعارض بأصالة تأخر الحادث وهو الوضع للمعنيين لأنها إنّما تجري فيما إذا لزم من عدم إجرائها تعدد الحادث وهنا يلزم من إجرائها تعدد الحادث أعني الوضع للمعنى الثالث والهجر عنه والوضع للمعنيين بخلاف ما إذا لم تجر إذ لا يلزم إلاّ الوضع للمعنيين ومنها عكس ذلك بأن يشك في بقاء المعنيين الثابتين في اللّغة في العرف وهجرهما وحدوث الثالث ولا شبهة في استصحاب المعنيين وإجراء أصالة عدم الوضع للمعنى الجديد ويمكن فرض التّعارض في صور آخر يعلم حكمها مما ذكرنا وأما المجاز والنّقل فيقدم المجاز لغلبته وندرة النّقل

فرع

قد يقع التّعارض بين شخصين من نوع واحد من هذه الأنواع كالنّقلين والاشتراكين والمجازين وقد علم حكم تعارض المجازين وأمّا تعارض النّقلين فقد مضى أنه إذا دار الأمر في المنقول إليه بين شيئين وكان أحدهما أقرب إلى المنقول منه كان مقدما على ما قيل لكن فيه تفصيل إذ النّقل إمّا تعييني أو تعيّني فإن كان تعيينيا فلا ترجيح وإن كان تعيّنيّا فذكر بعضهم أنه يرجح الأقرب لأن النّقل التّعيّني مسبوق بغلبة الاستعمال في المعنى المجازي وأقرب المجازات معتبر في الحمل عليه والحق أن يقال إنّ الأقرب إن كان بحسب الاعتبار والذّات فليس مرجحا وإن كان من حيث كثرة الاستعمال فحق لما ذكر أن النّقل مسبوق بغلبة الاستعمال فيحصل الظّنّ بأن المعنى الغالب الاستعمال هو المنقول إليه لبعد النّقل إلى المعنى الذي يندر الاستعمال فيه وهجر المعنى الذي شاع الاستعمال فيه والنّقل مسبوق بالغلبة ولذا قيل إن الصّلاة مثلا لو كانت حقيقة في الصّحيح أو الأعم في عرف المتشرعة حمل عليه كلام الشّارع عند وجود القرينة الصّارفة عن المعنى اللّغوي لكشف النّقل عن غلبة الاستعمال السّابق وأمّا الأقربية الاعتبارية فلا تكفي في النّقل لاحتياج النّقل إلى كثرة الاستعمال المسببة عن الاحتياج إلى بيان المقصود وقيل إنه إذا دار الأمر بين النّقل من الكلي إلى الفرد والنّقل من المباين إلى المباين قدّم الأوّل لغلبته وقد مر أنه لا يخلو عن إشكال وإذا دار الأمر بين نقل المادة ونقل الهيئة وكذا مطلق التّصرف في أحدهما بارتكاب خلاف الظّاهر قدّم التّصرف في المادة للاستقراء إلاّ في الأمر فالتّصرف في هيئته أكثر وهذا أيضا لا يخلو عن إشكال وإذا دار الأمر بين النّقل إلى العام والنّقل إلى الخاص فلا ترجيح إلاّ للغالب كالرّبا إن علم نقله إلى العقد وشكّ في أن المنقول

 

إليه هو مطلق العقد أو خصوص عقد البيع وبالجملة المدار في الجميع على الظّنّ الحاصل من الغلبة ولا ضابط كلي سواها وأمّا تعارض الاشتراكين فيظهر المدار فيه بملاحظة ما سبق

خاتمة تتضمن مطالب

الأوّل في تعارض الحقيقة مع المجاز المشهور

فقيل بتقديم المجاز وقيل بتقديم الحقيقة وقيل بالتّوقّف ونسب إلى المعروف وربما ظهر من بعضهم منع إمكان تحقق المجاز المشهور نظرا إلى أنهم عرفوا المجاز المشهور بأنه المجاز الذي بتبادر من اللّفظ بملاحظة الشّهرة وهذا غير معقول إذ التّبادر عبارة عن خطور المعنى بالبال وهو مقارن مع ملاحظة الشّهرة لا أنّه يحصل بها إذ المراد بملاحظة الشّهرة ملاحظة غلبة استعمال اللّفظ في المعنى لا مطلق الشّهرة فملاحظة الشّهرة عين ملاحظة المعنى فالمجاز الذي يتبادر بسبب ملاحظة الشّهرة غير معقول فإن ملاحظة الشّهرة مقارن مع خطور المعنى فلا يتصور خطور مسبب عن ملاحظة الشّهرة وإلاّ لزم تحصيل الحاصل وفيه أوّلا أن التّبادر عبارة عن خطور المعنى بعنوان أنه مراد لا محض الخطور كما عرفت وحينئذ فيمكن كون التّبادر مسببا عن ملاحظة الاشتهار وثانيا أنه على فرض تسليمه لا يضر بما نحن فيه إذ النّزاع هنا إنّما هو في أن غلبة الاستعمال في المجاز تكون قرينة على إرادة المجاز أو لا وإن لم يكن هناك تبادر وقد عرفت أن فيه أقوالا واستدل الأوّلون بالاستقراء فإنّه إذا كان الغالب استعمال اللّفظ في المعنى المجازي وجب إلحاق الاستعمال المشكوك بالغالب ورده الآخرون بأنّ المشكوك ليس من صنف المستقرإ فيها فإن الموارد التي استعمل فيها اللّفظ في المعنى المجازي كانت مقترنة بالقرينة فإلحاق الاستعمال المجرد عن القرينة بتلك الموارد لا وجه له يجب إلحاقه بصنفه المجرد عن القرينة والغالب فيه الاستعمال في الحقيقة إمّا في نفس ذلك اللّفظ إذا كان له استعمال متعدد مجرد عن القرينة وإمّا في نوع اللّفظ الموضوع فإن الغالب في الألفاظ الموضوعة المجردة عن القرينة إرادة الحقيقة وأيضا لو كان غلبة الاستعمال موجبا لصرف اللّفظ عن الحقيقة لوجب حمل اللّفظ الموضوع للعموم على الخصوص لكون العام مجازا راجحا فيه حتى أنه قيل ما من عام إلاّ وقد خص ولا ريب أن استعمال كل فرد من العمومات في الخصوص أكثر مع أنا نراهم أطبقوا على وجوب عمل ألفاظ العموم على العموم إلاّ عند قرينة التّخصيص ومما يوضح ذلك أنهم قد ذكروا أن أغلب لغة العرب مجازات ومع ذلك لا يحملون اللّفظ المجرد عن القرينة على المعنى المجازي للغلبة المذكورة وليس ذلك إلاّ لأنّ حجية أصالة الحقيقة على الغلبة المذكورة ثم إنّهم استدلوا على تقديم الحقيقة بالاستصحاب وهو يقرر بوجوه أحدها استصحاب وجوب حمل اللّفظ على المعنى الحقيقي الثابت ذلك الوجوب قبل الوصول إلى

 

إلى حد الاشتهار الثاني استصحاب ظهور اللّفظ في المعنى الحقيقي والثالث استصحاب عدم وجود القرينة لا عدم كون الشّهرة قرينة إذ ليس لها حالة سابقة حتى يستصحب الرّابع استصحاب عدم التفات المتكلّم إلى الشّهرة إذ في إرادة المجاز يجب الالتفات إلى القرينة لعدم إمكان إرادة المجاز بدون الالتفات إلى القرينة وهو مشكوك فيستصحب عدمه وتحقيق المرام يحتاج إلى تطويل الكلام فنقول يتصور النّزاع في مقامات ثلاثة أحدها في أن الشّهرة هل تكون قرينة للمجاز أو لا والثاني في أنه إذا لم يمكن تعيين كونها قرينة ولا عدمه بأن شك في ذلك فالمرجع ما ذا والثالث أنه إذا علم أن المرتبة الفلانية من الشّهرة تكون قرينة وشك في بلوغ الاستعمال الخاص إلى تلك المرتبة فالعمل على أي شيء ويظهر من أدلة النّافين وبعض أدلة المثبتين كالاستقراء والنّقض بالعام وهو الظّاهر من كلامهم أن النّزاع في المقام الأول وحينئذ فلا وجه للتمسّك بالاستصحاب لأنه مرجع عند الشّك ويرجع الكلام فيه إلى المقام الثاني فلنقدم الكلام فيه ونقول الحق فيه وجوب التّوقّف لما مر مرارا أن المدار في دلالة الألفاظ وتعيين المراد على الظّهور بمعنى كون الكلام مع ما يكتنفه من اللّواحق والأحوال ظاهرا في المعنى وهو مفقود في المقام فلا مجرى لأصالة الحقيقة فيه لما عرفت أنّ المدار على الظّهور وبهذا أظهر الجواب عن وجوه الاستصحاب المدعى في المقام لعدم إفادتها الظّنّ مضافا إلى أن الاستصحاب بين الأولين لا معنى لهما أصلا أعني استصحاب وجوب الحمل على الحقيقة واستصحاب الظّهور لأن الموضوع فيهما هو اللّفظ المستعمل المجرد عن القرينة ومع الشّك في كون الشّهرة قرينة لا يعلم باتحاد الموضوع الذي هو شرط في الاستصحاب وأما المقام الأوّل فالحق فيه التّفصيل وذلك أن المجاز يحتاج في بدو الاستعمال إلى قرينتين صارفة ومعيّنة ثم قد يكثر الاستعمال فيه إلى أن ينتقل الذّهن إلى المعنى المجازي في الجملة لكن انتقالا ضعيفا لا يصلح صارفا عن الحقيقة فيحتاج أيضا إلى القرينتين ثم قد يبلغ الكثرة إلى حد لو وجد القرينة الصّارفة عن الحقيقة لتعين ذلك المجاز من بين المجازات فيحتاج إلى القرينة الصّارفة دون المعيّنة وقد تبلغ إلى حد يتردد الذّهن بينه وبين الحقيقة فيصير اللّفظ مجملا كالمشترك فيحتاج إلى إرادة كل منهما إلى القرينة المعيّنة وقد يقوى الكثرة إلى حد يترجح المجاز وتكون الشّهرة بنفسها صارفة معيّنة والحكم في هذه المراتب ظاهر وليس هناك مثال واقع في الخارج للمجاز المشهور حتى ينظر فيه أنه في أي مرتبة من المراتب هذا هو الذي يقتضيه التّحقيق ويجب تنزيل الخلاف في المقام والجمع بينها يجعل اختلافهم ناظرا إلى المراتب المذكورة وأما ما استدل به القائلون بترجيح الحقيقة من رد الاستقراء بأن المشكوك ليس من جنس المستقرإ فيه فقد ظهر فساده لأنّ الشّهرة أمر مفيد للظّنّ بالإرادة فتكون قرينة فيكون من جنس المستقرإ فيه

 

إذ لا يجب وجود شخص القرينة الموجودة في أفراد المستقرإ فيه لاختلافها بالنسبة إلى كل واحد ففي بعضها حالية وفي بعضها مقالية ونحو ذلك وكذا النّقض بعدم حمل الألفاظ على المجاز مع قولهم إن أغلب لغة العرب مجازات إذ لا نسلم أن الاستعمال في المجاز أغلب بل المراد من تلك العبارة أن المعاني المجازية أكثر من المعاني الحقيقيّة ذاتا لا استعمالا وكذا النّقض بعدم حمل العام على الخصوص مع قولهم ما من عام إلاّ وقد خص إذ هو أي عدم حملهم على الخصوص ممنوع في العمومات الواردة في الشّرع الذي ورد العبارة المذكورة فيها وذلك أنه لم يوجد في الشّرع عام مشكوك التّخصيص حتى يتمسك بأنهم حملوه على العموم نعم هو مسلم في العمومات العرفية ولكن العبارة المذكورة لم يرد فيها فإن أكثر العمومات العرفية غير مخصصة مثل كل إنسان حيوان وأشباهه وربما يجاب أيضا بأن الحمل على العموم إنّما هو لأن التّخصيص الغالب هو نوع التّخصيص لا مرتبة معينة منه فلذا لم يعبئوا بهذه الغلبة وهو فاسد إذ لا فرق بين الغلبة النّوعية والشّخصية في وجوب الأخذ بها فيقال بأن اللّفظ قد استعمل في الخصوص ويكون كالمخصّص بالمجمل بالنسبة إلى مراتب التّخصيص حينئذ ومما بينا ظهر الحكم في المقام الثالث إذ يمكن فيه إجراء الاستصحاب إن أفاد الظّنّ ولا فائدة في البحث فيه لما ذكر من عدم وجود مثال مخصوص في المقام

المطلب الثاني قد ذكروا أنه إذا تعلق الحكم بمطلق انصرف إلى الفرد الشّائع منه

وأنه إجماعي ولا خلاف فيه نعم قد نسب إلى السّيّد المخالفة فيه وليس كذلك لما سيتضح لك إن شاء الله في مقامه أنه مقام آخر وأن السّيّد يقول إذا قام الإجماع على اتحاد حكم الفرد النّادر مع الشّائع كان ذلك قرينة على إرادة الطّبيعة اللابشرط من المطلق وقال غيره إنه إنّما يثبت به اتحادهما في الحكم لا في الإرادة ويظهر الثمرة في إلحاق الفرد النّادر الذي لم يقم عليه الإجماع بما قام عليه الإجماع عند السّيد لإرادة الطّبيعة اللابشرط الشّاملة للجميع وعدم الإلحاق عند غيره لعدم إرادة غير الفرد الشّائع وبنى السّيّد على ذلك جواز التّطهير بالمضاف تمسكا بإطلاق الغسل الذي أقيم الإجماع على جوازه بماء النّفط والكبريت الذي هو فرد نادر كالغسل بالمضاف ثم إنه ربما يدعى التّناقض بين الإجماع المدعى في المقام والخلاف في المجاز المشهورة نظرا إلى أن المناط هو صيرورة الشّهرة معينة للمراد وعدمه فإن كانت معينة فلا تفاوت في المقامين وإلاّ فلا فيهما فما وجه الفرق وليس الفرق كون المطلق حقيقة في الفرد لما ذكرنا أن المناط واحد وهو كون الشّهرة قرينة ولا بد لتحقيق المقام من ذكر وجه الانصراف المذكور حتى يظهر المرام فنقول قد ذكر في وجهه وجوه منها ما ذكره الشّريف ره وهو أن المطلق موضوع للطبيعة وسراية الحكم إلى جميع الأفراد متوقّف على التفات المتكلّم إلى الجميع فإذا كان بعض الأفراد نادرا فإما يعلم عدم التفات المتكلم إليه أو يشك فيه فيحمل على القدر

 

المتيقّن يعني الأفراد الشّائعة وعلى أي تقدير يتعلّق بالأفراد الشّائعة دون النّادرة لعدم التفاته إليه أو للشّكّ فيه أخذا بالمتيقّن والحاصل أنّ المراد معلوم وهو الطّبيعة والسّراية إلى الأفراد مرددة بين الجميع والأفراد الشّائعة فتحمل على المتيقّن عند الشّكّ قال ويدل على أنّ المراد منه معلوم لا مجمل أنّه لو كان مجملا بأن كان الشّكّ في أنّ المراد هو الطّبيعة أو الأفراد الشّائعة وكان الحمل على الأفراد لكونه قدرا متيقّنا لكان في كلامهم التّناقض حيث اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة واتفقوا على عدم وجود البيان في المطلق الّذي كان له فرد شائع فلو كان مجملا لناقض الخلاف في ذلك الإجماع هنا لا يقال إنّ الخلاف في وجوب البيان إنّما هو في المجمل الّذي لم يكن له قدر متيقّن لأنّا نقول إن أريد القدر المتيقّن من حيث الإرادة فهو في المقام مفقود إذ الطّبيعة غير الأفراد المخصوصة وإن أريد المتيقّن في العمل فهو موجود في جميع المقامات كالمشترك مثلا فإنه يقطع فيه بالامتثال بإتيان جميع المحتملات وباب الاحتياط واسع ومنها ما ذكره الشّريف أيضا وهو أنّ الشّيوع إما استعمالي أو وجودي وعلى الأول فشيوع الاستعمال إمّا يجعل الفرد ظاهرا فينصرف إليه إذ المدار في مباحث الألفاظ على الظّهور وإمّا يكون مجملا فيؤخذ بالشائع أخذا بالمتيقّن وعلى الثّاني فشيوع وجود فرد سبب لحضوره في الذّهن فينصرف إليه فيكون الفرد النّادر نازلا منزلة المعدوم في عدم سراية الحكم إليه والمطلق إنّما يسري حكمه إلى أفراده لا إلى غير فرده فإذا نزل النّادر منزلة غير الفرد لم يكن للسّريان إليه معنى هذا حاصل ما أفاده رحمه‌الله وكلا الوجهين محل نظر وذلك لأنّ الطّبيعة الّتي هي المقسم لا يتصوّر جعلها موضوع الحكم لأنّها أعم من اللابشرط والمشروط بل لا يكون الموضوع إلاّ الطّبيعة اللابشرط أو المشروط ومتى لم تقيد وجب كونها مطلقة وهي موجودة في جميع الأفراد فيسري إلى الجميع كما اعترف به في مبحث العام والخاص والحاصل أن الالتفات لا مدخل له في السّراية وأمّا ما ذكره من أنّ الفرد النّادر بمنزلة المعدوم ففاسد من وجهين أحدهما أنّ الفرد المعدوم أيضا يكون متعلّق الحكم قطعا لعدم اختصاص الأحكام بالأفراد الموجودة غاية الأمر أنها محكومة بالأحكام الثّانية والثّاني وجود الفرق بين النّادر والمعدوم لوجوده وصحة تعلّق الحكم به فعلا فالتحقيق أن وجه الانصراف منحصر في أن يكون هناك قرينة مقيدة إمّا صارفة إن كان استعمال الكلي في الفرد بطريق التّجوز أو مفهمة إن كان بطريق الحقيقة لما ذكرنا من أنّها ما لم تقيّد لم يكن لاختصاصها ببعض الأفراد معنى فالشّأن إنّما هو في إثبات أنّ شيوع الاستعمال في فرد هل يصلح للتّقييد بالنّسبة الغير المقرونة بالقرينة أو لا وأن شيوع وجود فرد هل يكون قرينة لإرادته من اللّفظ أو لا فيقع الكلام في مقامين أحدهما أنّ الشّيوع الوجودي هل يكون قرينة ولا فنقول إنّه لا تلازم

 

بين شيوع الوجود وكونه قرينة إذ غاية ما يقال في وجهه إنّ الفرد الشّائع لحضوره في الذّهن ينصرف الذّهن إليه وهذا لا يكفي في إرادة الفرد بخصوصه لما نرى في العرف غالبا من إرادة الطّبيعة المطلقة مع وجود الفرد الشّائع وإنما يقصد الفرد الشّائع لا لخصوصية فيه بل لاتحاده مع الطّبيعة ويكون المقصود هو الطّبيعة نعم يمكن أن يقال إن هذا إنما يتم إذا قلنا إنّ العموم المستفاد من المطلق المتواطي إنّما هو للسّراية فإنّه حينئذ لا بد من السّراية إلى جميع الأفراد وليس كذلك بل هو ثابت بدليل الحكمة وبيانه أنّ الطّبيعة لا تكون موضوعا للأحكام الشّرعيّة التّابعة للمصالح والمفاسد لأنّ وجود المصلحة في الطّبيعة ليس ملازما لوجودها في فرد من الأفراد فضلا عن جميع الأفراد غاية الأمر أنّ الطّبيعة تكون مقتضية لتلك المصلحة وفعليّتها في الأفراد متوقّف على عدم وجود المعارض والمانع ولذا قيل إنّ نحو الرّجل خير من المرأة لا ينافي مع خيرية كل فرد من أفراد المرأة من كل فرد من الرّجل ومن المذكور في الكتب أنّ القضايا الطّبيعيّة لا يبحث عنها في العلوم لأنها لا فعليّة لها وإنّما يبحث في العلم عما كان له فعلية مضافا إلى أنّ الأحكام الشّرعيّة لم تتعلّق بالطبائع قطعا وإلاّ لم تنفك عنها في الوجود الذّهني أيضا فيجب أن يكون تصوّر الزّنا حراما وتصوّر الصّلاة واجبا مثلا وليس كذلك وإنّما الأحكام متعلّقة بالوجودات الخارجية وحينئذ فإما يكون المتعلّق الجميع فهو المراد أو البعض الغير المعيّن وهو موجب للإجمال الغير الواقع في كلام الحكيم أو البعض المعيّن وهو موجب للتّرجيح بلا مرجح ومقتضى هذا الدّليل أنّه متى كان لبعض الأفراد مرجح لم يكن وجه للحمل على العموم والشّيوع الوجودي يصلح مرجحا لإرادة الشّائع لكونه محل الحاجة غالبا وأنّه قدر متيقّن مثلا لكن مقتضى التّحقيق أن يقال إن المطلوب وإن كان هو الوجودات الخارجيّة لا الطّبيعيّة وتلك الوجودات متشخصة بذاتها لكن لما كان لا يمكن تعقل تلك الوجودات بنفسها لأنها خارجة لا يمكن مجيئها في الذّهن فما يتعقل منها في الذّهن هو مفهوم الوجود الّذي هو عام بالنّسبة إلى الجميع وبالجملة لا بدّ في الحكم على تلك الوجودات من ملاحظة عنوان منتزع منها فإن كان الحكم متعلّقا بجميع الوجودات وجب جعل العنوان أمرا شاملا للجميع أو البعض فالبعض وحينئذ فإذا جعل الطّبيعة متعلّقا للطّلب وعنوانا للحكم على أفرادها تعلّق الحكم بالأفراد الّتي يشملها عنوان الطّبيعة قضية وجوب مطابقة العنوان أو المعنون فإذا أريد تخصص الحكم ببعض تلك الوجودات وجب انضمام لازم من لوازم ذلك البعض إلى الطّبيعة حتى لا تشمل فاقده مثل قولك أعتق رقبة مؤمنة ولا يكفي محض تباين تلك الوجودات في الخارج حتى يقال إنّ المحكوم به هو الوجودات وهي متباينة فيدور الأمر بين إرادة الجميع ولبعض الخاص فيؤخذ بالقدر المتيقّن وذلك لما عرفت من عدم إمكان

 

تعقلها بدون الإحساس إلاّ بعنوان عام متى لم ينظم إليه لوازم بعض تلك الوجودات لم يكن لاختصاص الحكم به معنى بل هو مستلزم للإغراء بالجهل وحينئذ فنقول إن جعل الطّبيعة عنوانا ظاهر عرفا في العموم بضميمة المقدمة العقلية وشيوع وجود فرد فرد منها لا يصلح مقيدا للعنوان لما مر من أنّ الحضور الذّهني لا يوجب إرادة الفرد بخصوصه بل قد يجعله مرادا من حيث اتحاده مع الطّبيعة هذا مضافا إلى أنّ الشّيوع الوجودي لو صلح للتّقييد لزم وجوب تقديمه على شيوع الاستعمال في الفرد النّادر مع أنّه خلاف الاتّفاق بيان الملازمة أنّه ربما يكون اللّفظ قبل شيوع وجود الفرد شائع الاستعمال في الطّبيعة وحينئذ يكون ظاهرا في إرادة الطّبيعة فإذا قدم عليه الشّيوع الوجودي وجب تقديمه على شيوع الاستعمال في الفرد النّادر أيضا لعدم مزية له على شيوعه في الطّبيعة لأنّ مدار الحمل في الجميع على الظّهور العرفي فالحق أنّ الشّيوع الوجودي لا يوجب حمل المطلق على الفرد الشّائع المقام الثّاني في الشّيوع الاستعمالي ولا شبهة في أنّه سبب للحمل على الشّائع لأنه موجب لظهور اللّفظ فيه والمدار في الحمل في باب الألفاظ على الظّهور لكن يجب الاقتصار في الحمل على الشّائع على المقام الّذي تحقق الشّيوع فيه فإنه يختلف حال اللّفظ بالنسبة إلى المقامات كما أن العبد في باب البيع مثلا يحمل على العبد الصّحيح السّليم فلو قال اشتر لي عبدا حمل على السّليم لشيوع استعماله فيه في مقام البيع بخلاف ما لو قال لله علي أن أعتق عبدا فإنه يحمل على الطّبيعة المطلقة فلا تغفل ثم إنّ الشّيوع في ذلك له مراتب كما عرفت تفصيله في المجاز المشهور طبق النّعل بالنّعل إذا المناط في الجميع واحد وهو إمكان تعيين المراد بالشّهرة وعدمه ولا فرق في ذلك بين كون المطلق مجازا في الفرد شائعا أو حقيقة فالحق عدم الفرق بين المقامين والقائلون بالفرق قد غفلوا عن التّحقيق في المقام وربما يذكر للفرق وجوه منها أن وجه حمل المطلق على العموم هو عدم ترجيح بعض الأفراد فلو كان هناك مرجح لم يكن مقتضي للحمل على العموم وبالجملة ليس اللّفظ مقتضيا للعموم حتى يكون الشّهرة معارضا له بخلاف المسألة السّابقة لمعارضة الشّهرة مع أصالة الحقيقة وفيه أوّلا مع عدم المقتضي لما عرفت أنّ المقتضي هو جعل العنوان للطّبيعة ووجوب مطابقته للمعنون وثانيا منع معارضة الشّهرة لأصالة الحقيقة لأنّ مقتضى أصالة الحقيقة الحمل عليها إذا لم يكن قرينة وإذا كان الشّهرة قرينة لم يبق موضوع لأصالة الحقيقة ومنها أنّ الحمل على الفرد الشّائع إنّما هو لكونه قدرا متيقّنا فالحمل عليه مقتضى الفقاهة لا الاجتهاد وليس في المسألة السّابقة قدر متيقّن وفيه أنّه مخالف لظاهر كلماتهم لظهورها في كون الشّيوع هنا قرينة فيكون الحمل عليه مقتضى الاجتهاد ومنها أنّ الحمل على الفرد الشّائع إنما هو لكونه منقولا عرفيا إليه أو مشتركا والفرد هو القدر المتيقّن وفيه أنّ القول بذلك نادر ودون إثباته

 

خرط القتاد فكيف اتفقوا على لازمه ومنها أن الشّهرة في المجاز لو كانت قرينة لكانت صارفة لمخالفتها لأصالة الحقيقة بخلاف المطلق فإنها فيه قرينة مفهمة لا معارض لها وهذا يرجع إلى الأوّل والجواب ما عرفت والتّحقيق ما ذكرنا من عدم الفرق فتأمّل

المطلب الثّالث المشترك إذا اشتهر وغلب استعماله في بعض المعاني أو غلب وجود بعض معانيه فحكمه حكم المجاز المشهور

من أنّ الغلبة المفيدة للظّنّ معتبرة فيه للاعتبار في باب الدّلالات

أصل في الحقيقة الشّرعيّة

عرف الحقيقة بالكلمة المستعملة فيما وضعت له من حيث إنّه موضوع له واعتبار الحيثيّة إنّما هو عوض عن قولهم في اصطلاح به التّخاطب وأحسن منه لشموله للمشترك المستعمل في بعض معانيه بمناسبة الآخر أن يصدق عليه الاستعمال فيما وضع له في الاصطلاح الّذي به وقع التّخاطب لفرض اللّفظ موضوعا للمعنيين في اصطلاح واحد مع أنه مجاز فلا يكون مانعا لكن ليس استعماله في المعنى من حيث إنه موضوع له بل من حيث إنّه مناسب للموضوع له وبعضهم أبدل الكلمة باللّفظ ليشمل المركبات وهو باطل لأنّ وضع المركب يتصور بوجهين أحدهما أن يكون المفردات موضوعة لمعانيها والمجموع موضوعا للمعنى المجموعي بالوضع النّوعي بمعنى أنّ الواضع لاحظ هيئة الجملة الخبريّة مثلا مع نوع المادة ووضعها لمعنى الإخبار عن المعاني المخصوصة فالموضوع هو كل واحد من المواد المنضمة إلى الهيئة وإن لوحظ إجمالا والثّاني أن يكون المفردات موضوعة لمعانيها والهيئة التّركيبيّة موضوعة لمعناها وهو النّسبة والرّبط وقد قيل بكلا الوجهين في المشتقّات والثّاني هو الحق في المقام إذ يرد على الأول أوّلا أنّه مستلزم لتكرار فهم المعنى من اللّفظ مرة تفصيلا لكونه موضوعا له بالاستقلال ومرة إجمالا لكونه موضوعا له في ضمن التّركيب وثانيا أنّه مستلزم لإرادة المعنيين من اللّفظ المعنى التّفصيلي والمعنى الإجمالي والفرق بين هذا والسّابق اعتباري وثالثا أنّه يستلزم كون المركب من حيث الوضع التّركيبي مفردا إذ لا يقصد دلالة جزء لفظه على جزء معناه بهذا الوضع التّركيبي بل إنّما يقصد دلالة المجموع على المجموع فيكون كلمة لكونه لفظا مفردا وحينئذ فنقول أمّا على القول بالوضع بالطريق الأوّل فقد عرفت أنّ المركب لا يكون مركبا بناء عليه فيصدق عليه الكلمة فلا يحتاج إلى إبدالها باللّفظ وأمّا على القول بالوضع بالنّحو الثّاني فلا شكّ أنّ الموضوع في المركب هو الهيئة وهي ليست بكلام فإن كانت لفظا كانت كلمة وإلاّ فلا فائدة في الإبدال وأمّا كون الهيئة لفظا فيتوقّف على أمرين أحدهما كونها عبارة عن الحركات والسّكنات لا عن الكيفية الحاصلة للّفظ بواسطتها والثّانية كون السّكون أمرا وجوديّا يستلزم الأمر العدمي لا أن يكون أمرا عدميا إذ لا يكون حينئذ لفظا ولا إذا كانت عبارة عن الكيفية ولا ينافي

 

ذلك كونها جزءا من اللّفظ كما أنّ الواحد جزء العدد وليس من العدد فتأمّل فإن قلت قد ذكر البيانيّون أنّ التّمثيل عبارة عن المجاز في المركب كقولهم في الصّيف ضيّعت اللّبن وقولهم للمتحير أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى وذكروا أنّ التّجوز في المذكورات ليس في المفردات ولا في الهيئة بل إنما هو في المجموع المركب حيث شبه تردد القلب في شيء بتقدم رجل وتأخر أخرى واستعمل المركب في ذلك المعنى وعلى هذا يكون استعارة أو أن تقدم رجل وتأخر أخرى لازم لتردد القلب غالبا فاستعمل اللازم وأريد به الملزوم وعلى هذا يكون مجازا مرسلا وكيف كان إذا لم يكن لمجموع المركب معنى موضوع له فكيف يوصف بالمجاز وليس المجاز إلاّ الكلمة المستعملة في غير الموضوع له لمناسبة الموضوع له قلت الظّاهر أنّهم تسامحوا في تعريف المجاز وأنّه يجب تعريفه بحيث يشمل ما اصطلحوا عليه من المجاز في المركب وهو استعمال المركب في معنى يناسب مجموع معاني مفرداته على التّطبيق وهذا اصطلاح لا يستلزم كون المركب بمجموعه موضوعا للمجموع لما عرفت من فساده جدا ثم الحقيقة بحسب اختلاف الواضعين تنقسم إلى لغوية وعرفية وشرعية فاللّغوية ما كان واضعه واضع اللّغة والعرفية ما كان واضعه أهل العرف عموما فعام أو خصوصا فخاص والشّرعية ما كان واضعه الشّارع كذا قيل ويشكل بأن الوضع الشّرعي إن كان تعيينيا فقد دخل الشّرعية في اللّغوية بناء على أن واضع اللّغات هو الله سبحانه كما أنه هو الشّارع وإن كان تعيّنيّا فقد دخل في العرفية إذ صار حقيقة بسبب كثرة الاستعمال في العرف ويمكن الجواب بأن اللّغوية ليست عبارة عما كان واضعه واضع اللّغات بل هذا مع زيادة حصوله في الصّدر الأول والعرفية العامة عبارة عما لم يكن وضعه مختصا بطائفة مخصوصة أو صناعة خاصة وإلاّ فعرفية خاصة وحينئذ فإن قلنا بأنّ الوضع في الحقائق الشّرعية تعييني كانت قسيما برأسها لعدم دخولها في اللّغوية وإن قلنا بأنه تعيني صارت قسما من العرفية الخاصة وتخصيصها بالذكر لمزية شرفها والظّاهر الأول لأنّ ثمرة النّزاع إنما يظهر بناء عليه إذا الوضع التّعيني لا يثمر في الحمل عليه بلا قرينة مع جهل تاريخ الاشتهار بخلاف التّعييني فإنه يحمل عليه وسيجيء تحقيقه إن شاء الله ثم إنّه هل يشترط في اللّغوية الأولية وعدم المهجورية الأظهر لا فالمنقول منه والمنقول كلاهما حقيقة لغوية وكذا المشترك اللّغوي وإن ترتب وضعه للمعاني فالمتأخر أيضا حقيقة لغوية لأن غالب الألفاظ اللّغوية مشتركة فلو لم يكن الحقيقة إلاّ الأولى لم يكن جميع المعاني حقيقة لثبوت التّرتّب غالبا وليس كذلك بل المشترك حقيقة في جميع معانيه وهل يشترط في العرفية تحقق اللّفظ في اللّغة وحدوث الوضع عرفا أو لا يضر حدوث اللّفظ أيضا في العرف والظّاهر أنّه ليس في الألفاظ

 

الّتي لها حقائق عرفية لفظ حادث ومحل النّزاع هو هذه الألفاظ الموجودة لا ما يفرض وجودها وقد يطلق العرفيّة ويراد بها ما كان مستعملا في المعنى عند العرف بطريق الحقيقة وإن كان في اللّغة أيضا كذلك فيقال إنّ اللّفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني لغة للتّبادر عرفا فيثبت الحقيقيّة عرفا وبضميمة أصالة عدم النّقل يثبت لغة ثم الحقيقة الشّرعيّة لها مصداق ومفهوم أمّا المصداق فهو عبارة عن الألفاظ المخصوصة الّتي علم لها معنى في اللّغة وعلم لها معنى في اصطلاح المتشرعة مباين مع المعنى اللّغوي أو كان الفرق بينها بالإطلاق والتّقييد والكلية والفردية والنّزاع إنما هو في صيرورتها حقيقة في ذلك المعنى الجديد في زمان الشّارع إمّا بالوضع التّعيني أو التّعيني أو في زمان الصّادقين عليه‌السلام وعدمه وأمّا المفهوم فهو أمر ينزع من هذه المصاديق ولا يجوز تعريف مفهوم الحقيقة الشّرعيّة إذ ليس النّزاع في أنّ ذلك المفهوم يصدق على أي لفظ إنّما النّزاع في أن الألفاظ المخصوصة الموجودة هل هي حقائق في زمان الشّارع أو الصّادقين أولا لا في مفهوم الحقيقة الشّرعية لكن القوم قد تعرضوا لتعريف مفهومها ولا بأس بذكر ما ذكروه والنّظر فيه فمنها ما ذكره الشّريف ره وهو أنها كل لفظ استعمله الشّارع في معنى شرعي بطريق الحقيقة تعيينا أو تعيّنا ويرد عليه أمور الأوّل أنّ التّعريف للماهية فذكر لفظ كل مستدرك والثّاني أنّه يشمل ما لو استعمل الشّارع في لفظ الرّكن الّذي هو من مصطلح المتشرّعة في معناه الشّرعي أي الجزء المخصوص من العمل مع أنّه ليس بحقيقة شرعية والثّالث أنّه يخرج عنه ما وضعه الشّارع للمعنى الشّرعي ولم يستعمله فيه بل استعمله فيه غيره من متابعيه مع أنّه حقيقة شرعية لكفاية الوضع في الاستناد إليه كما يقال اللّغوية لما وضعه الواضع اللّغة وإن لم يستعمله فيه والرّابع أنّ الظّاهر منه أنّ اللّفظ المستعمل للشّارع حين استعمال الشّارع له حقيقة شرعيّة فلو استعمله غيره لم يكن حقيقة شرعية وهو باطل وهذا مما يفهمه الذّوق السّليم من هذه العبارة الخامس أنّ التّقييد بالوضع أولى من الحقيقة لأنّ الحقيقة بعد ذكر الاستعمال كالتكرار لأنّها مشتملة على الاستعمال ومنها ما ذكره بعضهم وهو أنها الكلمة المستعملة في المعنى الشّرعي بوضع شرعي قال وقيل المعنى بالشرعي ليخرج المعنى الغير الشّرعي وإن كان الوضع شرعيا كإبراهيم لولده صلى‌الله‌عليه‌وآله والقيد الأخير لإخراج المستعملة في المعنى الشّرعي بالوضع الغير الشّرعي كلفظ الرّكن مثلا قال والحيثية ملحوظة في التّعريف ليخرج مثل لفظ الحسن والحسين فإن الوضع فيهما شرعي والمعنى أيضا شرعي لأنّ له تعلّقا بالشرع لوجوب إطاعتها شرعا لكن الاستعمال لهما ليس من حيث إنّه شرعي وفيه أوّلا أنّه لا فرق بين إبراهيم والحسن والحسين إذ لو أريد من المعنى الشّرعي ما له تعلّق بالشرع بأن كان موضوعا

 

لحكم من الأحكام فلا ريب أن إبراهيم أيضا يحرم قتله وإيذاؤه وأكل ماله وغير ذلك وعلى هذا لا يوجد معنى غير شرعي أو كاد أن لا يوجد وإن أريد منه ما كان من مخترعات الشّارع تشريعا لا تكوينا فكلاهما خارجان وثانيا أنّ قيد الحيثيّة يغني عن المعنى الشّرعي إذ الكلمة المستعملة في أي معنى كان بوضع شرعي من حيث إنّه شرعي حقيقة شرعية كالصراط والميزان والجنّة والحساب ونحو ذلك وكيف كان قد علمت أنّه لا فائدة في التّعرض للمفهوم إذ النّزاع إنّما هو في المصاديق المخصوصة وإنها هل صارت حقيقة في زمان الشّارع تعيينا أو تعيّنا أو إلى زمان الصّادقين عليه‌السلام أو لا وتسميتها بالشرعية بناء على الوضع التّعييني ظاهر وأمّا على الوضع التّعيني فقيل في وجهه إنّه وإن حصل النّقل بسبب استعمال الشّارع فهي في الحقيقة منتسبة إلى الشّارع لكون استعماله سببا له في الحقيقة وفيه أن ذلك يقتضي كون الألفاظ الّتي صارت حقائق في معانيها المجعولة شرعا في زماننا هذا حقائق شرعية لأن الاستعمال فيها تابع لاستعمال الشّارع وليس كذلك قطعا فالأولى في وجه التّسمية أن يقال إنّ المراد بالحقيقة الشّرعية الحقيقة المنسوبة إلى الشّرع من حيث هو شرع فيجب حدوثها في زمان صاحب الشّرع كالأحكام الشّرعية وأمّا ما صارت حقيقة في زمان الصّادقين عليه‌السلام وما بعدهما فهي حقيقة متشرعة أو شارعية ويكفي في نسبتها إلى الشّارع كونه سببا للنّقل كما ذكره ثم إنّ مقتضى ما ذكرنا من محل النّزاع أنّه لا بد من كون اللّفظ مستعملا شرعا في المعاني الجديدة ومن صيرورته حقيقة فيها في زماننا وكان الشّكّ في بدء حدوث الوضع وفيه أقوال فقيل بالثبوت وقيل بالنفي واختلف القائلون بالثبوت فقال بعضهم بالوضع التّعييني وظاهره الإطلاق وقال بعضهم بالتعيّني وظاهره التّفصيل بين الألفاظ ونسب إلى القاضي الباقلاني القول بنفي الاستعمال رأسا فهنا مقامات أحدها في بيان الاستعمال شرعا في المعاني المتجددة والثّاني في ثبوت الوضع التّعييني ونفيه والثّالث بعد عدم ثبوت الوضع التّعييني في أنّه تعيّني أو لا أما المقام الأوّل فنقول فيه قد يتوهّم في بادي النّظر عدم معقولية ما قاله القاضي إذ لا شبهة في إرادة الماهية الخاصية من لفظ الصّلاة مثلا إذ هو أيضا قائل بأنه لم يرد محض الدّعاء بل زاد عليه القيود واللّواحق وقد ذكرنا أنّه قد يكون بين المعنى اللّغوي والشّرعي الفرق بالإطلاق والتّقييد فقد سلم القاضي الاستعمال في المعاني المستحدثة لكن بعد إمعان النّظر يعلم أن مراد القاضي أن لفظ الصّلاة مستعمل في الدّعاء بعنوان أنّه دعاء والقيود خارجة فالخاص وإن كان مرادا من اللّفظ إلاّ أنّه مراد بعنوان كونه فردا من الكلي لا بعنوان الخصوصية وإنّما يكون مستعملا في معنى جديد إذا أريد منه الخاص بعنوان الخصوصية وهو المراد مما ذكرنا سابقا وبما ذكرنا ظهر الثّمرة بين قوله

 

وقول المشهور فإنّه يقول عنوان المطلوب هو الدّعاء فكل ما علم تقيده به من الخارج فهو وإلا فالأصل عدمه والمشهور لا يقدرون على إجراء الأصل كلية كما سيظهر لك إن شاء الله ثم إنّ قول القاضي باطل من وجوه أحدها أنه مستلزم لعدم جواز نية مجموع العمل المعين امتثالا للأمر بالصّلاة بل يجب نية الدّعاء امتثالا للأمر بها ونية البواقي امتثالا للأوامر المتعلقة بها فإن التّكليف المتعلّق بالصّلاة إن أريد بها الدّعاء لا يجوز نية امتثالها بمجموع الدّعاء وغيره كما لا يجوز نية الامتثال للأمر بالصّلاة بمجموع الصّلاة والوضوء مع أن صحة النّية المذكورة مما لا خلاف فيه والثّاني أنّه مستلزم لعدم اشتراط السّتر مثلا في الرّكوع ونحوه لأنه من شرائط الصّلاة والرّكوع ليس صلاة ولا من أجزائه والثّالث أنّه مستلزم لخروج الأخرس المنفرد المصلي عن كونه مصليا لأنّ الصّلاة في اللّغة إمّا بمعنى الدّعاء أو المتابعة وكلاهما مفقود في الأخرس المنفرد وتعميم الدّعاء بحيث يشمل الطّلب القلبي أو المتابعة بحيث يشمل متابعة صاحب الشّرع فإن المصلي تابع لأمر الشّارع وإن كان منفردا خلاف الظّاهر المتبادر فالحق تحقق الاستعمال في المعاني الجديدة ويدلّ عليه مضافا إلى ما ذكر نقل الإجماعات المنقولة والأخبار المذكورة في بيان الماهيات كقوله الوضوء غسلتان ومسحتان وتكبيرها تحريمها وتسليمها تحليلها ونحوه مما هو ظاهر في عدم إرادة المعنى اللّغوي ويعلم أيضا بالرجوع إلى العرف والحكم باتحاده مع زمان الشّارع في المستعمل فيه وبالجملة هذا مما لا يعتريه شبهة ولا ريب وأمّا المقام الثّاني فنقول فيه الحق هو الثّبوت لوجوه أحدها أن الوضع تخصيص شيء بشيء بحيث متى أطلق أو أحس الشّيء الأوّل فهم الشّيء الثّاني ولا يلزم طريق خاص بأن يقال وضعت اللّفظ الفلاني للمعنى الفلاني بل يكفي فيه جعل اللّفظ لفظا للمعنى الخاص وعلامة له ولا شبهة في أنّ الشّارع لم يستعمل لفظ الصّلاة مثلا في الماهية الخاصة لأجل إفادتها مرة واحدة أو مرتين مثلا لأجل المناسبة بينها وبين المعنى اللّغوي بل أراد جعل هذه اللّفظ لفظا لما اخترعه وعلامة بحيث إذا أطلقه يفهم منه المراد ولذا لم يستعمل لفظ آخر في الشّرع بحيث يعبر به عن ماهية الصّلاة ولو كانت الصّلاة مجازا في المعنى المستحدث لوقع هناك إطلاق لفظ آخر أيضا كما يعلم ذلك من التّعبير عن معنى واحد في المجازات بألفاظ مختلفة فقد يقال هو أسد وقد يقال لقيني منه أسد وقد يقال شاكي السّلاح ويعبرون عن الجواد بكثير الرّماد ومهزول الفصيل وجبان الكلب وذلك لأنّ الغرض من الأمور المذكورة يحصل باستعمال واحد لأنّه قلّما يحتاج إليه وأمّا ما كان محتاجا إليه في كل يوم وليلة ويريد الشّارع بيان ماهية لهم فلا ريب أن الظّاهر أنّه يجعل اللّفظ علامة له في لسانه وهو معنى الوضع والثّاني أنه مقتضى اللّطف لأنّ الغرض المقصود وهو بيان الماهية حصوله بالوضع أقرب فيجب في الحكمة وضع

 

لفظ وقد مر أنّ دليل الحكمة قد يعتبر في الأوضاع لأجل كون العلة شيئا يعتبره الواضع في الأوضاع ولا ريب في أن الاحتياج إلى الاستعمال منها والثّالث حمل الماهية على اللّفظ وقد ذكرنا أنّ صحة الحمل من علامات الوضع كقوله عليه‌السلام الوضوء غسلتان ومسحتان ونحوه والرّابع الاستقراء بالرجوع إلى أرباب الصّنائع فإنه يعلم به أن من كان له اصطلاحات خاصة فقد وضع في إفادتها ألفاظا مخصوصة فيظنّ من ذلك أنّ الشّارع أيضا قد وضع الألفاظ للمعاني المستحدثة والظّنّ الحاصل بالاستقراء حجة في باب الأوضاع لغوية كانت أو شرعية والخامس الإجماعات المنقولة في المقام فقد نقل السّيّد المرتضى الإجماع على وجوب حمل الألفاظ المستعملة في كلام الشّارع على المعاني المستحدثة سواء كانت مقترنة بالقرائن أو لا فإنه يدلّ على الوضع التّعييني إذ لولاه لم يمكن الحمل أما على القول بالوضع التّعيّني فلأن الحمل عليه فرع العلم بالتّاريخ وقد حكموا بوجوب الحمل كلية وأمّا على القول بالمجازية فلأنّ غاية الأمر أن يكون مجازا مشهورا وتقديم المجاز المشهور على الحقيقة محل الكلام فكيف يدعي الإجماع عليه في المقام والعجب من الفاضل الشّريف حيث سلم وجوب الحمل على المعاني المستحدثة للإجماع المذكور دون الوضع وذكر في وجهه أنّه إذا نظرت في كتاب ورأيت لفظا مستعملا في مواضع منه في معنى مخصوص تحمله في سائر مواضعه أيضا على ذلك المعنى بدون القرينة وإن لم يكن هناك وضع وبهذا أبطل الثّمرة الّتي ذكروها بين القول بثبوت الحقيقة الشّرعية ونفيها وأنّه يجب الحمل على المعنى الجديد بناء على الأوّل عند عدم القرينة والحمل على المعنى اللّغوي بناء على الثّاني وحاصل الرّد أنّه يجب الحمل على المعنى الشرعي إجماعا وفيه أنّ مشاهدة استعماله في موارد عديدة من الكتاب توجب حصول الظّنّ بأنّ بناء مصنفه في ذلك الكتاب على جعل ذلك اللّفظ علامة لذلك المعنى وهذا هو الوضع مع أنّ الشّريف رحمه‌الله يقول بتقديم المجاز المشهور على الحقيقة فيقال له إنّ غاية الأمر كون اللّفظ مجازا مشهورا إن لم يكن حقيقة فلم يفرق فيه بين الثّابت في الكتاب وبين المنطوق به حيث يحمل على المجاز في الأوّل دون الثّاني فتأمّل وأمّا المقام الثّالث فنقول مع الغضّ عن ثبوت الوضع التّعييني فلا شك في ثبوت الوضع التّعيّني للألفاظ الكثيرة الدّوران على ألسنة الشّارع وتابعية والشّكّ في ذلك كالشّكّ في البديهيات الأولية وقد ذكروا لإثبات الحقيقة الشّرعية بالوضع التّعييني يعني ثبوت الوضع في بدء الشّرع وجوها أخر لا بأس بالإشارة إليها منها ما ذكره في الفصول وحاصله أن بعض الألفاظ المتداولة كلفظ الصّلاة والزّكاة والحج قد كانت حقائق في معانيها قبل زمان الشّرع كقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام وَأَوْصاني بالصَّلوةِ وَالزكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وأَذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ فمفهوم اللّفظ كان ثابتا في الزّمان السّابق والنّسخ إنّما تعلّق بالمصاديق فإن مفهوم الصّلاة عبارة عن العمل الصّحيح المركب من الأجزاء المعهودة في الجملة

 

مثلا هذا المفهوم لا يتغير بتغير كيفية العمل فإنّ الكيفيّة قد تكون صحيحة فتدخل في مصداق المفهوم وقد تكون فاسدة فتخرج عن المصداق ولا يتغير المفهوم كما لا يتغير المفهوم نسخ كيفية العمل في شرعنا كما وقع في نسخ القبلة كالنّحاس يصير ذهبا ولا يوجب تغيير مفهوم النّحاس فهذه المفاهيم قد كانت ثابتة قبل الشّرع بمقتضى الآيات وحينئذ فإمّا أن يكون هذه الألفاظ أيضا ثابتة في السّابق أو لا وعلى الأول فثبوت المدعى وهو ثبوت الوضع في بدء الشّرع ظاهر وعلى الثّاني فنقول إنّ مقتضاه كون الآيات من قبيل النّقل بالمعنى فلا بد أن يكون بلفظ دال على ذلك المعنى فيعلم أنّ لفظ الصّلاة مثلا في الشّرع مما يدل على الماهية المخصوصة وذكر للدّلالة عليها والقرينة منتفية فثبت الوضع مضافا إلى أنّ مقتضى الفصاحة في النّقل بالمعنى نقل المعنى الحقيقي بالحقيقي والمجازي بالمجازي فنقل الماهية الّتي هي معنى حقيقي للّفظ الثّابت في الشّرع السّابق بلفظ الصّلاة يدل على أنها معنى حقيقي لها في شرعنا أيضا وهو المطلوب فتأمّل مضافا إلى أنّ اللّفظ الموضوع في الشّرائع السّابقة لو كان غير لفظ الصّلاة لنقل ولا أقل من نقل اللّفظ الموضوع لها في زمان الجاهلية أو في زمان عيسى عليه‌السلام في لسان العرب ولم ينقل فيعلم أنّ لفظ الصّلاة هو الموضوع لها في السّابق أيضا وهذا وجه وجيه ومنها التّبادر وليس المراد به التّبادر في عرف زماننا هذا لأنّه إمّا يراد به إثبات الوضع في زمان الشّارع بدون ضميمة أصالة عدم النّقل فباطل إذ التّبادر عند عرف علامة الوضع عند ذلك العرف دون غيره وإمّا يتمسك بأصالة عدم النّقل وهي لا تجري فيما تحقق النّقل فيه كغير لفظ الصّلاة والزّكاة والحج لإمكان القول بثبوت المذكورات في اللّغة أيضا أعني قبل زمان الشّارع كما ذكرنا أمّا غيرها فالنقل فيه محرز والشّكّ إنّما هو في ابتدائه فهو مجرى أصالة تأخر الحادث بل المراد التّبادر في عرف الشّارع ومن تبعه ويعلم ذلك من مراجعة الأخبار وغيرها مما يعلم منه سبق الخاصة من لفظ الصّلاة مثلا إلى أذهان المتشرعة الموجودين في زمن الشّارع وما بعده فافهم احتج النّافون بالأصل يعني أصالة عدم النّقل ويعلم جوابه بعد التّأمّل فيما ذكرنا بقي الكلام في بيان ما يترتّب على هذا النّزاع من الثّمرات فنقول ذكر الشّريف ره في بيان الثّمرة أنّه قيل بالوضع التّعييني وجب حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشّرع خالية عن القرينة على المعاني الشّرعية وإن قيل بنفي الوضع رأسا تجب وجب حملها على المعنى اللّغوي وإن قيل بالوضع التّعييني فإن كان التّاريخ معلوما في الوضع والاستعمال فلا إشكال إذ يحمل على اللّغوي عند تقدم تاريخ الاستعمال وعلى الشّرعي عند تأخره وإن جهل أحدهما وعلم الآخر حكم بتأخر

 

المجهول عن المعلوم لأصالة تأخر الحادث فيحمل على اللّغوي إن علم تاريخ الاستعمال دون الوضع وعلى الشّرعي إن عكس الأمر وإن جهلا معا فمقتضى القاعدة الحكم بالتقارن عملا بأصالة عدم تقدم أحدهما على الآخر فيحمل على المعنى الشّرعي لأنه الموضوع له حين الاستعمال إلاّ أنّ الأصل هنا لا يفيد الظّن إذ ليس الاستعمال المقارن للوضع إلاّ استعمالا واحدا وسائر الاستعمالات إما مقدم أو مؤخر فالمظنون خلاف التّقارن للغلبة فيرفع حجية الأصل وإن قلنا بحجيته تعبدا لأن الظّنّ المذكور معتبر في تشخيص المرادات والأوضاع فيقدم على الأصل ويصير المقام كمقام علم فيه بعدم التّقارن مع جهل التّاريخ فيجب التّوقّف والرّجوع إلى الأصول العملية واعترض عليه بوجوه منها أنّه لا يجوز الحمل على المعنى الشّرعي بناء على الوضع التّعييني إذ اللّفظ الّذي كان في اللّغة موضوعا لمعنى لا يهجر معناه بمجرد الوضع لمعنى آخر بل يصير مشتركا بينهما وبعد تكثير الاستعمال يتحقق الهجر فقبله لا يجوز الحمل على المعنى الشّرعي بلا قرينة ومنها أن الفرق بين التّعييني والتّعيّني في ملاحظة التّاريخ لا وجه له إذ التّعيين يحتمل أن يكون بعد استعمالات عديدة ولا يلزم أن يكون في بدء الاستعمال إذ لا دليل عليه ومنها أنّ الحمل على المعنى الشّرعي عند العلم بتأخر الاستعمال أو عند العلم بتاريخ الوضع دون الاستعمال لا وجه له لأنه يكون عند الوضع التّعيّني أيضا مشتركا فلا يجوز حمله على أحد معانيه بلا قرينة ومنها أن حمله على اللّغوي عند العلم بتأخر الوضع أو عند العلم بتاريخ الاستعمال دون الوضع باطل إذ اللّفظ قبل الوضع التّعيّني وصل إلى حد المجاز المشهور وتقديم الحقيقة عليه محل كلام هذا وذكر بعضهم أنّه لا ثمرة لهذا النّزاع أصلا لوجوب الحمل على المعاني الشّرعية عند عدم القرينة مطلقا سواء قلنا بالوضع بأحد الوجهين أو لا وصاحب الفصول واستدلّ على ذلك بوجوه أحدها أن استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشّرعيّة أغلب فإذا شككنا في مورد يحمله على الأغلب والقول بأن المشكوك فيه ليس من جنس الأغلب لأنه لا قرينة فيه قد عرفت فساده في محله من أنّه إن أريد بالقرينة أشخاص القرائن الثّابتة للأغلب فهو غير لازم وإن أريد نوع القرينة فهو موجود وهو غلبة الاستعمال فإنها تصلح قرينة في العرف الثّاني أنّه لا نزاع في ثبوت اشتهار الألفاظ في المعاني الجديدة في زمان الشّارع وإن لم نقل بوصوله إلى حد الوضع والمجاز المشهور مقدم على الحقيقة فالاستعمالات الثّابتة بعد الاشتهار يحمل على المعاني الشّرعيّة وكذا المشكوكة إذ لا يعلم أنها بعد الاشتهار أو قبله فيعمل بأصالة التّأخر الثّالث أن استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشّرعية والمعاني اللّغوية ثابت لكن نعلم إجمالا أن هناك استعمالات

 

لتلك الألفاظ في المعاني الشّرعية في غير ما عثرنا عليه من الموارد لأن شأن الشّارع كان بيانه آنا فآنا لأفراد الأشخاص والآحاد ولكن لا نعلم أنها مستعملة في الشّرع في غير ما نعلمه من موارد استعمالها في المعاني اللّغوية فإذا رأينا استعمالا وشككنا فيه لحمله على أنّه من الموارد المعلومة ثبوتها إجمالا وهو الاستعمال في المعاني الشّرعيّة لا على أنّه من الموارد المشكوكة الثّبوت لأصالة عدم زيادة الاستعمال في المعاني اللّغوية على ما نعلمه من الموارد فلو حملناه على المعنى الشّرعي دخل في الموارد المعلومة ثبوتها إجمالا وإن حمل على اللّغوي لزم زيادة الاستعمال في المعنى اللّغوي على ما كنا نعلمه والأصل عدمه فإن قلت إنّا نعلم إجمالا أن الشّارع قد استعمل ألفاظا في معانيها اللّغوية فلعل هذا منها فلو حملناه على الاستعمال في المعنى اللّغوي لا يخرج عن المعلوم بالإجمال لدخوله في الألفاظ الّتي علمنا إجمالا باستعمالها في المعاني اللّغوية قلت العلم الإجمالي إذا لم يوجب ارتفاع الظّنّ من الأصل لا يوجب طرح الأصل كالشبهة الغير المحصورة حيث لا يوجب العلم الإجمالي بنجاسة جزء من كرة الأرض ارتفاع الظّنّ بالطهارة في الأمكنة الّتي يحتاج الشّخص إليها مثلا وبهذا رد ما ذكره بعضهم من أن الحمل على المعنى الشّرعي في صورة الجهل بتاريخ الاستعمال عملا بأصالة التّأخر فاسد للعلم الإجمالي بتقدم بعض الاستعمالات وحاصل الرّد أن هذا العلم لا يوجب ارتفاع الظّن بالأصل هذا ما ذكروه في المقام أقول كلما ذكره الشّريف من الاعتراضات فمردود أمّا الأول فإن المشترك إن كان شاملا لما كان موضوعا لمعنيين في اصطلاحين نسلم كون هذه الألفاظ مشتركة لكن نمنع إجمال جميع المشتركات بل إذا استعمل فيما يتعلّق بأحد الاصطلاحين لا يراد منه إلاّ الموضوع له في ذلك الاصطلاح فالشّارع إذا استعمل تلك الألفاظ في مقام بيان الشّرع يريد منها المعنى الشّرعي كالنحوي إذا استعمل لفظ الفعل في كتابه الموضوع لبيان النّحو فالوضع الشّرعي بالنسبة إلى بيان الأحكام نسخ للوضع اللّغوي وإن صدق المشترك عليه من حيث إنّه موضوع لمعنيين في اصطلاحين وإن شك في أن الشّارع كان في مقام بيان الأحكام أو لا حكم بالأوّل إذ هو الغالب كما ذكروا أنّه إذا قال الفقاع خمر وشك في أنّه أراد بذلك بيان أفراد الخمر أو بيان أنّه في حكم الخمر حكم بالثاني فالأصل في كلمات الشّارع بيان الأحكام وهذا إجماعي وإن قلنا إن المشترك لا يطلق إلاّ على لفظ كان موضوعا لمعنيين في اصطلاح واحد فلا إشكال إذ ليس الألفاظ المذكورة مشتركة حينئذ وأمّا الثّاني قبل الدّليل على بدء الوضع وجهان أحدهما استقراء أرباب الصّنائع فإن شأنهم في مصطلحاتهم وضعهم الألفاظ

 

قبل الاستعمال والثّاني أنّ الحكمة المقتضية للوضع وهو اللّطف موجود في بدء الاستعمال والشّارع ملتفت إليها فيجب تحقق الوضع حينئذ وإلاّ لزم ارتكاب خلاف اللّطف وهو باطل وأمّا الثّالث فبأنّا لا نسلم أنّ الوضع التّعيّني مسبوق بالاشتراك لم لا يجوز أن يكون وصول الثّاني إلى حد الوضع وخروج الأوّل متقارنين فلا يتحقق الاشتراك ولو سلم فنقول غلبة الاستعمال في المعنى الجديد قرينة معيّنة لأحد معنى المشترك وأمّا الرّابع فبأنّ قولهم بالحمل على المعنى اللّغوي إنّما هو بالنظر إلى الوضع من حيث هو لا فيما إذا قامت القرينة على عدمه أيضا فليس كلامهم ناظرا إلى جهة صيرورته مجازا مشهورا فإنّ كلامهم إنّما هو مع قطع النّظر عن الأمورات الخارجية وهم قد ذكروا أنّه إذا فرضنا عدم الوضع للمعنى الشّرعي فهل هو أقرب المجازات إلى المعنى اللّغوي حتى يحمل عليه عند القرينة الصّارفة أو لا وهل هو مجاز مشهور حتى يحمل عليه اللّفظ مجردا عن القرينة بناء على ترجيح المجاز المشهور أو لا فافهم ثم إن ما ذكره الشّريف رحمه‌الله من أن مقتضى القاعدة عند الجهل بالتّاريخ الحكم بالتّقارن والحمل على المعنى الشّرعي كصورة العلم بالتقارن باطل فإن الحمل على المعنى الشّرعي في صورة العلم بالتقارن أيضا لا وجه له فإن الاستعمال في المعنى لا بد له من مصحح مقدم على الاستعمال فإن كان هو الوضع فقد تقدم الوضع على الاستعمال وإن كان القرينة فقد تأخر كما ذكروا أن الماء إذا صار كرا ووقع النّجاسة فيه حال صيرورته كرا أنّه نجس إذ المعتبر في عدم التّنجس هو سبق الكريّة على وقوع النّجاسة مضافا إلى أن التّقارن غير متصوّر لأنّ الوضع التّعيّني يحصل بالاستعمال فإن كان الوضع حاصلا بغير الاستعمال الّذي فرضته مقارنا ارتفع التّقارن وتقدم الوضع وإن كان حاصلا بنفس ذلك الاستعمال فقد تقدم الاستعمال فالتقارن غير معقول وأمّا ذكره البعض من نفي الثّمرة وأن العلم الإجمالي لا يوجب رفع الظّن ففاسد أمّا قوله بعدم إيجاب العلم الإجمالي ارتفاع الظّنّ في كلامه الأخير فلأنّ معنى العلم الإجمالي هو العلم بحكم مردد بين شيئين على سبيل الانفصال الحقيقي ومعه لا يمكن إجراء أصالة العدم في شيء منهما لأن إجراءه في الجميع مخالف للعلم وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح نعم لو كان الحكم في أحدهما مظنونا وفي الآخر موهوما أمكن ترجيح الموهوم لكنه ليس لمحض مقتضى الأصل بل هو لأمور خارجة والكلام إنّما هو مع قطع النّظر عن الخارج نعم هذا الكلام إنّما يصح إذا كان العلم به علما في الجملة كالعلم بثبوت القضاء المردد بين فريضتين وثلاثة فرائض فإنه ينحل إلى العلم التّفصيلي بوجوب الفريضتين والشّكّ التّفصيلي في الثّالثة فيجري فيها الأصل ومن ذلك ما قاله في الدّليل الثّالث إفاضة

 

على نفي الثّمرة حيث قال العلم الإجمالي باستعمال ألفاظ في المعنى اللّغوي لا يوجب رفع الظّنّ من أصالة عدم زيادة الاستعمال فإنّه أيضا على في جملة لأنّه ينحل إلى العلم التّفصيلي باستعمال غير الألفاظ المتنازع فيها والشّكّ التّفصيلي فيها وأمّا أدلته الثّلاثة فلأنّ الأوّل منهما يرجع إلى الثّاني وذلك لأنّ محض غلبة استعمال اللّفظ في المعنى الشّرعي بلا قرينة إنّما يصح إذا أمكن جعل الغلبة قرينة عليه والغلبة المتأخّرة لا يمكن فيها ذلك فالشّكّ في التّأخر والتّقدم شك في إمكان كون الغلبة قرينة وعدمه وضع الشّكّ في ذلك لا يمكن حمل اللّفظ على المعنى الشّرعي إلاّ إذا أثبت تأخّر الاستعمال بأصالة التّأخّر فيكون الغلبة قرينة فرجع إلى الدّليل الثّاني وهو أيضا لا ينفي الثّمرة فإن كلام القوم ناظر إلى نفس الوضع مع قطع النّظر عن الخارج فلا يرد عليهم شيء كما أشرنا إليه فإنهم أيضا ذكروا هذه المسألة وأنّه على فرض عدم الوضع فهل تحقق المجاز المشهور أو لا ومع التّحقق هل يحمل عليه أو على الحقيقة أو فيه تفصيل وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وأشرنا إلى جملة منها فيما سبق وأمّا الثّالث فلأنا لا نسلم أن العلم الإجمالي حاصل بالاستعمال في المعنى الشّرعي بل العلم الإجمالي حاصل بثبوت استعمالات أخر غير ما بأيدينا أمّا في المعنى الشّرعي أو في اللّغوي فلو حمل على اللّغوي أيضا لا يلزم زيادة الحادث فتأمل

تتميم

إذا قطع النّظر عن الوضع للمعنى الشّرعي وقيل بعدم ثبوته فيقع الكلام حينئذ في وجهين أحدهما أن المعنى الشّرعي هل بلغ في الاشتهار إلى حد يقدم على المعنى اللّغوي عند التّجرد عن القرينة بأن يكون الشّهرة فيه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي أو لا والثّاني أنّه على فرض عدم وصوله إلى هذا الحد هل وصل إلى حد يحمل عليه اللّفظ عند قيام قرينة صارفة عن المعنى اللّغوي بأن يكون أقرب المجازات أو لا والتّرجيح في المقامين تابع لحدس المجتهد ولا يبعد ترجيح جانب الثّبوت فيهما نظر إلى الاستقراء فإن الألفاظ المتداولة في اصطلاح المعنى المصطلح فيها يبلغ في الاشتهار في أدنى زمان إلى حد يقدم على الموضوع له ومع التّنزل نقول يحمل عليه إذا قام القرينة الصّارفة عن الموضوع له ويمكن التّمسك بملاحظة أن المعنى لا شبهة في أنّه قد نقل إليه بعد زمان الشّارع وأمّا تعيين كونه في بدء الشّرع أو وسطه أواخره فمتوقّف على النّقل والحدس ومع الشّكّ يعمل بمقتضاه ويمكن التّمسك للثّبوت في الوجه الثّاني بأنّا بعد التّتبّع في مستعملات الشّارع علمنا أنّه لا يستعمل تلك الألفاظ إلاّ في المعنى اللّغوي أو الشّرعي ولا ثالث لهما فإذا قامت القرينة الصّارفة عن اللّغوي حمل على الشّرعي إذ لا ثالث في البين وبالجملة لا يكون اللّفظ مجملا على ما توهمه بعض الأفاضل ثم إنّه إذا تحقق الوضع للمعنى

 

الشّرعي وقام القرينة الصّارفة عنه فهل يحمل على المعنى اللّغوي أو لا والأوجه نعم لما بينا أنّه لا ثالث لهما في استعمالات الشّارع فهو أقرب المجازات وقد يتمسك لذلك بوجهين آخرين أحدهما أن اللّفظ لم يهجر وضعه اللّغوي وإنّما حدث الوضع الجديد ليستعمل فيه اللّفظ المجرد عن القرينة في الاصطلاح الخاص وبعد قيام القرينة الصّارفة عن المعنى الجديد يحمل على اللّغوي لأصالة الحقيقة وفيه أوّلا أنّه لا يتم بناء على الوضع التّعيّني لتحقق الهجر بالنسبة إلى المعنى اللّغوي وثانيا أن ثمرة الوضع للمعنى الجديد ليست محض الحمل عليه عند التّجرد عن القرائن بل ثمرته هو الثّمرة في سائر الأوضاع وهو أن يحمل عليه اللّفظ عند التّجرد ويحمل على مناسبه عند قيام القرينة وبعد اعتبار المناسبة يكون مجازا لا حقيقة والثّاني أنّ اللّفظ قبل الوضع للمعنى الجديد كان ظاهرا في المعنى اللّغوي وبعد الوضع الجديد إذا قامت القرينة الصّارفة عنه نشك في ارتفاع ذلك الظّهور فيستصحب وفيه أنّ ذلك الظّهور كان مستندا إلى الوضع وبعد نسخ ذلك الوضع في الاصطلاح الخاص لا معنى لاستصحاب الظّهور المستند إلى الوضع وهو ظاهر

أصل اختلفوا في أن ألفاظ العبادات مستعملة في الصّحيح أو الأعم

وقبل الخوض في المطلب لا بد من تمهيد مقدمة وهي أنهم ذكروا أنّ هذا النّزاع مختص بالقائلين بالمعاني المستحدثة فلا يدخل القاضي في هذا النّزاع ولكن بعد القول بالمعاني المستحدثة لا يختص النّزاع بالقائلين بالحقيقة الشّرعية وهذا بحسب الظّاهر غير تمام وبيان ذلك أن الصّحة عبارة عن كون العمل جامعا للأجزاء والشّرائط بحيث يترتّب عليه الدّاعي إلى الأمر ويلزمها بهذا المعنى امتثال الأمر وليس معنى الصّحة امتثال الأمر فإنّ المأمور به هو الصّحيح فلو كان امتثال الأمر مأخوذا في معنى الصّحة لكان المأمور به الصّلاة الّتي يحصل بها امتثال الأمر فيجب تحقق أمر آخر غير هذا الأمر المتعلّق بالصحيح وإلاّ لزم الدّور وحينئذ فتفسير بعضهم للصّحة بما يوافق الأمر تفسير باللازم ثم إنّ المعنى الّذي يتعلّق به الأمر إمّا بسيط أو مركب انضمامي له أجزاء في الخارج أو مركب تقييدي له شروط والأوّل لا يتصف بالصحة والفساد إذ لا جزء له ولا شرط فصحته وجوده وعدم صحته عدمه من رأس بخلاف الآخرين والألفاظ المستعملة في الشّريعة على أقسام قسم استعمل فيما لا يغاير المعنى اللّغوي بالتّباين وقسم فيما يغايره بالكلية والجزئية وقسم فيما يغايره بالإطلاق والتّقييد ومن القسم الثّاني الصّلاة ونحوها على القول بأنها مستعملة في المعاني المستحدثة المركبة من الأجزاء والشّرائط ومن الثّالث ألفاظ المعاملات فإن الملحوظ فيها هو المعنى اللّغوي والزّائد شروط ولواحق وألفاظ العبادات عند القاضي من هذا القبيل وقد عرفت أن هذا المعنى يصح اتصافه بالصّحة والفساد فيجري هذا النّزاع على مذهب

 

القاضي أيضا كما أجروها في المعاملات ولا فرق بين الألفاظ العبادات على مذهب القاضي وبين ألفاظ المعاملات عندهم في أن المعنى الشّرعي مغاير مع اللّغوي بالإطلاق والتّقييد فالقاضي أعمي لقوله بالبقاء على المعنى اللّغوي الّذي هو أعم من الصّحيح والفاسد فالأولى تعميم العنوان بحيث يشمل القاضي أيضا ويمكن الجواب بأن هذا النّزاع في المعاني المتغايرة مع المعنى اللّغوي بالتباين أو الكلية والجزئية يمكن من كل واحد من القائل بثبوت الحقيقة الشّرعية وعدمه بخلاف المعاني المتغايرة معه بالإطلاق والتّقييد فإن القائل بالصحة فيها يلزمه القول بالوضع وبالعكس والقائل بالأعم يلزمه القول بنفي الوضع وبالعكس فالقول بالصحة متلازم مع القول بالحقيقة الشّرعية والقول بالأعم متلازم مع نفيها فالنّزاع في ثبوت الحقيقة الشّرعيّة فيها وعدمه نعني عن النّزاع هنا وأمّا ذكر النّزاع في المعاملات فإنّما هو من باب المناسبة والمساهلة أمّا التّلازم المدعى في المقامين فبيانه أن بعد القول بالبقاء على المعنى اللّغوي لا معنى للقول بالصحة إذ هو أعم من الصّحيح والفاسد ولو كان إرادة المقيد من المطلق حقيقة أو مجازا موجبا للإجمال كما هو مقتضى قول الصّحيحين كما سيأتي إن شاء الله لزم خروج جميع الخطابات عن الحجية وصارت مجملة لا يمكن التّمسك لا يمكن التّمسك بإطلاقها حتى في لفظ الماء مثلا ومن قال بالوضع قال بالوضع للصّحيح إذ لا معنى لاعتبار اشتراط بعض الشّرائط في المسمى دون بعض فثبتت الملازمة في المقامين ومع الغض عن ذلك نقول على القول بالوضع والنّقل يدخل في القسم الثّاني وهو المركب الانضمامي الّذي يمكن فيه القول بالصحة والفساد ولكن لا يمكن للقاضي ذلك لأنّه قائل بالتركيب التّقييدي فلا يمكن له القول بالصحة والحاصل أنه على القول بعدم النّقل كما هو قول القاضي لا يمكن إلاّ القول بالأعم لكونه من القسم الثّالث وهو المركب التّقييدي لما عرفت أن القول بالصحة بناء عليه فاسد لا قائل به وعلى القول بالنّقل يدخل في القسم الثّاني وهو المركب الانضمامي الّذي يجري فيه النّزاع بكلا القولين وكيف كان فالقاضي خارج عن النّزاع في هذه المسألة فإنّ محل النّزاع لا بد أن يكون معنى قابلا لكلا القولين وهو لا بد أن يكون مغايرا للمعنى اللّغوي بغير الإطلاق والتّقييد ولو كان مغايرا له بالإطلاق والتّقييد فلا يجري النّزاع فيه إلاّ على القول بالحقيقة الشّرعية والقاضي لا يقول بها ثم إنّ إدخال النّافين للحقيقة الشّرعيّة في هذا النّزاع بحسب الظّاهر فاسد لوجوه منها أنّ النّزاع إمّا يكون في الوضع أو في الاستعمال والأوّل لا يتصوّر من النّافين والثّاني ليس محل النّزاع إذ الاستعمال في كلا المعنيين واقع في الشّرع وليس قابلا للإنكار ومنها أنّهم ذكروا أن الاستعمال

 

في الأعمّ من باب سبك المجاز عن المجاز إذ المعنى الصّحيح عندهم أيضا مجاز ومنها منافاة عنواناتهم لذلك وهو أن الألفاظ الّتي لها معان جديدة هل هي أسام للصّحيحة أو للأعمّ فإنّ الاسم لغة وعرفا يطلق على اللّفظ الموضوع للمعنى لا للمجاز مضافا إلى استدلالهم في المبحث بعلائم الوضع كالتّبادر وعدم صحّة السّلب ونحو ذلك مما يدلّ على أن النّزاع إنّما هو في الوضع فلا يشمل النّافين ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّ النّزاع إنّما هو على قول النّافين إنّما هو في أقرب المجازات في زمان الشّارع ليحمل عليه اللّفظ عند قيام القرينة الصّارفة على المعنى اللّغوي والميزان لذلك هو الحقيقة المتشرعة فكل معنى نقل إليه اللّفظ في عرف المتشرعة إلى زمان الصّادقين عليه‌السلام فهو أقرب المجازات وأشهرها في زمان الشّارع لكشف النّقل عن كثرة الاستعمال السّابق فالصحيحيّة يقولون إنّ الصّحيح هو الموضوع له في عرف المتشرعة فهو أقرب المجازات في زمان الشّارع والأعميّة يقولون هو الأعم وعن الثّالث بأن العنوان المذكور إنّما ابتدأ به القدماء المثبتون للوضع وتبعهم النّافون فلم يغيروا جريا على مذاهبهم وكذا الأدلة المذكورة أو نقول أن المقصود من العنوان والأدلة هو تعيين الموضوع له في عرف المتشرعة ليتفرع عليه تعيين الموضوع له في كلام الشّارع على مذهب المثبتين وتعيين أقرب المجازات على مذهب النّافين وكذا الأدلّة المذكورة ناظرة إلى عرف المتشرعة الّذي هو الميزان لعرف الشّارع وعن الثّاني بالتسليم وضع فساد سبك المجاز عن المجاز لشيوعه فإنّ استعمال أسد في زيد مثلا من هذا القبيل حيث شبه الرّجل الشّجاع بالحيوان المفترس فاستعمل فيه لفظه فهذا مجاز ثم أريد من ذلك المجاز الّذي هو كلي فرده وهو زيد وهذا أيضا مجاز لاستعمال الكلي في الفرد بعلاقة العموم والخصوص وكذا في نظائره وكذا إذا جعل المراد بالعلم في تعريف الفقه ملكة الظّن فإنه مجاز عن إرادة الظّن مجازا من العلم بمعناه الحقيقي بمعناه الحقيقي وهو الجزم إذ لا يمكن إرادة ملكة الظّن من العلم بمعنى الجزم إذ ليس بينهما علاقة بخلاف ملكة الظّن مع الظّن فإنه مناسب معها بالسّببية والمسبّبيّة وكذا الظّن بالنّسبة إلى الجزم لتشابههما في كشف الواقع كذا قيل وفيه نظر لأن إرادة زيد من الأسد ليس من قبيل استعمال الكلي في الفرد بل هو من باب إطلاق الكلي على الفرد بإرادة الخصوصية من الخارج فليس مجازا ولا نسلم أن ملكة الظّن ليست مجازا عن المعنى الحقيقي وهو الجزم لوجود المناسبة بينهما في كون كل منهما سببا لظهور الواقع فالأولى في الجواب أن يقال إنّا لا نسلم لزوم سبك المجاز عن المجاز عند إرادة الفاسد بمشاكلته للصّحيح وذلك لأنّه من قبيل تنزيل المعدوم منزلة الموجود ادعاء فإنه شائع في العرف ولا يلزم منه مجاز في الكلمة كما يطلق الحقة في العرف على مقدار نقص عن الحقة بمثقال فيطلقون

 

الصّلاة على الفاسد بادعاء كونه صحيحا لمشاكلته له في الصّورة والحاصل أن اللّفظ قد أطلق على الصّحيح الّذي هو الموضوع له لكن بتنزيل الفاسد منزلة الصّحيح بالمشاكلة وهذا غير قول السّكاكي في الاستعارة حيث يقول إنّ التّصرف إنّما هو في أمر عقلي فإنّ مراده أنّ أسد يراد منه الرّجل الشّجاع لكن تنزيله منزلة الحيوان المفترس وهذا يرد عليه أن التّنزيل المذكور لا يخرج الرّجل الشّجاع عن كونه غير ما وضع له فاللّفظ مجاز فيه ونحن نقول إنّ اللّفظ يراد به المعنى الموضوع له حقيقة كإطلاق الحقة فيما ذكر لكنه بادعاء كونه تماما وبالجملة الفرق بين الكلامين يظهر بالتأمّل وإن أبيت عن ذلك فقل في الجواب إن القول بأن إرادة الأعم إنّما هي للمشاكلة في الصّورة إنّما هو من بعض الصّحيحيّة لا من جميعهم ولعله كان قائلا بالوضع وهو لا يوجب اختصاص النّزاع بالقائلين بالوضع وهذا ظاهر ثم إنّك بعد ما عرفت من أنّ النّزاع المذكور إنّما يجري على القول بالمعاني المستحدثة أو النّقل تعلم أن إجراءه في المعاملات وعدمه مبني على القول بكونها ماهيات مجعولة أو منقولة وعدمه فمن أدخلها في النّزاع قال بكونها ماهيات مستحدثة أو بالنقل ومن أخرجها جعلها مبقاة على المعاني اللّغوية ولا يخفى أن أكثر المعاملات باقية على معانيها اللّغوية ولم يتحقق فيها نقل كالبيع ونحوه وإنّما زيد لصحتها شروط في الشّريعة لكن بعضها قد حدث له معنى جديد في الشّرع كالطلاق فإنه ليس الملحوظ في إطلاقه معناه اللّغوي أصلا فهو داخل في محل النّزاع وهذا عكس العبادات فإنّ أكثرها معاني مستحدثة في الشّرع وبعضها باق على معناه اللّغوي كالسّجود والرّكوع ونحوهما وبالجملة فدعوى الكلية في كل من المقامين لا وجه له بل لا بد من التّفصيل والرّجوع في كل لفظ إلى ما يقتضيه الدّليل ولا بأس بالإشارة إلى بعض كلماتهم في المقام ليتّضح المرام فنقول قال الشّهيد في القواعد الماهيات الجعلية كالصّلاة والصّوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضي فيه وظاهر هذا الكلام تحقق الماهيات الجعلية في المعاملات أيضا بناء على أن يعطف سائر العقود على الصّلاة والصّوم قال بعض المحققين إن مراده أنها لا تطلق على الفاسد بعد الأوامر الشّرعية إلاّ الحج حيث أمر بإتمام فاسده أيضا وليس مراده الإطلاق مطلقا إذ لا مجال لإنكاره واعترض عليه في الفصول وذكر أن مراد الشّهيد من عدم الإطلاق على الفاسد الإطلاق بطريقة الحقيقة إذ الاستعمال المطلق في الفاسد لا مجال لإنكاره وليس مراده الإطلاق بعد الأوامر وإلاّ لورد عليه أن الفاسد الّذي هو المأمور به في الحج إن أريد به الفاسد خصوص الفرضي بمعنى أنّه فاسد إن لم يتعلّق الأمر بإتمامه إذ مع ملاحظة الأمر يكون صحيحا لكونه موافقا

 

للأمر فهذا يجري في جميع العبادات فإنها فاسدة قبل أن يؤمر بها إذا الصّحة إنّما تحصل بموافقة الأمر فلا معنى لحصولها قبلها فقد أطلق ألفاظها على الفاسدة ولا وجه لاختصاص الحجّ وإن أريد به الفاسد الواقعي نظرا إلى أن الصّحة لا بد أن تكون متحققة قبل تعلق الأمر وهي منتفية في الحجّ الفاسد ففيه منع لزوم ذلك لجواز كون الأمر منشئا للصحة فلا يلزم تحققها قبل الأمر وإن أريد أنّه فاسد بالنظر إلى الأمر الأوّلي بالحج وإن كان صحيحا بالنظر إلى الأمر الثّاني فهو مع أنّه بعيد عن مساق كلامه مما لا يساعد عليه تفريع مسألة الحنث عليه كما لا يخفى انتهى وفيه أن كونه فاسدا بالنسبة إلى الأمر الثّاني المتعلق به غير معقول فالقول بأنه يطلق على الفاسد نص في الفاسد بالنظر إلى الأمر الأوّل في جعل ذلك بعيد إلاّ وجه له فنقول إن مراد الشّهيد من الصّحيح الّذي هو المراد بعد الأوامر هو العمل التّام الأجزاء والشّرائط بحيث يترتب عليه المصلحة الدّاعية إلى تعلق الأمر الأولي في بدء الشّريعة لا الصّحيح الّذي يترتب على طرو الفساد وحينئذ فسائر الماهيات لا تطلق بعد الأوامر على غير هذا بخلاف الحج لإطلاقه على ما طرأ عليه الفساد أيضا وأمّا قوله لا يجب تحقق الصّحة قبل الأمر لجواز إنشائها بالأمر ففيه أو لا أنّه يتم في الصّحة بمعنى موافقة الأمر وأمّا الصّحة بمعنى جامعيّة الأجزاء والشّرائط فهي متقدمة على الأمر بلا شبهة وثانيا أن إنشاء الصّحة بالأمر لا معنى له أمّا أوّلا فلأنّ الصّحة حكم العقل بأنه متى تحقق العمل مطابقا للمأمور به كان صحيحا وهو ليس أمرا قابلا للجعل وأمّا ثانيا فلأن الصّحة إن كانت بموافقة الأمر فلا حينئذ هي منتزعة من العمل الموجود في الخارج مطابقا للمأمور به فتكون متأخرة عن الأمر جزما لا منشأ به وإن كانت بمعنى الجامعيّة المذكورة فقد فهي منتزعة من ذات الشّيء ومتقدمة على الأمر جزما وهي مراد الشّهيد من الصّحة في المقام ولا يرد النّقض بصلاة العاجز حيث إنّها فاسدة بالنظر إلى الأمر المتعلق بصلاة المختار فكيف قال إنّها لا تطلق على الفاسد وقد ذكر أن مراده الفاسد بالنسبة إلى أمر آخر وذلك لأن صلاة المضطر والمختار كلاهما جامعان للأجزاء والشّرائط الّتي يترتب عليها المصلحة الداعية إلى الأمر الأولي فهما في عرض واحد تعلقا بمكلفين متغايرين فهذا حكم القادر وهذا حكم العاجز وليس أحدهما مترتبا على طرو الفساد في الآخر بخلاف الحج فإن تحقق المصلحة في الفاسد منه إنّما هو بعد طرو الفساد في المأمور به بالأمر الأولي فافهم نعم غاية ما يرد على هذا التّقرير أنّه لا يلائم تفريع مسألة الحنث إذ ليس الصّلاة الواقعة بعد النّذر واقعة بعد الأمر حتى تحمل على الصّحيح ثم إنّه بعد ما اختار أن مراد الشّهيد بيان أنها حقائق في الصّحيح اعترض عليه بالنّقض بالصّوم لوجوب إتمام فاسده فلا اختصاص للحجّ مضافا إلى أنّ وجوب المضي فيه لا يدل على كونه موضوعا له ثم قال فإن قيل الحج الفاسد صحيح باعتبار

 

الأمر الثّاني لموافقته له وإن كان فاسدا باعتبار الأمر الأول فالتسمية فيه أيضا لاحقة للحج الصّحيح فما معنى استثناء الشّهيد له قلنا الأمر الثّاني إنّما يتعلق بإتمامه لا بتمامه لامتناع تعلق الأمر اللاحق بالفعل السابق ولا ريب أن الباقي بعض الحج فلا يكون حجا والمجموع ليس مأمورا به فيكون فاسدا وقد أطلق عليه الحج انتهى ملخصا وفيه أن النّقض بالصوم لا وجه له إذ ليس في الأخبار ما يدل على وجوب إتمام الصّوم نعم يجب الإمساك بعد إفساد الصّوم وهو تكليف مستقل بخلاف الحج حيث أمر بإتمامه وأطلق عليه الحج بخلاف الصّوم إذ لا يطلق على الفاسد أنّه صوم وما أجاب به عن الإيراد يمكن المناقشة فيه بأن المجموع أيضا صحيح لكونه موافقا لأمرين فأجزاؤه المتحققة قبل الإفساد موافقة للأمر الغيري الّذي كان متعلقا بتلك الأجزاء لكونها مقدمة للكل فهي حين وجودها متصفة بالصحة بهذا المعنى وطرو الفساد لا يخرجها عن الصّحة بهذا المعنى لتحققها جزما والأجزاء المتأخرة موافقة للأمر الثّاني فيصدق على المجموع أنّه صحيح ثم إنّ هذا لا يناسب ما ذكره في الاعتراض من أن المطلوب لا يكون فاسدا بل المناسب أن يقول إنّ المطلوب ليس حجا في الجواب عما ذكره المفسر من أن المطلوب هو الحج الفاسد فإنه أراد من كونه مطلوبا أنّه مأمور بإتمامه لا بتمامه فهو يسلم أن المطلوب هو الصّحيح وهو الأجزاء وأن المجموع فاسد فمراده أن المجموع الّذي هو فاسد يصدق عليه أنّه مطلوب ولو بالنسبة إلى بعض أجزائه فالجواب عنه أن يقال إنّ المطلوب ليس حجا لا أنّ المطلوب ليس فاسدا فإنه لا نزاع فيه فتأمّل ثم إنّه يحتمل أن يقال إن مراد الشّهيد أن تلك الألفاظ لا ينصرف إلى الفاسد عند الإطلاق فينصرف مطلقها إلى الصّحيح فلو حلف على ترك الصّلاة في مكان مكروه انصرف إلى الصّحيح فلا يحنث بالفاسد ولو حلف على إتيان الصّلاة انصرف إلى الصّحيح فلو أفسدها لم يبرأ ولم يجب عليه إتمامها إلاّ الحج فإن هذه الثّمرة أعني ثمرة الانصراف إلى الصّحيح منتفية فيه لوجوب إتمام فاسده أيضا وهو بعيد ويحتمل أن يكون المراد أن تلك الألفاظ متى وردت في الشّرع مطلقا حكم بإرادة الصّحيح منها لأي حكم كان بخلاف الحج فإنه لخصوص الحكم بوجوب المضي فيه أريد منه الأعمّ في الشّرع فالحج مطلقا يجب المضي فيه بخلاف سائر الأحكام فإنها منصرفة إلى الصّحيح فلو قال حججت مثلا انصرف إلى الصّحيح أيضا فقوله لوجوب المضي فيه ليس علة وإنّما هو متعلق بيطلق محذوفا إلاّ الحج فإنه يطلق على الأعمّ لخصوص حكم وجوب المعنى دون سائر الأحكام فتأمل ثم قال الشّهيد فلو حلف على ترك الصّلاة والصّوم اكتفى بمسمى الصّحة وهو الدّخول فيها فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ويحتمل عدمه لأنه لا يسمى بصلاة شرعيا ولا صوما مع الفساد ومراده أنّه لو حلف على ترك الصّلاة في مكان مكروه يكفي في الحنث مجرد الدّخول فيها صحيحا وأشكل بأنه بعد تعلق الحلف حرم إتيان الصّلاة وتعلق بها النّفي المفسد

 

للعبادة فلا معنى لتحقق الحنث بعد القول بأن الحلف إنّما تعلق بالصلاة الصّحيحة والجواب أنّه متعلق بالصحيحة قبل الحلف وهي يمكن فعلها بعد الحلف بقصد القربة تشريعا وهو يكفي في الحنث وأشكل أيضا بأن الحلف إنّما تعلق بترك مجموع الصّلاة فاحتمال تحقق الحنث بمحض الدّخول ولو تعقبه الإفساد لا وجه له والجواب أن الظّاهر من ذلك في العرف أن الحلف إنّما هو على ترك التّعرض لها بالكليّة فيحنث بالشّروع فيها صحيحا ثم إن قوله وسائر العقود إن عطف على الصّلاة والصّوم كان مثالا للماهيات الجعليّة مع أن المعاملات ليست بمجعولة للشارع بل هي باقية على المعاني القديمة وإنّما زيد لها في الشّرع شروط ولواحق ويمكن التّفصي عنه بأن المراد من الماهيات الجعليّة الماهيات الّتي اخترعها الشّارع ولو في سابق الزّمان ولا ريب في أن ماهيّة المعاملات أيضا مخترعة للشارع في سابق الزّمان لكونها مما يحتاج إليه الخلق في أمور معاشهم كما يحتاجون إلى العبادات في أمور معادهم وعلم من جميع ذلك أن التّعليل المذكور في كلام الشّهيد لا ينطبق على أي وجه حمل عليه كلامه فالأولى الإعراض عن التّكلّم في ذلك ورد فهمه إلى قائله وهو أعلم بما قال ولنتكلم في أن هذا النّزاع هل يجري في المعاملات أو لا فنقول لا ريب في أن المعاملات ليست ماهيّة مخترعة في شرعنا بل هي ثابتة عند النّافين للشرائع والأديان أيضا لأنها من متعلقات المعاش ولكن الشّارع أمضى بعض أفرادها فحكم بصحته دون بعض فهي باقية على معانيها اللّغويّة والعرفيّة وذهب صاحب الفصول إلى أنها موضوعة للصحيحة أيضا لا كالعبادات بتقريب أنها موضوعة لأمور نفس الأمريّة كالبيع مثلا فإنه موضوع للأثر الخاص وهو النّقل والانتقال وهي شيء ثابت في العرف أيضا ولذا يتبادر منه الصّحيح ويصح سلبه عرفا عن بيع الهاذل ونحوه فلا يسمى بيعا في العرف فهي موضوعة للصحيح عرفا لا يقال فحينئذ ما معنى زيادة الشّروط واللواحق في الشّرع لأنا نقول المفهوم عند الشّرع والعرف واحد وإنّما الاختلاف في المصداق فالعرف يحكم بأنّ البيع الرّبوي مثلا بيع لأنه يحصل به النّقل والشّرع يحكم بأنه ليس بيعا إذ لا يحصل به النّقل والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلاف المفهوم فإن قلت يلزم من ذلك عدم جواز التّمسك بالإطلاقات كأحل الله وأوفوا بالعقود ونحوهما كما هو ثمرة القول بالصحة في العبادات مع أن العلامة رحمه‌الله نقل الإجماع على التّمسك بالإطلاقات في مقام الشّك في الشّرطيّة والجزئيّة في المعاملات قلت ليس المعاملات كالعبادات إذ الماهيّة المجعولة في العبادات ليست معهودة في غير الشّريعة المحمّديّة فينحصر طريق تحديدها في السّؤال من الشّرع بخلاف المعاملات فإن معانيها معهودة في العرف فيمكن تحديدها بالرجوع إلى العرف وفيه أن القول باختلاف الشّرع والعرف في المصداق

 

دون المفهوم لا وجه له إذ لو كان كذلك لوجب ارتداع العرف عن ذلك بعد تنبيه الشّارع لهم على خطائهم في المصداق وليس كذلك فإنّهم يحكمون على البيع الرّبوي بأنّه بيع بعد نهي الشّارع عنه أيضا فيعلم أنّ النّزاع ليس في المصداق وإلا لارتدعوا عن الحكم المذكور بعد نهي الشّارع مع أن الرّجوع إلى العرف حينئذ إنما يكون لتمييز المصاديق الصّرفة لمفهومها المعلوم وقد عرفت سابقا عدم حجيّة قول العرف في تعيين الموضوعات الصّرفة فالأولى أن يقال إنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح العرفي وإنّه أعمّ من الصّحيح الشّرعي لأنهم يعدون مثل القمار ونحوه أيضا صحيحا مع فساده في الشّرع وحينئذ فإذا تعلق بها حكم في الشّرع انصرف إلى الصّحيح العرفي فلو علم زيادة شرط في الشّرع حكم به وإلاّ نفي بالإطلاق أو يقال بأنها موضوعة للصحيح الشّرعي كما يقوله الشّهيد ويلتزم بإجمال تلك الألفاظ وعدم التّمسك بإطلاقها إذا تمهد هذه المقدمة فنقول ذهب جماعة إلى أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصّحيحة وجماعة إلى أنّها موضوعة للأعمّ من الصّحيحة والفاسدة وقد عرفت أن الصّحة عبارة عن كون العمل جامعا لجميع الأجزاء والشّرائط والوضع للمعنى الصّحيح كما هو مذهب الصّحيحيّة يتصور بوجوه لا يخلو كل واحد منها من الإشكال وذلك لأنّ الموضوع له إمّا شخص الصّحيح وهو الصّلاة الّتي يفعلها القادر والمختار العالم العامد جامعا لجميع الشّرائط والأجزاء وسائر الأفراد أبدال مسقطة وليست بصلاة حقيقة وإمّا نوعه ولا يخلو إمّا أن يكون مشتركا لفظيا بين الأفراد كصلاة المختار والعاجز والجاهل والعالم والنّاسي والعامد وغير ذلك أو معنويا والأوّل ظاهر والثّاني يتصور بوجهين الأول أن يكون الموضوع له معنى بسيطا بحيث يكون تلك الأفراد مصداقا له حال صحتها لا حال فسادها كأن يكون الموضوع له للصّلاة هو مفهوم مبرئ الذّمة أو النّاهي عن الفحشاء ونحوهما فتلك الأفراد صلاة حين صحتها لا حين فسادها والثّاني أن يكون الموضوع له مركبا ويكون قدرا مشتركا بين تلك الأفراد ولا يمكن هذا إلاّ بأن يكون موضوعا لجملة من الأجزاء الّتي توجد في ضمن الجميع إذ لا يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الزّائد والنّاقص بحيث يكون الزائد أيضا فردا له إلاّ إذا كان الزّائد أيضا من جنس القدر المشترك كالحنطة فإنّها موضوعة للقدر المشترك بين المنّ والمنين مثلا لأنّ المنّ الزّائد أيضا من جنسها بخلاف الصّلاة فإنها لا يمكن أن تكون مشتركة معنويّة بين الزّائد والنّاقص إذ الزّائد فيها ليس من جنس القدر المشترك وحينئذ فتلك الأجزاء المعتبرة في المسمى قد توجد في ضمن الصّحيح وقد توجد في ضمن الفاسد فالوجوه أربعة الأول أن يكون الموضوع له شخصيا والثّاني أن يكون مشتركا لفظيا بين الأفراد والثّالث أن يكون موضوعا للمعنى البسيط الّذي يكون كل واحد من الأفراد محصلا له والرّابع أن يكون موضوعا للمعنى المركب اللابشرط

 

الموجود في ضمن الجميع ويرد على الأول أنّه مخالف لديدن العلماء حيث يستدلّون بالأدلّة الدّالّة على حكم الصّلاة على حكم صلاة المضطر والسّاهي وغيرهما أيضا فإنّ قوله عليه‌السلام لا صلاة إلاّ بطهور يثبت وجوب الطّهارة لصلاة السّاهي أيضا من غير احتياج إلى دليل خارجي ولو كانت الصّلاة موضوعة لشخص خاص لم يمكن ذلك وهذا يرد على الثّاني أيضا مضافا إلى أنّه موجب للإجمال حتى بالنّسبة إلى صلاة القادر المختار أيضا أو مستلزم لإرادة أكثر من معنى واحد من المشترك وعلى الثّالث أمران الأوّل أن من الواضح أنّ الصّلاة ليست اسما للمفهوم البسيط لأنّها مركبة قطعا أولها التّكبير وآخرها التّسليم والثّاني أنّه مستلزم لعدم جواز إجراء أصالة البراءة عند الشّك في الشّرط والجزء إذ المفهوم المكلف به معلوم تفصيلا والشّك إنّما هو في حصوله في ضمن هذا الفرد وهذا مورد الاحتياط إجماعا نعم لو كان المكلف به مركبا وشك في قلة أجزائه وكثرته حكم بالأقلّ لأصالة البراءة مع أن أكثر الصّحيحين قائلون بإجراء أصالة البراءة فإنّ إجراءها لا يختص بالأعمّيّة بل المختص بهم هو التّمسك بالإطلاق وعلى الرّابع أنّه عين مذهب الأعمّيين فإنّ القدر المشترك الّذي يوجد في الجميع لا يختص بالصحيح لوجوده في ضمن الفاسد أيضا وبالجملة للخدشة في جميع الوجوه محل والأقرب منها هو الاحتمال الأوّل بتقريب أن يقال إنّ الموضوع له اللّفظ في صدر الشّريعة هو المعنى الشّخصي المذكور وهو العنوان في خطابات الشّارع وأمّا غيره فقد استعمل فيه اللّفظ وصار حقيقة فيه في لسان المتشرّعة فاللّفظ متى أطلق انصرف إلى ذلك المعنى وأمّا التّمسك بالإطلاقات فإنّما هو بعد إحراز أن حكم البدل حكم المبدل منه بالإجماع ونحوه مثلا كما يستدلّون بالخطابات المتعلقة بالمشافهتين على أحكام غير المشافهين للإجماع على الاشتراك في التّكليف ولكونه ظاهرا لا يحتاج إلى البيان هذا وأمّا الوضع للأعمّ فهو أيضا يتصور بوجوه منها ما ذكره الفاضل القمي ره من أنها موضوعة لذات الرّكوع والسّجود والتّكبير والقيام والباقي شروط ولواحق وفيه أنّا نقطع بعدم صدقها على الأركان المخصوصة إذا وقع فيها بعض المنافيات كالطفرة والتّكلّم بما شاء خصوصا مع عدم الاستقبال والسّتر ونحو ذلك وبالصدق العرفي على الجامع للشّرائط والأجزاء سوى الرّكوع مثلا مع أنها لو كانت موضوعة للأركان لكان إطلاقها على الجامع للأجزاء والشّرائط مجازا تسمية للكل باسم الجزء مع أنّه ليس كذلك قطعا ومنها ما ذكره الشّريف من أنّها موضوعة لما يصدق عليه الصّلاة عرفا وفيه أنّه إن أريد بالعرف عرف العوام فهم لا يفهمون معنى الصّلاة ومسماها إلا بتقليد العلماء فلا يمكن التّحديد بالرجوع إليهم وإن أريد عرف العلماء فهو عين المتنازع فيه

 

عندهم وقال بعضهم إنّها موضوعة لمعظم الأجزاء ويرد عليه ما ورد على الفاضل القمي رحمه‌الله من أنّه يلزم أن لا يطلق على المجموع إلاّ مجازا وقيل إنّها ما يقوم به الهيئة وهو أيضا غير تمام إذا المراد بالهيئة إمّا هيئة الصّلاة فهو عين المتنازع فيه أو غيرها وهو ليس معنى الصّلاة قطعا والّذي يمكن أن يقال إنّ كون الموضوع له هو المعنى الصّحيح الجامع لجميع الأجزاء والشّرائط الشّخصيّة قطعي ولا ريب في صيرورة اللّفظ حقيقة في الأبدال المسقطة أيضا بكثرة الاستعمال توسعا فالصحيحيّة يقولون بانحصار الموضوع له بالوضع التّعيّني المسبوق بالاستعمال توسعا في خصوص الصّحيح والأعمّيّة يقولون قد صار حقيقة في الفاسدة أيضا بعد الاستعمال توسعا أو يقال بأنها من حيث الأجزاء موضوعة للصحيح إمّا بالاشتراك اللّفظي أو بطريق كون الوضع عاما والموضوع له خاصا بأن لاحظ الأركان مع جملة من الأجزاء لا على التّعيين ووضع اللّفظ بإزاء كل واحد من الأفراد المختلفة نظير وضع الأعلام فإنّه لوحظ النّفس مع ما يتبعه من البدن ووضع اللّفظ لكل واحد من الخصوصيات المختلفة وكلفظ الدّار والبيت ونحوهما وحينئذ لا بد من التزام الإجمال في الخطابات الصّادرة وأمّا من حيث الشّرائط فيصح النّزاع المذكورة فالصحيحيّة يقولون بدخولها في المسمى فلا يمكن التّمسك بالإطلاق والأعمّيّة على عدم الدّخول وأمّا الأعمّ من جهة الأجزاء فقد عرفت أنّه غير معقول إذ لا يمكن تحديد المسمى بحيث يشمل الصّحيح والفاسد من حيث الأجزاء ويكون المعنى شيئا واحدا كما هو مذهب الأعمّيّين نعم يمكن بطريق كون الوضع عاما والموضوع له خاصا كما ذكرنا لكنه يتعدد المعاني ويلزم القول بتحقق ألف ماهيّة للصلاة والأعمّيّة قد فروا من ذلك فتأمل جدا وكيف كان يجب ذكر ما رتبوه على النّزاع المذكور من الثّمرات والنظر في جرحه وتعديله على مذاقهم فنقول من الثّمرات إجراء الأصل فإنه يمكن على مذهب الأعمّيّة دون الصّحيحيّة والمراد بالأصل أصالة عدم التّقييد وذلك بناء على جعل المسمى عند الأعمّيّة شيئا واحدا موجودا في ضمن الصّحيح والفاسد وحينئذ فنقول الأمر إذا تعلق بالمطلق كان ظاهرا في أنّه لا مدخليّة لغير الطّبيعة في المطلوبيّة فكلما أريد تقييد المطلوب به وجب بيانه فإذا لم يبين نفي بالإطلاق كما إذا قال المولى لعبده أعتق رقبة فمتى لم يبين مدخليّة الإيمان وكونه قيدا للرّقبة جاز للعبد نفيه بالأصل ولما كان المسمى عند الأعمّيين معلوما والطّلب وارد عليه فكلما علم تقييده به من الدّليل الخارج فهو وما شك فيه فالأصل عدمه بخلاف الصّحيحيّين لأن المسمى عندهم عين المطلوب فإذا شك في ثبوت جزء أو شرط يرجع الشّك إلى تحقق أصل المسمى فلا إطلاق يتمسك به وأمّا أصل البراءة فلا يتفاوت القولان في إجرائه لأنّه مبني على أن العلم الإجمالي بالتكليف عمل يوجب تحصيل البراءة القطعيّة

 

أولا بل لا يجب الامتثال ما لم يقطع بالمكلف به تفصيلا فمن قال بالأوّل قال بوجوب الاحتياط عند الشّكّ في شرط أو جزء على القولين مع قطع النّظر عن تعيين المكلف به بالإطلاق على مذهب الأعمّيّة ومن قال بالثّاني قال بالبراءة مطلقا على القولين فافهم بل الثّمرة إنّما تظهره بالتمسك بالإطلاق وعدمه لا يقال إنّ الأعمّ لا يكون مطلوبا قطعا بل المطلوب هو الصّحيح على كلا القولين فقول الشّارع صل قد تعلق فيه المطلب على الصّلاة الصّحيحة دون الأعمّ قطعا وهذا المعنى يشترك فيه المذهبان فلا إطلاق على القولين لأنّا نقول إن أريد بالصّحيحة موافق الأمر فلا شك أنّ هذا متفرع على الأمر وليس مأخوذا في المكلف به وحينئذ إذا تعلق الأمر بالطّبيعة الغير المقيدة كان جميع أفرادها مطلوبة لموافقتها للأمر وإن تعلق بالطّبيعة المقيدة كان ما حصل القيد فيه صحيحا وغيره فاسدا والأعمّيّة يقولون إنّ الصلاة اسم لماهيّة مطلقة ولما تعلق أمر الشّارع بها مقيدا فحينئذ وجد لها فردان صحيح وهو ما وجد فيه القيد وفاسد وهو ما لم يوجد فيه وإذا شك في التّقييد بشيء حكم بعدم اعتباره في الامتثال وإلاّ لبيّن وإن أريد بالصّحيحة ما جمع الشّرائط والأجزاء فلا شك أن للكاشف عن ذلك هو لفظ الشّارع فإذا كان متعلق الأمر ماهيّة مطلقة فظاهره أنّه الجامع للأجزاء والشّرائط فإن اعتبر فيه قيد آخر أخذ به وإلاّ نفي بالإطلاق لأن المسمى معلوم وكذا الكلام في المعاملات فيعلم من إطلاق قوله تعالى أحل الله البيع حليّة جميع الأفراد إلاّ أنّ يبيّن القيد من الخارج ولو تم الاعتراض المذكور لجرى في المعاملات أيضا مع أنّ التّمسك فيها بالإطلاق مما لا ريب فيه وهذا بخلاف قول الصّحيحيّة إذ ليس المسمى عندهم معلوما فيصير أصل الخطاب مجملا عندهم عند الشّك في الشّرائط والأجزاء فافهم وأورد على الثّمرة المذكورة وجوه منها أن التّمسك بالإطلاق باطل على قول الأعمّيّة أيضا أن يشترط في التّمسك به أن يكون في مقام البيان ولا يكون المراد به بيان حكم للطّبيعة على وجه الإجمال والإهمال والأدلّة المطلقة في الشّريعة مهملة غالبا فإن المراد بقوله تعالى أقيموا الصّلاة مثلا وجوب هذه الطّبيعة في الجملة أمّا مطلقا فلا والبيان موكول إلى مقام آخر وكذا مثلءاتوا الزكاة وأمثاله وقد يطلق على مثل هذا أن المطلق وارد مورد حكم آخر بمعنى أنّه ليس لبيان حكم الطّبيعة كليّة بل على وجه الإهمال وأورد نظير ذلك على تمسك الشّيخ الطّوسي رحمه‌الله بقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم على طهارة موضع عضّ الكلب المعلم وذلك أن الأمر بالأكل إنّما هو ناظر إلى جوازه من حيث التّزكية لا من وجوه آخر أيضا ولذا لو تنجس بنجاسة أخرى أو كان ملكا للغير لم يجز كله قطعا ومنها أنّه وإن سلم الإطلاق والعموم لكن قد قيل وخصص بالمجمل كقوله في الحج خذوا عني مناسككم وفي الصّلاة صلوا كما رأيتموني أصلي وفي

 

الوضوء هذا وضوء لا يقبل الله الصّلاة إلاّ به ونحو ذلك ولا ريب أن العام والمطلق المخصص أو المقيد بالمجمل ليس حجة ومنها أن شرط التّمسك بالإطلاق تساوي أفراد المطلق ظهورا وخفاء ولا ريب في شيوع استعمال هذه الألفاظ في الصّحيح فينصرف إليه عند الإطلاق والكل فاسد أمّا الأوّل فلأنّه مستلزم لعدم جواز التّمسك بالإطلاق في شيء من المقامات لورود الاحتمال المذكور في جميع الموارد وليس كذلك فيجب من ذكر ضابط كلي يرجع إليه عند الشّكّ فنقول ذكر بعضهم أنّ التّمسك بالإطلاق وعدمه عند الشّكّ في كونه واردا في مقام الإجمال مبني على أن الورود في ذلك المقام هل هو مانع عن التّمسك به أو أن عدم الورود شرط فعلى الأول يرفع بأصالة عدم المانع وعلى الثّاني يلزم الشّكّ في الشّروط وفيه أنّ عدم الورود إن أمكن إثباته بالأصل فلا يتفاوت كونه شرطا وكون الورود مانعا إذ بناء على كونه شرطا يثبت وجوده بالأصل أيضا نعم يثمر هذا الكلام إذا تردد الأمر بين كون وجود شيء شرطا وبين كون شيء آخر مانعا هذا وربما يقال في الضابط إنّ من البديهيات أنّه لا يجوز تعليق الحكم على الطّبيعة مرددا بين اللابشرط وبشرط شيء أو بشرط لا على الطّبيعة الّتي هي المقسم بين الأقسام الثّلاثة إذ لا بد في الحكم على الشّيء من كونه معينا عند الحاكم ولذا ذكروا أنّه لا معنى للإجمال في الأحكام العقليّة لأن الحاكم فيها هو العقل ولا بد من تعيين الموضوع عند الحاكم نعم يجوز تحقق الإجمال عند غير الحاكم بأن لا يعلم مراد الحاكم وحينئذ فلا معنى للإهمال في خطابات الشّارع بل في مطلق الخطابات بل الموضوع لا بد أن يكون مقيدا أو لا بشرط ولا معنى للإجمال لا يقال إنّ وجود الخطابات المهملة في الشّرع مقطوع به فكيف ذلك قلت فرق بين الخطابات الواردة في الشّرع ابتداء والخطابات المتأخّرة المؤكدة للخطابات السابقة ففي الأوّل لا يجوز الإجمال لما ذكرنا بخلاف الثّاني لأن الخطابات المتأخرة بمنزلة المعهودة فلا يضر الإهمال فيها لانصرافها إلى ما بين في السابق إذا تحقق هذا فنقول إن في جملة هذه الخطابات المطلقة نقطع بوجوه خطاب ابتدائي فيتمسك بإطلاقه ويحمل عليه باقي الخطابات لكونها مؤكدة له هذا حاصل ما قيل ويرد عليه لا نسلم امتناع الإهمال في الخطابات الابتدائيّة والوجه المذكور في بيانه مغالطة إذ الإجمال الّذي يستحيل في موضوع الحكم إنّما هو التّردد الواقعي ولا نقول به في المقام بل نقول إنّ المتكلّم قد لا يكون في مقام بيان تفصيل مراده بل يبينه إجمالا ويحيل بيانه إلى وقت آخر كما يقول الطّبيب للمريض لا بد لك من أكل الحامض ثم يبين له نوعه وصنفه وحينئذ فإذا شك أن المتكلّم هل هو في مقام البيان أو لا لم يجز التّمسك بإطلاق كلامه ومقتضى هذا إجمال الخطابات الواردة في الشّرع حيث لا يعلم

 

ورودها في مقام البيان والأولى في الجواب أن يقال إن الغالب في كلام الشّارع وروده في مقام البيان مضافا إلى أنّه شأن الشّارع وحينئذ فهو الأصل في كلامه فمتى شك في مورد الحق بالغالب وهو البيان وأمّا الثّاني فلأنّه إن أريد بالمجمل أنّه أطلق في اللّفظ ثم بينه بالبيان الفعلي وليس بأيدينا ففيه أن البيان الفعلي ليس مقيدا للمطلق لأن بيان المطلق يمكن ببعض أفراده كما يظهر من تعليم الصّلاة والوضوء للأطفال في أوّل الأمر وهو لا يدل على إرادة الفرد المخصوص من المطلق وإن أريد أنّه قد قرن العمل بلفظ دال على الحصر كقوله في الحج خذوا عني مناسككم وفي الوضوء هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به وفي الصّلاة هكذا صل ففيه أنها لا توجب إجمال الإطلاقات فإنّ مفاد الأوّل وجوب أخذ المناسك من الشّارع لا من غيره ولا شبهة فيه فإن التّمسك بإطلاق كلام الشّارع أخذ من الشّارع وأمّا الثّاني فهو أيضا لا إشكال فيه إذا حمل على ظاهره أعني جعل الجملة صفة للوضوء فيكون مفاده أن هذا من أفراد الكلي الّذي هو شرط الصّلاة وهذا لا يفيد الحصر وإن جعل الجملة خبرا بعد خبر وجب تأويله للقطع بعدم انحصار الوضوء فيما فعله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن عمله لم يكن منحصرا في أقل الواجبات بالعلم العادي والمراد من قوله هكذا أصل أن هذا من أفراد الصّلاة لوجود المستحبات الكثيرة فيما فعله الإمام عليه‌السلام المشار إليه بهكذا مضافا إلى أن الأمر لا يفيد الوجوب التّعييني بل هو أعمّ من التّخييري فتأمّل وكذا قوله صلوا كما رأيتموني أصلي فإنه نظير قولك تعلم مني وجميع ذلك لا يدل على الانحصار لما ذكرنا من وجود المستحبات الكثيرة في الأفعال البيانيّة وبهذا ظهر أنّه لا يمكن تحديد الماهيّة مع قطع النّظر عن الإطلاق بهذه الأخبار لأنها إنّما تدل على أن ما لم يفعله الإمام ليس واجبا بضميمة مقدمة خارجيّة وهي أن الإمام لا يترك الواجب وأمّا تحديد الواجبات فلا فافهم وأمّا الثّالث فيمكن الجواب عنه بوجهين أحدهما أن الفرد الشّائع هو الصّلاة الكاملة المتعارفة ونقطع بعدم إرادتها من المطلقات لوجود المستحبات الكثيرة فيها والشّيوع إنّما يصير سببا للانصراف إذا لم نقطع بعدم إرادة الشّائع والثّاني أن شيوع الاستعمال في الصّحيح إنّما حصل بعد زمان ورود تلك الخطابات إذا الشّيوع حصل بسبب كثرة الامتثال لتلك الطّبيعة بالفرد الخاص فكيف يصير الشّيوع المتأخر سببا لانصراف الطّبيعة إلى الفرد الشّائع نعم يصح ذلك فيما إذا كان إطلاق الطّبيعة متأخرا عن شيوع فرد منها فإن قلت قد شاع الفرد المخصوص في زمان الأئمة عليهم‌السلام فينصرف إطلاقات كلامهم إليه قلت إذا كان المطلق الوارد في كلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مرادا به نفس الطبيعة كان مراد الأئمة أيضا ذلك لعدم كونهم مؤسسين للشّرع وإنّما يبيّنون الأحكام الصّادرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فافهم ولنذكر شطرا من أدلّة الطّرفين ليظهر

 

الحق المحقق في البين فنقول قبل الخوض في المطلب إنّ الأصل في المقام هل يقتضي الوضع للصحيح أو الأعمّ ليرجع إليه عند عدم الدّليل فنقول إن كان الشّكّ في أن الموضوع له هو الصّحيح أو الأعمّ فلا ريب أنّ الأصل لا يقتضي شيئا منهما لا يقال إنّ الوضع للصحيح متيقّن والأصل عدم الوضع للفاسد لأنّا نقول لا قدر متيقن في البين من حيث الموضوع له إذ لو كان هو الأعمّ لم يكن الصّحيح موضوعا له وقد أشرنا إلى هذا في المباحث السّابقة هذا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو المركب السّاري في جميع الأفراد وإن قلنا بأنه القدر المشترك بناء على قول الأعمّيّة فيمكن أن يقال إنّ الأمر دائر بين الاشتراك المعنوي كما يقتضيه قول الأعمّيّة والحقيقة والمجاز كما يقتضيه قول الصحيحيّة والأصل في لفظ استعمل في معنيين بينهما جامع قريب هو الاشتراك المعنوي لكن قد ذكرنا أن المدار على الغلبة ولا غالب لنا بل الاستعمال في خصوص الصّحيح أغلب وإن قلنا إنّ الموضوع له هو الفرد الكامل والنّزاع إنّما هو في صيرورة الفاسد أيضا موضوعا له في لسان المتشرعة كسائر الأبدال الصّحيحة فلا ريب أن الأصل مع الصّحيحيّين لأصالة عدم طريان الوضع بالنّسبة إلى الفاسد استدل الصحيحيّون بوجوه منها تبادر الصّحيح في لسان المتشرعة الّذي هو الميزان لعرف الشّارع وفيه أن المراد إن كان تبادر مفهوم الصّحيح فقد ذكرنا أن الصّلاة ليست اسما للمفهوم وإن كان تبادر المصداق فإن أريد جميع المصاديق فلا يخفى بعده وإن أريد الفرد الكامل فيرد أنّه لو كان ذلك معنى اللّفظ لما كان مجملا مع إطباق الصّحيحيّين على إجمال المعنى وبهذا أظهر فساد ما قيل في جواب الإشكال الوارد على الصحيحيّين حيث ينافي قولهم بالإجمال استدلالهم بالتبادر من أن التّبادر لا ينافي الإجمال لجواز أن يكونوا عالمين بمعنى اللّفظ إجمالا فيكشف تبادرهم عن المعنى إجمالا وذلك لأنّ اللّفظ قد وضع للمعنى المعين الواقعي ولا إجمال فيه بوجه فتبادر المعنى معناه تبادر ذلك المعنى الواقعي المبين فتبادر المعنى إجمالا ليس تبادرا للمعنى عن اللّفظ بل هو انتقال إلى المعنى للعلم بوضع اللّفظ لمعنى إجمالا وليس تبادرا للمعنى عن اللّفظ هذا وأورد أيضا بأنّ التّبادر المذكور غير مثمر إذ الشّائع المتبادر هو الفرد الكامل وهو غير مراد من الإطلاقات لاشتمال الفرد المذكور على المستحبات والسّنن الغير الدّاخلة في المعنى قطعا وأورد أيضا بأنّه يلزم على القول بالصّحة أن لا يصح الإخبار بأنّ فلانا يصلي إلاّ بعد العلم بصحة صلاته لأنّه في معنى أن صلاة فلان صحيحة وهو غير جائز إلاّ بعد العلم مع أنّه يجوز الإخبار بذلك ولو حين الصّلاة وأجيب بأنه من باب حمل فعل المسلم على الصّحة فيجوز الحكم بصحة صلاته أيضا كذا قيل واعترض عليه بأن الأصل المذكور لا يثبت عنوان الصّلاة بل مفاده وجوب ترتيب آثار

 

الصّحة ولذا إذا شككت في أن ما تكلم به زيد سلام أو شتم نحكم بعدم كونه شتما لكن لا تثبت كونه سلاما وتحكم بوجوب الرّد فالأصل المذكور لا يوجب صحة القول بأنّ فلانا يصلي وأن معنى قولنا صلاة زيد صحيحة أنها صحيحة واقعا وهي لا تثبت بالأصل وإنّما تثبت به الصّحة الظّاهريّة فالأخبار بذلك لا يجوز إلاّ بإرادة الصّحيح في اعتقاد المخبر وهو مجاز إذ هو موضوع للصحيح الواقعي أقول أمّا عدم إحراز الأصل عنوان الصّلاة فصحيح ولكن قوله إن معنى صحة صلاة زيد صحتها واقعا وهي لا تثبت بالأصل فيه أن الأصل ليس ناظرا إلى الواقع ولا إلى الظّاهر بل مفاده وجوب ترتيب الآثار وحينئذ فيجوز بمقتضى الأصل أن يقال صلاة زيد صحيحة أي في الواقع ولا يكون تجوز في شيء من المحمول والموضوع ويكون التّجوز في الحمل والمعنى أنها في حكم الصحيحة كقولهم الفقاع خمر وكيف كان فالإشكال المذكور لم يندفع بالجواب المذكور والأولى في الجواب أن يقال أن القرينة موجودة في أمثال هذه المقامات على أن المراد الإخبار بكونه متلبسا بهذا العمل على أي نحو كان فمعنى فلان يصلي أنّه متعرض لهذا العمل متلبس به وبهذا يندفع الإشكال الآخر الوارد على قول الصّحيحيّة وهو أنّه لا يطلق تارك الصّلاة على من يفعل الفاسدة وذلك لأنّ المراد من تارك الصّلاة من لا يتعرض لهذا العمل بوجه ولذا لو تعرض له بوجه ما ولو بما لا يطلق عليه الصّلاة عند الأعمّيّة أيضا لا يطلق عليه تارك الصلاة فافهم ومنها أنّه على قول الصّحيحيّة يوجد للصلاة حد محدود وكالعمل الصحيح والعمل المبرئ للذمة والعمل الّذي هو عمود الدّين والنّاهي عن الفحشاء ونحو ذلك بخلاف قول الأعمّيّة إذ الأعمّي الأركاني لا وجه لقوله بعد ما عرفت من الإطلاق على فاقد بعض الأركان وعدم الإطلاق على جامعها إذا اشتمل على كثير من المنافيات والأعمّي العرفي يدور أمره مدار العرف وليس له حد مضبوط وفيه ما عرفت أن الصّلاة اسم للمركّب لا للمفهوم فلا يكون لها حد محدود عند الصّحيحيّة أيضا إلاّ بأن يجعل اسما للفرد الكامل أو لجميع الأفراد بطريق كون الوضع عاما والموضوع له خاصا وكلاهما بعيد عن مساق كلماتهم ومنها صحة السّلب شرعا وعرفا عن الفاسدة أمّا عرفا فلما يظهر من المراجعة إليهم حيث يصح سلب الصّلاة عندهم عما لا طهور فيه ولا استقبال إذا كانوا في مقام التّحقيق والمداقة لا في مقام المسامحة إذ لا عبرة فيه ولذا نقول بأن ألفاظ المقادير كالمثقال والمنّ وغيرهما موضوعة للكامل لصحة السّلب عن النّاقص ولو يسيرا عند المداقة كما في ميزان الذّهب ونحوه وإن أطلق على النّاقص عرفا عند المسامحة لتنزيل وجود الشّيء منزلة عدمه مضافا إلى أن الوضع للصحيح مسلم وبهذا الاعتبار يجب سلبه

 

عن الفاسدة لانتفاء المركّب بانتفاء بعض الأجزاء ضرورة وما يقال إنّ الجزء قد يكون جزءا حال وجوده لا حال عدمه كأجزاء الأعلام الشّخصيّة مسلم لكنه لا يمكن بوضع واحد بل لا بد من تعدد الوضع بالنّسبة إلى الزّائد والنّاقص كما في الأعلام وإلاّ فصحة السّلب عن النّاقص بالنّظر إلى الوضع للزائد بديهي والأعمّي يلزمه إثبات وضع آخر للفاسد فتأمّل وأمّا شرعا فلقوله لا صلاة إلاّ بطهور ولا عمل إلاّ بنيّة ونحو ذلك فإن مثل هذا التّركيب موضوع لنفي الذّات فيحمله عليه لأصالة الحقيقة وأورد عليه بأنّ حجيّة أصالة الحقيقة إنّما هي من حيث الظّنّ وهو مفقود في المقام لشيوع استعمال التّركيب المذكور في نفي الصّفات حتى قيل فيه بالنّقل وحينئذ فيرتفع ظهور الحقيقة ولا أقلّ من التّوقّف وفيه أن الشّائع ليس هو الاستعمال في نفي الصّفات كيف وقد ترى أنّه لا يستعمل في مقام نفي الصّفات إلاّ مبالغة ولا مبالغة إلاّ إذا أريد به نفي الذّات ألا ترى أنّه لو قيل لا صلاة كاملة لجار المسجد إلاّ في المسجد لم يكن فيه مبالغة كما في لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد وهذا شاهد على بقائه على المعنى الأصلي وهو نفي الذّات نعم لو ادعي شيوع استعماله في نفي الذّات مبالغة وبه يخرج عن الظهور في إرادة السّلب حقيقة لكان له وجه لو لا يتوجه عليه من منع ذلك في الموارد الخالية عن القرينة والعلم بوجود أصل الذّات في تلك الموارد قرينة على المبالغة ولذا لا يتوقف في الحمل على السّلب حقيقة إذا لم يعلم بوجود الذّات ومنها قوله تعالى إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقوله عليه‌السلام الصلاة عمود الدّين وقربان كلي تقي وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ترتب الآثار على عنوان الصّلاة بإطلاقه فيدل على كونها اسما للصحيح وفيه أنّ الإطلاق في أمثال هذه المقامات لا حجيّة فيه إذ ليس إلاّ في مقام الإهمال والإجمال وإحالة البيان إلى مورد آخر ومنها أن موضوعات العبادات توقيفيّة كالأحكام الشّرعيّة ولا بد فيها من الرّجوع إلى الشّارع بخلاف المعاملات وبخلاف الألفاظ الّتي تذكر في بيان تلك الموضوعات وحينئذ فلا يمكن تحديدها بالرجوع إلى العرف كما هو مذهب الأعمّيّين لمنافاته للتوقيفيّة وبعبارة أخرى يرجع الشّك في تلك الموضوعات جزءا أو شرطا إلى الشّك في نفس الحكم وأنّ الواجب هل هو المركب من الجزء الفلاني أو غيره وتعيين حكم الشّرعي لا يمكن بالرجوع إلى العرف وأورد عليه أولا بالنّقض فإن الصّحيحيّين أيضا يرجعون إلى العرف حيث يتمسكون بالتبادر وثانيا بالحل فإن العرف الّذي هو المرجع للأعمّيّين هو عرف لمتشرعة الّذي هو الميزان لعرف الشّارع لا عرف العوام كما هو المرجع في المعاملات ونحوه فحصل الفرق وقد ذكر بعض المحقّقين أنّه لا تفاوت بين الصّحيحيّين والأعمّيّين في تعيين المعنى بالرجوع

 

إلى العرف لأنّه ميزان عرف الشّارع كما يرجع في تعيين المعنى اللّغوي إلى عرف العوام ولا يضر الاختلاف في العرف كما لا يضر في المعاني اللّغويّة كالغسل حيث قيل إنّه يعتبر فيه العصر وقيل إنّه يصدق بالماء المضاف وقيل لا وقلّ مقام خال من الخلاف وفيه نظر فإن رجوع الصحيحيّين إلى تبادر العرف على فرض صحته إنّما هو لتحديد المعنى على نحو الإجمال وإن معنى الصّلاة هو الصّحيح لا التّحديد كليّة كما هو مذهب الأعمّيّين حيث يريدون نفي الجزء المشكوك بصدق اللّفظ عرفا على فاقده وهو لا يمكن إلاّ بتحديد الماهيّة كليّة ولا ريب أنّ التّحديد الإجمالي يحصل بالرّجوع إلى العرف وأمّا التّحديد كليّة فلا إذ المعنى مجمل عند المتشرعة أيضا كما يرى من اختلافهم في الأجزاء والشّرائط ليس المعنى مبنيا عندهم باقيا على ما كان لكثرة التّغير والتّحريف ولا أقل من الشّك لتوفر الدّواعي إلى التّغيير بخلاف المعاني اللّغويّة إذ لا داعي إلى تغييرها فتأمّل نعم لو كان المعنى محدودا في عرف المتشرعة لكان للرجوع إليه في التّحديد الكلي وجه حيث إنّه ميزان لعرف الشّارع وليس كذلك واستدل الأعمّيّون بوجوه منها التّبادر لما يرى من أنّه لو أخبر بأنّ فلانا يصلي وكان صلاته فاسد لم يكذب القائل بخلاف ما لو قال حينئذ إنّه لا يصلي فإنّهم يكذبونه ومنها عدم صحة السّلب والجواب المنع والتّكذيب في المثال وعدمه إنّما هو لما ذكرنا أن المراد بذلك عرفا هو التّعرض للعمل وعدمه فلا يطلق التّارك على المتعرض للعمل ولو على وجه الفساد كما سبق ومنها اتفاق العلماء مع كونهم صحيحيّين على التّمسك بالإطلاقات في نفي الشّرط والجزء المشكوك وهو لا يمكن إلاّ على مذهب الأعمّيّين أمّا الثّاني فلإجمال اللّفظ عند الصّحيحيّين وأمّا الأوّل فيظهر من المراجعة إلى كتبهم ألا ترى الشّهيد الثّاني رحمه‌الله مع أنّه صحيحي في المعاملات أيضا بتمسك في نفي اشتراط حضور الإمام في وجوب الجمعة بإطلاق الأمر بصلاة الجمعة والحاصل أن عمل الصّحيحيّين أيضا على طبق الأعمّيّين وهذا في الواقع إيراد للتّناقض بين أقوال الصّحيحيّين وبين عملهم والجواب منع ذلك الاتفاق وما نقله عن الشّهيد رحمه‌الله لا دخل له في المقام إذ الكلام إنّما هو في التّمسك بإطلاق لفظ العبادة فهذا لا يمكن للصحيحيّين والشّهيد رحمه‌الله لم يتمسك بذلك بل إنّما تمسك بإطلاق الأمر فإن الظّاهر منه عدم كون الوجوب مشروطا والفرق واضح بين شرائط الوجوب وشرائط الصّحة والّذي لا يمكن نفيه بالإطلاق هو الثّاني والشّهيد رحمه‌الله إنّما تمسك به في الأوّل نعم يمكن أن يقال بأنّ نفي الاشتراط بإطلاق الأمر إنّما يتم لو كان الأمر شاملا للمعدومين وإلاّ فلا لأن اختصاص الأمر بواجدي الشّرائط حينئذ يغني عن التّصريح بالشرائط كما يقال للمستطيع حج مطلقا لوجدانه للشرط فلعل وجود الإمام شرط لكن لما كان المخاطبون واجدين له لم يصرح بالاشتراط بخلاف ما لو قيل بشموله للمعدومين لقبح توجيه الخطاب المطلق إلى

 

فاقد الشّرط فإن ظاهر الخطاب قدرة المخاطب فعلا على الامتثال وهو مناف لكونه مشروطا بشرط غير حاصل ولو فرض استدلال من سائر العلماء بالإطلاق فإنّما هو نظير استدلال الشّهيد رحمه‌الله وهذا التّوجيه لا بد منه وإن فرض بعده فإنه أولى من حمل كلمات العلماء على كونها مناقضة لعملهم فافهم وربما قيل في وجه الجمع أن الصّحيحيّين أيضا يمكنهم التّمسك بالإطلاق بعد الفحص إذ من البعيد أن يكون هناك جزء أو شرط ولا يبين في الشّرع مع عموم البلوى فيعلم من عدم الوجدان عدم الوجود لعموم البلوى وفيه أنّه تمسك بأصالة البراءة لا بالإطلاق إذ لا إطلاق على مذهب الصحيحيّة ومنها أنّه يلزم على قول الصّحيحيّين أن يدل النّهي في العبادات على الصّحّة كما هو مذهب أبي حنيفة إذ اللّفظ موضوع للصحيح والنهي عن الصّحيح مستلزم للقدرة عليه إذ لا معنى للنهي عن غير المقدور كما لا يجوز نهي الإنسان عن الطّيران مع أنّ دلالة النّهي على الصّحة فاسدة قطعا فيكون قول الصّحيحيّة باطلا والجواب أنّه إن أراد من لزوم دلالة النّهي على الصحة أنّه يلزم الصّحة بمعنى موافقة الأمر ففاسد إذ ليس هذا هو الموضوع له عند الصّحيحيّين وإن أراد الصّحة بمعنى تماميّة الأجزاء والشّرائط فنقول إنّ ظاهر اللّفظ دال على كون المنهي عنه تام الأجزاء والشّرائط لكن نقول إنّ النهي مانع عن وجود الأمر إذ لا يجوز اجتماعهما وحينئذ فيكون هذا الفعل منهيا عنه فقط كصلاة الحائض وهذا الفعل بعينه مأمور به بالنسبة إلى شخص آخر وبالنسبة إلى ذلك الشّخص في زمان آخر فلو لم يكن فيه منقصة لم يتعلق به النّهي في تلك الحالة للزوم التّناقض إذ لا معنى للنهي عن الشّيء في زمان والأمر به في زمان آخر مع عدم التّفاوت في التّماميّة والنّقصان وحينئذ فيكشف النّهي عن نقصان في العمل المنهي عنه فهذه القرينة العقليّة قائمة على إرادة النّاقص من المنهي عنه ومطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة ومنها أنّه يلزم على قول الصّحيحيّين عدم الفرق بين الشّرائط والأجزاء لاعتبار كل منهما في الماهيّة عندهم بخلاف الأعميّة لخروج الشّرائط عندهم عن الماهيّة بل هي شرائط لمطلوبيّتها لا لقوامها وفيه أنّ هذا الكلام يرجع إلى نفي الفرق بين شرائط القوام وبين الأجزاء والفرق بينهما واضح فإن الجزء بنفسه داخل في الماهيّة والشّرط بنفسه خارج لكن مقارنة الماهيّة به معتبرة بمعنى أنّ التّقييد داخل والقيد خارج والحاصل أن المسمى عند الصّحيحيّة هو المركب من الأجزاء الخاصة المقارنة للشرائط المخصوصة كالمطلوب بالنسبة إلى الأعميّة فإنّ له عند الأعمّيّة أجزاء وشرائط

 

والمطلوب هو الأجزاء المقارنة للشرائط ومعنى شرط القوام ما يلزم انتفاء الماهيّة من انتفائه وهذا يكفي فيه اعتبار التّقييد به ولا يلزم فيه كونه داخلا في الأجزاء حتى يلزم عدم الفرق فالماهيّة عند الصّحيحيّة تنتفي بانتفاء الشّرائط لكونها شرائط القوام بخلاف الأعمّيّة فإنّ الشّرائط عندهم شرائط للصحّة لا للقوام فتنتفي الصّحة عندهم بانتفائها لا الماهيّة ويظهر الثّمرة بين كون الشّيء شرطا للقوام وجزءا في موارد منها عدم بطلان العمل بوقوع ذلك الشّيء رياء بناء على الشّرطيّة وبطلانه بذلك على الجزئيّة لما ذكروا أنّه لا يعتبر القربة في الشّرط إن لم يكن عبادة كستر العورة بخلاف الأجزاء إذ لا بد من كونها عبادة ومنها الشّكّ بعد المحل فإنّه غير معتبر في الأجزاء بخلاف الشرائط فإنّه لا يتحقق فيها ذلك الفراغ عن العمل لاعتبار استمرار شرط العمل إلى تمامه ومنها غير ذلك ثم إن تمييز مصاديق الشرائط والأجزاء في غاية الصّعوبة ولا يعلم إلاّ بالرجوع إلى الأدلة وهو أيضا مشكل فإنه لا فرق في المفاد بين قوله لا صلاة إلاّ بطهور وقوله لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب مع أن الطّهور شرط والفاتحة جزء وعليك بالتأمّل في الموارد ومنها أنهم قد ذكروا أن الرّكوع والسّجود وسائر الأركان يبطل الصّلاة عمدا وسهوا فأطلقوا الرّكوع على الرّكوع الزّائد مع أنّه فاسد ولا ريب في أن الرّكوع والسّجود من ألفاظ العبادات وقد أطلقوهما على الفاسد ولا يمكن أن يكون مرادهم بزيادة الرّكوع زيادة الانحناء لأنه ليس مبطلا على إطلاقه فإن من انحنى بقدر الرّكوع بقصد قتل حيّة ونحوه لم يكن عمله باطلا من جهة زيادة الرّكن وفيه أن غاية مفاد هذا الدّليل إطلاق الرّكوع على مطلق الانحناء بقصد الرّكوع والاستعمال أعمّ من الحقيقة مضافا إلى تحقق الإشكال في ثبوت الوضع الجديد لمثل الرّكوع ونحوه ومنها أنّه على قول الصّحيحيّة يلزم تكرار الطّلب فإن معنى صل أطلب منك الصّلاة الصّحيحيّة والصّحيحيّة هي المطلوبة فيكون المعنى أطلب مطلوبي وفيه أن المراد بالصحيح الّذي هو المسمى للّفظ ليس الموافق للأمر بل المراد الجامع لجميع الأجزاء والشّرائط كما سبق ومنها أنّه يلزم المحال على قول الصّحيحيّة فيما إذا نذر الشّخص ترك الصّلاة في الحمام مثلا فإن متعلق نذره حينئذ هو الصّحيحة عندهم وبانعقاد النّذر تصير الصّلاة منهيّة عنها فتفسد وإذا فسدت خرجت عن متعلق النذر لتعلقه بالصحيح وإذا خرجت عن متعلق النّذر لم يتعلق بها نهي فتكون صحيحة داخلة في متعلق النّذر فيلزم من انعقاد النّذر عدم انعقاده وهو محال بخلاف الأعمّيّة لأن الفاسدة أيضا تدخل في متعلق النّذر عندهم وفيه أولا النّقض بما إذا نذر ترك الصّلاة الصّحيحة في الحمام وثانيا بالحل وهو أن متعلق النّذر هو الصّلاة الصّحيحة مع قطع النّظر عن النّذر فيحنث بفعل ذلك وإن كانت

 

فاسدة نظرا إلى النّذر ويشكل بأن الصّحيحة قبل النّذر كانت مشتملة على أجزاء وشرائط منها نيّة القربة وهي مما لا يمكن تحقّقها بعد النّذر فالصلاة الصّحيحة قبل النّذر لا يمكن فعلها بعد النّذر ولا معنى لوجوب الوفاء بهذا النّذر ولا لحرمة حنثه لعدم إمكان حنثه وهذا الإشكال جار في التّشريع أيضا فإنّهم ذكروا أنّ التّشريع عبارة عن إدخال ما يعلم أنّه ليس من الدين في الدّين على أنّه من الدّين فإنّه إن أريد منه إتيان العمل بدون قصد القربة فهو غير حرام وإن أريد إتيانه معه فكيف يمكن الإتيان مع قصد القربة مع القطع بعدم حصولها مع أن النّيّة هي الدّاعي وكيف يكون القربة داعيا مع الاعتقاد بعدمها ولذا لما ذكروا أن العتق لا يصح من الكافر لعدم إمكان قصد القربة في حقه وأورد عليهم الشّهيد أنّه يختص عدم الإمكان بالكافر الجاحد للإله دون غيره من الكفار أوردوا عليه بأنّ الكافر بالرّسول أيضا لا يمكن قصد القربة في حقه للقطع بفساد عمله وعدم ترتب أثر عليه ويمكن الجواب بأن النّيّة عبارة عن الدّاعي على العمل وأن يكون ذلك الدّاعي تعريض العمل في مقام الامتثال وفعله بعنوان الامتثال فهذا القدر كاف في تحقق النّيّة فإن كان ذلك العمل مأمورا به في الواقع أو في اعتقاد الفاعل كان العمل مما يترتب عليه الثّواب وإن لم يكن مأمورا به في الواقع وفي اعتقاد الفاعل كان معاقبا لإتيانه إيّاه في مقام الامتثال وبعنوان الامتثال وهذا معنى التّشريع ولا تفاوت في النّيّة على التّقديرين وهذا القدر من النّيّة ممكن في الكافر فالأولى في تعليل بطلان عتقه أن يقال إنّه يشترط في صحة العتق الإسلام مضافا إلى القربة وبهذا يجاب عن استدلال الأعمّيّة بقوله للحائض دعي الصّلاة أيام أقرائك حيث إنها لا يمكن لها إتيان الصّلاة الّتي كانت تفعلها قبل النّهي لاعتبار قصد القربة فيها مع أن الأمر هنا أسهل لأن نهي الحائض عن الصّلاة كاشف عن عدم دخولها في إطلاق الأوامر لأن هذا المعنى التّخصيص وحينئذ فهي قبل النّهي أيضا لم تكن متمكنة من إتيان العمل الصحيح الواقعي إذ لم تكن في الواقع مكلفة بالصلاة لكنها لدخولها تحت إطلاق الأوامر ترى نفسها مكلفة وكانت تتعرض في مقام إيجاد الواقع وحينئذ فمعنى النّهي لا تتعرضي لإيجاد العمل الواقعي كما كنت سابقا لأنك لا تقدرين على ذلك فهو كقوله إذا لم تستطع أمرا فدعه فافهم ومنها ورود الحكم بإعادة الصلاة في كثير من الموارد ولا شك أن المراد بها الأعم إذ الصّحيح لم يكن واقعا حتى يصدق الإعادة على إتيانه والجواب أوّلا أن الاستعمال أعمّ وثانيا أنّه يمكن حمله على إرادة الصّحيح بأن يقال إن الشّخص لما كان في مقام إتيان العمل الصّحيح ولم يقع منه صح أن يقال أعد صلاتك يعني عد في مقام الامتثال بالصلاة هذا تمام الكلام في نقل الأقوال والاحتجاجات والتّحقيق في المقام هو القول بالصحة من حيث

 

الأجزاء والشّرائط جميعا يدل على ذلك صحة السّلب كما مر تقريره ويدل عليه الاستقراء أيضا فإن دأب أرباب الصنائع إذا اخترعوا ماهيّة مركبة أن يضعوا اللّفظ أوّلا للجامع لجميع الأجزاء والشّرائط ثم يستعملونه في كل ما يرتب عليه ثمرته ويصير حقيقة بأدنى زمان وإن نقص أجزاؤه أو راووه وأمّا ما لا يفيد ثمرته فلا يطلق عليه اللّفظ إلاّ مسامحة ومساهلة ويدل عليه العقل أيضا لأن الحكمة المقتضية لوضع اللّفظ موجودة في الصّحيح لأنّه المطلوب المحتاج إلى البيان وأمّا الفاسدة فلا حاجة إلى الوضع لها وما يقال إن لها أيضا ثمرات متحققة في الشّرع كجواز أكل ذبيحته ونحو ذلك مدفوع بأن عليهم‌السلام ذلك على الفاسدة إنّما هو لتنقيح المناط وهو الإسلام والفاسدة يكشف عنه وأمّا الشّرائط فهي وإن توهم بحسب الظّاهر خروجها لكن الإنصاف أنها أيضا معتبرة إذ كانت شرائط لتأثير الماهيّة أمّا ما يكون شرطا لظهور الأثر كعدم المانع مثلا فلا ويعلم ذلك كله بسلوك سبيل الإنصاف والميل عن طريق الاعتساف

تذييل

ربما اشتمل العبادة على الأعمال المستحبّة وقد ذكرنا أن كيفيّة الوضع بحيث يشمل المستحبات أيضا غير معلوم وأن القدر المشترك غير معقول ويعلم أن ما يقع في الصّلاة من الأعمال المستحبة قسمان أحدهما ما يكون جزءا من العمل ولا ينافي بين كون العمل واجبا تخييريا وكون جزئه مستحبا لما سيأتي أن الواجب هو الكلي والفرد مستحب عيني وواجب تخييري ولا منافاة وهذه الأجزاء تدخل في محل الكلام والثّاني ما يكون عملا مستقلا مستحبا ومحل استحبابه الصّلاة مثلا كاستحباب الدّعاء في السّجود مثلا وهذه خارجة عن العمل قطعا والفرق بينهما أنّه يشترط في الأول شروط العمل بنفس دليل ثبوت الاشتراط في العمل لكونه جزءا للعمل بخلاف الثّاني فالقنوت رياء مبطل للصلاة لكونه جزءا بخلاف الدّعاء في السّجود مثلا إن قلنا بأن الكون المتصل من أول العمل إلى آخره ليس جزءا للعمل وإلاّ فهو أيضا مبطل لفساد الكون المقارن للدعاء رياء إذا عرفت هذا فنقول ذكر العلامة رحمه‌الله أنّه إذا كان في ذمة الشخص قضاء لم يجز له الإتمام في مواضع التّخيير لكونه مستحبا بناء على عدم جواز التّطوع لمن عليه فريضة وهذا لا يصح إن قلنا إن الإتمام مهية برأسه والرّكعتان الأخيرتان جزء مستحب للصلاة لا صلاة برأسها فتصير كالقنوت ولم يقل أحد بعدم جواز القنوت لمن في ذمته فريضة نعم يصح ذلك إن قلنا إن فعل الرّكعتين مستحب مستقل ولكن محل استحبابها بعد التّشهد فإنهما حينئذ خارجتان عن العبادة وصلاة مستحبة مستقل لا يجوز فعلها لمن عليه فريضة على القول به فتأمل

أصل

اختلفوا في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد على أقوال وقبل الخوض في المطلب لا بد

 

من تمهيد مقدمات الأولى في بيان معنى المشترك فنقول عرف الاشتراك بأنه عبارة عن كون اللّفظ موضوعا بوضعين فصاعدا لمعنيين فصاعدا بطريق التّعيين أو التّعيّن والمراد باللّفظ اللّفظ الواحد لا جنس اللّفظ وإلاّ لصدق المشترك على مجموع اللّفظين الموضوع كل منهما لمعنى واحد لصدق جنس اللّفظ الموضوع لمعنيين عليهما والمراد بالوحدة الوحدة الأصليّة لا العارض بسبب الإعلال كالمختار فإن اسم الفاعل من باب الافتعال هو مفتعل بكسر العين واسم المفعول بفتحه فهو في الأصل مختير بالكسر ومختير بالفتح والإعلال أوجب الاتحاد وكذا العارض بسبب الإعلال والتّركيب مع كلمة أخرى مثل كلمة إنّ فإنّها حرف وفعل وأمر من وأى يئي إذا وعد أكد بالنون فإن فعل الأمر منه أبعد الإعلال وبعد تركيبه مع النّون اتحد مع الحرفيّة نعم لو كان الوضع ثابتا بعد الإعلال الموجب للاتحاد لصدق عليه الاشتراك كما يمكن ذلك في مثل إن فإنّه حرف شرط وفعل أمر من وأن يئن لإمكان أن يقال إنّ إن بنفسه موضوع للأمر لا أن صيغة افعل موضوعة وأصل إن أوئن صار بالإعلال إن والضّابط هو الاتحاد الحاصل قبل الوضع فإن حصل صدق الاشتراك سواء كان أصليا أو عارضيا وإلاّ فلا ثم إنّ المراد بتعدد الوضع إمّا تعدد الإنشاء كأن يقول وضعت العين للباصرة ووصفته للجارية أو المراد كون الملحوظ له بالاستقلال متعددا وإن اتحد الإنشاء لإمكان وضع اللّفظ بإزاء معان عديدة بإنشاء واحد وهو على قسمين أحدهما أن يلاحظ تلك المعاني بعنوان خاص ويضع لها اللّفظ باعتبار دخولها في ذلك العنوان فلا يكون كل واحد من تلك المعاني ملحوظا بالاستقلال ككلمة هذا إذ لوحظ عنوان المشار إليه ووضع هذا بإزاء جزئيّاته فإن الملحوظ حينئذ ليس كل واحد واحد من حيث الخصوصيّة والاستقلال بل الملحوظ هو كل منها بعنوان المشار إليه والثّاني أن يلاحظ تلك المعاني بعنوان مخصوص هو آلة لملاحظتها لكن يضع اللّفظ لكل منها بخصوصه كما يقول وضعت لفظ زيد بإزاء هؤلاء الجماعة فإن الموضوع له حينئذ هو كل واحد منهم بخصوصه لا لكونه من جملة عنوان الجماعة وذكر العنوان المذكور إنّما هو لمحض كونه آلة لملاحظة تلك الأشخاص إذا عرفت هذا فنقول لا يطلق الاشتراك على القسم الأوّل وأما القسم الثّاني فالتحقيق أنّه داخل في الاشتراك وحينئذ فالأولى إرادة المعنى الثّاني من الوضعين أعني ما تعدد فيه المعنى الملحوظ المستقل ليشمل هذا القسم إذ لو أريد منه تعدد الإنشاء خرج هذا القسم عن الاشتراك ويشكل الأمر في المشتقات الّتي لها معان متعددة باعتبار اشتراك مصادرها كالضارب فإنّه بمعنى من صدر منه الضّرب بمعنى السّير أو المعنى المعروف مثلا إن قلنا باشتراك الضّرب

 

بينهما فقد يتوهم بحسب الظّاهر أنّها من قبيل أسماء الإشارة إذ الملحوظ عند وضع الضّارب مثلا هو ذات ثبت له المبدأ واستعماله فيمن قام به السّير أو الضّرب إنّما هو من حيث كونه من أفراد من قام به المبدأ كاستعمال هذا في الأفراد باعتبار كونها من أفراد المشار إليه لكن التّحقيق تحقق الاشتراك فيها أيضا فإن الواضع لاحظ هيئة فاعل ووضعها لمن قام به المبدأ وملاحظة الكلي في جانب الموضوع والموضوع له إنّما لكونه آلة لملاحظة الأفراد فقد أراد وضع ضارب لمن قام به الضّرب وقال لمن قام به القتل لكن لاحظ ذلك بعنوان كلي كملاحظة الأشخاص الخاصة بعنوان هؤلاء الجماعة فكأنه قال وضعت ضارب لمن قام به الضّرب ولمن قام به السّير لكنه لاحظهما بعنوان من قام به المبدأ لأنّه لاحظ الموضوع أيضا بعنوان صيغة فاعل والمرجع هو ما ذكرنا عند التّوزيع أعني توزيع أفراد الموضوع وهو صيغة فاعل على أفراد الموضوع له وهو من قام به المبدأ وهذا هو الملحوظ المستقل واعتبار الكلي إنّما هو لكونه آلة للملاحظة فافهم ثم إن التّعريف المذكور بحسب الظّاهر يشمل المنقول بالنسبة إلى المعنى الجديد والمعنى المهجور وكذا يشمل اللّفظ الموضوع للمعنيين في اصطلاحين ولا بأس بدخول الثّاني وإن لم يكن مجملا ويمكن إخراج الأول بأن الظاهر من قوله موضوع بوضعين تحقق الوضعين فعلا فيخرج المنقول بالنّسبة إلى المعنى المهجور وقوله تعيينا أو تعينا يشمل أقسام المشترك بتمامها إلا أن صدق المشترك على ما إذا كان أحد الوضعين تعينيا سواء كان الآخر أيضا تعينيا أو لا مشكل لاشتراطهم في المشترك عدم اعتبار المناسبة حين الوضع والوضع التّعيني عبارة عن الوضع الحاصل بسبب شيوع الاستعمال في المعنى الجديد مجازا وبالمناسبة لا يقال إنّه بعد وصوله إلى حد الوضع لا يعتبر المناسبة لأنّا نقول هذا غير كاف فإن الاستعمال الأخير الّذي به يحصل الوضع قد اعتبر فيه المناسبة نعم يمكن الجواب بوجهين أحدهما أن حصول الوضع ليس باعتبار المناسبة فإن المستعمل الأخير ليس ملتفتا إلى حصول الوضع حتى يعتبر في الوضع المناسبة والثّاني أن المناسبة الّتي يجب عدم اعتبارها في المشترك هي مناسبة أحد المعنيين مع الآخر وفيما ذكرنا لم يعتبر مناسبة المعنى التّعيني مع المعنى التّعييني بل اعتبرت مع المعنى المهجور ولا بأس به نعم يرد النّقض حينئذ بما إذا كان المعنى التّعيني مسبوقا بكونه مجازا بالنسبة إلى ذلك المعنى التّعييني فوصل إلى حد الوضع قبل هجر المعنى التّعييني على القول بجواز ذلك فحينئذ يدخل في التّعريف مع أن أحد المعنيين قد اعتبر فيه المناسبة بالنسبة إلى الآخر إلاّ أن يجاب هنا بالجواب الأول فتأمل الثّانية في أحكام المشترك من حيث

 

الإمكان والامتناع والوجوب واختلف في ذلك على أقوال والمراد بالإمكان الإمكان بالنظر إلى الحكمة لا الإمكان بالذّات وكذا المراد من أخويه احتج الأول بوجود أحدها أن الوجوب يحتاج إلى رجحان طرف الوجود والامتناع يحتاج إلى رجحان طرف العدم بخلاف الإمكان فإنه تساوي الطرفين والأصل عدم الزّيادة فيثبت الإمكان والثّاني أن إمكان الاشتراك شيء وكل شيء مخلوق لله تعالى فإمكان الاشتراك مخلوق لله تعالى والثّالث قاعدة الإمكان المذكورة في كتب الحكماء وقد صرح بها الرّئيس حيث قال كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يدرك عنه قائم البرهان والجواب أمّا عن الأول فبأن الأصل عبارة عن استصحاب العدم الثاني في الزّمان السّابق والاشتراك لو كان راجحا وجودا أو عدما في الحكمة لكان كذلك في الأزل فالرجحان ليس شيئا متيقن العدم في الزّمان السّابق حتى يستصحب عدمه وأمّا عن الثّاني فبالنّقض بأن وجوب الاشتراك شيء وكل شيء مخلوق لله وحله أن الله تعالى قادر على كل شيء لا أنّه خالق كل شيء بالفعل والتّحقيق في الجواب أن الإمكان ليس أمرا مجعولا بل هو أمر منتزع عقلي غير قابل للجعل وكذا أخواه وأمّا عن الثالث فبأن القاعدة المذكورة لا ربط لها بالمطلوب فإن المراد منها أن الشخص إن لم يجد دليلا على الوجوب والإمكان والامتناع فلا يحكم بأحدها جزما بل يذره في بقعة الاحتمال بأن يقول يحتمل كل منها والحاصل أن الإنسان لا يجوز له أن يجرم بطرف بدون البرهان نعم يمكن الاستدلال بطريق العقلاء فإنهم يحكمون بالإمكان بمحض عدم وجود الدليل على الامتناع كما تراهم يقولون في إثبات مطلب إنّ المقتضي موجود والمانع غير معلوم فيثبت المطلوب ولا زال ذلك طريقة مستمرة بيد العقلاء وهو كاف في إثبات المطلوب وإن لم يعلم وجهه ويظهر ذلك لمن تتبع كلمات القوم في مقام الاستدلال ألا ترى صاحب الفصول رحمه‌الله يقول بأن أحكام الشّرع تابعة لحسن التّشريع لا لحسن الفعل إذ ربما يكون الفعل حسنا ولم يتعلق به الأمر لوجود المانع عن الأمر كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وربما لا يكون حسنا وقد تعلق به الأمر كجل العبادات فإن المأمور به فيها هو العمل الخالي عن قصد القربة لأن القربة فرع الأمر فكيف تؤخذ في المأمور به والفعل الخالي عن القربة لا حسن فيه هذا قوله ومع ذلك يقول إذا وجدنا الفعل حسنا حكمنا بأنه مأمور به كما يقوله الباقون نظرا إلى أن الشّك في تعلق الأمر إنّما هو بسبب احتمال وجود المانع عن التّشريع وهو مدفوع لا يعتنى به عند العقلاء احتج الموجبون بأن الحكمة الموجبة لوضع الألفاظ هو إبراز المعاني والألفاظ محصورة والمعاني غير متناهية

 

فلو لم يتكرر وضع الألفاظ لبقي بعض المعاني ولم يوضع له لفظ وهو خلاف الحكمة وفيه أوّلا أن ذلك يستلزم حصول الأوضاع الغير المتناهية للمعاني الغير المتناهية وقد برهن أن حصول غير المتناهي في الخارج محال قالوا ما ضبطه الوجود كان متناهيا وثانيا أنّه إن أريد الوضع للجزئيات فلا نسلم الاحتياج إليها بل المحتاج إليه هو الوضع للكليات وهي متناهية والجزئيات قد استغني عنها بوضع الأعلام ولا نحتاج فيها إلى وضع الواضع وإن أريد أن المعاني الكليّة غير متناهية ففساده ظاهر احتج القائلون بالامتناع بأن حكمة الوضع هو التّفهيم على الوجه الأسهل والمشترك إن استعمل بلا قرينة فإن التّفهيم وإن استعمل مع القرينة لم يكن على الوجه الأسهل فهو مناف للحكمة ولو سلم فلا أقلّ من أن لا يقع في القرآن إذ لو استعمل بلا قرينة فات التّفهيم أو مع القرينة كان تطويلا منافيا للفصاحة والجواب عنه ظاهر لكثرة الفوائد في المشترك إذ ربما كان المقصود تفهيم المعنى إجمالا لا تفصيلا فيذكر المشترك بلا قرينة وقد يكون الغرض الإطناب في الكلام لفوائد يظهر للمتتبع الثّالثة الجواز قد يطلق على مقابل الامتناع العقلي وقد يطلق على مقابل القبيح وهو الجواز بالنّظر إلى الحكمة وقد يطلق على الأعم من الأحكام الأربعة أعني الوجوب والكراهة والاستحباب والإباحة وقد يطلق على الإباحة وقد يطلق ويراد به الصّحة والمراد به في المقام هو الصّحة لغة كما سيظهر لك في طي المبحث الرّابعة إرادة الأكثر من معنى من المشترك يتصور بوجوه أحدها أن يراد به المعنيان والمعاني بطريق المجموع بحيث يكون كل واحد منها جزءا من المراد نظير قولك أكرم العشرة والثّاني أن يراد به المعنيان أو المعاني في ضمن القدر المشترك وهذا بناء على تعلق الأحكام بالأفراد بإرادة الطبيعة من اللّفظ والخصوصيّة من القرينة يكون من قبيل إطلاق الكلي على الفرد وهو خارج عن محل النّزاع إذ ليس استعمالا في المعينين بل لم يستعمل إلاّ في الكلي وهذا على ضربين لأن القدر المشترك إمّا يؤخذ فيه التّرديد كمفهوم أحد المعنيين أولا كمفهوم المسمى والثّالث هذا إلى أن يراد به كلا المعنيين بطريق الاستقلال والانفراد من غير أخذ التّرديد وهذا هو محل النّزاع في المسألة والرّابع أن يراد به المعنيان بطريق التّرديد بدون النّظر إلى القدر المشترك كأن يريد بالعين الذّهب أو الفضة وبالقرء الطهر أو الحيض ثم إن ما ذكرنا من الاستقلال إنّما هو بالنظر إلى الإرادة لا الحكم ولا ملازمة بين الاستقلال في الإرادة والحكم بل بينهما عموم من وجه فالاستقلال في الحكم دون الإرادة كقولك أكرم العشرة فإن كل واحد مستقل في حكم وجوب الإكرام ولذا لو أكرم بعضا دون بعض امتثل في إكرامه للبعض وإن عصي بالنسبة إلى الباقي لكن ليس مستقلا

 

في الإرادة دون الحكم كقولك زيد وعمرو يرفعان هذا الحجر إذا لم يقدر كل منهما منفردا على رفعه وقد اجتمعا في قولك أكرم زيدا وعمراً فافهم فلنرجع إلى ما كنا فيه ونقول قد توهم بعضهم أن مذهب السكاكي هو جواز استعمال المشترك في أكثر من المعنى بالطريق الرّابع بل أنّه مقتضى وضع المشترك فإنه قال المشترك كالقرء مثلا مفهومه أن لا يتجاوز الطّهر والحيض غير مجموع بينهما ما دام منتسبا إلى الوضعين فزعم التّفتازاني أن مراده أن المشترك لما وضع لكل واحد من المعنيين بوضع مستقل حصل من مجموع الوضعين وضع ضمني يحمل عليه اللّفظ عند عدم القرينة وهو المعنيان بطريق التّرديد فيكون المخاطب مخيرا في الامتثال بأيّهما شاء وهذا كلام ظاهر الفساد إذ لا وجه لحدوث الوضع الضّمني كما لا يخفى وليس ذلك مراد السّكاكي بل مراده بيان إجمال المشترك عند عدم القرينة فلا يجوز للمخاطب التّجاوز عن المعنيين ولا الجمع بينهما فالترديد إنّما هو للمخاطب لا أنّه ثابت واقعا وبالجملة لا ينبغي الإشكال في عدم جواز ذلك بطريق الحقيقة وهل يجوز مجازا أو لا محل كلام ومقتضى ظاهر النّظر عدم الجواز لأن المدار في التّجوز على العلاقة والتّرديد المأخوذ بين المعنيين معنى حرفي لا يجوز إرادته من الاسم إذ لا مناسبة بين المعنى الاسمي والحرفي ولا علاقة بينهما بوجه ولذا رد الأشاعرة في قولهم بأن المأمور به في الواجب التّخييري هو أحدهما الكلي بأن قولنا افعل هذا أو ذاك ليس فيه شيء صالح لأن يراد به الكلي المذكور فإن لفظ هذا أو ذاك لا ترديد فيهما وكلمة أو حرف لا يجوز أن يراد بها المعنى الاسمي وزعم بعض الأفاضل أن هذا غير معقول نظرا إلى أن التّرديد بين المعنيين ترديد بين الجزئيّين لأن كلا منهما نكرة والنّكرة جزئي مردد بمعنى أن لفظها موضوع للطبيعة وقد اعتبر معها الخصوصيّة المرددة والتّرديد بين الجزئيّين لا يمكن إلاّ بالنظر إلى القدر المشترك كما في النكرة فإن لوحظ القدر المشترك في المقام خرج عن محل الكلام وإلاّ لم يكن متعقلا وفيه نظر لأن التّرديد بين الجزئيّين يمكن بالنظر إلى الحكم الثّابت في الكلام كقولك ليكن ثوبك إمّا أسود أو أبيض وما الفرق بين هذا وقولك ليكن ثوبك إذا أريد به المعنيان بالترديد ولا يلزم من عدم النّظر إلى القدر المشترك تحقق التّرديد بين الجزئيّين حتى يكون غير معقول هذا وأمّا الاستعمال بالطريق الأوّل فلا يجوز حقيقة فإن مجموع المعنيين من حيث إنّه مجموع المعنيين غير موضوع له للّفظ قطعا نعم قد يفرض الوضع المستقل للمجموع فيكون حقيقة لكنه حينئذ يكون معنا ثالثا لا كلام فيه في المقام وأما الاستعمال مجازا فيظهر من بعضهم للمنع منه مطلقا ومن الآخر الجواز مطلقا وذكر بعضهم أنّه جائز إن وجدت العلاقة وهذا ظاهر إنّما الشّأن في تحقق العلاقة فنقول الّذي يظهر في المقام عدم تحقق العلاقة لأنها في المقام إمّا علاقة الكل

 

والجزء بأن استعمل اللّفظ الموضوع للكل في الجزء بناء على اعتبار قيد لوحدة في المعنى وإمّا علاقة الجزء والكل بناء على عدم اعتبار قيد الوحدة فإن اللّفظ حينئذ موضوع لمعنى لا بشرط وقد استعمل في المعنيين الّذي هو كل بالنسبة إلى الموضوع له وكلاهما فاسد أما الأوّل فلأن مجموع المعنيين ليس جزءا لشيء بل هو مركب من جزأي المعنيين وأمّا الثّاني فلاشتراط كون ذلك الجزء مما ينتفي الكل بانتفائه وأن يكون المركب حقيقيا لا اعتباريا نعم قد يقال لا ينحصر العلاقة فيما ذكر ويمكن أن يكون العلاقة هنا شيء آخر فإنه قد يطلق اللّفظ الموضوع للواحد على الجماعة لتنزيلهم منزلة شخص واحد كما يطلق اللّفظ الموضوع للجماعة على الواحد تعظيما له بتنزيله منزلة الجماعة وقد ذكر المفسرون أن المراد بقوله تعالى مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا الجماعة الّذين استوقدوا وكذا قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا فأطلق اللّفظ الموضوع للواحد على الجماعة فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل ويمكن الخدشة فيه بأن الآية الأولى تشبيه للمثل بالمثل وهما مثلان مع أن التّشبيه غير المجاز والآية الثّانية لا شاهد فيها بل كلمة الّذي فيه لغة في الذين وليس من باب التّنزيل غاية الأمر تحقق الاحتمال وهو كاف في دفع الاستدلال الخامسة قال في المعالم إن استعمال المشترك في الأكثر من معنى واحد مجاز لاعتبار قيد الوحدة في الموضوع له فاستعماله في الأكثر استعمال في جزء الموضوع له وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الوحدة داخلة في الموضوع له وجزءا منه والثّاني أن يكون الوحدة شرطا بأن يكون خارجا ويكون الجزء هو التّقييد بالوحدة وبعبارة أخرى أن يكون القيد خارجا والتّقييد داخلا والأول أظهر ويظهر من الفاضل القمي رحمه‌الله قول آخر يحتمل وجهين وذلك أنّه يقول إنا لا نحكم صريحا بأن الموضوع له هو المعنى لا بشرط شيء ولا أنّه المعنى بشرط الوحدة إذ لا نعلم شيئا منهما لكن نعلم تحقق الوضع في حال الوحدة فهو المتيقن ولا بد من التّوقف في غيره لأن الوضع توقيفي حقيقة ومجازا فالاحتمال الأوّل أن يقرر كلامه بأنا لا نعلم أن الوحدة داخلة في الموضوع له أولا وأصالة عدم التّقييد بالوحدة معارض بأصالة عدم التّقييد بالإطلاق فإن الإطلاق في المقام أمر توقيفي لا بد أن يكون ملحوظا للواضع فيجري فيه الأصل وحينئذ فالمتيقن هو حال الوحدة ويجب التّوقّف في غيره والثّاني أن يقال إنا نعلم عدم تقيد الموضوع له بالوحدة حيث نرجع إلى أنفسنا في تسمية الأولاد لكن يحتمل أن الواضع خصص الوضع بحال الوحدة وعدمه والمتيقّن تحققه حال الوحدة ويتوقف في غيره والفرق بين هذا والأول أنّه لا يلزم الالتفات إلى قيد الوحدة عند الاستعمال على هذا ويلزم ذلك على الأول لو كان الوحدة جزءا للموضوع له

 

ونظير ذلك الواجب المطلق بالنسبة إلى شروطه والمشروط بالنسبة إلى شروطه فإن الصّلاة لوحظت مقيدة بوصف الطّهارة فتعلق بها الأمر فالمأمور به مقيد والأمر مطلق بخلاف الحج فإنه لم يلاحظ مقيدا بالاستطاعة بل لوحظ مطلقا لكن الأمر إنّما يتعلق به في خصوص حالة الاستطاعة وإن كان وجود الحج في الخارج مقارنا مع الاستطاعة على أي تقدير ويظهر الثّمرة في وجوب تحصيل المقدمة فيجب في الأول دون الثّاني هذا الكلام في تقرير مرام الفاضل المذكور قدس‌سره والظّاهر فساد كلا الاحتمالين أمّا الأول فلما عرفت سابقا أن الوضع إذا دار الأمر فيه بين أمرين لم يكن هناك قدر متيقن إذ لو كان المعنى مع الوحدة موضوعا له لم يكن المعنى موضوعا له بل يكون جزءا له حينئذ مضافا إلى أنّا نقطع بعدم اعتبار الوحدة في الموضوع له وإلاّ لوجب أن يلتفت إليه المتكلّم عند الاستعمال ويلاحظه لأنّه حينئذ جزء المعنى مع القطع بخلاف ذلك وقد صرح هو بأنه خلاف الوجدان حيث نرجع إلى أنفسنا عند التّسمية وأمّا الثّاني فهو وإن وجد فيه القدر المتيقن لكن نعلم أن الواضع لم يلاحظ التّخصيص بحالة الوحدة مع أن أصالة عدم التّقييد يكفي في المقام ولا تعارض بأصالة عدم الإطلاق لأن الإطلاق يكفي في تحققه عدم اعتبار التّقييد ولا يلزم فيه اعتبار زائد فإن قيل هب إنّه لم يلاحظ التّقييد وحصل القطع بذلك لكنا نقول إن المعنى حين الوضع كان متصفا بالوحدة وهذا يكفي في اختصاص الوضع بتلك الحالة قلنا هذا غير كاف بل لا يوجب الاختصاص إلاّ إذا اعتبر قيدا كما لا يوجب صغر جسم الولد الحاصل حين التّسمية اختصاص التّسمية بتلك الحالة فافهم ثم إنّه استدل على اعتبار الوحدة بأن الحكمة في الوضع هو أن يفهم المعنى من اللّفظ بلا حاجة إلى نعم قرينة مفهمة ولو كان الموضوع له هو المعنى لا بشرط لكان له فردان المعنى الواحد والمعنى مع الغير فلا بد من نصب قرينة يفهم أن أيهما المراد وهو خلاف الحكمة وفيه أن اللازم من هذا هو أن الواضع قد لاحظ المعنى ووضع له اللّفظ بحيث لا يراد من اللّفظ غيره من سائر المعاني بالإرادة المتعلقة بذلك المعنى وأمّا عدم جواز إرادة سائر المعاني بإرادة تلك الإرادة كما هو المتنازع فيه فغير معتبر في نظر الواضع ولا يضر جوازه بالحكمة فإن اللّفظ قد وضع لكل واحد من المعاني بمعنى أن يجوز إرادة ذلك المعنى منه بإرادة مستقلة وأن يدل اللّفظ على ذلك المعنى بنفسه وأمّا تعيين المراد وأنّه هذا المعنى أو ذلك المعنى أو هما معا بإرادتين فيحتاج إلى قرينة معينة ولا يضر الاحتياج إليها بالحكمة فافهم ثم إنّه يرد على القائلين باعتبار الوحدة إيراد آخر وهو أن الوحدة المعتبرة عندهم

 

معناها انفراد المعنى في الإرادة من اللّفظ وليس المراد مفهوم الانفراد المذكور بل المراد فعليته فالموضوع له هو المعنى الّذي استعمل فيه اللّفظ ولم يكن له شريك وحينئذ فيكون الوضع متفرعا على الإرادة لاعتبار الإرادة في تحققه والدّلالة فرع الوضع فيلزمهم القول بأن الدّلالة تابعة للإرادة مع أنهم لا يقولون بذلك وهو تناقض وارد عليهم نعم القائلون بالتبعيّة قالوا بجواز كون الوضع متفرعا على الإرادة فإن قلت تبعيّة الوضع للإرادة غير معقول لأن الإرادة فرع الاستعمال والاستعمال فرع الوضع الحقيقي أو المجازي فلو كان الوضع فرع الإرادة لزم الدّور مضافا إلى ما ذكروا من أنّ الحقيقة استعمال اللّفظ فيما وضع له ولازمه تحقق الوضع قبل الاستعمال فما مراد المجوزين قلت ليس مرادهم بالإرادة الإرادة من اللّفظ بل المراد منها القصد الذّهني واللّفظ موضوع للكشف عنه فالوضع متفرع على هذه الإرادة وهذه الإرادة ليست متفرعة على الاستعمال حتى يلزم الدّور بل هي سابقة على الاستعمال فافهم واستدل أيضا على اعتبار الوحدة في الموضوع له بالتبادر فإن المتبادر من المشترك معنى واحد وهذا ثابت في غير المشترك أيضا لكن تبادر الواحد في غير المشترك إنّما هو لعدم المقتضي للغير وأمّا في المشترك فالمتقضي وهو الوضع موجود فتبادر الواحد فيه إنّما هو لاعتباره في الموضوع له وأورد عليه بأن التّبادر عبارة عن خطور المعنى بالبال وهو حاصل في المشترك بالنسبة إلى جميع المعاني ورد بأن التّبادر ليس مطلق الخطور ولانتقض بأجزاء المركب لخطورها بالبال عند سماع اللّفظ الموضوع للمركب بل التّبادر هو الخطور بعنوان كونه مرادا وهو ليس في المشترك إلاّ بالنسبة إلى معنى واحد أقول مع الغض عن أن التّبادر هو الخطور المطلق وتسليم كونه عبارة عن الخطور بعنوان كونه مرادا أن هذا الدليل لا يثبت كون الوحدة جزءا للموضوع له لأن تبادر الوحدة يتصور بوجهين أحدهما تبادر وإرادة ذات المعنى المتصف بالوحدة في نفس الأمر من دون أن يكون الوحدة ملحوظة في نظر المتكلّم بل الوحدة حينئذ وصف اعتباري منتزع من إرادة المعنى وعدم إرادة غيره معه والثّاني تبادر إرادة المعنى الواحد أعني المعنى مع الوحدة بحيث يكون الوحدة جزءا للمراد فإن أراد من تبادر الواحد التّبادر بالوجه الثّاني فممنوع إذ ليس المتكلم ملتفتا إلى الوحدة غالبا وإن أراد التّبادر بالوجه الأول فغاية ما يثبت به أن الموضوع له هو ذات المعنى المتصف بالوحدة الغير الملحوظة في نظر المتكلم كالصغر الّذي يتصف به المولود المسمى بزيد مثلا فإن الاتصاف بوصف لا يوجب كونه معتبرا في الوضع إلاّ أن يكون ملحوظا في النظر وقد منعنا كون الوحدة ملحوظة ونظير ذلك أنّهم استدلوا على كون الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة

 

دون المعاني النّفس الأمريّة بأن الاستعمال ليس محققا إلاّ في الأمور المعلومة لعدم براز الحكم بالنّسبة إلى غير المعلوم فرد بأنّ الاستعمال وإن لم يتحقق إلاّ في المعلوم لكن فرق بين كون المعنى متصفا بالمعلوميّة وبين كون المعلوميّة ملحوظا في الموضوع له فعلى الأول لا يجب الالتفات إلى وصف المعلوميّة في الاستعمال بخلافه على الثّاني والمدعى هو الثّاني وهو لا يثبت بالدليل المذكور وحينئذ فنقول لم يثبت تبادر الوحدة في الموضوع له إلاّ بالوجه الثّاني وهو مسلم ويثبت به أن الموضوع له هو ذات المعنى الّذي يجتمع مع إرادة الوحدة ومع إرادة الكثرة فلو اتصف اللّفظ أو المعنى بضد الوحدة لا يلزم محذور لأنّه لم يعتبر فيه الوحدة ولا الكثرة وهذا مراد المحقق الشيرواني حيث قال ما لفظه أراد بالوحدة أن يكون منفردا عن مشاركة المعنى الآخر له في كونه مرادا وأنت خبير بأن معنى اللّفظ هو ما يكون مدلولا بالدلالة اللّفظيّة ومتعلقا للحكم بحيث لو اتصف اللّفظ بضد ما أريد منه لم يلزم منه محذور وكذا لو اتصف به المعنى أو جزؤه فينبغي أن لا يضاد كون الوحدة مرادا من اللّفظ مشاركة معناه للمعنى الآخر في الاستعمال فيه ووجوب تجريده عن قيد الوحدة إنّما يلزم على تقدير المضادة والمنافاة فهذا أول دليل على أن الحق أن الوحدة والانفراد من عوارض الاستعمال انتهى والمراد بقوله بضد ما أريد منه بضد الوحدة الّتي أريدت منه في الاستعمال يعني لو اتصف بالاشتراك ولم يرد الوحدة لا يلزم محذور لأنّ المعنى لم يعتبر فيه الوحدة وإنما انتزع الوحدة من عدم اعتبار المشارك فلا ينافيه اعتباره في مورد آخر بخلاف ما إذا كان قيد الوحدة جزء للمعنى فإن إرادة المعنى حينئذ لا يجتمع مع إرادة الشّركة وحينئذ فإذا أريد الشّركة وجب تجريده عن قيد الوحدة فافهم وذهب الشّريف رحمه‌الله إلى أن المشترك وضع تارة بالوضع الشخصي لذات المعنى لا بشرط شيء وتارة بالوضع النّوعي للمعنى مع الوحدة وكلامه هذا يحتمل وجوها أحدها أن الواضع وضع الألفاظ أوّلا لذات المعنى ثم بدا له فنسخ ذلك الوضع وقال وضعت كل تلك الألفاظ للمعاني مع قيد الوحدة حتى يكون كالنقل والثّاني أن لا ينسخ الوضع الأوّل لكن يزيد عليه الوضع النّوعي للمعنى مع الوحدة حتى يكون اللّفظ مشتركا بين ذات المعنى وبين المعنى مع الوحدة والثالث أن يكون المراد بالوضع النّوعي إذن الواضع في كيفيّة الاستعمال بمعنى أنّه وضع الألفاظ لمعانيها ثم قال إني لا آذن في استعمالها إلاّ في المعنى المتصف بالوحدة من غير أن يكون الوحدة قيدا للمعنى والاحتمالان الأولان فاسدان أمّا الأول فلأنه موجب للسفه بالنسبة إلى الواضع مع أنّه لا قائل به وأمّا الثّاني فلأنّه حينئذ لا يمنع من جواز استعمال المشترك في

 

الأكثر من معنى لجوازه حينئذ في حقيقة بالنسبة إلى الوضع الشّخصي والشّريف أراد بإثبات الوضعين منع جواز الاستعمال وأمّا الثّالث فالقول به وإن كان صحيحا قد ذهب إليه الفحول لكن تسمية الإذن في كيفيّة الاستعمال وضعا نوعيا لا وجه له السّادسة اختلفوا في جواز استعمال المشترك في أكثر من المعنى في التّثنية والجمع كاختلافهم في المفرد وليس الخلاف في إرادة المعنيين من العلامة لأنها ليست مشتركة ومحل النّزاع هو استعمال المشترك فالنزاع في التّثنية والجمع أيضا إنّما هو في إرادة المعنيين أو المعاني من ملحوق العلامة فإن لفظ المشترك قد يكون ملحوقا وقد لا يكون والنّزاع جار في كلا الحالتين ومعنى النّزاع في ذلك مع الاتفاق على دلالة العلامتين على التعدد أنّه هل يشترط في التّثنية أن يكون المفرد شاملا لكلا المعنيين بأن يكون له معنى كلي يشمل كليهما أو لا بل يكفي كونه موضوعا لهما وبعبارة أخرى هل وضع العلامة للدلالة على فردين من معنى واحد أو تدل على المعنيين أيضا وهذا معنى قولهم يكفي في التّثنية اتحاد اللّفظ أولا ولكن لو لم يكن المفرد شاملا لهما بالتكرير لا بالوضع ولا معنى كما في التّغليب فهو مجاز اتفاقا فإن قلت ما المراد بقولهم اتحاد اللّفظين وما وجه مجازيّة التّغليب مع أن المفرد فيه شامل لهما فإن القمرين في تثنية الشّمس والقمر قد جعل فيه القمر أولا عبارة عن المسمى بالقمر ثم أدخل الشّمس تحت هذا الكلي ادعاء ولو أريد شمول معنى المفرد لهما بالوضع لزم كون الأداة في نحو الأسدين للرجلين الشّجاعين مجازا لأن المفرد لا يشملهما بالوضع قلت قد اتفقوا على وجوب اتفاق اللّفظين والخلاف إنّما هو في أن اتفاق اللّفظين هل يجب أن يكون ناشئا عن الاتحاد في المعنى الكلي أو لا بل يكفي محض الاتفاق اللّفظي لكن على الأوّل يجب أن يكون ذلك الكلي شاملا لهما حقيقة الادعاء فإن لم يكن الاتفاق اللّفظي ولا المعنوي بهذا المعنى كما في التّغليب كان مجازا فإن الشّمس ليس داخلا في المسمى بقمر واقعا وإن كان الاتفاق اللّفظي والمعنوي كلاهما كان حقيقة كأسدين للرجلين إذا أريد من الأسد الشّجاع فإن صدق الشجاع على الرّجلين واقعي لا ادعائي ولا ينافي حقيقيّة العلامة كون المفرد مجازا وإذا كان الاتفاق لفظيا فقط دون المعنوي فهو محل النّزاع في هذه المسألة وبما ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لما ذكره بعضهم من أنّ محل النّزاع في التّثنية والجمع هو إرادة المتعدد من جنس التّثنية والجمع كأن يراد من المعنيين العينان مرتين أو ثلاث مرات وكذا الجمع وحينئذ جعل ذلك محتملا لإرادة الفردين من كل معنى بأن يراد من العينين فردان من الذّهب وفردان من الفضة وهكذا حتى يكون إرادة المعنيين من الملحوق ومحتملا

 

لإرادة تعدد المعنيين كأن يراد منه أربعة معان أو أزيد حتى يكون إرادة المعنيين من كل من الملحوق واللاحق وجعل ذلك منوطا باشتراط الاتحاد المعنوي في التّثنية وعدمه فعلى الاشتراط يراد به الفردان من كل من المعاني وعلى عدمه يجوز إرادة أربعة معان أيضا بناء على القول بالجواز ووجه عدم صحة هذا الكلام هو ما قلنا إن محل النزاع هو استعمال المشترك والعلامة ليست مشتركة فافهم لكن يشكل ما ذكرنا بأن محل النّزاع إنّما هو في إرادة الأكثر من المعنى بأن يكون كل واحد من المعنيين مرادا بالاستقلال ولا يجري هذا في التّثنية والجمع إذ لو أريد من العينين الذّهب والفضة لم يكن كل منهما مستقلا بالإرادة فما ذكره البعض من أن محل النزاع هو إرادة المتعدد من جنس التّثنية والجمع أوفق بمحل النّزاع لكن بناء على الوجه الأول أعني أن يكون المراد بالتثنية فردان من كل معنى حتى يكون كل معنى من المعاني ملحوظا بالاستقلال وإن لم يكن كل فرد من فرديه ملحوظا بالاستقلال بخلاف الوجه الثاني أعني أن يكون المراد من المعنيين العين المكررة مرتين ويراد من كل منهما المعنيان حتى يكون المراد من العينين الذّهب والفضة والباصرة والنّابعة مثلا فجعل الأوّلان بمنزلة فرد واحد والأخيران كذلك فاستعمل التّثنية فيها لأن كل واحد من تلك المعاني ليس حينئذ ملحوظا بالاستقلال بل الملحوظ بالاستقلال هو اثنان اثنان والاثنان ليس معنى المشترك حتى يكفي استقلاله في الدّخول في محل النّزاع هذا ويشكل أيضا دخول التّثنية والجمع في محل النّزاع بوجه آخر وذلك لما ذكرنا أن محل النزاع هو إرادة كل واحد من المعنيين بقصد مستقل ولا يراد المجموع من حيث المجموع فإنه غير جائز لعدم العلاقة وإرادة المعنيين والمعاني في التثنية والجمع إنّما هو من حيث المجموع وإن فرض الاستقلال في الحكم إذ لا تلازم بين الاستقلال في الحكم والاستقلال في الإرادة ويمكن الجواب على كلا الإشكالين بأن يقال إن إرادة المتعدد من التّثنية والجمع ليس بطريق المجموع من حيث المجموع بل هو كإرادة المتعدد من كلمة جميع والفرق بينهما أن الجميع معناه الأفراد بأسرها بملاحظة واحدة من غير ملاحظة الهيئة الانضماميّة والمجموع معناه الأفراد مع ملاحظة الهيئة الانضماميّة ومعنى التّثنية هو الأول فمعنى النّزاع فيه أنّه هل يجوز إرادة المعنيين من التّثنية بأن يكون المراد جميعهما بإرادة واحدة والمراد بقولهم إن محل النّزاع في المفرد هو إرادة كل من المعنيين استقلالا أن يكون كل منهما ملحوظا بدون ملاحظة الانضمام قبالا لإرادة المجموع من حيث المجموع لا أن يكون كل منهما مرادا بإرادة مستقلة وحينئذ فيتحد محل النّزاع في التثنية والمفرد وهو

 

أنّه هل يجوز إرادة المعنيين من اللّفظ بدون ملاحظة الانضمام ولو بإرادة واحدة أو لا هذا ويرد عليه أن اعتبار الانضمام بين المعنيين ليس معناه إلاّ إرادتهما بقصد واحد وإلاّ فهما ليسا كمركب خارجي ذي مادة وهيئة كالسّرير مثلا وليس المراد الانضمام في الحكم لما عرفت أنّه خارج عن محل الكلام إذ الكلام في الإرادة وحينئذ فنقول الاستقلال في الإرادة معناه إرادته منفردا والانضمام معناه إرادة الشيئين بإرادة واحدة ولا يظهر الفرق بين الجميع والمجموع في الإرادة وإن ظهر الفرق بحسب الاستقلال في الحكم وعدمه وهو ناش من فهم العرف والحاصل أن ما ذكروا من أن إرادة المعنيين من حيث المجموع من المفرد غلط معناه إرادة المعنيين بقصد واحد فليس ذلك محل النّزاع بل محل النزاع هو إرادة كل منهما بطريق الاستقلال وبالجملة لا يمكن تطبيق محل النزاع على المفرد والتّثنية والجمع إلاّ بأحد وجهين أحدهما أن يجعل النزاع في المفرد في إرادة المعنيين بإرادة واحدة وقد عرفت أنهم حكموا بكونه غلطا والثّاني أن يجعل محل النّزاع في التّثنية والجمع في إرادة كل واحد من المعنيين بإرادة مستقلة ولم يقل بجواز ذلك أحد فالأولى أن يقال إن محل النّزاع في المفرد غيره في التّثنية والجميع وذلك لأن النّزاع في المفرد إنّما هو في جواز إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة وفي التّثنية والجمع في أنّه هل يكفي الاتحاد في اللّفظ أو يجب الاتحاد في المعنى وعلم مما ذكرنا ضمنا لزوم الاتحاد المعنوي وذلك لما علمت أن إرادة المتعدد من التّثنية والجمع إرادة واحدة وقد ذكروا أن إرادة المعنيين من المفرد بإرادة واحدة غلط فكيف جوز هذا الغلط في التثنية والجمع فإن علامتهما إنّما وضعت لتكون قرينة إرادة المتعدد على وجه يكون جائزا وأمّا ما كان غلطا فلا يجوزه وضع العلامتين فإرادة الفرسين من الزّيدين غلط قطعا لعدم جواز استعمال زيد في الفرس ولا يجوزه وضع العلامة والمفروض أن الموضوع في التّثنية والجمع هو العلامة لا المجموع المركب وحينئذ فيجب أن يقصد من المفرد معنى كلي حقيقة كما في الرّجلين أو مجازا كما في زيدين حيث أريد من مفرده المسمى وتجعل العلامة قرينة على أن الكلي مراد في ضمن فردين أو أفراد من دون أن يلزم مجاز في إرادة الفرد من الكلي إذ الخصوصيّة مقصودة لا من لفظ المفرد بل هي مرادة من الخارج والقرينة الدّالة عليها هي العلامة كالتنوين في رجل وداخل في داخل السّوق ومما يشهد على اعتبار مفهوم المسمى في تثنية الأعلام وجمعها معاملتهم معهما معاملة النّكرات فلا يقال زيدان قائمان بل يقال للزيدان ثم إن الاكتفاء بالاتحاد اللّفظي لا يجامع القول باعتبار الوحدة في معنى المفرد إذ الوحدة تزول بإرادة المعنيين في التّثنية فينبغي أن يكون وضع العلامتين منافيا مع وضع ملحوقها مع أنّه ليس كذلك قطعا فلا بد لمعتبر الوحدة في المفرد أن يشترط الاتحاد المعنوي في التثنية والجمع

 

لئلا يلزم إلغاء قيد الوحدة لأن المفرد حينئذ يؤول بالمسمى وهو كلي لا ينافي وضعه إرادة الفردين منه بسبب القرينة فافهم ثم لا يخفى أن ما جعل محلا للنزاع في المفرد غير معقول أعني إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة في استعمال واحد وذلك لأن إرادة المعنى مستقلا معناه توجه النّفس إليه بانفراده وذكر اللّفظ لإظهاره وحينئذ فإذا توجه إلى أحد المعنيين وجعل ذكر اللّفظ لإفادته كيف يعقل إرادة الآخر أيضا إذ لم يستعمل لفظا آخر حتى يريد منه المعنى الآخر بإرادة منفردة وبالجملة النّفس لا تتوجه توجهين في زمان واحد فعند ذكر اللّفظ ليست متوجهة إلاّ بتوجه واحد والمفروض أنّ التّوجه الواحد ليس متعلقا إلاّ بأحدهما فيكون هو المراد باللّفظ ويحتاج إظهار التّوجه الآخر إلى لفظ آخر فتأمل السّابعة إذا شك في المركب أنّه موضوع بوضع مغاير لأوضاع أجزائه بحيث يوجب إرادة معنى مغاير لمعانيها الثّابتة عند الأفراد فالأصل عدمه إلاّ إذا قام الدّليل على الوضع الجديد فمقتضى الأصل في المركب أن لا يكون معنى أجزائه إلاّ ما كان قبل التّركيب غاية الأمر أنّ الهيئة موضوعة لربط بعضها ببعض ولذا قيل إنّ الجمع المحلى إنّما يفيد استغراق الجماعات لا الأفراد لأن الملحوق موضوع الكلي ما فوق الاثنين واللام موضوعة للدلالة على استغراق مدخولها فتدل على استغراق أفراد ما فوق الاثنين وكذا إرادة النفي موضوعة لنفي المعنى المراد من مدخولها فإن أريد من مدخولها معنى واحد كان النّفي دالا على انتفائه غاية الأمر أن لازم النّفي الوارد على الطّبيعة اللابشرط شموله لجميع أفرادها والحاصل أنّه لا فرق بين المثبت والمنفي إلاّ في النّفي والإثبات ولازم النفي إفادة الشّمول بالنسبة إلى جميع الأفراد بخلاف الإثبات وعلى هذا فلا يتفاوت حال المشترك في سياق الإثبات والنّفي فإذا لم يخبر إرادة المتعدد من المثبت لم يجز في المنفي أيضا فالنفي إنّما يدل على انتفاء المعنى الواحد بجميع أفراده وأمّا إرادة نفي جميع المعاني فلا يجوز فما قيل من أن إرادة المتعدد لا يجوز في المثبت ويجوز في المنفي لدلالة النفي على الاستغراق فاسد وبالجملة يجب اتحاد المثبت والمنفي من جميع الوجوه عدا النّفي والإثبات وأمّا الاختلاف بالشمول وعدمه فإنّما هو من لوازم الاختلاف في النّفي والإثبات كما ذكروا أنّه يجب اتحاد المنطوق والمفهوم من جميع الوجوه عدا النّفي والإثبات ومع ذلك قد يختلفان بالعموم والخصوص فإنه إذا قيل إن جاء زيد وجب عليك إكرامه كان المراد بالوجوب العيني مع أنّ مفهومه نفي الوجوب مطلقا العيني والتّخييري وهذا ليس اختلافا يضر بما ذكروه من اشتراط عدم الاختلاف لأنّه إنّما نشأ من الاختلاف في النفي والإثبات ويؤيد عدم الفرق في المشترك بين المثبت والمنفي أنّه لو كان الاستغراق مجوزا لإرادة المتعدد لجاز في المثبت عند إدخال إرادة العموم عليه كما إذا قال كل عين عندي مع أن القائل لا يجوزه

 

فافهم إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول قد تحقق مما سطر أنّ النّزاع في المفرد غير معقول فإن إرادة المعنيين بإرادة واحدة قد نصوا على فساده وأمّا بإرادتين فقد ذكرنا أنّه غير متصور نعم لو كان متصورا لكان على وجه الحقيقة لما عرفت من عدم اعتبار قيد الوحدة لكنه مخالف لقانون الاستعمال فلا يجوز بهذا الوجه أيضا ومما يؤيد عدم الجواز أنّه لو جاز ذلك لاستغنى عن وضع التّثنية والجمع في المشترك خصوصا على قول من يجعل المشترك المجرد عن القرينة ظاهرا في الجميع وكذا الكلام في التّثنية والجمع لما عرفت أن وضعهما ليس بحيث يخالف وضع المفرد فإذا لم يتصور ذلك في المفرد لم يتصور فيهما أيضا وهذا في أسماء الأجناس ظاهر وأمّا في الأعلام فلأنّه يلزم فيها ارتكاب تجوز لا محالة لكن التّجوز بإرادة مفهوم المسمى من المفرد قطعي الجواز وإرادة المعنيين لم يعلم جوازه ورخصة الواضع فيه وكيفيّة الاستعمال توقيفيّة وقد عرفت أنّه لا يجوز بطريق الحقيقة إذ ما يتعقل هو إرادة المعنيين بإرادة واحدة وهو غير الموضوع له وليس بينه وبين الموضوع له علاقة مصححة كما صرحوا به في المفرد فافهم وقد عرفت أنّه لا فرق بين المثبت والمنفي ومما يؤيد عدم الجواز في المفرد الاتفاق على عدم جواز الإشارة بهذا إلى شخصين ولو جاز ذلك في المشترك لجاز هذا أيضا وإلاّ فما وجه الفرق وبالجملة الحق عدم الجواز مطلقا بقي أمور لا بأس بالإشارة إليها الأوّل اختلفوا في أن المشترك عند تجرده عن القرينة هل هو مجمل أو ظاهر في جميع المعاني وبما ذكرنا من عدم جواز استعماله في المتعدد يعلم أنّه مجمل ولا يجوز حمله على جميع المعاني إلاّ بإرادة مفهوم المسمى وهو مجاز لا يحمل عليه بدون القرينة وإن كان هو أيضا من جملة المعاني فلا يحمل عليه أيضا بدون القرينة المعيّنة لكن مع القرينة يكون حقيقة وأمّا بناء على القول بجواز استعماله في المتعدد فلا يحمل أيضا على الجميع لأنّ الشّائع استعماله في الواحد دون المتعدد احتجوا بوجوه منها قوله تعالى إِنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأَرْضِ إلى آخره وقوله تعالى إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ إلى آخره فإنّ السّجود من النّاس وضع الجبهة على الأرض ومن غيرهم تبعيّته لإرادة الله تعالى والصّلاة من الله الرّحمة ومن غيره طلبها وفيه بعد تسليم أن ليس المراد القدر المشترك وأنّه لا حذف في الآيتين أن غاية ما يثبت بهما الاستعمال في المتعدد بقرينة والمدعى هو الظّهور في الجميع عند عدم القرينة ومنها أنّ الاحتياط يقتضي حمله على الجميع لاحتمال كونه مرادا وفيه أن غاية ذلك أن يجب الإتيان بالجميع لاحتمال المطلوبيّة ولا يثبت ظهور الإرادة ومنها دليل الحكمة وهو أنّه إن لم يحمل على شيء لزم اللّغو في كلام الحكيم وإن حمل على البعض المعين كان ترجيحا بلا مرجح وإن حمل على البعض الغير المعين لزم الإجمال في كلام الحكيم فيجب الحمل على الجميع نظير ما استدلوا به

 

في دلالة المفرد المحلى على العموم مضافا إلى أن الحمل على الجميع مؤيد بأصالة الحقيقة لأنّ كل واحد من المعاني موضوع له ولم يقم قرينة صارفة عنه فيجب إرادته وفيه أنّه لا بأس بتحقق الإجمال في كلام الحكيم إذا كان له فائدة ونفيه في المفرد المعرف إنّما هو لغلبة البيان في كلام الشّارع وهي وإن أمكن ادعاؤها في المقام لكن نقول إنّها معارضة بغلبة استعمال المشترك في معنى واحد والعرف يساعد في مثل المقام على الإجمال وهو متبع في مثل ذلك وأصالة الحقيقة لا تقتضي إلاّ إرادة الحقيقة وأمّا جميع الحقائق فلا يساعده العرف وهو المناط في حجيّة الأصل على ما سبق تحقيقه الثّاني من جملة القرائن المعيّنة لإرادة أحد المعاني غلبة استعماله فيه فإنها موجبة للظّنّ بإرادته والظّنّ معتبر في المقام وذلك أعم من المشتركات في الأجناس والأعلام المذكورة في سند الرّواية وفي كتب الرّجال لكن يشترط في حمله على المعنى الغالب أمران العلم بتحقق الغلبة في زمان التّكلّم والعلم بأن المتكلّم عالم بالغلبة حتى يمكن له الاعتماد عليها وإذا شك في كل منهما فالأصل عدمه وهو ظاهر الثّالث قيل يظهر الثّمرة بين القول بجواز استعمال المشترك في المتعدد وعدمه في قوله تعالى وَأُمُّهاتُ نِسائِكُم وَرَبائِبُكم اللاّتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُم اللاّتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فإن كلمة من إن تعلقت بربائبكم كانت نشوية وابتدائيّة وإن تعلقت بنسائكم كانت بيانيّة ولا يقيد تحريم أمهات النّساء بصورة الدّخول بالنّساء وعلى الثّاني تقيد لكن لا يقيد تحريم الرّبائب بصورة الدّخول بأمهاتهن وإن علقت بالجملتين فقد استعلمت في المعنيين وقيد التّحريم في الموضعين وحينئذ فعلى القول بجواز الاستعمال في المتعدد يحمل كلمة من على معنييها ويقيد الجملتان وعلى القول بعدم الجواز يجب حملها على أحدهما والأولى أن يقرر الثّمرة بوجه آخر بأن يقال القيد الواقع عقيب الجمل إن كان ظاهرا في التّعلق بالجميع ظهر الثّمرة بين القولين في الآية إذ على القول بالجواز يجب الحمل على الجميع وتقييد الحرمة في الموضعين بالدّخول وعلى القول بعدمه فلا يجوز ذلك لأن القيد وإن كان ظاهرا إلاّ أنّ المانع موجود فيدور الأمر بين حمله على الجميع بإرادة القدر المشترك مجازا وبين تعليقه بالأخير فقط والقدر المتيقن من التّقييد هو الأخيرة وفي غيره مشكوك فيرجع إلى الأصل وإن كان القيد ظاهرا في التّعلق بالأخيرة فلا يظهر ثمرة بين القولين إذ على القول بالجواز أيضا يجب تعليقه بالأخيرة لظهور القيد هذا وقالوا ويظهر الثّمرة بين القولين فيما إذا وردت رواية ظاهرة في إرادة المتعدد من المشترك أو رواية كان ظاهرها غير مراد وكان تأويلها منحصرا في حملها على إرادة المتعدد من المشترك فعلى القول بالجواز لا إشكال وعلى القول بالعدم ففيه تفصيل لأنّ تلك الرّواية إن كانت

 

مقطوعة الصّدور وحصل القطع بإرادة المتعدد منه كانت دليلا على الجواز ولا تجامع القول بالعدم وكذا إن كان تأويلها منحصرا في ذلك وإن كانت ظاهرة في ذلك فإن كان عدم الجواز مستندا إلى الأصل التّوقيفيّة الاستعمال فحينئذ تكون الرّواية دليلا فيلغو الأصل وإن كان مستندا إلى الدّليل وجب التّأويل في تلك الرّواية وإن كانت مظنونة الصّدور وكانت ظاهرة في ذلك فعلى الاستناد إلى الأصل تكون ظهور الرّواية دليلا فيلغو الأصل وعلى الاستناد إلى الدّليل يجب التّأويل وإن كان ظاهرها غير مراد وانحصر تأويلها فيما يوجب الاستعمال في المتعدد فعلى الاستناد إلى الدّليل لا إشكال في طرحها وأمّا على الاستناد إلى الأصل فهل يوجب الرّواية إلغاء الأصل الحق عدمه لأنّ الرّواية الغير المقطوعة إذا كان لها معارض أقوى جاز طرحها وأمّا التّأويل فيها فلا وجوب فيه لأنّ وجود المعارض الأقوى كاشف عن فساد سند تلك الرّواية وإنّما التّأويل تبرع لئلا يطرح ما نسب إلى المعصوم وليس التّأويل فيها واجبا حتى يكون دليلا على جواز الاستعمال في المتعدد بحيث يلزم إلغاء الأصل فتأمل

تذنيب

ربما يتوهم التّناقض في كلام الفاضل القمي رحمه‌الله حيث ادعى أولا أنّ التّثنية حقيقة في الفردين من ماهيّة واحدة لا في المعنيين من لفظ للتّبادر ثم ذكر ثانيا أنّه لا يجوز الاستعمال في المعنيين في التّثنية مجازا لأنّ هذا التّجوز لا يرجع إلى وضع العلامة لأنّها موضوعة للإشارة إلى متعدد أيا ما كان إنّما التّجوز يرجع إلى المفرد حيث أريد منه المعنيان ولا دليل على جواز هذا النّوع من التّجوز فادعى أولا التّبادر في الفردين من ماهيّة واحدة وذكر ثانيا أنها موضوعة لمطلق الاثنين وهذا تناقض بين والجواب أن المراد من ادعاء التّبادر إنّما هو تبادر الفردين بالنّظر إلى مجموع المفرد والعلامة فإنّ المفرد موضوع للمعنى في حال الوحدة بمذهبه والعلامة موضوعة للإشارة إلى المتعدد فيكون المجموع دالا على الفردين من معنى واحد وما ذكره ثانيا إنّما هو بالنّظر إلى العلامة فقط فلا تناقض فافهم

أصل اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في معنييه الحقيقي والمجازي

على نحو اختلافهم في المسألة السّابقة فيكون محل النّزاع هو إرادتهما مستقلا بإرادتين لا إرادتهما في ضمن القدر المشترك ويعبر عنه بعموم المجاز ولا إرادة المجموع من حيث المجموع على ما سبق فذهب جماعة إلى الجواز وأخرى إلى المنع واختلف المجوزون فذهب بعضهم إلى أنّه مجاز وآخر إلى أنّه حقيقة ومجاز بالاعتبارين وتحقيق المطلب يستدعي رسم مقدمتين الأولى قالوا المجاز هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له مع وجود القرينة المعاندة لإرادة الموضوع له والكناية هي الاستعمال في غير ما وضع له مع جواز إرادة الموضوع له واختلفوا في أن المراد بالقرينة المعاندة الّتي يشترط تحققها في المجاز

 

ماذا فالمشهور على أن المراد بها أن تكون معاندة لإرادة الحقيقة مطلقا ولذا استدل به على عدم جواز الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي ويظهر من بعضهم في رد الاستدلال المذكور أن المراد بها أن تكون معاندة لإرادة الحقيقة وحدها فلو أريد الحقيقة والمجاز معا لم يكن القرينة مانعة وجعل الشّاهد على ذلك جواز استعمال الجزء في الكل كالرّقبة في الإنسان مع أن المعنى الحقيقي أيضا مراد مع المجازي لاشتمال الإنسان على القربة أيضا ويظهر من بعض المحققين في رد الاستدلال المذكور أيضا أن المراد بها أن تكون معاندة لإرادة الحقيقة بالإرادة المتعلقة بالمجاز بأن يرادا معا بإرادة واحدة ولا تمنع من إرادتهما بإرادتين مستقلتين كما هو محل النّزاع ولكن لا يخفى ما في الوجهين الآخرين من الفساد لأنّ ما ذكراه تقييد لكلمات القوم بلا دليل واستشهاد الأوّل بمثل الرّقبة واضح الفساد إذ لم تستعمل إلاّ في المعنى المجازي وهو الكل وليس المراد بها المعنى الحقيقي أصلا نعم تدل عليه بدلالة الإشارة الغير المقصودة وذلك لا دخل له بالمقام مضافا إلى أنه يرد عليه أنّه لو كان مرادهم ما ذكره هذا لم يكن للفرق بذلك بين المجاز والكناية وجه لوجود القرينة المعاندة بهذا المعنى في أكثر الكنايات فإنّ القرينة المفيدة لإرادة اللازم هي بعينها مانعة عن إرادة الملزوم منفردا فلا وجه لتخصيص ذلك بالمجاز على ما صرحوا به ثم إنّه قد ذكر بعض المدققين أن النّزاع في المقام لفظي لأنّ المجاز باصطلاح الأصوليّين أعم من الكناية لأنه عبارة عن الاستعمال في غير ما وضع له سواء كان هناك قرينة معاندة أولا وباصطلاح البيانيين قسيم للكناية لاشتراط وجود القرينة المعاندة فيه دونها وحينئذ فمن قال بعدم جواز الاستعمال في الحقيقي والمجازي نظر إلى المجاز باصطلاح البيانيين ومن قال بالجواز أراد بالمجازي الكنائي لإطلاق المجاز عليه عند الأصوليّين ولا ريب أن عدم الجواز بالنّسبة إلى الحقيقي والمجاز البيانيين وكذا الجواز بالنّسبة إلى الحقيقي والكنائي وإنّما نشأ النّزاع حيث أطلقوا المجاز على الكناية فتوهم المانع أن المراد هو المجاز البياني فقال إنه لاشتراط القرينة المعاندة وفيه أمّا في المعنى فلا نزاع بينهما أقول لا بد من بيان الفرق بين الحقيقة والمجاز والكناية ليظهر الحال فنقول الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له بحيث يكون هو المراد استقلالا وهو المستعمل فيه والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له بحيث يكون هو المراد والمستعمل فيه والكناية هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له لكن لينتقل إلى غير الموضوع له فالمراد مستقلا هو غير الموضوع له لكن اللّفظ قد استعمل فيما وضع له وربما يكون هو أيضا مرادا لكن لا بد من ملاحظة كونه واسطة للانتقال أيضا وبهذا علم أن طريقة الاستعمال في كل منها مغاير للآخر

 

ثم إن كلا من المجاز والكناية محتاج إلى نصب قرينة دالة على إرادة غير الموضوع له لكن فرق بين القرينتين من وجهين أحدهما أن القرينة في المجاز إنّما هي لإرادة غير ما وضع له والاستعمال فيه أيضا بخلاف الكناية فإنّ القرينة فيها إنّما هي لمحض إرادة غير ما وضع له لا للاستعمال فيه ولما كان عدم جواز الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي مجردا عندهم قالوا إنّ القرينة في المجاز معاندة لإرادة الحقيقة فإنّ المجاز قد استعمل في غير ما وضع له فلا يجوز استعمال فيما وضع له أيضا فيكون القرينة فيه معاندة لإرادة الموضوع له لدلالتها على الاستعمال في غير الموضوع له ولا يجوز الاستعمال في المعنيين بخلاف الكناية فإنّ القرينة فيها إنّما تدل على إرادة غير الموضوع له لا على الاستعمال فيه فلهذا قالوا إنّها غير معاندة وبالجملة قولهم إن القرينة في المجاز معاندة لإرادة الحقيقة إنّما هو لما تحقق عندهم من عدم جواز الاستعمال في المعنيين فالتّمسك لعدم الجواز بكون القرينة معاندة كالدّور والثّاني أنّ القرينة في المجاز غالبا موجبة لكون اللّفظ نصا في غير الموضوع له بحيث لو أراد المتكلّم إنكاره لم يمكنه بخلاف الكناية ولهذا سمي كناية لبنائه على التّستر وإخفاء الأمر وبالجملة الكناية غير المجاز قطعا وليست مستعملة إلا في المعنى الحقيقي وبما ذكرنا ظهر أن الاستدلال لعدم الجواز باحتياج المجاز إلى القرينة المعاندة فاسد وكذا الاستدلال للجواز بالكناية وكذا القول بأن النّزاع لفظي ونظر المجوز إلى الكناية لما عرفت أن الكناية ليس فيها جمع بين المعنيين أصلا بل النّزاع معنوي وهو أنه هل يجوز استعمال اللّفظ فيما وضع له وفي غير ما وضع له أو لا وأمّا الكناية فلا دخل لها بمحل الكلام أصلا فافهم الثّانية ربما يتوهم أن الاستعمال في المعنيين الحقيقي والمجازي موجود في كلماتهم ومثلوا له بأمور منها الكناية وقد مر فساده ومنها التّضمين كقوله تعالى فَليَحْذَر الَّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ فإن يخالفون قد استعمل في معناه الحقيقي وفي معنى يعرضون وهو غير الموضوع له ومنها التّغليب فإنّ المراد من ملحوق العلامة القمر وهو الموضوع له والشّمس وهو غيره ومنها الأواني المعلقة لشيء على شيء كما لو قال إن جامعت في نهار رمضان فكفّر وقد قيل إن الأصل في مثل ذلك عدم تكرر الجزاء بتكرر السّبب وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأنّ الكفارة مثلا بالنّسبة إلى السّبب الأوّل طبيعتها فإن كان المراد تكرارها بسبب تكرار الجماع وجب أن يكون المراد بها بالنّسبة إلى السّبب الثّاني غير ما حصل أوّلا وهو الفرد الآخر غير الفرد الّذي أوجده أوّلا فيكون المراد بها بالنّسبة إلى السّبب الأوّل الطّبيعة وهي الموضوع له وبالنّسبة إلى الثّاني الفرد وهو غير الموضوع له ومنها الأوامر المتعلقة بالشّخص المختلف حاله بالقدرة والعجز فقوله صل يراد به الصّلاة قائما بالنّسبة إلى القادر على القيام

 

والصّلاة المطلقة اللابشرط بالنّسبة إلى العاجز ومنها الاستخدام حيث يراد من المرجع عند ذكره المعنى الحقيقي وعند ذكر الضّمير المعنى المجازي ومنها القرآن بالنّسبة إلى ظهره وبطنه والتّحقيق أن شيئا من ذلك ليس مقطوعا به بحيث يستدل به على الجواز أمّا التّضمين فلوجود احتمالات عديدة فيه الأوّل أن يكون من قبيل الجمع بين المعنيين والثّاني أن يكون معنى الفعل الّذي يراد تضمينه محذوفا في الكلام والثّالث أن يكون من قبيل الكناية حيث أطلق المخالفة لينتقل إلى لازمها الّذي هو الإعراض وفيه بعد لأنّ الانتقال في الكناية إنّما هو بعد تمام الكلام وفي الآية لا يتم الكلام بذكر يخالفون حتى ينتقل إلى لازمه ويوجب صحة تعلق الجار به بل الانتقال فيها لو كان فإنما هو بعد ذكر الجار وهو لا يوجب تصحيح تعلق الجار كما لا يخفى والرّابع وهو التّحقيق ما سبق إليه الإشارة من أن المخالفة ملازمة في الخارج مع عنوان آخر وهو الإعراض فجاز إجراء أحكام الإعراض عليه نظرا إلى تلازم العنوانين فلم يستعمل اللّفظ إلا فيما وضع له وأمّا التّغليب فلما عرفت أن المفرد قد استعمل في مفهوم المسمى مجازا وأشير بالنّون إلى فردين منه أحدهما فرده الحقيقي والثّاني فرده الادعائي وأمّا الأوامر فلأن المراد فيها هو الطّبيعة وأمّا تكررها بتكرر السّبب فهو غير مراد من اللّفظ بل هو حكم العقل بأن السّبب إذا تكرر تكرر المسبب مضافا إلى أنّ ذلك وارد على القول بأصالة التّداخل أيضا لوجود الموارد الّتي قد أجمع فيها على عدم التّداخل والحد ما ذكرنا وكذا الخطابات المتعلقة بالمكلف فإنّ المراد بها الطّبيعة غاية الأمر تقيدها بقيد بحسب بعض الحالات وهو لا يوجب إرادة المقيد من اللّفظ حتى يكون مجازا وأمّا الاستخدام فلما عرفت مفصلا أن المراد بالمرجع ليس إلا معنى واحد والضّمير إنّما يرجع إلى شيء تقدم ذكره التزاما لدلالة المرجع عليه في الجملة وهذا كاف في صدق تقدم مرجع الضّمير وأمّا البطون فلعدم استعمال اللّفظ فيها بل هي إمّا من قبيل الكناية أو من قبيل إفهام المطلب بذكر أشباهه ونظائره فافهم إذا تمهد هذا فنقول استدل المانعون بتوقيفيّة الاستعمال ولم يثبت جواز ذلك في لسانهم وبأن المجاز ملزوم للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة والثّاني فاسد لما أشرنا إليه أن القرينة في المجاز إنّما هي ذكر شيء من لوازم المعنى المجازي ليدل على إرادته وهذا لا يوجب عدم جواز إرادة الحقيقة لكن لما ثبت عندهم عدم الجواز قالوا إنّه إذا قامت قرينة على المجاز لم يمكن إرادة الحقيقة فكان القرينة معاندة لإرادة الحقيقة وبالجملة كون قرينة المجاز معاندة فرع عدم جواز الاستعمال فلا يمكن الاستدلال به على عدم الجواز وفصل صاحب المعالم فقال إن أريد الجمع بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي بتمامه فالمانع مستظهر لوجهين أحدهما أن الوحدة معتبرة في الموضوع له فلا يمكن إرادة غيره معه والثّاني

 

أنّ المجاز ملزوم للقرينة المعاندة لإرادة الحقيقة وإن أريد الجمع بين المعنى المجازي وذات المعنى الحقيقي فنقول إنّه جائز مجازا لإلغاء قيد الوحدة فيكون مجازا فالقرينة اللازمة للمجاز لا تعانده هذا حاصل كلامه وهو بإطلاقه يشمل التّثنية والجمع أيضا ويرد عليه أوّلا ما عرفت من عدم اعتبار الوحدة وثانيا أن مرادهم بالقرينة المعاندة أن تكون معاندة لإرادة ذات المعنى الحقيقي لا لإرادة الحقيقة وحدها وإلا لم يكن بذلك فرق بين المجاز في الكناية لأن القرينة في الكناية معاندة أيضا لإرادة الحقيقة وحدها وبالجملة ما ذكره من لزوم المجاز للقرينة المعاندة مأخوذ من كلمات البيانيّين وظاهر كلامه تسليم ما ذكروه وهم إنّما يذكرون ذلك في مقام الفرق بين المجاز والكناية وهو لا يمكن إلا بأن يراد أن القرينة في المجاز معاندة لإرادة الموضوع له مطلقا بخلاف الكناية وحينئذ فمقتضى ذلك عدم جواز إرادة الحقيقة ولو مع إلغاء الوحدة عند إرادة المجاز وثالثا أن إطلاق كلامه يدل على الجواز مجازا بالنّسبة إلى التّثنية والجمع مع أنّه غير مناسب لمذهبه لأنّه كما يظهر من كلامه في المشترك حيث جوز استعماله في المعنيين في التّثنية والجمع حقيقة أنّه قائل بعدم اعتبار الوحدة في الموضوع له بالنّسبة إلى ملحوق العلامة وإلا لم يكن حقيقة وحينئذ فيكون مذهبه أن الملحوق موضوع للمعنى اللابشرط وعلى هذا فلا يوجب إرادة المجاز معه إلغاء الوحدة حتى يكون مجازا أو لا تعانده القرينة بل هو باق على حقيقته فتعانده القرينة وحينئذ فلا بد أن لا يجوزه في التّثنية والجمع أصلا وربما اعتذر عن ذلك بأن إطلاق كلامه ناظر إلى المفرد لأنّه الّذي يجري فيه التّرديد المذكور دون التّثنية والجمع لعدم احتمال إرادة المعنى مع الوحدة فيهما لكن مذهبه في التّثنية والجمع هو الجواز مجازا لأنّه قال باعتبار الوحدة في الموضوع له للمفرد وقال بجواز استعمال تثنية المشترك وجمعه في المعنيين حقيقة ومقتضى الجمع بين الكلامين إمّا أن يقال إنّه قائل بأنّ المفرد حين تجرده عن العلامة موضوع للمعنى مع الوحدة وعند اللحوق موضوع للمعنى لا بشرط حتى يكون إرادة المعنيين منه في المشترك حقيقة أو يقال إنّه قائل بأن التّثنية والجمع كل منهما موضوع بوضع مستقل لإرادة المعنيين الحقيقيّين أو المعاني كذلك وحمل كلامه على الأوّل بعيد جدا بأن يلتزم تعدد الوضع بالنّسبة إلى المفرد فيجب حمله على الثّاني وحينئذ فيتم ما ذكر في التّثنية والجمع بالنّسبة إلى المعنى الحقيقي والمجازي لما عرفت أنهما حينئذ موضوعان لإرادة المعنيين الحقيقيّين أو المعاني كذلك فاستعمالهما في الحقيقي والمجازي استعمال في غير الموضوع له فيكون مجازا أقول ويمكن الجمع بين الكلامين بوجه آخر وهو أن يقال إن المفرد حين تجرده عن العلامة موضوع للمعنى مع الوحدة وحين اللحوق موضوع للمعنى الحقيقي بشرط انضمامه لمعنى حقيقي آخر ويكون العلامة قرينة على إرادة هذا المعنى وحينئذ فلو أريد المعنيان الحقيقيان من التّثنية كان حقيقة كما في المشترك وإن

 

أريد المعنى الحقيقي مع المجازي كان كل منهما مجازا لعدم وجود الشّرط وهو الانضمام بالمعنى الحقيقي الآخر فيكون حينئذ مستعملا في مجازين كما في المفرد ولا يبعد أن يكون مذهب صاحب المعالم في وضع التّثنية والجمع ما ذكر واستدل المجوز مجازا على كونه مجازا بأنّه قد دخل في المستعمل فيه ما هو خارج عن الموضوع له فيكون مجازا وأورد عليه بأنّه إن أريد بدخول المعنى المجازي في المستعمل فيه دخوله فيه كدخول الأجزاء في الكل بأن يكون المراد مجموع المعنيين من حيث المجموع أو كدخول الأفراد في الكلي بأن يكون المراد معنى عام يشمل المعنيين ففيه أن هذا خارج عن محل النّزاع لما عرفت أن النّزاع إنّما هو في إرادة كل من المعنيين بإرادة مستقلة وإن أريد بدخوله فيه أن المراد والمستعمل فيه شيئان فيكون كل منهما داخلا في مفهوم المستعمل فيه وإن كان مستقلا في الإرادة ويكون ذلك مجازا لأنّ الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له فقط فالوحدة معتبرة في الحقيقة وإن لم تكن معتبرة في الوضع ففيه أن الوحدة إن اعتبرت في الحقيقة اعتبرت في المجاز أيضا وإلا لزم التّفكيك بينهما وحينئذ فيكون هذا الاستعمال خارجا عن الحقيقة والمجاز وإن لم تعتبر الوحدة أصلا كما هو الحق لعدم دلالة ما ذكروه في التّعريف على اعتبارها يكون الاستعمال المذكور على فرض جوازه حقيقة ومجازا لا يقال إن الاستعمال واحد ويلزم كونه حقيقة ومجازا بالنّسبة إلى مجموع المعنيين وهو تناقض لأنّا نقول الحيثيّة معتبرة في التّعاريف فالكلمة المذكورة من حيث إنها مستعملة في الموضوع له حقيقة ولا ينافيه استعماله في غيره أيضا ومن حيث إنها مستعملة في غيره مجاز هذا لكن قد عرفت أن هذا الاستعمال غير جائز لتوقيفيّته أو أنّه غير معقول كما سبق إليه الإشارة في المشترك

أصل اختلفوا في أنّ ألفاظ المقادير كالمثقال والمن والفرسخ والكر وأمثالها حقيقة في خصوص الكامل ومجاز في النّاقص ولو بيسير أو حقيقة في الأعم من الكامل وما نقص منه بيسير

ذهب بعضهم إلى الثّاني مستدلا بإطلاقها على النّاقص يسيرا في العرف وعدم صحة سلبها عنه وأورد عليه بأنّه لو كانت حقيقة في الأعم لزم التّسلسل لأنّ النّاقص بيسير إذا كان من أفراد الموضوع له كان النّاقص عنه بيسير أيضا من أفراده وهكذا مع أنّه يلزم كون المن حقيقة في المثقال وفيه أن المراد أنّه حقيقة فيما نقص بيسير عن الفرد الكامل لا عما كان موضوعا له والحق في الجواب أن يقال إنّه يصح سلبها عن النّاقص في العرف وإطلاقها عليه مسامحة من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود ومما يدل على ذلك ملاحظة أحوالهم فيما يعتنى بشأنه كميزان الذّهب فإنّه لو نقص عن المثقال بحبّة يقولون إنّه ليس بمثقال ولا شبهة أنّه لا يتفاوت معنى المثقال بالنّسبة إلى الذّهب وغيره بل له معنى واحد لكنهم يتسامحون في بعض الأشياء دون بعض والمعتبر صحة السّلب

 

وعدمها في غير مقامات المسامحة فإن قلت لا ريب في كثرة استعمالها في الأعم عرفا وشيوعه بحيث صار من المجازات الرّاجحة فلا بد من حمل اللّفظ عليه لقرينة الشّهرة إذا ورد في كلام الشّارع قلنا بعد التّسليم أن الاشتهار إنّما يسلم في الأمور الحقيرة الّتي لا يعتنى بها دون الأمور الخطيرة وما يتعلق به الأحكام أمور خطيرة أو غير معلوم الحال فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الحد التّام وبالجملة يجب حمل المذكورات في الشّريعة على الحد التّام الّذي لا مسامحة فيه لكن يغتفر التّسامح في طريق تحصيله فإنّ الأشبار المقدرة في تحصيل الكر وكذا الأرطال مختلفة غالبا فلا يجب التّدقيق في ذلك ولذا قيل إن ذلك تحقيق في تقريب مسائل الأولى إذا علق الحكم على مقدار وعلمنا أن الحكمة شيء يتخلف عن ذلك المقدار من دليل آخر فهل يجب التّعبد بذلك المقدار أو لا بد من ملاحظة وجود الحكمة مثلا علق وجوب القصر على قصد ثمانية فراسخ وعلمنا أن الحكمة فيه لزوم الحرج لتعليله به في بعض الأخبار والحرج قد يتحقق في أقل من ثمانية فراسخ وقد لا يتحقق في الثّمانية وأزيد فنقول إن الواجب هو ملاحظة الحد المذكور دون العلة لأن الأحكام الشّرعيّة لا بد أن تعلق على أمور منضبطة وأمّا الأمور الغير المنضبطة فلا يجوز تعليق الحكم عليها لأنّه يوجب الهرج والمرج وملاحظة الحرج في مثل ذلك أمر غير منضبط والشّارع إنّما يلاحظ في الحكم أمرا منضبطا يغلب وجود الحكمة فيه فيعلق عليه الحكم ولزوم انتفاء الحكم في بعض موارد وجود الحكمة ووجوده في بعض موارد عدمها غير مضر لأنّه كارتكاب شر قليل الخير كثير فإن الحكمة في تشريع العدة هي عدم اختلاط الأنساب وهذه منتفية في العقيمة لكن أوجب عليها العدة لئلا يلزم الهرج لأنّ العقم أمر غير منضبط ولذا قيل إن التّغير التّقديري لا يوجب نجاسة الكر لأنّ الحكم لا بد أن يعلق على أمور منضبطة محسوسة والتّقدير غير منضبط هذا لكن إذا استفيد من الأخبار الّتي ذكر فيها حكمة الحكم أن تعليق الحكم على الحد المذكور إنّما هو من جهة المثال أو جهة أخرى وكان الحكمة المذكورة فيها أمرا مضبوطا جاز أن يحكم بأن المناط هو وجود العلة وإلى هذا ينظر بعضهم حيث حكم بطهارة الماء القليل بالملاقاة مستندا بأن حكمة قوله إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء هي أنّ الكرّيّة كاشفة عن عدم تغيّر الماء بالملاقاة غالبا والمناط هو التّغير فيه ويستظهر ذلك من الأخبار

تنبيهات

الأول

قد ذكروا أن حكم الكر يجري فيما إذا كان الماء بنفسه أنقص من الكر ولكن قد اختلط بأمر خارج كالطّين بحيث صار معه كرا ولم يخرج عن إطلاقه وكذا إذا بلغ الحنطة المختلطة بالتّراب المعتاد حد النّصاب وجب الزّكاة وإن لم يكن الحنطة المحضة بالغة حده وربما يظن أن ذلك من باب إطلاق الكر على ذلك والنّصاب على هذا مسامحة وقد أجري عليه الحكم للدليل لكن التّحقيق

 

أنّه ليس من باب المسامحة بل هو كر من الماء حقيقة وكذا الحنطة نصاب حقيقة وذلك لأنّ الطّين المخلوط بالماء ماء عرفا حقيقة وكذا التّراب المخلوط بالحنطة ويظهر الثّمرة في الماء فإنّه إذا أراد تطهير لباسه للصلاة ولم يتمكن من غسله بالقليل وكان عنده مقدار من الماء أقل من الكر قليلا بحيث لو مزج به شيئا من التّراب لبلغ الكر فإن قلنا إنّه كر حقيقة وجب عليه إلقاء التّراب فيه تحصيلا للغسل الواجب وإن قلنا إنّه مسامحة لم يجب عليه لعدم الدّليل فإنّه يصدق عليه أنّه غير متمكن من تحصيل الكر بخلافه على الأول لتمكنه منه بناء عليه وهذا الثّمر لا يجري في الزّكاة لعدم وجوب تحصيل النّصاب فلا يجب إلقاء التّراب قليلا في الحنطة النّاقصة من النّصاب وإن قلنا إنّه بعد الإلقاء يصير الحنطة نصابا حقيقة

الثّاني

ما ذكرنا من وجوب حمل المقدار على التّام إنّما هو فيما إذا كان المقدار موضوعا للحكم الشّرعي كالكر فإنّه موضوع لعدم نجاسة الماء وكالنّصاب فإنّه موضوع لوجوب الزّكاة وأمّا إذا كان المقدار قيدا للعمل الّذي هو موضوع الحكم كوجوب التّراوح يوما فهو قسمان لأنّ الحكم المتعلق على الموضوع المذكور إمّا حكم بدوي وجعله الشّارع كالوجوب للتّراوح وأمّا حكم يجعله المكلف على نفسه كالأخير لخياطة يوم مثلا وقد فرقوا بين القسمين فحكموا بوجوب الاستيعاب في الأول وكفاية اليوم العرفي في الثّاني فيكفي شروعه في الخياطة بعد طلوع الشّمس ولعل وجه الفرق هو أن المقصود في المعاملات العرفيّة من اليوم نحوه هو ما يصدق على ما بعد طلوع الشّمس أيضا وكلمات العرف ينزل على مقاصدهم ولكن قصد هذا في العرف لا في المعاملات لا يوجب صرف لفظ الشّارع إليه في مقام بيان الأحكام وهاهنا بحث وهو أنهم قد ذكروا في مسألة المجمل والمبين أن اليد في آية السّرقة لا إجمال فيها وردوا على السّيد حيث ادعى إجمالها تمسكا باستعمالها في كل من الأشاجع والكف وإلى المرفق وإلى الزّند وفي تمامها فتكون مجملة بأن اليد حقيقة في تمام العضو ولكن يكفي في نسبة الحكم إلى المجموع تعلقه بالبعض وحينئذ فنقول مقتضى هذا الكلام أن يصدق تراوح اليوم حقيقة بالتّراوح في بعض اليوم وإلا فما الفرق والجواب أن القيد الّذي يقيد به العمل قد يكون المقصود به تحديد العمل بمقدار ذلك القيد كما في التّراوح فإنّ المقصود تحديد التّراوح بمقدار اليوم فيلزم الاستيعاب قد يكون المقصود محض تعلق العمل بذلك القيد في الجملة لا تحديده به كقطع اليد فإن المقصود وقوع القطع على اليد في الجملة وهو يصدق بقطع البعض أيضا لا يقال إن مثل الخياطة أيضا محدودة بالزّمان فلم لا يلزمه الاستيعاب لأنّا نقول قد ذكرنا الفرق بينهما بوجود القرينة على عدم إرادة الاستيعاب في العرف دون الشّرع

الثّالث

اختلفوا في تحديد بعض

 

المقادير الّتي حدد بها الأحكام في الشّريعة لا بأس بالإشارة إليها لكثرة ما يترتب عليها من الفروع الفقهيّة فمن جملتها اليوم وله إطلاقات أحدها ما بين طلوع الفجر إلى الغروب والثّاني ما بين طلوع الشّمس إلى الغروب الثّالث مجموع الليل والنّهار وهل هو حقيقة في كل واحد منها بنحو الاشتراك اللّفظي أو المعنوي أو حقيقة في أحد المعنيين الأولين الحق أنّه حقيقة في خصوص المعنى الأول لتقابل اليوم والليل قطعا ولا ريب أن بين الطّلوعين ليس من الليل لصحة السّلب فيكون داخلا في اليوم لعدم تحقق الواسطة بين اليوم والليل وقيل إنّه لم يطلق على المعنى الثّالث أصلا وما يوهم ذلك أنّه قد أجرى الحكم المتعلق بالأيام على لياليها أيضا كما في خيار الحيوان لثبوته في الليالي أيضا وهذا لا يدل على المدعى لأنّ الليل في مثل ذلك داخلة تبعا لأنّ الثّابت خيار واحد مستمر في الثّلاثة فيثبت في الليل تبعا ويظهر الثّمرة في ثبوت الخيار في ثلاث ليال وثلاثة أيّام في خيار الحيوان على المعنى الثّالث وثبوته في ثلاثة أيّام وليلتين على المعنيين الأوّلين وكذا في غير ذلك من الموارد ثم إنّ مقتضى ما ذكرنا من كونه حقيقة في ما بين طلوع الفجر والغروب أن لا يطلق على الملفق من اليومين حقيقة وهو كذلك لكن قد ثبت في بعض الموارد إجراء حكم اليوم التّام على الملفق أيضا لكن في كيفيّة التّلفيق خلاف فقيل بأنّه يؤخذ من اليوم الثّاني مقدار ما مضى من اليوم الأول فلو باع الحيوان بعد مضي ثلاث ساعات من الخميس الّذي هو اثنتا عشر ساعة أخذ ثلاث ساعات من يوم الجمعة واعتبر يوما وإن فرض كون الجمعة أطول من الخميس بأربع دقائق وقيل يوضع من آخر اليوم الثّاني مقدار ما بقي من اليوم الأوّل ويضم إليه الباقي فيسقط التّسعة من يوم الجمعة ويضم الباقي بما بقي من يوم الخميس فيزيد حينئذ على الأوّل بأربع دقائق وقيل يعتبر نسبة ما مضى من يوم الخميس إلى ما بقي ويؤخذ من يوم الجمعة بتلك النّسبة فيؤخذ من يوم الجمعة ثلاث ساعات دقيقة لأنّها ربعه ويضم بما بقي من يوم الخميس والحق هو الأول لأنّه المتبادر من التّلفيق عرفا وملاحظة النّسبة فاسدة جدا لأنّ المقدار الحاصل حينئذ ليس بمقدار واحد من اليومين الّذي اعتبر التّلفيق منهما استدلوا على ملاحظة النّسبة تارة بأنّ الملفق من اليومين معناه أن يكون مباينا لهما وليس ذلك إلا لاختلافه منهما في المقدار وتارة بأن أخذ مقدار أحد اليومين ترجيح بلا مرجح وملاحظة النّسبة عدالة والجواب عن الأول منع كون التّلفيق مستلزما للمباينة في المقدار وعن الثّاني أنّه استحسان وفهم العرف مرجح

أصل اختلفوا في أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني النّفس الأمريّة أو المعاني المعلومة

فقيل بالأوّل وعليه المحققون وقيل بالثّاني إمّا في كل الألفاظ أو في خصوص المشتقّات وهذا غير ما ذهب إليه صاحب الحدائق من اختصاص النّجس بما علم نجاسته لأنّه

 

لا يقول بذلك لغة بل يقول إنّه كذلك شرعا نظرا إلى الأخبار والمراد بالعلم المأخوذ في الموضوع له عندهم على ما يظهر من كلماتهم هو الاعتقاد باندراج الجزئي تحت الماهيّة المخصوصة لا التّصور لما ذكروا عند الأولين موضوع للماهيّة المخصوصة وعند الآخرين لما اعتقد أنّه من جزئيات تلك الماهيّة وحينئذ فلازم هذا القول القول بوضع الألفاظ للجزئيات الخارجيّة المتعلقة للاعتقاد المذكور فإن قلت قد ذكروا أن كل واحد من القائلين في هذه المسألة يمكنهم القول بكل من الأقوال في المسألة الآتية وهي أن الألفاظ موضوعة للأمور الخارجيّة أو الذّهنيّة أو للماهيّة لا بشرط بتقريب أن القائل بوضعها للأمور الخارجيّة قد يقول بوضعها لها مع قطع النّظر عن كونها معلومة وقد يقول بوصفها لها حالكونها معلومة والقائل بوضعها للأمور الذّهنيّة قد يقول بوضعها للصور الذّهنيّة المطابقة للخارج وقد يقول بوضعها للصور الّتي اعتقد مطابقتها للخارج والقائل بوضعها للماهيّة قد يقول بوضعها للماهيّة الواقعيّة وقد يقول بوضعها للماهيّة الّتي علم تفصيلا أنها الماهيّة المتصورة إجمالا فما ذكرت من الملازمة المذكورة فاسد قلت ما ذكرناه إنّما هو بالنّظر إلى ما يلزم من كلماتهم في المقام على ما عرفت ويشهد له ما ذكروه أن مجهول الحال داخل في مفهوم آية النّبإ عند هؤلاء لأن الفاسق هو من علم اندراجه تحت عنوان الفاسق ثم إنّ الحق هو القول الأول ويكفي في بطلان غيره أنا نقطع بأنّه لو فرض عدم تحقق العالم والعلم في الخارج فالأسماء يصدق على تلك الماهيات فالخمر موجود في الخارج وإن انعدم جميع العالمين فرضا ولو كان كما ذكروا لانعدم الخمر بانعدامهم لأنّه اسم لما علم خمريّته وهو بديهي البطلان مضافا إلى عدم الدّليل على اعتبار العلم في الموضوع له إذ ما يمكن التّمسك به أمران أحدهما أن الحكم في القضايا تابع للعلم بالموضوع والمحمول والثّاني أن التّكليف بدون العلم قبيح ويرد عليهما أن غاية ما ثبت من ذلك وجوب معلومية الموضوع والمحمول والمكلف به وأمّا اعتبار العلم في الموضوع له فلا يثبت بهما وعلى الأول أن العلم المتعلق بالموضوع والمحمول هو التّصور لا الإذعان المذكور وعلى الثّاني أوّلا أنّه لا يتم في الأخبار وثانيا أن العلم الإجمالي بالمكلف به كاف في تعلق التّكليف ولا يلزم العلم به تفصيلا كما هو المطلوب ثم إنّ مقتضى الدّليل الأوّل هو اعتبار علم المتكلّم إذ هو الحاكم ومقتضى الثّاني هو اعتبار علم المكلف ومقتضى الأول كفاية مطلق الاعتقاد وإن لم يكن مطابقا للواقع ومقتضى الثّاني أن يكون المكلف به هو المعنى الواقعي بشرط تعلق الاعتقاد به لأنّ هذا الاشتراط يكفي في دفع لزوم التّكليف بما لا يطاق وأمّا كفاية مطلق الاعتقاد فغير لازم منه ثم إنّه قد ذكر في بيان الثّمرة بين القولين أمور منها أنّه على

 

القول بوضعها للأمور الواقعيّة يجب القول بالتّخطئة لأنّه شيء واحد إن أصابه الشّخص أصاب وإلاّ أخطأ وعلى القول بوضعها للأمور المعلومة يجب القول بالتّصويب لأنّ كل ما اعتقده الشّخص يصير موضوعا له وفيه نظر لأنّ مسألة التّخطئة والتّصويب لا ربط لها بالمقام لأنّها في الأحكام الشّرعيّة والنّزاع فيها إنّما هو في أن لله تعالى في كل واقعة حكما واقعيا قد يصاب وقد يخطأ أو لا بل حكمه تعالى تابع لآراء المجتهدين وكلا القولين يجتمع مع كلا القولين هنا لأنّ القائل بأن الخمر موضوع للماهيّة الخاصة قد يقول بأنّه حرام واقعا وقد يقول بأنّه حرام لمن اعتقد حرمته وكذا القائل بوضعه لما اعتقد أنّه من تلك الماهيّة قد يقول بأن ذلك حرام واقعا وقد يقول بأنّه حرام على من اعتقد حرمته والتّصويب في الموضوعات غير معقول فإن الاعتقاد بأن الجسم الخاص من أفراد الحيوان النّاطق والاعتقاد بأنّه من أفراد النّاهق لا يمكن كونهما صوابا وإن لزم على الأول تسميته باسم الإنسان في الواقع وعلى الثّاني باسم الحمار ولا دخل لذلك في تصويب الاعتقاد ومنها أنّه على القول باعتبار العلم في الموضوع له لا يجب الفحص في الموضوعات المشتبهة بخلافه على القول بعدمه فيجب فلو قال المولى أكرم كل بالغ اختص بمن علم بلوغه على الأوّل فلا يجب الفحص لعدم وجوب تحصيل موضوع الحكم كما لا يجب تحصيل الاستطاعة إذا قال يجب الحج على المستطيع ووجب الفحص على الثّاني لتعلق الحكم بالبالغ الواقعي فيجب الفحص وأورد عليه أوّلا أن ذلك لا يتم إلاّ فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة كاللباس المنحصر المردد بين كونه ملكا للشخص حتى يجب الصّلاة فيه أو غصبا حتى تحرم فحينئذ يجب الفحص على الثّاني أمّا إذا دار الأمر بين الحرمة وغيرها أو الوجوب وغيره كالخبز المردد بين الملك والغصب فلا يجب الفحص بل إمّا الفحص وإمّا الاحتياط وثانيا أن وجوب الفحص في الموضوعات خلاف إجماعاتهم من عدم وجوب الفحص والاحتياط في الشّبهات الموضوعيّة وإنّما يجب ذلك في الشّبهات الحكميّة نعم قد ذكروا أنّه يجب الفحص عن بلوغ الأموال إلى حد الاستطاعة وإلى حد النّصاب وهو أيضا محل إشكال وتحقيق المقام أن في مسألة التّكليف ثلاثة احتمالات بل أقوال الأوّل أن الألفاظ موضوعة للمعاني النّفس الأمريّة فمقتضى الخطاب هو تعلق التّكليف بنفس الأمر بدون التّقييد بالعلم والجهل والعقل لا ينافي هذا الإطلاق لأنّه إنّما يحكم بأنّه متى تمكن المكلف من الامتثال جاز عقابه على التّرك وإن كان عاجزا عن تحصيل العلم بالمكلف به فإن الّذي يقبح على الحكيم هو تكليف الغافل الصّرف وأمّا القادر على الامتثال العاجز عن تحصيل العلم فلا قبح في عقابه فعلى هذا يجب على الشّخص في الجزئيات المشتبهة الفحص أو

 

الاحتياط وهذا طريقة العرف في أوامر المولى إلى العبيد فإنّه إن أمره المولى باشتراء اللحم فاعتذر بأني لا أعرفه مع تمكنه من المعرفة بالسّؤال لجاز عقابه ولهذا اتفقوا على وجوب النّظر في المعجزة مع أنّه فحص عن الجزئيات المشتبهة وهي نبوة الشّخص الخاص وفي الفقه موارد قد ذهبوا فيها إلى وجوب الفحص كمسألة الاستطاعة والزّكاة الثّاني أنّه لا يجوز التّكليف إلاّ بعد حصول العلم التّفصيلي أو الإجمالي بالمكلف به لقبح عقاب الجاهل سواء كان جهله بالحكم من جهة الجهل بالكبرى أعني الحكم الكلي وهو قوله الخمر حرام مثلا أو من جهة الجهل بالصّغرى وهي أن هذا خمر وإذا حكم العقل بقبح العقاب مع الشّبهة صار عدم العقاب في صورة الاشتباه مقطوعا فيخرج عن مورد الاحتياط الّذي هو مقام ظن الضّرر والعقاب وأيضا لا فرق بين الشّبهات الموضوعيّة والشّبهات الحكميّة فكما لم يكن الفحص عن الشّبهات الحكميّة واجبا في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يكن بناء الصّحابة على التّفحص والسّؤال عن أنّه هل ورد حكم جديد فكذا في الشّبهات الموضوعيّة إذ كما أنّ العلم بكليّة الكبرى موجود في هذا وهي أن الخمر حرام فكذا هناك وهي أن إطاعة الرّسول واجبة فعلى هذا لا ثمرة في المسألة الثّالث أن مقتضى إطلاق الخطاب تعلق التّكليف بالأفراد النّفس الأمريّة مع العلم والجهل لكن العقل يحكم بأنّه مختص بمن يتمكن من تحصيل العلم فلا يشمل العاجز ولا يختص بالعالم الفعلي فكل من تمكن من تحصيل العلم التّفصيلي أو الإجمالي بالمكلف به جاز تكليفه وعقابه على التّرك عقلا دون العاجز فالواجب على المكلف الفحص في الموارد المشتبهة فإن عجز فالبراءة لا الاحتياط وهذا هو الحق المحقق وعليه بناء العرف والعادة فإنّ المولى إذا أمر عبده باشتراء اللحم فتفحص وسأل ولم يعرف ما هو لحم لم يكن للمولى أن يقول هلاّ أتيت بكل ما احتمل عندك لحميّته وهو ظاهر ولهذا اتفقوا على وجوب النّظر في المعجزة لجواز التّكليف مع التّمكن عن العلم ثم إنّه لا فرق فيما ذكر بين الشّبهة في الموضوع والشّبهة في الحكم فيجب الفحص ثم البراءة بمقتضى العقل لكن قد رخص الشّارع في ترك الفحص في الشبهات الموضوعيّة لمصلحة يعلم ذلك من إجماعهم على عدم وجوب الفحص فيها وأمّا عدم فحص الأصحاب فلعلمهم عادة بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو ورد تكليف جديد لأخبرهم وأبلغهم قبل السّؤال ولهذا كان الواجب على البلاد النّائية النّفر والتّفقه فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة وليس ذلك إلاّ لوجوب الفحص بقي الكلام في وجه وجوب الفحص في الاستطاعة والزّكاة وهلال رمضان وبلوغ المسافة في السّفر ونحو ذلك من الموارد الّتي ذهب جماعة إلى وجوب الفحص فيها وإن كان المعروف فيها أيضا عدم وجوب الفحص فيقول قيل الضّابط الّذي يقتضي وجوب

 

الفحص في موارده وخروج موارده عن الإجماع هو أن يكون طريق الامتثال في تلك الموارد منحصرا في الفحص بحيث لو لا الفحص لزم المخالفة غالبا ومن ذلك النّظر في المعجزة فإن طريق الامتثال بخطاب صدق النّبي منحصر في الفحص بحيث لولاه لم يحصل الامتثال لذلك الخطاب لعدم حصول العلم بالنّبوة بدون الفحص غالبا فلو لم يجب الفحص لزم أن يكون التّكليف المذكور لغوا وهذا بخلاف الخمر المشتبه لكثرة موارد الخمر المعلوم بدون الفحص فلا يلزم لغويّة خطاب اجتنب عن الخمر وهذا الكلام في مثل تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صحيح لكنّه لا يجري في الاستطاعة والزّكاة ونحوهما لكثرة الموارد المعلومة فيها واعتذر بعضهم عن ذلك بأن الخطاب الشّرعي المعلق بالمذكورات وارد بحيث يجعل المكلفين منقسما إلى قسمين فإن قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنْ استَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً في معنى يجب الحج على المستطيع ولا يجب على غيره وحينئذ فيجب على الشّخص الفحص عن أنّه داخل في أي العنوانين كما ترى أن المولى لو قال لعبيده من كان منكم واجد ألف دينار فليحضر منه خمسين دينارا ومن كان واجدا مائة فليحضر عشرة فالّذي يشك من تلك العبيد ترى أنّه يحاسب أمواله ليرى أنّه داخل في أي العنوانين هذا حاصله وفيه نظر لإمكان تحليل كل خطاب شرعي بحيث يوجب تقسيم المكلفين فإنّ قوله اجتنبوا عن الخمر ينحل إلى قضيتين من صادف الخمر فليجتنبه فعلا ومن لم يصادفه فعلا يجب عليه الاجتناب الفعلي مع أنّه لا فرق بين قوله من استَطاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً فليحج وبين قوله من كان عليه فائتة فليقضها مع أنّهم لا يحكمون بوجوب الفحص على من شك في أن عليه فائتة أو لا فافهم ثم إنا إذا بنينا الأمر على اشتراط العلم الفعلي بالموضوع في التّكليف عقلا أو إجماعا فينتفي الثّمرة على الظّاهر في المسألة بين القول باعتبار العلم في المعنى وعدمه ويمكن أن يقال إنّ القائل باشتراط العلم لا يقول بأن العلم شرط للتّكليف الشّرعي وهو الطّلب بل يقول بأنّه شرط لاستحقاق العقاب على التّرك أعني الحكم العقلي لأنّ جعله شرطا للتّكليف مستلزم للدّور لأنّ العلم تابع للمعلوم فيجب تحقق المعلوم أوّلا ثم تعلق العلم به ومقتضى ذلك ثبوت التّكليف أوّلا قبل العلم به فلو اشترط ثبوته بالعلم به لزم الدّور وبهذا رد على المصوّبة حيث قالوا بتبعيّة الأحكام لظن المجتهد لا يقال إن الكلام إنّما هو في العلم بالموضوع وأخذه شرطا لتعلق التّكليف لا يستلزم الدّور لأنّا نقول اشتراط العلم بالموضوع إنّما هو لاستلزام الجهل بالموضوع الجهل بالتّكليف المتعلق به والتّكليف بدون البيان قبيح فرجع الأمر إلى اشتراط العلم بالتّكليف الشّخصي في ثبوته وربما يجاب عن الدّور المذكور بأن العلم ليس

 

شرطا للتّكليف بل هو زمان لفعل المكلف به فمعنى اجتنب عن الخمر اجتنب عن الخمر النّفس الأمري في زمان العلم به فإن بقي الشّخص جاهلا إلى آخر عمره لم يتعلق به التّكليف وإن صار عالما كشف ذلك عن كونه مكلفا قبل العلم فلم يلزم تقدم العلم على المعلوم وذلك نظير بلوغ الموسم فإنّه شرط زماني لفعل الحج فيجب الحج بمحض الاستطاعة لكن زمان فعله بلوغ الموسم وفيه أوّلا أن هذا مستلزم لانتفاء الثّمرة بين القول باعتبار العلم في الموضوع له وعدمه إذ لا يجب الامتثال إلاّ بعد العلم على القولين وثانيا أنّه لا يدفع الدّور لأنّ أخذ شيء لا يمكن تحققه بدون الطّلب في متعلقات الطّلب دور فإن العلم بالتّكليف لا يمكن أن يحصل إلاّ بعد التّكليف فأخذه في متعلق التّكليف دور لوجوب تحقق متعلق الطّلب قبله وهذا ليس نظير بلوغ الموسم لأنّه شيء يمكن حصوله بدون طلب الحج بل هذا نظير نيّة التّقرب فإنّها لا يمكن تقييد المكلف به بها لأنّها فرع التّكليف فلا يمكن أخذها في متعلقه وإذا علم ذلك تبين أن العلم شرط لاستحقاق العقاب لا للحكم الشّرعي الّذي هو عبارة عن الطّلب بل الحكم الشّرعي شامل للعالم والجاهل كأوامر الموالي إلى العبيد عند غيابهم بقوله ليفعل فلان كذا أو لا يفعل كذا فإن الطّلب يوجد بمحض هذا الإنشاء علم العبد أو لا ولكن العقل يحكم بأنّه لو ترك العبد قبل العلم لم يكن مستحقا للعقاب وحينئذ فيظهر الثّمرة بين القولين في مسألة الإجزاء ويشكل الأمر من حيث لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في زمان واحد أحدهما الواقعي الثّابت حال الجهل أيضا والثّاني الظّاهري الثّابت حال الجهل فإنّ ظاهر الأدلة أنّ الإباحة حال الجهل والشّبهة حكم ظاهري لا أن يكون معناها عدم الحرج مع أن الكلام يجري فيما إذا ظن المجتهد بتحقق الحكم من دليل اجتهادي وكان خطأ فإن مفاد الدّليل حكم ظاهري في حقه والأحكام الخمسة كلها متضادة لا يجتمع اثنان منهما في زمان واحد وبالجملة إمّا يقال بأن التّكليف مشروط بالعلم وهو دور وتصويب أو يقال بأن الحكم الظّاهري قد اجتمع مع الواقعي في الجاهل وهو موجب لتجويز اجتماع المتضادين أو يقال بعدم ثبوت الحكم الظّاهري والشّخص في حال الجهل لا حرج عليه بحكم العقل وهو خلاف الأدلة أو يقال بأخذ العلم في الموضوع له وهو باطل هذا حاصل الإشكال وأجيب عنه بوجوه منها ما ذكره بعضهم من أن التّكليف مشروط بالعلم ولا يلزم دور ولا تصويب وذلك لأنّ العلم بالتّكليف ليس شرطا للتّكليف بل العلم بالخطاب شرط في تحقق التّكليف فالخطاب الصّادر من الشّارع محض صورة لا يراد منه المعنى وبعد علم المكلف به بتحقق التّكليف فلم يلزم الدّور لأن العلم بالخطاب ليس موقوفا على تقدم التّكليف حتى يلزم الدّور من اشتراط تحقق التّكليف بالعلم

 

بالخطاب ولم يلزم التّصويب لأنّ المصوبة لا يقولون بثبوت خطاب في الواقع وهذا الجواب إن تم ظهر ثمرة المسألة فيما إذا علم الشّخص بالخطاب التّكليفي إجمالا وإن جهل خصوصيّة الموضوع كما إذا لم يعلم إذ الماء الّذي في الإناء نجس أو مغصوب فإنّه يعلم حينئذ بثبوت خطاب اجتنب عنه لكفاية العلم الإجمالي بالخطاب في ثبوت التّكليف بخلاف ما لو أخذ العلم في الموضوع له فإنّه حينئذ لا يجب الاجتناب عنه للعلم بأنّه ليس نجسا ولا مغصوبا أي معلوم النّجاسة ومعلوم الغصبيّة لكن يرد على الجواب المذكور أوّلا أن تحقق التّكليف بعد العلم بالخطاب مع كون الخطاب محض صورة إمّا يراد منه أن المتكلّم بعد ما علم المخاطب خطابه يقصد المعنى من كلامه فهو غير معقول لأنّ الكلام إنّما يقصد منه المعنى عند صدور أمّا إذا انعدم ومضى فلا يعقل قصد المعنى منه بعد انعدامه وإمّا يراد منه أنّه بعد علم المخاطب يوجد المعنى في ذهن المتكلّم من دون أن يكون مقصودا من الخطاب فهو مستلزم لأنّ يكون الخطاب لغوا حيث لم يقصد منه المعنى أصلا وثانيا أنا نرى أن بالعلم بالخطاب يحصل العلم بالتّكليف فلو لم يكن بين الخطاب والتّكليف علقه فكيف يلزم من العلم به العلم بالتّكليف وهذا شاهد على أن التّكليف يتحقق عند الخطاب وإلاّ لكان الواجب أن يحصل العلم بالتّكليف به بيان ذلك أن نسبة قدرة الشّخص إلى الوجود والعدم متساوية فلا بد في إتيانه الفعل من داع يوجب ذلك وغرض الشّارع من التّكليف هو أن يكون داعيا للمكلف على فعل المكلف به ولا يحصل هذا الغرض إلاّ بعد العلم به وإلاّ لم يكن التّكليف داعيا وحينئذ فنقول إن العلم شرط حسن التّكليف فالشّارع الحكيم العالم بالعواقب يعلم أن زيدا يتعقبه العلم بالطّلب لو طلب منه وعمرا لا يتعقبه العلم فيقول يا زيد افعل ولا يخاطب عمرا أصلا فزيد إذا علم بالتّكليف كشف ذلك عن سبق التّكليف وثبوته حال الجهل لكن بالنّسبة إلى زمان العلم وعلى هذا فلا يلزم الدّور لعدم أخذ عنوان العلم في متعلق الطّلب بل المكلف هو ذات الشّخص الّذي يعلم الآمر أنّه إذا طلب منه تعقبه العلم ولا يلزم التّصويب لثبوت الحكم الواقعي حال الجهل بالنّسبة إلى زمان العلم وعدم تحققه بالنّسبة إلى زمان الجهل ليس لعدم المصلحة الّتي هي المقتضى بل لأنّ الجهل عذر مانع عن حسن التّكليف ولا يلزم اجتماع الحكمين المتضادين حال الجهل لأنّ الحكم الواقعي ليس بالنّسبة إلى زمان الجهل وإن كان ثابتا حال الجهل بالنّسبة إلى زمان العلم ويظهر الثّمرة في مسألة الإجزاء لأنّ من توضأ باستصحاب طهارة الماء كان حكمه حال الجهل جواز الصّلاة معه فإذا صلى ثم علم نجاسته ارتفع المانع عن تكليفه بالاجتناب وعلم فوات المصلحة الكائنة في الصّلاة مع الطّهارة الواقعيّة وارتفع المانع عن التّكليف بها فيجب الإتيان بها لأنّه

 

حينئذ علم بالتّكليف فصدق عليه أنّه حال الجهل متصف بوصف التّعقب بالعلم فيكشف عن أنّه كان مكلفا بها بالنّسبة إلى زمان العلم فتأمّل ولكن هذا الكلام لا يتم في الجاهل بالعواقب حيث لا يعرف المتصف بوصف التّعقب بالعلم عن غيره ولا يمكن جعله معلقا لعدم جواز تعليق الطّلب لأنّه إنشاء يحصل من حينه ولا يمكن جعله قيدا للمطلوب لأنّ عدم جواز تعليق الطّلب ثابت بالنّسبة إلى سائر شرائط التّكليف أيضا ولا يمكن في الجميع جعل الشّرائط قيدا للمطلوب إذ المطلوب حينئذ يكون أمرا مقيدا فيجب تحصيل القيد أيضا كما لو أمر بالصّلاة مع الوضوء مع أن الواجبات المشروطة ليست واجبة قبل حصول شرطها ولا يجب تحصيل شرائطها ويمكن أن يقال في الجواب إن الاتصاف بتلك الشّرائط قيد في الموضوع ولا يجب أن يكون الموضوع أمرا خارجيا لجواز كونه أمرا كليا ذهنيا يتعلق به الطّلب وإن لم يكن لفرده وجود فعلا فإن الشّخص يتصور عنوان المستطيع ويطلب منه الحج فكل شخص دخل في هذا العنوان يكون الحج منه مطلوبا ولا يجب إيجاد موضوع الطّلب على المكلف وحينئذ فكل الواجبات بالنّسبة إلى موضوعاتها مطلق لكن بالنّسبة إلى الذّوات الخارجيّة مشروط بدخولها تحت عنوان الموضوع لكن هذا لا يتم فيما نحن فيه إذ لا يمكن تصور عنوان من يتعقبه العلم ثم يطلب منه لأنّ الموضوع لا بد أن يكون أمرا يمكن أن يوجد مع قطع النّظر عن الطّلب وهذا العنوان أعني من يتعقبه العلم بالطّلب لا يمكن وجوده إلاّ بعد الطّلب بخلاف من يتعقبه الحياة أو القدرة أو الاستطاعة أو نحوها فافهم وتأمّل ومنها ما قيل من أن العلم بالإرادة شرط في الطّلب وبيانه يتوقف على بيان معنى الطّلب والإرادة فنقول اختلف الأشاعرة والمعتزلة فذهبت المعتزلة إلى أنّ الطّلب عين الإرادة مستدلا بأن الأمر مثلا قد وضع لأمر معلوم هو الطّلب ونحن إذا راجعنا أنفسنا لم نجد شيئا غير الإرادة فيجب أن يكون الطّلب عين الإرادة وإلاّ لكان الطّلب أمرا مخفيا لا يعرفه أحد وليس كذلك وذهبت الأشاعرة إلى أن الطّلب غير الإرادة مستدلا بوجوه منها أنا إذا راجعنا أنفسنا وجدنا أنا قد نريد شيئا من واحد ولا نطلبه منه وقد نريده ثم يطلبه فيعلم أنهما متغايران ولذا ترى في العرف يقولون أراد مني ولم يطلب ومعنى الإرادة شيء يعبر عنه بالفارسيّة بخواستن ومعنى الطّلب شيء يعبر عنه بخواهش فيقال خواستم وليك خواهش نكردم وهذا ظاهر لمن رجع إلى العرف ومنها أن الإرادة أمر يستند وجوده إلى دواعي خارجيّة والمطلب إنشاء وعرف الإنشاء بأنّه ما يوجد مدلوله فلا يكون الطّلب إرادة لأنّ الإرادة موجودة قبل الأمر والطّلب يوجد بالأمر ولو كان مدلول الأمر هو الكشف عن تحقق الإرادة لم يبق فرق

 

بين الإنشاء والإخبار ومنها أنهم ذكروا أن لله تعالى إرادتين إرادة تكوين وإرادة تشريع وليس إرادة التّشريع غير الطّلب فلو كان الطّلب عين الإرادة بالمعنى الأوّل لم يكن له إرادتان مع أنه يستلزم أن يوجد كل ما أمر به تعالى ويمتنع كل ما نهى عنه لأنّ معنى الأمر إرادة الفعل والنّهي إرادة التّرك وإرادته تعالى بالمعنى الأوّل لا ينفك عن المراد ومنها دلالة بعض الأخبار على الفرق كما ورد ما معناه أن الله تعالى أمر إبليس بالسّجود ولم يشأ أن يسجد ونهى آدم عن أكل الحنطة وشاء أن يأكل وذكر في الثّمرة بين القولين أمور منها أنّه يجوز التّكليف بالمحال على قول الأشاعرة دون المعتزلة لأنّ إرادة صدور المحال غير ممكن الحصول لكن طلبه جائز ومنها أنه يجوز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه على الأول ومنها أنّه يجوز النّسخ قبل حضور وقت العمل على الأول ومنها أنّه يجوز اجتماع الأمر والنّهي في الواحد الشّخصي على الأول وليس نفس التّكليف محالا كما ذكر في المعالم لأنّه إنّما يكون محالا إذا كان الطّلب عين الإرادة لأنّ إرادة الفعل وإرادة التّرك لا تجتمعان ولا استحالة في اجتماع الطّلبين من دون الإرادة إذا قلنا بانفكاكهما هذا حاصل ما ذكروه في المقام والتّحقيق أن يقال إنّ وجود الفعل المختار محتاج إلى تصور ما في ذلك الفعل من المنفعة وهذا هو الدّاعي وإلا فنسبة القدرة إلى الوجود والعدم متساوية فإذا تصور ذلك المنفعة تشوق نفسه إلى تحصيلها وازداد الشّوق شيئا فشيئا إلى حد يتحقق الفعل بعده بلا فصل والمرتبة الأخيرة الّتي تليها الفعل يعبر عنها بالإرادة والمرتبة الأضعف بالمشيئة هذا في الممكنات وأمّا الواجب فالإرادة فيه عين الدّاعي وهو العلم بالأصلح فإنّه هو السّبب في تأثير القدرة في الوجود وبهذا علم بطلان ما قيل إن المرجح لوجود الفعل يمكن أن يكون هو الإرادة وذلك لأن تعلق الإرادة بالوجود دون العدم محتاج إلى مرجح لكن هذا في الممكن لا في الواجب لأنّ إرادة عين الدّاعي كما عرفت فيكون مرجحا إذا عرفت ذلك فنقول لا معنى لكون الطّلب عين الإرادة بالمعنى المذكور أعني الشّوق المؤكد الّذي يليه الفعل بلا فصل لأن طلب فعل من الغير لا يليه الفعل من الطّالب حتى يكون إرادة بهذا المعنى فنقول إن طلب الشّيء عبارة عن الجهد والاجتهاد والتّحرك في تحصيله كما ورد في الحديث اطلبوا العلم أي تحركوا في تحصيله واطلبوا الماء غلوة سهمين مثلا والتّحرك كما يمكن في الجوارح فكذا للنفس أيضا تحرك وجهد في تحصيل محبوبها وحينئذ فنقول إن محبوبها إن كان فعلا لها فتحركها أو جهدها إنّما هو بأعمال الجوارح لتحصيله وإن كان فعلا للغير فتحرك النّفس إلى تحصيله هو إلزام الغير بتحصيله وقد وقع صيغة الأمر للإلزام المذكور الّذي يوجد باللفظ الّذي هو طريق طلب النّفس كالمشي لتحصيل

 

العلم إذا ثبت ذلك تبين أنّ الطّلب شيء غير الإرادة وغير المحبوبيّة لكنه لا يصدر إلا بسبب سوق النّفس وميلها إلى الشّيء فينتفي الثّمرات المذكورة لأنّ الطّلب وإن لم يكن عين المحبوبيّة لكنهما متلازمان ولا يتصور محبوبيّة اجتماع الأمر والنّهي ولا التّكليف بالمحال وغيرهما من الأمور المذكورة فيجب أن يكون الطّلب في الأوامر الامتحانيّة الّتي تنسخ قبل حضور وقت العمل أو يعلم انعدام شرطه طلبا صوريا لم يستعمل في معناه على ما حققنا ولا يرد على ما ذكرنا أنّه يلزم كون الأمر إخبارا وذلك لأنّ الإلزام ليس موجودا قبل الأمر فالأمر هو الموجد له وليس لنسبة خارج تطابقه أو لا تطابقه ودلالته على محبوبيّة الفعل إنّما هو دلالة التزاميّة من مقدمات عقليّة وهو أن الإلزام لا يصدر من العاقل إلا مع كون الفعل محبوبا له فهو كدلالة قولك زيد قائم على أنك قصدت إسناد القيام إليه وعلى أنك عالم بذلك فهو من هذه الجهة ليس إخبارا بل هو من جهة أن لنسبة القيام إلى زيد خارجا جعل النّسبة في الكلام حاكية عنه وهذا ليس في الأمر فافهم إذا تحقق ما ذكرنا فنقول إن كون الفعل محبوبا أو مبغوضا دائر مدار المصالح والمفاسد ولا مدخليّة للعلم والجهل فيها وأمّا الإلزام فشرطه علم المخاطب بمحبوبيّة الفعل ومبغوضيّته والحاصل أن العالم بالعواقب إنّما يكلف الأشخاص الذين يعلم أنهم يصيرون عالمين بعد الطّلب فالدّور فيه مرتفع والجاهل بالعواقب يتصور عنوان من يتعقبه العلم بمحبوبيّة الفعل ومبغوضيّته ويلزمه فكل من دخل في هذا العنوان أي علم المحبوبيّة مثلا ولو من نفس ذلك الخطاب دخل في موضوع التّكليف وكشف ذلك عن كونه مكلفا حال الجهل بالنّسبة إلى زمان العلم هذا فيظهر الثّمرة بين القول بأخذ العلم في الموضوع له والقول بعدمه مع اشتراط التّكليف بالعلم في أمور منها ما إذا علم إجمالا بالتّكليف فيجب الاحتياط على الثّاني بناء على القول بكفاية العلم الإجمالي في جواز التّكليف ولا يجب على الأول ومنها ما إذا علم تفصيلا بثبوت التّكليف ولم يعلم الموضوع كالإناء المردد بين الخمريّة والغصبيّة فيحرم على الثّاني دون الأول ومنها في الإجزاء فإنّه إذا قال لا تصل مع النّجاسة فصلى الشّخص جاهلا بنجاسة ثوبه فعلى الأول يجزيه لأنّ مجهول النّجاسة ليس بنجس في الواقع فالصّلاة فيه محبوبة واقعا وعلى الثّاني لا لأن الصّلاة المبغوضة هي الصّلاة مع النّجاسة الواقعيّة والجهل بالنّجاسة يوجب عدم الإلزام على تركها فإذا ارتفع العذر وجب الامتثال ولا ينافي مبغوضيتها الإذن في فعلها بحسب الظّاهر لأن الشّارع أمر بالإتيان بها وفرضها الواقع ما دام جاهلا لمصالح اقتضت ذلك ولم يلزم التّصويب لتحقق الحكم وهو

 

المحبوبيّة والمبغوضيّة أعني المقتضي للإلزام حال الجهل وإن كان الجهل مانعا عن تأثره ولا تقول المصوبة بذلك ولم يلزم اجتماع المتناقضين لأنّ المحبوبيّة والمبغوضيّة لا تنافي الإباحة لعذر فافهم وتأمل

أصل اختلفوا في أن الوجود مأخوذ في مداليل الألفاظ أو لا على أقوال

الأول أنها موضوعة للأمور الخارجيّة والثّاني أنها موضوعة للأمور الذّهنيّة والثّالث أنها موضوعة للمعنى لا بشرط أحد الوجودين والرّابع أن الأمور الّتي لها مصداق موضوعة للأمور الخارجيّة وما لا مصداق له كالمعدوم واللاشيء ونحوهما للأمور الذّهنيّة والخامس أنها موضوعة للماهيّة والسّادس أن الكليات موضوعة للماهيّة والجزئيات الخارجيّة للموجودات الخارجيّة والذّهنيّة للذهنيّة وتحقيق المطلب يستدعي بيان أمور الأوّل في بيان الألفاظ الّتي يذكر في طي المسألة فتقول إن منها الوجود الخارجي والذّهني الوجود على أقسام خارجي وذهني ونفس الأمري وعرّف الوجود الخارجي بأنه الوجود الّذي يترتب عليه الآثار المقصودة كوجود النّار حيث يترتب عليه الإحراق وعرف الوجود الذّهني بأنه حصول صورة الشّيء في الذّهن مجردة عن آثاره المقصودة كصورة النّار حيث لا يترتب عليها الإحراق وعرف الوجود النّفس الأمري بأنه وجود الشّيء في نفسه فأمّا الأمر بمعنى الشّيء والمراد أن يكون للشيء مع قطع النّظر عن فرض الفارض واعتبار المعتبر وجود وتحقق والنّسبة بين الوجود النّفس الأمري والخارجي عموم مطلق لأنّ كل وجود خارجي فهو نفس الأمري ولا عكس لتحقق النّفس الأمري في الوجود الذّهني بدون الوجود الخارجي وبين الوجود النّفس الأمري والذّهني عموم من وجه لتصادقهما في مثل زوجيّة الأربعة فإنّ وجودها ذهني ونفس الأمري وصدق الذّهني بدون نفس الأمري في مثل زوجيّة الخمسة وبالعكس في الوجودات الخارجيّة وبين الخارجي والذّهني تباين مصداقا وعموم من وجه موردا فإنّهما لا يصدقان على وجود واحد ولكن يجتمعان في مورد كالماهيّة فإنّها موجودة ذهنا وخارجا لا يقال إنّ العلم بالنّار مثلا وجود ذهني لأنه صورة للنار ولكنه أيضا وجود خارجي لما يترتب عليه الآثار كالخوف ونحوه وأيضا فإنّه عرض قائم بالنّفس والنّفس موجود خارجي والقائم بالموجود الخارجي موجود خارجي فاجتمعا في العلم فيكون بينهما العموم من وجه مصداقا لأنّا نقول ما هو وجود ذهني هو حصول صورة المعلوم فإنّه وجود ذهني للمعلوم وما هو وجود خارجي هو الوجود للصورة فالموجود بالوجود الذّهني هو المعلوم ووجوده الذّهني عبارة عن حصول صورته

 

في الذّهن والموجود بالوجود الخارجي هو الصّورة ووجودها الخارجي عبارة عن قيامها بالنّفس فلم يصدق الوجودان على وجود شيء واحد فافهم ومنها الأمر الخارجي والأمر الذّهني والمراد بالأمر الخارجي هو الخارج عن مدلول الكلام سواء كان الخارج ظرفا لوجوده أو ظرفا لنفسه أو يكون الذّهن ظرفا لوجوده أو لنفسه وذلك لأنهم قد ذكروا أن الخبر ما لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ولا ريب أن الخارج في مثل الحيوان جنس ليس ظرفا فالنّفس النّسبة ولا لوجودها فإن جنسيّة الحيوان موجود ذهني لأنّه من المعقولات الثّابتة وحينئذ فيكون نسبته إلى الحيوان من الأمور الّتي يكون الذّهن ظرفا لنفسها والأمر الخارجي بهذا المعنى مساوق للموجود النّفس الأمري على ما عرفت والمراد بالأمر الذّهني على ما ذكروا هو ما يتمثل منه الصّورة في الذّهن طابقته أو لا وهذا يساوق الموجود الخارجي بالمعنى السّابق وذلك لأنهم قد استدلوا على وضع الألفاظ للأمور الذّهنيّة بأن الشّبح الّذي يرى من البعيد قد يظن أنّه زيد فيطلق عليه زيد ثم يتبين أنّه عمرو فيطلق عليه عمرو فيختلف اسم الشّبح باختلاف صورته في الذّهن فإن هذا الكلام دال على أن الاسم إنّما هو لنفس الشّبح الّذي هو موجود خارجي وإلا لم يصح أن يقال يختلف اسم الشّبح ولقيل أنّه يختلف اسم الصّورة فافهم ومقابل الأمر الذّهني بهذا المعنى الأمر الخارجي بمعنى النّفس الأمري لأنّه لا يرى للتمثل والاعتقاد أثر بخلاف من يجعلها اسما للمتمثل كما سيظهر ومنها الماهيّة وهي ما يطلق على الشّيء لا باعتبار الوجود وإذا اعتبر معه الوجود سمي حقيقة فلا يطلق على ما هو عين الوجود كالواجب تعالى ولا على الذّوات المشخصة لأنّ التّشخص يساوق الوجود وقال بعض الأفاضل إنّ الماهيّة عبارة عن ذات الشّيء لا باعتبار الوجود سواء كان جزئيا أو كليا وهو مناف لما ذكروه من أن التّشخص يساوق الوجود لأنّ الجزئي عبارة عن الشّيء المتشخص فكيف يكون ماهيّة لا يعتبر فيه الوجود ولعله مبني على القول الآخر وبيان ذلك أنهم قد اختلفوا في أن التّشخص إنّما هو بالوجود أو لا بل هو بشيء نسبته إلى النّوع كنسبة الفصل إلى الجنس المحققون على الأول وجماعة على الثّاني ومرادهم أن التّشخص شيء إذا ضم إلى النّوع خرج عن الإبهام وصار قابلا لعروض الوجود كما أنّ الفصل إذا ضم إلى الجنس تم معناه وصار قابلا للتشخص فالتّشخص عندهم إنّما هو بالأعراض المكتنفة كالكم المخصوص والكيف الخاص وأمثالهما وعلى هذا فالفرد ينحل إلى ثلاثة أشياء نوع وتشخص ووجود والحق هو الأول لأنّ التّشخص يجب أن يكون بشيء متشخص بالذّات وإلا لزم التّسلسل وكل شيء سوى الوجود أمر كلي

 

يتشخص بالوجود وعلى هذا فالفرد ينحل إلى أمرين نوع ووجود وأمّا الأعراض فهي من لوازم الوجود إذا تحقق هذا فنقول ما ذكره الفاضل المذكور من معنى الماهيّة مبني على القول بأن التّشخص غير الوجود فإنّه حينئذ يكون الفرد المتشخص ماهيّة بذلك المعنى إذ يمكن عدم اعتبار الوجود فيه لأنّ الوجود أمر يعرض بعد التّشخص ويتفرع على هذا إمكان القول بوضع الأعلام الشّخصيّة للماهيات وإلا فالقول بوضعها للكليات فاسد جدا وهذا هو السّر في تفسيره الماهيّة بما ذكر دفعا لشناعة القول بوضع الألفاظ مطلقا للماهيّة إذ لا يمكن ذلك بالنّسبة إلى الأعلام لو أريد بالماهيّة ما ذكرنا وعلى ما ذكره يرجع القول بوضعها للماهيّة وهو القول الخامس إلى القول الثّالث أعني المعنى اللابشرط وكذلك أرجع جميع الأقوال إليه عدا القول الرّابع فإنّه في الحقيقة احتمال لا قائل به كما سيظهر وتقرير الإرجاع أن المراد بالأمر الخارجي في القول الأول هو النّفس الأمري مقابل الصّورة الذّهنيّة وذلك لأنهم لما توهموا أن مراد من يجعلها موضوعة للأمور الذّهنيّة الصّور الذّهنيّة وقطعوا بفساده لعدم إمكان ذلك في الأعلام الشّخصيّة لأنّها ليست موضوعة للصورة قطعا حكموا بأنها موضوعة للخارجيّة في مقابل الصّورة ومرادهم الأمور النّفس الأمريّة لا بشرط أحد الوجودين فرجع إلى القول الثّالث والمراد بالأمر الذّهني في القول الثّاني هو الأمر الّذي يمكن تحققه في الذّهن في مقابل الوجود الخارجي بالمعنى المتقدم في صدر المسألة فإنّه لا يمكن تحققه في الذّهن فالمراد الماهيّة اللابشرط لأنّها الّتي يمكن تحققها في الذّهن وهو القول الثّاني وذلك لأنهم لما توهموا أن مراد من يجعلها موضوعة للأمور الخارجيّة الأمر الخارجي بالمعنى المتقدم وقطعوا ببطلانه لعدم إمكان ذلك في مثل كليّة الإنسان ونحوها حكموا بأنها موضوعة لما يمكن تحققها في الذّهن أي الماهيّة وأمّا التّفصيل السّادس فالمراد أن الكلي موضوع للماهيّة اللابشرط والجزئيات الخارجيّة موضوعة للأمور الّتي لو وجدت لكانت في الخارج والجزئيات الذّهنيّة موضوعة للأمور الّتي لو وجدت لكانت في الذّهن فاعتبار الوجودين في الموضوع له إنّما هو على التّقدير وإنّما الموضوع له حقيقة هو ذات الشّيء لا باعتبار الوجود وهذا هو القول الثّالث وإنّما حاول إرجاع الأقوال إليه لأنّ الأقوال المذكورة لو أبقيت على ظاهرها لكانت في غاية السّخافة بحيث لا يصدر من جاهل فضلا عن فاضل هذا وكيف كان فلا بد من تحقيق المطلب وأن الدّليل يقتضي أي شيء بناء على حمل الأقوال المذكورة على ظاهرها من دون

 

إرجاعها إلى واحد ولكن الواجب هو ملاحظة التّرجيح بين الأقوال الخمسة لأنّ القول الرّابع احتمال ذكره بعض المتأخرين حيث قال بالمعنى وقيل بالتّفصيل بين ما لا مصداق له فهو موضوع للأمر الذّهني وبين ما له مصداق فهو موضوع للأمر الخارجي وهذا الكلام بظاهره يقتضي أن ما له مصداق ولو ذهنا موضوع للموجود الخارجي وهو بديهي الفساد لكن المراد بالمصداق المصداق الخارجي وهذا القول إنّما نشأ احتماله مما قيل إن هذه المسألة وهي أن الموضوع له هو الموجود الخارجي أو لا مبنيّة على مسألة المعلوم بالذّات فإن العلم قسمان حصولي وهو عبارة عن العلم بشيء بواسطة حصول صورة منه في النّفس وحضوري وهو حضور نفس المعلوم في النّفس بدون توسط الصّورة كالعلم بالصّورة في القسم الأول فالمعلوم في العلم الحصولي شيئان الصّورة وذو الصّورة واختلفوا في أن أيهما المعلوم بالذّات فقيل إن المعلوم بالذّات هو الصّورة لأنّها مدركة أولا وذو الصّورة مدرك بالطّبع وقيل إن المعلوم بالذّات هو ذو الصّورة لأنّه المقصود بالملاحظة والصّورة آلة لملاحظته ملحوظة تبعا وقيل بالتّفصيل بين ما له مصداق في الخارج فالمعلوم بالذّات هو ذو الصّورة وبين ما ليس له مصداق فالمعلوم بالذّات هو الصّورة والاختلاف في الموضوع له فرع ذلك المسألة فكل ما تحقق أنّه المعلوم بالذّات يكون هو الموضوع له إن خارجيا فخارجيا وإن ذهنيا فذهنيا أو بالتّفصيل فبالتّفصيل وعن بعض الأفاضل أنّه جعل النّزاع في تلك المسألة لفظيا بإرجاع الإطلاقين إلى التّفصيل فتكون في هذه المسألة أيضا لفظيا بناء على صحة التّفريع المذكور وبالجملة فاحتمال القول بالتّفصيل في هذه المسألة إنّما هو لتوهم تفرع هذه المسألة على تلك ووجود القول بالتّفصيل في تلك المسألة ثم إن القول بالتّفصيل في هذه المسألة فاسد جدا أمّا أولا فلأنه معنى على التّفريع المذكور وهو مما لا وجه له إذ لا ملازمة بين كون شيء معلوما بالذّات وكونه الموضوع له لجواز الوضع للمعلوم بالتّبع فإن الوضع يتبع الحاجة لا كونه معلوم الذّات وأمّا ثانيا فلأن القول بالتّفصيل في تلك المسألة فاسد ويتفرع على ذلك فساد ما تفرع عليه أيضا ووجه بطلانه أن في كل معلوم بالعلم الحصولي يوجد الصّورة وذو الصّورة وقد عرفت أن المناط في المعلوميّة بالذّات إمّا كونه مدركا أولا وهو الصّورة أو كونه مقصودا بالملاحظة وهو ذو الصّورة وهذا مما لا فرق فيه بين ما له مصداق وبين ما لا مصداق له فالتّفصيل خال عن الدّليل لا يقال لعل نظر المفصّل إنّما هو إلى أن الموجودات الخارجيّة معلومة بأنفسها

 

لا بصورتها كما قيل بذلك في الإبصار من أنّه ليس بانطباع الصّورة في الجليديّة بل المرئي هو الشّخص الخارجي بواسطة خروج الشّعاع الّذي هو سبب الانكشاف فليس المعلوم فيها إلا شيئا واحدا والموجودات الذّهنيّة أيضا معلوم بنفسها فليس في المقامين إلا معلوم واحد هو في الأول نفس الموجود الخارجي وفي الثّاني نفس الصّور الذّهنيّة وإذا اتحد المعلوم يكون هو المعلوم بالذّات لأنّا نقول أولا إنّه مخالف لعنوان المسألة وهو أن المعلوم بالذّات أي شيء فإن معناه إن تعدد المعلوم معلوم وإنّما الإشكال في تعيين المعلوم بالذّات وثانيا أن القول بأن الموجود الخارجي لا يوجد صورته في الذّهن بخلاف الموجود الذّهني فإنّه أمر يوجد في الذّهن خلاف لما يظهر من اتفاقهم حيث إن المتكلمين والحكماء بين من ينفي الوجود الذّهني كليّة وبين من يثبته كليّة فالفرق من حيث إثباته للموجودات الذّهنيّة دون الخارجيّة خلاف للجميع الثّاني في بيان النّسبة بين هذه المسألة والمسألة السّابقة فنقول قد ذكروا أن النّسبة بينهما عموم من وجه بمعنى أن كل واحد من هذه الأقوال يجتمع مع كلا القولين في تلك المسألة وذلك لأنّ الأقوال هنا ثلاثة في الحقيقة القول بالمعنى اللابشرط وأخذ الوجود الخارجي والذّهني لرجوع القولين الآخرين إليها فنقول أمّا اجتماع القول بالمعنى اللابشرط مع القولين في المسألة السّابقة فظاهر لجواز أن يقال إن الألفاظ موضوعة للمعنى اللابشرط النّفس الأمري أو ما اعتقد أنّه من أفراد المعنى اللابشرط وأمّا القول بالأمور الخارجيّة فلأنّه إمّا المراد به الموجودات الخارجيّة فيمكن القول بالوضع للموجود الخارجي في نفس الأمر أو ما اعتقد أنّه الموجود الخارجي وإمّا المراد به الخارج عن الذّهن المرادف النّفس الأمر فيمكن القول بالوضع للأمر النّفس الأمري في نفس الأمر أو ما اعتقد أنّه الأمر النّفس الأمري وأمّا القول بالأمور الذّهنيّة فإن جعلناها بمعنى الأمور الّتي يمكن دخولها في الذّهن فيكون نظير القول بالمعنى اللابشرط وقد عرفت اجتماعه مع القولين وإن جعلناها بمعنى الصّور المرتسمة فيمكن القول بالوضع للصورة الواقعيّة أو ما اعتقد أنّه صورة وإن جعلناها بمعنى ما يتمثل صورته في الذّهن فاجتماعه مع القولين مشكل وذلك لأن معنى ما يتمثل صورته هو الأمر المعتقد فلا يجتمع القول به مع القول بالوضع للأمر الواقعي وأمّا القول الآخر وهو الأمر المعلوم فإن كان المراد به الأمر المعتقد مطلقا فيكون عين هذا القول وإن كان المراد الأمر النّفس الأمري المعتقد بالاعتقاد الصّحيح المطابق فيكون مباينا لهذا القول لأنّ معناه الوضع لمطلق الأمر المعتقد غاية الأمر أنّه يصدق الموضوع له على المعتقد بالاعتقاد

 

الصّحيح على القولين وهو لا يرفع التّباين من البين لتباين القول بالوضع للعام مع القول بالوضع للخاص وإن صدق الموضوع له على الخاص على القولين وحينئذ فما ذكره شريف العلماء من أن نسبة هذه المسألة مع المسألة السّابقة عموم من وجه لا يتم على إطلاقه سيما وهو قد جعل الذّهني هنا بمعنى ما يتمثل صورته حيث جعل الثّمرة بين القول بأخذ الوجود الخارجي والذّهني لزوم التّصويب في الموضوعات وحصول الامتثال بالأمر المعتقد على الثّاني دون الأول لظهور أن التّصويب أو حصول الامتثال بالمعتقد لا يلزم إن جعل الذّهني بمعنى ما يقبل الوجود الذّهني وكذا إن جعل بمعنى الصّورة الذّهنيّة ثم إن جعل حصول الامتثال بالأمر المعتقد ثمرة غير التّصويب لا وجه له لأنّه من فروع التّصويب فتأمل الثّالث هل الصّور الذّهنيّة أفراد للماهيّة حقيقة وحملها عليها كحملها على الأفراد الخارجيّة أو لا بل هي مباين لها ونسبتها إلى الماهيّة كنسبة الظّلّ إلى الشّيء الحق هو الثّاني كما صرح به علماء المعقول وبه ينحل الشّبهات الواردة على العلم من أنّه حصول صورة الشّيء عند العقل فيلزم كون العلم بالجوهر جوهرا مع أن العلم مطلقا من مقولة العرض ويلزم كون تصور النّار محرقا وغير ذلك والحاصل أن ليس الماهيّة قدرا مشتركا بين الصّورة الذّهنيّة والأفراد الخارجيّة وإن حمل عليها الماهيّة فهو من باب التّسامح كما يقال الصّورة الفرس إنها فرس فالماهيّة أفرادها منحصرة فيما يترتب عليه الآثار الأصليّة للماهيّة وليس ذلك إلا الوجود الخارجي إذ الوجود الذّهني وجود تبعي ظلّي يحكي عن الخارج ولا يترتب عليه الآثار الأصليّة إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول الحق هو أن ألفاظ الكليات موضوعة للماهيات بالنظر إلى جهة أصالتها وتقررها لا بالنّظر إلى جهة الحكاية ولا بشرط الوجود الخارجي بأن يكون الوجود قيدا ولا مع الوجود بأن يكون جزءا وبالجملة إنّما لوحظ في وضعها للماهيات جهة الأصالة الّتي ليست في الأفراد الخارجيّة المقابلة للصورة الذّهنيّة الحاكية سواء كانت موجودة في الخارج وفي الذّهن أو قابلا لأحدهما فقط كالكليّة أو لم يكن قابلا لشيء منهما كالمعدوم واللاشيء فإن لفظ المعدوم لم يوضع للصورة الذّهنيّة الحاكية عن الخارج بل وضع لنفس الماهيّة بالنّظر إلى جهة تقررها وأصالتها فإن لماهيّة العدم أيضا جهة تقرر بالنّسبة إلى تلك الصّورة الحاكية وهذا مرادنا بالخارج وعلى هذا يحمل ما ذكره بعض المحققين من أن الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث الوجود الخارجي لا بشرط الوجود الخارجي وإن كان في الظّاهر غير واف بالمراد لأنّ الحيثيّة إمّا تعليليّة ولا يحتملها المقام

 

أو تقييديّة فيكون بشرط الوجود ويدل على المختار أمور منها التّبادر إذ لا ريب أن المتبادر من كل لفظ ليس إلا المعنى في جهة أصالته لا في جهة الحكاية بل لا يلتفت المخاطب إلى الحكاية أصلا ومنها صحة السّلب عن الأمر الذّهني فيصح أن يقال ليس صورة الإنسان إنسانا مضافا إلى ما عرفت من أن أهل المعقول قائلون بعدم كون الماهيّة صادقة على الصّورة الذّهنيّة ومنها صحة الحكم على الماهيّة بالوجود والعدم فيقال الإنسان موجود أو يقال معدوم ولا يلزم التّكرار ولا التّناقض ولو كان الوجود الخارجي مأخوذا لزم التّكرار في الأول والتّناقض في الثّاني وأيضا لم يكن للشك في الوجود المعنى في قولك الإنسان موجود أو معدوم وأيضا لكان طلب الماهيّة بقولك اضرب طلبا لتحصيل الحاصل وغير ذلك هذا في المعاني الكليّة وأمّا الأعلام الشّخصيّة فإن قلنا بأن التّشخص يساوق الوجود فلا ريب أن الموضوع له هو الموجود الخارجي لكن بالنّظر إلى جهة تشخصه وإن قلنا بأن الجزئي أيضا ماهيّة والتّشخص حاصل بغير الوجود فالكلام فيه كالكلام في المعاني الكليّة والموضوع له هو الماهيّة بالنّظر إلى جهة الأصالة ويشكل الأمر في المبهمات والأفعال الإنشائيّة وأعلام الأجناس من وجهين الأوّل أن الموضوع له فيها كلي أو جزئي والثّاني أنّه على الثّاني فهل هو جزئي خارجي أو ذهني فنقول المعروف أن صيغ الأمر والنّهي موضوعة للطلب الخاص الموجود في نفس المتكلم بذكر اللّفظ ولذا قالوا إن الإنشاء هو ما يوجد مدلوله وذهب بعضهم إلى أن الموضوع له فيها هو مفهوم الطّلب الّذي هو أمر كلي لكن قد اعتبر في جواز إرادته من لفظ اضرب مثلا أن يوجد ذلك الكلي بنفس هذا اللّفظ فاللّفظ إنّما استعمل في المفهوم الكلي لكن من حيث كونه منشأ باللّفظ وبالإنشاء يصير فردا وهو لا يوجب كون الصّيغة مستعملة في الفرد كما أن إيجاد الماهيّة معناه الإتيان بالفرد لأنّ الفرد هو الكلي الموجود على التّحقيق من أن التّشخص عين الوجود وهو لا يوجب كون الأمر الدّال على طلب إيجاد الماهيّة مستعملا في طلب الفرد فكذلك لزوم كون مدلول الصّيغة منشأ بالصّيغة وهو لا يمكن إلا في ضمن الفرد لا يوجب كون الصّيغة مستعملة في فرد الطّلب وربما يستدل على مذهبه بأنّه لو كان الأمر موضوعا للطلب الموجود الخاص لزم أن لا يكون للشرط مفهوم في قولك أكرم زيدا إن جاءك لأنّ مقتضى التّعليق انتفاء المعلق عليه فلو كان معنى الأمر هو الطّلب الجزئي لكان هو المعلق على الشّرط فينتفي بانتفاء الشّرط فلا ينافي أن يوجد طلب آخر عند انتفاء الشّرط أيضا مع أنهم ذكروا أنهم إذا قام الدّليل على ثبوت الحكم عند انتفاء

 

الشّرط تعارض مع المفهوم فالمفهوم هو الحكم بانتفاء الطّلب مطلقا لا الطّلب الخاص ويشهد لذلك أنهم اتفقوا على أن الوصف يخصص العموم في نحو أكرم العلماء الطّوال مع أنهم قد اختلفوا في ثبوت المفهوم للوصف فإن المراد بالتّخصيص هو أن الحكم الخاص إنّما يتعلق بالموصوف لا بغيره وأمّا أنّه هل ينافي مع تحقق الحكم لغير الموصوف بخطاب آخر أو لا فهذا النّزاع في ثبوت المفهوم وبالجملة انتفاء الحكم المتعلق بموضوع عند انتفائه بديهي حتى في الأعلام فقولك أكرم زيدا مختص بجعل وجوب الإكرام لزيد لا عمرو وهذا غير المفهوم فإنّه لا ينافي ثبوت الحكم لغيره بخطاب آخر نعم قد ينافيه في بعض الموارد لعدم قابليته للحكمين كما إذا قال وقفت الدّار على الفقراء فإنّه لا يمكنه أن يقول بعد ذلك وقفتها على الأغنياء لانتفاء ملكه بالصّيغة الأولى فالمنافاة إنّما هو بين المنطوقين وليس هذا من المفهوم فما ذكره الشّهيد من أنّه من باب المفهوم لا وجه له وبالجملة لو كان الأمر موضوعا للطلب الجزئي لكان تعليقه على الشّرط موجبا لانتفاء الطّلب الخاص وهذا غير مفهوم الشّرط كما عرفت مع أن القائل بذلك قائل بثبوت المفهوم للشرط وحينئذ فيجب القول بأن الموضوع له هو الطّلب الكلي وهو المعلق على الشّرط فينتفي بانتفائه ولا يوجب اشتراط إيجاده بالصّيغة كون الصّيغة مستعملة في الجزئي هذا حاصل مراده وبعبارة أخرى الموضوع له هو الطّبيعة لكنها قد اعتبرت بحيث لا يمكن استعمالها إلا موجودة من دون أن يكون التّقييد بالوجود معتبرا في الموضوع له فالموضوع له مطلق لا يمكن استعماله إلا مقيدا بسبب نفس الاستعمال وهو لا يوجب كون الموضوع له مقيدا وكذا يقال بهذا في وضع الحروف وأسماء الإشارة أن الموضوع له فيها هو مطلق الابتداء والمشار إليه لكن قد لوحظ معه حيثيّة بحيث لا يمكن استعمالها إلا جزئيا وهو ملاحظة كونه مرآة لملاحظة حال الغير من دون أن يكون الحيثيّة المذكورة جزءا للموضوع له أو شرطا له هذا حاصل ما يمكن أن يقال في تقرير وجه القول المذكور والتّحقيق أن الموضوع له في الأمر هو الطّلب الجزئي الموجود في الخارج الآخر بالخطاب لأنّه المتبادر عند سماع اللّفظ ولا ينتقل الذّهن إلى مفهوم الطّلب أولا ثم إلى وجوده وهو ظاهر والإشكال بلزوم انتفاء المفهوم غير وارد لأنّ تعليق الفرد الخاص من من الطّلب على الشّرط لا بد له من فائدة وهي ليست انتفاء الفرد الخاص لانتفائه بمحض انتفاء موضوعه وإن لم يذكر الكلام بصورة الشّرط بل الفائدة هي الدّلالة على أن تعليق الفرد الخاص إنّما هو عنوان لتعليق المطلق فيدل على انتفائه بانتفاء الشّرط وهذا هو المفهوم ثم إنّه

 

لا يتعقل اعتبار حيثيّة الإنشاء في الموضوع له من دون أن يكون جزءا ولا شرطا إذ لا محالة يكون التّقييد داخلا وإن كان القيد خارجا والقول بأن مدلول الأمر هو المنشأ وهي الطّبيعة لورود الإنشاء عليها لا على الفرد مغالطة لأنّا نسلم أنّ الإنشاء يرد على الطّبيعة لكن نقول إن الطّبيعة المنشأة فرد وذلك نظير أن يقال في أعتق رقبة مؤمنة إن المطلوب هو عتق الرّقبة المقيدة والتّقييد يرد على المطلق فالمطلوب عتق الرّقبة المطلقة وما يقال إن المقيد إذا كان هو نفس الاستعمال لا ينافي كون الموضوع له هو المطلق غير تمام بل هو صحيح في جانب الموضوع فإن لفظ زيد ليس موضوعا من حيث الخصوصيات الصّادرة من اللافظين بل وضع مطلقا ليذكر ويراد منه المعنى فلا محالة يصير بالاستعمال فردا وهو لا ينافي كون الموضوع هو المطلق لكن لا يتم في الموضوع له إذ لا يخلو إمّا أن يكون الموضوع له المطلق لا بشرط ولا يقولون به أو بشرط الوجود فيكون جزئيا وهو الحق وأمّا الحروف فالحق أنها موضوعة لذات الابتداء لكن قد اعتبر فيها جهة وقوعه آلة لملاحظة شيء بالوقوع الفعلي لا مفهوم الوقوع فإنّه معنى اسمي والوقوع آلة شيء لا يتم معناه إلا بضميمة الغير فمعنى قولهم الحرف ما دل على معنى في غيره أن معناه أمر لا يتم إلا بالغير فهو بنفسه يدل على معناه لكن معناه ناقص محتاج فالنّقص إنّما هو في المدلول لا في الدّال والابتداء بتلك الملاحظة يصير جزئيا حقيقيا من جزئيات مفهوم الابتداء الواقع مرآة وإن أمكن كونه كليا من حيث دخوله في مفهوم الابتداء المطلق فإن الابتداء الملحوظ آلة لملاحظة السّير والبصرة جزئي حقيقي لمفهوم الابتداء الآلي لكن فات ابتداء البصرة كلي له أفراد من حيث إمكان تحققه من أي مكان من أمكنة البصرة فالمراد بجزئيّة معنى الحرف جزئيته بالنّظر إلى الحيثيّة المأخوذة في الموضوع له ونظيره الموصولات فإن الموضوع له فيها هو ما تعين بالصّلة فعلا فلا بد أن يكون جزئيا من هذه الحيثيّة مندرجا تحت مفهوم المتعين بالصّلة وإن كان بالنّظر إلى ذاته عاما كليا كما في قولك أكرم من جاءك أمّا أسماء الإشارة فالكلام فيها هو الكلام في الحروف نظرا إلى جهة وضع الإشارة فإنّه لا بد أن يكون جزئيا مندرجا تحت مفهوم الإشارة وأمّا ذات المشار إليه فإن قلنا بأنّ الإشارة يجب أن تكون حسيّة فيجب أن يكون حسيا لأنّ الإشارة الحسيّة لا تتعلق بالأمر العقلي وإن قلنا بجواز الإشارة العقليّة فيجوز أن يكون كليا وغيره وأمّا أعلام الأجناس فهي أيضا موضوعة لنفس الماهيّة لكن بملاحظة حضورها في الذّهن هذا الكلام في جهة الكليّة والجزئيّة وأمّا من جهة الخارجيّة

 

والذّهنيّة فالجميع موضوعة للأمور الخارجة عن الصّور الذّهنيّة جزءا كانت أو كليّة لكن قد اعتبر في بعضها حضور صورة الشّيء الخارجي في الذّهن إمّا بنحو المرآتيّة كما في الحروف ونحوها أو لا كما في أعلام الأجناس فالموضوع له ذات الأمر الخارجي لكن بشرط حضور صورتها في الذّهن وهذا لا يوجب أن يكون الموضوع له هو الصّورة فتلخّص بما ذكرنا أن الأعلام الشّخصيّة موضوعة للموجودات الخارجيّة كالأفعال الإنشائيّة وما سواها موضوعة للأمور الخارجة عن المدركات إمّا مع قطع النّظر عن حضور صورتها في الذّهن كأسماء الأجناس ونحوها أو مع اعتبار حضور صورتها إمّا بنحو المرآتيّة كما في المبهمات وبدونها كما في أعلام الأجناس فتدبر احتج القائل بأنّها موضوعة للموجودات الذّهنيّة بأنها لو كانت موضوعة للموجودات الخارجيّة لزم عدم تحقق الصّدق والكذب في الجملة الخبريّة لأن هذه الكلمات كما تجري في أوضاع المفردات تجري في الهيئات أيضا والقول فيهما واحد وأمّا لزوم ذلك فلأن الصّدق والكذب مطابقة مدلول الخبر للخارج وعدمها وإذا كان مدلول الخبر نفس الخارج فلا يتصور مطابقة ولا عدمها وفيه أن الدّليل أخص من المدعى إذ لا تلازم بين أوضاع المفردات وأوضاع الهيئات فيمكن القول بوضع المفردات للأمور الخارجيّة والهيئات للصور الذّهنيّة والتّمسك بعدم القول بالفصل في أمثال هذه المسائل الاجتهاديّة فاسد لكن الدّليل المذكور بالنّسبة إلى الجمل تام لا غبار عليه وما قيل في رده تارة بالنّقض بما إذا كانت موضوعة للصّور الذّهنيّة فإنّه حينئذ أيضا لا يتحقق مطابقة للواقع ولا عدمهما لأنّ واقع الصّورة هو نفس تحققها في الذّهن فلا معنى لمطابقتها له ولا مطابقتها وأخرى بأن الدّلالة الوضعيّة ليست كالدّلالة العقليّة بحيث لا يجوز انفكاكها عن المدلول فإن الدّال العقلي إنّما هو من آثار المدلول فلا محالة لا ينفك عنه بخلاف الدّال بالوضع فإنّه يمتنع انفكاكه عن المدلول وحينئذ فالخبر دال على الوقوع الخارجي ويحضر صورة ذلك الوقوع في ذهن المخاطب ويجوز انفكاكه عنه فإن طابق الصّورة الحاصلة بسبب الخبر في ذهن السّامع للواقع في الخارج كان الخبر صدقا وإن خالفه كان كذبا فاسد أمّا الأول فلأنّه لا يقول إن الموضوع له هو الصّورة الذّهنيّة من حيث هي بل يقول إنّها الموضوع له من حيث كونها حكاية عن الخارج عن الذّهن وحكاية قد تخالف المحكي فيكون كذبا وقد توافقه فيكون صدقا فإن بين زيد والقيام نسبة في الخارج عن الذّهن إمّا إيجابيا أو سلبيا فالصّورة الحاصلة منها في الذّهن الحاكية عن الخارج موضوع له

 

لهيئة زيد قائم فإن وافقت الخارج في الإيجاب والسّلب كان صدقا وإلاّ كان كذبا وأمّا الثّاني فلأنّه لا ربط له بكلام المستدل لأنّه لم يقل إنّه يجب عدم انفكاك الخبر عن الخارج بل حاصل كلامه أن اتصاف الخبر بالصّدق والكذب إنّما هو بالنّظر إلى مدلوله فإذا كان المدلول هو الخارج لم يمكن فرض المطابقة واللامطابقة لوجوب تغاير المطابق والمطابق ولا يمكن أن يقال الخارج يطابق الخارج وجعلهما باعتبار مطابقة الصّورة الحاصلة في ذهن السّامع للخارج خارج عن الاعتبار لأنّهما من صفات مدلول الخبر وليس المدلول هو الصّورة الحاصلة في ذهن السّامع قطعا فيجب أن يكون المدلول هو الصّورة الحاصلة في ذهن المتكلم من حيث كونها حكاية عن النّسبة الخارجيّة وهو الحق

تتمة

في بيان ما يترتب على المسألة من الثّمرات والتّحقيق أنّها مسألة علميّة لا يترتب عليها ثمر عملي وما ذكروا من الثّمرات فاسد غير قابل للذكر نعم قد ذكر ثمرة يمكن ترتيبها عليها على إشكال وهي أنّه لو كان الوجود الخارجي مأخوذا في الوضع لم يجز اجتماع الأمر والنّهي ولو كانت الألفاظ موضوعة للماهيات جاز وذلك لأنّ الغصب والصّلاة مثلا إن اعتبر فيهما الوجود الخارجي كان المأمور به بقوله صل هو الأفراد والمنهي عنه بقوله لا تغصب هو الأفراد والمفروض وجود الكليّين بوجود واحد في مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة فهذا الوجود الواحد صلاة وغصب قد تعلق الأمر والنّهي به ابتداء من الأمر وهو محال وإن لم يعتبر إلاّ نفس الماهيّة كان المأمور به ماهيّة الصّلاة والمنهي عنه منهية الغصب غاية الأمر اجتماع الكليّين في فرد واحد وهو لا يستلزم أن يتعلق الأمر والنّهي بجهة واحدة كالأوّل حتى يكون محالا فهو كاجتماع عنوان العلم والفسق في زيد والأوّل محبوب والثّاني مبغوض لكن هذا لو تم فإنّما هو مبني على جواز تعلق التّكليف بالطّبائع وأمّا على القول بعدمه وأن المراد في التّكليف الوارد على الطّبيعة هو أفرادها لم يترتب الثّمرة المذكورة فتأمل

أصل اختلفوا في ما وضع له المشتق على أقوال

والواجب أوّلا بيان المراد بالمشتق في محل النّزاع فنقول للمشتق تعريفان أحدهما باعتبار معناه الأعمّ وهو أنّه اسم المعنى الّذي غير عن شكله بزيادة حرف أو حركة أو نقصانهما والمراد باسم المعنى اسم دل على معنى قائم بغيره سواء دل على الغير أيضا أو لا فيشمل المصدر ويخرج بالقيود اللاحقة ويدخل في التّعريف ما غير لفظه دون معناه كالمصدر الميمي وما غير لفظه ومعناه كسائر المشتقات ويخرج ما غير معناه دون لفظه كمفتون مصدرا ومفعولا وذلك مفردا وجمعا ثم أن ما يشمله التّعريف من صور التّغيير خمسة عشر نوعا وحاصله أن التّغيير إمّا بزيادة أو نقيصة وكل

 

منهما إمّا بحرف أو حركة فهذه أربعة وكل مشتق قد يقع فيه نوع واحد وقد يقع فيه اثنان أو ثلاثة أو أربعة فما يقع فيه نوع واحد أربعة أقسام لأنّ الزّيادة إمّا حرف فقط نحو كاذب من كذب أو حركة فقط كنصر من نصر والنّقصان إمّا حرف فقط كخف من الخوف أو حركة فقط كالضّرب من ضرب على قول الكوفيين باشتقاق المصدر وما يقع فيه اثنان ستة أقسام لأنّه إمّا زيادة حرف وحركة كضارب من الضّرب أو نقصانهما كعد من العدة أو زيادة حرف ونقصان حرف كديان من الدّيانة أو زيادة حركة ونقصان حركة كحذر من الحذر أو زيادة حرف ونقصان حركة كعاد من العدد أو بالعكس كخذ من الأخذ وما يقع فيه ثلاثة أربعة أقسام لأنّه إمّا زيادة حرف وحركة ونقصان حركة نحو يضرب من الضّرب أو زيادة حركة وحرف ونقصان حرف نحو خاف من الخوف على احتمال باقي أو نقصان حرف وحركة مع زيادة حركة نحو عد من الوعد أو مع زيادة حرف نحو كالّ من الكلال وما يقع فيه أربعة أقسام قسم واحد نحو ارم من الرّمي فهذه خمسة عشر نوعا وفي شمول التّعريف لما إذا كان التّغيير بسبب النّقل كما في جبذ وجذب أو بسبب الإعلال والإبدال كمختار من مختير إشكال والظّاهر عدم شموله لهما أمّا الأوّل فلعدم تغير الشّكل بسبب تغيير التّرتيب وأمّا الثّاني فلأنّ الإبدال وإن كان في الحقيقة زيادة حرف ونقصان آخر إلاّ أن الظّاهر من التّعريف خلاف هذا النّوع لخفائه كما لا يخفى وقد اعترض على التّعريف المذكور بأنّه غير مانع وجامع أمّا الأوّل فلشموله التّثنية والجمع مثل ضربان وضروب وليس بمشتق وأمّا الثّاني فلخروج المشتق بالاشتقاق الجعلي كتمار ولبان لبائع التّمر واللّبن لأنّ المتغير عن شكله هو التّمر واللّبن وهما ليسا اسمي المعنى ولهذا أراد بعضهم قيدا آخر وهو أن يصير المعنى الأوّل عرضا في ضمن الشّكل الثّاني بمعنى أنّ يعتبر قيامه بالموضوع وعلى هذا يخرج مثل ضربان وضروب لعدم اعتبار قيامه بالموضوع لكن يبقى المشتقات الجعليّة خارجة وكذا يخرج المصدر الميمي ولا ضير في ذلك لأنّ إطلاق المشتق عليها مسامحة الثّاني باعتبار معناه الأخص وهو أنّه ما دل على اتصاف الذّات بالمبدإ فيشمل اسم الفاعل والمفعول والصّفة المشبهة وأفعل التّفعيل وهذا هو موضع النّزاع في هذه المسألة وربما نوزع في الفعل الماضي والمضارع وأسماء الزّمان والمكان والآلة أيضا الّتي هي داخلة في المشتق بالمعنى الأعم إذا علم ذلك فيجب لتنقيح المسألة بيان أمور الأوّل اختلفوا في أن الموضوع في المشتق بالمعنى الأعم هل هو الهيئة النّوعيّة أو الهيئة الشّخصيّة وعلى أي تقدير فهل الموضوع هو الهيئة مستقلة والمادة مستقلة أو هما موضوعان بوضع

 

واحد وكيف كان فهل الموضوع له كلي أو جزئي والحق في مقام دوران الأمر بين الوضع النّوعي والوضع الشّخصي هو الوضع النّوعي وبيانه أن الوضع النّوعي عبارة عن ملاحظة هيئة خاصة مع قطع النّظر عن مادة معينة ووضعها لشيء إمّا بنفسها أو وضع جزئياتها فإذا لوحظ هيئة فاعل مع قطع النّظر عن مادة ووضعت هي أو جزئيّاتها لمعنى فأفراد الهيئة المذكورة يقال إنّها موضوعة بالوضع النّوعي وأمّا الهيئة فهي موضوعة بالوضع الشّخصي في مقابل هيئة أخرى فإن هيئة فاعل موضوعة بوضع خاص غير الوضع المختص باسم المفعول والمراد بالهيئة النّوعيّة هي القدر المشترك بين الجزئيات المشتركة في الهيئة كهيئة فاعل بالنّسبة إلى جزئيّاتها كضارب وقاتل وأمثالهما والمراد بالهيئة الشّخصيّة هو الهيئة الجزئيّة الحاصلة في ضمن المادة الخاصة وهي أيضا إمّا تعتبر كليّة بمعنى أن يعتبر وضع ضارب مع قطع النّظر عمن يتكلم به وقد يعتبر وضع جزئياته الصّادرة من المتكلمين وسيأتي الكلام في ذلك هذا ولا شبهة في أنّه إذا أمكن وضع أمور متعددة بوضع واحد كان تكرير الوضع سفها فإذا أمكن وضع هيئة ضارب وقاتل بوضع واحد كان أولى من وضع هيئة ضارب بوضع وهيئة قاتل بوضع آخر وهو ظاهر والحق في المقام الثّاني هو أن الموضوع في المشتق هو الهيئة مع المادة لا أن يكون الهيئة موضوعة بوضع والمادة بوضع آخر وذلك لأن كيفيّة اشتقاق ضارب من الضّرب مثلا يحتمل وجوها ثلاثة أحدها أنّ الواضع وضع هيئة فاعل بوضع وقال إنّ المصدر أيضا موضوع في ضمن هذه الهيئة لإفادة هذا المعنى بالوضع الّذي كان له سابقا والثّاني أن يوضع الهيئة بوضع والمادة بوضع غير وضع المصدر والثّالث أن يوضعهما معا لإفادة معنى المصدر مع زيادة والأوّل فاسد قطعا لأنّ المصدر موضوع في ضمن الهيئة الخاصة وهي قد انتفت بسبب الاشتقاق فكيف يفيد المصدر هذا المعنى من دون وضع جديد وقد انتفى وضعه السّابق إلاّ أن يقال إنّ المصدر لم يعتبر في وضعه هيئة وهذا هو مذهب الشّريف وقد سبق أنّه مخالف لتصريحاتهم مع أنّه غير موجود ولا يصدق التّعريف المذكور حينئذ على المشتقات إذ لم يتغير حينئذ شكل أصلا والثّاني موجب لكثرة الأوضاع والأصل عدمها فتعين الثّالث وإذا ثبت أنّ الموضوع هو مجموع الهيئة والمادة علم أن الحق في المقام الأوّل هو أن الموضوع هو الهيئة الحاصلة في ضمن المادة لكن لوحظ في وضعها عنوان الهيئة الكليّة مع المادة الكليّة ووضعت هي أو جزئياتها فضارب موضوع وقاتل موضوع وهكذا هذا وهل المعتبر هو كلي الضّارب مثلا

 

أو الجزئيات وبما استشكل الأوّل بأنّه مستلزم لعدم كون الألفاظ حقيقة ولا مجازا لأنّهما من صفات الألفاظ الموضوعة والألفاظ كلها جزئي فلا يكون موضوعا كما سبق إليه الإشارة في المسألة السّابقة وأورد ذلك على القول بأنّ الموضوع هو الهيئة الكليّة أيضا إذ ليس المستعمل إلاّ الهيئة الشّخصيّة فيلزم أن لا تكون مجازا ولا حقيقة وفيه أنّه لا منافاة بين كون الموضوع هو الكلي ولا يستعمل إلاّ الفرد وذلك لأنّ المستعمل في الحقيقة هو الكلي وأنّه بنفس الاستعمال يصير فردا فالاستعمال إنّما ورد على الكلي وهو الّذي يتصف بالحقيقة والمجازيّة لكونه مستعملا وإن صار بالاستعمال فردا لكن هذا الجواب لا يمكن إجراؤه في ما ورد على القول بأنّ الموضوع هو الهيئة الكليّة لأنّها ليست مستعملة إنّما المستعمل هو الهيئة الخاصة اللهم إلاّ أن يمنع ذلك ويقال إنّ المستعمل هو الكلي غاية الأمر أنّ لازم استعماله وجوده في مادة معينة فالإيراد التّحقيقي على القول المذكور هو أن يقال إنّه لو كان الموضوع هو الكليّة وكان المادة موضوعة بوضع آخر فنقول إنّ الموضوع له أيضا إمّا كلي من تلبس بالمبدإ أو جزئياته فعلى الثّاني يلزم أن يكون الهيئة متكثر المعنى مع القطع بخلافه وعلى الأوّل فنقول إنّ دلالة الضّارب على من تلبس بالضّرب يلزم أن لا يكون لها دال لأنّ وضع الهيئة إنّما يقتضي دلالته على من تلبس بالمبدإ ووضع المادة إنّما هو للدّلالة على الضّرب فمن أين جاءت الدّلالة على من تلبس بالضّرب فيجب القول بأن الضّارب بمجموعه موضوع لمن تلبس بالضّرب فافهم هذا تمام الكلام في الموضوع وأمّا الموضوع له فالحق أن كل من تلبس بالضّرب مثلا لا جزئياته إذ ليس المتبادر من الضّارب إلاّ المتلبس بالضّرب لا الجزئيات وهو ظاهر الثّاني لا شبهة في أن الفعل الماضي موضوع لمن تلبس بالمبدإ في الزّمان الماضي سواء كان ماضيا بالنّظر إلى حال المنطق أو بالنّظر إلى زمان اعتبره المتكلّم كقولك سيجيء الأمير غدا وقد ركب قبله زيد بساعة واختلفوا في الفعل المضارع فقيل إنّه موضوع لمن تلبس بالمبدإ في الحال وقيل في الاستقبال وقيل فيهما لفظا وقيل معنى وهو الحق فإن المتبادر من قولك يضرب ويدور في الأعمّ من الزّمان اللاحق للمتكلم ومن الزّمان المتأخّر والمراد بالأوّل ما يشمل اللاحق لزمان اعتبر المتكلّم كما لو قال يضرب زيد بعد غد وكقوله تعالى وزلزلوا حتى يقول الرّسول بناء على قراءة نصب يقول فالمضارع نظير الأمر فإنّه حقيقة في الأعم من الفور والتّراخي هذا بحسب الوضع الأولى لكن ربما يلحق بهما حروف توجب انقلاب الموضوع له ويحدث الوضع النّوعي في غيره كما يلحق الماضي بعض أدوات الشّرط فيقلبه إلى الاستقبال ويلحق المضارع لم ولما فينقلب إلى الماضي ولا شبهة في أن اسم الآلة موضوع لما أعد

 

للمبدإ وإن لم يتلبس به فعلا كمفتاح لما أعد للفتح وإن لم يفتح به قط وأمّا أسماء المكان والزّمان فسنشير إليهما إن شاء الله الثّالث لا خلاف في أن المشتق أعني اللّفظ الدّال على الذّات باعتبار اتصافه بالمبدإ وكذا أسماء الزّمان والمكان موضوع لمن تعلق به المبدأ تعلق القيام به كاسم الفاعل أو الوقوع عليه كاسم المفعول والثّبوت له كالصّفة المشبهة واسم التّفضيل أو الحلول فيه كاسمي الزّمان والمكان إنّما الخلاف في أن التّعلق المذكور وهل يعتبر فعليّة أو لا اختلفوا فيه على أقوال أحدها أنّه موضوع لمن تعلق به المبدأ فعلا والثّاني أنّه موضوع لمن تعلق به المبدأ أعمّ من أن يكون فعلا أو في الماضي والثّالث أنّه موضوع لمن تعلق به المبدأ في الأعمّ من الحال والماضي والاستقبال والمعتبر في الفعليّة والمضي والاستقبال إنّما هو زمان النّسبة والحمل فقولنا زيد كان ضاربا أمس حقيقة على الأوّل أيضا إذا صدر منه الضّرب في الأمس فعلم مما ذكرنا أن الزّمان ليس بمأخوذ في معنى المشتق على شيء من الأقوال إنّما النّزاع في زمان التّعلق وعلم أيضا أنّهم لا يقولون بالاشتراك اللّفظي بين من تلبس فعلا ومن تلبس في المضي كما قيل بل يقولون بأنّه موضوع للقدر المشترك وهو من صدر منه المبدأ ووجد منه إمّا فعلا أو في المضي فافهم هذا بحسب مفهوم المشتق وأمّا إذا حمل المشتق على شيء فحقيقيته ومجازيته تختلف على الأقوال المذكورة بالنّسبة إلى زمان الحمل فعلى القول الأوّل يعتبر اتحاد زمان التّعلق وزمان النّسبة أي الحمل فاستعماله فيمن انقضى عنه المبدأ أو لم يتلبس بعد بالنّسبة إلى ظرف الحمل يستلزم المجاز وعلى القول الثّاني يعتبر اتحاد زمانيهما أو تأخر زمان الحمل فلو استعمل فيمن لم يصدر منه بعد لزم المجاز وعلى الثّالث لا مجاز إلاّ إذا استعمل فيمن لا يتعلق به المبدأ أصلا لكن لزوم المجاز في المذكورات لا يجب أن يكون في كلمة المشتق بل يحتمل وجوه ثلاثة فإنك إن قلت زيد ضارب الآن وقد انقضى عنه المبدأ أو لم يتلبس بعد فإمّا يكون المقصود من الضّارب من تلبس به فعلا وهذا يكون حمله على زيد مجازا باعتبار ما كان أو باعتبار ما يؤوّل وإمّا يكون ضارب مستعملا في ما جعله القائل الثّاني حقيقة فيه أو القائل الثّالث أعني المعنى الأعمّ مجازا وإمّا يكون مستعملا في معنى ضرب أو يضرب وعليهما فالمجاز في الكلمة هذا على القول الأوّل والاحتمالات الثّلاثة ثابتة على القول الثّاني إذا قلت زيد ضارب الآن ولم يتلبس به بعد وأمّا على القول الثّالث فقد عرفت أنّه لا يلزم التّجوز وما ذكرنا من المجاز في الحمل باعتبار ما كان أو ما يؤوّل إليه غير ما ذكره البيانيون فإنّه عندهم مجاز في الكلمة فإن المقصود من الخمر في أني أراني أعصر خمرا هو العنب لكن ذكر اسم الخمر باعتبار اتصاف العنب به في المستقبل وهذا لا يمكن اعتباره في المشتق المحمول على الشّيء فإن إرادة

 

محض الذّات من الضّارب موجب لحمل الذّات على الذّات نعم لو لم يكن محمولا جاز اعتبار ذلك كما لو قال رأيت ضاربا وأراد به زيدا الّذي انقضى عنه الضّرب أو لم يتلبس به بعد وذكر اسم الضّارب له باعتبار ثبوته له في السّابق أو اتصافه به في المستقبل فافهم إذا عرفت هذا فنقول الحق أن المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ فعلا بالنّسبة إلى ظرف الحمل للتبادر فإن كلمة ضارب إذا سمع من وراء الجدار تبادر منها إلى الذّهن المتلبس بالضّرب ويظهر ذلك إذا قلت زيد الآن ضارب فذكرت ظرف الحمل فإنّه يتبادر منه قطعا تلبسه بالضّرب في الآن وكذا إن قلت زيد كان في الأمس ضاربا أو سيكون في الغد ضاربا بحيث لو ذكرت ظرف التّلبس بعد ذلك بأن قلت زيد الآن ضارب الآن لزم التّكرار وليس ذلك إلاّ الاتحاد زمان التّلبس وزمان النّسبة بحيث يدل ذكر زمان النّسبة أي الحمل على زمان التّلبس أيضا فيلزم التّكرار عند ذكرهما ولهذا يتبادر من قولك زيد ضارب أنّه متلبس بالضّرب حال النّطق فإنّه يفهم من عدم ذكر ظرف الحمل أنّ الظّرف حال النّطق ولاتحاده مع زمان التّلبس يفهم ثبوت التّلبس أيضا حال النّطق لا لأنّ المشتق موضوع لمن تلبس بالمبدإ في حال النّطق كما توهمه بعضهم حيث رأى أن المتبادر من قولنا زيد ضارب تلبسه به حال النّطق فافهم ولصحة السّلب عن غير المتلبس فإن الّذي صدر منه الضّرب أمس يقال إنّه ليس الآن بضارب بحيث يكون الآن ظرفا للسّلب لا للمسلوب فلا يرد أن نفي ضرب الآن لا يدل على نفي إطلاق الضّارب عليه فافهم ثم إنّ تحقق التّبادر وصحة السّلب إذا أثبت الوضع فيما وجدناه من الصّيغ وجب قياس البواقي عليه لأنّ وضع المشتق نوعي كما سبق وليس لخصوصيات المصادر مدخل في تغيير معنى المشتق بأن يوضع الضّارب لمن تلبس به فعلا وقاتل للأعم منه وممن انقضى عنه بل نقطع باتحاد الوضع في الجميع كما أنّا إذا شاهدنا دلالة طائفة من صيغ الفاعل على من قام به المبدأ حكمنا بأنّ الموضوع هو الهيئة على القول بها فلا يرد أن ثبوت الوضع في بعض الصّيغ لا يوجب ثبوته في الجميع لاحتمال عدم تحقق التّبادر في الصّيغ الّتي لم نرها فالاستقراء ناقص لا يفيد المطلوب فافهم ثم اعلم أن القول في المسألة بين القدماء إنّما هو القول بوجوب التّلبس فعلا والقول بالأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ ولم يكن بينهم قول ثالث لكن حدث بين المتأخرين تفاصيل شتى حيث ورد عليهم شبهات عجزوا عن حلها ففصلوا ولا بأس بالإشارة إلى منشإ توهمهم حتى يظهر فساد ما ذكروه من التّفاصيل في طي فوائد الأولى المعتبر في التّلبس بالمبدإ هو التّلبس العرفي لا العقلي والتّلبس العرفي يختلف بحسب المبادي لأنّ المبدأ قد يكون من الأمور الواقعة في تدريج الزّمان بحيث لا يمكن اجتماع أجزائه في الوجود كالتّكلّم وقد يكون من الأمور الواقعة في الآن وهذا قسمان لأنّه بعد تحققه

 

إمّا يبقى في الزّمان أو لا فالأوّل كالعلم فإنّه يحصل في الآن ويبقى في الزّمان والثّاني كالضرب فإنّه يوجد في الآن فينعدم والتّلبس في الأوّل إنّما هو بكون الشّخص مشغولا به ولو يحرم من أجزائه وفي الثّاني والثّالث بأن يكون متلبّسا به فعلا وبعضهم لما توهم أن المراد من التّلبّس هو التّلبّس العقلي أشكل عليه الأمر في المبادي السّيالة كالتّكلّم فحكم بأنّ المتكلّم موضوع للأعمّ ممن تلبّس وممن انقضى عنه وإلاّ لم يصدق المتكلّم على أحد لعدم إمكان التّلبّس بالكلام وتلبّسا عقليّا بخلاف الغير السّيالة فإنّه موضوع لمن تلبس به فعلا وقد عرفت فساده الثّانية المعتبر في التّلبّس وجود المبتدإ للذات في الواقع وإن لم يكن ملتفتا إلى وجوده فالمؤمن النّائم متلبّس بالإيمان حال النّوم وبهذا ظهر فساد التّفصيل بين ما إذا طرأ على المحل ضد وجودي فلا يصدق المشتق وبين عدمه فيصدق التّوهم أن المؤمن يصدق على النّائم مع انتفاء المتلبّس لعدم طريان الضّد الوجودي ولا يصدق على من كفر بعد إيمانه لطريانه فافهم الثّالثة إذا علق الحكم على عنوان المشتق فقد يعتبر صدق العنوان في بقاء الحكم أيضا كالحكم بنجاسة الماء الجاري المتغير إذ لو زال التّغير صار طاهرا وقد يعتبر في محض حدوث الحكم ولكن بعد حدوثه يبقى وإن انتفى العنوان وهو لا يوجب استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ كقوله تعالى الزّانِيَةُ وَالزّاني فاجلدوا فإن وجوب الجلد يحدث عند صدق العنوان ولكن يبقى بعد انتفاء العنوان أيضا نعم ظاهر التّعليق هو الاشتراط حدوثا وبقاء لكن القرينة هنا موجودة على أنّه شرط حدوثا لا بقاء لعدم إمكان الجلد حال الزّنا أو الإجماع على عدمه وذلك لا يوجب استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ فالزّاني يوم السّبت لا يصدق عليه الزّاني يوم الأحد لكن يجب حده لأنّ الحكم حدث بصدق الزّنا يوم السّبت لا بشرط بقاء العنوان وبهذا ظهر فساد التّفصيل بين ما إذا كان المشتق محكوما عليه فهو حقيقة في الأعم مما انقضى لهذه الآية وبين غيره فيشترط التّلبّس وأضعف من ذلك ما توهم من أنّه حقيقة في الأعم من الاستقبال أيضا لهذه الآية وإلاّ لم يجب الحد على من يصدق عليه الزّاني بعد صدور الخطاب ووجه ضعفه أن التّعميم ليس لصدق الزّاني حال الخطاب على من يتلبّس به بعده بل لعموم الزّاني فكأنّه قال كل زانية وزان يجب حده فيعتبر صدق الوصف بالنسبة إلى كل شخص في زمان تلبّسه به وأمّا بالنسبة إلى من مضى فقد عرفت أنّه لعموم الحكم لا لاستعمال المشتق فافهم الرّابعة قد فصل بعضهم بين المتعدي فلا يعتبر التّلبّس فيه فعلا وغيره فيعتبر نظرا إلى صدق قاتل زيد بعد انقضاء التّلبّس أيضا بخلاف الماء الطّاهر بعد عروض النّجاسة وفيه أن إطلاق القاتل بعد الانقضاء إنّما هو بالنظر إلى زمان التّلبّس فظرف الحمل فيه الزّمان الماضي وقد شاع هذا

 

الاستعمال بحيث يفهم ذلك عند عدم ذكر ظرف الحمل وعدم صحة سلب القاتل عنه إنّما هو لأنّ السّلب يعم الماضي والحال فلا يمكن بالنسبة إلى من اتصف به في الماضي ولذا يصح أن يقال إنّه ليس يقاتل الآن فتأمل الخامسة المبدأ قد يكون فعلا وقد يكون ملكة وقد يكون حرفة والتّلبّس في كل منها بحسبه وبهذا ظهر فساد القول بأنّه حقيقة في الأعمّ مما انقضى إذا كان التّلبّس بالمبدإ أكثريا كما في الخياط والمعلم والقاري وأمثالها ووجه الدّفع أن صدق ذلك على غير المتلبّس إنّما هو لأن المبدأ فيها عبارة عن الملكة والحرفة والتّلبّس يلاحظ بالنظر إليها فمن زال عنه ملكة الخياطة لا يطلق عليه الخياط لأنّ معناه من تلبس بملكة الخياطة فعلا فافهم تنبيهات الأوّل قد عرفت أن أسماء الآلة حقيقة فيما أعد للشيء وإن لم يتلبّس به فعلا وأمّا أسماء الزّمان والمكان كمقتل فالحق فيها هو الحق في أسماء الفاعلين من اشتراط التّلبّس ولا ينافي ذلك إطلاقها على ما انقضى عنه لما عرفت أنّ ظرف الحمل يختلف بحسب ذلك وإن لم يذكر نعم بعضها قد غلب عليه جهة الاسميّة بحيث صار كاسم الآلة كالمسجد والمذبح وأمثالها الثّاني ثمرة المسألة أنّه إذا علّق حكم على عنوان مشتق فلا يشمل من ليس متلبّسا به فعلا على المختار ويشمل ما انقضى عنه المبدأ أيضا على القول الآخر ولا ينافي المختار مثل قوله تعالى الزّانية والزّاني فاجلدوا لأنّ المشتق إنّما وضع للذات المتلبّس والحكم المتعلّق عليه يمكن أن يعلق على الذّات المتلبّس بحيث يكون المناط هو الذّات فلا يزول بزوال العنوان يعلّق عليه بحيث يكون العنوان مناطا لحدوث الحكم لا لبقائه أن يعلق عليه بحيث يعتبر العنوان حدوثا وبقاء وقد شاع الاستعمال في القسم الأخير بحيث صار الكلام المعلّق على المشتق ظاهرا في اشتراطه حدوثا وبقاء بحيث لو أريد غير ذلك لم يمكن بدون قرينة وقد بينا أنها موجودة في الآية فافهم الثّالث اختلفوا في أن المبدأ يجب أن يكون مغايرا للذات في المشتق أو لا ذهب الأشاعرة إلى الأوّل وبنوا عليه القول بأن صفاته تعالى غير ذاته لحملها عليه مشتقا بقولنا هو العالم القادر ولهم على ذلك أدلة أخر أيضا منها أنّها لو كانت عين الذّات لكان حملها على الذّات غير مفيد لأنه في معنى حمل الشّيء على نفسه ومنها أنّه يلزم على ذلك أن يكون إثبات الذّات مغنيا عن إثبات الصّفات ومنها أنّه يلزم أن يكون إثبات إحدى الصّفات مغنيا عن إثبات البواقي ومنها أن ذاته تعالى غير معلوم وصفاته معلوم وغير المعلوم غير المعلوم فذاته غير صفاته وذهب غيرهم إلى الثّاني بتقرير أن المغايرة لا يجب تحققها في الخارج بل يكفي المغايرة الذّهنيّة ومعنى العالم هو الذّات الّذي ينكشف له الأشياء وهذا المفهوم ملزم وغير

 

الذّات لكن مصداقه في الواجب عين الذّات فإنّ نفس ذاته مبدأ الانكشاف وفي الممكن غير الذّات لأنّ مبدأ الانكشاف فيه قوة زائدة على الذّات كما ثبت بالبراهين القاطعة وحينئذ فيكون حمل العالم عليه مفيدا لأنه بحسب المفهوم والمفهوم غير الذّات بل هو من أفراده فهو من قبيل حمل الكلي على الفرد وقد اندفع جميع الوجوه المذكورة أمّا التّمسك باللّغة فلأنّه على فرض اعتبار المغايرة الخارجيّة فيها نحمله على المجازيّة لثبوت الاتحاد بالبرهان الغير القائل للتّأويل وأمّا لزوم عدم إفادة الحمل فقد ظهر فساده لمغايرة المحمول مفهوما وكذا لزوم الاستغناء لجواز ثبوت الذّات بلا انتزاع تلك المفاهيم منه وكذا انتزاع البعض منه دون بعض فإثباته لا يغني عن إثباته وكذا القياس الأخير لأنّ المعلوم من الصّفات هو المفاهيم ومغايرتها للذّات مسلم وأمّا مصداقها فهو عين الذّات ومجهول الكنه

بقي الكلام

في أن حمل الموجود عليه من أي قبيل حيث إن الوجود عين ذاته فحمله عليه كحمله على الوجود ويتم ذلك على القول بأنّ المشتق يجب أن لا يكون فاقدا للمبدإ أو الشّيء ليس فاقدا لنفسه فيصح أن يقال الوجود موجود بمعنى أنّه ليس فاقدا لنفسه وتفصيل القول في المقام أن المشتق كعالم مثلا إذا اعتبر فيه العلم بمعنى المصدر وهو المعنى الحدثي فيتصور له مفهومان الأوّل من قام به العلم بمعنى أنّه قد ثبت له حصة من هذا المفهوم وثبوته له أعم من أن يكون المعنى المذكور موجودا في الخارج أو لا بل يكون ثابتا في الذّهن ويكون منشأ انتزاعه في الخارج كالإمكان للإنسان إذ يصح حمل الممكن عليه مع أنّ الإمكان أمر ذهني والفرق بين الحصة والفرد أنّ الحصة يلاحظ في المفهوم باعتبار إضافته إلى شيء كعلم زيد مثلا فإنّه بهذا الوجه أمر اعتباري والفرد يلاحظ باعتبار وجوده الأصلي الخارجي ومعنى المشتق على هذا هو الأوّل أعني من قام به الحصّة من هذا المفهوم والثّاني من قام به فرد من العلم موجود في الخارج وهذا على وجهين أحدهما أن يكون قيامه بالذات كقيام الصّفة بالموصوف بأن يكون مغايرا للموصوف والثّاني أن يكون قيامه بالذات أعم من قيام الوصف بالموصوف من قيام الشّيء بنفسه وعلى الثّاني يكون معنى العالم من قام به فرد من العلم موجود في الخارج إمّا قيام الوصف بالموصوف وإمّا قيام الشّيء بالنفس بأن يكون العالم معناه فرد من العلم قائم بنفسه والحق في مفهوم المشتق هو القسم الأوّل لعدم صحّة سلب العالم عن الله وليس إلاّ لثبوت العلم له بذلك المعنى ولا يلزم التّركيب الخارجي لما عرفت أنّه لا يلزم منه وجوده في الخارج بل يكفي كون منشإ الانتزاع موجودا في الخارج وهو قد يكون زائدا على الذّات كما في الممكن وقد يكون عينه كما في الواجب وهذا هو الخروج عن حد التّعليل حيث أثبت له الصّفات وعن حد التّشبيه حيث

 

جعل صفاته عين الذّات وليس معنى المشتق من قام به الفرد الموجود وإلاّ لكان حمل الممكن على الإنسان مجازا وأيضا لا يصح ذلك في الحمل عليه تعالى أمّا على فرض المغايرة فلاستلزامه تعدد القدماء وأمّا على فرض الاتحاد فلأنه مستلزم لجواز حمل العلم بالمعنى المصدري عليه تعالى وهو محال وأيضا لو كان ذلك معنى المشتق لجاز أن يحمل التّمار على التّمر لأنّ معناه حينئذ من قام به التّمر قيام الوصف بالموصوف أو قيام الشّيء بالنفس والتّمر قائم بالنفس فيصح أنّه تمار مع أنّه باطل ثم إنّه على فرض كون المراد من قام به الفرد هل يكون صدق المبدإ الكلي على الفرد صدقا ذاتيا أو عرضيا فيه إشكال وطيّ الكلام عن ذكره أولى الرّابع هل يعتبر كون المبدإ قائما بالموصوف أو يكفي صدوره عنه ذهب الأشاعرة إلى الأوّل وبنوا عليه القول بالكلام النّفسي لصدق المتكلّم عليه تعالى فيعتبر قيام المبدإ به تعالى فلا يمكن أن يكون لفظا لحدوثه قالوا ولا يكفي صدور المبدإ في الصّدق وإلاّ لصدق المتحرك عليه تعالى لإيجاده الحركة في الفلك وذهبت المعتزلة إلى الثّاني وأجابوا عن النّقض بأنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة والتّحقيق أن يقال إنّه يجب قيام المبدإ بالموصوف لكن المبدأ في المتكلّم ليس الكلام بل التّكلّم ومعناه إيجاد الكلام وهو قائم به تعالى لأنّه هو عين القدرة ومن آثارها بخلاف التّحرك فإنّ معناه الانتقال لا إيجاد الحركة مضافا إلى أن ما ذكره الأشاعرة لا يختص بالواجب تعالى بل يجري في الممكن لأنّ الكلام قائم بالهوى لا بالشخص قطعا فيجب أن يكون صدق المتكلّم على الممكن أيضا باعتبار الكلام النّفسي ولم يقولوا بذلك الخامس هل المبدأ مغاير للمشتق أو هو هو ذهب أهل المعقول إلى أن المبدأ عين المشتق والفرق بينهما اعتباري بمعنى أن المبدأ أخذ بشرط لا والمشتق لا بشرط كالفرق بين الجنس والمادة والفصل والصّورة ومعنى كونه بشرط لا أنّه لوحظ وحده بحيث إنّ كل ما كان غيره يكون أمرا خارجا عنه بخلاف اللابشرط ولهذا لا يحمل المادة على النّوع ويحمل الجنس عليه لأن الجنس مأخوذ لا بشرط والجنس لا بشرط قد يكون عين ذلك النّوع الّذي هو الموضوع بخلاف المادة وكذا الضّرب إن اعتبر بشرط لا لم يحمل على الذّات وكان هو المبدأ وإن اعتبر لا بشرط حمل عليه وكان هو المشتق فمعنى النّطق والنّاطق أمر واحد وليس الذّات مأخوذا في المشتق لأنّ أخذ مصداق الذّات يوجب انقلاب الممكنة ضروريّة كقولك زيد كاتب بالإمكان لأنّه حينئذ في معنى زيد زيد وأخذ مفهومه موجب لصيرورة الحدود رسوما لأنّ النّاطق إذا أخذ فيه مفهوم الذّات لم يكن ذاتيا للإنسان بل يكون عرضيا فلا يكون فصلا وفيه نظر لأنّ الذّات مأخوذ مفهوما قطعا وتسمية النّاطق فصلا مسامحة إذ لا اطلاع لغير علاّم الغيوم على ذاتيات الأشياء لكنهم

 

لاحظوا لبعض خواص النّوع مما هو أقرب إلى فصله فاشتقوا منه ما جعلوه فصلا ولذا ذكروا الحساس والمتحرك بالإرادة معا فصلا للحيوان مع امتناع أن يكون للشّيء الواحد فصل في عرضه واحدة لكن لما وجدوا له خاصيتين ولم يتبينوا أن أيّهما أقرب إلى الفصل ذكروهما معا في التّعريف فتأمّل وبما ذكرنا علم أن المعنى المشتق مركب من الذّات والعنوان في مقام التّحليل وإن عبر عنه بلفظ بسيط فافهم

أصل في الأوامر

والكلام في مقامين أحدهما في مادة الأمر والثّاني في هيئته ووجه ذكرهما في علم الأصول كثرة وقوع الاختلاف فيهما فلا يرد أن مسائل العلم ما كان موضوعه موضوع العلم أو نوع منه وعرض ذاتي له ما يكون المراد من الأوامر خصوص ما في الكتاب والسّنة أو العموم وكيف كان لا وجه لتخصيصهما من بين سائر المواد والهيئات الثّابتة في الكتاب والسّنة ولا حاجة إلى ما قيل في الاعتذار من أن مواد اللّغة ليس مستندها معلوما معرفتها هو الرّجوع إلى النّقلة بخلاف الهيئات للعلم باتحاد معناها بالنظر إلى اللّغات فيمكن للشّخص الاجتهاد فيها بالرّجوع إلى مرادفاتها مع أن هذا الاعتذار لا يجري في ذكر مادة الأمر والأمر سهل

المقام الأوّل

وفيه مطالب الأوّل عرف الأمر تارة بأنه القول الدّال على الطّلب وأخرى بأنه الطّلب المدلول بالقول وربما أرجع الأوّل إلى الثّاني بأنّ المراد بالقول في الأوّل القول النّفسي وهذا فاسد لأنّ القول النّفسي إمّا عبارة عن مدلول القول اللّفظي فهو عين الطّلب لا أنّه دالّ على الطّلب وإمّا عبارة عن صورة الألفاظ المرتبة في الذّهن فهو غير الطّلب المدلول وربما قيل إنّ التّعريف الثّاني تسامح ومراده هو القول وهو بعيد والحق أنّه عبارة عن الطّلب بالمعنى الحدثي المصدري لا المعنى الحاصل بالمصدر في نفس الطّالب لاشتقاق أمر ويأمر وغيرهما منه فإنّ الأصل في الاشتقاق أن يكون من المصدر وبهذا يضعف جعله بمعنى القول لاختلاف معنى القول والمأمور بخلاف ما إذا جعل بمعنى الطّلب إذا المراد به الإلزام والمأمور هو الملزم لا يقال إنّ القول بمعنى الخطاب والمأمور هو المخاطب لأنّا نقول القول غير الخطاب لأنّ الخطاب هو توجيه الشّخص بالكلام فقد لوحظ فيه الشّخص بخلاف القول ثم إنّه هل يعتبر فيه كونه مدلولا عليه باللّفظ الحقيقي أو لا بل يكفي إفادته بالإشارة والكناية أو باللّفظ المجازي وغير ذلك الحق هو الثّاني لصدق الأمر على الجميع عرفا الثّاني اختلفوا في أنّ معناه هو مطلق الطّلب أو خصوص المانع من النّقيض أعني الوجوب والثّمرة بينهما ظاهر لأنه على الأوّل لا يحمل على أحدهما إلاّ بالقرينة بخلافه على الثّاني لكن من الأوّلين من ادعى أنّه منصرف إلى خصوص الطّلب الوجوبي انصراف الكلي إلى الفرد الشّائع الظّاهر والحق هو القول الثّاني لتبادر الوجوب منه عرفا مضافا إلى ما ذكروه

 

من قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الّذينَ يُخالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ وقوله تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ لا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ وحديث بريرة أتأمرني قال بل أنا شافع وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وغير ذلك ودعوى التّبادر إنّما تنفع قبالا لمن يقول بوضعه لمطلق الطّلب من دون دعوى الانصراف وأمّا من يقول بأنّه منصرف إلى خصوص الوجوب فلا يضره التّبادر فيحكم بأنه لغلبة الاستعمال فهو إطلاقي لا وضعي ويمكن أن يقال إن المتبادر في العرف هو الوجوب بخصوصه وإن كان لغلبة الاستعمال وغلبة الاستعمال من أمارات الحقيقة كما مر سابقا ومقتضى ذلك كونه حقيقة في خصوص الوجوب لا يقال إن كونه حقيقة في الوجوب لا ينافي وضعه لمطلق الطّلب لأنّه من باب إطلاق الكلي على الفرد لأنّا نقول ليس المتبادر أولا مطلق الطّلب ثم ينصرف إلى الوجوب بل المتبادر ابتداء خصوص الوجوب كما لا يخفى على من رجع إلى العرف ثم إنّ هذا القائل لم يفرق بين مادة الأمر وهيئته فحكم بالانصراف في الهيئة أيضا وهو ينافي ما ذكروه من أن معنى الإنشاء جزئي وهو الفرد الموجود في النّفس عند إنشاء اللّفظ والانصراف لا يطلق اصطلاحا إلاّ على الكلي المنصرف إلى فرده لا يقال إن الطّلب الحاصل في النّفس إنّما يحكم بجزئيته من حيث إنّه من أفراد مطلق الطّلب قائم بالنفس فلا يمتنع كونه كلها بالقياس إلى الوجوب والنّدب لأنّا نقول الجنس لا تقوم له في الخارج بدون الفصل فحصول الطّلب في النّفس لا يمكن بدون أحد الفصلين من الوجوب والنّدب فإن وجود الطّلب في الخارج هو قيامه بنفس الطّالب فلا يمكن بدون الفصل وعلى هذا فيجب أن يقول إنّه لوحظ مطلق الطّلب ووضع بإزاء جزئيات الوجوب وجزئيات النّدب لا جزئيات مطلق الطّلب الّتي هي كليات بالنسبة إلى الوجوب والنّدب لما علمت أنّه لا يوجد في الخارج أي في النّفس والحاصل أن مراد من يقول إن الموضوع له هو مطلق الطّلب في الهيئة أن آلة الملاحظة في الوضع هو مطلق الطّلب والموضوع له كل واحد من جزئيات الوجوب والنّدب ومن يقول إن الموضوع له هو الوجوب مراده أنّه الملحوظ والموضوع له جزئياته خاصة وبهذا ظهر فساد ما قالوا في ترجيح القول الثّاني على الأوّل بأنّه على الأوّل يكون استعماله في كل من الوجوب والنّدب مجاز بخلافه على الثّاني وكذا ما قيل في رده بأنّه على الثّاني أيضا يكون استعماله في النّدب وفي المطلق مجازا فتساويا مع أنّه قد لا يكون استعماله على الأوّل مجازا في الوجوب والنّدب لجواز كونه من باب إطلاق الكلي على الفرد وذلك لما بينا أنّ مراده أن الموضوع له هو جزئيات الوجوب والنّدب والملحوظ حال الوضع هو المطلق والمستعمل فيه لا يكون إلاّ جزئيات الوجوب والنّدب واستعماله فيهما استعمال فيما وضع له لا من قبيل إطلاق الكلي على الفرد فتلخّص من ذلك

 

أن دعوى الانصراف لا تصح في الهيئة إن قلنا بأنّ المنع من التّرك والإذن فيه فصلان للطّلب وكذا لو قلنا بأنّ الطّلب نوع وهما عرضان له لأنّ النّوع أيضا لا يوجد في الخارج بدون عوض من الأعراض ولا يمكن أن يقال إنّ الطّلب قد يوجد في النّفس من دون الفصلين حال الغفلة لأنّا نقول الوجوب والنّدب أمران بسيطان وإنّما ينتزع منهما الطّلب والمنع من التّرك أو الإذن فيه عقلا فلا يمكن حصول الطّلب بدون حصول أحدهما نعم يمكن كون الملحوظ في الوضع هو جهة الطّلب دون الخصوصية بأن يقال قد لوحظ مطلق الطّلب ووضع اللّفظ بإزاء جزئيات الوجوب والنّدب من حيث إنّها من جزئيات الطّلب لا من حيث إنّها من جزئيات الوجوب أو النّدب ولا ثمرة في ذلك فتأمّل وحينئذ فيشكل الأمر في نحو اغتسل للجمعة والجنابة إلاّ أن يجاب بالحذف وأنّ التّقدير واغتسل للجنابة وكذا في نحو أكرم العلماء حيث استعمل في الأكثر من طلب واحدا لا أن يلتزم بجوازه في خصوص المقام فتأمل جدا الثّالث اختلفوا في اعتبار الاستعلاء والعلوّ في معنى الأمر على أقوال اعتبارهما واعتبار الاستعلاء دون العلوم وبالعكس اعتبار أحدهما وهو الحق أمّا كفاية الاستعلاء فظاهر كما ترى أنّه يذم الدّني المستعلي على الغير في الطّلب ويقال له أتأمره وهو أعلى منك وهذا الذّم يمكن أن يكون لتصدي الدّاني لأمر لا يقدر عليه أعني إنشاء الأمر لاعتبار العلوّ في الأمر ولا علوّ في الدّاني ويمكن أن يكون لتصديه لأمر لا يليق به وهو الاستعلاء وهو الأصح وأمّا كفاية العلوّ فلصدق الأمر على طلب المولى من العبد شيئا من دون استعلاء لكن يشترط عدم كونه بخضوع فالمعتبر إمّا الاستعلاء أو العلوّ الّذي لا يكون مع الخضوع والاستدلال على عدم اعتبارهما بقوله تعالى حكاية عن فرعون لقومه فما ذا تأمرون وكذا بلقيس وقول عمرو بن عاص لمعاوية أمرتك فعصيتني مع أنّهم رعايا لا علوّ فيهم ولا استعلاء فاسد لأنّ السّلطان في مقام المشورة أدنى من الوزير المستشار ثم إن المراد بالعلوّ كونه بحيث يجب إطاعته عقلا أو شرعا أو عادة الرّابع قيل في تعريف الأمر أنّه طلب الفعل فأورد عليه بأنّه إن كان المراد بالفعل الأمر الوجودي خرج مثل اترك أو مطلق الحدث دخل النّهي لأنّه طلب التّرك وربما زاد بعضهم أنّه طلب الفعل غير الكف فأورد عليه بخروج مثل كفّ عن الزّنا فأجيب بأنّ المراد من الكفّ الكفّ الّذي هو مدلول النّهي بناء على دلالته على الكفّ وهو باطل كما سيأتي والتّحقيق أن يقال إنّ الأمر هو طلب الشّيء بمعنى أنّه الإغراء على الشّيء والنّهي هو المنع عن الشّيء فمثل قولك كفّ عن الزّنا من حيث إنّه باعث على الكفّ وإغراء به أمر ومن حيث إنّه مانع عن الزّنا نهي فالاختلاف بينهما لغة إنّما هو بالحيثيّة فافهم

المقام الثّاني

وفيه مطالب الأوّل صيغة افعل وما بمعناها حقيقة في الوجوب للتّبادر ولذم العبد التّارك للضرب بعد قول المولى له اضرب وليس القرينة فيه علوّ

 

المولى لأنّ المولى يطلب المستحبات أيضا وللآيات والأخبار السّابقة بتقريب أنّه إذا قال العالي اضرب يقال إنّه أمر وقد ثبت أن الأمر للوجوب بتلك الآيات والأخبار لا يقال إنّ العلوّ شرط في إفادة الوجوب لأنّا نقول إمّا يعتبر العلوّ في جانب الموضوع فيقال الصّيغة الصّادرة من العالي حقيقة في الوجوب فهو فاسد لأنّه احتمال ضعيف مع أنّه عديم النّظير في الألفاظ حيث لم يعتبر خصوصيّة المتكلّم فيها وإمّا يعتبر في جانب الموضوع له فيقال الصّيغة حقيقة في الطّلب الصّادر من العالي كلفظ الأمر فهو أيضا باطل لأنها إنشاء فيكون مراد القائل إنّها وضعت لتصدر من العالي فيلزم أن يكون صدورها من الدّاني غلطا وليس كذلك بخلاف لفظ الأمر لأنّه إخبار ولا ضير في كون إطلاقه على الدّاني مجازا الثّاني الوجوب على أقسام مطلق ومشروط نفسي وغيري عيني وكفائي تعييني وتخييري تعبدي وتوصّلي وهل الوجوب حقيقة في الجميع أو لا وهو موقوف على تحقيق أن الوجوب حقيقة واحدة واختلافه إنّما هو باختلاف المتعلقات أو لا بل هو هذه الأقسام مختلفة الحقائق فعلى الأوّل لا معنى للنّزاع في أنّه حقيقة في الجميع أو مجاز وعلى الثّاني يمكن ذلك فنقول أمّا القسمان الأوّلان أعني المطلق والمشروط فالحق أنّهما متفقان في الحقيقة واختلافهما إنّما هو بالاختلاف في المتعلق وذلك لأنّ الوجوب في الواجب المشروط يحصل بمحض الطّلب لكن المتعلق شيء مقيد فقولنا حج إن استطعت الوجوب حاصل فيه من حيث حين الخطاب لأنّه إنشاء لا يقبل التّعليق لكن المطلوب الحج المقيد بالاستطاعة بخلاف ما إذا قيل حج فإنّه مطلق لعدم تقييد المتعلق بشيء كذا قيل ويشكل بأنهم قد فرّقوا بين الواجب المطلق والمشروط بأنّ الأوّل يجب مقدماته بخلاف الثّاني فلو قال المولى صل مع الطّهارة وجب تحصيل الطّهارة بخلاف ما لو قال صل إن تطهرت فلو كان الشّرط بمنزلة قيد المطلوب وجب تحصيله أيضا فالأولى أن يقال إن الشّرط في الواجب المشروط قيد في المكلف فقوله حج إن استطعت بمنزلة المستطيع يجب عليه الحج ولا يجب على الشّخص أن يدخل نفسه في موضوع التّكليف ومن ذلك ما لو قيل أكرم زيدا إذا طلعت الشّمس فإنّ المكلف هو الشّخص المصادف للطلوع ولا فرق بينه وبين قولنا أكرم زيدا في الغد فإنّه أيضا مشروط فالضابط أنّ كل قيد كان الطّلب مترتبا عليه كالأمور الغير الاختياريّة كالوقت وكالاستطاعة في الحج فالواجب بالنسبة إليه مشروط وهو معتبر في عنوان المكلف وكل قيد ترتب هو على الطّلب كان الواجب بالنّسبة إليه مطلقا كالطّهارة وبما ذكرنا ظهر فساد ما قيل إنّه إذا قال المولى حج في الموسم فهو واجب مطلق معلّق وإذا قال حج إن دخل الموسم فهو واجب مشروط وذلك لما عرفت أنّ الواجب بالنّسبة إلى الأمر الغير الاختياري لا يمكن أن يكون مطلقا ويمكن أن يقال في الفرق إنّ وجود القيد في المشروط معتبر في المكلف وكون الشّخص ممن يحصل فيه الوصف موضوع

 

للمعلق فالقيد في المعلق حاصل للمكلف من حين الخطاب فيتعلق به الطّلب ويجب مقدماته المقدرة بخلاف المشروط فافهم فحاصل الكلام أنّهما متحدان في الحقيقة وإن اختلفا بحسب الموضوع والمكلف ثم لا يخفى أن هذا لا ينافي حمل الخطاب على الواجب المطلق ما لم يبين الشّرط وذلك لأنّه ليس لكون الأمر مجازا في المشروط بل إنّما هو لأنّ المكلف يكون ذات الشّخص عند عدم ذكر الشّرط نظير اللّفظ الموضوع للطّبيعة فإنّه يحمل على الإطلاق ما لم يذكر القيد فإذا ذكر القيد لم يكن مجازا وهذا يكفي في رد السّيد المرتضى ره حيث ادعى أنّه إذا ورد الخطاب المطلق لم يمكن حمله على الوجوب المطلق لاشتراك الأمر بينه وبين ذلك المشروط ولا يحتاج رده إلى ما ذكره بعضهم من أنّه مجاز في الواجب المشروط إذ هو ليس بواجب حقيقة قبل حصول الشّرط مع أن ما ذكره فاسد من أصله لما عرفت أن الوجوب إنشاء يحصل بمحض إنشاء الصّيغة ولا يلزم في تحقق الوجوب تحقق المكلف في الخارج لجواز أن يلاحظ عنوان المستطيع في الذّهن ويطلب منه الحج فكل من دخل تحت العنوان وجب عليه حينئذ لا لأنّ الوجوب لم يكن حاصلا قبل دخوله تحت العنوان بل لأنّه لم يكن من أفراد عنوان المكلف فافهم أو تأمل تفهم وأمّا بالنّسبة إلى التّعيين والتّخيير فالظّاهر من المشهور عن غير الأردبيلي رحمه‌الله أنّه حقيقة فيهما وذلك لأنّهم ذكروا في وجه حمل المطلق على المقيد أنّ المقيد هو المتيقّن ولو كان الأمر مجازا في التّخييري لقالوا بأنّ أصالة الحقيقة في الأمر يقتضي الحمل المذكور إذ لو لم يحمل المطلق على المقيد فمقتضى اتحاد التّكليف حمل أمر المقيد على التّخييري وهو مجاز بخلاف إرادة المقيد من المطلق فإنّه ليس مجازا على التّحقيق ثم إنّ تحقيق المطلب يتوقف على بيان أن الوجوب حقيقة واحدة بالنسبة إليهما أو هما حقيقتان مختلفان وفهم ذلك موقوف على فهم معنى الوجوب التّخييري فنقول ذهب الأشاعرة إلى أنّ الواجب في التّخييري هو أحد الأبدال لا بعينه وعند المشهور أنّ الواجب كل واحد منها لا إلى بدل وأورد على الثّاني بأنّه إن كان المراد أن وجوب كل منها مشروط بترك الآخر لزم أنّه حين ترك الجميع يكون كل منها واجبا معينا لوجود شرطه وهو ترك الآخر وإن كان المراد أنّ الواجب مقيد بمعنى أن الوجوب عبارة عن الطّلب مع المنع من التّرك المطلق أمّا التّرك إلى بدل فليس بنوع لزم تعدد العقاب عند ترك الجميع لأنّ كل واحد ترك مطلقا وقد كان ممنوعا وأيضا تعدد المطلوب كاشف عن تعدد الطّلب وحدة الطّلب كاشف عن وحدة المطلوب إذ لا يمكن وحدة الطّلب وتعدد المطلوب بمعنى أن يكون كل منها مطلوبا بالاستقلال وذلك لأنّ مقتضى المطلوب المستقل أنّه لو أتى به سقط الطّلب فيلزم بقاء المطلوب الآخر بدون الطّلب أو سقوطه فلا يكون مستقلا والمفروض أن الطّلب في التّخييري واحد فيجب أن يكون المطلوب أيضا

 

واحدا وهو الكلي المنتزع الّذي يدل عليه أداة التّخيير وهو أحد الأبدال لا بعينه وهو واجب معين يلزم تركه من ترك الجميع فيثبت عقاب واحد على تركه وحينئذ فاتحد حقيقة الوجوب بالنسبة إليهما لكن إذا ورد الأمر حمل على التّعييني لأنّ ظاهر الهيئة مطلوبيّة المادة لا الأمر المنتزع ويبعد القول المذكور أنّه يلزم عليه عدم كون الفرد واجبا أصلا عند الأمر بالكلي مع أنهم ذكروا أنّه واجب مقدمة بالوجوب التّخييري إذ صار حاصل الوجوب التّخييري وجوب الكلي وأيضا فإن الحكم يتبع المصالح ولا مصلحة في مفهوم أحدهما بل هي في الفردين فالتّحقيق أنّ الواجب هو الفردان على التّرديد بمعنى أنّ التّرديد يعتبر أوّلا ثم يطلب الأمر المردد فيحصل المطلوب بأحدهما وينتفي بانتفاء المجموع وأمّا بالنسبة إلى النّفسي والغيري فحقيقة فيهما لرجوع النّفسي إلى المطلق والغيري إن كان بصدد وجوب الغير فيرجع إلى المطلق وقبله إلى المشروط وكذا بالنسبة إلى العيني والكفائي فإنّهما يرجعان إلى التّعييني والتّخييري إلاّ أنّ التّرديد هنا إنّما هو بالنّسبة إلى المكلف ولا دخل له في اختلاف مفهوم الوجوب وكذا التّعبديّة والتّوصّليّة لا توجبان تعدد حقيقة الوجوب هذا لكن الظّاهر من الأمر هو الوجوب المطلق النّفسي التّعييني العيني التّوصّلي أمّا الأوّل والثّاني فلأصالة عدم التّقييد كما مر وأمّا الثّالث والرّابع فلأنّ الظّاهر من الأمر طلب مادته لا مفهوم أحدهما لأصالة عدم السّقوط بفعل الآخر وأمّا الأخير فلعدم فهم اشتراط القربة من الأمر وسيأتي تحقيقه إن شاء الله ثم إنّه إذا قامت قرينة موجبة للخروج عن الأصل ودار الأمر بين وجهين من الوجوه المخالفة للأصل فيتصور هناك صور منها دوران الأمر بين كون شيء شرطا للوجوب وكونه شرطا للوجود فقيل بترجيح الثّاني لأنّ الأوّل ينافي عموم الهيئة بخلاف الثّاني فإنّه يقيد إطلاق المادة ولأنّه إذا كان قيدا للوجوب كان قيدا للوجود الواجب أيضا فتقييد الوجود هو القدر المتيقن وفيه أنّ الهيئة أيضا مطلق فعمومها عقلي لا لغوي وتقيد الوجوب لا يقتضي تقييد الوجود فإنّ التّقييد تابع للاعتبار والّذي يلزم من تقييد الوجوب هو تقيد الوجود قهرا لا تقييده كما هو المطلوب ومنها دوران الأمر بين كون الشّيء شرطا للوجوب حدوثا أو حدوثا وبقاء فمقتضى أصالة البراءة هو الثّاني ومنها دوران الأمر بين كون الحدوث شرطا لحدوث الوجوب والبقاء لبقائه أو البقاء للوجود فقط ومنها دورانه بين كون الحدوث شرطا لحدوث الوجوب والبقاء لبقائه أو كلاهما للوجود وفي كلا الصّورتين قبل حدوث الشّرط الأصل هو البراءة وبعده يستصحب الاشتغال ويكون شكا في المكلف به ومنها دورانه بين المشروط والتّخييري فقبل حصول الشّرط الأصل هو البراءة وبعده الأصل عدم سقوطه بفعل لآخر ومنها دورانه بين المشروط والكفائي فقبل الشّرط يجري البراءة وكذا

 

بعده إن قارن العلم بقيام الغير به للشّك في تعلق التّكليف رأسا وإلاّ فالأصل عدم سقوطه بفعل الغير ومنها دورانه بين التّخييري والكفائي فقبل قيام الغير يجب الفرد المحتمل التّعين للاشتغال وبعده يتخير بينهما إذ لو كان معينا فقد سقط بفعل الغير ومنها دورانه بين أحد الوجوه والاستحباب بناء على كونه حقيقة فيها مجازا في الاستحباب فمقتضى الأصل تقديم الوجوه المذكورة لكن ربما يقدم الاستحباب لبعض الوجوه كما حكموا بأنّ الأمر بالنزح محمول على الاستحباب النّفسي وقدموه على الوجوب الغيري كما قدموا حمل المطلق على المقيّد مع قولهم بمجازيته على حمل أمر المقيّد على التّخييري لفهم العرف هذا مقتضى القواعد وأمّا مقتضى الأصل العملي فهو نفي الوجوب إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب وقد يحكم بثبوت الرّجحان إذا كان متيقّنا بقي الكلام في دوران الأمر بين التّعبدي والتّوصّلي والتّحقيق فيه يحتاج إلى بسط في الكلام فنقول أوّلا أنّه قيل الفرق بين الواجب التّعبدي والتّوصّلي وجوه الأوّل أنّ الواجب التّعبدي محتاج إلى قصد القربة بخلاف التّوصّلي وهذا ينحل إلى أمرين القصد والقربة والتّوصّلي لا يحتاج إلى شيء منهما والثّاني أن الأوّل يجب فيه المباشرة بخلاف الثّاني والثّالث أن الأوّل لا يجتمع مع الحرام بخلاف الثّاني وقد ينتقض بأن وقاع المرأة الواجب في القسم لا يحتاج إلى القربة مع وجوب المباشرة فيه وأن الحج محتاج إلى نيّة التّقرب مع أنّه قد يقبل النّيابة وكيف كان فهل الأمر بنفسه يقتضي التّعبديّة أو التّوصّليّة فنقول أمّا وجوب نيّة التّقرب فليس مدلولا للأمر لأنّه فرع الأمر فلا يكن إرادته منه بل هو مستلزم للدور وأمّا وجوب المباشرة فالتّحقيق أن الأمر يقتضيه كما يقتضي تعيين الفعل فقولك اضرب كما يقتضي وجوب الضّرب دون القتل فكذا يقتضي صدوره من المخاطب دون غيره مضافا إلى أن المأمور هو المخاطب فلا يمكن أن يكون المأمور به فعل غيره ولا الأعم لعدم كونه مقدورا له نعم يمكن كونه مسقطا للواجب لحصول لا لتحقق الامتثال فإن حصوله بفعل الغير غير ممكن وأمّا وجوب القصد قولان أحدهما عدمه لعدم دلالة الأمر عليه لغة ولا عرفا ولا عقلا والثّاني ثبوته لوجوه الأوّل أنّ الأمر مشتق من المصدر والمصدر إنّما وضع للفعل الصّادر عن القصد فالضرب لم يوضع إلاّ للمقصود منه أو يقال إن معنى اضرب اطلب ضربك والمصدر المضاف حقيقة في الفعل المقصود يعني أن هيئة الإضافة وضعت لذلك وعلى الأوّل فيحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا عمل إلاّ بالنّيّة على نفي الذّات والثّاني أن الأمر وإن لم يكن حقيقة في ذلك لكنه ينصرف إليه لشيوع استعماله في المقصود والثّالث أن العقل يقتضي ذلك لأنّ المأمور في الحقيقة هو النّفس لا البدن لكن العامل هو البدن فتكليف النّفس بعثه البدن على العمل والبعث على الشّيء لا يمكن بدون تصوره وقصده والرّابع أن المأمور به هو

 

الفعل الاختياري والفعل الاختياري لا يمكن صدوره بدون القصد بل بدون الغاية لأنّ نسبة الاختيار إلى الوجود والعدم متساوية فتأثيره في أحدهما بدون القصد والمرجح محال فكل فعل لم يصدر بالقصد فهو غير اختياري يستحيل التّكليف به أو بالأعم منه ومن الاختياري هذا لكن الوجه الأوّل فاسد لعدم صحة سلب المصدر عن الأفعال الغير الاختياريّة كما يقال جرى الماء وتحرك الحجر وسقط الجدار وغير ذلك وكذا الوجه الثّالث إذ لا نسلم أن العامل هو البدن حتى يحتاج بعث النّفس له إلى القصد بل العامل هو النّفس والبدن آلة فإذا جاز صدور الفعل من العاقل بلا قصد جاز من النّفس أيضا فتأمّل وهل يعتبر القصد بالعنوان الّذي تعلق به الأمر أو يكفي القصد بعنوان آخر وأن غفل عن ذلك العنوان الحق هو الأوّل لما ذكر أن التّكليف إنّما يتعلق بالأمر الاختياري فالعنوان المتعلق للأمر يجب أن يكون اختياريّا وهو لا يمكن بدون القصد فلو شرب الخمر باعتقاد أنّه ماء لم يفعل حراما حيث لم يقصد شربه بعنوان الخمريّة نعم إذا لزم من قصد عنوان قصد العنوان المتعلق للأمر تبعا كفى في التّكليف كما لو كان ملتفتا بأنه خمر وشربه بعنوان أنّه مائع مسكن للعطش فإنّه حرام حينئذ فافهم فعلم مما ذكرنا أن اعتبار المباشرة مقتضى الأمر واعتبار قصد العنوان مقتضى العقل والعرف وأمّا الفرق بجواز الاجتماع مع الحرام ففاسد لأنّ المناط فيه هو أن تعدد الجهة مجد في جواز اجتماع الأمر والنّهي أوّلا فعلى الأوّل يجوز في التّعبدي أيضا وعلى الثّاني لا مطلقا نعم قد يكون الحرام مسقطا عن الواجب التّوصّلي فالفرق بينها جيد هذا ثم إنّ الأصل في الواجب هل هو اشتراط نيّة القربة فيه أو لا بمعنى أنّه هل يوجد من الخارج ما يدل على أن القاعدة في الواجب هي اشتراط ذلك ولا بعد ما عرفت من عدم دلالة الأمر عليه فنقول مما تمسكوا به على ذلك قوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ بتقريب أنّ مفادها حصر غاية الأوامر في العبادة لله على وجه الإخلاص فإنّ تعدية الأمر إلى المأمور به إنّما هو بالباء فذكر اللام إنّما هو العلة الغائيّة ولبيان غاية المأمور به وهذا يدل على المطلوب لوجهين أحدهما أن العبادة لغة هو الفعل على وجه الامتثال فتدل على أن الغرض هو العمل على وجه الامتثال وهو المراد بقصد القربة والثّاني أنّ ذلك معنى العبارة على وجه إخلاص للدين لأنّ الدّين إمّا بمعنى القلب أو بمعنى الشّريعة وكيف كان يدل على اعتبار إتيان الفعل خالصا لله بأن يلاحظ فيه دون غيره فيدل على اعتبار القربة مع اعتبار عدم غيرها من الدّواعي كالوضوء للقربة والتّبرد مثلا وأورد عليه بأنّ الآية في بيان تكاليف أهل الكتاب في شريعتهم فلا يدل على أنّ ذلك هو تكليفنا ولا يمكن إجراء أصالة عدم النّسخ لأنّها إمّا ترجع

 

إلى أصالة عدم التّقييد الزّماني وهو إنّما يمكن فيما إذا كان المكلف عموم النّاس بإطلاق الزّمان وأمّا إذا كان المكلف خصوص بعض الأشخاص كالمشافهين فلا وإمّا ترجع إلى استصحاب الحكم السّابق وهو أيضا باطل لأنّ الموضوع هو أهل ذلك الزّمان من المكلفين فلا يمكن الاستصحاب في حق غيرهم لأنّ ثبوت الحكم في حقهم مشكوك ابتداء مع أنّ العلم الإجمالي بثبوت النّسخ يمنع عن إجراء الاستصحاب كما في الشّبهة المحصورة وأجيب أوّلا بأنّا لا نحتاج إلى الاستصحاب لأنّه قوله تعالى وَذلكَ دينُ القَيِّمَة دالّ على أنّه تكليفنا مضافا إلى سياق الآية وثانيا أن الاستصحاب لا مانع من إجرائه لأنّ الحكم السّابق إنّما كان لعنوان المكلف من دون مدخليّة لخصوصيات الأشخاص حتى أنّ أهل الشّريعة المتأخرة لو كانوا موجودين في الشّريعة السّابقة لكانوا مكلفين بها بل الموجب لنسخ الأحكام هو اختلاف الزمان وحينئذ فإذا شك في أنّه هل صار سببا لارتفاع الحكم الفلاني جاز استصحابه وأمّا العلم الإجمالي فلا يضر في المقام بيان ذلك أن السّر في مانعيّة العلم الإجمالي في الشّبهة المحصورة وحكمه بوجوب الاحتياط فيه إنّما هو لوجود العلم بالتّكليف ولا يتيقن بامتثاله إلاّ بترك الجميع فيجب من باب المقدمة لكن إذا كان أحد الطّرفين معلوم الحكم من وجه آخر لم يكن العلم الإجمالي مانعا كما إذا وقع نجاسة في أحد الإناءين وكان أحدهما بولا والآخر ماء لم يمنع من جواز استعمال الماء للشّك في أنّه بوقوعه هل أحدث تكليفا جديدا أو لا فالأصل البراءة إذا علم هذا فنقول إنّ الأحكام الّتي يعلم أنّها منسوخة في الشّريعة إجمالا إمّا نعلم أنّها كانت وجوبات نسخت إلى الإباحة وحينئذ فلا يخفى أنّ مقتضى الاحتياط الحكم ببقاء الوجوب ولا ينافي كونه مباحا في الشّريعة لأنّه لا ينافي الإتيان باحتمال الوجوب من باب المقدمة كما فيما نحن فيه لأنّ قصد القربة كانت واجبة ونشك في كونها منسوخة إلى الإباحة فيجب إتيانها احتياطا وإمّا نعلم أنّها نقلت من الإباحة إلى الوجوب فحينئذ نقول إنّ هناك وجوبات معينة معلومة في الشّريعة ولا نعلم أنها هي الوجوبات المنقول إليها حتى يكون غيرها أعني الموارد المشكوكة باقيا على ما كان عليه من الإباحة أو لا بل الموارد المشكوكة من جملة الواجبات المنقول إليها فلا شبهة أنّا نحكم ببقاء الموارد المشكوكة على إباحتها السّابقة ولا يضره العلم الإجمالي لما عرفت من مثال الشّبهة المحصورة هذا لكن في الاستدلال بالآية نظر من وجوه أخر أوجهها أنّ اللاّم ليس للغاية لأنّ قوله تعالى وَيُقيمُوا الصلاة وَيُؤْتُوا الزكاة معطوف على يَعْبُدُوا اللهَ فلو كان اللاّم للغاية لزم أن يكون غاية كل عمل إقامة الصّلاة وإتياء الزّكاة بل اللام للتّعدية كما في قوله تعالى وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ والمراد بالعبادة هو المراد في قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ والمراد بالإخلاص عدم

 

جعل الشّريك له تعالى فافهم ومنها أنا سلمنا أنّ اللاّم للغاية والمراد قصد القربة لكن يتعارض الآية مع كل ما علمت من الأدلّة الواردة في الأفعال الواجبة إذ لم يعتبر فيها بقصد القربة وتلك أخص مطلقا من الآية فيقدم عليها ولا أقل من كونها أخص من وجه فيثبت التّعارض فلا يتم الاستدلال وفيه أنّ الآية واردة على تلك الأدلّة ومفسرة لها فلا يمكن تقديم تلك الأدلّة عليها وإلاّ لزم طرح الآية رأسا ومنها أن المستثنى منه المحذوف هو الغاية لا المفعول والمعنى وما أمروا لغاية إلاّ ليعبدوا وليس المعنى وما أمروا بشيء لشيء إلاّ ليعبدوا وحينئذ فيصدق مضمون الآية بلزوم قصد القربة في واجب من الواجبات لأنّها حينئذ مهملة من جهة المأمور به وفيه أنّ الظّاهر هو العموم مضافا إلى إفادة حذف المتعلق ومنها أنّ الحصر إنّما يرجع إلى الإخلاص لأنّه القيد في الكلام فالمعنى حصر غاية العبادة في الإخلاص لا حصر غاية الأوامر في العبادة وفيه أنّ هذا إنّما يتم لو قال وما أمروا بالعبادة إلاّ للإخلاص وليس كذلك بل المعنى أنّ غاية كل الأوامر منحصرة في العبادة على وجه الإخلاص ومنها أنّه لا شك في وجود الواجبات التّوصّليّة في تلك الشّريعة واللاّم في الآية يحتمل أن تكون مستعملة في الغاية القريب فيلزم التّخصيص بخروج الواجبات التّوصّليّة إذ ليس القربة غايتها القريبة ويحتمل أن تكون مستعملة في الأعمّ من الغاية القريبة والبعيدة فلا تخصيص لأن العبادة غاية لجميع الواجبات بهذا المعنى قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ولا يخفى أنّه إذا دار الأمر في مجمل بين جعله مخصصا للعام وعدمه فأصالة الحقيقة وعدم التّخصيص يوجب الثّاني كما سبق وحينئذ فلا تدلّ الآية على أن نيّة القربة غاية قريبة لجميع الواجبات حتى يصير الأصل التّعبديّة في الجميع خرج ما خرج مضافا إلى أنّ ظاهر الآية يأبى عن التّخصيص فتأمّل ومنها أنها إنّما تدل على أصالة التّعبديّة في هذه الشّريعة إذا دلت على أصالتها في الشّريعة السّابقة وليس كذلك لأنّها إنّما تدل على أنّ الأوامر الّتي ثبتت في تلك الشّريعة فكلها تعبديّة لا أنّ الأصل فيها ذلك والاستصحاب أو قوله وذلك دين القيّمة يدل على ثبوت تلك الواجبات التّعبديّة في هذه الشّريعة فإذا شككنا في واجب أنّه تعبدي أو لا يجب أولا إحراز أنّه كان واجبا في الشّريعة السّابقة حتى يمكن إثبات تعبدية بالآية مع أنّه على فرض إحراز الوجوب أيضا مشكل للقطع بثبوت الواجبات التّوصّليّة أيضا في تلك الشّريعة فيكون الآية من قبيل المخصص بالمجمل فلا يمكن التّمسك بها في شيء مما ثبت وجوبه في تلك الشّريعة أيضا نعم لو ثبت أنّ الأصل في كل الواجبات هو التّعبديّة في تلك الشّريعة أمكن استصحاب الأصل أو التّمسك بقوله تعالى وذلك دين القيّمة على ثبوته في هذه الشّريعة أيضا ومما تمسكوا به على الاشتراط قوله تعالى

 

أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ بتقريب أنّ الإطاعة هو الإتيان بداعي الأمر والأمر في الآية للوجوب فتدل على وجوب قصد القربة وكل من قال بوجوبه شرعا قال بأنّه شرط الصّحة وما نقل عن السّيّد المرتضى ره من القول بوجوبه استقلالا لم يثبت وثبت لم يضر بالإجماع لأنّ مبناه على الكشف واعترض عليه بوجوه منها أنّ الإطاعة هو إتيان المأمور به ولو سلم أنّه يجب كون الأمر داعيا في صدقها فنقول يجب حملها في الآية على ما ذكرنا لئلا يلزم التّخصيص بل تخصيص الأكثر لكثرة الأوامر التّوصليّة مع خروج مطلق النّواهي أيضا لعدم وجوب قصد القربة في التّرك قطعا أو نقول نحمل الطّاعة على ما ذكرت لكن نمنع كون الأمر للوجوب بل الأمر قد استعمل في مطلق الرّجحان ورجحان نيّة القربة مسلم في كل الواجبات التّوصليّة أيضا فلا تدل على التّعبديّة أو نقول إنّ الطّاعة هو إتيان الفعل على وجهه إن كان تعبديا فبقصد القربة وإلاّ فلا فلا تدل على المطلوب ومنها أنّ الأمر بالإطاعة إرشادي لا تشريعي والفرق بينهما أن الأوّل لا يترتب على مخالفته أثر إلاّ الآثار المترتبة على الأوامر المتعلقة بنفس الأفعال مخالفة قوله أطيعوا الرّسول لا يترتب عليه عقاب زائد على العقاب المترتب على قول الرّسول أقيموا الصّلاة فالعقاب إنّما يترتب على ترك الصّلاة لأنّه إذا قال أقيموا الصّلاة فمقتضاه بحكم العقل ترتب العقاب على تركها وإذا قال أطعني فيما أمرتك لا يترتب عليه عقاب زائد على ذلك العقاب إذ لا عقاب إلاّ عقاب واحد على ترك الصّلاة والأمر المتعلق بها كاف في استحقاقه بحكم العقل والثّاني هو الّذي يترتب الآثار على مخالفته كالأمر بالصلاة وحينئذ فالأمر بالإطاعة إرشاد إلى ما ثبت في العقل من الحكم بلزوم الإطاعة في جميع الأوامر ولا يثبت الوجوب الشّرعي حتى يتم شرطيتها بالإجماع المركب وأورد عليه بأنّه على هذا ليس قابلا للحكم الشّرعي لأنّ الحكم الشّرعي حينئذ حكم بتحصيل الحاصل وحينئذ فلا يمكن القول بالاشتراط في شيء من الواجبات إذ ليس معنى الاشتراط أنّا مأمورون بالعمل المقرون بقصد الامتثال فيلزم أن يدخل تحت حكم الشّرع وقد ثبت أنّه غير قابل للحكم الشّرعي وربما قيل في رد الجواب المذكور إنّ الإطاعة لها معنيان أحدهما إتيان المأمور به والثّاني إتيانه لأجل أنّه مأمور به والأوّل هو الحكم العقلي الّذي لا يقبل الحكم الشّرعي لأنّ نفس الأمر كاف في لزوم ذلك بحكم العقل فلو أمر ثانيا لزمه الحكم بتحصيل الحاصل بخلاف الثّاني لأنّه غير لازم من الأمر فهو قابل للحكم الشّرعي واستشكل ذلك بأنّ العقل أيضا بحكم بلزوم أن يكون الدّاعي للمكلف على الفعل أمر المولى وحينئذ فيحكم به الشّرع أيضا قضيته للتّطابق وحينئذ يلزم وجوب قصد القربة في جميع الواجبات شرعا وعقلا ولا معنى حينئذ لدعوى عدم القول بالفصل بين الوجوب والاشتراط وأيضا يجب أن يتحقق على ترك كل واجب عقابان وكذا على

 

فعله بدون القربة عقاب واحد على ترك قصد القربة وليس كذلك خصوصا في التّوصليات وأجيب عن الأوّل بأنّا لا نثبت الاشتراط بالإجماع المركب حتى يرد ما ذكرت بل نثبته بإطلاق الآية في الحكم بوجوب الإطاعة فمتى لم يحصل قصد القربة لم يتمثل مضمون الآية فيجب الإعادة وهذا بمعنى الاشتراط وعن الثّاني بأنّا نسلم أنّه يلزم عقابان على تركه وأمّا لزوم العقاب على فعله بدون القصد فمدفوع بما ذكروا في مقدمة الواجب من أن الواجب منها لا يكون حراما لكن يجوز أن يكون الحرام مسقطا عنها فعند إتيانها في ضمن الحرام ليس إلاّ عقاب واحد على فعل الحرام على ترك المباح فنقول هنا إنّ إتيان الفعل بلا قربة مسقط عن القربة وفيهما نظر أمّا الأوّل فلأنّ الإطلاق إنّما يحكم بوجوب إطاعة الأمر فإذا صلى المكلف بلا قصد القربة فمقتضى إطلاق الأمر المتعلق بها حصول الامتثال وارتفاع الأمر ومعه يرتفع موضوع الإطاعة فلا معنى لوجوبها غاية الأمر أنّه خالف الأمر وفعل حراما كما لو أحرق الميت قبل أن يصلي عليه فارتفع موضوع وجوب الصّلاة وهو الميت وأمّا الثّاني فلأنّ عدم ترتب العقاب على ترك المقدمة ليس لحصول الغرض بفعل الحرام بل لأنّ ترك المقدمة لا يترتب عليه شيء مطلقا حتى لو فرض ترك جميع المقدمات بحيث استلزم ترك المطلوب بل العقاب إنّما هو على ترك المطلوب بخلاف ما نحن فيه ولو سلم أنّ السّقوط هناك إنّما هو لحصول الغرض فلا يجري هنا لأنّ الأمر بالإطاعة ليس الغرض منه معلوما حتى يقال إنّه يحصل بدون القصد فيسقط بل هو حينئذ واجب مستقل يجب ويترتب العقاب على تركه فيلزم المحذور والتّحقيق أن المراد بالإطاعة الّتي يحكم العقل بحسنها صفة نفسانيّة توجب كون الشّخص منقادا للمولى وموطنا نفسه على الطّاعة وإن لم يكن هناك أمر كما يحكم بحسن العدالة أي الملكة الرّاسخة ولا يحكم بوجوب إتيان الأفعال لأجل أنّها مأمور بها إذ لو قلنا بذلك لزم إمّا عدم وجود أمر توصلي بأن يكون القربة شرطا في الجميع حتى لا تنفك عن الوجوب وإمّا بطلان الإجماع المركب بأن تكون واجبة ولا تكون شرطا ومع ذلك لا يثبت المطلوب وهو أصالة الاشتراط ثم إنّ ما ذكرنا من معنى الإطاعة ليس حكما إلزاميّا للعقل بحيث يترتب العقاب على تركه بل هو يحكم بحسنه كما يحكم بحسن العدالة وإنّما يترتب على تركه العتاب لا العقاب وهذا هو المراد بالإطاعة في الآية بقرينة عطف وأطيعوا الرّسول إذ لم يقل أحد بوجوب قصد القربة إلى الرّسول في أوامر الرّسول فالمراد الإرشاد على أمر ثابت في العقول وهو حسن الإطاعة بالمعنى الّذي ذكرنا الّذي هو قابل لحكم الشّارع لكن قرينة العطف تعين أنها ليست في مقام التّشريع أو المراد الإرشاد إلى وجوب الإطاعة العقليّة بمعنى عدم المخالفة الّذي

 

ليس هو قابلا لجعل الشّارع وكيف كان فالتّمسك بها على الاشتراط فاسد ومما تمسكوا به على على ذلك الأخبار الدّالة بعضها صريحا على اعتبار القربة كقوله لا عمل إلاّ ما أريد به وجه الله وبعضها على اعتبار النّيّة كقوله لا عمل إلاّ بالنّيّة وإنّما الأعمال بالنيات ووجه التّمسك بالأول ظاهر وبالأخيرين هو أنّ النّيّة في لسان الشّرع يراد بها قصد القربة وليس المراد نفي الذّات لأنّه كذب فالمراد نفي الصّحة لأنّه أقرب إلى الحقيقة وأورد على الأوّل بأنّ حمله على المطلوب مستلزم لتخصيص الأكثر لخروج أكثر الأعمال عنه ولا يدفع ذلك بحمل العمل فيه على الواجبات لأنّ الواجبات التّوصليّة أيضا أكثر من غيرها فلا بد إمّا من حمله على الأعمال المعهودة أي العبادات أو الحمل على نفي الكمال وفيه أن عموم النّكرة في سياق النّفي ليس عموما وضعيا حتى يلزم التّخصيص بل هو عموم عقلي بالنظر إلى عدم ذكر القيد فيكون خروج ما ذكر تقييدا وهو جائز إلى الواحد وربما يجاب بأنّ العموم فيه إنّما هو بالنظر إلى الأصناف والصّنف الخارج أقل من الأصناف الباقية من حيث الصّنفيّة وإن كان أكثر أفراد من مجموعها وهو لا يوجب تخصيص الأكثر وفيه أنّ حمله على ذلك خلاف الظّاهر فحمله عليه دون حمله على العهد أو على نفي الكمال يحتاج إلى مرجح نعم هو يتم فيما إذا كان الظّاهر إرادة الأصناف كما لو قال أكرم النّاس إلاّ الجهال ونحو ذلك أو ثبت بالدليل إرادة الصّنف كما لو استدل الفقهاء بالعام في مورد وكان بحيث لو حمل على عموم الأفراد لزم تخصيص الأكثر فيعلم أنّهم فهموا منه العموم الصّنفي كاستدلالهم بقوله تعالى أوفوا بالعقود على أصالة الصّحة في العقود مع خروج أكثر أفراد العقود عنه فيعلم أنهم فهموا العموم الصّنفي وما نحن فيه ليس كذلك والتّحقيق في رد الاستدلال هو أن المتبادر من الحديث نفي ترتب الثّواب على العمل بدون القربة لا نفي الصّحة وكذا قوله لا عمل إلاّ بالنيّة ونظائره وأورد على الثّاني بأنّ النّيّة هو القصد فيدل على اشتراط القصد لا القربة وأجيب بأنّ كل من قال باشتراط القصد في غير الأمور المحتاجة إلى الإنشاء اللّفظي كالجماع وغسل الثّوب ونحوهما قال بأنّه قصد القربة والتّحقيق أنّ المراد بالنّيّة ليس هو قصد ذلك العمل بل المراد الغاية المترتبة عليه وحاصل المعنى أنّ العمل إنّما هو بحسب النّيّة في الثّواب والجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر وكذا قوله إنّما الأعمال بالنيات ولكل أمر ما نوى ثم إنّه لو فرض دلالة الأدلّة المذكورة على اشتراط القربة فنقول يشكل الأمر من جهة أنّ ذلك غير معقول حيث إن اشتراط سقوط التّكليف بالقربة لا يمكن إلاّ بجعل الأمر بالقربة مقيدا للأمر بالعمل وقد مر أنّ جعل القربة قيدا للمأمور به غير ممكن لترتبها على الأمر ولهذا الإشكال ذهب بعضهم إلى أنّ الأحكام تابعة لحسن التّشريع لا لحسن الفعل لأنّ أصل الفعل في العبادات لا حسن فيه

 

بدون القربة وهي ليست داخلة في المأمور به فالحسن إنّما هو في الأمر والتّشريع وربما يجاب عن الإشكال بأنّ المأمور به هو إتيان الفعل بالعنوان الّذي هو متعلق الأمر فلو قال اضرب للتّأديب فضرب لا له لم يسقط عنه الأمر ثم إن العنوان المطلوب قد يكون معلوما للمكلف فيقصده كالمثال المذكور وقد لا يكون معلوما فقصده إنّما يمكن بقصد ما يكشف عنه وهو الأمر لأنّه يكشف عن وجود العنوان المطلوب قطعا كما أن الشّخص إذا علم باشتغال ذمته بفائت لم يدر أنّه ظهر أو عصر مثلا فطريق تعيينه قصد ما هو مطلوب منه شرعا والعنوان في التّوصليات معلوم فلذا لا يحتاج إلى قصد القربة بخلاف العبادات فلذا تحتاج إليه وفيه نظر لأنّ قصد المطلوبية بعنوان الكاشفيّة غير قصد القربة لإمكان أن يقصد الصّلاة بالعنوان المطلوب شرعا لكن للرياء مثلا مع أن العنوان إنّما هو الّذي تعلق به الأمر فلو قال صل فالعنوان هو الصّلاة فيلزم أن يكفي قصدها في سقوط الأمر ثم إن الإشكال المذكور يجري في مواضع آخر أيضا فإنّ الدّعاء والشّفاعة إن تعلقا بفعل حسن لم يخبر لأنّه يجب عليه تعالى فلا يحتاج إليها وإن تعلقا بالقبيح لم يجز طلب القبيح منه مع أنّه محال في الحكمة والتّحقيق في الجواب أن متعلق الطّلب هو ذات الفعل والغرض هو أن يكون الأمر داعيا للمكلف على الفعل ومعنى ذلك إتيانه بقصد الامتثال والغرض من هذا الغرض هو إيصال المنفعة إلى المكلف ولا ريب أن التّكليف إنّما يسقط بحصول الغرض فمتى أتى بالفعل لأجل أنّه مطلوب سقط عنه الأمر فبقي الفرق بين العبادات وغيرها فنقول الدّاعي إلى الغرض المذكور وهو الإيصال إلى النّفع والنّفع قد يكون في ذات الفعل فإذا أتى به الشّخص لا لأجل أنّه مطلوب فقد وصل إلى النّفع وحصل غرض الغرض فسقط التّكليف وإن لم يحصل الامتثال وهذا في التّوصليات وقد لا يكون النّفع في ذات الفعل مطلقا بل النّفع فيه إذا فعل بقصد الإطاعة فإذا أراد الشّارع إيصال هذه المنفعة إلى المكلف أمره بنفس الفعل ليمكن تحصيل تلك المنفعة الّتي هي الغرض فمتى لم تحصل لم يسقط التّكليف لعدم حصول الغرض وبهذا إيجاب في مسألة الدّعاء والشّفاعة فإن نفس الفعل لا حسن فيه بل فيه القبح لكن إذا صار معنويا بعنوان الإجابة كان حسنا فالشخص بطلبه ليوجد فيه عنوان الإجابة حتى يحسن من الله تعالى فيجيب فتأمّل وافهم ونظير الإشكال المذكور ما ذكروه في كيفيّة اشتراط قصد القربة في الواجب المقدمي كالوضوء فإنّه واجب توصلي ومعنى الواجب التّوصلي أنّه واجب للتّوصل إلى الغير فلا معنى لقصد القربة فيه فإن قيل إنّه إنّما يرد إذا لم يكن المقدمة عبادة وأمّا إن كانت بنفسها عبادة فلا إشكال في ذلك قلت كون الوضوء عبادة إنّما هو للأمر المتعلق به استحبابا فإن قلنا بعدم بعدم استحبابه بعد دخول الوقت لم ينفع الجواب المذكور لانحصار أمره في التّوصليّة وإن قلنا ببقاء الاستحباب فمقتضى الجواب المذكور اشتراط نيّة الوضوء استحبابا لأنّه العبادة الّتي حكم بكونها مقدمة

 

فلو نوى الواجب للصلاة لوجوبه كان باطلا ولم يقل به أحد ومحل الجواب عن هذا الإشكال بحيث مقدمة الواجب

فائدة

في تحقيق مسائل وقعت في كلمات القوم مختلطة بعضها ببعض الأولى إذا تعدد الأمر المتعلّق بمفهوم واحد فهل يقتضي تعدد التّكليف أو لا وعلى الأوّل هل يقتضي تعدد المكلّف به أو لا الثّانية إذا تعدد الأمر المتعلّق بمفهوم واحد باعتبار أسباب مختلفة فهل يقتضي تعدد التّكليف والمكلّف به أو التّكليف فقط أو لا والفرق بين هذه والسّابقة أن القائل بعدم اقتضاء التّعدد هناك يقول بأنّ الثّاني تأكيد للأوّل لكن القائل بعدمه هنا لا يمكنه ذلك لتعدد السّبب وهذه المسألة هي المعبرة عندهم بتداخل الأسباب الثّالثة إذا تعدد الأوامر المتعلقة بمفهومات مختلفة متصادقة في فرد واحد باعتبار أسباب مختلفة فهل يكفي إتيان ذلك الفرد في امتثالها أو لا وهذه معبرة بتداخل المسببات والفرق بينها وسابقتها أنّه لا شبهة هنا في تعدد التّكليف والمكلّف به بخلاف السّابقة وأيضا لا يمكن للقائل بتعدد المكلّف به في السّابقة القول بالتّداخل لأنّ مقتضى تعدده وجوب الفردين من المفهوم الواحد ولا يمكن التّداخل في الفردين بخلاف التّداخل في الكليّين المتصادقين في فرد أمّا المسألة الأولى فيتصور فيها ثمانية صور لأنّ الأمر الثّاني إمّا معطوف على الأوّل أو لا وكيف كان إمّا أن يكون متعلقهما منكرا أو معرفا إمّا الأوّل معرفا والثّاني منكرا أو بالعكس أمّا صور العطف فقيل إنّه لا إشكال في اقتضاء التّعدد لظهور العطف في المغايرة ولأولويّة التّأسيس من التّأكيد إلاّ في صورة كون الأوّل نكرة والثّاني معرفة ففيه خلاف فقيل بالتّعدد لما سبق وقيل بالاتحاد لظهور اللاّم في العهد وقيل بالتّوقف لتعارض الظّهورين فيرجع إلى أصالة البراءة عن التّعدد وأمّا صور الخلو عن العطف فقيل أيضا بعدم الإشكال في التّعدد لأولويّة التّأسيس من التّأكيد إلاّ في الصّورة المذكورة ففيها قولان التّعدد لما مر والاتحاد لظهور اللام في العهد ولا قول بالوقف هنا كذا قيل وتحقيق المطلب يتوقف على تنقيح مطالب الأوّل اختلفوا في اقتضاء العطف المغايرة وعدمه ذهب بعضهم إلى الأوّل وبعضهم إلى الثّاني ومن الأوّلين من جعله من جهة الوضع ومنهم من جعله من جهة الظّهور ونظر من قال بنفي الظّهور أيضا إلى كثرة عطف المترادفات نحو لا تَرى فيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا وألفى قولها كذبا ومينا وغيرهما مما لا يخفى ويظهر من ابن الحاجب القول بوضعه للمغايرة فإنّه عرف المعطوف بأنّه تابع مقصود بالنسبة مع متبوعه وذكر الشّارح الرّضي ره أنّه خرج التّأكيد من قوله مقصود بالنسبة وأيضا ذكر أن إدخال الواو على التّأكيد غير صحيح في الكلام لأنّه للجمع ولازمه المغايرة نعم يجوز في مثل الفاء وثم لدلالتهما على التّرتيب وهو يحصل في التّأكيد بالنسبة إلى زيادة التّقرير في التّكرار وهذا هو الحق فليس معنى حروف العطف المغايرة لكنها لازمة

 

لمعانيها وأمّا كثرة عطف المترادفات فممنوع لأنّ المترادف في نفسه قليل لأنّه عبارة عن اتحاد اللّفظين في المفهوم وأمّا الاتحاد في المصداق فليس ترادفا وما يتراءى مترادفا أكثرها متغايرة مفهوما وإن كان في الجملة والحاصل أن مقتضى العطف هو المغايرة سيما في العطف بالواو الثّاني ذكروا في أولويّة التّأسيس على التّأكيد وجهين أحدهما أن التّأكيد مناف لغرض الواضع لأنّ الغرض إظهار ما في الضّمير لا تقرير أمر قد ظهر والثّاني أن التّأكيد مجاز لأنّ اللّفظ لم يستعمل في معناه بل استعمل في تقرير معنى اللّفظ السّابق وفيهما نظر لأن ذلك هو الغرض من وضع المفردات ولكن الهيئات أيضا موضوعة بإزاء معان زائدة على معان المفردات ربما يحتاج الشّخص إليها والتّأكيد من هذا القبيل فإنّه يحصل من هيئة التّكرير لا من اللّفظ المفرد فاللّفظة لم تستعمل إلاّ في الموضوع له فالأولى الرّجوع إلى المرجحات الخارجيّة وملاحظة الأغلب والغالب عند وحدة المتكرر التّأكيد كقولك جاءني زيد زيد اضرب اضرب ونحوهما فتأمل هذا لكن الإشكال في إمكان تحقق التّأكيد بالنسبة إلى الطّلب إذ ربما يتوهم أنّه غير معقول لأنّ الأمر إنشاء يوجد مدلوله فالأمر الثّاني إن أوجد مدلول الأمر الأوّل كان تحصيلا للحاصل أو غيره لم يكن تأكيدا له فإن الطّلب ليس حكاية عن نسبة خارجيّة حتى يعقل تكراره والجواب أنّه قد سبق أنّ الطّلب غير الإرادة فالإرادة حاصلة في النّفس قبل الطّلب وهي سبب للطلب والطّلب عبارة عن التّعرض لتحصيل المراد وهو قد يكون بإعمال الجوارح وقد يكون بتحريض الغير عليه وإلزامه إيّاه فالأمر موضوع لجعل مبدئه على المخاطب وإلزامه إيّاه به وهذا شيء قابل للتّكرار فإن كان المراد في الأمرين واحدا كان تأكيدا وإلاّ تأسيسا وربما استشكل أيضا بأنّ الإيجادين متغايران في الزّمان فليس الثّاني تأكيدا وفيه أنّه لا ينافي التّأكيديّة مع فرض اتحاد المراد كما لا ينافي تأكيديّة الأخبار عند وحدة المخبر به ثبوت التّغاير بالزمان الثّالث هل المعرف باللام المسبوق بالنكرة ظاهر في العهد أو لا ذهب بعضهم إلى الأوّل وبعضهم إلى أنّ وجود الفكرة في السّابق موجب لصحة حمله عليه بقرينة لا لتعين حمله عليه والتّحقيق أنّ اللام لها معنى واحد فإنها وضعت للإشارة إلى مدلول مدخولها باعتبار معهوديته وهو قد يعتبر جنسا وقد يعتبر فردا معينا أو غير معين أو جميع الأفراد ولا يختلف أصل معنى اللام لكن إذا كان هناك أمر أعرف انصرف إليه لأنّ الأعرفيّة أنسب بالإشارة الّتي هي مدلول اللام لكن ربما يكون له معارض في خصوص المقام يوجب عدم حمله على ذلك الأمر الأعرف كما في قوله عليه‌السلام ولا ينقض اليقين بالشّك بعد قوله فإنّه على يقين من وضوئه فإنّه لسبق اليقين ظاهر في العهد لكن العرف في مثل المقام يفهم منه أنّه كبرى كليّة فيحمله على الجنس أو الاستغراق ثم إنّه ربما يتوهم أن هذه الكلمات لا تثمر في المقام لأنّ متعلّق الأمر

 

الثّاني إن كان معرفة والأوّل نكرة جاز القول بوحدة التّكليف وتعدده سواء حمل اللام على العهد أو الجنس أمّا على الثّاني فظاهر وأمّا على الأوّل فلأنّ متعلّق الأمر الأوّل هو البليغة فالمراد بالأمر الثّاني أيضا الطّبيعة لكن يجوز إرادتها باعتبار وجودها في فرد آخر غير الفرد المأتي به في الأوّل فحينئذ يتعدد التّكليف وفيه نظر لأنّ متعلّق الأمر الأوّل هو الطّبيعة لا بشرط فلو كان الثّاني للعهد أكان المطلوب به أيضا الطّبيعة لا بشرط الّتي هي المطلوبة بالطلب السّابق فلا يتعدد لكن على الجنس يحتمل الوجهان لإمكان إرادة فرد آخر من الجنس بقرينة أولويّة التّأسيس ونحو ذلك فتأمل إذا علم هذه الأمور فنقول لا ريب في وجوب الحمل على التّعدد في الصّور الثّلاث الأوّل لظهور العطف في المغايرة وكذا في الصّورة الرّابعة وإن كان الظّاهر من اللام العهد لكن العطف أظهر منه وأمّا الصّور الأخيرة فالحمل على الاتحاد لما ظهر من عدم الدّليل على أرجحيّة التّأسيس مضافا إلى ظهور التّكرار في التّأكيد عند عدم العطف سيما في الصّورة الأخيرة لظهور اللام في العهد بلا معارض ومع التّنزل لا أقل من الشّك فالأصل البراءة من تعدد التّكليف ثم إنّ ظاهر الأكثر إن تعدد الأمر حيث يفيد التّعدد ظاهر في تعدد المكلّف به عرفا ويظهر من بعضهم أنّه يفيد تعدد التّكليف ولعله اكتفى به للملازمة بين تعدده وتعدد المكلّف به لكن ذهب بعضهم إلى أنّه يقتضي تعدد التّكليف فقط ويجوز اجتماع الطّلبين على مطلوب واحد والحق هو القول الأوّل ومع التّنزل فالثاني وسيتضح فيما سيأتي بطلان الثّالث وأمّا المسألة الثّانية فالكلام فيها في مطالب الأوّل في بيان الأسباب العقليّة والشّرعيّة ومقتضاها فنقول من الواضح أن تعدد السّبب المستقل يقتضي تعدد المسبب لأنّ اجتماع الأسباب المستقلة على مسبب واحد موجب للتّناقض لأنّ اجتماعها عليه كاشف عن احتياجه إليها واستقلال كل منها معناه استغناؤه عن الباقين ولا فرق في ذلك بين أسباب الموجودات الخارجيّة والأمور الذّهنيّة كالعلم وفرق بعضهم بين أسباب الأمور الخارجيّة فلم يجوز تعددها بالنسبة إلى سبب واحد وبين أسباب الأمور الذّهنيّة كالعلم والمعرفة نظرا إلى أنّ كل سبب يقتضي مسببا فإذا تعدد السّبب تعدد المسبب وفي الأمور الخارجيّة لا يمكن الاتحاد بين شيئين بخلاف الأمور الذّهنيّة فيجوز اتحاد الشّيئين فيه ولذا نرى أن الكلي ينتزع من كل واحد من الأفراد بتجريده عن المشخصات ومع ذلك هو أمر واحد وأيضا يقوم أدلة متعددة على مطلب واحد وكل منها يفيد العلم وإذا زال أحدها بقي العلم بحاله والعلم شيء واحد اجتمع له أسباب مختلفة وفيه نظر لأنّ علة عدم جواز الاتحاد في الخارج موجودة في الأمور الذّهنية أيضا لأنّ الاثنين حال الاتحاد إن بقيا على الاثنينيّة فلا اتحاد وإن زالا إلى شيء ثالث فلا اتحاد وإن زال أحدهما وبقي

 

الآخر فلا اتحاد وما ذكره من تجريد الفرد وإقامة الأدلة فلا يدل على مطلبه لأنّ صورة الكلي إنّما تحصل في الذّهن بتجريد أحد الأفراد فإذا جرد الفرد الآخر لم يكن سببا مؤثرا لحصول الصّورة لأنّ شرط تأثير السّبب بقاء القابليّة كجزّ رقبة الميت فإنّه سبب للقتل لكن لا تأثير له بعد الموت غاية الأمر أنّه سبب ثاني بمعنى أنّه يؤثر لو فرض قابليّة المحل وكذا الكلام في الأدلة فصدق أنّ اجتماع الأسباب المؤثرة المستقلة على مسبب واحد محال وبما ذكرنا ظهر عدم جواز تعدد العلل الشّرعيّة أيضا على معلول واحد إذ غاية الأمر أنها معرفات وقد عرفت أنّه لا فرق بين علة العلم وغيره الثّاني هل العلل الشّرعيّة معرفات أو علل واقعيّة المعروف هو الأوّل وذهب بعضهم إلى أن العلل الشّرعيّة نوعان الأوّل ما اعتبره الشّارع سببا للحكم من دون أن يكون سببا في الواقع بل هو معرف وكاشف عن العلة الواقعيّة كالبول لوجوب الوضوء وهذا النّوع مما يجوز اجتماع فردين منه على معلول واحد وليس المنصوص العلة منه حجة والثّاني ما هو سبب واقعي وعلة للحكم كالإسكار لحرمة الخمر وهذا لا يجوز الاجتماع فيه والمنصوص العلة منه حجة واستدل على أنّ القسم الأوّل معرفات بأنّ العلة أقسام أربعة وليس القسم الأوّل داخلا في شيء منها المادّيّة والصّوريّة والفاعليّة والغائية لأنّ العلة إمّا أن تكون داخلة في القوام أو لا وعلى الأوّل إمّا أن يكون ما به الشّيء بالقوة وهو المادة أو بالفعل وهو الصّورة وعلى الثّاني إمّا أن يكون ما به الشّيء وهو الفاعليّة أو ما لأجله الشّيء وهو الغائيّة وظاهر أن البول للوضوء ليس داخلا في شيء من الأقسام بخلاف الإسكار فإنّه علة غائية لحرمة الخمر ثم إن القسم الثّاني إن وجد متحدا فلا إشكال وإن تعدد وتعاقب فإن كان الحكم مما يقبل الشّدة والضّعف كالوجوب انقلب المعلول الموجود بالعلة الأولى إلى المرتبة الشّديدة عند وجود العلة الثّانية وإلاّ كان العلة الثّانية كاشفة عن تحقق المعلول بالعلة الأولى هذا خلاصة كلامه وفيه نظر من وجوه أحدها أن اجتماع المعرفين على معلول واحد إن أريد به المعرف الفعلي فظاهر البطلان لما سبق أو المعرف الثّاني فهو جائز في الأسباب الواقعيّة أيضا فالفرق بينهما لا وجه له والثّاني أنّ المعرف إذا كان كاشفا عن تحقق العلة فأينما وجد كشف عن ذلك لا وجه عدم حجيّة المنصوص العلة منه والثّالث أنّ الاستدلال على معرفيّة المذكورات باطل لأنّهم عرفوا العلة بما يحتاج إليه الشّيء في الوجود وهو شامل لآلات العمل وشرائط الفعل فلا بد من إدخالها في العلة الفاعليّة وتعميمها بحيث تشمل الآلات والشّرائط أيضا أو القول ببطلان الحصر المذكور بزيادة العلة الآليّة وهي ما يتوقف عليه الشّيء وحينئذ فتحقق البول مثل الشّرط للحكم بوجوب الطّهارة والرّابع أنّ جعل الإسكار

 

علة غائيّة فاسد بل العلة الغائيّة هي حفظ المكلّف عن السّكر مع أن العلة المذكورة في الأخبار هي الإسكار ولا فرق بينه وبين البول فكما أنّ البول موجب لحصول الحدث الباعث على إيجاب التّطهير لرفعه فكذا الإسكار موجب لحصول السّكر الموجب لتحريم الخمر لدفعه وكون المطلوب في أحدهما الرّفع وفي الآخر الدّفع لا يوجب ما ذكره من الفرق والخامس أن جعل العلة المتأخرة في صورة التّعاقب وعدم قابليّة الحكم للاشتداد كاشفة موجب لتخصيص الأدلّة الدّالة على أنّ العلة يجب أن تؤثر في المعلول فإنّ نسبته إلى كل من العلتين على السّويّة فتخصصه بالعلة الأولى وتخرج العلة الثّانية عن العلية وتجعلها كاشفة فالأولى جعل الثّانية لغوا محضا ولا يلزم حينئذ تخصيص لأنّ تأثير العلة مشروط بقابليّة المحل فهي علة غير مؤثرة بخلاف من يجعلها كاشفة إذ تخرج حينئذ عن العليّة رأسا وهو التّخصيص فتأمّل الثّالث إذا ثبت أنّ تعدد الأمر المترتب على تعدد السّبب مستلزم لتعدد الطّلب فهل هو مستلزم لتعدد الفعل أو لتعدد الحكم وهو مبني على أن الأمر هل هو سبب للفعل أو للحكم وعلى الثّاني فهل هو مستلزم لتعدد المأمور به أو لا ذهب بعضهم إلى أنّ تعدد الأمر مستلزم لتعدد الحكم لا لتعدد الفعل إذ لا يلزم من وجود الأمر وجود الفعل كما هو شأن السّبب بخلاف الحكم فإنّه يتعدد بتعدد الأمر ولكن لا يلزم من تعدده تعدد المطلوب لجواز اجتماع الطّلبين على مطلوب واحد من جهات عديدة كما أنّ الإفطار في رمضان بالمسكر النّجس المغصوب حرام ومعصية لخطابات متعددة فكما يمكن عصيان خطابات متعددة بفعل واحد فكذا يحصل به الإطاعة لخطابات عديدة وقد وقع ذلك في الشّرع كالغسل الواحد للجنابة والحيض وضوء واحد مع تعدد السّبب كالنّوم والبول وإذا جاز تعدد الطّلب مع وحدة المطلوب كان الأصل هو التّداخل ومع التّنزل لا أقلّ من التّعارض فيرجع إلى أصالة عدم تعدد المكلّف به هذا كلامه وفيه أوّلا أنّ الأمر سبب الفعل بمعنى أنّه مقتض له وداع للمكلّف إليه وثانيا أن تعدد الحكم مستلزم لتعدد المتعلّق ضرورة امتناع اجتماع الضّدين أو المثلين في محل واحد من حيث إنّه واحد وإن كان واحدا وما يرى من الأمر بالسّجود والنّهي عنه بالنسبة إلى الله تعالى والشّمس فإنّما هو من حيث ملاحظة الخصوصيتين فيتحقق الكثرة وحينئذ فلا معنى لتعلّق الطّلبين بماهيّة بدون ملاحظة تعدد الفرد لأنّه حينئذ يلزم اجتماع المثلين في محل واحد من حيث إنّه واحد وهو محال وحينئذ فالأصل هو عدم التّداخل لا يقال لم تجعل تعدد الأمر موجبا لتعدد الطّلب فعلا ونجعل تعدده موجب لتعدد الماهيّة باعتبار الفرد ولا تجعل وحدة الماهيّة قرينة على وحدة الطّلب بحمل أحد السّببين على السّبب الثّاني وحينئذ فيثبت أصالة التّداخل

 

لأنّا نقول الماهيّة من حيث هي لا وحدة فيها ولا كثرة لكن الإطلاق إنّما يثبت لما يحكم العقل حيث لم يكن ما يصلح للتّقييد وإذا كان الظّاهر من السّبب السّبب الفعلي فهذا الظّهور صالح لتقييد الماهيّة وحينئذ فينتفي حكم العقل بعدم القيد لأنّه مشروط بعدم ما يصلح للتّقييد وبما ذكرنا علم أنّه لا فرق بين ما إذا تعدد الأمر ابتداء أو تعدد السّبب بل هو في الثّاني أقوى لاحتمال التّأكيد في القسم الأوّل بخلاف الثّاني كما سبق والحاصل أن محض تعدد الأمر لا يوجب تعدد الحكم والفعل إلاّ بملاحظة أمر خارج مثل العطف الظّاهر في المغايرة ومثل تعدد السّبب الّذي يمتنع معه التّأكيد وبهذا ظهر ضعف ما ذهب إليه بعض المحققين من إن تعدد الأمر بنفسه يقتضي تعدد المكلّف به سواء تعدد السّبب أو لا فتأمل وأمّا الموارد الواردة في الشّرع مثل الإفطار في رمضان بالمحرم فلا دخل له بما نحن فيه لأنّ التّكليف فيه غير قابل التّمكن أو فيكون اجتماع الأسباب فيه سببا لمرتبة أشد من المرتبة على السّبب الواحد وأمّا مثل الغسل فيقول إن تجويز التّداخل فيه دليل على السّبب هو القدر المشترك أو السّببيّة الثّانية أو نحوهما وقد تمسك لأصالة التّداخل بأنّه لو كان المطلوب من الأمر المتعلّق بالطبيعة بواسطة الأسباب هو الأمور المتعددة لزم إرادة أكثر من معنى واحد من اللّفظ فإنّه أو قال إذا جاءك زيد فأكرمه وكان المراد أنّ كل فرد من المجيء سبب لفرد من الإكرام كان المطلوب في ابتداء المجيء طبيعة الإكرام وفي الثّاني الفرد المغاير لما أوجده أولا فاستعمل الأمر في إرادة الطّبيعة والفرد وفيه أن المطلوب هو الطّبيعة عند وجود كل سبب لكن العقل يحكم بأنّه لما وجد فرد منها سابقا كان الفرد الثّاني مغايرا للسابق جزما لا أنّ المطلوب هو الفرد بالنّسبة إلى الثّاني إذا تحقق هذه المطالب فنقول إنّ الأقوال في المسألة أربعة اقتضاؤه تعدد التّكليف والمكلّف به مطلقا وعدمهما كذلك واقتضاؤه تعدد التّكليف فقط مطلقا والتّفصيل بين ما لو كان الأسباب من طبيعة واحدة كأفراد البول ولم يتخلل فعل المسبب بينها فلا يقتضي التّعدد وبين ما لو كانا من نوعين مختلفين كالنوم والبول أو متفقين ولكن تخلل فعل السّبب بينهما فالأصل حينئذ عدم التّداخل وبما حققنا لك في طي المطالب ظهر لك أن الأصل عدم التّداخل مطلقا لأنّ ما يمكن الاستدلال به للتّداخل وجوه منها أن السّبب أعم من الثّاني والفعلي وقد عرفت أنّه ظاهر في الفعلي ومنها أنّه سبب لتعدد الحكم لا المكلّف به وقد عرفت التّلازم بينهما لأنّ الفعل الواحد لا يمكن أن يكون محلا للمثلين ومنها أن وحدة الطّبيعة قرينة على أنّ الأسباب أسباب إنّيّة وقد عرفت أنّه لا يعارض ظهور السّبب في الفعلي ثم إن ما قررنا من الوجه لا فرق فيه

 

بين ما لو كانت الأسباب من ماهيّة واحدة أو لا حيث إنّ السّبب ظاهر في الفعلي ويمتنع اجتماع المثلين في محل واحد ومستند التّفصيل أنّ الأسباب لو كانت من ماهيّة واحدة كان السّبب هو الماهيّة من حيث هي فمتى لم يوجد المسبب لم يوجب تعدد أفرادها شيئا لوجود الموجب وهو القدر المشترك أمّا إذا وجد المسبب ثم وجد فرد آخر من السّبب أثر لوجوده حين عدم وجود موجب آخر وكذا لو كانت الأسباب مختلفة في الماهيّة فإنّ الظّاهر حينئذ مدخليّة الخصوصيّة في السّببيّة لا القدر المشترك وضعفه ظاهر فإنّ الظّاهر عند اتحاد الحقيقة أيضا كون الخصوصيات أسبابا لا القدر المشترك فتأمل وأمّا المسألة الثّالثة فقد ظهر حكمها مما سبق لأنّه إذا تعدد التّكليف والمكلّف به لم يجز امتثالهما في مورد الاجتماع إذ يلزم اجتماع المثلين في محل واحد شخصي وهو غير جائز فيجب أن يكون الامتثال لأحدهما بغير ما يمتثل للآخر كما في المتضادين وخالف في ذلك بعضهم فجوز اجتماع الوجوبين والاستحبابين ولم يجوز اجتماع الوجوب والاستحباب وكذا الكراهة والحرمة وبعضهم فجوز الثّاني ولازمه تجويز الأوّل أيضا واستدل بأنّ الوجوب والاستحباب نظير الوجوب بالغير والإمكان بالذات فكما أنّ الإمكان هو عدم اقتضاء الوجود بالذات فلا ينافي اقتضاء الغير له فكذا الاستحباب رجحان لا يقتضي المنع عن التّرك فلا ينافي وجود رجحان آخر يقتضي المنع عن التّرك إذ لا تنافي بين عدم اقتضاء شيء واقتضاء شيء آخر ومن هذا القبيل حصول غسل الجمعة والجنابة بغسل واحد والحاصل أنّ الاستحباب ليس مقتضيا للإذن في التّرك حتى ينافي اقتضاء الوجوب المنع عنه وفيه أنّ امتناع الاجتماع ليس لامتناع الإذن في التّرك والمنع عنه بل لامتناع اجتماع طلبين متضادين أو متماثلين في محل واحد ولا ريب أنّ الاستحباب رجحان ضعيف والوجوب قوي فيمتنع اجتماعهما نعم لو قيل بجواز اجتماع المصلحة المقتضية للاستحباب والمصلحة المقتضية للوجوب ويكون التّأثير للثاني لأنّه أقوى لم يكن بعيدا لكنه حينئذ واجب صرف لا أنّه قد اجتمع هناك وجوب واستحباب كما هو مقتضى هذا القول وأمّا الموارد الواردة في الشّرع فيجب حملها إمّا على أنّ السّبب هو القدر المشترك أو المجموع حال الاجتماع سبب لمرتبة أقوى كما سبق وربما يجاب بوجوه غير وجيهة منها أنّه لم يجتمع في مثل الأغسال المتداخلة واجب ومستحب بل الغسل الواحد إمّا واجب يسقط المستحب أو بالعكس فلم يجتمع الحكمان ونظيره سقوط صلاة تحيّة المسجد بالصلاة الواجبة وسقوط الصّوم المستحب بالصوم القضاء وفيه أنّ من المبرهن عليه أنّه إن كان هناك أمران يحصل بكل منهما مصلحة الآخر كانا واجبين تخييرا أو مستحبين ولا معنى لكون أحدهما واجبا عينيا

 

والآخر مستحبا كذلك فإذا كان غسل الجنابة يوم الجمعة مسقطا لغسل الجمعة وبالعكس لم يكن معنى لاستحباب غسل الجمعة ووجوب الجنابة وصلاة التّحيّة ليست مسقطة للصلاة الواجبة بل الأمر بالعكس ولا ضير فيه لحصول المصلحة الضّعيفة في ضمن القويّة دون العكس فلا ربط له بالمدعى ومنها أنا لا نسلم استحباب الغسل يوم الجمعة مطلقا بل هو إذا لم يكن عنوان يقتضي الوجوب وفيه أنّه إن أراد منع استحبابه لمن عليه واجب فهو تقييد للأدلة بلا دليل وإن أراد منع استحبابه إذا كان هناك عنوان يقتضي وجوب غسل الجمعة من نذر وشبهة فلا ربط له بالمقام وإن أراد منع استحبابه إذا اتحد مع مصداق الواجب فلا دليل عليه كالأوّل ومنها أنّ الغسل الواحد الّذي يجزي عنهما في يوم الجمعة ليس واجبا ولا مستحبا وإنّما هو أمر ثالث وفيه أنّه إذا حصل به مصلحة الواجب والمستحب وجب اجتماعهما فيه لما عرفت فإنّه من حيث حصول مصلحة الواجب به يكون واجبا تخييرا ومن حيث حصول مصلحة المستحب يكون مستحبا تخييرا فعاد المحذور فالتّحقيق ما ذكرنا ومقتضاه أنّ الوضوء بعد دخول الواجب واجب محض وليس مستحبا نفسيا حينئذ لما عرفت من عدم جواز اجتماعهما فلو أتى به بقصد الاستحباب كان باطلا إلاّ أن يقال إنّ وجود مقتضي الاستحباب يكفي في جواز قصده وإن لم يكن هناك طلب استحبابي وهو مشكل

تنبيهات

الأوّل

قد عرفت أنّ مقتضى الأصل اللّفظي هو عدم التّداخل في الأسباب والمسببات ولكن إذا قطعنا النّظر عن الأصل اللّفظي فمقتضى الأصل العملي في مسألة تعدد الأسباب المتعلّق بعنوان واحد هو البراءة عن وجوب المتعدد لأنّ الشّك راجع إلى وحدة التّكليف وتعدده وفي مسألة تعددها بالنسبة إلى مفهومين هو الاشتغال للقطع بتعدد التّكليف والشّك إنّما هو حصول الامتثال بفرد واحد وهو مورد الاجتماع والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة الّتي لا تحصل إلاّ بتعدد الفعل والعجب من بعضهم حيث حكم في القسم الثّاني بأنّ مقتضى الأصل العملي فيه هو البراءة أنّ قطع النّظر عن الظّهور اللّفظي وذلك لأنّ الكلام ليس فيما إذا قام قرينة من الخارج فليس مراده من الظّاهر اللّفظي القرائن الخارجيّة إذ ليس الكلام في ذلك وإن كان مراده من الظّهور اللّفظي كون تعدد التّكليف موجبا لتعدد الفعل ففاسد لأنّ ذلك إن ثبت دل فليس لظهور اللّفظ بل لحكم العقل مع أنّه لا معنى لقطع النّظر عنه إذ لو قطع النّظر عن ذلك لم يبق شيء ينظر فيه لأنّه الموضوع في المسألة فتأمل

الثّاني

إذا ثبت التّداخل في مورد فإن كان العنوان واحدا فلا ريب في حصول الامتثال بالفعل الواحد قهرا ولا وجه للتّكرار بل يكون بدعة كالوضوء وإن تعدد العنوان وكان اختلاف العنوانان تابعا للقصد فإن

 

قصد بالفعل الواحد جميع العنوانات رفع الجميع ولا يجوز التّكرار وإن قصد به البعض وقع خاصة دون البواقي هذا بحسب العنوان وأمّا بحسب الأمر فإن كان الأوامر توصّليّة فيكفي وقوع العمل مرة ولو بدون قصد الامتثال وإن كانت تعبديّة فإن قصد بالفعل الواحد امتثال الجميع فلا إشكال في وقوع الجميع وإن لم يقصد الامتثال أصلا فلا يقع شيء وإن قصد الامتثال مطلقا أو قصد امتثال بعض الأوامر بخصوصه ففي تحقق أداء البواقي إشكال ويظهر من بعض المحققين دعوى سقوط التّكليف وإن لم يصدق الامتثال بالنسبة إلى ما لم يقصد نظرا إلى أن الواجب في العبادة وقوعها بقصد الامتثال في الجملة وهو يصدق بالإتيان بها بقصد أنّها مأمور بها مطلقا فيصدق على غسل الجنب يوم الجمعة بقصد الجنابة أنّه اغتسل غسل الجمعة قربتا إلى الله وامتثالا لأمره المتعلّق به من حيث إنّه غسل جنابة فيسقط عنه غسل الجمعة بناء على اتحادهما في العنوان أو قصد العنوانين معا لكن امتثالا لأحد الأمرين فتأمّل وكذا إذا أتى به بقصد الامتثال مطلقا وهكذا فيما إذا كان عليه واجبان في صورة واحدة أو واجب ومستحب كنافلة الصّبح وفريضته فإنّه يكفي إتيان صلاتين بقصد القربة المطلقة نظير ما لو قال له المولى صل مرتين فكما لا يجب فيه التّعيين فكذا هنا هذا كلامه ويشكل بأنّه إذا تعلّق الأمران بعملين في غير مسألة التّداخل فأتى المكلّف بواحد من دون تعيين فإن حصل بذلك امتثال الجميع فهو خلاف المفروض أو البعض المعين فهو ترجيح بلا مرجح أو غير معين فهو غير معقول إذ لا معنى لامتثال الأمر المجمل الواقعي خصوصا فيما إذا اختلف الفعلان نوعا وقد يقال إنّ الأمر الوجوبي لما تعلّق بالطبيعة وهي تحصل في ضمن الفرد الّذي أوجده أوّلا انصرف إلى الواجب واعترض عليه بأنّ النّدب أيضا تعلّق بالطبيعة وأجيب بأنّه إذا اجتمع الوجوب والنّدب رجح الوجوب ورد بأنّ ذلك في المتعلّق الواحد لا المتعدد وأجيب بأنّ الأمر إنّما ورد على الطّبيعة وهي منصرفة في أوّل أفرادها إلى الواجب وفيه مما فيه ثم إنّ القول بسقوط الواحد المبهم مع أنّه لا معنى له لا يجري فيما إذا اختلف الحكم وإن اتحد نوعا ككفّارة الإفطار واليمين فإنّه في الأوّل مخير بين العتق وغيره وفي الثّاني يجب العتق عينا وإن لم يمكن فالباقي على التّرتيب فلو كان عليه كفارتان للإفطار واليمين فأعتق متقربا لم يكن القول بسقوط واحد مبهم إذ لا يعلم حينئذ أن تكليفه العتق للثاني معينا أو التّخيير وقد أوردوا هذا على الشّيخ الطّوسي قدِّس سرُّه حيث يظهر منه القول بسقوط واحد مبهم ولكن يظهر من الشّهيد أنّ السّاقط واحد معين في الواقع حيث حكم بوجوب العتق ثانيا للاحتياط إذ لا معنى للاحتياط إلاّ ثبوت حكم معين

 

في الواقع والتّحقيق أن يقال إنّه إن اتحد النّوع والحكم حكم بسقوط واحد مبهم لأنّ الطّلبين حينئذ لا تميز بينهما إلاّ بتعدد المتعلّق فإذا فعل أحدهما بقصد أنّه مطلوب سقط الأمر المتعلّق به فيجب عليه فعل الآخر بخلاف ما إذا اختلف نوع الحكم كالوجوب والاستحباب فإن اختلافه كاشف عن اختلاف المصلحة في تلك الأفراد وحينئذ فإذا أتى بفرد متقربا فالحكم بسقوط أحدهما معينا ترجيح بلا مرجح ومبهما لا معنى له وكذا إذا اتحد النّوع واختلف الحكم كالكفّارة فإنّه أيضا كاشف عن اختلاف المصلحة ويمكن أن يقال في صورة اختلاف النّوع إنّه إذا تعلّق الأمر الوجوبي بالطبيعة كان معناه النّهي عن ترك الجميع وحينئذ فلا معنى لورود الاستحباب عليها لأنّ معناه الإذن في ترك الجميع وهو مناقض لمقتضى الوجوب فيجب أن يرد الاستحباب على القدر الزّائد على مقدار الواجب الّذي يصدق على الواحد وعلى هذا فلو أتى بفرد صدق عليه أنّه لا يجوز تركه إلاّ إلى بدل وهو معنى الوجوب وهذا هو المرجح لسقوط الأمر الوجوبي ويشكل الأمر لو أتى بالفردين دفعة إذ لا أوّليّة حينئذ إلاّ أن يقال إنّ المجموع حينئذ موجب لسقوط المجموع والمسألة في غاية الإشكال فتأمّل فيها جدا وقد تلخص مما ذكرنا أنّه إذا كان التّكليفان من نوع واحد أمكن الحكم بسقوط أحدهما عند قصد القربة المطلقة حيث لا تميز في المتعلّق إلاّ من حيث كونه متعلقا للطلب الخاص وأمّا إذا كانا نوعين فإن لم يكن الملحوظ في المتعلّقين خصوصيّة سوى الطلب للطبيعة المطلقة فكذلك إلاّ أنّه يقع الأوّل واجبا قهرا لأنّ اختلاف الحكمين كاشف عن اختلاف المصلحة في الأفراد وحيث لا تميز من حيث كونه فردا تعين أن يكون المميز الأوّليّة والثّانويّة لما علم أنّه يكفي في نيّة الوجه قصد القربة المطلقة والفرد الأوّل يصلح لوقوعه واجبا فيبرأ الذّمة بإتيانه وعلى هذا فقصد الاستحباب بالفرد الأوّل مشكل بل قيل في أذكار الرّكوع والسّجود أنّه لو قصد الاستحباب بالأوّل فإن كان عن سهو فلا بأس وإن كان عمدا كان تشريعا ربما أوجب بطلان الصّلاة وإن كان الملحوظ فيها خصوصيّة زيادة على كونه فردا وإن لم نعلمها تفصيلا بأن ثبت من دليل خارج أنّ قصد الاستحباب بالأوّل جائز فإنّه لا يمكن إلاّ بأن يكون هناك خصوصيّة ملحوظة لما عرفت من أنّ اختلاف الحكم تابع لاختلاف المصلحة الموجب لثبوت اعتبار الخصوصيّة وإن كانت بحسب القصد وحينئذ فلو أوقع العمل بقصد المطلق لم يقع لأنّ وقوعهما خلاف الفرض ووقوع أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يكفي احتمال ثبوت الخصوصيّة واقعا فيقع الامتثال بمقتضاها لاحتمال اعتبار الخصوصيّة بالقصد فتأمّل

 

جدا بقي الكلام فيما إذا ترتب على أحدهما حكم أو على كل منهما كإعطاء الدّرهم المردد بين أداء النّذر وأداء الدّين فإنّه لو كان أداء للنّذر لم يوجب منع الثّاني كفّارة بخلاف ما لو حسب للدين فإن منع الآخر موجب لكفّارة خلف النّذر واختلفوا في ذلك على أقوال فذهب بعضهم إلى أنّه ينصرف إلى ما فيه الخصوصيّة فينصرف في المثال المذكور إلى أداء النّذر وفيما إذا أدّى دينا ولم يعين أنّه الّذي عليه الرّهن أو غيره انصرف إلى الأوّل وقيل إنّه يتعين بتعينه وله الخيار في تعيين أيّهما شاء استصحابا لخياره الثّابت قبل الأداء وقيل يلغو الاشتراط التّعيين فتأمّل حتى تقف على الحق المستقيم وهذا كله في غير مسألة التّداخل وفيها على قول من يجوز اجتماع الأوامر وأمّا على ما حققناه سابقا من اتحاد الأمر وكونها تأكيدا وسببا لمرتبة أقوى فلا إشكال في كفاية قصد القربة المطلقة نعم يشترط قصد العنوانات إذا كان تحققها فرعا للقصد وكذا لا إشكال في سقوط الجميع بقصد بعض الأوامر لكفاية نيّة القربة المطلقة وقد حصلت والأمر واحد والأمر المنوي لم ينتف كليّة حتى يلغو قصده بل قد أكد بالأمر الثّاني وصار المجموع سببا لمرتبة أقوى فلا ينافي في قصده خاصة حصول المأمور به لعدم انتفائه رأسا ولعلك تسمع لذلك تحقيقا في المباحث الآتية إن شاء الله

الثّالث

قد مر الكلام في اجتماع الأسباب على الفعل وقد يجتمع الأسباب على غيره كما إذا عقدها وكيلان في آن واحد على رجلين أو أوصى زيد بماله لعمرو ثم لبكر أو باع أحد الوكيلين المال بشخص والآخر بآخر متقارنا فقد اختلفوا في هذه الموارد ففي بعضها حكموا بالتّساقط كالنكاح والبيع وفي بعضها بالتّشريك كالوصيّة وقيل في وجهه إنّ مقتضى السّببيّة التّأثير فكلّما أمكن إعمال السّبب كان أولى من إهماله وإعمالهما في باب الوصيّة إنّما هو بالتّشريك ولا يمكن ذلك في باب النّكاح فحكم بالتّساقط وهذا الوجه لا يجري في البيع لإمكان التّشريك فيه والتّحقيق أنّه إذا اختلف مقتضى العقدين فالأصل هو التّساقط لأنّ كل واحد إمّا سبب مستقل أو السّبب هو القدر المشترك فعلى الأوّل وجه التّساقط ظاهر وعلى الثّاني أيضا كذلك لوجوده في ضمن كل منهما فتأثيره في أحدهما دون الآخر لا وجه له وأمّا إذا اتحد موجبهما كما إذا أوقع الوكيلان العقد على رجل واحد فحينئذ السّبب هو القدر المشترك وهو مؤثر أثرا واحدا وأمّا الفرق بين الوصيّة والبيع فهو أن الوصيّة إن كانت في الثّاني أيضا بجميع الأوّل فالظّاهر منه الرّجوع لا التّشريك وأمّا إذا أوصى لزيد بنصف المال ولعمرو بربعه ولبكر بثلثه فالظّاهر منه قصد التّشريك والظّهور يكفي في باب الوصية بخلاف البيع لاشتراط الصّراحة في عقوده فتأمل

أصل قد سبق أنّ الأمر حقيقة في الوجوب

 

فاعلم أنّه إنّما يحمل عليه إذا لم يكن قرينة على الخلاف ومن جملة القرائن وقوع الأمر عقيب الحظر فإن الظّاهر منه عرفا محض رفع الحظر لا رفعه وإثبات الوجوب لكن بشرط أن يكون الأمر في مقام رفع الحظر وإلاّ فيحمل على الوجوب لفهم العرف وكذا حال النّهي الوارد عقيب الأمر فإنّه يحمل على محض رفع الأمر وكذا الكلام في النّهي التّنزيهي بعد الأمر الاستحبابي وبالعكس ثم المراد بالحظر فيما ذكرنا هو الحظر الشّرعي لا الأعم منه ومن العقلي كما توهمه بعضهم فحكم بأنّ الأمر الواقع عقيب الحظر يحمل على الوجوب وإلاّ لم يكن شيء من العبادات واجبا لحرمتها عقلا قبل ورود الأمر لكونها بدعة فيكون الأمر رافعا للحظر وذلك لأنّ الأمر فيما ذكر لا يرفع الحظر لأنّ الحظر إنّما تعلّق بعنوان البدعة وهو لا يرتفع بالأمر بالصّلاة وإنّما الأمر يرفع صدق البدعة على الصّلاة فهذا ليس داخلا في محل البحث ثم إنّه إن تعلّق بعين ما تعلّق به النّهي فهو داخل في البحث قطعا وأمّا لو كان بينهما فرق بالإطلاق والتّقييد كما لو قال لا تخرج من المجلس ثم قال له اذهب إلى المكتب فقيل إنّه يحمل على الوجوب والحق أنّه داخل في البحث للفهم العرفي وكذا إذا تعلّق النّهي بالكلي والأمر بالفرد وأمّا إذا تعلّق النّهي بعنوان والأمر بعنوان آخر متحدين مصداقا فالظّاهر خروجه لأنّ النّهي المتعلّق بذلك العنوان لا يوجب صرف الأمر المتعلّق بعنوان آخر عن إفادة الوجوب الّذي هو الموضوع له ثم إنّك قد عرفت أنّ محض الوقوع عقيب الحظر لا يكفي قرينة بل يجب كون المتكلم في مقام رفع الحظر حتى نقول الظّاهر عرفا أن غرضه محض رفع الحظر لا هو مع إفادة الوجوب وهذا الضّابط يشمل الحظر المحقق والمظنون والمتوهم فمتى علم أن المتكلم في مقام رفع الحظر مطلقا لم يحمل أمره على الوجوب لما عرفت نعم لو قلنا بأنّ محض الوقوع عقيب الحظر قرينة اختص بالحظر المحقق وللحق ما ذكرنا وفي المسألة أقوال لا جدوى في التّعرض لها

أصل اختلفوا في أنّ المطلوب بالأمر هو الماهيّة أو المرة أو التّكرار على أقوال

والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الآتية أعني أن المطلوب هو الطّبيعة أو الفرد ظاهر لأن القائل بالطبيعة يمكنه هنا القول بكل من الأقوال فقد يقول بأنّ المطلوب إيجاد الطّبيعة المطلقة وقد يقول إنّ المطلوب إيجاد الطّبيعة دفعة واحدة أو في ضمن فرد واحد أو إيجادها دفعات كثيرة أو في ضمن أفراد متعددة إذ المراد بالمرة إمّا الدّفعة أو الفرد الواحد من حيث وحدته لا من حيث ذاته فالقول بالطبيعة لا تنافي إرادة الفرد الواحد من حيث إنّه إيجاد للطبيعة مرة واحدة وكذا القائل بمطلوبيّة الأفراد يمكنه هنا القول بالكل فقد يقول إنّ المطلوب هو الفرد الغير المعتبر فيه وحدة ولا كثرة وقد يقول إنّه الفرد الواحد أو المتعدد وأمّا التّفرقة بأنّ الكلام هنا في الوضع اللّغوي

 

وهناك في مقتضى العقل فلا ينطبق على أدلّتهم في المقامين لأنّهم استدلوا هناك أيضا بالأمور اللّغويّة وكيف كان فقد عرفت أنّ المرة قد يقال بمعنى الدّفعة وقد يقال بمعنى الفرد الواحد فالقائل بأنّها المطلوب قد يقول بأنّها مأخوذة لا بشرط بمعنى أنّ المطلوب هو الفرد الواحد والزّائد مسكوت عنه وقد يقول بأنّها تنفي الزّائد وحينئذ قد يكون عدم الزّيادة تكليفا مستقلا بحيث لا يوجب فعل الزّائد عدم حصول الامتثال بالمرة وقد يكون شرطا في حصول الامتثال بها ويظهر من صاحب المعالم أن مراد القائلين بالمرة هو الأخير حيث استدل على كونه للماهيّة بحصول الامتثال لو أتى بالفعل مكررا فإنّ مراده حصول الامتثال بالفرد والأوّل إذ لا معنى للامتثال عقيب الامتثال فمقصوده أنّه إن كان للمرة لم يحصل الامتثال أصلا عند التّكرار وهذا إنّما يصح على الوجه الأخير فافهم والمراد بالتّكرار إمّا الدّوام كما يظهر من البعض والمعتبر حينئذ وحدة العمل واستمراره وإمّا التّعدد والمعتبر حينئذ تعدد العمل وإن استلزم دوام الفرد النّوعي والحق في المسألة هو القول الأوّل إذ لا دلالة للأمر عرفا على مرة ولا تكرار والمتبادر هو الماهيّة وحينئذ فلا جدوى للبحث عن المرة هي بشرط لا أو لا بشرط وعن التّكرار أنّه الدّوام أو غيره فنصرف الكلام إلى بيان ثمرة النّزاع فنقول إنّ الثّمرة بين القول بالمرة والتّكرار ظاهر لأنّ الفرد الثّاني امتثال على الثّاني دون الأوّل وكذا بين الماهيّة والتّكرار فإنّ الفرد الثّاني امتثال ثان على الثّاني بخلاف الأوّل بل هو إمّا لغوا أو الامتثال يحصل بالجميع وكذا بين الماهيّة والمرة بشرط لا بناء على جعل الشّرط قيدا فإنّه إن أتى بالثاني لم يمتثل أصلا على الثّاني بخلاف الأوّل وكذا بين القول بالماهيّة والمرة بشرط لا بناء على عدم جعله قيدا فإنّ الإتيان بالفرد الثّاني حرام لدلالة الأمر بناء على الثّاني وجائز على الأوّل أو حرام من باب البدعة فلو قام الدّليل على الجواز انتفى البدعة والحرمة إنّما الإشكال في الثّمرة بين القول بالماهيّة والمرة لا بشرط فقد يقال إنّه إذا أتى بأفراد متعددة فعلى الأوّل يحصل الامتثال بالمجموع وعلى الثّاني بالفرد الأوّل واعترض عليه بعضهم بأنّ الماهيّة إذا وجدت حصل الامتثال وهي موجودة في ضمن الفرد الأوّل فلا معنى لعدم حصول الامتثال به وحصوله بالمجموع نعم لو أتى بالأفراد دفعة واحدة كأن قال المأمور بالعتق لعبيده أنتم أحرار لوجه الله فعلى الأوّل يحصل الامتثال بالجميع وعلى الثّاني بأحد الأفراد مبهما ويعين بالقرعة إن احتيج إليه وفيه نظر إذ لو كان المراد بالمرة الدّفعة فلا ريب في أن الأفراد حينئذ قد حصلت دفعة واحدة فيحصل الامتثال بالمجموع كالماهيّة وإن كان المراد الفرد الواحد فنقول على القول بالماهيّة أيضا يحصل الامتثال بأحد الأفراد

 

مبهما لكفاية حصول الماهيّة في ضمن فرد واحد في الامتثال فيحكم العقل بحصوله بأحدها مبهما إن جاز الامتثال بفرد مبهم وإلاّ لم يحصل أصلا ولا وجه لحصول الامتثال بالمجموع وبالجملة العقل يحكم بحصول الامتثال بفرد واحد ولا وجه للتّخيير عقلا بين الزّائد والنّاقص سواء حصل الزّائد دفعة أو بالتّدريج نعم يجوز التّخيير بينهما شرعا وهو كاشف عن اعتبار المباينة بينهما إمّا بجعل الأقل معتبرا بشرط لا فإنّه حينئذ ليس داخلا في الأكثر وإمّا بجعل القصد مميزا ولا يحتاج إلى القول بمنع التّخيير الشّرعي أيضا بجعل الزّائد مستحبا كما فعله بعضهم لكن هذه الوجوه لا يجري في التّخيير العقلي لأنّه إذا نظر إلى الأمر المتعلّق بالماهيّة حكم بحصول الامتثال بفرد واحد وليس هناك أمر كاشف عن اعتبار المباينة وتحقيق المقام في بيان الثّمرة يتوقف على بيان مطالب أحدها الحق أن المطلوب بالأمر هما الفرد لا الطّبيعة لأنّ الطّبيعة من حيث هي لا يمكن طلبها إلاّ بمعنى محبوبيتها وهي لا تقتضي وجوب إتيان المكلّف بها فالواجب هو تحصيل الطّبيعة وبعبارة أخرى وجود الطّبيعة مطلوب ووجودها هو عين الفرد لما تحقق أن الفرد هو الكلي الموجود لأن التّشخص إنّما يحصل بالوجود لأنّه المتشخص بالذات وضم الماهيّة إلى مثلها لا يوجب التّشخص لأنّه حينئذ ضم كلي إلى كلي فالمطلوب هو الفرد وإن كان المأمور به هو الكلي فإن اضرب معناه أوجد طبيعة الضّرب فالأمر بالإيجاد إنّما ورد على الطّبيعة لكن المطلوب هو الإيجاد الّذي هو عبارة أخرى عن وجود الفرد لأنّ الفعل إذا نسب إلى الفاعل كان إيجادا وإذا نسب إلى المفعول كان وجودا الثّاني لا يجوز التّخيير بين الأقلّ والأكثر لما عرفت من أنّه يلزم تحقق الامتثالين لأمر واحد عند إتيان الأكثر وهو غير معقول وبهذين المطلبين يظهر أنّ القول بتعلّق الأحكام بالأفراد هو القول باقتضاء المرة لا بشرط لأنّه إذا تعلّق الحكم بالفرد لكن لا لخصوصيّة بل لحصول المصلحة فيه الّتي هي ثابتة في كل فرد ولم يجز التّخيير بين الأقل والأكثر كان المطلوب الواحد لا بشرط وتخير المكلّف في الأفراد كما يقول به القائل بالمرة ولا ينافي هذا ما ذكرنا سابقا من أن القائل بالفرد يمكنه القول بالماهيّة هنا لأنّ ما ذكرنا هنا إنّما هو بناء على ما هو التّحقيق من عدم جواز التّخيير بين الأقل والأكثر وأمّا بناء على جوازه فيمكن دعوى مطلوبيّة الفرد بماهيّة بمعنى عدم لحاظ المرة والتّكرار فيه فيكون مخيرا بين الواحد والأكثر ولكن التّحقيق ما عرفت الثّالث إذا أتى بالأفراد مجتمعة فلا يصح الحكم بكونها أحد أفراد المخير لما عرفت من عدم جواز التّخيير بين الزّائد والنّاقص وهل يمكن القول بحصول الامتثال حينئذ إشكال ويأتي هذا الكلام في خصال التّخيير إذا أتى في المكلّف بمجموع الأفراد دفعة فنقول قالوا

 

في ذلك على أقوال أحدها أن الامتثال يحصل بالمجموع والثّاني أنّه يحصل بالفرد المبهم والثّالث أنّه يحصل بالفرد الأفضل إن وجد وإلاّ فأحد الأقوال الباقية والرّابع عدم حصول الامتثال أصلا احتج الأوّل بأنّه لو لم يمتثل بالمجموع فإمّا يقال بعدم حصول الامتثال أصلا وهو باطل لصدق الإتيان بالمأمور به وإمّا يقال بحصوله بواحد مبهم وهو فاسد لأنّ الامتثال يجب أن يكون بعمل موجود والواجد المبهم الواقعي ليس موجودا وإمّا يقال بحصول الامتثال بالأفضل وهو باطل لفساد دليله كما سيأتي فانحصر الأمر في القول بحصول الامتثال بالجميع لا يقال إنّا لا نسلم أنّه قد أتى بالمأمور به لأنّ المأمور به هو كل واحد بلا بدل فإذا أتى بالجميع له يصدق على شيء منها أنّه المأتي به بلا بدل لأنّا نقول بلا بدل قيد للتّرك المبغوض للفعل المحبوب فجميع التّروك مبغوض والتّخلص منه كما يحصل بفعل البعض يحصل بفعل الجميع أيضا فإنّه إذا فعل الجميع صدق أنّه لم يترك الجميع واحتج الثّاني بأنّ المطلوب في الواجب التّخييري هو أحد الأفراد أمّا على مذهب الأشاعرة فظاهر وأمّا على مذهب غيرهم فلأنّ الطّلب وإن ورد على كل فرد لكن الخصوصيّة ليست مطلوبة بل الفرد مطلوب من حيث إنّه أحد الأفراد وحينئذ فالامتثال بالجميع لا معنى له إذ لا يصدق عليه عنوان المأمور به أعني أحد الأفراد فبطل القول الأول بقي الإشكال في كيفيّة الامتثال بالمبهم فنقول لا دليل على فساده وما الضّرر في حصول الامتثال بالمبهم إذا كان مأمورا به واحتج الثّالث بأنّ مقتضى الأفضليّة أنّه متى فعله المكلّف كتب له الأجر الزّائد سواء فعل معه غيره أو لا وإذا ثبت الأجر له بفعله فقد حصل به الامتثال إذ لا أجر إلاّ معه واحتج الأخير بفساد الجميع أمّا الأوّل فلأنّ الجميع إمّا امتثال واحد أو امتثالات والأوّل إنّما يتم إذا كان أحد فردي الواجب وقد ثبت أن التّخيير بين الأقل والأكثر فاسد والثّاني فرع تعدد الأمر والمفروض وحدته وأمّا الثّاني فلأنّ المطلوب ليس أحد الأفراد بطريق الكليّة فإنّه حينئذ لا إبهام فيه بل المطلوب هو المصاديق بنحو التّرديد وذكر أحد الأفراد إنّما هو للعنوان والمراد الواحد الجزئي المردد بين المصاديق والجزئي المردد لا وجود له في الخارج حتى يحصل به الامتثال وأمّا الثّالث فلأنّا لا نسلم ثبوت الثّواب الزّائد حال الاجتماع لأنّ الثّواب فرع الامتثال وهو أول الكلام ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّه لا ريب أن معنى الامتثال هو حصول المطلوب في الخارج بداعي الأمر والمطلوب قد يكون أمرا واحدا معينا وقد يكون أمورا متعددة منضمة بعضها إلى بعض وقد يكون أمورا متعددة على سبيل منع الخلو كما فيما نحن فيه وفي هذا القسم إن أتى بواحد حصل الامتثال به وإن أتى بالجميع حصل الامتثال بالجميع لأنّه مطلوب بذلك الطّلب لا من حيث المجموع حتى يقال إنّه تخيير بين الأقل والأكثر بل لأنّ نفسه

 

متعلّق للطلب بنحو منع الخلو فإن الطّلب قد تعلّق بالجميع غاية الأمر الرّخصة في ترك البعض لا وجوب التّرك حتى ينافي المطلوبيّة نعم لو كان كل واحد مطلوبا بطريق المنفصلة الحقيقيّة لم يكن لحصول الامتثال حال الاجتماع معنى وعن الثّاني بجواز حصول الامتثال بالفرد المبهم فإنّه إذا تعلّق الطّلب بشيئين تخييرا كان كل واحد منهما محصلا للغرض فإن أتى به منفردا نسب حصول الغرض إليه وإن أتى بالجميع فكل واحد منها صالح لنسبة حصول الغرض إليه ولا ريب في أنّ الغرض قد حصل في الخارج وإذا كان الغرض حاصلا والمفروض إمكان إسناد حصوله إلى كل منهما صح القول بأنّ الامتثال إنّما حصل بالواحد المبهم إذ لا نعني به إلاّ أن يكون الامتثال حاصلا في الخارج ولا يكون محله أمرا معينا بحيث ينسب حصوله فعلا إليه فتأمّل في المقام جدا فإنّه من مناظر الأعلام وأمّا الكلام في المقام بناء على القول بالمرة بشرط لا بأن لا يكون الشّرط قيدا بل يكون تكليفا صرفا وأنّه هل يحصل الامتثال إذا أتى بالأفراد مجتمعة على هذا القول أو لا فنقول إنّه إمّا يقصد الامتثال بالواحد المعين أو المبهم أو بالجميع فعلى الأوّل لا إشكال في حصول الامتثال به ويكون الزّائد حراما وعلى الثّاني يبتني الامتثال على جواز اجتماع الأمر والنّهي لأن كل واحد منها يصدق عليه عنوان الواحد المطلوب والزّائد المبغوض وعلى الثّالث يتصور أقساما ثمانية لأنّه إمّا ينوي الامتثال بالمجموع من حيث المجموع أو بكل واحد وعلى التّقديرين إمّا نقول بحرمة الزّائد بعنوان البدعة أو بدلالة الأمر وعلى التّقادير ذلك في المعاملات أو في العبادات فإن كان في المعاملات وقصد الامتثال بالمجموع فإن قلنا بأنّ الحرمة إنّما هي من حيث كونه بدعة وقلنا بأنّ البدعة الحرام هو قصد الامتثال بغير المأمور به لا الفعل المقصود فلا ريب في عدم ابتناء الامتثال حينئذ على جواز اجتماع الأمر والنّهي إذ لا بدعة في الأفراد حينئذ نعم إن قلنا بأنّ الحرام في البدعة هو الفعل المقصود ابتنى الامتثال على جواز اجتماع الأمر والنّهي لأنّ قصد المجموع قصد لكل واحد ضمنا وإن قلنا إنّ الحرمة إنّما هي من جهة دلالة الأمر فكذلك لأنّه حينئذ يتعلّق الحرمة بالأفراد الزّائدة وإن قصد الامتثال بالجميع وقلنا بالحرمة البدعيّة بالوجه الأوّل لم يلزم اجتماعهما في الأفراد نعم يلزم ذلك في القصد سواء أكان القصد واحدا مضافا إلى كل واحد أو منحلا إلى قصود متعددة لأنّ قصد كل واحد منها راجح من حيث إنّه قصد للمأمور به حرام من حيث إنّه قصد للزائد وهو بدعة وإن قلنا بالبدعيّة بالوجه الثّاني لزم الاجتماع في الأفراد وكذا إن قلنا بالحرمة المدلول بها فإنّها تتعلّق بالأفعال ويلزم الاجتماع وإن كان في العبادات وقصد الامتثال بالمجموع لم يتمثل مطلقا لعدم تعلّق القصد بالمأمور به المستقل فلو اخترنا اجتماع الأمر والنّهي أيضا لم نحكم هنا بحصول الامتثال

 

ولا فرق حينئذ بين الحرمة البدعيّة بقسميها وغيرها وأن قصد الامتثال بالجميع فهو كالقسم الأوّل أعني المعاملات فيبني الامتثال في بعض الفروض على جواز اجتماع الأمر والنّهي فتأمل

تنبيه

تعليق الأمر على شرط أو صفة هل يدل على تكرره بتكررهما أو لا فيه أقوال والنّزاع هنا يشمل القائل بالتّكرار في المسألة السّابقة أيضا لأنّ الكلام هنا في جهة ملاحظة التّعليق وما يقال من أنّه إذا قال بتحقق التّكرار فلا معنى لأنّ ينازع هنا إذ ليس التّعليق مانعا عن إفادته غاية الأمر أنّه يقلل التّكرار المستفاد من الأمر مدفوع بأنّ هذا أيضا شيء يتصور النّزاع فيه أعني أنّه إذا تقلل التّكرار بسبب التّعليق فقد علم عدم إرادة المعنى الأصلي فحينئذ ممكن أن ينازع في إفادة التّكرار بسبب التّعليق أو لا وبهذا علم أنّ تحصيل المتنازع فيه بما لم يكن دالا على العموم من أدوات التّعليق ككلّما ومهما ونحوهما لا وجه له إذا النّزاع إنّما هو في دلالة التّعليق مع قطع النّظر عن شيء آخر ثم إنّ الأقوال في المسألة ثلاثة التّكرار مطلقا وعدمه مطلقا والتّفصيل بين ما إذا استفيد العلية فيتكرر وإلاّ فلا والمشهور عدم التّكرار مطلقا أو التّفصيل والقول الأوّل غير مشهور وربما يستشكل ذلك بأنّ المشهور حجيّة مفهوم الشّرط والمنصوص العلة ولا معنى لحجيّة المفهوم إلاّ استفادة اللّزوم والعليّة التّامة المنحصرة للشرط بالنسبة إلى الجزاء وإلاّ لم يلزم من انتفائه انتفاؤه وإذا ثبت كونه علة والمنصوص العلة حجة لزم تكرر الجزاء بتكرر الشّرط فكيف نفى القول بذلك هنا عن المشهور والجواب أنّ حجيّة المفهوم يكفي فيها استفادة العليّة التّامة للشرط في الجملة لا بطبيعيّة بل يكفي كونه علة في ضمن فرد معين أو مبهم والنّزاع هنا إنّما هو في استفادة العليّة للطبيعة وهي الّتي منعها المشهور هنا وأمّا حجيّة المنصوص العلة فإنّما هي فرع فهم العليّة وقد عرفت أنّها في المقام بالنسبة إلى الطّبيعة ممنوعة وبالنسبة إلى بعض الأفراد غير مثمر ثم إنّ النّزاع في المقام يمكن أن يكون في وضع الأمر ويمكن أن يكون في وضع هيئة الشّرط والجزاء ويمكن أن يكون في أنّ الظّاهر العرفي هل هو التّكرار أو لا والظّاهر هو الأخير لبعد القول بالوضع المستقل للأمر في مثل هذه المقامات بحيث لو استعمل في غيره كان مجازا وكذا هيئة التّعليق مع أنّ الأصل عدم الوضع والحق في محل النّزاع القول بالعدم مطلقا إذ لا نسلم استفادة العليّة للطبيعة الشّرطيّة بل الغالب أن الشّرط إمّا ليس علة أو علة في الجملة وهو غير كاف في الدّلالة على التّكرار وهذا بخلاف مثل قوله الخمر حرام لأنّه مسكر فإنّ المستفاد فيه كبرى كليّة وهي أنّ كل مسكر حرام ولذا يجوز التّعدي منه واحتج القائل بالتّكرار بأنّه لولاه لزم الإجمال المنافي للحكمة لأنّ الطّبيعة إذا لم تكن علة بجميع الأفراد بل كان في ضمن فرد معين علة لم يعلم في مثل إن جاء زيد فأكرمه إذا تحقق أفراد متعاقبة من المجيء أن أيها العلة وما يقال من أنّ المرة متيقنة لا وقع له في دفع

 

الإجمال إذا الكلام في مصداق الفرد وأنّه الفرد الأوّل أو الثّاني وهكذا لا تعدده ووحدته والجواب أن الظّاهر من قوله إن جاء زيد فأكرمه أن طبيعة المجيء علة لا في ضمن جميع أفراده بل هي بنفسها علة الطّبيعة وجوب الإكرام فإذا تحقق الفرد الأوّل أثر في طبيعة وجوب الإكرام فإذا تحقق الفرد الثّاني لم يكن له محل يؤثر فيه الطّبيعة الموجودة فيه لأنّ طبيعة الإكرام ليست قابلة لوجوبين وقد سبق الإشارة إلى ذلك في مسألة تداخل الأسباب فتأمل جدا

أصل اختلفوا في أن المراد من الأمر هو الفور أو التّراخي

أو أنّه متشرك بينهما لفظا والمراد الطّبيعة أو الوقف على أقوال والمراد بالتّراخي في المقام هو جواز التّراخي لا تعينه إذ لا قائل به وكذا القائل بالاشتراك بقول بين تعين الفور وجواز التّراخي وعلى هذا فالفرق بين القول بإرادة الماهيّة وبين القول بجواز التّراخي أنّ جواز التّراخي في الأوّل إنّما هو بحكم العقل حيث لم يقبل المطلوب بشيء منهما بخلافه في الثّاني فإنّه مدلول للأمر ويظهر الثّمرة فيما لو قيده بالفور فقال افعل فورا فعلى القول بالوضع للماهيّة ليس مجازا بل هو تقييد بخلاف القول الثّاني لأن الموضوع له عنده طلب الفعل على وجه يجوز معه التّراخي فلو عين الفور فقد استعمله في غير الموضوع له ثم إن تحقيق المقام يتوقف على بيان أمور الأوّل محل النّزاع في كلامهم غير تحرر والّذي يحتمل كونه محل النّزاع أمور ثلاثة أحدها أن يكون النّزاع في الموضوع له ثانيها أن يكون النّزاع في الظّاهر العرفي ثالثها أن يكون النّزاع في أن أوامر الشّرع هل تحمل على الفور لأدلة مقامة كقوله تعالى فاستبقوا الخيرات ونحوه أو لا والأدلّة الّتي أقاموها في المسألة مختلفة يناسب بعضها كلا من هذه المقامات ويجب التّكلم في كل من هذه المقامات ليظهر الحق في الجميع الثّاني اختلف في معنى الفور في المسألة فقيل أنّه عبارة عن ثاني زمان الطّلب عرفا وقيل إنّه أول أزمنة الإمكان عرفا وهذا أعم من الأوّل وقيل إنّه التّعجيل عرفا فلا ينافي فصل بعض الأفعال الجزئيّة وقيل إنّه الاشتغال بالمقدمات والتّهيّؤ للعمل بعد الأمر ولو تأخر أصل العمل لكثرة مقدماته ويختلف تأخيره بالنسبة إلى التّكاليف نظرا إلى قلة مقدماته وكثرتها وربما ذكر وجه خامس وهو عدم التّأخير إلى حد يوجب التّهاون وهو فاسد إذ ليس ذلك معنى الفور بل هو تحديد لجواز التّراخي لا للفور مع أنّه فاسد في أصله لعدم صيرورة التّأخير سببا للتّهاون أبدا لفرض جوازه نعم ربما يكشف التّأخير عن التّهاون كترك جميع المستحبات وهو حينئذ فذلك التّهاون حرام لا أنّ الكاشف عنه أيضا حرام وإلاّ لزم وجوب المستحبات تخييرا وهو باطل جزما الثّالث القول بالفور محتمل لوجوه ثلاثة أحدها أن يكون الفوريّة قيدا للطلب بحيث لو فات الفوريّة سقط التّكليف وثانيها أن يكون تكليفا مستقلا بحيث لو فات بقي التّكليف

 

بالنّسبة إلى أصل الطّبيعة وثالثها كالثّاني لكن بحيث لو فات في الزّمان الثّاني بقي التّكليف بالنّسبة إلى الزّمان الثّالث وإن فات فيه بقي بالنّسبة إلى الرّابع وهكذا وبالجملة يجب فورا ففورا ولنبين أوّلا ثمرة النّزاع والمرجع عند التّوقف في المسألة وعلى القول بالاشتراك عند عدم القرينة ثم نشرع في تحقيق المسألة أمّا الثّمرة بين القول بتعيين الفور والقول بجواز التّراخي فهي تحقق العصيان بالتّأخير مع سقوط التّكليف أيضا في بعض الاحتمالات على الأوّل دون الثّاني وكذا بينه وبين القول بالماهيّة وأمّا بين تعيين الفور وتعيين التّراخي وإن لم يعلم له قائل فهي عدم الامتثال بالتّعجيل وعدم العصيان بالتّأخير على الثّاني بخلاف الأوّل وبين الماهيّة وتعين التّراخي هو الامتثال بالتّعجيل على الأوّل دون الثّاني وبين الماهيّة وجواز التّراخي ما عرفت من حصول التّجوز عند التّقييد بالفور معينا أو التّراخي كذلك على الثّاني دون الأوّل لكن عند الإطلاق لا ثمرة بينهما وبين الاشتراك والباقي عند عدم القرينة هي إجمال اللّفظ وعدمه وعند وجودها يكون إمّا تعيين الفور أو جواز التّراخي وقد عرفت ثمرتهما والثّمرة بين الوقف وغيره ظاهر لأنّه يرجع إلى الأصول العمليّة كالقائل بالاشتراك عند عدم القرينة وتفصيل ذلك أنّ التّوقف إمّا يكون بين الفور بالاحتمال الأوّل وهو التّقييدي وبين جواز التّراخي وحينئذ فالشك راجع إلى المكلّف به ومقتضى الاحتياط التّعجيل نعم لو فات في زمان الفور فمقتضى الاحتياط الإتيان به ثانيا لاحتمال عدم الشّرطيّة وإمّا يكون بين الفور بالاحتمال الثّاني وجواز التّراخي فأصالة البراءة تنفي الفوريّة لأنّه شك في التّكليف الزّائد وإمّا يكون بينهما وبين جواز التّراخي فهو كالأوّل وإمّا يكون بين تعيين الفور وتعيين التّراخي والاحتياط في الجمع إن أمكن وإلاّ فهو مخيّر وإمّا يكون بين الفور بالاحتمال الأوّل وبينه بالاحتمال الثّاني وهذا على أقسام لأنّه إمّا يكون في أول زمان الفور متعذرا فأصالة البراءة تقتضي عدم التّكليف ثانيا إذ لا يعلم الاشتغال به أولا لاحتمال كون الفور قيدا فعند تعذره لا يتعلّق الطّلب أصلا وإمّا يكون ممكنا ثم يتعذره فحينئذ يقطع بسقوط التّكليف بعد فوات الفوريّة إذ لو كان قيدا فقد سقط لفوات القيد وإلاّ فقد فات لتعذره وكيف كان فالعصيان ثابت في هذا القسم إن ترك في أول أوقات الفور وإمّا يكون ممكنا دائما فقيل إنّ الاستصحاب يقتضي بقاء التّكليف لو فات في أول الزّمان وهو فاسد إذ لا يعلم أنّ المكلّف به هو الأمر المقيّد أو ذات العمل فموضوع التّكليف غير ثابت البقاء وبقاؤه شرط في الاستصحاب نعم يمكن إثباته بقاعدة الاشتغال لئن كان قاطعا باشتغال ذمته فيجب الإتيان تحصيلا لليقين بالبراءة وموضوع قاعدة الاشتغال نفس الشّك في البراءة وهو ثابت في المقام فيثبت حكمه وهو وجوب تحصيل اليقين بالبراءة لا أنّه حكم مشكوك لاحقا متيقن سابقا حتى يستصحب ويترتب عليه الحكم فتأمل وعليك باستخراج سائر صور الدّوران على القول

 

بالوقف ويجري الكلام على القول بالاشتراك أيضا عند عدم القرينة فتفطن فلنشرع في بيان تحقيق المسألة ونقول الحق أنّ الأمر يتبادر منه في العرف وجوب الماهيّة لا غير والتّبادر علامة وضعه لها واستدل القائل بالوضع للفور بإجماع أهل العربيّة على أنّ الزّمان مأخوذ في مفهوم الفعل وأنّ الحال مأخوذ في مفهوم الأمر وهو معنى الفور ورده بعض المحققين بأنّ الزّمان المأخوذ في الفعل ليس قيدا للمبدإ حتى يكون مقتضيا للدلالة على الفور بل هو ظرف للنّسبة الإيقاعيّة الثّابتة في الكلام ثم إنّ هذه النّسبة في الماضي والمستقبل لما كانت حاكية لنسبة خارجيّة ثابتة في الواقع لوحظ الزّمان ظرفا لتلك النّسبة لأنّ اعتبار الزّمان بالنّسبة إلى النّسبة الإيقاعيّة لم يكن فيه فائدة كثيرة إذ الزّمان الّذي هو ظرف لها هو الحال وكل أحد يعلم وقوعها فيه لم تكن فائدة في اعتبار دلالة اللّفظ عليه وأمّا الأمر فلماهيّة لم يكن فيه نسبة خارجة لم يمكن اعتبار الزّمان فيه إلاّ بالنّسبة إلى النّسبة الإيقاعيّة فاعتبر فيها الحال لعدم قابليتها للوقوع في غيره وهذا غير الدّلالة على فوريّة المبدإ ثم قال فإن قلت إن عدم الفائدة في اعتبار الزّمان للنّسبة الإيقاعيّة مشترك بين الماضي والأمر فكما جعلت ذلك في الماضي سببا لصرف اعتبار الزّمان إلى النّسبة الواقعيّة فاجعله هنا سببا لصرفه إلى المبدإ قلت إن اعتباره في المبدإ أيضا لا فائدة فيه لأنّ كل أحد فهو يعلم أن الطّلب إنّما يتعلّق بأمر معدوم في الحال ويطلب وجوده في الاستقبال كما يعلم أنّ ظرف النّسبة الإيقاعيّة هو الحال وحينئذ فلا يكون ذلك صارفا له لاشتراك عدم الفائدة فإن قلت إنّه وإن علم ذلك بالاستلزام العقلي لكنهم أرادوا أن يصير الدّلالة على الزّمان مدلولا للّفظ قلت لم لا يكون كذلك بالنّسبة إلى نفس النّسبة الإيقاعيّة فإنّ كون ظرفها الحال إنّما يعلم عقلا فقل إنهم أرادوا أن يصير ذلك مدلولا للّفظ فإن قلت لما لم يكن الزّمان في الماضي والمستقبل ظرفا للنّسبة الإيقاعيّة كان الأمر كذلك طردا للباب قلت مقتضى الاطراد اعتباره في النّسبة لاعتباره فيها في الماضي والمستقبل غاية الأمر أنّ المظروف فيهما هو النّسبة الواقعيّة وفي الأمر النّسبة الإيقاعيّة وهذا لا يضر بالاطراد بخلاف ما لو اعتبر في الأمر قيدا للمبدإ فإنّه يبطل الاطراد لعدم اعتباره فيه في الماضي والمستقبل انتهى حاصل كلامه زيد في درجته ومقامه وفيه نظر من وجهين الأوّل ما ذكره من أنّه لا فائدة في اعتبار الحال في المبدإ كاعتباره في النّسبة لا وجه له لأنّ النّسبة غير قابلة إلاّ للوقوع في الحال وأمّا المبدأ فيمكن اعتبار زمان الفور ظرفا له وزمان التّراخي وغيرهما فاعتبار الحال الثّاني ظرفا له تعيين للفور وهذا هو الفائدة العظمى الثّاني أنّ ما ذكره من عدم تحقق النّسبة الواقعيّة في الأمر ممنوع إذ لا يخلو كلام من نسبة واقعيّة بمعنى أنّ المتكلّم يتصور بين الفعل وفاعله نسبة خارجة عن الكلام ثم إنّه قد يورد الكلام حكاية عن تلك النّسبة المقصودة فيكون إخبارا وقد يورده طلبا لتلك النّسبة فيكون إنشاء وإذا تحقق فيه النّسبة الواقعيّة جاز جعل الزّمان ظرفا له أو مما يشهد بذلك قوله عليه‌السلام دعي الصّلاة أيّام أقرائك فإن الظّرف ليس قيدا للصّلاة بأن يكون المطلوب ترك الصّلاة الكائنة في الأيّام بل هو ظرف للنّسبة ومعلوم أنّ النسبة الإيقاعيّة ليس ظرفها أيام الأقراء فعلم أن هناك نسبة أخرى قابلة للتقييد بالزّمان مع أنّه لا معنى لجعل الزمان الّذي يدل عليه الأمر معتبرا في النسبة الإيقاعيّة لأنه موجب لصيرورة الإنشاء إخبارا إذ يكون معنى اضرب أطلب الآن منك الضّرب ولا يخفى فساده فتأمّل وقد يستدلّ بالاستقراء فإن أكثر الجمل الإنشائيّة والإخباريّة ظرف نسبتها الحال كقولك بعت واشتريت وأنكحت وأنت حر وهي طالق وهل ضربت وزيد قائم وعمرو قاعد ونحو ذلك فيلحق المشكوك بالأغلب وفيه أنّ الحال في الإنشاء قد عرفت عدم اعتباره ظرفا للنسبة وأمّا الأخبار المذكورة فهي ليست من جنس المستقرإ له حتى ينفع مع أن إفادتها الحالية إنّما هي لظهور عدم ذكر ظرف النسبة في كونها حالا فافهم ثم إنّ بعد ما ثبت عدم وضعه للفور فهل ينصرف إليه عرفا قيل نعم كما يظهر من ملاحظة أكثر الأوامر العرفيّة ويمكن منع الانصراف بل إنّما هو لوجود

 

القرينة وهو كونه موضع الحاجة وأمّا أوامر الشّرع فقيل ينصرف إلى الفور وهو باطل لعدم جواز إجراء الوجه المذكور فيها لو سلم عليّته للانصراف عرفا أنّه ليست أوامره في موضع الحاجة لغنائه بل لوجود المصالح والمفاسد وهي قد تكون في التّأخير وقيل يحمل في الشّرع على الفور لا للانصراف بل لقوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله تعالى فاستبقوا الخيرات والأوّل يقرر بوجهين أحدهما أن المغفرة من فعله تعالى فلا معنى لمسارعة العبد إليها فالمراد سارعوا إلى أسباب المغفرة بحذف المضاف أو المراد من المغفرة سببها مجازا والثّاني أنّ معنى المسارعة إلى المغفرة التّعرض لتحصيلها عاجلا فهو أمر بالمسبب ابتداء وهو إمّا عين الأمر بالأسباب أو مستلزم له وكيف كان فعلى القول بالتّكفير مطلقا يجب بمقتضى الآية المسارعة إلى كل حسنة لأنّ الحسنات أسباب لتكفير السّيّئات والمغفرة وعلى القول به في الجملة يثبت في البعض ويتم في الباقي بعدم القول بالفصل ووجه الاستدلال بالثّانية ظاهر والجواب أوّلا أنّ الآيتين في مقام الوعظ والتّرغيب والمتبادر منهما الاستحباب عرفا وثانيا أمّا عن الآية الأولى فإنّها إرشاد إلى ما ثبت في العقل من وجوب التّوبة لكونها سببا للمغفرة دفعا لضرر العقاب وكذا كل ما كان سببا للمغفرة فهو واجب عقلا لدفع ضرر العقاب لا لوجود مصلحة في نفسه ومفسدة في تركه غير ما يترتب على المأمور به وحينئذ فاللازم هو وجوب تحصيل المغفرة فورا على المذنبين ولا كلام فيه أمّا من تاب فلا دليل على وجوب الفور بالنّسبة إليه وأمّا عن الثّانية فإنّ الأمر دائر فيها بين إرادة الاستحباب من الأمر وبين التّخصيص في الخيرات التّخصيص الأكثر ولا شك في ترجيح الأوّل وأمّا ما يجاب به عن الثّانية من أنّها متعارضة مع الأوامر الواردة في الشّرع فإنّها مطلقة فإمّا يلاحظ كل واحد منها مع الآية فهو خاص والآية عامة ولا ريب في ترجيح الخاص على العام وإمّا يلاحظ المجموع معها فبينهما التّباين فيجب التّرجيح فمما لا يصغى إليه لحكومة الآية على سائر الأوامر لكونها ناظرة إليها بحيث لو رجحت تلك الأوامر عليها بقيت الآية بلا معنى كما لو قال المولى لعبده اشتر اللحم واخدم الفرس واكنس البيت ثم قال اسرع إلى ما أمرتك به فلا معنى لملاحظة التّرجيح في المقام كما لا يخفى على أولى الأفهام تذنيبان أحدهما في بيان أن الفور على القول به هل هو قيد أو تكليف مستقل والتّحقيق أنّه إن قيل باستفادته من الصّيغة كان قيدا لأنّها دالة على طلب خاص حينئذ لا على طلبين وإن قيل باستفادته من الأدلة العامة كالآيتين كان تكليفا مستقلا فإن مقتضى وجوب المسابقة إلى الخيرات صدق الخير على العمل مع قطع النّظر عن الآية وهو لا يصدق إلاّ إذا كان المطلوب ذات العمل فالمسابقة إليه واجب مستقل وعلى هذا فيكون المطلوب فورا ففورا لاقتضاء الآية وجوب المسارعة إلى مطلق الخيرات والفعل إذا ترك في الزّمان الأوّل لم يزل صدق الخير عنه لما ذكرنا أنّ المطلوب هو نفس الفعل وحينئذ فيجب المسابقة إليه وهكذا بالنّظر إلى الزّمان الثّالث والرّابع الثّاني في حد جواز التّأخير في الواجب الموسع فنقول إنّ حده عموما آخر أزمنة الإمكان وخصوصا آخر الزّمان المجعول له شرعا والمراد بالعموم الموسع بالمعنى الأعم وهو ما يكون وقته أزيد منه سواء فهم ذلك من صريح لفظ الأمر أو من الإطلاق وبالخصوص المعنى الأخصّ وهو ما نص بالوقت المعين ثم إنّه لا ريب في عدم جواز تأخير الموسع بالمعنى الأخصّ عن وقته المحدود وأمّا الموسع بالمعنى الأعم فحده واقعا هو آخر أزمنة الإمكان وأمّا ظاهرا فيلاحظ إلى جزء من الزّمان فإمّا يعلم أنه الآخر فلا إشكال في حرمة التأخير أو يعلم أنّه ليس آخرا فلا ريب في جوازه إنّما الإشكال في صورة الظّن بالإمكان والظن بعدمه والشّك والحق اعتبار الظّنّين إذ لو جعل المدار على العلم فإمّا يبنى عند عدمه على الاحتياط أو البراءة فعلى الأول يفوت فائدة التّوسيع إذ قلما يحصل العلم بعدم كونه آخرا وعلى الثاني يفوت فائدة الوجوب لجواز التأخير إلى أن يعلم كونه آخرا وهو لا يعلم غالبا إلا بعد الوقوع فيه فالمناص هو الرجوع إلى الظن بالسّلامة وعدمها وأمّا الشك فمقتضى الاشتغال الاحتياط عنده لاحتمال فوات الامتثال فيحكم العقل بوجوب التعجيل لا يقال إمكان الفعل يستصحب في الزمان المتأخر فيحكم بأنه ليس آخرا لأنّا نقول لا دليل على حجيّة الاستصحاب في مثل ذلك بل يجب إجراؤه حال تحقق الشك في بقاء الحالة السابقة لا في بقائه بالنّسبة إلى الزمان المتأخر أيضا ثم إنه إذا ظن الضيق وترك الفعل ثم ظهر الوسعة فهل هو عاص قيل نعم لمخالفته الظن المتبع والحق أنه داخل في مسألة التّجري والكلام في حرمته وهل يصير قضاء الحق عدمه لتحقّقه في وقته الواقعي والظّن بالضيق لا يوجب تضييقه واقعا فتأمّل

 

أصل إيجاب الشّيء هل يستلزم وجوب مقدماته

فيه أقوال والأولى في العنوان أن يقال طلب الشّيء هل يستلزم طلب مقدماته ليشمل الأوامر الاستحبابيّة أيضا ثم إنّ هذه المسألة من المبادي الأحكاميّة التّصديقيّة وليست فقهية ولا أصوليّة ولا لغويّة كما توهم أمّا الأوّل فلأنّ البحث فيها ليس عن عمل المكلّف أعني وجوب المقدمات بل البحث إنّما هو عن التّلازم بين وجوب الشّيء ووجوب مقدماته ولأنّ ضابطة المسائل الفقهيّة هو أنّ المجتهد إذا اجتهد فيها وأعطاها بيد المقلد أمكن له العمل بها بدون أن يكون محتاجا إلى اجتهاد آخر كما لو اجتهد في أصالة البراءة في الشّبهات الموضوعيّة بخلاف ما نحن فيه لأنّه إذا اجتهد وحكم بوجوب مقدمة الواجب لم ينفع ذلك للمقلد حتى يبين له أنّ ذلك الشّيء مقدمة كما في أصالة البراءة في الشّبهات الحكميّة وأمّا الثّاني فلأنّ البحث فيها ليس من عوارض الكتاب والسّنة ولا عن دلالة الأمر أصلا لما عرفت أن البحث إنّما هو غير التّلازم ولو ثبت الوجوب بالإجماع والعقل لا يقال إنّهما أيضا من موضوع الأصول لأنّا نقول المسألة الأصوليّة ما يبحث فيها عن أحوال الأدلّة بعد ثبوتها لا عن نفس وجودها وهنا الكلام في نفس حكم العقل بوجوب المقدمة فلا يرجع إلى الأدلة العقليّة حتى يدخل في الأصول بل يكون نظير مسألة أن العقل هل يحكم بالحسن والقبح أو لا وأمّا الثّالث فلأنّ المسألة اللّغويّة فيجب فيها عن الدّلالة بعد تسليم تحقق المدلول كدلالة النّهي على الفساد فإنّ الفساد أمر محقق إنّما النّزاع في دلالة النّهي عليه مع أنّ الكلام ليس مختصا بما إذا استفيد الوجوب من الأمر بل يشمل المستفاد من الإجماع والعقل أيضا فالتّحقيق أنّها من جملة المبادي الأحكاميّة الّتي يبحث فيها عن الحكم ولوازمه كذكر معنى الوجوب والاستحباب ونحو ذلك ثم إنّ التّحقيق في أصل المسألة يتوقف على تمهيد مقدمات أحدها المقدمة ما يتوقف عليه الشّيء وهذا المعنى مشترك بين جميع المقدمات ثم إنّها تقسم باعتبارات كثيرة فقد تقسم تارة إلى داخليّة وخارجيّة والأوّل ما هو داخل في قوام الشّيء كالجزء للكل والثّاني غير ذلك وهو على أقسام منها مجموع الّتي لا ينفك عنها المعلول وهذا هو العلة التّامة ومنها مجموع الأمور الّتي لو لا المانع لأثر فاعتبر فيه جميع الشّرائط سوى فقد المانع وهذا هو المقتضي ومنها ما يكون بحيث لو اقترن بالشرائط وفقد المانع لكان الأثر مستندا إليه وهذا هو السّبب وربما قيل باتحاده مع المقتضي بإرجاع أحدهما إلى الآخر ومنها الشّرط وهو ما لوجوده أثر في الوجود ومنها المانع وهو ما لوجوده وعدمه أثر في الوجود كوضع القدم لطي المسافة وقد علم بما ذكرنا رسوم الأقسام أيضا وأمّا القوم ففسر والسّبب مما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته قالوا والقيد الأخير لإدخال السّبب الجامع لفقد الشّرائط أو وجود الموانع فلا يلزم من وجوده الوجود وكذا إذا قام مقامه سبب آخر فلا يلزم من عدمه العدم واعترض عليه بعضهم بأنّ قولهم لذاته إمّا المراد به دوام الاستلزام فلا ينفع لإدخال ما ذكر لأنّها لا تدخل بهذا المعنى وكذا لو كان المراد الاستلزام الذّاتي بمعنى استحالة الانفكاك

 

وإمّا المراد به الاستلزام في الجملة فيدخل الشّرط في تعريف السّبب وفيه أنّ معنى قولهم لذاته أنّه لو لوحظ مع قطع النّظر عن شيء من الموانع والأمور الخارجيّة لزم من وجوده الوجود من عدمه العدم نعم يختص التّعريف المذكور حينئذ بالمقتضي ويخرج السّبب الجامع لفقد الشّرط لأنّه لا يؤثر مع قطع النّظر عن المانع أيضا لا أن يوجد الشّرط واعترض على التّعريف أيضا بأنّ قولهم ويلزم من عدمه العدم مستدرك لأنّ كل ما يلزم من وجوده الوجود يلزم من عدم العدم جزما والمانع والمعد خرجا بالقيد الأوّل فلا حاجة إلى الثّاني وفيه أنّ الثّاني بمنزلة الجنس لشموله الشّرط والأوّل بمنزلة الفصل أعني بين الشّرط والسّبب والفصل إذا أخرج كل ما يخرجه الجنس لم يوجب الاقتصار عليه وترك الجنس بل يجوز ذكر الجنس غاية الأمر أنّه قد أخر الجنس لنكتة من أهميّة الفصل لوجه ونحو ذلك ولأمر فيه أصلا وفسروا الشّرط بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود واعترض عليه بخروج الشّرط المتأخر عن السّبب كالإجازة في البيع الفضولي فإنّها يلزم من عدمها العدم ومن وجودها الوجود وكذا الشرط الواقع جزءا أخيرا للعلة التّامة وفيه أنّ كلمة من نشوية ومقتضاها كون الاستلزام المذكور شيئا من الشّرط والإجازة والجزء الأخير فيما فرض ليس الوجود مستندا إلى وجودها بل إلى وجود السّبب وإنّما هي شرط التّأثير وإلى وجود المجموع من حيث المجموع وأورد أيضا بصدق التّعريف على السّبب النّاقص أعني الجامع لفقد الشّرط فإنّه لا يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم وفيه ما عرفت من كون كلمة من نشوية وانعدام المسبب عند انعدام السّبب النّاقص مستند إلى انعدام الشّرط السّابق على السّبب النّاقص في الانعدام والعلة إذا كانت مركبة فانتفاء المعلول يستند إلى أسبق الأجزاء في الانتفاء نعم يرد على التّعريف صدقه على جزء المقتضي والعلة التّامة ولعل التّقسيم إنّما هو بحسب الأجزاء الأوّليّة والتّسمية لها بالنّسبة إلى أجزاء الثّانويّة أيضا فلا يضر عدم إطلاق الشّرط على الجزء المقتضي والعلة فافهم ثم قد يورد على تعريف السّبب أنّه شامل للمعلول لتلازمه مع العلة وجودا وعدما وكذا على معلول علة واحدة لتلازم كل منهما مع الآخر وبما ذكرنا من كون كلمة من نشوية تعلم دفع هذا الإيراد لأنّ وجود العلة ليس ناشئا من وجود المعلول وكذا المعلولان لعلة لا يقال حينئذ يكون التّعريف دوريّا لأنّ معنى من النّشويّة هو العليّة والسّببيّة لأنّا نقول المقصود تعريف مدلول السّبب لا ماهيّة والتّعريف لفظي ولم يؤخذ لفظ السّبب في المعرف حتى يلزم الدّور بل هو تعريف اللّفظ بماهيّة معينة معلومة مجهولة وضع اللّفظ لها فتأمل ثم التّحقيق أن السّبب في المقام عبارة عما ذكرنا أوّلا وهو ذات المقتضي مع قطع النّظر عن الشّرائط والموانع ويدل على ذلك جعله قسيما للشرط فإنّه يتبادر منه تباينهما لا دخول الشّرط في ضمن السّبب وبهذا يعلم أن ليس المراد به العلة التّامة لاعتبار الشّرائط في العلة التّامة وقد علمت أنّ الظّاهر

 

تباين السّبب والشّرط مع أنّه لا معنى لإرادتها من السّبب في هذه المسألة إذ لا يمكن القول بوجوب العلة التّامة لأنّها عبارة عن مجموع الأمور الّتي لا ينفك عنها المعلول ولا ريب في تركبه من الأمور الاختياريّة وغيرها كالحياة والقدرة ونحوهما ولا معنى لوجوب الأمر الغير الاختياري ويظهر من السّيد المرتضى رحمه‌الله أنّ المراد من السّبب هو المقتضي لحكمه بأنّ السّبب هو الّذي يترتب عليه الشّيء مع فقد الموانع نعم قد يظهر من كلامه أنّ المراد هو العلة التّامة حيث استدل على أنّ الوجوب مطلق بالنّسبة إلى الأسباب لا مشروط بأنّه إذا وجد السّبب وجد المسبب قهرا فلا معنى لوجوبه بعد وجود السّبب كما هو شأن الواجب المشروط فإنّه لو لم يكن المراد العلة التّامة لم يكن دليله تاما لأنّ السّبب بمعنى المقتضي يمكن أن يوجد ولا يوجد المسبب لوجود مانع ونحو ذلك وبالجملة كلامه مضطرب في المقام وقد يقال إنّ السّبب عبارة عن مجموع المقدمات الاختياريّة فيشمل الشّرائط أيضا ويشكل بأنّه لو كان المراد من السّبب في المسألة هذا المعنى للزم للقائل بوجوب السّبب القول بوجوب الشّرط أيضا لوجوب الجزء قهرا عند وجوب الكل وما يقال من أنّ هذا الوجوب تبقى فيمكن النّزاع في تعلّق الوجوب الأصلي كما قيل في أنّ النّزاع يجري في المقدمات الدّاخلة أيضا ويكون المتنازع فيه الوجوب الأصلي لا وجه له هنا وهناك أيضا لأنّه إذا تعلّق الوجوب بالكل تعلّق بالجزء بعينه فيكون المقدمات الدّاخلة واجبة بعين وجوب الكل وهو الوجوب النّفسي فلا يمكن حصولها في ضمن الحرام وحينئذ فلا ثمرة للنّزاع في أنّها واجبة بوجوب غيري من باب المقدمة أو لا وما يقال من ظهور الثّمرة في جواز الاجتماع مع الحرام على القول بعدم وجوبه ولزوم اجتماع الأمر والنّهي على القول بالوجوب فاسد لما عرفت من تعلّق الوجوب النّفسي بالجزء قهرا على كلا القولين ولهذا قيل بخروجها عن محل النّزاع وحينئذ فنقول في المقام إنّ السّبب إذا كان واجبا والمفروض دخول الشّرائط في ضمنه تعلّق بها الوجوب المقدمي المتعلّق بالكل وحينئذ فلا ثمرة للنّزاع في وجوبها بوجه آخر غيريا فتأمل ومن هذا ينشأ الإشكال من جهة صدق المقدمة على مجموع المقدمات فيلزم على القول بالوجوب تكرار الطّلب بالنّسبة إلى كل منها من حيث كونه مقدمة وجزء للمقدمة وأيضا قد يكون المقدمة مركبة من أجزاء اعتباريّة غير متناهية كقطع المسافة لقبولها القسمة إلى ما لا نهاية له وكل من الأجزاء مقدمة فيلزم تحقق طلبات غير متناهية ويمكن الجواب بأنّ الإنشاء إنّما ورد على ذي المقدمة ووصف المقدميّة من الأمور الانتزاعيّة العقليّة للأمور الخارجيّة وليس من الموجودات الخارجيّة وحينئذ فنقول الطّلب أمر بسيط قد تعلّق بذي المقدمة لكن العقل إذا انتزع من موجود وصف المقدميّة انتزع منه وصف المطلوبيّة أيضا وفي مثل ذلك لا يضر التّكرار لأنّه محض الانتزاع ولا يتكرر الطّلب أصلا وكذا لا يلزم التّسلسل لانقطاعه بانقطاع الاعتبار نظير الأنواع المتكررة كالموصوفة فإنّها من الأمور الاعتباريّة لا الخارجيّة وإلاّ لكان

 

موصوفا بالوجود فننقل الكلام إلى تلك الموصوفيّة فيلزم التّسلسل بخلاف ما لو قلنا بأنّه من الأمور الاعتبارية لانقطاع السّلسلة بانقطاع الاعتبار فتأمل وقد أورد نظير هذا الإشكال على الجمع المعرف عند إرادة عموم الجماعات منه من جهة لزوم تكرار الطّلب لصدق الجماعة على الثّلاثة منفردا وفي ضمن الأربعة وهكذا وأجيب عنه بأنّ المراد من اللّفظ تعميم الجمع بحيث لا يلزم منه تكرار ولا يجري هذا فيما نحن فيه لأنّ حكم العقل يتبع العنوان فمتى تحقق ثبت الحكم والعنوان يصدق على كل فرد من المقدمات متكررا فيجب تحقق الحكم كذلك فالأولى في الجواب ما ذكرنا وقد تقسم المقدمة إلى شرعيّة وعقليّة وعاديّة ومثلوا للشرعيّة بالطهارة للصّلاة ولعل وجهه أنّ المطلوب هو الصّلاة بوجه مخصوص واقعي بحيث لا يمكن تحصيلها بدون الطّهارة كالمشي للحج فيكون الطّهارة من المقدمات العقليّة لكن لما كان الكاشف عن كونها مقدمة هو الشّرع سميت شرعية والوجه الأخير موقوف على ما قيل من أنّ الأحكام الوضعيّة ليست بمحض جعل الشّارع بل هي أحكام ثابتة لموضوعاتها واقعا والكاشف عنها الشّارع كالملكيّة والسّببيّة ونحوهما فافهم وقد يقسم المقدمة إلى مقدمة الوجود ومقدمة الوجوب ومقدمة الصّحة ومقدمة العلم والأوّل كالمشي للحج والثّاني كالبلوغ للصّلاة بناء على صحة صلاة المميز والثّالث كالوضوء للصّلاة والرّابع كالصّلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة هذا إن لوحظت المقدمة بالنسبة إلى متعلّق الوجوب والصّحة والعلم إمّا أن لوحظت بالنسبة إلى أنفسها كانت مقدمة لوجودها ثم إن مقدمة الوجوب خارجة عن محل النّزاع في المسألة بلا إشكال ومقدمات الصّحة راجعة إلى مقدمات الوجود باعتبار أن الوضوء إذا كان شرطا للصّلاة فوجود الصّلاة الصّحيحة لا يحصل إلاّ به ومحل النّزاع هو مقدمات الوجود في الجملة وسيأتي الكلام في تعميمه بحيث يشمل مقدمات وجود الواجب المشروط أيضا وعدمه وأمّا مقدمة العلم فقيل بخروجها عن المسألة ولعل وجهه أنّ النّزاع في المسألة إمّا يكون في وجوب المقدمة وجوبا يكون منشأ للآثار بحيث يترتب عليه الثّواب والعقاب فلا ريب في عدم إجرائه في مقدمات العلم لأنّ وجوب أصل تحصيل العلم وجوب إرشادي عقلي لا يترتب عليه عقاب إلاّ عقاب ترك الواجب نظير الأمر العقلي بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية وإمّا يكون النّزاع في مطلوبيّة المقدمة مطلقا فلا ريب في أنّ النّزاع فيها بهذا المعنى لا فائدة فيه لأنّ تحصيل العلم بالنسبة إلى المكلّف ليس إلاّ عبارة عن فعله المحصل للعلم فكل واحد من الصّلاة الأربع داخل في عنوان تحصيل العلم فيتصف بالوجوب بعد الاعتبار بنفس وجوب تحصيل العلم فالنّزاع في أنّه واجب بعنوان المقدمية أيضا أو لا ليس له فائدة نظير المقدمات الدّاخلة (الثّانية) الواجب إمّا مطلق أو مشروط وعرّف الأوّل بما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده كالصّلاة بالنسبة إلى الطّهارة والثّاني بما يتوقف على وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده كالعبادات الشّرعيّة بالنسبة إلى العقل وأورد عليه بخروج الحج عن الواجب

 

المشروط لتوقف وجوبه على ما لا يتوقف عليه وجوده لأنّ وجوبه متوقف على الاستطاعة الشّرعيّة ووجوده لا يتوقف عليها لإمكانه بدونها فهو إمّا داخل في المطلق إن قلنا بأنّه يشمل ما توقف وجوبه على غير ما توقف عليه وجوده وإمّا واسطة بينهما إن قلنا بعدمه شمول المطلق لذلك ويمكن الجواب بأنّ المراد بتوقف الوجود توقف الموجود بعنوان كونه واجبا فالحج بعنوان الوجوب لا يوجد إلاّ بالاستطاعة الشّرعيّة ووجوبه أيضا موقوف عليها بخلاف الصّلاة فإنّ وجودها بعنوان الوجوب موقوف على الطّهارة لكن وجوبها لا يتوقف على الطّهارة فإذا انتفى الطّهارة انتفى الوجود الواجب في الخارج بمعنى أنّ المكلّف لم يوجد هو لم ينتف الوجوب فعلم أنّ توقف الوجود بعنوان الوجوب غير توقف الوجوب وزعم بعضهم أنّ توقف الوجود بعنوان الوجوب عين توقف الوجوب بتوهم أنّه إذا انتفى الشّرط انتفى الوجود الواجب في الشّرع فأورد على التّعريف بأنّ تعريف المطلق حينئذ إنكار للبديهي وتعريف المشروط إظهار للبديهي لأنّه إذا توقف الوجود الواجب على شيء توقف وجوبه عليه أيضا بالبداهة فكيف يقال في المطلق إنّ وجوبه لا يتوقف عليه فإنّه إنكار للبديهي وفي المشروط أنّ وجوبه يتوقف عليه فإنّه إظهار للبديهي وقد عرفت وجه التّوهم فافهم وزاد بعضهم في التّعريف قيد الحيثيّة إشعارا بأنّه ليس في الشّريعة واجب مطلق بالنسبة إلى جميع المقدمات أو مشروط كذلك بل كل واجب فهو بالنسبة إلى بعض مقدماته مشروط ولا أقل من القدرة وبالنسبة إلى بعضها مطلق ولا أقل من الإرادة وقيد الحيثيّة هنا غيره في تعريف الدّلالات وأمثالها لأنّه هناك إنّما هو لتخصيص كل واحد من الشّيئين المتباينين بحد لا يشمل الآخر فإنّ دلالة المطابقة والتّضمن لا يجتمعان في مصداق واحد لكن لو لم يعتبر الحيثيّة لصدق حد لكل منهما على الآخر بخلافه هنا لاجتماعهما في مصداق واحد فهو لبيان وجه الصّدق فهو كتعريف الجسم بما يقبل الأبعاد من حيث هو كذلك والأبيض بما يفرق البصر هكذا لاجتماعهما في الجسم الأبيض بالاعتبارين ثم لا يخفى أنّ التّعريف المذكور وإن كان له وجه صحة كما بينا لكنّه خلاف ظاهره لظهوره في أنّ وجوبه يتوقف على ما يتوقف عليه وجوده بنفسه لا وجوده بعنوان الوجوب فالأولى في التّعريف ما نسب إلى السّيد العميدي من أن المطلق ما ليس لوجوبه شرط عدا الشّرائط الأربعة الثّابتة لكل تكليف من العلم والقدرة والبلوغ والعقل والمشروط ما كان لوجوبه شرط غيرها فإنّ هذا أنسب بمعنى الإطلاق والاشتراط لغة لأنّ المطلق ما ليس له قيد والمشروط المقيد لكن لما كانت الشّرائط الأربعة ثابتة في كل تكليف لوحظ الإطلاق والاشتراط بالنسبة إلى غيرها لكن يلزم على هذا عدم وجود واجب مطلق في الشّريعة لأنّ الصّلاة مشروطة بالوقت وهو غير الشّرائط الأربعة وهكذا سائر الواجبات إلاّ بعد حصول جميع الشّرائط فحينئذ يصدق عليه المطلق ولعله كان فيه فتأمّل الثّالثة قد اختلفت كلماتهم في تحرير محل النّزاع ويظهر منها في تحريره وجوه ثلاثة أحدها أنّ النّزاع في مقدمات

 

وجود الواجب مطلقا كان أو مشرطا بمعنى أنّ النّزاع في التّلازم بين وجوب الشّيء ووجوب مقدماته بنحو وجوبه إن مطلقا فمطلقا أو مشروطا فمشروطا نعم مقدمات الوجوب خارجة عن محل النّزاع لعدم إمكان القول بوجوبها مشروطا أيضا لأنّ ما هو الشّرط لوجوب ذي المقدمة هو الّذي يكون شرطا لوجوب المقدمة ولا يمكن ذلك فيما يكون نفس المقدمة شرطا لوجوب ذي المقدمة إذ لا يمكن اشتراط وجوب الشّيء بنفسه ثانيها أنّ النّزاع في مقدمات الواجب المطلق وربما يستظهر ذلك من عبارة المعالم حيث قال في العنوان الأمر بالشيء مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتم إلاّ به مع كونه مقدورا بحمل قوله مطلقا على خلاف المشروط ويجعل قوله مع كونه مقدورا أيضا إشارة إلى ذلك لأنّ الواجب بالنسبة إلى المقدمات الغير المقدورة مشروط كذا قيل وعلل خروج المشروط عن محل النّزاع بأنّه قبل حصول الشّرط ليس بواجب حتى يجب مقدمته واعترض على عنوان المعالم بأنّ التّقييد بالإطلاق لا حاجة إليه لأنّ الأمر حقيقة في المطلق فيصرف إليه عند عدم القرينة وكذا قوله مع كونه مقدورا لما ذكر أنّ الواجب بالنسبة إلى المقدمات الغير المقدورة شرط وأقول بما قررنا الكلام في التّحرير الأوّل تعرف بطلان هذا القول وفساد تعليل خروج الواجب المشروط بما ذكرنا فاسد لما ذكرنا أنّ النّزاع إنّما هو في التّلازم بين الوجوبين أي نحو فرض لا أنّ المقدمة واجب مطلق وإن كان فهو المقدمة مشروطا حتى يدفع أنّه إذا لم يكن ذو المقدمة واجبا كيف يكون مقدمة واجبا وما ذكروه من أنّ الواجب بالنسبة إلى المقدمات الغير المقدورة مشروط فهو خارج عن محل النّزاع مدفوع بأنّ الواجب بالنسبة إلى نفس تلك المقدمات ليس مشروطا وإنّما الشّرط في وجوبه هو القدرة على تلك المقدمات وحينئذ فيمكن النّزاع في أنّ تلك المقدمات أيضا واجبة بشرط القدرة أو لا فإنّ المشي إذا تعذر في الحج لم يخرج عن كونه مقدمة للوجود غاية الأمر أنّ القدرة عليه شرط لوجوب الحج وحينئذ فيمكن النّزاع في وجوب المشي بشرط القدرة فافهم (الثّالث) أنّ النّزاع في المقدمات المقدورة للواجب المطلق يظهر ذلك من بعض المحققين حيث حمل قول صاحب المعالم مع كونه مقدورا على أنّه لإخراج المقدمات الغير المقدورة لا لأنّ الواجب بالنسبة إلى إليها مشروط بل لأنّها خارجة عن محل النّزاع وبالجملة الواجب المطلق له مقدمات مقدورة وغيرها وهو مطلق بالنسبة إليهما معا لكن النّزاع في خصوص المقدورة أمّا اختصاص النّزاع بالواجب المطلق فعلله بما سبق مع جوابه وأمّا إمكان كون الواجب مطلقا بالنسبة إلى المقدمات الغير المقدورة فبيانه أنّه لو لم يكن كذلك لم يكن المشي إلى الحج واجبا قبل دخول ذي الحجة لأنّ بلوغ الموسم من المقدمات الغير المقدورة فلو كان وجوب الحج بالنسبة إليه مشروطا لم يكن له وجوب قبل حصول الشّرط فكيف يجب مقدمته بالوجوب المطلق أعني المشي بل لزم أن لا يكون في الشّرع واجب أصلا لأنّ من المقدمات القدرة الحاصلة حين الفعل وهي غير مقدورة فلو كان الوجوب مشروطا بها لم يتحقق وجوب أصلا لأنّ الوجوب يجب تحققه قبل العمل وقبله ليس شرطه موجودا وهو القدرة حال العمل وحينئذ فيجب القول بأنّ الواجب بالنسبة إليها مطلق

 

فإن قيل كيف يمكن القول بإطلاق وجوب الحج بالنسبة إلى بلوغ الموسم والواجبات بالنسبة إلى القدرة حال العمل فإنّ معنى الإطلاق وجوبه سواء حصل البلوغ أو لا مع أن المطلوب هو الحج عند البلوغ فهذا تكليف بالمحال لأنّ الحج عند البلوغ لا يمكن حصوله أن يحصل البلوغ فكيف يطلب مطلقا بالنسبة إليه وكذا الواجب بالنسبة إلى القدرة حال الفعل قلنا إنّه واجب معلّق بالنسبة إليه والفرق بين المشروط بشيء والمعلّق عليه أنّ المشروط إنّما يجب بعد وجود ذلك الشّيء بخلاف المعلّق فإنّه يجب إذا كان الشّخص متصفا بأنّه ممن يتعقبه ذلك الشّيء فكون الشّخص في علم الله تعالى ممن يتعقبه البقاء إلى الموسم هو شرط للوجوب وهو حاصل في الشّخص قبل تحقق بلوغ الموسم أيضا والمعلّق قسم من المطلق فالحج بالنسبة إلى نفس بلوغ الموسم مطلق معلّق نعم بالنسبة إلى الوصف المنتزع مشروط وشرطه حاصل قبل بلوغ الموسم فيجب ويجب مقدماته من المشي وأمثاله بخلاف مثل الاستطاعة فإنّ نفسها شرط للوجوب فلذا لا يجب المقدمات قبل وجودها هذا حاصل مرامه زيد في إكرامه وأقول أمّا إخراج المقدمات الغير المقدورة مع جعل الواجب بالنسبة إليها مطلقا كما ذكره بعض المحققين فتنقيحه يحتاج إلى تحقيق الفرق بين الواجب المعلّق والمشروط فنقول حاصل ما ذكره من الفرق هو أنّ الوجوب في المشروط لا يحصل إلاّ بعد حصول المقدمة الّتي هي شرط الوجوب بخلاف المعلّق فإنّ وجوبه مشروط بالوصف المنتزع من المقدمة الحاصل حال الأمر فيتحقق الوجوب من حينه ولا فرق في المعلّق بين ما إذا كان منشأ أنواع الوصف من الأمور الاختياريّة أو غيرها كبلوغ الموسم فيما مر ويتفرع على المسألة أمور منها وجوب بعض المقدمات قبل وقت الواجب كالمشي للحج ووجوب تعلم المسائل قبل دخول الوقت ومنها صحة الضّد الموسع فإنها تابعة للأمر ولا يمكن تعلّق الأمر به مع الأمر بالضد الفوري فإن الأمر بالصّلاة لا يجتمع مع الأمر بأداء الدّين لكونه اجتماع الضّدين ولأنّ الواجب إذا توقف على الحرام خرج عن الوجوب أو خرج الحرام عن الحرمة فالصّلاة إذا توقفت على عصيان الأمر بالأداء خرجت عن الوجوب ولم يتعلّق بها أمر ولا يمكن جعلها واجبا بشرط المعصية بمعنى أن المولى طلب منه الأداء ثم قال إن عصيتني فصل لأنّ هذا إنّما يتم فيما لو كان بين فعل المعصية والواجب ترتب في الوجود كما إذا كان الماء المباح في الظّرف المغصوب فإنّه يحرم عليه إخراج الماء منه لكنّه إن عصى وأخرجه وجب عليه الوضوء بخلاف ما نحن فيه فإنّ المعصية مقارنة للصّلاة فلا يمكن جعلها شرطا لتقدم الشّرط على المشروط فالشرط إذا هو كون الشّخص ممن يتصف بالعصيان وهذا حاصل قبل الصّلاة ويتعلّق بها الأمر وتكون صحيحة هذا غاية توجيه الفرق بينهما وأورد عليه بوجهين الأوّل أنّه لا فرق في الحقيقة بين المشروط والمعلّق لأنّ الوجوب في كليهما حاصل من حين الطّلب بالنسبة إلى المتعلّق الخاص لأنّ الوجوب طلب جزئي يوجد بمحض إنشاء الصّيغة والجزئي الخارجي لا يقبل التّقييد لأنّه إنّما هو في الكليات

 

وإنّما تقيده بحسب متعلقه فقد يكون متعلقه مطلقا وقد يكون مقيدا لأنّ المصلحة إمّا يكون في الفعل بجميع الوجوه فيطلبه الآمر على جميع التّقادير وقد يكون المصلحة في الفعل على التّقدير الخاص فيطلبه على ذلك التّقدير ولا فرق في هذه الجهات بين الواجب المطلق والمشروط وإنّما الفرق هو أنّ نفس التّقدير الخاص في الواجب المطلق يجب تحصيله على المكلّف بخلافه في الواجب المشروط فما ذكره من أنّ الوجوب في المشروط لا يحصل إلاّ بعد حصول الشّرط غير تمام (الثّاني) أن عدم التّفرقة في الواجب المعلّق بين ما لو كان منشأ الانتزاع مقدورا أو غير مقدور فاسد لأنّه إذا كان مقدورا والمفروض أن الواجب بالنسبة إليه مطلق فيلزم أن يكون تحصيله واجبا فالصّلاة المتوقفة على معصية الأمر بالأداء إذا كان وجوبها بالنسبة إلى المعصية مطلقا والمفروض أنها مقدورة فيجب تحصيلها ووجوب المعصية مستلزم للكر على ما فر منه وأجيب عن الأوّل بأنّ الأمر بالواجب المشروط إنّما ينشأ بالصيغة وجوبا فعليا منجزا ويعتبر الشّرط عنوانا في المكلّف فقوله حج إن استطعت معناه أيها المستطيع حج فعدم حصول الوجوب قبل حصول الشّرط ليس مستندا إلى عدم إنشاء الوجوب بل إنّما هو لعدم صدق عنوان المكلّف على الشّخص قبل حصول الشّرط ولا معنى للقول بكون الشّرط قيدا للواجب لأنّ الفرق حينئذ بين المطلق والمشروط في وجوب مقدمات الأوّل دون الثّاني تحكم فإنّ المقدمة قيد في كليهما حينئذ فتجب بوجوب المقيد في الجميع أو لا تجب في الجميع وعن الثّاني بأنّه لما اعتبر الوصف الانتزاعي شرطا للوجوب لم يكن تحصيله واجبا وليس تحصيله إلاّ إتيان منشإ الانتزاع فلذا يقول بعدم وجوبه هذا كلامهم وأقول حاصل الفرق بين المطلق والمشروط هو أن الواجب المطلق بالنسبة إلى مقدمة هو ما يكون تركه حال ترك ذلك المقدمة مبغوضا إمّا مطلقا سواء كان مستندا إلى ترك ذلك المقدمة أو غيرها من المقدمات أو خصوص تركه المستند إلى غيرها من المقدمات فإنّ ترك الصّلاة حال ترك الوضوء مبغوض سواء كان مستندا إلى ترك الوضوء أو ترك غيرها بأنّ توضأ وترك السّتر مثلا وكالحج فإن تركه قبل بلوغ الموسم مبغوض لا إذا كان مستندا إلى فوات البلوغ بل إلى فوات سائر المقدمات كالمشي مثلا وهذا هو الواجب المعلّق فهو قسم من المطلق والواجب المشروط بالنسبة إلى مقدمة هو ما لا يكون تركه حال تركها مبغوضا مطلقا كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة هذا ثم إنّ التّحقيق انحصار محل النّزاع في مقدمات وجود الواجب المطلق أمّا المشروط فقبل حصول شرطه لا نزاع في عدم وجوب مقدماته بالوجوب المطلق إذ لا يزيد الفرع على الأصل وأمّا النّزاع في وجوبها بالوجوب المشروط فلا فائدة فيه لأنّ الوجوب المشروط كما عرفت ليس مدلولا للأمر فإنّه لا يدل إلاّ على الوجوب المطلق بالنسبة إلى عنوان خاص فمقدماته أيضا بالنسبة إلى ذلك العنوان مقدمات للواجب المطلق وأمّا الاشتراط فأمر ينتزعه العقل بالنسبة إلى من ليس داخلا تحت ذلك العنوان فيحكم بأنّ الوجوب عليه مشروط بدخوله تحت ذلك العنوان وحينئذ فالنزاع في أنّ العقل هل

 

ينتزع الوجوب الشّرطي للمقدمات أيضا أو لا لا طائل تحته بعد ثبوت عدم وجوب تحصيلها قبل حصول الشّرط كما هو مراد القوم من خروج مقدمات الواجب المشروط عن محل النّزاع ولكن قد يشكل الأمر في بعض الموارد حيث حكموا فيها بوجوب مقدمات الواجب المشروط قبل حصول الشّرط ومنه نشأ القول بعدم الفرق بين الواجب المطلق والمشروط في وجوب مقدمات الوجود وجوبا مطلقا ولو قيل حصول الشّرط منها وجوب تعلم المسائل قبل دخول الوقت ومنها وجوب تعلم مسائل القبلة لمن يريد السّفر إلى البلاد النّائية ومنها وجوب الهجرة على من لا يتمكن من إقامة شعائر الإسلام والتّكاليف الشّرعيّة في بلده فإنّ تركه مفوت لتنفس التّكليف فوجب المهاجرة مع عدم وجوب ذي المقدمة لتوقفه على التّمكن والقدرة المنتفية في ذلك البلد وكذا نظائره ومنها إبقاء الشّاة المنذور ذبحها إن شفى الله المريض وعدم جواز نقلها عن ملكه عند توقع الشّفاء ومنها حرمة النّوم للجنب في ليلة رمضان إذا لم يكن عازما على الانتباه مع حكمهم بأنّ الغسل إنّما يجب عند طلوع الصّبح متصلا به أعني آخر جزء من الليل يسع الغسل كما ذكره الشّهيد ومنها ما حكموا به من أنّ المرتد الفطري معاقب عند ترك الواجبات مع عدم صحتها منه لتركه الإسلام الّذي هو شرط الصّحة مع أنّه حين ارتداده لم يكن متصفا بشرائط الوجوب الّتي منها الوقت ومنها ما حكموا به من أن الجاهل المقصر معاقب على ترك الواقع سواء كان عالما به بالعلم الإجمالي أو كان شاكا لتفويته التّكليف بترك تحصيل العلم وليس في الأوّل معاقبا على ترك الاحتياط حيث إنّه عالم بالعلم الإجمالي كما توهم لأنّ وجوب الاحتياط إرشادي عقلي لا يترتب على تركه عقاب إلاّ ما يترتب على ترك الواقع كوجوب إطاعة الرّسول ونحوه ومنها حكمهم بأنّ من دخل في الدّار المغصوبة عوقب على الخروج مع وجوبه عليه لتفويته التّكليف باختياره لتمكنه من الامتثال قبل الدّخول والحاصل أنّه لا فرق عندهم في حرمة تفويت التّكليف بين ما لم تنجز وجوبه وعدمه فيحرم إتلاف الماء قبل الظّهر لمن يعلم إعواز الماء بعده كما يحرم بعده ومنها ما يمكن أن يقال في مسألة عقاب الكافر على ترك القضاء مع أنّه ليس له زمان للفعل لعدم صحته في زمان الكفر وعدم وجوبه بعد الإسلام لأنّ الإسلام يجب ما قبله فيقال إنّه مكلّف بالدخول في الإسلام ليجب عليه في الوقت الأداء في خارجه القضاء فهو بتركه الإسلام مفقود للتّكليف وهذا معنى كونه معاقبا على ترك القضاء وغير ذلك من الأمثلة والموارد الّتي أوقعتهم في الشّبهة المذكورة ولنا أن نقول فيها بالوجوب التّعليقي في الجميع أو نقول إنها واجبات نفسيّة قد ثبتت بالدليل كما ذكره بعض المحققين ولا ينافي ذلك كونه توصليا غيريا لأنّ المراد بالوجوب الغيري هنا ما ليس الفرض منه حصول مصلحة في نفسه وهذا غير الوجوب الغيري المقدمي الّذي يراد منه الوجوب النّاشئ من وجوب شيء آخر ومرادنا بالنفسي ما تعلّق به الخطاب أصالة وإن كان الغرض منه مصلحة في غيره فيكون غيريا بالمعنى

 

الأوّل وهو يكفي في المقام أو نقول بالتّفريق ففي بعضها بالوجوب التّعليقي وفي بعضها بالوجوب النّفسي ولعل هذا أولى ويرد النّقض على من يفرق بين المطلق والمشروط بالزكاة فإنّ الشّخص الّذي يعلم أنّه يبلغ ماله النّصاب لا يجب عليه قبله تحصيل مقدمات وجودها وكذا مقدمات وجود الحج قبل الاستطاعة لمن يتوقع حصولها وغير ذلك من الموارد اللهم إلاّ أن يجيب بأنّ مقتضى الدّليل والقاعدة هو الوجوب لكفاية القدرة على الامتثال في حكم العقل بالوجوب ولو كان تحقق القدرة بإبقاء القدرة الثّابتة قبل تعلّق الوجوب فيصدق على واجد الماء قبل الظّهر أنّه قادر على الوضوء بعد الظّهر بإبقاء الماء فيجب عقلا وأمّا الأمثلة الّتي ثبت فيها عدم الوجوب فإنّما هي خارجة بالدليل حيث ثبت فيها اشتراط القدرة الحاصلة بعد زمان الوجوب فعلا ولكن بعد ما عرفت من ظهور الفرق بين المطلق والمشروط وأنّ الشّرط معتبر في عنوان المكلّف تعرف فساد هذا القول بل لا يتصور وجوب المقدمات قبل حصول شرط الوجوب لعدم دخول الشّخص في موضوع الخطاب وبعد حصول الشّرط يكون في حقه واجبا مطلقا فتحرر مما ذكرنا أن محل النّزاع خصوص المقدمات المقدورة للواجب المطلق فاضبطه لكن لقائل أن يقول إن قيد المقدورة مستدرك لأنّه إن كان لإخراج ما علق عليه الواجب المعلّق كبلوغ الموسم للحج فإنّ الواجب بالنسبة إليه مطلق مع أنّه غير مقدور وليس تحصيله واجبا فليس بصحيح لأنّ ما علق عليه الواجب المطلق غير واجب وإن كان مقدورا كترك الضّد الموسع كما مر فالأولى إبدال قيد المقدور بقولنا إذا كان غير ما علق عليه الواجب وإن كان لإخراج بعض المقدمات الغير المقدورة للواجب المطلق كما لو كان للمقدمة فردان أحدهما مقدور والآخر غير مقدور كقطع الطّريق فإنّه يحصل بالركوب المقدور والمشي الغير المقدور مثلا فالحج بالنسبة إليه مطلق مع أنّ الواجب خصوص المقدور ففيه أنّ المقدمة هي القدر المشترك والقدر المشترك بين المقدور وغيره مقدور فتأمل ثم إنّهم على بنائهم على وجوب مقدمة الواجب المشروط قبل حصول الشّرط اختلفوا في أنّه واجب في الجزء من الزّمان المتصل بالواجب أو يجوز له التّقديم وهذه المسألة وإن كانت عامة لكنهم تعرضوا لخصوص مثل الغسل في ليلة رمضان فقيل بوجوبه في آخر جزء من الليل وأمّا قبله فنفل يسقط الفرض وقيل بأنّه واجب من حين حدوث الجنابة ولو في أوّل اللّيل والمكلّف مخير فيه بالنسبة إلى أجزاء الزّمان واستدل للأوّل بأنّ الغسل في الجزء الأخير هو الّذي يفوت الواجب بتركه وأمّا قبله فلا يتوقف الواجب عليه أصلا فليس مقدمة حتى يكون واجبا وأجيب بأنّه إن أريد بفوات الواجب بفواته في الجزء الأخير أنّه إذا فات بدون أن كان إتيانه في الجزء الأوّل فات به الواجب فصحيح لكن تركه في الجزء الأوّل بدون أن يأتي به في الآخر أيضا مفوت له وإن أريد فواته بتركه في الأخير ولو كان إتيانه ففاسد والحاصل أنّ تركه في مجموع الوقت مفوت للصّوم في كل جزء جزء ليس مفوتا فيكون

 

واجبا مخيّرا بالنسبة إلى الزّمان وفيه نظر لأنّه إن أراد بالتّخيير أنّه مخيّر بين نفس الغسل في الأوّل والآخر ففاسد لأنّ الغسل في الأوّل لا مدخل له أصلا إذ المناط وجود الطّهارة في أوّل الصّبح وإن أراد به أنّه مخيّر بين الغسل في الآخر والغسل في الأوّل مع إبقاء الطّهارة إلى الصّبح فلا ريب أنّه ليس كذلك لأنّه يجوز له تركهما معا بأن يغتسل في الأوّل ثم يجنب ثانيا فإنّه بالنسبة إلى الجنابة الأولى ترك الغسل في الجزء الأخير وفي الأوّل مع الإبقاء فالغسل مع الإبقاء في غير الجزء الأخير يجوز فعله وتركه وهو ينافي الوجوب لا يقال إنّه إن تركه بأن أجنب ثانيا فالغسل الثّاني من جملة أفراد الواجب المخيّر فالتّخيير إنّما هو بين ثلاثة الغسل في الجزء الأخير والغسل في الأوّل مع الإبقاء وترك الإبقاء والغسل ثانيا لأنّا نقول الغسل ثانيا ليس في درجة الإبقاء حتى يكون الشّخص مخيرا بينهما بل هو مترتب على ترك الإبقاء فهما بمنزلة الصّوم والسّفر فإنّ الشّخص ليس مخيّرا بينهما بأن يكون السّفر أحد فردي المخيّر والصّوم أحد فرديه بل ترك الصّوم مترتب على السّفر فهو مخيّر بين الإبقاء وعدمه لكن إذا لم يبقه بأن أجنب ثانيا وجب عليه الغسل الجنابة الثّانية فالوجوب التّخييري غير معقول بعد فرض أنّ المقدمة هي الطّهارة في الصّبح نعم لو قلنا إن الواجب رفع الجنابة الشّخصيّة والمكلّف مخير بين رفعه في أوّل الليل أو آخره فلو رفعه في الأوّل ثم أجنب توجه تكليف مخيّر آخر بالنسبة إلى رفع الثّاني صح ما ذكروه من التّوسعة لكنّه لا دليل عليه بل الواجب الكون على الطّهارة في الجزء الأخير فإن لم يتطهر في الأوّل وجب عليه إحداثه وإن أحدثه أوّلا كان نفلا إلى أن يصل الجزء الأخير فيصير إبقاؤه واجبا فيصدق أنّه مجموعه عمل نفل إذ لا ينافي استحباب العمل وجوب إتمامه كالاعتكاف فإنّ استحباب مجموعه يصدق بعدم جواز عدم الدّخول فيه وإنّ لم يخبر قطعه بعد الدّخول وكان إتمامه واجبا عينيّا كالاعتكاف أو تخييرا كالوضوء إذا شرع فيه قبل الوقت ودخل الوقت في أثنائه فنقول إنّ مجموعه مستحب فينوي الاستحباب عند الشّروع وإن علم بأنّ الوقت يدخل قبل الفراغ منه فإذا دخل الوقت وجب عليه الإتمام بالوجوب التّخييري بينه وبين الوضوء في الزّمان المتأخّر هذا كله على القول بوجوب مقدمة الواجب المشروط قبل وجوبه وأمّا على المختار من عدم صحة ذلك فيمكن أن يقال إنّ الواجب الّذي يكون زمان وجوبه عين زمان عمله لا يمكن القول بوجوب المقدمة فيه بعد حصول الشّرط لأنّه زمان ذي المقدمة فلا محالة يكون زمان الوجوب أوسع من زمان الفعل بقدر إتيان ذلك المقدمة لا أزيد بحكم العقل كذا قيل وهو محل الكلام لأنّ العقل لا يفرق بين الجزء الأخير والأوّل إن ثبت أنّ رفع الجنابة الشّخصيّة مقدمة نعم لو ثبت كون المقدمة الكون على الطّهارة في الصّبح أمكن إثبات المضايقة بما مر من أنّه لا يمكن فرض الوجوب التّخييري وقد عرفت وجهه ونزيد هنا أنّه كما أن الشّخص الطّاهر في الليل ليس مكلفا بأحد الأمرين إبقاء طهارته والغسل إن أجنب بل ليس مكلفا بشيء أصلا كذا الجنب في أوّل الليل إذا اغتسل لم يكن مكلفا بإبقاء طهارته تخييرا فإذا دخل الجزء الأخير وجب إبقاء الطّهارة إن كان متطهرا

 

وإحداثها إن كان جنبا وتوضيح الكلام في المقام أن مبنى التّوسعة والضّيق ومقدار زمان التّوسعة أحد الأمرين (أحدهما) أنّ وجوب الغسل يتبع وجوب الصّوم فإذا كان الأمر بالصوم متوجها إلى الشّخص من أوّل الليل كان التّكليف بالغسل أيضا متوجها إليه من أوّل الليل حتى إنّا لو قلنا إنّ التّكليف بصوم الشّهر يتوجه إلى المكلّف من أوّل الشّهر جاز نيّة الوجوب في الغسل نهارا بقصد كونه مقدمة لصوم الغد لكن لما قام الإجماع على عدم جواز ذلك فهو كاشف عن أنّ التّكليف إنّما يتوجه في أوّل الليل فيكون زمان الغسل موسعا أو في الجزء الأخير فيكون مضيقا (والثّاني) أنّ شرط وجوب الصّوم إمّا مطلق التّمكن من إحداثه مطهرا وخصوص التّمكن ليلا أو في الجزء الأخير فعلى الأوّل يتوسع زمان الوجوب إلى النّهار أيضا لأنّه متمكن حينئذ فالشرط موجود وعلى الثّاني يتوسع في خصوص الليل لوجود الشّرط فيه خاصة وعلى الثّالث يتضيق وقته لعدم وجود الشّرط إلاّ في الجزء الأخير لكن لما قام الإجماع على عدم الأوّل تعين أحد الأخيرين فعلم أنّ مبنى القول بالضيق إمّا عدم توجه الخطاب بالصّوم قبل الجزء الأخير أو عدم وجود الشّرط قبله لكن يشكل عليهم حينئذ إنّه يلزم أن لا يحرم النّوم إذا كان بقصد عدم الانتباه أيضا لأنّ تفويت شرط الوجوب ليس حراما مع أنّهم حكموا بحرمته اللهم إلاّ أن يقال إنّ الشّرط هو التّمكن في الليل فيجب الغسل من أوّل الليل لكن الواجب هو الغسل عند الجزء الأخير لأنّه المقدمة كما أن الحج يجب عند حصول الاستطاعة لكن الواجب هو الحج في ذي الحجة فكما يجب الحج والمشي هناك لئلا يلزم تفويت الواجب فكذا يحرم النّوم هنا والحاصل أنّ مقدمات الصّوم تجب من أوّل الليل لكن المقدمة هو الغسل في الجزء الأخير لأنّه الّذي يفوت الواجب بفواته على ما ذكر في وجه التّضييق ولكن مقتضى ذلك أنّه لو علم عدم التّمكن إلاّ في أوّل الليل وجب عليه الغسل حينئذ إذ هو حينئذ يفوت الواجب بفواته فإن كان هناك إجماع مركب على عدم وجوب الغسل في أوّل اللّيل على القول بالضيق حتى على من يعلم أنّه لا يتمكن منه في الجزء الأخير فالأمر مشكل وإلاّ فلا ضرر في التزام ذلك بل هو مقتضى الدّليل كما ذكرناه ويمكن التّوجيه بوجه آخر وهو أنّ الصّوم وإن قلنا بتوجه خطابه في الجزء الأخير لكن يمكن وجوب الغسل من أوّل الليل بالوجوب النّفسي الإعدادي لأدلة خارجة وسعة وقت الفعل وضيقه تابع حينئذ لمدلول ذلك الدّليل والقدر المتيقن مما بأيدينا من الأدلة هو الجزء الأخير كذا قيل والأولى هو ما ذكرنا فتأمل جدا (الرّابعة) إذا توقف فعل الواجب على فعل المحرم سقط عن الوجوب المطلق قطعا وإلاّ لزم التّكليف بالمحال وهو إيجاد الواجب مع ترك مقدمته ولزم التّكليف بالمتناقضين وهو فعل المقدمة وتركها وفي جواز وجوبه مشروطا بفعل المحرم عصيانا إشكال إذا كان المحرم مقارنا للواجب في الزّمان كترك الضّد الفوري بالنسبة إلى فعل الضّد الموسع نعم لو اختلفا في الزّمان جاز بلا إشكال كما لو كان عنده ماء في الظّرف المغصوب فإنّه ليس مكلفا بالوضوء بالإطلاق لكن إن عصى بإخراج الماء إلى ظرفه وجب عليه

 

الوضوء وأمّا في المقارن فلا يمكن ذلك لوجوب تقدم الشّرط على المشروط ومنعه بعضهم نظرا إلى أنّ ذلك إنّما هو في الشّرائط العقليّة وأمّا الشّرائط الشّرعيّة فيجوز تقارنها للمشروط بل تأخرها عنه كالإجازة في الفضولي لكنّه ظاهر الفساد لأنّ وجوب تقدم الشّرط عقلي سواء كان الشّرط شرعيا أو لا بل الشّرط الشّرعي بعد ثبوت شرطيّته شرعا يصير شرطا عقليا ولذا جعل بعضهم الشّرط في المقام الوصف المنتزع لا نفس ترك الضّد كما عرفت في بيان الواجب المعلّق وأورد عليه بأنّا سلمنا أن الواجب بالنّسبة إلى الوصف مشروط فنقول إنّه بالنسبة إلى نفس التّرك إمّا مطلق أو مشروط فإن كانت مطلقا لزم التّكليف باجتماع الضّدين لأنّ مقدمة الواجب المطلق إذا كانت أمرا اختياريا لزم تحصيلها مع أنّه حرام في المقام وإن كان مشروطا عاد المحذور وهو مقارنة الشّرط للمشروط وفيه أنّه يختار الشّق الأوّل ويمنع وجوب المقدمة في مثل المقام لكونه معلقا وأورد عليه أيضا بأنّ الواجب المضيق واجب مطلق ومطلوب على تقدير الإطاعة والعصيان فلو كان ضده الموسع أيضا مطلوبا في حال العصيان لزم التّكليف بالضدين وأيضا يلزم تعدد العقاب بترك الواجبين المتزاحمين عند كون أحدهما أهم كالغريقين إذا لم يتمكن من إنقاذهما فإنّه يجب عليه إنقاذ الأهم فإن عصى فغيره فإذا عصى ولم ينقذ الآخر فقد ترك واجبين مطلقين فيجب تعدد العقاب مع أنّ الزّمان لم يكن واسعا إلاّ لأحدهما ويمكن الجواب عن الثّاني بالتّسليم ومنع البطلان وعن الأوّل بأنّه ليس الواجب المضيق مطلوبا على تقدير الإطاعة والعصيان لأنّ طلبه على تقدير الإطاعة تحصيل للحاصل وعلى تقدير المعصية طلب للمحال بل المطلوب نفس تقدير الطّاعة وترك المعصية لكن يمكن عدم وقوع المطلوب وتحقق العصيان فهو يريد الضّد مع ترك المطلوب عصيانا ولم يكن مريدا للواجب مع العصيان لأنّه محال بل كان طالبا لنفس ترك العصيان والحاصل أنّ أداء الدين مطلوب لكن إذا عصى كان مكلفا بأن يقارن العصيان بالصلاة وليس مكلفا بأن يقارن المعصية بالأداء حتى يلزم الأمر بالضدين ويشكل بأنّ التّكليف إذا كان بالنسبة إلى الأداء مطلقا وجب جميع مقدماته ومنها ترك الصّلاة فيجب وحينئذ فكيف يمكن وجوب الصّلاة إلاّ أن يقال ترك الصّلاة إنّما يجب إذا كان للوصول إلى الأداء فعند تركه لا يجب ترك الصّلاة وهذا إنّما يتم بناء على القول بوجوب المقدمات الموصلة وهو فاسد لأنّ المراد به إمّا كون فعل الواجب شرطا في وجوب المقدمة وهو ظاهر الفساد لأنّ المقدمة تجب بوجوب ذي المقدمة لا بفعله وإمّا أن ترك الضّد له قسمان ترك موصل وترك غير موصل والواجب هو الأوّل وهذا أيضا كسابقه لأنّ ترك الصّلاة لا يتعدد بفعل الأداء وعدمه وإنّما التّوصل وعدمه ينتزع من فعل ذي المقدمة بعده وعدمه وإمّا المراد وجوب التّوصل به إلى ذي المقدمة فهذا عين وجوب ذي المقدمة إذ المراد حينئذ وجوب فعل المقدمة ثم فعل ذي المقدمة إذ لا يمكن أن يكون المراد أن الواجب المقدمي هو التّرك مع فعل الضّد بعده لأنّه مستلزم لصيرورة فعل الضّد واجبا من باب المقدمة لحصول المقدمة وكيف كان وجوب المقدمة الموصلة غير معقول كذا قيل وسيجيء تحقيق المطلب إن شاء الله (الخامسة)

 

الواجب إمّا أن يكون الغرض من وجوبه ذاته من غير ملاحظة شيء آخر كمعرفة الله سبحانه والتّقرب إليه وقد يكون غيره وهو قسمان أحدهما أن يكون الغرض منه التّوصل إلى واجب آخر كالمشي للحج والثّاني أن يكون الغرض ترتب آثار مقصودة غير التّوصل كالصّلاة وأمثالها وكل من القسم الأوّل والأخير يسمى واجبا نفسيّا والوسط غيريا فيعلم أن الواجب للغير أعم من الواجب الغيري والنّفسي لشموله القسمين الأخيرين فتعريف بعضهم الواجب الغيري بما يجب للغير غير مانع وما قيل إن المراد ما يجب لمصلحة في الغير فاسد لأنّ الواجب إنّما يجب لمصلحة في نفسه لكن المصالح مختلفة ومن جملتها التّوصل إلى واجب آخر فالتّعريف حينئذ لا يشمل الغيري أيضا وكيف كان إن علم النّفسيّة والغيريّة فهو وإن شك فيه رجع الشّك إلى شكين أحدهما الشّك في ذلك الواجب أنّه نفسي أو غيري والثّاني في الآخر أنّه مطلق أو مشروط بهذا الواجب ولا يخلو إمّا يكون دليلاهما لفظيين أو لبيّين أو أحدهما لفظيا والآخر لبيا وعلى الأوّل يجب الأخذ بإطلاقهما فيحكم بنفسيّة الواجب وإطلاق الغير لأنّه المنصرف إليه الإطلاق وإن كان الأمر حقيقة في الغيري والمشروط أيضا كما هو الحق وإن كان أحدهما لفظيا والآخر لبيّا عمل بمقتضى إطلاق اللّفظي فلو دل اللّفظ على وجوب الصّلاة واللب على وجوب الوضوء مثلا فمقتضى إطلاق اللّفظ إطلاق وجوب الصّلاة ويلزمه نفسيّة الوضوء إذ لو كان غيريا لكان وجوب الصّلاة مقيدا به وهذا وإن كان من قبيل الأصل المثبت إلاّ أنّه حجة في دلالة الألفاظ الّتي مبناها على الظّن والظّهور وإن كان كلاهما لبيا وجب الرّجوع إلى الأصول العمليّة فقبل وجوب الغير الأصل براءة الذّمة من الوضوء مثلا لاحتمال الوجوب الغيري وبعده الأصل البراءة من الصّلاة لمن لم يتمكن من الوضوء لاحتمال الوجوب المشروط ويؤيده أصالة الاشتغال إن قلنا به عند الشّك في الشّرطيّة والجزئيّة وهذه الوجوه تقتضي الوجوب الغيري ثم إنّ الأصل البراءة من وجوب تقديمه على الصّلاة فلو أتى به بعدها لكان ممتثلا وإذا خرج وقتا لواجب فإن لم يكن متمكنا في وقتها من الوضوء فالأصل البراءة منه للشّك في أصل تعلّق وجوبه لاحتمال الغيري وإن كان متمكنا فأصالة الاشتغال للقطع بوجوبه والشّك في سقوطه بخروج الوقت واستصحاب وجوبه الثّابت في الوقت في الجملة على إشكال وهذه الوجوه مما يقتضي الوجوب النّفسي وذكر الوضوء إنّما هو من باب المثال والمراد العمل الّذي شك في كونه واجبا نفسيا أو غيريا ثم إنّه قد يكون اللّفظ الدّال على الوجوب كلمة واجب كأن يقال الوضوء واجب مثلا فقيل مقتضى أصالة الحقيقة حمله على النّفسي المطلق لأنّ المشتق حقيقة في المتلبس والواجب الغيري أغلب بعد وجوب الغير وكذا المشروط بعد وجود الشّرط وقد عرفت بطلانه لأنّ الواجب حقيقة فيهما نعم يمكن التّمسك بإطلاق اللّفظ إذ لو كان غيريا أو مشروطا لوجب بيانه ويمكن أن يكون مراد القائل أيضا ذلك بناء على القول بأنّ استعمال المطلق في المقيد مجاز فتأمل (السّادسة) لا شبهة في أنّ تارك الواجب

 

النّفسي مستحق للعقاب عقلا وشرعا وأمّا استحقاق الثّواب على فعله فمحل كلام كاستحقاقهما في الواجب الغيري فقيل بعدمهما مطلقا وقيل بثبوتهما كذلك وفصل ثالث بين ما ثبت بالخطاب الأصلي فيترتبان عليه بخلاف ما ثبت بالخطاب التّبعي وقيل باستحقاق الثّواب فقط دون العقاب واستدل الاستحقاق الثّواب على فعل الواجب مطلقا نفسيا كان أو غيريا بوجوه منها حكم العقل بأنّ إيلام العبد بلا عوض قبيح ومنها أن جعل العوض للتّكليف مقرب للعبد إلى الطّاعة فهو لطف واجب في الحكمة ومنها العمومات الدّالة على ترتب الثّواب على كل الطّاعات ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومنها الأخبار الخاصة الواردة في خصوص المقدمات كما ورد أنّ من زار الحسين عليه‌السلام كان له بكل قدم كذا حجة وغيره فإنّ وضع القدم من جملة المقدمات وبعض الآيات أيضا دالة على ذلك مثل قوله تعالى وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغيظُ الكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ وأجيب عن الأوّل بالمنع فإنّه قد تقرر أن الأحكام الشّرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة الرّاجعة منفعتها إلى المكلّف لا للآمر لغنائه تعالى وفي مثل ذلك لا يستحق الثّواب على العمل نظير أوامر الطّبيب مع أنّه لا يقتضي كون العوض هو الثّواب الأخروي لكفاية العوض كيف كان ولو في الدّنيا فتأمّل وعن البواقي بأنّها إنّما تفيد أصل تحقق الثّواب لا استحقاقه مع أنّ جريانها في المقدمات ممنوع وأمّا اللّطف فلأنّ ترتبه على أصل ذي المقدمة كان في التّقريب وأمّا العمومات فلأنّ صدق الطّاعة على فعل المقدمة ممنوع نعم يبقى الأخبار الخاتمة ويمكن حملها على بيان ثواب أصل ذي المقدمة وأنّه في الكثرة بحيث لو دفع على المقدمات صار لكل مقدمة كذا حسنة ولو سلم فلا يثبت الاستحقاق كما عرفت ثم إنّه يمكن أن يقال إنّ استحقاق الثّواب على فعل المقدمة غير معقول لأنّه فرع الامتثال والمراد به إتيان المأمور به بالعنوان الّذي تعلّق به الأمر بداعي الأمر والعنوان في الواجب الغيري هو قصد التّوصل إلى الغير فلا معنى لامتثال الأمر بالوضوء إلاّ إتيانه بقصد التّوصل لا لداعي الأمر بل لا بد أن لا يكون الدّاعي إلاّ التّوصل فلم يفعل بداعي الأمر حتى يمكن فرض الامتثال الموجب لاستحقاق الثّواب ولا ينافي ذلك ترتب الثّواب على الواجبات النّفسيّة الّتي لا مصلحة فيها إلاّ التّوصل إلى الغير كإنقاذ الغريق لحفظ النّفس ودفن الميت لحفظ جسده للفرق بين ما إذا كان التّوصل عنوانا في المأمور به كالواجبات الغيريّة وبين ما إذا كان من الآثار المترتبة على العمل على ما سبق فلا يمكن قصد الامتثال في الأوّل بخلاف الثّاني لمطلوبيّة الفعل بذاته لا بعنوان التّوصل وإن ترتب عليه فإن قيل قد ذكروا أن إتيان المباح بقصد الإطاعة موجب لترتب الثّواب والواجب الغيري لا يقصر عن المباح قلنا مرادهم أنّه إذا كان للشيء عنوانان أحدهما واجب أو مستحب نفسيا والآخر مباح فإتيانه بالعنوان الأوّل موجب لترتب الثّواب كالأكل لتقوية البدن على العبادة والشهوة فالثواب إنّما ترتب على الواجب والمستحب النّفسي لا على المباح ثم إن التّفصيل بين ما لو ثبت وجوب المقدمة بالوجوب الأصلي

 

أو التّبعي لا وجه له لأنّ الخطاب الأصلي لو تعلق بها فإنّما هو تنبيه على ما ثبت في الواقع لا إبداع للوجوب النّفسي كما تقول لعبدك اذهب إلى السّوق واشتر اللّحم ونظائره فإذا لم يمكن الاستحقاق في الواجب الغيري لم يكن فرق بين ما إذا ثبت بالخطاب الأصلي أو التّبعي وأمّا التّفكيك بين الثّواب والعقاب ففاسد أمّا أوّلا فلما عرفت من عدم إمكان استحقاق الثّواب وأمّا ثانيا فلأنّ الثّواب لو كان فإنّما هو للامتثال وإذا تحقق فرض الامتثال لفعل الواجب الغيري كان تركه معصية فيجب ترتب العقاب أيضا وأمّا ثالثا فلأنّه موجب لتسبيع الأحكام كذا قيل ولعل مراده أنّ التّقسيم إلى الأحكام الخمسة إنّما هو باعتبار ترتب الثّواب أو العقاب وعدمه فما يترتبان عليه واجب وحرام وما يترتب عليه الثّواب فقط مستحب ومكروه وما لا يترتب عليه شيء منهما مباح ولا يمكن إدخال الواجب الغيري في المستحب لأنّه مستفاد من الخطاب الإلزامي مع أنّه يترتب عليه الثّواب فقط فيكون قسما سادسا وكذا المانع يكون تركه امتثالا وموجبا لترتب الثّواب وفعله لا يترتب عليه عقاب مع أنّه لا يكون مكروها لما عرفت من استفادته من الخطاب الإلزامي فيكون قسما سابعا ولا يمكن الجواب بأنّ التّقسيم المذكور إنّما هو للأحكام الأصلية دون التّبعية أو الأحكام النّفسية دون الغيرية لأنّ الحصر إنّما هو بالنّظر إلى استحقاق الثّواب والعقاب والحصر فيه عقلي ليس باعتبار المعتبر فالأولى عدم ترتب شيء منهما عليه فيدخل في المباح الذّاتي وليس إباحته مستفادة من الخطاب الإلزامي حتى لا يدخل في الإباحة المصطلحة وحينئذ فلو تركه لم يفعل حراما نعم يعاقب على ترك ذي المقدمة اللازم من ترك المقدمة وقيل إنّ المقدمة مستحب لأنّ الغزالي قد أفتى باستحبابها وقد ورد أنّ من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثّواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه فإنّه شامل لفتوى الفقيه أيضا وفيه أوّلا أنّ الكلام إنّما هو في الواقع ونفس الأمر والنّزاع إنّما هو مع أمثال الغزالي وثانيا أنّ في شمول الخبر لفتوى الفقيه سيما مثل الغزالي نظر ثم إنّه إن سلمنا في الواجبات والمستحبات النّفسية استحقاق الثّواب أمكن القول بترتب الثّواب على الوضوء والغسل من بين المقدمات كما ذكره بعضهم بناء على القول باستحبابها النّفسي ويشكل بأنّ الاستحباب النّفسي إنّما هو قبل وقت المشروط بالطّهارة وأمّا بعده فهو صرف الواجب الغيري لعدم إمكان اجتماع الوجوب والاستحباب لتقابل الأحكام الشّرعيّة ويمكن الجواب بأنّ ارتفاع الاستحباب في الوقت ليس لارتفاع المصلحة المقتضية للاستحباب بل إنّما هو لتأكّدها بعد الوقت فالمصلحة الاستحبابيّة باقية بعد الوقت وإن لم يكن استحبابا اصطلاحيا ومحض وجود الرّجحان الاستحبابي كاف في إمكان قصد الفعل للاستحباب وترتب الثّواب عليه ويشكل بأنّ ذلك يقتضي أن لا يترتب عليه الثّواب إذا فعل بقصد المقدميّة وأن يكون ترتب الثّواب فرعا لإيتانه بقصد الاستحباب مع أنّه خلاف ما اتفقوا عليه ولعلنا نتكلم تمام الكلام فيما سيأتي إن شاء الله (السّابعة) هل يعتبر في المقدمة قصد ترتب ذي المقدمة أو فعليّة ترتبه أو لا يعتبر شيء منهما فيه خلاف وربما يظهر من بعضهم أن وجوب المقدمة

 

مشروط بفعل ذي المقدمة وهو ظاهر الفساد لأنّ المقدمة ليس محلها بعد ذيها حتى يكون شرط وجوبها فعل ذي المقدمة وأمّا اعتبار ترتب ذي المقدمة فهو معنى وجوب المقدمات الموصلة وأمّا اعتبار قصد التّرتب فربما استدل عليه بأنّ غرض الأمر أن يكون ذو المقدمة داعيا للشخص إلى إتيان المقدمة وهو معنى اعتبار القصد وبهذا أشكل الأمر في كيفيّة وجوب نية القربة في الطّهارات الثّلاث فإنّ كون الدّاعي هو ترتب ذي المقدمة مانع عن كون الدّاعي هو الأمر الغيري فلا يمكن تحقق القربة بالنّسبة إليه وفيه نظر لأنّ ترتب ذي المقدمة إنّما هو داعي الأمر إلى الأمر بالمقدمة لا أن يجعله عنوانا للتكليف الغيري حتى يعتبر في تحقق الامتثال قصد الغير ولكن يبقى الإشكال في اشتراط صحة المقدمة بقصد القربة كالطّهارات فإنّ الغرض من الوجوب المقدمي التّوصل إلى الغير فمتى فعل حصل الغرض فلا معنى لاشتراط القربة وربما يجاب بأن حصول المقدمة في مثل الطّهارات موقوف على القربة حيث إنّ العبادة مقدمة لا أنّ الأمر المقدمي صار موجبا لصيرورته عبادة حتى يكون غير معقول وأورد عليه بأنّ الوضوء قبل الأمر الغيري مستحب فعلى ما ذكرت يكون الواجب الوضوء بقصد الاستحباب مع أنّهم حكموا بأنّه يجب نية القربة بالنّسبة إلى الأمر الغيري وفيه نظر لأنّ الطّلب قبل الوقت وبعده شيء واحد يختلف شدة وضعفا فقبل الوقت لم يكن مانعا هو النّقيض وبعده مانع عن النّقيض فهما شيء واحد فقصد التّقرب إنّما هو بالنّسبة إلى ذات الطّلب وهو بعد الوقت مانع عن النّقيض فحاصل الجواب أنّ الوضوء الرّاجح مقدمة وذات الوضوء لا رجحان فيه إلاّ إذا فعل بقصد الإطاعة ولا يمكن ذلك بدون الأمر فالغرض من الأمر الاستحبابي تمكين المكلّف من إتيان الوضوء بقصد الإطاعة حتى يتوصل إلى ما فيه من الرّجحان وذلك الرّجحان قبل الوقت لم يكن مانعا من النّقيض وبعده بواسطة المقدميّة صار مانعا عن النّقيض فصار واجبا فقصد القربة في الوضوء إنّما هو بملاحظة الرّجحان الّذي كان في الوضوء إذا فعل بقصد الطّاعة واشتد بعد الوقت حتى صار واجبا فإذا لم يأت به بقصد الطّاعة لم يحصل ذلك الرّجحان أصلا فلم يحصل المقدمة بخلاف سائر المقدمات فإنّ ذاتها مقدمات لا إذا أتى بها بقصد الإطاعة ونظير ذلك لو نذر إتيان صلاة نافلة فإنّه لا ريب أنّه ينوي فيه التّقرب بالأمر الوجوبي مع أنّ الوجوب النّذري لا يحتاج إلى نية القربة فمن نذر إطعام جماعة برئ بمحض الإطعام ولو لم ينو القربة والأمر الأوّل السّابق على النّذر كان للاستحباب فكيف ينوي التّقرب بالنّسبة إلى الوجوب وغير ذلك وكلها من واد واحد ووجهه ما ذكرنا من أنّ رجحان الفعل قبل الوجوب ليس في ذاته بل فيه إذا فعل بقصد الإطاعة وذلك الرّجحان ضعيف قبل الوجوب وشديد بعده فلا يحصل بدون قصد الإطاعة مطلقا وكيف كان فالتّحقيق عدم اعتبار قصد ذي المقدمة ولذا ترى المولى يأمر العبد بالمقدمة ولا يخبره بذي المقدمة إلاّ بعد إتيان المقدمة فكيف يمكن له قصد ذي المقدمة مع عدم علمه بأنّه مقدمة فافهم (الثّامنة) قسّم الواجب إلى أصلي وتبعي وعرف الأول بأنّه مدلول صريح الخطاب

 

بخلاف الثّاني فيدخل المفاهيم في الدّلالة التّبعية ويجتمع كل منهما مع الوجوب النّفسي والغيري أمّا الأصلي النّفسي فظاهر وأمّا الغيري فنحو إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا إلى آخره وأمّا التّبعي النّفسي فكالمفاهيم وأمّا الغيري فكوجوب المقدمات عند بعضهم وقد يطلق الأصلي على ما يكون المقصود إفادته من الخطاب ولو التزاما والتّبعي على ما يكون لازما قهريا للكلام من دون أن يكون مسوقا لبيانه وهو على قسمين أحدهما ما يكون الحكم المقصود واسطة في الثّبوت لذلك الوجوب والثّاني ما يكون واسطة في العروض له والمراد بالأوّل أن يكون عروضه لشيء علة لعروضه على آخر فيكون هناك معروضان وعروضان كوجوب الجزء بالوجوب المقدمي فإنّ عروض الوجوب على الكل علة لعروض الوجوب المقدمي على الأجزاء على القول بوجوب المقدمات فالمراد بالثّاني أن يكون هناك معروضان وعروض واحد ويكون نسبته إلى أحدهما بالذّات وإلى الآخر بالتّبع كحركة جالس السّفينة فإنّها عين حركة السّفينة وكوجوب الأجزاء لعين وجوب الكل ووجوب ملازمات الواجب كوجوب جعل الكوكب الفلاني بين الكتفين عند وجوب استقبال القبلة ونحو ذلك ويسمى الأول بالوجوب الغيري والثّاني بالوجوب العرضي إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا نزاع في الأصلي بالمعنى الأوّل إذ لم يدعه أحد للمقدمة وأمّا بالمعنى الثّاني فربما يظهر من بعضهم أنّ القائلين بوجوب المقدمة قائلون بهذا النّحو من الوجوب وهو فاسد فإنّهم ادعوا الضّرورة على مطلبهم وعدم كون الكلام مسوقا لبيان وجوب المقدمة ضروري بل ربما نجد من أنفسنا عدم خطور المقدمة بالخيال فكيف يدعي الضّرورة على أنّ المقصود من الأمر بشيء الأمر بمقدماته أيضا بل ذلك ضروري العدم وأمّا التّبعي العرضي فهو ليس قابلا للنّزاع بل هو ثابت قطعا وإن ظهر من بعضهم أنّه محل النّزاع حيث قارن المقدمات في محل النّزاع بملازمات الواجب عدم إمكان الوجوب الغيري بالنّسبة إلى الملازمات فالتّحقيق أنّ محل النّزاع هو ثبوت الوجوب الغيري للمقدمات بمعنى أن الأمر إذا طلب شيئا هل يلزم أن يحصل في نفسه كيفية نفسانية بالنّسبة إلى مقدماته وإن ذهل عنها ولم يكن ملتفتا إليها بحيث لو عبر عنها لعبر عنها بالأمر كما قد يقول المولى لعبده امض إلى السّوق واشتر اللّحم أو لا يلزم ذلك وبهذا يمكن إدخال الأجزاء أيضا في محل النّزاع ولا يتم ما ذكره بعضهم من أن أجزاء الواجب خارجة عن النّزاع إذ لا معنى لوجوب الواجب إلاّ وجوب أجزائه وذلك لأنّ وجوب الأجزاء يوجب الكل وجوب عرضي والنّزاع إنّما هو في الوجوب الغيري (التّاسعة) في ثمرة النّزاع في هذه المسألة وقد ذكروا وجوها من الثّمر كلها محل النّظر منها برء النّذر بإتيان المقدمة لمن نذر إيتان واجب شرعي على القول بالوجوب دون العدم وفيه أنّ النّزاع في المسألة إنّما هو في ثبوت التّلازم بين الوجوبين وعدمه فثمرة الإثبات وجوب المقدمة عند وجوب ذي المقدمة وعلى القول بالعدم لا

 

وأمّا برء النّذر فهو متفرع على الوجوب فهو ثمرة الثّمرة فلا وجه لذكره كما لا يجوز ذكره في النّزاع في دلالة الأمر على الوجوب وقد يورد أيضا بأنّ غرض النّاذر الواجب النّفسي لأنّه المنصرف إليه الإطلاق وهو ضعيف إذ له أن يخصصه بصورة التّعميم للواجبات الغيرية ومنها ترتب الثّواب والعقاب على فعل المقدمة وتركها على الأول دون الثّاني وفيه ما مر من منع ترتب العقاب على الواجب الغيري والثّواب لو كان هو تفضل ورحمة لا استحقاق ومنها أنّه على القول بالوجوب يتصف تاركها بالفسق دون القول بالعدم ويمكن تقريره بوجوه أحدها أنّه إذا كان ذو المقدمة مما يكون تركه من الكبائر فمحض ترك المقدمة يستحق العقاب على ترك ذي المقدمة وإن لم يدخل زمانه فتارك المشي مع الرّفقة إلى الحج يستحق العقاب قبل دخول ذي الحجة على ترك الحج على القول بالوجوب فيتصف بالفسق حين ترك المشي بخلاف القول بالعدم فينتظر إلى دخول الوقت فحينئذ يحكم باستحقاق العقاب وفيه أن هذه المسألة مبنية على أنّ ترك الحج حينئذ هل هو مستند إلى فعل المكلف بتركه المشي أو مستندا إلى عدم دخول زمانه فعلى الأول يستحق العقاب حينئذ بخلاف الثّاني ولا فرق فيهما بين وجوب المقدمة وعدمه والحق في المسألة هو الأوّل لاستناد التّرك عرفا إلى المكلف ولا يرد أنّ التّرك كان حاصلا قبل وجود المكلف بسبب عدم دخول الزّمان فكيف يستند إليه لحصوله قبله فنسبته إلى المكلف نسبة تحصيل الحاصل إليه لأنّا نقول إنّ الكلام إنّما هو في ترك الحج في ذلك الحجة فإنّه المستند إلى ترك المقدمة وأمّا تركه المستند إلى عدم دخول الزّمان فهو ترك الحج في الزّمان السّابق على ذي الحجة ولا كلام فيه وبالجملة يصدق على تارك المشي أنّه فوت الواجب على نفسه فتأخير العقاب إلى ذي الحجة سفه إذ لا يترتب على دخوله شيء بعد العلم بعدم إمكانه بعد فافهم والثّاني أنّه إذا كان ترك ذي المقدمة من الصّغائر فيترك المقدمات يصدق وصف الإصرار على الصّغيرة على القول بالوجوب لأنّه ترك واجبات كثيرة دون القول بالعدم لأنّه ترك واجبا واحدا وفيه أوّلا منع كون ترك الواجب الغيري عصيانا وثانيا لا نسلم أنّ الإصرار يتحقق بالمعاصي الغيرية بل مرادهم المعاصي النّفسية وإلاّ لم يبق فرق بين الصّغائر والكبائر على القول بوجوب المقدمة لأنّ ترك الواجبات إنّما هو ترك المقدمات وليس كذلك (والثّالث) أنّ تارك المقدمة عاص على القول بالوجوب والعاصي فاسق وفيه منع كون تركها عصيانا كما سلف بل العصيان إنّما هو بترك ذي المقدمة ومنها حرمة أخذ الأجرة على المقدمات على القول بالوجوب وجوازه على القول بالعدم لما ذكره الفقهاء من أنّ أخذ الأجرة على الواجب حرام وفيه أوّلا أنّ ما ذكره الفقهاء هو حرمة أخذ الأجرة على تحصيل الواجب وإن كان بإتيان مقدماته ولذا حكموا بحرمة أجرة الحفر الّذي هو مقدمة الدّفن ولم يفرقوا فيه بين وجوب المقدمة وعدمه وثانيا أنّا نمنع حرمة أخذ الأجرة على الواجب مطلقا إذ لا منافاة بين الوجوب وأخذ الأجرة ذاتا نعم كلما ثبت

 

من الدّليل الشّرعي أنّ المكلف ليس مالكا للمنفعة المخصوصة لم يجز أخذ الأجرة عليها وذلك في التّعبديات فإنّها ملك لله تعالى فليس العمل ملكا للعبد حتى يأخذ عليه الأجرة وكذا في بعض التّوصليات كالدّفن فإنّ الظّاهر من الأخبار أنّه حق للميت على إخوانه المؤمنين وأمّا غير ذلك فلا دليل على الحرمة ولذا حكم بعضهم بجواز أخذ الأجرة على القضاء بين النّاس مع أنّه من الواجبات الكفائيّة وحكموا بجوازه في مثل الصّنائع المتداولة فإنّها واجبة كفاية لحفظ النّوع ولكن يمكن منع الأخير بأنّه ليس أجرة على الواجب لأنّ الواجب هو حفظ النّوع وهو موقوف على التّعارض والتّعاوض فأخذ العوض داخل في الواجب لا أنّه عوض عن الواجب وبالجملة فلا منافاة بين الوجوب وأخذ الأجرة فتفريع حرمة أخذ الأجرة على القول بالوجوب فاسد ومنها ما قيل من أنّه على القول بالوجوب لا يحصل الامتثال بالمقدمة الحرام على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنّهي كالصّلاة في الدّار المغصوبة فإنّها فرد لكلي الصّلاة ومقدمة له فإذا قيل بوجوبها لزم اجتماع الأمر والنّهي والمفروض امتناعه فيكون المطلوب من الصّلاة غير ما في ضمن الغصب فتكون فاسدة بخلافه على القول بعدم الوجوب إذ لا يلزم الاجتماع حتى يكون المطلوب غير هذا الفرد بل المطلوب هو الكلي وهو يحصل في ضمن الفرد الحرام فتكون صحيحة وفيه أنّ المقدمة إن كانت مباينة في الوجود مع ذي المقدمة كالمشي والحج فلا ريب في حصول الامتثال بالحج بالمقدمة الحرام وإن قيل بوجوبها فإنّ المشي على المركب المغصوب لا يوجب فساد الحج على أي قول كان وإن كانت مقارنة معه في الوجود فلا ريب أنّها من جهة اتحادها معه يحصل لها المطلوبية العرضية قهرا ويلزم اجتماع الأمر والنّهي سواء قيل بوجوبها الغيري أو لا ويبتني الصّحة والفساد على كفاية تعدد الجهة وعدمها لا على وجوب المقدمة وعدمه فافهم إذا تمهد هذه المقدمات فنقول قد عرفت أنّ محل النّزاع في المسألة هو التّلازم بين وجوب الشّيء ووجوب مقدماته بمعنى أنّه إذا طلب الشّيء هل يحصل في النّفس كيفيّة بالنّسبة إلى المقدمات ربما يعبر عنها بالأمر أوّلا أو أنّ حصول الكيفيّة مسلم وإنّما النّزاع في أنّها طلب أو لا فاعلم أنّ الأصل العملي لا يقتضي في المسألة شيئا وما يظهر من بعضهم من التّمسك بالأصل فهو فاسد لأنّ المراد بالأصل إمّا أصالة البراءة وليس هنا مجراها لعدم العقاب على المقدمة على القول بالوجوب حتى ينفى بالأصل كما عرفت وإمّا أصالة العدم فهي أيضا كذلك لأنّ التّلازم لو كان فليس مسبوقا بالعدم حتى يجري فيه الأصل بل هو حكم عقلي وقضيّته شرطية لو ثبت لكان ثابتا في الأصل وبالجملة فالأقوال في المسألة أربعة الوجوب مطلقا والوجوب في السّبب دون غيره وفي الشّرط الشّرعي دون غيره والحق هو القول الأول واستدل له بوجوه منها أنّه لو لم يجب لجاز تركه وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التّكليف بما لا يطاق وإلاّ خرج الواجب عن الوجوب والمراد بالجواز هو الرّخصة الشّرعيّة لا نفي الحرج فإنّه أنسب بمطلب المستدل لا يقال إنّه حينئذ يلزم إشكال آخر على نافي الوجوب وهو أنّ ترخيص الشّارع للمقدمة سفه بعد إيجابه لما

 

لا يتم إلاّ بها إذ لا بد له من فعلها لأنّا نقول إنّما يلزم السّفه إن اختص خطاب التّرخيص بمن وجب عليه ذو المقدمة وليس كذلك فإنّ الشّيء مثلا يجوز التّرخيص له من الشّارع عموما ولا يضر لزومه على من وجب عليه الحج وكونه لا بد له منه وقوله حينئذ ليس المراد به حين جواز التّرك لأنّ جوازه أو حرمته لا مدخل له في القدرة ولا حين التّرك إذ لو كان لزوم المحذورات مستندا إلى نفس التّرك كان المحذور مشترك الورود على الخصم والمستدل بل المراد حين التّرك المستند إلى الجواز وترخيص الشّارع وأجيب عنه أوّلا باختيار الشّق الأول ومنع لزوم التّكليف بما لا يطاق أو لا للفرق بين المشروطة والحينيّة فالممتنع هو الإتيان بذي المقدمة بشرط ترك المقدمة لا حين تركها فإنّه غير ممتنع ولذا يقال إنّ الكافر مكلف بالفروع حال الكفر لا بشرط الكفر ومنع بطلانه ثانيا لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار وفيهما نظر أمّا الأوّل فلأنّ الفرق بين الحينيّة والمشروطة هو أنّ الوصف العنوان معتبر في موضوع المشروطة فبانتفائه ينتفي الموضوع فلا يمكن الحكم على ذلك الموضوع بصدد ذلك الحكم فلا يمكن في مثل كل كاتب متحرك الأصابع بالضّرورة ما دام كاتبا الحكم على موضوعه بسكون الأصابع لأنّه إن بقي الموضوع بقي وصف الكتابة لاعتبارها فيه ومعها لا معنى للحكم بسكون الأصابع بخلاف الحينيّة مثل كل كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب فيجوز الحكم على موضوعه بسكون الأصابع لعدم اعتبار الكتابة في الموضوع فيجوز زوالها وعروض السّكون وأمّا عدم جواز الحكم بالضّد في حال الوصف فهما مشتركان فيه فإذا كان قضية حينيّة لم يكن له زمان انتفاء الوصف أصلا لم يخبر الحكم بضده ولذا قيل بأنّ المرتد الفطري ليس مكلفا بناء على عدم قبول توبته لعدم زمان لانتفاء الوصف إذا علم ذلك فنقول إنّ الكلام في المقام إنّما هو في ترك المقدمة إلى مدة لم يمكن فعلها كترك المشي إلى الحج إلى ذي الحجة فبعد دخول ذي الحجة لا معنى لأن يقال إنّه مكلف بالحج حين ترك المشي إذ لا يمكن زوال الوصف حينئذ حتى يحكم فلا فرق حينئذ بين المشروطة والحينيّة وأمّا الثّاني فلأنّ ذلك الكلام إنّما يتم دفعا لشبهة المجبّرة حيث قالوا الشّيء إن وجد علته التّامة وجب وإلاّ امتنع فلا اختيار فيدفع بأنّ الجزء الأخير للعلة التّامة هو الإرادة فالوجوب بالإرادة والامتناع بها هو عين الاختيار فإنّ معناه أنّ الشّخص إن شاء فعل وإن شاء ترك وليس المقام كذلك لأنّ بعد فوات زمان المقدمة إن شاء لم يقدر على الفعل وأمّا ما يقال من أنّ القدرة على الشّيء أعمّ من القدرة على أسبابه وإلاّ لم يصدق القدرة بالنّسبة إلى الأفعال التّوليديّة فلا دخل له بالمقام لأنّا نسلم أنّه كان قادرا على ذي المقدمة بإتيان المقدمة لكن بعد ما فات زمانها فات القدرة ولم يمكن إثباتها بهذا الكلام وثانيا باختيار الشّق الثّاني وهو عدم بقاء الوجوب ولا يلزم خروج الواجب عن الوجوب لأنّ مناط الوجوب هو ترتب العقاب على تركه سواء أبقي الطّلب أو لا والطّلب تارة يسقط بالامتثال وتارة بانقضاء الوقت وتارة بالعصيان فكما لا يلزم في الأولين خروج الواجب عن الوجوب فكذا في الثّالث وبالجملة استحقاق العقاب وترتّبه

 

على التّرك متفرع على حدوث الطّلب لا على بقائه وأجيب عنه أيضا بالنقض بما إذا ترك عصيانا فيقال إذا ترك المقدمة مع وجوبها فإن بقي الواجب على الوجوب كان تكليفا بالمحال وإلاّ خرج الواجب عن الوجوب فما كان جوابكم فهو جوابنا إلاّ أن يقال إنّ التّكليف بما لا يطاق إنّما يقبح إذا لزم بترخيص الشّارع أمّا إذا كان بسوء اختيار المكلّف فلا قبح فيه واعلم أنّه يظهر من المستدلّين بهذا الدّليل أمور ثلاثة أحدها أنّ التّكليف بما لا يطاق قبيح مطلقا سواء كان بترخيص الشّارع أو باختيار العبد فإنّه مقتضى إطلاق كلامهم وثانيها أنّ العقاب على ترك ذي المقدمة إنّما يستحق بعد بلوغ زمانه إذ لو حصل الاستحقاق قبله لم يلزم خروج الواجب المطلق عن الوجوب إذ لا معنى للوجوب إلاّ استحقاق العقاب على التّرك وقد حصل بخلاف ما لو قيل بالاستحقاق بعد بلوغ الزّمان فإنّه قبل زمانه لا استحقاق وبعد بلوغ الزّمان لا تكليف فلا استحقاق لأنّه تكليف بما لا يطاق وثالثها أنّ استحقاق العقاب إنّما هو على ترك المقدمة لأدائه إلى ترك ذي المقدمة لا على تركه لما عرفت فيجب المقدمة وعلى هذا فيرد على الاستدلال أوّلا أنّ ترك ذي المقدمة إمّا يكون بتركها أو مع وجودها وعلى الأول فلا قبح فيه لعدم تعلق التّكليف به على ذلك الفرض لأنّه تكليف بما لا يطاق وإذا لم يكن فيه قبح ولا عقاب فلا معنى لاستحقاق العقاب على ترك المقدمة لأدائه إلى ترك ذي المقدمة وثانيا أنّه يجري هذا الكلام في أجزاء المقدمة بالنّسبة إليها حرفا بحرف فنقول المقدمة على فرض الإتيان بها تقع في زمان قطعا والزّمان غير قار الذّات وله أجزاء غير متناهية إلاّ على القول بالجوهر الفرد وهو باطل فاستحقاق العقاب على ترك كل جزء من أجزاء المقدمة إن كان قبل زمانه فلا معنى له وبعده فلا تكليف لكونه تكليفا بما لا يطاق كما تقولون في ذي المقدمة والتّحقيق أنّ مجرد الطلب كاف في استحقاق العقاب على ترك ذي المقدمة وإن كان بترك المقدمة حضر الزّمان أو لا ولا دخل لوجوب المقدمة وعدمه وبهذا ظهر أنّ النّقض بصورة الوجوب وارد والجواب عنه ساقط فافهم وقد أفرط المحقق السّبزواري في وجوب المقدمة حيث قال إنّ كل واجب مشروط بوجودها فليس واجبا قبل وجود المقدمة وحاصل احتجاجه أنّ كل ما يطلب في زمان من الأزمنة وله مقدمات فإمّا يطلب على تقدير وجودها أو على تقدير عدمها أو على كلا التّقديرين فإنّ الشّارع إذا طلب الحج فإمّا يطلبه على تقدير قطع الطريق أو على تقدير عدمه أو على التّقديرين ولا ريب في بطلان الأخيرين فتعيّن الأوّل وفيه أوّلا أنّه مستلزم لنفي الكذب في كل خبر يكون فإنّ من يقول بأنّ الجزء أعظم من الكل إمّا يريد أنّه أعظم منه على تقدير كونه أعظم منه أو على تقدير كونه أصغر أو على كلا التّقديرين ولا شكّ أنّه ليس مراده الأخيرين فتعيّن الأوّل وهو صادق فإنّ الجزء أعظم من الكل على تقدير كونه أعظم منه وثانيا أنّ بين الإيجاب وهو الطلب والوجوب وبقاء الإيجاب فرقا ظاهرا فكل من الإيجاب والوجوب حاصل على تقدير وجود المقدمة وعدمها ويكفي فيهما تمكن المكلف وأمّا بقاء الإيجاب فمشروط

 

بوجود المقدمة فالمطلوب هو الواجب الّذي يتمكن منه المكلف وهو الواجب المقارن للمقدمة لا أنّه مشروط بها هذا وبالجملة إنّ الاستدلال المذكور غير تمام فالأولى أن يقال إنّ الشّاهد على الوجوب هو الذّوق السّليم والفهم المستقيم فإنا إذا رجعنا إلى الوجدان وجدنا أنّ في نفس الآمر شيئا بالنّسبة إلى المقدمة ربما يعبر عنه بالطّلب كما تقول لعبدك اذهب إلى السّوق واشتر اللّحم وكما في أوامر الوضوء وغيره من المقدمات الّتي ورد في الشّرع فيها خطابات مستقلة ويؤيده أنّه لو أمر المولى بشيء ثم صرح بعدم إرادة مقدماته أو رخص في تركها عد سفيها وكلامه متناقضا احتج المفصلون بين السّبب وغيره أمّا في غير السّبب فعدم الدّليل وأمّا فيه فبوجوه أقواها وجهان والظّاهر أنّ مرادهم بالوجوب هو النّفسي بمعنى أنّ وجوب السّبب ليس غيريّا توصليّا وإن كان المصلحة الدّاعية للطّلب حصول المسبّب كما في أكثر الواجبات النّفسيّة وقد مر بيان ذلك وحينئذ فيكون خارجا عن محل الكلام لأنّ الظّاهر أنّ النّزاع إنّما هو في الوجوب الغيري المقدمي أحدهما أنّه إن وجد السّبب وجب المسبّب وإلاّ امتنع فالقدرة لا تتعلق بالمسبّب والأمر به أمر بتحصيل الحاصل أو الممتنع والقدرة أصالة متعلقه بالسّبب وفيه أنّ الوجوب أو الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ويكفي في الاختيار كونه بحيث متى شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل وهو صادق على المسبّب فيكون اختياريّا مع أنّه لو تم ذلك ورد شبهة الجبر بنفي الاختيار لأنّ كل سبب فهو سبب أيضا إلى أن ينتهي إلى الواجب جلّ شأنه والثّاني ما ذكره المحقق السّبزواري رحمه‌الله وهو أنّ المكلّف به يجب كونه فعلا إراديّا وهو ما يحصل من الحركة الإراديّة الّتي تنبعث عن تحريك القوى المنبثة في العضلات دون الآثار المترتبة على تلك الحركة ترتب المعلول على علته أو ترتب أحد المتقارنين بالآخر على الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة فإنّ الأوّل قائل بثبوت العليّة فالنّار علة الإحراق عنده والثّاني ينفيها ويقول الإحراق مقارن مع النّار اتفاقا وكيف كان فالاختياري لا يصدق على الآثار المترتبة فلا تكون مكلّفا بها ويتعلق التّكليف بالسّبب مجازا وإن كان متعلقا بالمسبّب على الظّاهر والصّارف هو العقل والجواب أنّ السّبب والمسبّب إمّا كلاهما من مقولة الفعل أو يكون المسبّب من المقولات الأخر كالكيف مثلا وعلى الأول فإمّا أن يكونا مختلفين بالعنوان متحدين بالذّات أو مختلفين عنوانا وذاتا فالأوّل كتحريك اليد وتحريك المفتاح لاتحادهما ذاتا لا عنوانا والثّاني كحركة اليد وحركة المفتاح لاختلافهما ذاتا أيضا والثّالث كالنّظر والعلم فإنّ العلم من مقولة الكيف فإن كانا من قبيل الثّالث صح ما ذكره من كون الأمر بالمسبّب أمرا بالسّبب لأنّ المسبّب لا يصلح أن يقع مكلفا به لعدم كونه فعلا إلاّ أنّه لا يلزم التّجوّز لأنّ الإيجاد مأخوذ في مدلول الأمر فيكون معنى اعلم أوجد العلم وإيجاد العلم متحد مع النّظر مصداقا فيمكن أن يكون المراد من اعلم انظر لا بعنوان أنّه نظر حتى يكون مجازا

 

بل بعنوان أنّه إيجاد للعلم وإذا تعلق الأمر به من جهة هذا العنوان كفى ولا فائدة في البحث عن وجوبه بالعنوان الآخر أيضا وعدمه وإن كانا من قبيل الأوّلين فعدم التّجوز أوضح أمّا في الأوّل فلأنّ إيجاد تحريك المفتاح عين تحريك اليد فالأمر بإيجاده أمر بتحريك اليد عرضا بمعنى أنّه واسطة له في العروض وأمّا في الثّاني فلأنّ السّببيّة والمسبّبيّة فيه إنّما هي باعتبار الإيجاد إذ الشّيئان المتغايران لا يمكن كون أحدهما سببا والآخر مسبّبا وإيجاد حركة المفتاح عين إيجاد حركة اليد والحاصل أنّ المستدل إن أراد أنّ الأمر بالمسبّب أمر بالسّبب مجازا فممنوع لما عرفت وإن كان مراده ما بيّنّا فنعم الوفاق ثم اعلم أنّ السّبب إمّا حقيقي أو إعدادي والأوّل ما يكون الإفاضة منه حقيقة والثّاني ما يكون سببا لاستعداد الشّيء لإفاضة الفيض من الفاعل الحقيقي وبعضهم فرق بينهما والتزم مقالة الخصم في الثّاني دون الأوّل فلو قال المولى أحرق زيدا فهو أمر بسببه الإعدادي وهو الإلقاء في النّار مجازا وهو إنّما يتم لو كان المطلوب هو نفس الإفاضة فيقال إنّه لما لم يمكن للمخاطب بالنّسبة إلى الإحراق فيكون المراد هو الإلقاء وأمّا إذا كان المراد الفعل بالمعنى الأعم بمعنى ما يكون للفاعل مدخليّة في إيجاده ولو بأسبابه فلا يتم ذلك والتّحقيق أنّ المسبّب إن كان من الأفعال الطّبيعيّة نسب الفعل إلى غير السّبب فلو ألقاه زيد في النّار يقال أحرقه زيد بخلاف غير الطّبيعيّة فلا يقال لمن ألقى شخصا في المسبعة أنّه افترس لظهور ركاكته فتأمل جدا واحتج من خص الوجوب بالشّرط الشّرعي دون غيره بأنّه لو لم يجب الشّرط لم يكن شرطا لأنّ الآتي بالواجب بدون الشّرط إمّا آت بتمام المأمور به وهو مناف للاشتراط أو لا وهو خلاف الفرض لأنّ المفروض عدم وجوب الشّرط وفيه أوّلا النّقض بصورة الوجوب فإنّ الشّرط ليس كالأجزاء الدّاخلة حتى يكون له مدخليّة في تماميّة الواجب فالآتي بالفعل من دون الشّرط إمّا آت بتمام المأمور به وهو ينافي الاشتراط أو لا وهو خلاف الفرض لخروج الشّرط عن قوام المشروط وثانيا بالحل وهو أنّ الواجب هو الماهيّة المقيدة بتقارنها بالشّرط بحيث يكون التّقييد داخلا والقيد خارجا فالآتي بها بدون الشّرط ليس آتيا بتمام المأمور به ولا يلزم منه وجوب الشّرط ثم إنّ ظاهر هذا التّفصيل أنّه في مقابل التّفصيل المتقدم فيكون نافيا لوجوب السّبب وحينئذ يرد عليه أنّ من الشّرائط الشّرعيّة ما ليس من مقولة الفعل كالطّهارة الّتي هي الأثر الحاصل في المكلف بالوضوء مثلا فوجوبه وجوب سببه على ما ذكرنا سابقا فلا بد له من أحد الأمرين إمّا تعميم الوجوب في الأسباب الشّرعيّة أيضا أو نفي وجوب هذا القسم من الشّرائط الشّرعيّة ولكن اعتذر عنه بأنّ وجوب السّبب مطلقا مفروغ عنه وعندهم الكلام إنّما هو في سائر المقدمات واحتج النّافون مطلقا بالأصل وعدم دلالة الأمر على ذلك بأحد الدّلالات والجواب أنّ الأصل مرفوع بالدّليل ودلالة الالتزام ثابت لثبوت اللّزوم البين بالمعنى الأعمّ وهو كاف في المقام والله أعلم (تذييل) في مقدمة الحرام ويمكن عنوان المسألة بوجهين الأول

 

أنّ ترك الحرام واجب وقد مر أنّ مقدمة الواجب واجب فيكون مقدمة ترك الحرام واجبة ومن جملة مقدمات ترك الحرام ترك مقدماته فيكون ترك مقدمة الحرام واجبا فيكون فعلها حراما وترك مقدمة الحرام هو ترك إرادته وتفصيل القول في المقام أنّ الشّيء إذا ترك علته التّامة من أمور فانتفاء كل واحد من تلك الأمور علة تامة لتركه ثم إن انتفى من العلة جزء معيّن نسب انتفاء المعلول إلى ذلك الجزء وإن انتفى الأجزاء المتعددة فإن انتفت دفعة نسب إلى الجميع وإن ترتبت في الانتفاء نسب انتفاء المعلول إلى الأسبق انتفاء فقول وجود الحرام موقوف على إرادته وترك الأفعال المضادة له وغير ذلك من الأمور الاختياريّة فإن انتفى المذكورات انتفى الحرام لكن يسند انتفاؤه إلى انتفاء إرادته لأنّها أسبق الأجزاء الاختياريّة انتفاء لأنّ من الأجزاء ترك الأفعال المضادة وانتفاؤه إنّما هو بإتيان الفعل المضاد للحرام وإتيان الفعل مسبوق بإرادته وإرادته إمّا مساوق لعدم إرادة الحرام أو مؤخرة عنه كما هو الأظهر لأنّ الشّخص ما لم يكن فيه صارف عن الحرام لا يريد ضده فثبت أنّ مقدمة ترك الحرام هي الصّارف فقط دون الإفعال المضادة للحرام فسقط شبهة الكعبي حيث استدل على وجوب المباح بأنّه مقدمة لترك الحرام فيكون واجبا لا يقال قد لا يكتفى بعدم الإرادة في ترك الحرام بل يتوقف على فعل وجودي كما لو علم الجالس في بيته أنّه لو لم يخرج وقع في معصية الزّنا وينتفي عنه الصّارف الموجود فيجب عليه الخروج لأنّا نقول لا نضايق عن القول بوجوب المباح في مثل المقام لكنّه ليس لكونه مقدمة لترك الحرام في ذلك الزّمان بل لكونه مقدمة لإبقاء الصّارف الّذي هو واجب مقدمة أو لترك الحرام في المستقبل فهو خارج عن محل الكلام لاختلاف زمان ترك الحرام وفعل المباح لأنّه إنّما يخرج فعلا ليترك الزّنا في المستقبل وبهذا سقط توهم الدّور فيما ذكرنا فترك الحرام فيما بعد متوقف على فعل المباح في الحال وهو غير موقوف إلاّ على ترك الحرام في الحال لا على التّرك في المستقبل حتى يلزم الدّور ومحل الكلام اتحاد زمان ترك الحرام وفعل المباح (الثّاني) أنّ مقدمة الحرام حرام وقد وقع بهذا العنوان في كلام بعضهم ونقلوا فيه أقوالا وتكلموا فيه فلا بأس ببسط الكلام فيه وإن كان راجعا إلى الأول إذ لا فرق بين أن يقال مقدمة الحرام حرام أو ترك مقدمته واجب فإنّ ترك مقدمته مقدمة لتركه وقد مر التّحقيق في ذلك وكيف كان نقلوا في المقام أقوالا أحدها الحرمة مطلقا والثّاني حرمة السّبب خاصة والأوّلون بين من اعتبر قصد ترتب الحرام في حرمة المقدمة سواء ترتب عليها أو لا وبين من أطلق ذلك وهو مبني على ما سبق في مقدمة الواجب من أنّ المقصود حقيقة هو ذو المقدمة ووجوب المقدمة إنّما هو للتوصل إليه فعنوان التّوصل مأخوذ في عنوان المقدمة فيجب قصده لأنّ الشّيء إذا تعلق به الأمر بعنوان وجب قصده بذلك العنوان إذ لو قصد بعنوان آخر لم يقع المأمور به عن اختيار وقد عرفت تحقيق المسألة هناك ودليلهم على حرمة مقدمة الحرام هو الدّليل على وجوب مقدمة الواجب لاتحاد مدرك

 

المسألتين فلا يحتاج إلى التّطويل وأمّا الآخرون فهم بين من صرح بأنّ المراد من السّبب هو إرادة الحرام دون سائر الأسباب وبين من أطلق السّبب فيمكن أن يكون مرادهم السّبب بالمعنى المتقدم في مقدمة الواجب احتجوا بأنّ وجوب جميع المقدمات في المسألة السّابقة إنّما هو لأنّ الواجب لا يحصل إلا بالجميع وأمّا في هذه المسألة فلا حاجة إلى ذلك لأنّ الغرض هو ترك الحرام فكل ما كان وجوده موجبا لوجود الحرام فهو حرام وهو السّبب إذ الشّرط لا يلزم من وجوده الوجود فلا حرمة فيه وأيضا المعتبر في الحرمة تعين التّرك والإرادة مما يتعين تركه بخلاف سائر المقدمات لأنّ ترك واحد منهما كاف في ترك الحرام فيكون تخييرا هذا وأنت بعد ما عرفت ما ذكرنا في العنوان السّابق من أنّ الحرام من المقدمات هو الإرادة لأنّه أسبق الأجزاء انتفاء فيكون ترك الحرام مستندا إليه فيكون واجبا تعلم عدم الاحتياج إلى هذا الاستدلال وعدم حرمة غير الإرادة من الأسباب الأخر وفي الوجه الأخير مما استدلوا به نظر من وجوه أمّا أوّلا فلأنّ الحرمة لا ينحصر في التّعييني بل هو التّخييري لا استبعاد فيه كالأختين فإنّ كل واحدة منهما حرام تخييرا ومعناه حرمة الجمع وأمّا ثانيا فلأنّ ترك الحرام إن كان مستندا ومرتبطا بهذه المقدمات فلا يتعين ترك السّبب وإلا فلا حرمة لها لا تعيينا ولا تخييرا بل هي كالحجر الموضوع في جنب الكاتب وأمّا ثالثا فلمنع عدم تعيين ترك البواقي بل هو متعيّن عند هذا القائل وما يتراءى من عدم حرمتها عند عدم إرادة الحرام إنّما هو لأنّ مقدمة الحرام هو الفعل بقصد الوصول إلى الحرام فبعد عدم القصد إلى الحرام ينتفي موضوع حرمة الفعل ولذا لا يتصف بالحرمة لكن هذا الجواب يصح على مذهب من يعتبر القصد في حرمة المقدمة ووجوبها وحاصل القول في مقدمة الحرام أنّ المبغوض ما يستلزم المبغوض وما يستلزم الحرام ليس إلاّ الإرادة فترك الإرادة وهو الصّارف واجب دون سائر الأسباب المصطلحة كالإلقاء في النّار عند النّهي عن الإحراق ويمكن أن يسلم استناده إلى السّبب المصطلح أيضا بتقريب أن يقال كما يترتب أسباب الحرام في الوجود فيوجد الإرادة ثم الإلقاء في النّار والإحراق مستند إلى الإلقاء وهو مستند إلى الإرادة فلا ضرر في ترتب أسبابه في العدم فيكون ترك الإحراق مستندا إلى ترك الإلقاء ويكون ذلك مستندا إلى ترك الإرادة فالوجوب تعلق أوّلا بترك الحرام ثم بترك السّبب المصطلح ثم بترك الإرادة فتأمّل جدا تنبيه قد يتصف مقدمة الحرام بالحرمة النّفسيّة باعتبار عنوان آخر غير عنوان المقدميّة سواء علم ذلك العنوان تفصيلا أو علم ثبوته إجمالا وتوضيح المقام يحتاج إلى ذكر نظائر المسألة فنقول منها تعارض القبيحين وتزاحمهما فإنّ أكل الميتة حرام لكن إذا توقف عليه حفظ النّفس يصير واجبا بعنوان أنّه موجب لحفظ النّفس ومنها فعل الصّلاة في أول المغرب في رمضان فإنّه راجح لكن إذا صارت موجبة لانتظار الرّفقة رجح تركها والفرق بين المثالين أنّ العنوان الثّاني في المثال الأول مزيل لحكم العنوان الأوّل بخلاف المثال الثّاني لجواز الصّلاة في أول الوقت وإن صارت موجبة لانتظار الرّفقة لأنّ كلا من العنوانين

 

هنا مطلوب ولا يمكن الحكم بتعيّن أحدهما فيحكم بالتّخيير بين الفعل والتّرك وليس هذا في الواقع تخييرا بين فعل الواجب وتركه بل هو تخيير بين الواجب وبين عنوان آخر يكشف عن ثبوته الأمر بترك ذلك الواجب وإن لم نعلمه تفصيلا كما أنّ في كثير من الأشياء عنوانا باطنيّة لا نعلمها تفصيلا وبهذا يجاب عن الإشكال الوارد في العبادات المكروهة حيث اجتمع الوجوب والكراهة ولا معنى لاجتماع الرّجحان وعدمه وحاصل الجواب أنّه مخير بين فعل الصّلاة في الحمام مثلا وبين تركها بالوجه الّذي بيّنّا وسائر الأجوبة الّتي ذكرها القوم غير تام وسيأتي في محله إن شاء الله إذا علمت ذلك فنقول من العنوانات الّتي ذكرها القوم هو ما ثبت لقصد الحرام لما ورد في الأخبار من ترتب العقاب على إرادة الحرام وما يترتب عليه العقاب هو الحرام النّفسي فلا يكون حرمة القصد بعنوان المقدميّة بل بعنوان آخر ثابت في نفس الأمر وإن نعلمه تفصيلا ويرد عليه إشكالان أحدهما أنّ اللازم من هذا تعدد العقاب على حرام واحد واحد على قصده والآخر على فعله وهو خلاف ما هو المتحقق عقلا وعرفا بل وشرعا أيضا والثّاني أنّ حرمة القصد غير معقول حتى بعنوان المقدميّة لأنّه أمر غير اختياري بل هو من مقولة الكيف وليس من الأفعال قال في التّجريد ومنها يعني ومن الكيفيّات النّفسانيّة الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم ومراده أنّ الإرادة هي اعتقاد النّفع يقينا كان أو ظنا وهي المرجحة لفعل أحد طرفي القدرة عند المعتزلة وقيل إنّ الاعتقاد المذكور هو الدّاعي وأمّا الإرادة فهو ميل يعقب ذلك الاعتقاد وكيف كان ليس من مقولة الفعل ومن هنا فسر الإرادة من جعلها من صفات الذّات في الباري تعالى بالعلم بالأصلح وقيل إنّ الإرادة واسطة بين العلم والعمل والمراد أنّ الإرادة شوق مؤكد ينبعث من القوى المختلفة في الحيوان شدة وضعفا بخلق الله تعالى على حسب قضائه وقدره فيكون عبارة عن الشّوق المؤكد المتعقب للميل المتعقب للتصديق بالغاية المتعقب لتصور الفعل فليس اختياريّا إذ لا يصدر بإرادة وقصد وإلاّ لزم التّسلسل والمناط في الفعل الاختياري حصوله عن قصد وأجيب عن الإشكال الأوّل بأنّ العقاب إنّما هو على المخالفة وهي أمر واحد يمكن انتزاعه من شيء واحد ومن أمور متعددة وبحسب ذلك تختلف شدة وضعفا ولا يلزم تعدد العقاب فإذا قصد الحرام من دون ترتبه انتزع عنوان المخالفة من نفس القصد وإن ترتب عليه الفعل المحرم انتزع منهما وكان أشدّ من السّابق وفيه أنّ في صورة ترتب الفعل إن انتزع المخالفة من الفعل فقط فلا معنى لحرمة القصد نفسيّا وإن انتزع منهما لم يكن مخالفة واحدة لتعدد منشإ الانتزاع المستلزم لتعدد المنتزع فالتّحقيق في الجواب أمّا عن الإشكال الأوّل فسيأتي وأمّا عن الإشكال الثّاني فهو أنّ الإرادة ليست من أنواع العلم للفرق الظّاهر بين قولنا علم وبين نوى وقصد وأراد فما يفهم من الأوّل غير ما يفهم من الأواخر ولا تلازم بينهما أيضا كما يتفق حصول الاعتقاد بالمنفعة في شيء ولا يتعلق به القصد والإرادة ولا هي عبارة عن الشّوق المؤكد للفرق بينهما معنى وعدم

 

التّلازم بينهما كما في أكل بعض المعاجين والأدوية الّتي لا يتعلق بها الشّوق مع تعلق الإرادة به بل الحق أنّها من مقولة الفعل صادرة عن النّفس بواسطة الدّاعي الّذي هو اعتقاد الغاية ويؤيده تعريف النّيّة بأنّها إرادة تفعل بالقلب أو أنّها توجه النّفس نحو ما فيه بعينها وفي الخبر نيّة المؤمن خير عمله ونيّة الكافر شرّ من عمله خبرا بعد خبر فيدل على أنّ النّيّة من جملة الأفعال وفي بعض الأخبار ألا وإنّ النّيّة هي العمل ويكفي في كون الفعل اختياريّا كونه صادرا بالدّاعي ولا يحتاج إلى إرادة أخرى ألا ترى أنّ معنى كون فعل الله تعالى اختياريّا أنّ المرجح لأحد طرفي قدرته هو علمه بالأصلح وهو عين ذاته لا أن يكون علمه سببا لحصول الإرادة أو لا وبه يترجح أحد الطّرفين فبنفس الدّاعي وهو العلم بالأصلح وبعبارة أخرى الإرادة الذّاتيّة يترجح أحد الطّرفين والعلم الذّاتي ليس مسبوقا بإرادة أخرى وكذا الكلام في الممكن فإنّ النّفس بعد تصويرها المنافع في الشّيء واعتقادها حصولها يصير ذلك الاعتقاد داعيا لصدور القصد إلى الإتيان بالفعل عنها من دون أن يكون القصد المذكور مسبوقا بقصد آخر فلا يلزم التّسلسل وما يرى من تقدم الإرادة على أفعال الجوارح فإنّما هو لأنّ المخاطب بالفعل هو النّفس ولا يمكن حصول الفعل منها إلاّ بتوجهها إلى البدن وبعثه عليه وهو الإرادة وأمّا إذا كان الفعل نفسانيّا فالقصد عين الفعل فجميع الأفعال صادرة عن النّفس إمّا بالأصالة أو بالواسطة وهذا هو السّر في وجوب النّيّة في التّعبديّات فإنّ المكلف هو النّفس والغرض في التّعبديّات هو تكميل النّفس وتخليتها عن الرّذائل وتحليها بالفضائل بل جميع إرسال الرّسل وإنزال الكتب إنّما هو لهذا الأمر وإتيانها الفعل هو قصدها للفعل وبعث الجوارح عليه وإذا ثبت أنّ القصد من الأفعال فلا وجه لهذا الإشكال ولا مانع من تعلق الحرمة به كما يشهد به العرف والعادة من حكمهم بقبح قصد الحرام مع شهادة الأخبار الكثيرة بذلك كما ورد أنّ نيّة الكافر شر من عمله وقوله عليه‌السلام إنّما يحشر النّاس على نيّاتهم وما ورد من تعليل الخلود في النّار بعزم الكفار على الدّوام على الكفر لو خلدوا في الدّنيا وما ورد من أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال لأنّه أراد قتل صاحبه وغير ذلك نعم هي معارضة ببعض الأخبار الدّالة على عدم كتابة السّيئة بقصد الحرام ويمكن حمله على العفو في بعض الموارد لا نفي المعصية سيما بعد ما عرفت من حكم العرف والعادة بقبحه وشهادة الأخبار الكثيرة عليه ودلالتها على ثبوت العقاب فعلا في الموارد المذكورة ولا حاجة إلى ما قيل في الجمع بينهما بأنّ مراتب القصد مختلفة الخطرات ثم القصد المتعقب للحرام وما يترتب عليه العقاب هو الأخير دون الأوّلين وأن من يقصد الحرام إمّا يرتدع عنه بنفسه فلا يفعله أو لا بل يمنعه عنه مانع خارجي وما يترتب عليه العقاب هو الثّاني دون الأول ومن العنوانات الّتي ذكرها القوم هو

 

عنوان الإعانة على الإثم فإنّه موجب لصيرورة مقدمة الحرام حراما نفسيّا وتوضيح المطلب يستدعي بيان موضوع الإعانة وحكمها في مقامين أحدهما في موضوعها فنقول اختلفوا فيه تارة في أنّ المعتبر هل هو الإعانة على فعل الغير أو الأعم منه ومن فعل نفس المعين ذهب كاشف الغطاء إلى الثّاني وهو بعيد لأنّ إتيان الفاعل بما يعينه على الحرام لا يعد إعانة على الإثم عرفا وإنّما المتبادر إعانة الغير على الحرام واختلفوا أخرى في أنّ تحققها منوط بقصد حصول الحرام أو بترتب الحرام نظير من يقول بوجوب المقدمة الموصلة في المبحث السّابق أو المناط هو الصّدق عرفا ذهب صاحب الكفاية إلى الأول وكثير من المتأخّرين والفاضل النّراقي إلى الثّاني وهو ممن يحرم قصد الحرام أيضا فلو ترتب الحرام كان القصد حراما نفسيّا وغيريّا من جهة المقدميّة وجهة الإعانة وإلاّ فمن جهة المقدميّة فقط والأردبيلي إلى الثّالث قال في آيات الأحكام على ما حكي عنه ما معناه أن الإعانة على الإثم ليس لها ملاك مطرد بل المدار في صدقها على العرف فإنّ من اختار التّجارة بقصد أن يؤخذ منه العشر صدق عليه الإعانة بخلاف ما إذا لم يقصد ذلك بخلاف من يناول الظّالم العصا مع علمه بأنه يريد ضرب شخص ظلما فإنّه لا يعتبر في صدق الإعانة عليه قصد ترتب الضّرب عليه فالمناط هو العرف انتهى والحق هو القول الأول فإنّ قوله تعالى ولا تعاونوا على الإثم كما يدلّ على أن المعتبر في صدق كون الإثم فعلا لغير المعين كذا يدل على اعتبار القصد فيها للتّبادر وإلاّ ليصدق على أفعال الله تعالى عن ذلك وتقدس وسائر الأقوال فاسدة أمّا ما ذهب إليه النّراقي رحمه‌الله فلما نرى من أنّ التّرتب ملغى في نظر العرف لصدق الإعانة عرفا بمحض الإتيان بالفعل بقصد التّرتب سواء ترتب أو لا ولذا حكموا بأنّ بيع العنب ممن يعمل خمرا مكروه وبيعه ليعمل خمرا حرام ولعل توهمه إنّما هو لعدم صدق الإثم عند عدم التّرتب فلا يصدق الإعانة وهو مدفوع بأنّ معنى الإعانة عليه إتيان فعل ليتحقق معه الحرام سواء تحقق أو لا وبالجملة لا حاجة في صدقها إلى ترتب الإثم بل يكفي القصد وما قيل من عدم لزوم القصد أيضا فاسد فكما أن الأول إفراط فهذا تفريط وأمّا مذهب الأردبيلي رحمه‌الله فغير ظاهر المراد لأنّه مستلزم لأن يكون الإعانة على الإثم مشتركا بين المعنيين مع أن لها معنى واحد فإنّ القصد إمّا معتبر فيها أو لا ولا فرق بين الموارد ولعل توهم الفرق نشأ مما ذكر الفقهاء في كتاب الحدود من أن القتل بما يقتل غالبا عمد وأمّا ما يقتل نادرا فإن قصد به القتل كان عمدا وإلاّ فلا فاعتبر في الثّاني القصد دون الأول والتّحقيق اعتبار القصد مطلقا والسّر في عدم اشتراطه فيما هو يقتل غالبا هو عدم انفكاكهما غالبا فلا حاجة إلى الاشتراط فيه لحصول الشّرط بخلاف ما يقتل نادرا وكذا الكلام فيما مثل به فإنّ إيقاع التّجارة بقصد أخذ العشر غير معهود عرفا فيعتبر العلم بقصده عرفا بخلاف إعطاء العصا فإنّه لا ينفك عن القصد عادة ولذا لا يتقيد بتصريحه بالقصد بل يكتفى

 

بالقصد التّبعي الثّابت من حيث عدم الانفكاك فإنّ قصد أحد المتلازمين قصد الآخر تبعا وإن كان غافلا عنه بحسب الظّاهر ومن هنا يمكن أن يقال إنّه إن أوجد شرط الحرام توقف صدق الإعانة عليه على قصده بخلاف ما لو أوجد العلة التّامة لو فرض إمكانها فإنّه حينئذ ملازم للقصد فتأمّل فالحاصل أنّ المناط في صدقها هو قصد ترتب الحرام ويؤيده حكم الفقهاء بكراهة بيع العنب ممن يعمله خمرا وحرمة بيعه ليعمل خمرا لصدق الإعانة على الثّاني دون الأوّل وللمناقشة فيه بأنّ الأول أيضا إعانة على الشّراء وهو حرام غيري لكونه مقدمة للتخمير المحرم أو نفسي من جهة التّجري على المعصية فاسد لأنّ الظّاهر من الإثم هو نفس المحرم لا مقدماته وأمّا التّجري فلا ريب أنّ القصد لازم لعنوانه فإن باع بقصد عنوان التّجري من المشتري كان البيع لا محالة بقصد ترتب الخمر فهو إعانة من جهة قصد ترتب الخمر وإن باع لا بقصد حصول عنوان التّجري لم يكن إعانة أصلا فظهر أن صدق الإعانة يدور مدار قصد المحرم النّفسي وليس له مورد يصدق بالنّسبة إلى المقدمة دون المحرم النّفسي الّذي هو ذو المقدمة وبالجملة فحكمهم بكراهة بيع العنب ممن يعمله خمرا صحيح لا غبار عليه لكن يظهر من الأردبيلي رحمه‌الله حرمته بعنوان آخر مستدلا بوجوب النّهي عن المنكر فإنّ مقتضاه حرمة فعل ما يستلزم تركه ترك الحرام إذ لو فعله لم يكن ناهيا عن المنكر وترك النّهي عن المنكر حرام ورد بأنّ وجوب النهي عن المنكر إنّما هو مشروط بالعلم بترتب الفائدة عليه ولا أقل من احتمال الفائدة فلو علم أنّه لو لم يبع منه العنب لاشتراه من غيره فلا يترتب على ترك البيع ترك الحرام لم يكن وجه لوجوبه والصّواب أن يقال إنّ الغرض من وجوب النّهي عن المنكر إن كان ارتفاع سنخ الحرام صح كلام المورد وإن كان ارتفاع الحرام في الجملة ولو ببعض أفراده لم يكن للإيراد المذكور وجه فتأمل الثّاني في حكمها وأنّه الحرمة النّفسيّة الذّاتيّة أو الغيريّة التّبعيّة الحق هو الأول لأنّ المناط في الخطابات النّفسيّة هو أن لا يكون الخطاب المتعلق بشخص تابعا لخطاب آخر متعلق بهذه الشّخص وإن كان تعلقه لأجل حصول الغير إذ لا يلزم كونه غاية الغايات وهنا ليس الخطاب المتعلق بالمعين تابعا للخطاب المتعلق بنفسه بل للخطاب المتعلق بالمعان على الإثم إلاّ على قول من يعمم الإعانة بحيث يشمل فعل المعين أيضا وهو خلاف التّحقيق فليس الحرمة المتعلقة بها غيريّة كما في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذ الظّاهر أنّ وجوبهما نفسي مع أنّ الغرض منهما حصول المعروف وانتفاء المنكر هذا فما عن بعضهم من أن حرمة الإعانة غيريّة ناشئة من تعلق الخطاب بالغير إلاّ إذا كانت الإعانة مصداقا لعنوان محرم نفسي كالظّلم فيما إذا أعان أحدا على قتل الغير فإنّه ظلم على المقتول وحرام نفسي في خصوص هذا المورد لا مطلقا فاسد لما عرفت من أنّها حرام نفسي مطلقا وعدم استقلال العقل بالحرمة في غير صورة صدق الظّلم مثلا ليس بقادح لكفاية كشف الخطاب الشّرعي عنه كما في أكثر المحرمات والواجبات الّتي لا يستقل وإنّما يستفاد حكمها من الشّرع فافهم

أصل هل الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضده أو لا

فيه أقوال والخوض في المطلب يستدعي تقديم مقدمات الأولى الضّد يطلق على معنيين خاص وعام والمراد بالأول كل واحد من الأفعال الوجوديّة المضادة للمأمور به والثّاني تارة يطلق على التّرك وتارة على أحد الأفعال الوجوديّة وإطلاقه على التّرك مجاز باصطلاح

 

المعقول فإن الضّدين عندهم أمران وجوديّان يتعاقبان على محل واحد بينهما غاية الخلاف فيكون إطلاقه على التّرك مجازا مرسلا بعلاقة المجاورة أو التّلازم لتلازم التّرك مع الأفعال الوجوديّة أو مجاورته معها أو الكليّة والجزئيّة بأن يكون المراد من الضّد مطلق المنافي أو استعارة بعلاقة الشّباهة ويمكن أن يكون إطلاقه عليه مبنيّا على اصطلاح جديد للأصوليّين فإنّ معناه عندهم مطلق المنافي فيصدق على النّقيض أيضا حقيقة ثم إنّ وجه التّسمية إمّا بالخاص فلأنّه أخص من التّرك لتحقق ترك الصّلاة كلما تحقق الأكل مثلا ولا يلزم تحقق الأكل كلما تحقق ترك الصّلاة لتحققه في الشّرب أيضا مثلا ومنه علم وجه كون التّرك ضدا عاما فإنّه أعمّ من الضّد الخاص وعلى القول بجواز خلو الجسم عن الأكوان يكون التّرك أعم من العام بالمعنى الثّاني أيضا وهو أحد الأفعال لجواز تحقق التّرك من دون تحقق أحد الأفعال حينئذ وأمّا على القول بعدم الجواز فبينهما تساو وأمّا وجه تسمية أحد الأفعال ضدا عاما فلأنه أعم من الضّد الخاص إذ كلما تحقق الأكل تحقق أحد الأفعال ولا عكس الثّانية اختلفوا في تعيين محل النّزاع فمنهم من جعله الضّد العام بمعنى التّرك وسكت عن الخاص ومنهم من أطلق لفظ الضّد من غير تعيين ومنهم من جعله الضّد الخاص ونفى الخلاف في العام بمعنى التّرك والعنوان الجامع للأقوال أن يقال إنّ النّسبة بين الأمر بالشّيء وبين النّهي عن ضده هل هي بالتّساوي بمعنى أنّهما منتزعان من شيء واحد وعنوانان له أو بالتّلازم بمعنى أنّ النّهي لازم الأمر أو بالتّضمن بمعنى أن يكون الأمر متضمنا للنهي كالنّسبة بين الكل والجزء أو لا نسبة أصلا ولا ربط مطلقا بل هما متغايران مصداقا ومفهوما ولا ارتباط بينهما أصلا كالحجر والإنسان لكن الأخير لا يجري في الضّد العام بمعنى التّرك لبعد القول بعدم المناسبة بين الأمر بالشّيء والنّهي عن تركه نعم يجري فيه سائر الأقوال وأمّا الخاص فيجري فيه الجميع إلاّ أنّ في تصوير القول بالتّضمن والعينيّة فيه مشكل وسيأتي بيانه ثم إنّ هذا النّزاع لا يختص بالأمر بل يجري في مطلق الطّلب وقد عنونها المتكلّمون في الإرادة والكراهة فقالوا إرادة الشّيء هل تستلزم كراهة ضده أو لا ومن هنا يظهر أنّ المسألة عقليّة كالمسألة السّابقة وسيأتي تفصيل القول في هذا الباب إن شاء الله الثّالثة قد يقال إنّ ذكر هذه المسألة بعد المسألة السّابقة لغو لأنّ هذه من جزئيّات تلك المسألة ولذا استدلوا على الاقتضاء بأنّ التّرك مقدمة وهي واجبة واعتذر عنه بعضهم بأنّ بين المسألتين عموما من وجه فلا تلازم بين وجوب المقدمة واقتضاء الأمر للنّهي عن الضّد لجواز أن نقول بالأوّل دون الثّاني بادعاء أنّ ترك الضّد ليس مقدمة وأنّه يجوز اختلاف المتلازمين في الحكم وأن نقول بهما إمّا بادعاء كون التّرك مقدمة أو لعدم جواز اختلاف المتلازمين وأن نقول بالثاني دون الأول بادعاء أنّ التّرك ليس مقدمة بل الفعل مستلزم له ولا يجوز اختلاف المتلازمين في الحكم وفيه نظر فإنّ من يسلم استلزام فعل المأمور به لترك الضّد ولا يجوز اختلاف المتلازمين لا مناص له عن القول

 

بوجوب المقدمة لأنّ الاستلزام بين الشّيئين إمّا بالعليّة والمعلوليّة أو بالاشتراك في العلة وكيف كان ما أثبته بين فعل المأمور به وترك الضّد فهو بعينه ثابت بين ترك المقدمة وترك الواجب وترك الواجب حرام فيكون ترك المقدمة حراما وهو معنى وجوبها نعم لا حرج في القول بوجوب المقدمة دون الاقتضاء المذكور كما ذكره فالأولى أن يقال إنّ المسألتين مختلفان بالحيثيّة فالكلام هناك إنّما هو في أنّ توقف المطلوب على شيء هل هو من المصالح المقتضية لطلب ذلك الشّيء أو لا وهنا في أنّ استلزام فعل الضّد لترك المأمور به هل يقتضي حرمته أو لا مع قطع النّظر عن المقدميّة أو أنّ الكلام هنا إنّما هو في الصّغرى وأنّ ترك الضّد هل هو مقدمة أو لا فتأمل الرّابعة المشهور أنّ ترك كل من الضّدين مقدمة لفعل الآخر نظرا إلى ما ثبت عندهم من أنّ وجود الشّيء يتوقف على ثبوت المقتضي وفقد المانع والضّد من جملة الموانع فإنّ الضّدين متمانعان وأنكره سلطان العلماء مدعيا أنّهما من المقارنات ولا توقف أصلا إذ لو كان فعل الضّد موقوفا على ترك الآخر لكان ترك الضّد موقوفا على فعل الآخر بطريق أولى فيلزم الدّور واستدل له بوجهين أحدهما أن فعل الضّد يستلزم ترك الضّد الآخر بخلاف ترك الضّد فإنّه لا يستلزم فعل الضّد الآخر لجواز خلوّ الشّخص عنهما معا وما يستلزم الشّيء أولى بالمقدميّة له مما لا يستلزمه والثّاني أن من المحقق أنّه إذا تركب علة الشّيء من أجزاء متعددة كان ترك كل جزء علة تامة لانتفائه فإذا كان ترك الضّد من أجزاء العلة التّامة لفعل الضّد الآخر لأنّه معنى المقدمة لكان ترك ذلك التّرك علة تامة لترك ذلك الضّد وترك التّرك عين الفعل والعلة التّامة أولى بالمقدميّة من الشّرط الّذي هو ترك الضّد وأجيب عن الأوّل بأن الاستلزام غير التّوقف والمناط في المقدميّة هو الثّاني لا الأول وهو غير موجود بالنّسبة إلى فعل الضّد لعدم توقف ترك أحد الضّدين على فعل الآخر وعن الثّاني بأن انتفاء المعلول مستند إلى سبق أجزاء العلة انتفاء وهو الإرادة فانتفاء أداء الدّين ليس مستندا إلى ترك ترك الصّلاة وهو فعل الصّلاة بل هو مستند إلى انتفاء إرادته لأنّ انتفاء إرادة أداء الدّين إمّا متقدم على إرادة الصّلاة أو مساوق لها وإرادة الصّلاة متقدمة عليها أو المساوق أو المتقدم على المتقدم متقدم والتّحقيق أنّ مدعى السّلطان رحمه‌الله حق وإن كان دليله فاسدا كما علم وذلك لأنّ المناط والمعتبر في المقدميّة أمران السّبق على ذي المقدمة والمدخليّة في وجوده فمع انتفاء أحدهما ينتفي المقدميّة ومن هذا القبيل ترك الضّد لتقارنه مع الضّد الآخر في الوجود وليس سابقا عليه ومجرد التّضاد بينهما لا يوجب السّبق ألا ترى أن أهل المعقول صرحوا بأنّ فساد الصّورة النّوعيّة الزّائلة عن المادة مقارن لوجود الأخرى بمعنى أنّ كلا منهما مقارن للأخرى مع أنّهما ضدان وكذا حال الفصلين المتواردين على الجنس فانعدام فصل وحدوث الآخر متقارنان

 

لا سبق بينهما وبالجملة فالتّقدم والتّأخّر بالنّسبة إلى فعل أحد الضّدين وترك الآخر غير ظاهر وكذا بالنّسبة إلى علتها وهي إرادة أحدهما وعدم إرادة الآخر فإنّهما أيضا متقارنان والكلام فيهما هو الكلام في نفس الضّدين لأن إرادة أحد الضّدين ضد لإرادة الآخر وأمّا إذا لاحظنا علة العلة وهو الدّاعي ففيه صورتان إحداهما أن يوجد الدّاعي لأحدهما دون الآخر فالدّاعي وعدمه حينئذ متقارنان لا يظهر بينهما سبق والثّانية أن يكون الدّاعي موجودا لكل منهما ولكن يغلب داعي أحدهما على الآخر فيكون إرادة هذا وعدم إرادة ذلك متقارنين لكونهما معلولين لعلة واحدة وهي الغلبة ولا يتصور السّبق بين معلولي علة واحدة وأمّا ما يقال من أنّ الغلبة علة لعدم إرادة ضد المأمور به ومجموع الغلبة وعدم الإرادة علة لإرادة المأمور به فعدم إرادة الضّد مقدم على إرادة المأمور به فهو مصادرة ظاهرة فإن قلت الغالبيّة من مقولة الإضافة ومقابلها المغلوبيّة كالأبوة والبنوّة والإرادة مستندة إلى الأول وعدمها إلى الثّاني فلم يتحد العلة حتى لا يتصور السّبق قلت قد صرح أهل المعقول بأنّ المتضايفين متكافئان في الوجود لا ترتب بينهما وإن كان بين ذاتيهما ترتب كالأب والابن لكن التّضايف ليس بين الذّاتين بل بين الوصفين ولا ترتب بينهما هذا إن قلنا بأنّ الإضافة تتعدد بتعدد الموصوف كما هو التّحقيق لامتناع قيام العرض الواحد بمحلين ككون الجسم الواحد في مكانين وأمّا إن قلنا بعدم تعددها وأن المتضايفين أمر واحد بالذّات له نسبتان مختلفتان يتعدد بمجرد الاعتبار بحسبهما فلا وقع للسؤال أصلا لاتحاد العلة حينئذ وبالجملة فلا دليل على أن ترك الضّد سابق على فعل الضّد الآخر إن لم يكن دليل على نفيه ويمكن الاستدلال على منع المقدميّة بوجه آخر وبيانه أنّ عدم المقدمة مؤثر في عدم ذي المقدمة ووجودها في وجوده ومن الضّروريّات أنّ عدم الأثر لا يؤثر في عدم المؤثر وكذا وجوده في وجوده بل هو كاشف عنه وحينئذ فلو كان ترك الصّلاة مقدمة لفعل الأداء لكان ترك ذلك التّرك وهو فعل الصّلاة مؤثرا في ترك الأداء فيكون ترك الأداء من آثار الصّلاة فلا يكون مقدمة لها وإلاّ لزم كون الأثر مؤثرا وكذا نقول في العكس ترك الأداء لو كان مقدمة لفعل الصّلاة لكان ترك ذلك التّرك وهو فعل الأداء مؤثرا في ترك الصّلاة فيكون ترك الصّلاة من آثار الأداء فلا يكون مقدمة له وجعل ترك أحد الضّدين مقدمة لفعل الآخر دون ترك الضّد الآخر لفعل الأول ترجيح بلا مرجح فتأمل الخامسة اختلفوا في جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه على أقوال ثالثها تفصيل المعالم بين ما لو كان أحدهما علة والآخر معلولا أو كانا معلولي علة واحدة فمنعه وبين غيرهما فجوزه ورابعها التّفصيل كشريف العلماء بين ما إذا لم يلزم من اختلافهما التّكليف بما لا يطاق فجوزه وبين ما إذا لزم ذلك فمنعه وأوضحه بأن التّخالف

 

في الأحكام الخمسة يتصور بوجوه عشرة يحصل من ملاحظة كل منها مع البواقي وإسقاط المكررات فإنّ بملاحظة الوجوب في أحدهما والحرمة في الآخر أو الاستحباب والكراهة والإباحة يحصل أربعة أقسام ومن الحرمة والبواقي ثلاثة أقسام ومن الاستحباب والباقين قسمان فهذه تسعة ومن الكراهة والإباحة قسم واحد تلك عشرة كاملة والمستلزم للتكليف بالمحال أقسام أربعة فرض الوجوب أو الاستحباب في أحدهما والكراهة أو الحرمة في الآخر دون الأقسام الأخر استدل المانعون مطلقا بما استدلوا به على وجوب المقدمة من لزوم التّناقض أو السّفه على سبيل منع الخلو فإنّ الحكيم لو أوجب شيئا وأذن في ترك ملازمه كان تناقضا لأنّ الأمر يقتضي عدم الرّضا بالتّرك والإذن في ترك ملازمه رضا بتركه وهو مناقض أو سفه لعدم الفائدة في إباحة ذلك الشّيء مع تحقّق الوجوب في ملازمه نظير ما ذكروه في الاستدلال على وجوب المقدمة ولذا ذهب المحقق الخوانساري إلى أنّ إيجاب الشّيء يدل على وجوب لوازمه أيضا كما يدل على وجوب مقدّماته فكون المتلازمين متحدين في الحكم أولى والجواب عن الأوّل اشتراط وحدة الموضوع في التّناقض وهو متحقق في مسألة المقدمة لأنّ إيجاب ذي المقدمة يقتضي أن يترتّب على ترك المقدمة مفسدة وهي ترك ذي المقدمة والإذن في ترك المقدمة يقتضي أن لا يترتّب على تركها مفسدة وهذا تناقض ظاهر بخلاف هذه المسألة وذلك لأنّ الحكم أو الطّلب لا يرد على الشّيء إلاّ مع تحقق المصلحة في نفس ذلك الشّيء أو فيما يترتّب عليه أو المفسدة كذلك ومع انتفائهما في نفس الشّيء وكذا فيما يترتب عليه فلا يتعلق به الحكم وإن كان فيما يقارنه في الوجود فإنّ التّقارن لا يوجب سريان المصلحة والمفسدة من أحد المتقارنين إلى الآخر كما أنّ الخاصية الموجودة في الماء لا يقتضي مطلوبيّة القليل من التّراب الواقع فيه وإن كان مقارنا معه وحينئذ فنقول إنّ المصلحة إذا تحققت في أحد المتلازمين دون الآخر تعلق به الحكم دون الآخر وإذا كان في أحدهما مصلحة الوجوب وفي الآخر مصلحة الاستحباب أو الكراهة أو غيرهما فلكل حكمه ولا يلزم التّناقض إذ لم يأذن في ترك ما فيه المصلحة وإنّما أذن في ترك الخالي عنها وعن الثّاني أنّ فائدة الإباحة لا تنحصر في تقوية داعي الشّخص إلى الفعل والتّرك حتى لا يكون فيها فائدة فإنّ فوائدها كثيرة كالإرشاد إلى عدم العقاب عليه وعدم الخوف وعدم الحاجة إلى التّوبة من تركه وغير ذلك واستدل صاحب المعالم على مذهبه وهو عدم الجواز في العلة والمعلول ومعلولي علة واحدة بأنّ العقل يستبعد تحريم المعلول من دون تحريمه علته وبأنّ انتفاء التّحريم في أحد المعلولين يستلزم انتفاءه في علته فيلزم اختصاص المعلول الآخر بالحرمة من دون علته وأيضا لو اختلف المعلولان في الحكم فإمّا أن يسري الحكمان إلى العلة فيلزم فيه اجتماع الضّدين أو يسري أحد الحكمين إليه وهو ترجيح بلا مرجح وفيه أنّ سراية حكم المعلول إلى العلة مسلم إذا كان فيه مصلحة أو مفسدة لأنّهما إذا ترتبا على المعلول فقد ترتبا على أثر العلة وقد مر أنّ المصلحة

 

المقتضية للحكم تثمر إذا كانت في نفس الشّيء أو في آثاره أمّا الإباحة في المعلول فمعناها عدم ترتب المصلحة والمفسدة عليه وهو لا يقتضي إلاّ عدم تعلق الطّلب من هذه الحيثيّة فلا ينافي ثبوت مصلحة في نفس العلة مقتضية للوجوب أو مفسدة مقتضية للحرمة كما في صيرورة المستحب النّفسي واجبا غيريّا من حيث توقف الواجب عليه ولا يسري حكم العلة إلى المعلول لعدم سراية المصلحة والمفسدة منها إليه وقد يعترض عليه بأمور أخر منها أنّ تسليمه هنا سراية حكم المعلول إلى العلة ينافي ما ذهب إليه في مقدمة الواجب من عدم وجوب غير السّبب من المقدمات والشّرائط الشّرعيّة وذلك لأنّ عدم الشّرط علة لعدم المشروط وعدم المشروط حرام فيسري الحرمة من عدم المشروط إلى عدم الشّرط وإذا حرم عدم الشّرط كان وجوده واجبا فيكون مطلق المقدمة واجبا لا خصوص السّبب وفيه أنّا قد بينا أنّ علة الشّيء إذا كانت مركبة كان انتفاء المعلول مستندا إلى أسبق أجزاء العلة انتفاء وعدم المشروط مستند إلى عدم إرادته لأنّها أسبق الأجزاء انتفاء كما سلف ومراد المعالم من العلة العلة الفعليّة لا الشّأنيّة حتى يشمل انتفاء الشّرط أيضا ومنها ما ذكره بعضهم من أنّ علقة التّلازم منحصرة في العليّة والمعلوليّة والاشتراك في العلة إمّا بلا واسطة أو بواسطة كعلة العلة ومعلول المعلول وهكذا إذ لو انتفى الأمران كان تقارنهما اتفاقيّا ولم يكن بينهما تلازم ثم إنّ كلا من علقتي التّلازم إمّا عقلي أو عادي فإن أراد من التّلازم الأعم من العقلي والعادي فلا ريب أنّه منحصر في القسمين لا ثالث لهما حتى يكون غيرهما وإن أراد خصوص العقلي وكان المراد من غيرهما هو التّلازم العادي فالفرق بينه وبين العقلي تحكم فاسد فإنّهما سيّان كما صرحوا في مقدمة الواجب بتساوي الأسباب العقلية والعادية فالتّفصيل لا وجه له وفيه أنّ التّلازم لا ينحصر في القسمين لأنّ من أقسامه التّضايف كما صرح به المنطقيون ومنهم المحقق الطّوسي رحمه‌الله في منطق التّجريد كما نقل عنه والقول بأنّ المتضايفين مشتركان في العلة لا يتم مطلقا فإنّ التّضايف أقسام ثلاثة أحدها أن يكون في كل من الطّرفين هيئة مستقرة ينزع منها الإضافة كالعاشقيّة والمعشوقيّة إذ لا بد أن يكون في العاشق حالة إدراكيّة ينتزع منها العاشقيّة وأن يكون في المعشوق هيئة مستلذة ينتزع منها المعشوقيّة والثّاني أن يكون ذلك في أحد الطّرفين كالعالميّة والمعلوميّة إذ لا بد من حصول هيئة مستقرة في العالم من المعلوم من دون أن يحصل في المعلوم شيء وإلاّ لزم اتصاف المعدومات بالأمور الحقيقيّة عند تعلق العلم بها والثّالث أن لا يكون ذلك في شيء من الطّرفين كالتّيامن والتّياسر والفوقيّة والتّحتيّة لأنّ انتزاع التّضايف هنا لا يحتاج إلى حصول هيئة مستقرة في المتضايفين واتحاد العلة إنّما يسلم في القسم الثّاني لو سلم أمّا الآخران فلا ولا سيما القسم الأوّل فتأمّل والتّحقيق في التّضايف أن ذات كل من المتضايفين علة لحصول الوصف في الآخر فتعدد العلة وأمّا التّفصيل بين ما إذا لزم التّكليف بما لا يطاق وغيره فإن أراد المفصل من عدم جواز الاختلاف في الصّور الأربع

 

لزوم اتحادهما فقد عرفت فساده وإن أراد بناء العمل فيهما بنحو لا يلزم التّكليف بما لا يطاق فإذا كان أحدهما واجبا لم يكن الآخر حراما بل يكون مباحا مثلا فهو كلام متين ونظيره ما قيل إنّ الواجب إن انحصر مقدمته في المحرم لم يبق بحاله بل إمّا يرتفع الوجوب منه أو ترتفع الحرمة من المقدمة وإلاّ لزم التّكليف بالمحال ولعل هذا مراد المفصل بقرينة ما اختاره في الصّور السّتّ الباقية من جواز الاختلاف فيها فإنّ معناه عدم جواز الاختلاف في الصّور الأربع لا إثبات الاتحاد فافهم السّادسة ربما يظهر من بعضهم تخصيص محل النّزاع بما إذا كان المأمور به واجبا مضيقا كأداء الدّين والضّد واجبا موسعا كالصّلاة وذكر في وجهه أنّ الضّد لو لم يكن مأمورا به لكان فاسدا من جهة عدم الأمر ولم يكن حاجة إلى البحث عن تعلق النّهي به فإنّ ثمرة المسألة فساد الضّد وهو ثابت في المقام وإن لم يقتض الأمر النّهي عن الضّد وأيضا لو لم يكن الأوّل مضيقا والثّاني موسعا فإمّا أن يكونا موسعين أو مضيقين وكلاهما خارجان عن محل النّزاع أمّا الأوّل فلعدم حرمة التّرك قبل ضيق الوقت حتى يحرم أضداده الخاصة ويتبع الفساد للحرمة وأمّا الثّاني فلعدم إمكان تعلق الأمر بهما على وجه اليقين فإنّه تكليف بما لا يطاق فإمّا يحكم بالتّخيير أو بتقديم الأهم وعلى الأوّل لا معنى للنهي عنه لكونه مخيرا في فعله وعلى الثّاني لا وجه لصحة غير الأهم لعدم تعلق الأمر به ولا حاجة إلى التّمسك في نفي الصّحة بتعلق النّهي وإنّما يثمر النّهي فيما يكون صحيحا لو لا النّهي وفيه نظر إذ لا وجه لتخصيص النّزاع بالصّورة المفروضة لإطلاق كلام القوم وأمّا ما ذكره من ظهور الثّمرة فيها دون غيرها ففيه أوّلا أنّه لا يقتضي اختصاص النّزاع بها إذ لا مانع من وقوع النّزاع في مسألة كليّة لظهور الثّمرة في بعض جزئيّاتها وثانيا النّقض بما إذا كان الضّد من المعاملات فلا يتصور الفساد بالمعنى المذكور فيها وهو عدم موافقة الأمر إذا الصّحة في المعاملات هي ترتب الأثر وحينئذ فيثمر تعلق النّهي بها الفساد بالمعنى المذكور إن قلنا بأنّ النّهي يقتضي الفساد في المعاملات أيضا وثالثا منع انحصار الثّمرة فيما يكون صحيحا لو لا النّهي لأن من الثّمرات عدم جواز أخذ الأجرة على الضّد وإن كان من الأفعال المباحة قبل النّهي فلا يجوز أخذ الأجرة على الخياطة عند اشتغال الذّمة بأداء الدّين على القول بالاقتضاء ويجوز على القول بالعدم وكذا عدم صحة المندوبات وصحتها عند اشتغال الذّمة بالمضيّق يترتب على القولين ورابعا أنّ الفساد إن كان بمقتضى الأصل لم يعارض الدّليل الدّال على الصّحة بخلاف المستفاد من النّهي المدلول عليه بالأمر فالقول بتحقق الفساد بالوجه الثّاني يثمر ما لم يثمره الفساد بالوجه الأوّل وخامسا منع عدم جريان الثّمرة في الموسعين والمضيقين أمّا الأوّل فلأنّ النّهي المستفاد عن الأمر إنّما هو على حد الوجوب المستفاد منه فكما أنّ الوجوب في الموسّع إنّما يعلق بالفعل في مجموع الوقت فكذلك المنهي عنه هو ما يضاد الفعل في مجموع الوقت وذلك بأن يشتغل بالضد في آخر الوقت أو في أوّل الوقت مع العلم بعدم تمكنه من الفعل بعده فالنّهي يتعلق في أوّل الوقت بما يضاد الفعل المطلوب في مجموع الوقت فلو تلبس بالضد في مجموع الوقت عوقب على تلبسه به في المجموع لا أنّ النّهي إنّما يتعلق في آخر الوقت بالضد ويكون معاقبا على تلبسه بالتّرك في الجزء الأخير حتى يرجع إلى ما ذكروه من الواجب المضيّق وأمّا الثّاني فلأنّ

 

المضيقين إذا حكم فيهما بالتّخيير فلا ريب أنّ الواجب حينئذ هو المجموع فيكون ضد المجموع منهيّا عنه وكل واحد منهما ليس ضدا للواجب بل الكل نفس الواجب فإنّ الواجب أحدهما على سبيل البدل لا الفرد الخاص فإن قلت هذا إنّما يصح على مذهب الأشاعرة في الواجب التّخييري من أنّ الواجب هو أحد الأبدال لا بعينه وأمّا على المشهور من وجوب كل منهما على البدل فلا يصح ذلك إذ يصدق على كل منهما أنّه ضد الواجب وهو الفرد الآخر مع أنّه ليس بمنهي عنه فلا يكون شيء من الأضداد بمنهي عنه في هذا القسم وإلاّ لكان تخصيصا في المسألة من غير حجة قلنا هذا ليس من التّخصيص في شيء فإن ما يقتضي النّهي عن الضّد في الأمر هو اعتبار المعنى الذّي في مدلوله وهو المنع من التّرك وما يتصور في الواجب التّخييري من المنع عن التّرك إنّما هو المنع عن مجموع التّركين لا المنع من كل من التّركين لا إلى بدل وإلاّ لزم تعدد العقاب عند ترك الجميع لتحقق كل من التّركين حينئذ لا إلى بدل وعلى هذا فالنّهي يتعلق بما يضاد هذا المعنى أعني ما يتحقق به مجموع التّركين وهو غير الواجبين فإنّ بكل منهما يتحقق الواجب فلا يكون ضدا حتى يلزم من عدم النّهي تخصيص في المسألة هذا وإذا حكم فيهما بتقديم الأهم فالجواب أوضح لأن ما ذكره في وجهه من كفاية عدم الأمر في الفساد قد عرفت فساده ثم إنّ ما ذكره من عدم جواز حمل المضيقين على الوجوب التّعيني قد ناقش فيه بعض الأفاضل فجوز تعلق التّكليف بهما معا على التّرتيب بأن يكون وجوب أحدهما مطلقا ووجوب الآخر معلقا على معصيته فيكون كل منهما واجبا ومأمورا به بهذا الوجه ويكون داخلا في محل النّزاع وسيأتي تحقيقه مفصلا إن شاء الله إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول اختلفوا في المسألة على أقوال أربعة الاقتضاء بالعينيّة والتّضمن والالتزام ونفي الاقتضاء رأسا وقبل الشّروع في المطلب لا بد من تصوير جريان الأقوال المذكورة في المسألة فنقول هنا إشكالان أحدهما أنّ

القول بالعينيّة والتّضمن كيف يمكن في الضّد الخاص إذ لا يشك عاقل أن لا تأكل مثلا ليس عين صلّ ولا جزءا له والثّاني أنّ نفي الاقتضاء لا يتصور في الضّد العام فإنّه ينافي الوجوب إذ ليس الوجوب إلاّ المنع عن التّرك ودفع الأوّل يحتاج إلى بيان أمرين أحدهما أنّ النّهي عن الضّد على القول به لا يفيد الحرمة الغيريّة بأن يكون الضّد حراما للتوصل إلى الغير كما في وجوب المقدمة فإنّ ترك الضّد العام ليس مقدمة للفعل لأنّه عينه فليس واجبا للغير وأمّا الضّد الخاص فإن قلنا بأنّ النّهي عنه إنّما هو لكون تركه مقدمة كان حراما غيريّا وإن قلنا بوجوب تركه من جهة عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم فلا لأنّ وجوب أحد المتلازمين ليس توصليّا وثانيهما أنّ الحكم قد يكون ثابتا للشيء بنفسه سواء كان ذلك الحكم نفسيّا أو غيريّا وقد يكون ثانيا له بواسطة غيره فيكون ذلك الغير واسطة في عروض ذلك الحكم لذلك الشّيء نظير السّفينة لحركة الجالس فيها ويسمى حكما عرضيّا كوجوب الجزء بوجوب الكل فإنّه وجوب واحد يعرض للكل أصالة وللجزء عرضا والوجوب بهذا المعنى واقع حتى أن بعضهم جعل وجوب المقدمة من هذا القبيل فإنّه تعدى من المقدمة إلى لوازم الواجب

 

ولا يفرض فيها الوجوب التّوصلي فيعلم أنّ مراده الوجوب العرضي ومن هنا توهم بعضهم فحكم بخروج المقدمات الدّاخلة عن محل النّزاع في المسألة السّابقة زعما منه أن النّزاع إنّما هو في الوجوب العرضي وهو لا يقبل الإنكار في أجزاء الواجب إذا عرفت ذلك فنقول يمكن تصحيح القول بالعينيّة بأن ترك الأكل واجب بعين وجوب الصّلاة بالعرض بمعنى أنّ الأمر يدل على وجوب الصّلاة ذاتا وعلى وجوب ترك الأكل عرضا ووجوب التّرك عين حرمة الفعل وتصحيح التّضمن فيه بأن معنى الوجوب هو طلب الشّيء مع المنع عن تركه فالمنع من التّرك جزء للوجوب والتّرك لازم لفعل الضّد فالمنع يرد عليه بالعرض فالمنع عن الضّد الخاص جزء للوجوب لا لمفهومه بل للمراد فالأمر بالشيء يدل على النّهي عن الضّد الخاص بالتّضمن ولكن جعل النّزاع في الحكم العرضي يأباه كلام القوم بل لا يصح لأن ينكره أحد إلاّ أن يجعل النّزاع لفظيّا بمعنى أن المثبت يثبت الحكم العرضي والنّافي ينفي النّهي الأصلي وهو أبعد ولبعض المحققين في بيان الدّليل على الاقتضاء في الضّد الخاص كلام يفيد تصور القول بالتّضمن فيه فإنّه قال إنّ معنى الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من التّرك والتّرك أمر عدمي لا يتعلق به الحكم من الطّلب والمنع بل يرد الحكم على منشإ انتزاعه وهو الأفعال الوجوديّة الملازمة له فيكون المنع عن الضّد الخاص جزءا للوجوب وذكر نظير ذلك في تقوية شبهة الكعبي من أنّ النّهي عن الزنا معناه طلب ترك الزنا والتّرك لا يكون مطلوبا بل المطلوب الأفعال الملازمة للترك يعني الأفعال المباحة كما يقوله الكعبي وبالجملة مقتضى كلامه القول بالتّضمن ولا يمكن حمل كلامه على القول بالعينيّة لأنّ النّهي عن التّرك عنده ليس فيه معنى الطّلب بخلاف الأمر إذ لو اعتبر فيه الطّلب لكان إمّا الطّلب الجنسي الذّي كان في مدلول الأمر أو غيره والثّاني مستلزم لاستفادة طلبين من أمر واحد وهو فاسد وعلى الأوّل إمّا أن يتعلق بفعل الضّد فيلزم طلب الضّدين أو بتركه فيعود المحذور الذّي فر منه أعني تعلق الطّلب بالتّرك ولا يرد أن القائلين بالعينيّة في الضّد العام تمسكوا بأنّ الطّلب الجنسي مأخوذ في حد النّهي لأنّهم لا يمنعون من تعلق الحكم بالتّرك ولا يخفى عليك ما في كلام المحقق من التّناقض لأنّه إمّا أن يعتبر الطّلب في معنى النّهي فيلزم عليه المحذور الذّي فر منه وهو طلب التّرك وإمّا أن لا يعتبر ذلك بل يجعله بمعنى المنع المجرد عن الطّلب فليجعل مثل لا تزن أيضا منعا مجردا ولا يجعله طلبا حتى لا يتصور تعلقه بالتّرك ويلزم تقوية شبهة الكعبي وأمّا الإشكال الثّاني فدفعه بعض العامة بأن النّزاع إنّما هو في الاقتضاء بنحو اللّزوم البين بالمعنى الأخص وهو أن يلزم من تصور الملزوم تصور اللازم وهذا الاقتضاء مما يقبل المنع وفيه أن من ينفي الاقتضاء ينفيه مطلقا قبالا لخصمه المثبت له مطلقا إذ لا ريب في إطلاق كلام المثبتين والنّافي ناف لما يثبته الخصم وإلاّ لم يكن بينهما نزاع وحكي عن بعضهم كلام آخر في دفعه وهو أن من ينفي الاقتضاء يجوز التّكليف بما لا يطاق فيجوز الأمر بالشيء مع عدم النّهي عن تركه بل مع الأمر بتركه إذ غاية ما يلزم منه هو التّكليف بما لا يطاق وهو جائز عنده وفيه أنّ جواز التّكليف بما لا يطاق

 

في صورة الأمر بالتّرك لا يوجب عدم تعلق النّهي به فإن الأمر بالشيء يقتضي النّهي عن تركه قطعا فإن أمر بالتّرك لزم الأمر بالتّرك والنّهي عنه وهو تكليف بما لا يطاق فتجويزه يجتمع مع النّهي أيضا فلا يثمر في رفعه ويمكن دفع الإشكال بأن يقال لا نزاع في أن صيغة الأمر مغايرة مع النّهي وكذا في تغايرهما مفهوما فإن ذلك مما لا يقبل الإنكار بل النّزاع إنّما هو في حصول الحرمة للضد بالأمر وعدمه وحصول الحرمة للضد يتصور بوجوه ثلاثة أحدها أن يكون الفعل وترك التّرك متحدين مصداقا ويكون الملحوظ في الطّلب هو عنوان الفعل دون ترك التّرك لكن لاتحادهما مصداقا يصدق على ترك التّرك أيضا أنّه مطلوب وإذا كان مطلوبا كان التّرك حراما والثّاني أيضا كذلك لكن يلاحظ كل من العنوانين في الطّلب والثّالث أن يختلفا مصداقا مع تحقق التّلازم بينهما وعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ونافي الاقتضاء يقول باختلافهما مصداقا ويجوز اختلاف المتلازمين في الحكم أو إنّما ينفي الوجه الثّاني وهو أن يكون العنوانان كلاهما ملحوظا في الطّلب والمثبت إنّما يثبت الوجه الأوّل فيكون النّزاع بينهما لفظيّا لكن كل هذه الوجوه بعيد جدا عن مطارح كلماتهم ولا يبعد أن يقال إنّ الإشكال المذكور إنّما نشأ من خلط القوم في تحرير محل النّزاع حيث جعلوه اقتضاء الأمر الوجوبي للنهي ضد فتوهم أن النّزاع إنّما هو من حيث فصل الأمر الذّي هو المنع من التّرك فيشكل أن المنع من التّرك جزء للوجوب ومعه كيف يعقل نفي حرمة التّرك والتّحقيق في تحرير محله ما حرره المتكلّمون من أنّ إرادة الشّيء هل تستلزم كراهة ضده أو لا والظّاهر أنّ من عبر بالأمرين يريد اقتضاء الأمر باعتبار جنسه الذّي هو مطلق الطّلب والإرادة لا الفصل الّذي هو المنع من التّرك ولذا أدخلوا الأمر الاستحبابي بالنّسبة إلى النّهي التّنزيهي عن ضده أيضا في محل النّزاع ولا ريب في أن فصل النّدب وهو الإذن في التّرك لا ينفي مرجوحيّة التّرك بل هي من مقتضيات الطّلب الجنسي على القول به وإذا كان النّزاع في الأمر الاستحبابي من حيث اقتضاء الجنس ففي الوجوبي أيضا كذلك لئلا يلزم التّفكيك بينهما مع اتحاد المسألة وحينئذ فيتصور نفي الاقتضاء في الضّد العام بناء على عدم استلزام إرادة الشّيء كراهة ضده كما ذهب إليه السّيد رحمه‌الله في النّدب فقال بعدم كراهة ترك المندوب فإن تركه لو كان مكروها لكان جميع النّاس فاعلين للمكروه مدة عمرهم لتركهم أكثر المندوبات لكن نفي الاقتضاء في الضّد العام من حيث الجنس في الأمر الوجوبي لا يثمر عملا لاقتضائه من حيث الفصل قطعا نعم يثمر في المندوبات وهو كاف ثمرة للمسألة بناء على هذا التّقرير لمحل النّزاع وعلى هذا القول بالعينيّة والتّضمن في المسألة أيضا ناش عن الخلط المذكور لظهور تباين إرادة الشّيء وكراهة ضده غاية الأمر تلازمهما في الخارج إذا عرفت ذلك فلنشرع في المطلوب ونتكلم تارة بناء على ما حرره القوم من محل النّزاع وأخرى على ما حرّره المتكلمون فهنا مقامان الأوّل في تحقيق المسألة على طريقة القوم فنقول أمّا في الضّد العام فيمكن أن يقال إنّ الأمر الإيجابي بالشيء عين النّهي عن تركه وإن

 

قلنا بترك مفهوم الأمر حقيقة من الطّلب والمنع عن التّرك وذلك لأنّ النّهي معناه طلب التّرك وهو إذا ورد على التّرك صار طلبا لترك التّرك وهو عين طلب الفعل وأمّا المنع عن التّرك الذّي هو جزء الوجوب فلم يؤخذ فيه الطّلب حتى يكون معناه طلب ترك التّرك ويتحد مع النّهي عن التّرك ويثبت التّضمن بل المنع أمر في عرض الطّلب ومن مقوّماته وما يرى من ذكر الطّلب معه فإنّما هو الطّلب الجنسي الذّي هو موصوفه كما قد يؤخذ الجنس في تعريف الفصول وبالجملة فالنّهي غير المنع والطّلب المأخوذ في النّهي هو الطّلب الجنسي المأخوذ في الأمر إذ لو كان غيره لزم دلالة الأمر على طلبين وليس كذلك فمعنى الأمر هو طلب الفعل مع المنع من التّرك ومعنى النّهي عن التّرك هو طلب ترك التّرك بعين ذلك الطّلب الجنسي فاتحدا مصداقا وإن تغاير بحسب المفهوم فعلم بما ذكرنا دليل القول بالتّضمن مع إبطاله وأمّا القائل بالاستلزام فاستدل عليه بأنّ الوجوب معنى بسيط هو الطّلب الحتمي الذّي هو مرتبة شديدة من الطّلب ولازمه المنع من التّرك الذّي هو عين النّهي عن التّرك وفيه أوّلا ما عرفت من أنّ النّهي عن التّرك غير المنع عن التّرك وثانيا أنّه إن أراد بساطة الوجوب بحسب الخارج فمسلم لكنّه لا يجدي في المقام لكفاية التّركب العقلي في دلالة التّضمن وإن أراد البساطة عقلا وأنّه غير مركب من الجنس والفصل فيمكن دفعه بأنّه لا شبهة في اشتراك الوجوب والنّدب في مطلق الطّلب فهو جنس لهما وفصل الأوّل هو المنع عن التّرك والثّاني هو الإذن فيه فكل منهما مركب من الجنس والفصل ويمكن الجواب بأنّ الطّلب ليس جنسا للوجوب والنّدب بل هو بنفسه نوع وكل من الوجوب والنّدب من أفراده وتميزهما ليس بأمر مقوم ذاتي يكون فصلا بل بالشدة والضّعف والمنع عن التّرك والإذن فيه من العوارض والمشخصات الخارجة اللازمة لا الفصول المقومة وإليه ينظر كلام المحقق العلامة جمال الدّين الخوانساري رحمه‌الله في بيان أنّ الواجب الكفائي إذا قام به من فيه الكفاية أمكن القول بجواز الإتيان به ثانيا بقصد الاستحباب ما لفظه على أنّه يمكن أن يقال أيضا إنّ الثّابت أوّلا هو الرّجحان مع الذّم على التّرك في الجملة والسّاقط بفعل البعض إجماعا هو الذّم المذكور فيبقى الرّجحان لأصالة استصحابه إلى أن يثبت خلافه والقول بأنّ الذّم على التّرك فصل له والفصل علة للجنس فبعدمه يعدم الجنس فبعد تسليم ذلك في الفصل والجنس لا نسلم كون الذّم فصلا لم لا يجوز أن يكون الرّاجح فعله حقيقة محصله ويكون الذّم على التّرك عارضا ربما يعرض له فبعدمه لا يلزم عدم رجحان الفعل انتهى وفي ذيل كلامه نظر حيث جوز بقاء الطّلب مع انتفاء الذّم لفساده على ما حقق من أنّ الطّلب مع الذّم مرتبة واحدة من مراتب الطّلب ومع انتفاء الذّم يحصل مرتبة أخرى ولا يبقى الطّلب السّابق فتأمّل وتحقيق المسألة أنّه إن اعتبر الطّلب في النّهي عن التّرك كان عين الأمر وإلاّ فيكون عين المنع عن التّرك فإنّ جعل الوجوب مركبا صح القول بالتّضمن وإلاّ فالالتزام ولكل وجه وأمّا في الضّد الخاص فإن جعلنا النّزاع في النّهي العرفي كان لكل من القول بالعينيّة والتّضمن والالتزام وجه صحة مبنيّة على أخذ الطّلب في معنى

 

النّهي وعدمه وجعل المنع من التّرك جزءا للوجوب وعدمه كما عرفت في الضّد العام وفيما سبق ولكن جعل النّزاع في ذلك غير جيد بل يظهر من بعضهم الحكم بالوجوب الغيري المقدمي لترك الضّد حيث حكموا بوجوب ترك الضّد من باب المقدمة وإذا وجب تركه حرم فعله ومن بعضهم الحكم بالوجوب النّفسي حيث أثبتوا الوجوب للترك من باب عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ويجب تحقيق المقام على هذين الوجهين فهنا مقامان أمّا الأوّل فنقول إنّ وجوب التّرك من باب المقدمة متوقف على أمرين أحدهما ثبوت كون التّرك مقدمة والثّاني كون المقدمة مسلم وقد عرفت فيما مضى منع كون التّرك مقدمة ولكن يظهر من بعض الأفاضل تسليم كون ترك الضّد مقدمة وكون المقدمة واجبة ومع ذلك يقول بعدم حرمة فعل الضّد بل يجوز تعلق الأمر به وبه يصحح الضّد إذا كان من جملة العبادات الموسعة فله في ذلك مسلك آخر غير مسلك القوم لأنّهم في تصحيح الضّد الموسّع يمنعون مقدميّة التّرك أو وجوب المقدمة أو يجوزون اجتماع الأمر والنّهي وهو من المانعين وبيان كلامه بحيث يظهر مرامه هو أنّ الواجب من المقدمة هو خصوص الموصل منها إلى ذي المقدمة ولا يجب غير الموصل منها فالوضوء إذا لم يتعقبه الصّلاة لم يتصف بالوجوب وحينئذ فترك الضّد إذا كان مقارنا لفعل المأمور به اتصف بالوجوب لأنّه حينئذ يتصف بوصف الإيصال فالواجب هو التّرك الموصل إلى المأمور به ومن الظّاهر أنّه إذا وجب أحد النّقيضين اتصف الآخر بالحرمة ونقيض التّرك الموصل ترك التّرك الموصل لأنّ نقيض كل شيء رفعه وهو ليس عين الفعل لعدم العينيّة بين الوجود والعدم ولا لازما له لجواز تحقيق ترك التّرك الموصل بغير فعل الضّد وهو أن لا يشتغل بشيء من الأفعال نعم لو كان مطلق التّرك واجبا كان نقيضه وهو الفعل حراما وليس كذلك وإذا لم يكن الفعل حراما جاز تعلق الأمر به غاية الأمر لزوم الأمر بالضدين وهو جائز مرتبا وتنقيح المطلب يقتضي بيان أمور الأوّل في بيان أنّ الواجب من المقدمة هو خصوص الموصلة أو لا والثّاني أنّ وجوب التّرك المقارن هل يستلزم حرمة الفعل أو لا والثّالث أنّ الأمر بضدين يمكن أن يتصور بنحو التّرتيب أو لا (أمّا الأمر الأوّل) فنقول قد قرره بعض الأفاضل بأنّ حكم الشّرع تابع للمصالح والمفاسد ولا مصلحة في المقدمة إلاّ ترتب ذي المقدمة عليها فإذا لم يترتب لم يكن للأمر داع إلى إيجابها فالواجب هو خصوص المقدمة الموصلة نظير أجزاء الواجب فإنّ الفاتحة مثلا إذا لم تنضم إليها سائر أجزاء الصّلاة لم تقع بوصف الوجوب واعترض عليه بأنّ وجوب خصوص الموصلة من المقدمات يتصور بوجوه ثلاثة أحدها أن يكون التّوصل شرطا لوجوب المقدمة ولا ريب في بطلانه لأنّ وجوب المقدمة متلازم مع وجوب ذي المقدمة وهو حاصل قبل فعله فيجب اتصاف المقدمة بالوجوب قبل فعل ذي المقدمة فلا معنى لكونه شرطا لوجوبها والثّاني أنّ التّوصل شرط لحصول وصف المقدميّة فمتى لم يحصل التّوصل لم يكن مقدمة حتى يتصف بالوجوب وهذا أفسد من السّابق لأنّه دور ظاهر فإنّ المقدمة هي ما يتوقف عليه الشّيء فحصول الشّيء موقوف على المقدمة وحصول المقدميّة متوقف على حصول ذلك الشّيء فإن قيل حصول الشّيء متوقف

 

على ذات المقدمة لا على وصفها قلت فيكون الذّات مقدمة من دون ملاحظة الوصف لما عرفت أنّ المقدمة هي ما يتوقف عليه الشّيء والثّالث أنّ المقدمة لها فردان موصل وغير موصل والمتصف بالوجوب هو الفرد الأوّل فترتب ذي المقدمة كاشف عن أنّ المقدمة الواقعة هي الفرد الواجب وعدم ترتبه كاشف عن وقوع الفرد الغير الواجب واعترض عليه أوّلا بأنّ المقيد إذا وجب تحصيل المطلق من باب المقدمة فإذا وجب المقدمة الموصلة فقد وجب ذات المقدمة وثانيا أنّ الموصليّة أمر اعتباري لا يتعلق بها الأمر إلاّ باعتبار منشإ انتزاعها وهو شيئان ذات المقدمة وذي المقدمة ولا يمكن تعلق الأمر الغيري بهما لأنّه مستلزم لاجتماع الوجوبين في ذي المقدمة أعني الوجوب النّفسي والغيري فيكون متعلقا بذات المقدمة وثالثا أنّه قد اعترض على من صحح الضّد الموسّع بأنّ الواجب هو التّوصل بالتّرك إلى فعل المأمور به لا نفس التّرك بأنّ التّوصل أمر اعتباري لا يتعلق التّكليف إلاّ بمنشإ انتزاعه كما بينا وبأنّه إذا وجب المقيّد وجب القيد فنقول ما الفرق بين وجوب التّوصل بالتّرك ووجوب المقدمة الموصلة ثم إنّ تنظيره بأجزاء الواجب فاسد لأنّ الواجب المركب إن لم يعتبر الموالاة بين أجزائه صح الجزء المأتي به وإن لم ينضم إليه الباقي كالغسل التّرتيبي وإن اعتبر فيه الموالاة فوجوب إعادة الجزء المأتي به ثانيا إنّما هو لفوات الموالاة الواجب المراعاة لا لعدم صحة ذلك الجزء إذا وقع غير منضم إلى سائر الأجزاء فإنّه قد وقع صحيحا لأنّ معنى صحة الجزء أنّه قد وقع بحيث لو انضم إليه سائر الأجزاء على الوجه المعتبر حصل الامتثال بالأمر المتعلق بالعمل وقد حصل ذلك وعدم ضم سائر الأجزاء لا يخرج الجزء الواقع عن الصّحة بهذا المعنى ولهذا منعوا من إجراء استصحاب الصّحة في الصّلاة قبل تمامها لأنّ صحة الأجزاء الواقعة مقطوعة البقاء والشّك إنّما هو في إمكان ضم باقي الأجزاء وأمّا صحة مجموع العمل فإنّما هي بعد تمامها على الوجه المعتبر فلا يمكن استصحابها في الأثناء وأمّا ما ذكره من أنّ الدّاعي إلى الأمر بالمقدمة هو التّوصل فممنوع لجواز كون الدّاعي هو الاستلزام العدمي فإنّ عدم المقدمة مستلزم لعدم ذي المقدمة ولمّا كان ترك ذي المقدمة مبغوضا وجب في الحكمة مبغوضيّة كل ما يستلزم ذلك المبغوض وصحة ترك المقدمة ومبغوضيّة التّرك هو عين وجوب الفعل فوجب المقدمة وإن لم يتصف بوصف الإيصال هذا تمام الكلام في النّقض والإبرام ويمكن أن يقال بالتّفصيل بين المقدمات المتقدمة على ذي المقدمة زمانا كالمشي للحج وبين المقارنة له زمانا وإن تقدمت طبعا كترك الأضداد للفعل المأمور به ويحكم بوجوب خصوص الموصلة في الثّاني والمطلق في الأوّل بأن يقال إنّ القاضي بوجوب المقدمة هو العقل والمدرك لوجوبها عنده هو إمّا فعليّة التّوصل بها إلى ذي المقدمة أو إمكان التّوصل وليس المراد بالإمكان الإمكان الذّاتي وهو عدم المنافاة الذّاتي بين المقدمة وبين التّوصل بل المراد الإمكان الوقوعي وهو كون المقدمة بحيث يتمكن المكلف بعدها من الإتيان بذي المقدمة فلو لم يكن التّوصل فعلا ولا قوة لم يحكم العقل بوجوب المقدمة كما لو ترك الحج إلى شهر ذي الحجة فإنّه لا يكلف بالمشي لعدم إمكان التّوصل بهذا المعنى

 

وإن أمكن ذاتا بالمعنى السّابق وحينئذ فنقول إنّ المقدمات المقارنة في ظرف ثبوتها إن تحقق معها ذو المقدمة فقد تحقق فعليّة التّوصل الّتي هي المناط في الوجوب وإن لم يتحقق فليس هناك إمكان التّوصل بالمعنى المقصود حتى يجب المقدمة بخلاف المقدمات الغير المقارنة لأنّها في ظرف ثبوتها متصفة بإمكان التّوصل فإن قيل سلمنا عدم تحقق إمكان التّوصل في ظرف ثبوتها لكن قبل مجيء ظرف الثّبوت يتصف بأنّه يمكن التّوصل بها بمعنى أن يتحقق معها الواجب في ظرف ثبوتها وهذا القدر من الإمكان كاف في وجوبها كما أنّه كاف في وجوب كل واجب ولو لا كفايته لم يتصف شيء بالوجوب فإنّ وجوب الصّلاة في ظرف ثبوتها ليس ممكنا بل واجب والإمكان شرط التّكليف وبالجملة الإمكان قبل ظرف الثّبوت كاف في الوجوب وهو متحقق في المقارنات أيضا والموصليّة أمر اعتباري لا يوجب تكثر الموضوع في الخارج بل الموجود في الخارج هو ترك الضّد وفعل الأداء مثلا مكانهما قبل وجودهما يصحح اتصافهما بالوجوب فوجبا فإذا ترك الضّد من دون إتيان الأداء فقد تحقق أحد الواجبين وحصل الامتثال به وإن تحقق العصيان بالنّسبة إلى الواجب الآخر قلت سلمنا أنّ الموصليّة أمر اعتباري لا يوجب تكثر الموضوع في الخارج لكن يمكن اعتبار وصف التّقارن في التّرك بحيث لا يكون مطلوبا بدونه فالتقييد داخل والقيد خارج كما في الشّروط الشّرعيّة على القول بعدم وجوبها مع عدم صحة الواجب بدونها لا يقال إذا وجب المقدمة بقيد التّقارن فقد وجب ذات المقدمة لأنّه إذا وجب المقيد وجب المطلق مقدمة وأيضا يلزم أن يكون ذو المقدمة واجبا غيريّا لأنّه مقدمة لحصول وصف التّقارن الواجب لأنّا نقول إنّ المطلق إن كان في ضمن المقيد أعني حين التّقارن نسلم وجوبه وإلاّ فلا لأنّه حينئذ وإن كان مقدمة لحصول المقيد إلاّ أنّه ليس واجبا لعدم تحقق وصف الإيصال حينئذ ولزوم وجوب ذي المقدمة بالوجوب الغيري ممنوع فإنّ ما يجب مقيدا بالتّقارن مع شيء آخر قسمان أحدهما أن يكون واجبا نفسيّا فحينئذ يتصف ذلك الشّيء المحصل لوصف التّقارن بالوجوب الغيري كالصّلاة فإنّها واجبة يقيد المقارنة للطهارة فيجب الوضوء مقدمة والثّاني أن يكون واجبا لأجل ذلك الشّيء المحصل للتّقارن كالطّهارة فإنّها واجبة بقيد التّقارن مع الصّلاة ولأجل الصّلاة وفي مثل هذا يكفي وجوب الصّلاة بالوجوب النّفسي في وجوبها وفي وجوب الطّهارة بالوجوب الغيري ولا يلزم اتصاف الصّلاة بالوجوب الغيري هذا تمام الكلام على وجه المماشاة والمداهنة مع القوم وإلاّ فالحق الحقيق بالتّصديق هو خصوص وجوب المقدمة الموصلة مطلقا دون غيرها وبيانه أنّ ما يجب للتّوصل إلى شيء آخر قسمان الأوّل أن يكون ما يترتب عليه من قبيل الخاصية المترتبة على وجوده من دون احتياجه إلى إيجاد مستقل كإنقاذ الغريق المترتب عليه سلامة نفس الغريق الثّاني أن يكون مقدمة لفعل مباشري يحتاج إلى إيجاد مستقل بعد تحقق ذلك مثل مقدمات الواجب ولا إشكال في أنّ الواجب في القسم

 

الأوّل خصوص الموصل إلى الخاصية ومقتضى التّحقيق كون القسم الثّاني أيضا كذلك والذّي يوهم الفرق بأنّ الواجب في الثّاني أعمّ من الموصل وغيره لا خصوص الموصل هو أنّ الواجب بالنّسبة إلى مقدّماته ليس كالخاصية المقصودة بالنّسبة إلى القسم الأوّل فإنّ الخاصية ليس لها إيجاد سوى إيجاد محصلها فلا معنى لتعلق الوجوب بغير إيجاد محصلها وأمّا الواجب فهو أمر مستقل لا يكفي في وجوده إيجاد المقدمات بل له إيجاد مستقل تعلق به الوجوب النّفسي غاية الأمر أنّه لما توقف وجوده على المقدمات تعلق الأمر المقدمي بها أيضا فهنا واجبان مستقلان نفس الواجب ومقدّماته بخلاف القسم الأوّل فإنّ الواجب شيء واحد هو المحصل للخاصية وفيه أنّ كل معلول يقاس إلى علته فهو مما يمتنع تخلفه عنها سواء كان فعلا اختياريّا مباشريّا أو غيره غاية الأمر أنّه إذا كان فعلا اختياريّا كان الجزء الأخير من علته إرادة الفاعل وهذا لا يقتضي عدم ترتبه على العلة بعد تمامها فظهر أنّ كل معلول مترتب على تمام العلة ضرورة ولا ينافي ذلك كونه اختياريّا إذ يكفي في كونه اختياريّا وقوعه بإرادة المكلف وكون الإرادة من أجزاء علته نعم هنا يترتب على العلة الإيجاد المباشري وفي الأمور التّوليديّة كسلامة النّفس في المثال السّابق يترتب على العلة نفس وجود المعلول بمباشرة العلة وإذا كان الأمر كذلك نقول إن تعلق الأحكام الشّرعيّة بالشيء يتبع الآثار العقليّة الحسنة والقبيحة والمقدمة من حيث هي مقدمة ليس لها أثر إلاّ ترتب ذي المقدمة عليها فالوجوب المقدمي لا بد أن يلحق ما فيه ذلك الأثر وهو مجموع المقدمات أو كل واحد مع وصف انضمام الباقي وإلاّ فالمقدمة الواحدة إذا لم ينضم إليها غيرها لا أثر لها من حيث إنّها مقدمة فلا مقتضي للحكم الشّرعي فيها ويشهد بذلك أنّ عنوان المقدمة لم يرد مورد الأمر والنّهي في خطاب من الخطابات الشّرعيّة ولا هي ملحوظة في نظر العرف وإنّما العنوان الملحوظ هي الوسيلة والذّريعة والسّبب ونحو ذلك مما يرادفه والمعتبر في صدق هذه العناوين التّوصل الفعلي فإنّ الوسيلة والوصلة على ما ذكره أهل اللّغة هو ما يكون بين الشّيء وبين ما يتصل به بعد اتصاله به وهذا لا يكون إلاّ مع التّوصل الفعلي وعلى ما ذكرنا فالموصليّة في المقدمة إنّما هي باعتبار اجتماع جميع ما له دخل في وجود الشّيء وليست وصفا مأخوذا في المقدمة بملاحظة اقتران الواجب بها حتى يرجع إلى معنى مقارنة المقدمة للواجب حتى يرد الإشكال السّابق بل الوصف المزبور معناه اجتماع المقدمات وإذا حصل ذلك ترتب الواجب قهرا كما لا يخفى على المتدبّر (وأمّا الأمر الثّاني) فقال الفاضل المتقدم في بيانه ما حاصله أنّ المقدمة لفعل الأداء هو ترك الصّلاة المقارن مع الأداء فالحرام نقيضه وهو ترك التّرك المقارن للأداء وهو ليس غير الفعل ولا ملازما له فلا يكون فعل الصّلاة حراما وحينئذ فيمكن اتصافها بالوجوب ومعنى وجوبها حرمة تركها الغير المقارن للأداء وهذا من جملة ثمرات وجوب خصوص الموصلة من المقدمات قال ولها نظائر كثيرة منها الواجب التّخييري فإنّ ترك كل واحد مقدمة لفعل الآخر ولا يستلزم ذلك حرمة الفعل فإنّ المقدمة هي التّرك الموصل إلى الآخر وهو واجب والفعل أيضا واجب

 

بمعنى حرمة تركه الغير الموصل الآخر فلكل واحد يفرض تركان أحدهما واجب وهو التّرك الموصل إلى الآخر وهو مقتضى الأمر المتعلق بالآخر والثّاني حرام وهو التّرك الغير الموصل وحرمته مقتضى الأمر المتعلق بذلك الشّيء إذ لا يلزم في الواجب حرمة جميع ما يفرض من تروكه بل يكفي حرمة تركه في الجملة ومنها العبادات المكروهة لها تركان أحدهما مطلوب وهو الموصل إلى الأفضل والآخر مبغوض وهو الغير الموصل ويكفي في رجحانها مبغوضيّة التّرك باعتبار الثّاني ومن ثمرات المسألة أنّ من نذر أن يترك السّفر قربة إلى الله بأن يكون التّقرب قيدا للتّرك وجب عليه التّرك متقربا ويحرم عليه ترك هذا التّرك الخاص وهو ليس عين فعل السّفر ولا ملازما له لإمكان ترك التّرك متقربا من دون فعل السّفر بأن يترك السّفر لا للقربة وحينئذ فلا يحرم عليه فعل السّفر ومنها عدم حرمة الأكل في رمضان بالنّظر إلى الأمر بالصّوم لأنّ الصّوم الإمساك متقربا فيكون تركه حراما وهو أعمّ من فعل الأكل لإمكان تحققه بالإمساك لا تقربا لكن هو حرام بالنّظر إلى الأمر بمطلق الإمساك هذا غاية البيان لمرام الفاضل المذكور وفيه نظر أمّا أوّلا فلأنّه صرح بأنّ الأمر بالشيء عين النّهي عن الضّد العام بمعنى التّرك لأنّ النّهي هو طلب التّرك فإذا تعلق بالتّرك صار طلب ترك التّرك وترك التّرك عين الفعل مصداقا وإن تغايرا مفهوما فنقول إذا كان الفعل متحدا مع ترك التّرك مصداقا اتحد مع ترك التّرك الموصل أيضا لأنّ ترك التّرك من جملة مصاديق ترك التّرك الموصل لأنّ ترك التّرك الخاص له فردان ترك التّرك وترك الخصوصيّة ولا ريب أنّ مصداق مصداق الشّيء مصداق لذلك الشّيء وأمّا ثانيا فلأنّه سلم أنّه لو كان مطلق ترك الضّد واجبا لزم حرمة الفعل فنقول إنّه إن كان لأجل أنّ نقيضه هو الفعل فلنا منعه بل نقيض ترك الضّد هو ترك ترك الضّد على ما ذكره وإن كان لأجل اتحاد الفعل مع ترك التّرك مصداقا فلنا منعه أيضا لأنّ الفعل وجودي فلا يتحد مع العدم على ما ذكره وإن كان لأجل أنّ الفعل لازم لترك التّرك ولازم الحرام حرام فنقول هنا إنّ لازم ترك التّرك الموصل هو كلي له فردان أعني أحد الأمرين من الفعل والتّرك الغير الموصل فيكون هذا الكلي حراما من باب الملازمة وإذا حرم الكلي حرمت أفراده وبالجملة ما ذكره لا يتم حجة على عدم حرمة الفعل بل الأولى له أن يقول إنّ ترك الضّد المجامع للصارف ليس موصلا فليس واجبا حتى يكون فعله حراما والتّحقيق أن يقال في بيانه إنّ علة الواجب إذا كانت مركبة من أمور متعددة وجب الجميع وحرم ترك الجميع وترك الجميع إن وقع دفعة واحدة كان الجميع حراما وإن ترك الجميع على التّعاقب كان الحرام التّرك الأسبق لاستناد ترك الواجب إليه ولم يحرم باقي التّروك المتأخّرة وعلى هذا فنقول علة وجود المضيّق مركبة من أمور منها الإرادة ومنها ترك الموسّع وغير ذلك فيجب الجميع ويحرم ترك الجميع ولكن ترك الجميع هنا ليس دفعة بل أسبق الأجزاء انتفاء هو الإرادة فيكون تركها وهو الصّارف حراما فقط دون ترك ترك الموسّع

 

أعني فعله ولو لا ملاحظة سبق الصّارف لم يتم ما ذكر من أنّ ترك الضّد المجامع للصّارف ليس موصلا فلا يكون واجبا حتى يكون فعله حراما فإنّ هذا الكلام يوجب عدم حرمة ترك شيء من المقدمات لأنّ فعل كل مقدمة مع ترك أخرى ليس موصلا فليست واجبة فلا يحرم تركها وليس كذلك وبالجملة فالحق في الأمر الثاني هو أنّ وجوب التّرك الموصل لا يستلزم حرمة الفعل على ما بينا لكنّه لا يوجب صحة تعلق الأمر به حتى يكون صحيحا لأنّه مستلزم للأمر بضدين في آن واحد وسنبيّنه إن شاء الله (وأمّا الأمر الثّالث) فنقول إن تعلق الأمر بالموسّع وصحته موجب لورود إشكالين أحدهما لزوم الأمر بضدين والثّاني أنّ ترك المضيّق مقدمة لفعل الموسّع وهو حرام وقد ذكروا أنّ الواجب إذا توقف على الحرام خرج عن الوجوب أو لم يبق الحرام على حرمته وحرمة ترك المضيّق غير قابلة للزّوال فلا بد من أن يخرج الموسّع عن الوجوب والتّفصي عن الإشكال يحتاج إلى بسط في المقال فنقول تصوير الأمر بالموسّع والمضيّق يمكن بوجوه ثلاثة الأوّل الأمر بهما في مرتبة واحدة وفي عرض واحد وهذا مما يرد عليه الإشكالان والثّاني ما ذهب إليه بعض المحققين من أنّ مطلوبيّة الموسّع مشروطة بترك المضيّق فمخالفة المضيّق شرط في وجوب الموسّع فليسا في مرتبة واحدة ولا يلزم توقف الواجب على الحرام لأنّ الحرام حينئذ شرط للوجوب وشرط الوجوب ليس واجبا حتى لا يمكن كونه أمرا محرما لكن يرد عليه أنّ الشّرط يجب أن يكون متقدما على المشروط بضرورة العقل وترك المضيّق مقارن مع فعل الواجب الموسّع فلا يمكن كونه شرطا في وجوب الموسّع لأنّ وجوب الواجب سابق على فعله فيلزم تقدم المشروط على الشّرط والثّالث أن يكون وجوب الموسّع معلقا على مخالفة المضيّق بأن يكون مشروطا بالوصف المنتزع وهو كون الشّخص ممن يخالف المضيّق وهو حاصل قبل فعل الموسّع فلا يلزم تقدم المشروط على الشّرط والحاصل أنّ الأمر المضيّق إنّما تعلق بذات الشّخص والأمر الموسّع إنّما تعلق به بشرط كونه ممن يتصف بترك المضيّق وهذا هو الحق في المقام وعليه فلا إشكال فإن قلت غاية ما يستفاد من هذا أنّ الأمر الموسّع إنّما هو على تقدير معصية المضيّق وهو غير مفيد لأنّ الأمر المضيّق أيضا موجود حينئذ أيضا لإطلاقه ولظهور عدم سقوط الأمر بعصيانه فاجتمعا حينئذ قلت تعلق الأمر بالموسّع مشروط بمعصية المضيّق أعني بالوصف المنتزع منها فالمكلّف هو من تلبس بوصف المخالفة وأمّا التّكليف بالمضيّق فلا يمكن تعلقه بالشّخص بشرط المعصية لأنّ التّكليف بشرط المعصية تكليف بالمحال كما أنّه لا يمكن التّكليف بشرط الطاعة لأنّه تكليف بتحصيل الحاصل بل التّكليف به إنّما يتعلق بذات الفعل فنفس تقدير الطاعة مطلوب وتقدير المعصية مبغوض لا أنّ الفعل مطلوب على تقدير المعصية والطاعة وبالجملة فالأمر إنّما يطلب نفس الفعل ولكن قد لا يطيعه المكلف بل يعصيه ويخالفه فهو يقول أيّها المتلبّس بالمخالفة يحرم عليك هذا التّلبس لكن إذا عصيتني وتلبست بالمعصية فمع هذا التّلبس أوجد الصّلاة فيكون اشتراط

 

وجوب الصّلاة بمعصيته الأداء نظير اشتراط وجوبها بالقدرة والحياة حال الفعل من الأمور الغير الاختياريّة فإنّ المحرم الشّرعي لا يزيد على الأمور الغير الاختياريّة فكما أنّ الأمر هناك يطلب الصّلاة ممن اتصف بأنّه يقدر على إتيان الصّلاة حيّا ولا يوجب ذلك الأمر بتحصيل القدرة والحياة حتى يقال باستحالة ذلك لعدم كونهما اختياريين فكذا هنا يطلب الصّلاة ممن اتصف بأنّه يخالف أمر الأداء ولا يلزم من ذلك طلب المخالفة حتى يقال إنّه مستلزم لطلب الحرام ثم إنّ بعض المحققين بعد قوله بوجوب مطلق المقدمة أجاب عن الإشكال هنا بالأمر التّرتيبي وإنّ وجوب الصّلاة مشروط بترك الأداء وهو فاسد أوّلا بما عرفت من أنّ الوجوب المشروط هنا مستلزم لتقدم المشروط على الشّرط وثانيا أنّه تناقض بين لأنّ وجوب مطلق المقدمة يستلزم حرمة فعل الضّد مطلقا لوجوب تركه مطلقا حينئذ سواء كان موصلا إلى الأداء أو لا وسواء كان مع الصّارف أو لا وحينئذ فكيف يمكن القول بوجوب فعله بشرط تحقق الصّارف لمطلوبيّة تركه حينئذ أيضا مع أنّ كلامه في بيان الأمر التّرتيبي مشعر بوجوب خصوص المقدمة الموصلة حيث قال ما حاصله أنّ دليل وجوب الصّلاة مطلق وما يخصص منه بحكم العقل هو ما إذا توصل تركها إلى الواجب المضيّق وأمّا مع وجود الصّارف عن المضيّق فلا يتوصل بتركها إليه فلا مقتضي لوجوب التّرك وحرمة الفعل بل الإطلاق سليم عن المعارض هذا وبالجملة فتصحيح الواجب الموسّع بالأمر التّرتيبي متلازم مع القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة وإنّ ترك المضيّق مستند إلى الصّارف فلا يجب ترك الموسّع وقد يورد عليه اعتراض وهو أنّ هذا إنّما يتم إذا كان الصّارف عن المضيّق عدم إرادته وأمّا إن كان الصّارف عنه إرادة الموسّع فلا يتم ذلك لأنّ إرادة الموسّع حينئذ حرام لكونها صارفة عن الواجب المضيّق فإن كان وجوب الموسّع مطلقا بالنّسبة إلى إرادته صارت الإرادة واجبة من باب المقدمة فيلزم اجتماع الوجوب والحرمة في الإرادة وإن كان مشروطا بالنسبة إليها لزم إيجاب الشّيء بشرط وجود سببه وهو محال لأنّه أمر بتحصيل الحاصل وأجاب عنه بعض الأفاضل بأنّ وجوب الموسّع مشروط بنفس ترك المضيّق أو بالوصف المنتزع ولا يلاحظ علة التّرك حيث إنّها ليست منحصرة إلى خصوص إرادة الموسّع فلا يجب ملاحظتها ولو لزم ملاحظة العلة لزم فساد ما ذكروه فيما إذا نذر الشّخص ترك ركنين من الصّلاة بشرط بقاء الطهارة إلى العصر أنّ نذره صحيح مع أنّه قد يكون السّبب لإبقاء الطهارة إرادة الصّلاة المنذورة فيلزم المحذور لأنّ وجوب الصّلاة مشروط ببقاء الطهارة وبقاؤها مستند حينئذ إلى إرادة الصّلاة فيكون وجوب الصّلاة مشروطا بإرادتها وهو عين إيجاب الشّيء بشرط وجود سببه ودفعه أنا لا نلاحظ علة بقاء الطهارة وليست منحصرا في إرادة الصّلاة لجواز استناده إلى شيء آخر هذا وفي أصل الاعتراض مع الجواب المذكور نظر أمّا الأوّل فلامتناع فرض استناد ترك المضيّق إلى إرادة الموسّع بل هو مستند إلى عدم إرادته أبدا وذلك لأنّه كما أنّ ترك أحد الضّدين مقدمة للآخر عندهم فكذا

 

ترك إرادة أحد الضّدين مقدمة لإرادة الأخرى لأنّ إرادتي الضّدين متضادتان أيضا وحينئذ فعدم إرادة المضيّق سابق على إرادة الموسّع وبعبارة أخرى إذا لوحظ أمران متضادان فإن كان الشّخص مائلا إلى أحدهما دون الآخر كفى في انتفاء الآخر عدم تعلق الميل به ولم يكن تركه مستندا إلى ميل ضده وإن كان مائلا إليهما معا فلا يوجد شيء منهما إلاّ بعد غلبة الميل إلى أحدهما فإذا غلب الميل في أحدهما بحيث تعقبه الفعل فهذا هو المعبّر عنه بالإرادة ولا ريب أنّها إنّما وجدت حين عدم تعلق الإرادة بالآخر وكيف كان فعدم إرادة المضيّق سابق على إرادة الموسّع ولا أقل من التّقارن فيكون ترك المضيّق مستندا إليه دائما فلا وقع للاعتراض المذكور وأمّا الثّاني فلأنّ غمض العين عن علة التّرك مما لا معنى له وعدم انحصار الصّارف في إرادة الضّد لا يرفع الاعتراض في خصوص المورد الّذي استند إليه وما ذكره من الفرع المذكور لا ربط له بالمقام لأنّ غاية ما يلزم فيه اشتراط وجوب الصّلاة بإرادتها ولا ريب أنّ هذه الإرادة غير الإرادة الّتي نتكلم عليها لأنّها الميل السّابق على الفعل والكلام إنّما هو في الإرادة الّتي لا تنفك عنها الفعل والأوّل ليس علة ولا سببا حتى يلزم اشتراط وجوب الشّيء بوجود السّبب فافهم فانقدح مما ذكرنا أنّ الضّد إذا كان واجبا موسعا صح الإتيان به ولم يتعلق به نهي مفسد بناء على جعل التّرك مقدمة وحينئذ فإذا كان عليه دين وشرع في الصّلاة صحت وهل يجوز إبطالها أو لا التّحقيق أنّه إن أبطلها واشتغل بالمضيّق كشف ذلك عن عدم وجوبها من أوّل الأمر لاشتراطه بكون الشّخص ممن يتلبّس بمعصية الأداء مقدار الصّلاة فيكون هذا بطلانا لا إبطالا وإن أبطلها من غير اشتغال به كان حراما هذا بناء على تصحيحها بما قلنا من وجوب خصوص المقدمة الموصلة وأمّا من صححها بعد تسليم مقدميّة التّرك ووجوب المقدمة وحرمة فعل الضّد بجواز اجتماع الأمر والنّهي لتعدد الجهة فيلزمه القول بحرمة الإبطال فيتعارض مع حرمة تأخير المضيّق فلا بد له من ملاحظة التّرجيح في تقديم أحدهما على الآخر لكن التّحقيق عدم جواز اجتماع الأمر والنّهي كما ستعرفه إن شاء الله فجملة القول في المقام الأوّل أنّ الأمر بالشّيء لا يقتضي النّهي عن الضّد الخاص بأن يصير حراما وإنّما يقتضي مطلوبيّة تركه الموصل من باب المقدمة إن سلم مقدميّة التّرك ولا يلزم فساده إن كان عبادة بما بينا وأمّا المقام الثّاني أعني البناء على جعل محل الكلام في الوجوب النّفسي لترك الضّد من جهة عدم جواز اختلاف المتلازمين فنقول قد بينا في المقدمات جواز اختلاف المتلازمين في مثل المقام إذا لم يلزم منه تكليف بما لا يطاق فغاية ما يلزم من وجوب الشّيء عدم وجوب ضده لا حرمته كما هو معنى النّهي ولذا ذكر الشّيخ البهائي أنّه لو أبدل عمل النّهي عن الضّد بعدم الأمر به فيفسد لكان أولى وهو تمام إن أراد الأمر بالضّد في عرض الأمر الأوّل فإنّه مستلزم للأمر بالضّدين وهل يمكن تصوير الأمر التّرتيبي حينئذ أو لا فيه إشكال لأنّ ترك الضّد حينئذ لا يمكن أخذه في موضوع التّكليف وهو المكلّف لوجوب تقدم موضوع التّكليف على الحكم ولو طبعا وهو ثابت إذا كان التّرك

 

مقدمة وأمّا إذا كان من المقارنات لفعل الضّد فلا تقدم له طبعا حتى يؤخذ في موضوع التّكليف لكن يمكن أن يقال إنّ التّلبس بالصّارف عن المأمور به مأخوذ في المكلّف فكأنّه قال أيّها المتلبّس بالصّارف عن الأداء صل بشرط التّلبّس وليس حينئذ تكليف بالأداء لأنّ مع شرط وجود الصّارف يكون التّكليف بالأداء تكليفا بما لا يطاق نعم نفس التّلبّس حرام فيكون نظير الشّروط الغير الاختياريّة كما مر وبالجملة فالصّارف عن الأداء متقدم على الصّلاة فيمكن أخذه في موضوع التّكليف فتأمل وعلى هذا فيجوز تعلق الأمر بالضّد وصحته ولا يدل الأمر بالشّيء على فساده ولا على النّهي عنه ولا على عدم الأمر به سواء قلنا بمقدميّة التّرك ووجوب المقدمة أو لا هذا تمام الكلام على عنوان الأصوليّين من جعل النّزاع في خصوص الأمر الوجوبي والمقام الثّاني في طريقة المتكلمين وهي أنّ إرادة الشّيء هل تستلزم كراهة ضده أو لا فنقول إنّ هذا العنوان يمكن استفادته من كلمات الأصوليّين أيضا لما مر أنهم ذكروا أن الأمر الاستحبابي هل يقتضي النّهي التّنزيهي عن الضّد أو لا ولا ريب أن فصل الاستحباب وهو الإذن في التّرك لا يقتضي النّهي عن الضّد قطعا فمحل الكلام استفادة ذلك من الجنس وهو الطلب فيرجع إلى عنوان المتكلمين والحق فيه عدم الاقتضاء مطلقا أمّا في الضّد العام فلأنّ مطلوبيّة الفعل أعمّ من مكروهيّة التّرك لأنّ المراد من المكروه هو ما يكون مبغوضا للشّخص بحيث يتنفر عنه وينضحر من وجوده ولا يثبت هذا المعنى للتّرك بمحض مطلوبيّة الفعل نعم لو كان في التّرك منقصة وحزازة في نفسه كان مكروها لوجود تلك المنقصة لا لاقتضاء الطلب نعم يلزم من مطلوبيّة الفعل عدم مطلوبيّة التّرك بل مرجوحيّته بالنّسبة إلى الفعل لا مبغوضيته وانضجار الطلب من تحققه ولذا اتفقوا على أنّ ترك المستحب ليس بمكروه كما سبق نقله عن السّيّد وأمّا في الضّد الخاص فلأن غاية الأمر كون تركه مقدمة للمطلوب وقد بينا أنّ نفس ترك المطلوب ليس بمكروه فكيف ترك مقدماته فلا يكون ترك ترك الضّد وهو فعله مكروها

تذييل فيه تنبيهان

الأوّل

هل النّهي عن الشّيء تحريما يقتضي الأمر بضده وجوبا أو لا والتّحقيق في الضّد العام الاقتضاء بالعينيّة لأنّ النّهي معناه طلب التّرك حتما ومعناه وجوب التّرك وأمّا الضّد الخاص فالقول بالاقتضاء فيه هو المنقول عن الكعبي في منع المباح لأنّه ضد الحرام فيكون واجبا لأنّه سبب لترك الحرام وهو واجب وعلة الواجب واجبة أو لأنّه ملازم مع ترك الحرام ولا يجوز اختلاف المتلازمين وقد عرفت الجواب ومجمله أنّ سبب ترك الحرام هو الصّارف فإنّه مقدم على فعل المباح وعدم جواز اختلاف المتلازمين ممنوع

الثّاني

كراهة الشّيء هل تستلزم إرادة ضده أو لا التّحقيق في الضّد العام أيضا هو الاقتضاء عينا إذ ليس كراهة الشّيء إلاّ مطلوبيّة تركه وأمّا الضّد الخاص فلا اقتضاء كما عرفت بل يرجع إلى إرادة الصّارف فافهم

أصل هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد

وبعبارة أخرى إذا

 

ورد أمر بفعل في وقت خاص فهل يقتضي ذلك الأمر وجوبه بعد ذلك الوقت أو لا فالنزاع إنّما هو في المسألة اللّغويّة أعني في دلالة الأمر والمدرك فيها هو أنّ المتبادر من الأمر إيجاب خصوص الأمر المقيد أو لا بل إيجاب شيئين متغايرين ذات الفعل مطلقا وخصوصيّة الوقت وأنّ ذكر الخصوصيّة إنّما هو من باب ذكر أحد الأفراد والمطلوب هو الفعل المطلق ولا ريب أنّ المتبادر والظاهر من الأمر هو إيجاب الأمر المقيّد فوجوب الفعل خارج الوقت لا يستفاد من الأمر الأوّل بل يحتاج إلى أمر جديد ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بأنّ الجنس الفعل متمايزان في الخارج وعدمه فما يظهر من العضدي من ابتناء المسألة على ذلك بتقرير أنّهما إذا كانا متمايزين يكون الجنس واجبا في نفسه مستقلا والفصل واجبا آخر والمفروض أنّ وجود الجنس غير وجود الفصل فيكون باقيا بعد ذهاب الفصل فبعد ذهاب الوقت يبقى وجوب الفعل بحاله وأمّا إذا لم يكونا متمايزين فليس المطلوب إلاّ وجودا واحدا وهو وجود الجنس الّذي هو عين وجود الفصل فبعد ذهاب الفصل لا يبقى المطلوب فاسد جدا لأنّه إن أراد أنّ بسبب تمايزهما وعدم تمايزهما يتفاوت ظهور الأمر فعلى التّمايز ظاهر في تعدد المطلوب وعلى عدمه ظاهر في وحدته فيتوجه عليه المنع الظاهر وإن أراد أنّ في صورة التّمايز يمكن تعدد المطلوب وفي صورة عدم التّمايز لا يمكن تعدده ففيه أوّلا أنّ إمكان التّعدد في صورة التّمايز لا يوجب تعدد المطلوب بعد ظهور الأمر في اتحاد المطلوب وثانيا أنّ الفرق بين الصّورتين تحكم لأنّه إن كان خصوصيّة الفصل معتبرة في مطلوبيّة الجنس فلا ريب في انتفائه بانتفاء الفصل على كلا الصّورتين أمّا على صورة عدم التّمايز فظاهر وأمّا على صورة التّمايز فلأنّه وإن كان وجود الجنس غير وجود الفصل لكن وجوده مع كل فصل أيضا غير وجوده مع الفصل الآخر فإذا كان المطلوب وجوده مع الفصل الخاص فبانتفاء الفصل ينتفي مطلوبيّة لانتفاء وجوده الخاص ووجوده مع فصل آخر غير وجوده السّابق فإنّ الصّلاة الموجودة في الوقت غير الموجودة في خارجه فبانتفاء الوقت ينتفي الوجود الأوّل والوجود الثّاني يحتاج إلى أمر جديد وإن لم يكن خصوصيّة الفصل معتبرة في مطلوبيّة الجنس فلا ريب في بقائه بذهاب الفصل على الصّورتين لأنّ المطلوب هو الجنس لا بشرط ففي صورة التّمايز الأمر ظاهر وفي غير صورة التّمايز نقول إنّ الجنس وإن كان عين الفصل في الوجود ولكن وجوده بوجود كل فصل غير وجوده بوجود فصل آخر فله وجودات متعددة فإذا لم يكن الخصوصيّة معتبرة يكون المطلوب إيجاد الجنس مع أي فصل كان فإذا انتفى فصل لم ينتف مطلوبيّة الجنس وإلى ما ذكرنا ينظر كلام بعض المحققين حيث رد على العضدي بأنّ في صورة التّمايز يمكن إرادة الهيئة الاجتماعيّة فلا يبقى المطلوب بانتفاء الوقت وفي صورة عدم التّمايز يحتمل أن يكون المطلوب هو المطلق ويكون ذكر الخاص من باب المثال لكونه من أحد الأفراد فلا ينتفي المطلوب بانتفاء

 

الخصوصيّة هذا وقد يقرر النّزاع في المسألة بوجه آخر وهو أنّه إذا وجب فعل مقيدا بوقت خاص وانتفى فعله في الوقت فهل يجب فعله بعد الوقت بمقتضى الأصول والقواعد الشّرعيّة أو لا فيكون المسألة فقهيّة ويمكن أن يتوهم أنّ إجراء الأصول والقواعد متوقف على تمايز الجنس والفصل في الخارج لأنّ الجنس حينئذ قد ثبت له الوجوب قطعا إمّا مركبا مع الفصل الخاص أو لا بشرط فبعد انتفاء الفصل يمكن استصحاب وجوب الجنس غاية الأمر أنّ وجوبه مردد بين شيئين الوجوب النّفسي والغيري المقدمي الثّابت لأجزاء المركب والأمر المردد يجوز استصحابه كما يجوز استصحاب الحيوان المردد بين الفيل والبقّ إلى زمان بقاء الفيل وإن لم يحكم بكونه فيلا وكذا قاعدة ما لا يدرك كله لا يترك كله والميسور لا يسقط بالمعسور لأنّ مجراها المركبات الخارجيّة والمفروض أنّ الجنس والفصل متمايزان في الخارج وأمّا على عدم التّمايز فلا مجرى للاستصحاب للقطع بزوال الموضوع وهو الجنس فلا يبقى شيء يستصحب له الوجوب وكذا القواعد ما عرفت من عدم جريانها في المركبات العقليّة وفيه نظر أمّا أوّلا فلما عرفت من أنّ الجنس والفصل وإن كانا متمايزين لكن وجود الجنس مع كل فصل غير وجوده مع الفصل الآخر فإن أريد استصحاب وجوب الجنس اللابشرط فهو بما لم يتيقّن له وجوب أصلا أو الجنس الخاص فقد زال قطعا كما أنّه لو وجب عليه ذبح الغنم بالنذر فلو فقد الغنم لم يمكن استصحاب وجوب ذبح الحيوان في ضمن البقر مثلا ولو قطع النّظر عن هذا جرى الاستصحاب في صورة عدم التّمايز أيضا لأنّ ذات الجنس غير الفصل قطعا وإن اتحدا وجودا فليستصحب وجوب ذات الجنس وهو يمكن وجوده بفصل آخر فليكن واجبا نعم لا يجري في القواعد لظهورها في المركبات الخارجيّة كما ذكرنا وأمّا رأينا فلأنّه لو سلمنا ذلك في الجنس والفصل فلا يجري في الموقت والوقت لأنّ الوقت ليس من أجزاء الواجب بل هو من قبيل الشّرائط ومجرى القاعدة هو ما كان مركبا من الأجزاء فلا يجري في الشّرائط واللّوازم ولذا ذكروا أنّه لا يمكن الاستدلال بهذه القاعدة على وجوب الاستدامة الحكميّة في النّيّة بناء على أنّ النّيّة الواجبة هي الإخطار بالبال ولازمه عدم قصد الخلاف ولا يمكن استدامة نفس الإخطار فيجب استدامة لازمه وهو عدم قصد الخلاف للقاعدة المذكورة ووجه الفساد ما عرفت ولكن مدرك القاعدة المذكورة لا يختص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لا يدرك كله لا يترك كله وقوله عليه‌السلام إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم حتى يقال باختصاصها بالكل والجزء نظرا إلى لفظ الكل في الأوّل وكلمة من في الثّاني وذلك لأنّ قوله عليه‌السلام الميسور لا يسقط بالمعسور بظاهره يشمل الشّرط والمشروط واللازم والملزوم أيضا غاية الأمر خروج ما لا ربط فيه بين الميسور والمعسور كالصّلاة والصّوم مثلا لبداهة عدم السّقوط فيه لكن يبقى فيه كل ما فيه ربط ولو بالتّقييد ولا ينحصر الارتباط في الجزئيّة وعليه فيشكل ما ذكرنا من عدم جريان القاعدة في المقام ولكن يمكن أن يقال إنّ الظاهر من عدم السّقوط بقاء الميسور السّابق بعينه عرفا لا ما يشاكله

 

وصوم يوم الجمعة ليس عين صوم يوم الخميس عرفا بخلاف الصّلاة بالنّسبة إلى ستر العورة فإنّها مع السّتر عينها مع عدمه عرفا فيمكن جريان القاعدة فيها ثم لا يخفى عليك أنّ الفقهاء ربما يحكمون في بعض المواضع بما يتوهم استنادهم فيه إلى القاعدة المذكورة كما يحكمون بوجوب الصّلاة عاريا على من ليس له ساتر وهنا وإن أمكن الاستناد إليها لكن ليس يلازم بل للحكم مدرك آخر أيضا فإذا تعلق أمر مطلق بشيء وورد الدّليل على تقييده بقيد خاص فقد يكون ذلك الدّليل المقيد مطلقا بحيث يشمل بإطلاقه جميع الحالات فحينئذ يوجب تقييد المطلق كذلك وقد لا يكون مطلقا وحينئذ فيجب الاقتصار على القدر المتيقّن من التّقييد ويرجع في الموارد المشكوكة إلى إطلاق الأمر الأول كما أنّه ورد الأمر بالصّلاة ودل الدّليل على اشتراط السّتر ولكن لا يفهم من دليل التّقييد إلاّ شرطيّة السّتر حال التّمكن فيرجع في حال عدم التّمكن إلى إطلاق الأمر بالصّلاة بل ربما يدعى ذلك ولو كان دليل التّقييد مطلقا نظرا إلى استفادة أنّ الأصل في الشّرائط أن تكون علميّة اختياريّة عمديّة فتسقط في غيرها من قوله عليه‌السلام رفع عن أمتي تسعة ومنها ما لا يعلمون وما لا يطيقون بناء على أنّ المراد رفع جميع الآثار إذا عرفت ذلك فنقول لا يمكن إجراء أمثال ذلك أيضا فيما نحن فيه لأنّ مثل قوله صم يوم الخميس لا إطلاق فيه حتى يرجع إليه عند الشّك ويوجب الاقتصار من المقيد على القدر المتيقّن بل هو خطاب واحد متعلق بالمقيد فعلم أنّه لا يمكن إثبات وجوب القضاء بالأمر الأوّل ولا بالأصول والقواعد الشّريعة وربما يستدل على أنّ الأصل في العبادات مشروعيّة القضاء بقوله تعالى وهو الّذي جعل اللّيل والنّهار خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا بتقريب أن المراد بالخلفة الخليفة فهذا نظير قولهم زيد بمنزلة عمرو فيفيد العموم لما ثبت في موضعه من عموم المنزلة والمراد من التّذكّر والشّكور الذّكر والشّكر ولا ريب أنّ قضاء العبادة مشتمل عليهما فيدلّ الآية على جواز قضاء عبادة النّهار ليلا وبالعكس وفيه أوّلا أنّه لا يجري في غير الصّلاة من سائر العبادات كالصّوم والحج ونحوهما مع أنّها لا تدل على جواز قضاء صلاة اليوم في الغد إلاّ بتكليف بأن يقال إنّه إذا كان اللّيل خلفة عن اليوم كان الغد بمنزلة اللّيل في كونه خلفة عن اليوم أيضا وثانيا أنّه لا ينحصر معنى الآية فيما ذكر بل قيل فيها وجهان آخران أحدهما أنّ المعنى أنّه جعل كل منهما في عقب الآخر عبرة لأولي الأبصار الّذين يذكرون الله قياما وقعودا الشّاكرين لله على نعمائه فإنّ منها خلق اللّيل والنّهار فمن أراد التّذكر والشّكر فلينظر بعين التّدبر إلى كيفيّة تعاقب اللّيل والنّهار وولوج أحدهما في صاحبه فيستدلّ على أنّ هناك خالقا يولج اللّيل في النّهار ويولج النّهار في اللّيل ويشكره على هذه النّعمة العظيمة فإنّ الشّكر فرع المعرفة الثّاني أنّها بيان لسعة أوقات الطّاعات الغير الموقتة بوقت خاص والمراد أنّ من أراد الذّكر والشّكر فزمانه وسيع هذا اللّيل والنّهار يتعاقبان فإن أراد ففي النّهار وإن أراد ففي اللّيل ويؤيده أنّ القضاء ما لم يثبت كونه مأمورا به لم يدخل في عنوان الشّكر لأنّ كون العمل شكرا فرع كونه مأمورا به

 

فيكون المراد إتيان ما علم كونه مأمورا به لا ما هو مشكوك الأمر وبالجملة فلا دليل يركن إليه النّفس بحيث يدل عموما على مشروعيّة قضاء كل عبادة نعم ورد في مثل خصوص الصّلاة والصّوم ونحوهما الأمر بقضاء الفائت منها ولكن لا عموم فيها أيضا بحيث يشمل جميع المقامات إلاّ أن يقال إنّ ورود الأمر بوجوب قضاء صلاة الظّهر مثلا في الواقعة الخاصة كاشف عن تعدد المطلوب بالأمر المتعلق بصلاة الظّهر أحدهما الطّبيعة والثّاني خصوصيّة الوقت فهما تكليفان مستقلان ولذا بقي الأوّل مع انتفاء الثّاني وحينئذ فيدلّ على وجوب القضاء حتى في غير تلك الواقعة وهو مشكل لعدم الملازمة لإمكان كون التّكليف الأوّل مختصا بخصوص الصّلاة في الوقت وكون التّكليف الثّاني تكليفا مستقلا ورد في الواقعة الخاصة لا كاشفة عن تعدد المطلوب بالأمر الأوّل نظير الأمر بالتّيمم فإنّه لا يكشف عن أنّ المطلوب في الأمر بالوضوء شيئان الطّهارة وخصوص الوضوء فإذا انتفى الثّاني بقي الأوّل فتأمل (تذييل) قد فرّعوا على المسألة أمورا عدوها من جملة ثمراتها منها إجارة الأعمال في الأوقات الخاصة والأمكنة المخصوصة كمن آجر نفسه عن الميت في قضاء الصّلاة في الشّهر الفلاني أو المسجد الفلاني فإن قلنا في هذه المسألة باستفادة الطّلبين من الأمر جاز للأجير فعل الصّلاة في غير ذلك الوقت والمكان عند تعذرهما وإلا فلا إذ لا فرق بين الأوامر الشّرعيّة والعرفيّة إذ المناط واحد وهو استفادة الطّلبين وعدمه ومنها الوكالة على إيقاع عقدي يوم خاص أو مكان خاص بالتّقريب المتقدم ومنها مسألة غسل الميت بماء السّدر والكافور فإن تعذرا وجب بدلهما الغسل بالماء القراح إن قلنا بتعدد المطلوب وإلا فلا فإنّ قوله اغسله بماء السّدر إن فهم منه طلبان أحدهما متعلق بالغسل بطبيعة الماء والآخر بخصوصيّة السّدر والكافور فمع تعدد الثّاني يبقى الأوّل وإلا فلا هذا ما ذكروه أقول قد يراد تفريع ما ذكر على المسألة بناء على جعلها لغويّة وقد يراد التّفريع بناء على جعلها فقهيّة أمّا على الأوّل فنقول إنّ الكلام في مثل إجارة الأعمال صحيح لا ضير فيه وقد تعرض له الفقهاء بعبارة أخرى وهي أن المقصود في مثل هذه المقامات إمّا جعل الثّمن في مقابل العمل الخاص بحيث يكون الخصوصيّة داخلة في متعلق الإجارة وإمّا جعل الثّمن في مقابل طبيعة العمل ويكون الخصوصيّة من قبيل الشّرائط والالتزامات الّتي قد ثبتت في ضمن العقد فعلى الأوّل لا يستحق الأجرة إن خالف الخصوصيّة بخلافه على الثّاني لأنّ الشّرط ليس جزءا داخلا في متعلق الإجارة وإنّما هو التزام يوجب جواز فسخ العقد إن خولف هذا ولكن في جعله متلازما مع هذه المسألة تأمل لجواز أن يقال إنّ في الأوامر الشّرعيّة الظّاهر المتبادر في العرف هو الطّلب والأمر الواحد المتعلق بالشّيء الخاص بخلاف مثل الإجارة إذ الظّن معا مطلوبيّة نفس العمل وإنّما الخصوصيّة أمر زائد من قبيل الشّروط الثّابتة في ضمن العقد وكذا في مسألة الوكالة على احتمال وأمّا مسألة الغسل فلا يتفرع على ما نحن فيه لأنّا وإن قلنا في هذه المسألة بتعدد المطلوب لم يكن لنا القول به في مسألة الغسل لأن مقتضى تعدد المطلوب إجزاء الغسل بالماء القراح بل لا عن السّدر والكافور وإن تمكن منهما

 

غاية الأمر أنّه حينئذ عاص للأمر المتعلق بالخصوصيّة وهو لا يوجب عدم الإجزاء بالنّسبة إلى الأمر المتعلق بالطّبيعة نظير من نذر الموالاة في الوضوء بمعنى التّعاقب لا الموالاة الّتي هي شرطه فإنّه إذا توضأ بدون التّعاقب لم يكن باطلا نعم يكون مخالفا لنذره مع أنّهم اتفقوا على عدم جواز الغسل بالماء القراح مع التّمكن منهما فهذا كاشف عن وحدة المطلوب ولا يرد مثله في الصّلاة حيث إنّها مع التّمكن من فعلها في الوقت لا يجوز فعلها في خارج الوقت فلا يجتمع مع تعدد المطلوب وذلك لأنّها مع التّمكن من الوقت لا يتصور فعلها خارج الوقت حتى يكون مجزيا أو لا إلا أن يورد فعلها قبل الوقت المحدود فإنّ مقتضى تعدد المطلوب الاكتفاء بها قبل الوقت مع أنّه خلاف الإجماع فيكون نظير مسألة الغسل وأمّا على الثّاني وحاصله إجراء القواعد الفقهيّة فيما ذكر فنقول إنّا لم نجد من تعرض لإجراء قاعدة المعسور والميسور في إجارة الأعمال لكنهم استندوا إليها في كثير من نظائرها حيث حكموا فيما لو أوصى بصرف ثلثه في بناء مسجد بطرح مخصوص ولم يف المال بذلك أو تلف بعض المال بأنّه يجب كل ما أمكن ولو بتعمير مسجد آخر وإن لم يكن ففي مطلق البر عملا بالقاعدة وكما حكموا في أنّه لو نذر الحج ماشيا فلم يتمكن فليحج راكبا أو نذر ركعتين من صلاة قائما فلم يتمكن فليصل قاعدا لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ولا يختص ذلك بمسألة إجارة الأعمال بل لو تم هنا لجرى في مواضع كثيرة منها تبعض الصّفقة فإنّه لو ضم ما لا يملك إلى ما يملك صح العقد فيما يملك بالقاعدة وكذا لو جعل المهر خمرا أو خنزيرا صح وانتقل إلى القيمة كما ذكره بعضهم ويظهر من الشّيخ حيث حكم بأنّ المقبوض بالعقد الفاسد مضمون بالمثل أو القيمة فإنّ الظّاهر أنّ مدركه القاعدة المذكورة حيث تعذر المسمى لفساد العقد فالميسور وهو المثل أو القيمة مضمون وغير ذلك من الموارد والتّحقيق عدم جريان القاعدة في أمثال ذلك ولا فيما نحن فيه بل هي إنّما تجري فيما إذا تعلق الأمر بعمل مركب من حيث إنّه مركب وحينئذ إذا تعذر أجزاؤه وجب الباقي كالصّلاة فإنّها عبارة عن عمل مركب وهي اسم لها لا عنوان إذ المراد بالعنوان الوصف المنتزع من ذات الشّيء أو من عوارضه أمّا لو كان متعلق الأمر عنوان بسيط ويكون المحصل لذلك العنوان أمر مركب فحينئذ إذا تعذر بعض أجزائه لم يجب الباقي لفوات المطلوب أعني ذلك العنوان بالكليّة فليس للمطلوب أجزاء يذهب بعضها ويبقى البعض وما نحن فيه من هذا القبيل فإنّ الأجير على العمل الخاص إنّما يجب عليه العمل بعنوان أنّه حق للمستأجر والمحصل للحق هو العمل في الوقت الخاص فإذا فات الوقت فلا حق حتى يحصل بالعمل وكذا في تبعض الصّفقة فإنّ البيع إنّما ورد على الهيئة الاجتماعيّة وهي أمر واحد قائم بالمجموع تفوت بفوات البعض وكذا في الوكالة لأنّها استنابة في شيء خاص مع أنّ فيما نحن فيه إن أريد إثبات الحكم التّعبدي بالقاعدة أعني وجوب العمل على الأجير بعد الوقت المحدود من دون استحقاق الأجرة فلم يقل به أحد وإن أريد إثبات استحقاق الأجرة فقد ثبت بالأدلة أنّ استحقاق الأجرة على العمل الشّخص فرع إذنه في العمل وهو مفقود في المقام والقاعدة

 

لا نثبت إذن المالك في العمل بعد الوقت المحدود فيتعارض القاعدة مع تلك الأدلة ولا تقاوم تلك الأدلّة أوّلا وثانيا بينهما عموم من وجه فيتساقطان ويبقى أصالة عدم ترتب تلك الأحكام الوضعيّة وكذا الوكالة لأنّ جواز العمل فرع الاستنابة المفقودة فتأمل وأمّا في مسألة الغسل فلم نجد من تعرض لذلك لكن السّيّد في الرّياض لمنعه التّمسك بالقاعدة في المركبات التّقييديّة ذكر أنّه إن كان المقيد لوجوب الغسل بماء السّدر والكافور هو المفيد لوجوب أصل الغسل بأن كان الخبر هكذا وليغسل بماء السّدر لم يجب الغسل بماء القراح إن تعذر السّدر لكن إن كان هناك خبران وكان أحدهما مفيدا لوجوب أصل الغسل ومضمون الآخر وليكن في الماء شيء من السّدر وجب الماء القراح عند التّعذر لأنّهما تكليفان إن تعذر أحدهما لم يسقط الآخر وفيه نظر أولا بأنّه لا فرق بين أن يقال اغسله بماء السّدر ويقول وليكن في الماء شيء من السّدر بعد الأمر بالغسل بالماء لأن التّكليف بإلقاء السّدر في الماء لا يخلو إمّا أن يكون تكليفا نفسيّا أو يكون تكليفا مقدميّا فإنّه إذا كان الواجب الغسل بماء السّدر وجب إلقاء السّدر فيه مقدمة أو يكون إرشادا إلى أنّ المراد بالأمر الأوّل الغسل بماء السّدر والأوّل مخالف الإجماع إذ لو كان تكليفا نفسيّا لكان الغسل بماء القراح بدلا عن السّدر مجزيا غاية الأمر تحقق العصيان بالنّسبة إلى التّكليف الثّاني نظير نذر الموالاة في الوضوء كما سبق وهو خلاف الإجماع وعلى الأخيرين يكون المكلف به الغسل بماء السّدر نعم لو قال إنّ التّكليف بالغسل مطلق والتّكليف الثّاني مقدميّا كان أو إرشاديّا مقيد له في حال التّمكن فقط لأنّه القدر المتيقّن لكان له وجه وثانيا لا نسلم كون المركب تقييديّا في المقام لأنّه وإن كان في صورة الإضافة لكن المراد وجوب الغسل بماء فيه السّدر والإضافة لاميّة لمحض أدنى ملابسته فيكون مركبا انضماميّا ثم التّحقيق إنّا إن قلنا باختصاص القاعدة بالمركب الانضمامي ومنعنا جريانها في الموقت جاز إجراؤها هنا لما عرفت من أنّ المركب هنا انضمامي وكذا إن قلنا بتعميمها للتّقييدي أيضا بل جريانها حينئذ أظهر لأنّ وجه المنع في الموقت إنّما هو عدم بقائه بعد الوقت فلا يصدق عدم سقوط الميسور كما مر وهنا الماء لا يتفاوت بإدخال السّدر فيه وعدمه ويمكن أن يقال إنّا وإن أجرينا القاعدة في المركبات التّقييديّة والانضماميّة لكن لا تجري في المقام لأنّ الظّاهر من دليلها اعتبار تركب نفس العمل بمقتضى كلمة من في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فإنّ ظاهره كون المأتي به جزءا من أصل العمل المأمور به وهنا ليس كذلك فإنّ المأمور به هو الغسل والسّدر والماء من متعلقاته لا أنّهما من أجزاء الغسل فلا يجري القاعدة هنا مع أنّها لو جرت لزم وجوب إلقاء السّدر على الميت عند تعذر الماء وليس كذلك ويمكن دفعه بعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الميسور لا يسقط بالمعسور وما لا يدرك كله لا يترك كله لشمولهما لمتعلقات العمل أيضا فالغسل يحصل بماء السّدر وبمطلق الماء فإذا تعسر الأوّل بقي الثّاني وأمّا إلقاء السّدر فقط فليس غسلا حتى يكون واجبا عند تعذر الماء فتأمل

أصل إتيان المأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء

 

أو لا والمراد بالوجه كل ما يعتبر في العمل شرطا وجزءا لا خصوص الوجوب والنّدب على ما هو مصطلح الفقهاء وتحقيق المسألة موقوف على بيان أمور

الأوّل الإجزاء في اللّغة

الكفاية وهو في المسألة من صفات المأمور به فالمراد أن المأمور به إذا فعل بجميع ما يعتبر فيه شرطا وشطرا هل يجزي أو لا وعرف في الاصطلاح بوجهين أحدهما ما أسقط التّعبد به في الجملة وإن لم يسقط القضاء والثّاني ما أسقط القضاء والمراد بالقضاء إتيان الفعل لتدارك خلل واقع في المأمور به وإن كان في الوقت وهذا المعنى أخص من الأوّل إذ كل ما أسقط القضاء أسقط التّعبدي أي الامتثال في الجملة ولا عكس لجواز أن يكون مسقطا للامتثال بالنّسبة إلى أمر ولا يكون مسقطا للقضاء كما سيظهر وقيل بينهما عموم من وجه لأنّ بعض ما يسقط القضاء لا يقتضي الامتثال كصلاة العيد الفاسدة فإنّها لا تقتضي الامتثال فلو تبقى وقتها وجب الإعادة ولكن تسقط القضاء إذ لا قضاء لها شرعا وفيه أوّلا أنّا قد بينا أنّ المراد بالقضاء أعمّ من الإعادة فهي لم تسقط القضاء أيضا إذ لو بقي الوقت وجب القضاء بهذا المعنى كما ذكره وثانيا أنّها لا تسقط القضاء المصطلح أيضا إذ المراد بمسقط القضاء العمل الّذي وقع بحيث لو كان له قضاء شرعا لسقط والفاسدة ليست كذلك نعم لو كان المراد ما أسقط القضاء ولو لعدم شرعيّة القضاء له لكان ما ذكر صحيحا لكنّه خلاف المتبادر من إسقاط القضاء بل المتبادر ما أسقط القضاء فعلا بأن يكون له قضاء ويسقطه من حينه ولما كان هذا غير متصور في العبادات الموقّتة لأنّها إنّما تسقط القضاء بالنّسبة إلى ما بعد الوقت لا من حينها فالمراد وقوعها تام الأجزاء والشّرائط بحيث لو كان لها قضاء في الشّرع بعد الوقت لم يكن واجبا وهذا المعنى مفقود بالنّسبة إلى فاسدة العيد

الثّاني لا ريب في أنّ الإجزاء بالمعنى الأوّل لا يقبل الخلاف

لأنّ حصول الامتثال للأمر بإتيان المأمور به تام الأجزاء والشّرائط بديهي ولا معنى للامتثال عقيب الامتثال فيكون النّزاع في المعنى الثّاني لكن لا بالنّسبة إلى الأمر الواحد بل بالنّسبة إلى أمرين لأنّ سقوط التّدارك بالنّسبة إلى الأمر الواحد لا يقبل الإنكار وبيانه أنّهم قسموا الأمر إلى أقسام أربعة الشّرعي الواقعي الاختياري كالصّلاة مع الطّهارة المائيّة والاضطراري مثلها مع التّيمم والشّرعي الظّاهري كالصّلاة مع استصحاب الطّهارة وظابطة الأمر المستفاد من إيجاب الشّارع العمل بمقتضى أمارة ظنيّة والظّاهري العقلي وهو الأمر المستفاد من حكم العقل بوجوب العمل بالمعتقد كما في الجاهل القاصر إذا اعتقد وجوب الصّلاة قاعدا مثلا ثم لا ريب أنّ إتيان المأمور به يقتضي امتثال الأمر المتعلق به بلا إشكال إنّما الإشكال في سقوط الأمر الآخر بفعل ذلك وعدمه فلو صلى مع التّيمم حين فقد الماء امتثل بالنّسبة إلى الأمر المتعلق بالصّلاة مع التّيمم وإنّما الإشكال في سقوط الصّلاة مع الطّهارة المائيّة بفعل ذلك التّكليف الاضطراري وعدمه وكذا في الظّاهري بالنّسبة إلى الواقعي كما لو صلى بالطّهارة المستصحبة فهل تجزي عن الصّلاة بالطّهارة الواقعيّة أو لا ومبنى النّزاع في هذا وهو أنّ الأوامر المذكورة هل هي من الوجوه والكيفيّات للتكليف الواحد بالنّسبة إلى إمكان وقوعه

 

على أنحاء متعددة بحسب أحوال المكلف فالمطلوب هو طبيعة الصّلاة لكن يريد إيجادها مع الوضوء عند القدرة ومع التّيمم عند العذر أو لا بل التّكليف متعدد بتعدد الحالات وبما ذكرنا علم أنّ النّزاع إنّما هو في أمر عقلي وهو التّلازم بين إتيان المأمور به بأمر وبين سقوط المأمور به بغير ذلك الأمر ولكن مدرك النّزاع واستدلال المثبت والنّافي في مبنى المسألة يمكن أن يكون من طريق اللّغة والعرف والعقل كما أنّهم استدلوا في مثل الوضوء والتّيمم على وحدة التّكليف بأنّ الظّاهر من مجموع قوله تعالى أقيموا الصّلاة وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا إلى آخره وإن لم تجدوا ماء فتيمموا أنّ المطلوب هو كلي الصّلاة المشترك بين المقارنة للوضوء والتّيمم فإن قوله تعالى وإن عطف على شرط محذوف تقديره إذا قمتم إلى الصّلاة فإن وجدتم الماء فاغسلوا وإن لم تجدوا عند قيامكم إلى تلك الصّلاة بعينها فتيمموا فاستندوا في وحدة التّكليف إلى الظّهور اللّفظي وكما أنّهم استدلوا على الإجزاء في الحكم الظّاهري بأنّ الشّارع إذا سوغ العمل بأمارة ظنيّة مع إمكان الوصول إلى الواقع بالاحتياط وجب أن يكون في مقتضى تلك الأمارة مصلحة الواقع بعينها لا ناقصة فإن من يشك في الحدث بعد تيقّن الطّهارة يتمكن من درك الصّلاة بالطّهارة الواقعيّة بتجديد الطّهارة ومع ذلك رخص الشّارع في تركها فلا بد أن يكون في الصّلاة باستصحاب الطّهارة فوائد الصّلاة بالطّهارة الواقعيّة ومصالحها وإلاّ لزم تفويت المصلحة على المكلف وإذا ثبت وجود المصلحة ثبت اتحاد التّكليف لأنّ المناط فيه حصول المصلحة وقد حصلت فاستندوا في وحدة التّكليف هنا إلى حكم العقل وبالجملة النّزاع في أصل المسألة في الأمر العقلي وهو التّلازم ولكن في مبنى النّزاع يمكن الاستناد إلى اللّغة والعرف أيضا كما عرفت

الثّالث قد ظهر مما قرّرنا أنّه لا ربط بين هذه المسألة والمسألة السّابقة

لأن النّزاع هنا إنّما هو في صدق عنوان الفوت فلو كان التّكليف واحدا لم يكن فوت بعد إتيان المأمور به وبعد التّعدد يصدق عنوان الفوت وحينئذ يأتي النّزاع في وجوب القضاء بعد الوقت وعدمه وكذا لا ربط بينهما وبين مسألة المرة والتّكرار لتعدد الأمر هنا والنّزاع إنّما هو في أنّ إتيان مقتضى أحد الأمرين بأي نحو كان من الماهيّة والمرة والتّكرار هل يسقط الأمر الآخر أو لا فالنّزاع هنا يمكن على القولين

الرّابع

قد عرفت أنّ النّزاع إنّما يتصور عند تعدد الأمر وأنّ الأمر أقسام أربعة فالنّزاع إنّما هو في مقامات ثلاثة أحدها أنّ امتثال الأمر الظّاهري العقلي هل يسقط الأمر الواقعي الشّرعي أو لا والثّاني أنّ امتثال الظّاهري الشّرعي هل يسقط الواقعي أو لا والثّالث أنّ امتثال الواقعي الاضطراري مسقط عن الاختياري أو لا فيجب التّكلم في كل المقامات تحقيقا للمسألة فنقول

المقام الأوّل

في الظّاهري والعقلي ومثل له بعمل الجاهل الغافل إذا اعتقد خلاف الواقع فعمل بمقتضاه ثم انكشف له الواقع والحق فيه عدم الإجزاء بل هو هنا غير معقول لعدم تعدد الأمر هنا فإنّ الاعتقاد لا يمكن أن يكون سببا لأمر الشّارع

 

لأنّه إمّا مطابق للواقع أو مخالف وعلى الأوّل لا ريب أنّ الأمر الواقعي مسبب عن المصلحة الكائنة في الشّيء مع قطع النّظر عن الاعتقاد والاعتقاد مرآة وطريق صرف إليه وعلى الثّاني لا يمكن أن يكون سببا لحصول الأمر لأنّ الكلام إنّما هو في الغافل وتكليف الشّخص بعنوان فرع علمه بدخوله تحت ذلك العنوان أو الشّخص ما دام جاهلا بالجهل المركب لا يعلم دخوله تحت عنوان الجاهل حتى يكون مكلفا بالعمل بمعتقده وأمّا صحة عمل ناسي بعض أجزاء الصّلاة فإنّما هو لقيام الدّليل على أنّ جزئيّة ذلك الجزء مختصة بحال الذّكر فليس جزءا حال النّسيان فالمأمور به هو ما تذكره من الأجزاء فيمكن تعلق الأمر به بعنوان كونه ذاكرا للأجزاء وإن لم يمكن أمره بعنوان كونه ناسيا لا يقال إنّ مخالفة ما اعتقده تحتمه تجرّي وحرام فيكون مأمورا به وأيضا إتيان ما اعتقد وجوبه إطاعة ومخالفته معصية عرفا والإطاعة وترك المعصية مأمور به عقلا وكل ما حكم به العقل حكم به الشّرع فيتحقق تعدد الأمر ويتحقق الإجزاء لأنّا نقول حرمة التّجري لا توجب ترتب العقاب على الفعل بل هو إنّما يترتب على ما يكشف عنه الفعل من سوء سريرة العبد ولا دليل على أكثر من ذلك فلا يثبت كون العمل المعتقد وجوبه مأمورا به شرعا وأمّا وجوب الإطاعة فهو إرشادي سواء كان من الشّرع أو من العقل والمراد بالأمر الإرشادي ما لا يترتب عليه شيء سوى ما يترتب على متعلقه بخلاف الأمر التّشريعي فإنّه ما يترتب عليه الثّواب والعقاب كالأمر بالصّلاة فإنّه يترتب عليه الثّواب والعقاب والأوّل كالأمر بالطّاعة فإنّه لا يمكن كونه تشريعيّا فإنّ معنى الطّاعة إتيان المأمور به فالأمر التّشريعي إن كان سببا لاستحقاق الثّواب والعقاب فلا ريب أنّ نفس الطّاعة مما يترتب عليه الثّواب لأنّه إتيان المأمور به فلا حاجة إلى الأمر بها وإن لم يكن سببا لم يكن الأمر بالطّاعة أيضا سببا له لأنّه لا يزيد عن الأمر المتعلق بأصل العمل والحاصل أنّ تطابق العقل والشّرع إنّما هو في شيء قابل للتشريع كحرمة الظّلم مع أنّ حكم العقل هنا أيضا إرشادي وبالجملة الأمر الإرشادي ليس أمرا في الحقيقة وإنّما هو إرشاد وتنبيه إلى ما يترتب على متعلقه سلمنا وجوب الطّاعة شرعا فإثباته بصدق الطّاعة دور ظاهر وصدق الطّاعة عرفا غير مسلم إذا أريد بالطّاعة إتيان المأمور به وإن أريد بها كون الشّخص منقادا وموطنا على الامتثال فصدقه مسلم لكن وجوبه عقلا غير مسلم ولو سلم جميع ذلك لم يثبت الإجزاء لأنّ غاية الأمر كونه مأمورا بإتيان المعتقد وأمّا كونه من جملة شئون التّكليف الواحد بحيث يكون المطلوب القدر المشترك بين المعتقد وبين الواقع فيحتاج إلى دليل آخر وهو مفقود فيبقى الأمر الواقعي بحاله فإن علم به في الوقت وجب الامتثال وكذا إن علم به خارج الوقت إن قلنا بتبعيّة القضاء وإلاّ فيحتاج إلى أمر جديد

المقام الثّاني

في الأمر الظّاهري الشّرعي المقتضي للحكم الظّاهري والحكم الظّاهري قد يقال علي الحكم المستفاد من الأصول العمليّة وهي البراءة والاحتياط والتّخيير والاستصحاب وقد يقال على الحكم الّذي في موضوعه الجهل بالواقع وبعبارة أخرى الحكم المستفاد من أصل أو أمارة معتبرة شرعا وهذا المعنى أعمّ من الأول لشموله الأدلة الاجتهاديّة أيضا كأخبار الآحاد ونحوها فالحكم الظّاهري قسمان مدلول

 

الأصل ومدلول الأمارة وكل منهما إمّا في الأحكام الكليّة كأصالة البراءة عن وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال وكالخبر الدّال على وجوب السّورة مثلا وإمّا في الجزئيّات كأصالة البراءة عن الفائتة الزّائدة عند التّردد بين الأقلّ والأكثر ويد المسلم الدّالة على التّذكية فهذه أقسام أربعة والأمر الموجود في كل هذه الأقسام يسمى أمرا ظاهريّا والنّزاع إنّما هو في أنّ إتيان مقتضاه يجزي عن الواقع أو لا فيه قولان الأول الإجزاء لأنّ الحاكم بالأمر الظّاهري هو الشّرع ومن الظّاهر أن أحكامه تابعة للمصالح والمفاسد فإذا أمر بالعمل بمقتضى أصل أو أمارة محتملة الاختلاف مع الواقع وجب أن يكون فيه مصلحة مثل مصلحة الواقع أو أزيد منها وإلاّ لكان الأمر بالعمل بها مع التّمكن من درك الواقع مفوتا للمصلحة على المكلف وهو قبيح فالصّلاة المستصحبة الطّهارة فيها مصلحة الواقع وإلاّ لم يجز الاكتفاء بها مع التّمكن من الواقع بالاحتياط وإذا ثبت أنّ فيها مصلحة الواقع ثبت سقوط الواقع بفعلها إذ ليس المقصود من الواقع إلاّ إدراك المصلحة وقد أدركها فيكون الأمر بالواقع مقيدا ومتعلقا بمن ليس له أمر ظاهري وأمّا بالنّسبة إليه فيكون تخييريّا لإدراك المصلحة بكل منهما الثّاني عدم الإجزاء وهو الحق لما ثبت في محله من بطلان التّصويب وأنّ الحكم الواقعي شيء واحد عند أهله لا يختلف بالعلم والجهل من أدركه فقد أدركه ومن لم يدركه فقد أخطأ وذلك الحكم الواقعي ناش من مصلحة واقعيّة لا تختلف بالعلم والجهل وأمّا الحكم الظّاهري فليس المصلحة فيه أمرا في عرض مصلحة الواقع بل المقتضي للأمر الظّاهري هو تلك المصلحة الواقعيّة فإنّها مقتضية لوجوب العمل بالأحكام الظّاهريّة لكون العمل بها مقدمة لإدراك الواقع كالاحتياط الظّهور أن ليس فيه مصلحة إلاّ مصلحة الواقع فإن قيل إنّ الحكم الظّاهري قد يتخلف عن الواقع فكيف يكون المقتضي لثبوته مصلحة الواقع قلت أوّلا هو نظير الاحتياط فإنّه أيضا قد يتخلف عن الواقع كما لو فعل الفعل المحتمل الوجوب مع عدم وجوبه في الواقع أو حرمته إن لم يكن محتملا في الظّاهر وثانيا أنّه لما كان درك الواقع في جميع الموارد مستلزما لمفاسد كثيرة من اختلال النّظام والعسر والحرج ونحو ذلك وكان مقتضى الأمارات والأصول غالبا مطابقا للواقع اكتفى الشّارع من المكلف بالعمل بها وأوجبه في كل مقام حفظا لموارد المطابقة لالتباس مواردها وموارد المخالفة فالمقتضي لوجوب العمل بها في صورة المخالفة أيضا مصلحة الواقع بمعنى أنّ العمل بها حينئذ موجب لحفظ المصلحة عن التّلف في صورة الموافقة نظير الأمر بالعدة وغسل الجمعة فإنّ الوصول إلى المصلحة إذا كان أكثر جاز ارتكاب المفسدة القليلة للوصول إليها وبالجملة ليس الدّاعي إلى الأمر بالصّلاة المستصحبة الطّهارة الإدراك مصلحة الواقع فإذا انكشف أنّه كان محدثا تبين عدم إدراكها فوجب التّدارك في الوقت وكذا في خارجه إن كان هناك أمر جديد والقول بأنّ فيها مصلحة مثل مصلحة الواقع مقتضية للوجوب باطل لأنّ اجتماع مصلحتين في شيء واحد بحيث يكون كل منهما مقتضيا لحكم على حده محال فيجب أن يكون الصّلاة مع السّورة والصّلاة

 

بدونها نوعين من الصّلاة في كل منهما مصلحة الوجوب الأوّل في حق من أدرك الواقع والثّاني في حق الجاهل فالجاهل بوجوب السّورة مع قيام أمارة أو أصل على عدم وجوبها ليس مكلفا إلاّ بالصّلاة بغير سورة وهل هذا إلاّ القول بالتّصويب وهو خطأ ظاهر ووجهه ما عرفت وتوضيحه أنّ المحقق من مذهب العدليّة هو تحقق الحسن والقبح في الأفعال ذاتا أو بالاعتبارات وإن حكم الشّارع تابع للحسن والقبح فلا يأمر بالفحشاء ولا ينهى عن العدل والإحسان بل بالعكس وذلك الحسن والقبح داعي ومقتضي للأمر والنّهي بعد فرض سلامته عن معارض فالحسن المعارض بالقبح المساوي له أو أزيد لا يقتضي الأمر وبهذا علم أنّه لا يمكن أن يوجد في الفعل الواحد إلاّ مقتضي واحد للحكم الواحد فيكون الحكم فيه واحدا لعدم المقتضي لغيره وهو ثابت عند النّبي وقد جعل للوصول إليه طرقا قد تتخلف عنه وقد عرفت وجهه فالقول بأنّه لا حسن ولا قبح في الأشياء بل لله أن يحكم في كل شيء بكل حكم من الأحكام لكنّه حكم في بعضها وبينه للنّبي وأهمل بعضا ورخص للمجتهدين في الاجتهاد فكل ما فهمه فهو حكمه بمعنى أنّه لا حكم له قبل الاجتهاد وأنّه إنّما يتحقق به فكل مجتهد مصيب ولا حكم له عدا ما فهمه من الأدلّة كما ذهب إليه الأشاعرة فاسد وكذا القول بأنّ الحكم الواقعي ثابت في كل واقعة عند النّبي لكنّه مختص بمن أدركه دون الجاهل الّذي قام عنده الأمارات على خلافه كما هو لازم قول مدعي الإجزاء فإنّه يقتضي أن لا يكون للواقعة في حق الجاهل حكم أصلا قبل الاجتهاد وإن يتعدد الحكم الواقعي في واقعة واحدة مع ما عرفت من امتناع تعدد المقتضي لا يقال إنّ الموضوع متعدد فالعالم موضوع والجاهل موضوع آخر كالمسافر والحاضر ويجوز تعدد المقتضي بالنّسبة إلى موضوعات متعددة لأنّا نقول أوّلا لا دليل على تعدد الموضوع واختلافه بالعلم والجهل بل الظّاهر من الأدلّة الشّرعيّة أنّه لا مدخليّة لهما في الموضوع وثانيا أنّه يلزم خلو الواقعة عن الحكم بالنّسبة إلى الجاهل قبل الاجتهاد وقد عرفت فساده وأيضا فما وجه وجوب الاجتهاد والتّفقه عليه إذ لا حكم حتى يجب تعلمه بل لا يمكن تعلمه لأن العلم بشيء تابع لتحققه في الواقع فإن من البديهيّات تبعيّة العلم للمعلوم فإذا لم يكن حكم في الواقع لم يمكن العلم به وهو ظاهر ثم لو سلمنا أنّ هذا ليس تصويبا باطلا وأنّ الباطل منه هو القول بعدم تحقق الحكم الواقعي في الوقائع الاجتهاديّة أصلا فنقول إنّ في المسألة صورا متعددة لا يجري الدّليل المذكور في جميعها وذلك لأنّ الأصل أو الأمارة إمّا مطابق للواقع أو مخالف والأوّل خارج عن محل الكلام وعلى الثّاني إمّا لا ينكشف الخلاف أصلا أو ينكشف فعلى الأول يتم الدّليل إذ لو لم يكن مجزيا لزم التّفويت وعلى الثّاني إمّا ينكشف الخلاف في الوقت أو في خارجه فعلى الأوّل لا يتم ذلك لأن مقتضى إطلاق الأمر الواقعي وجوب الإعادة فلا يلزم التّفويت نعم لو كان في التّعجيل به في أوّل الوقت مصلحة اقتضى الدّليل المذكور حصولها بالعمل بالأمارة لا مصلحة ذات العمل فإنّ مقتضى إطلاق الأمر ثبوت الاشتغال به فيترتب عليه آثار الاشتغال بالفريضة من بطلان التّطوع وغيره مما يترتب على نفس الاشتغال بالواقع وأمّا ما يترتب على العلم بالاشتغال كالتّطوع

 

على وجه فلا يترتب فساده على الاشتغال الواقعي إذا أتى به حال الجهل بالواقع وعلى الثّاني إمّا نقول بكون القضاء بالأمر الأول أو بأمر جديد فعلى الأول لا يتم إلاّ بالنّسبة إلى مصلحة التّعجيل في مجموع الوقت لا مصلحة ذات العمل لاقتضاء الأمر الواقعي وجوب القضاء فلا تفويت وعلى الثّاني إمّا لا يوجد أمر جديد بالقضاء أو يوجد فعلى الأول يتم الدّليل للزوم التّفويت على فرض عدم الإجزاء وعلى الثّاني قد يتوهم ذلك أيضا بناء على أنّ وجوب القضاء حينئذ مترتب على فوت الواقع فيكون التّفويت من الشّارع بناء على عدم الإجزاء ولكن فيه أنّ فوت الواقع ثابت حينئذ قطعا سواء ظنا بالإجزاء أو عدمه إذ غاية الأمر في الإجزاء تدارك الواقع بالأمر الظّاهري والقضاء أيضا تدارك فبعد ثبوت الأمر بالقضاء يثبت التّدارك فلا يلزم تفويت المصلحة بناء على عدم الإجزاء إلاّ أن يقال إنّ مصلحة القضاء أنقص من مصلحة الأداء المترتب بينهما فيلزم تفويت المقدار الزّائد بخلاف ما لو قيل بالإجزاء لتدارك الجميع لكن هذا لا يلزم منه إلاّ تدارك المقدار الزّائد بالأمر الظّاهري والباقي بالقضاء فتأمّل وقد يستدل للقول بالإجزاء بوجوه أخر منها أصالة البراءة عن وجوب الإعادة والقضاء فإنّ الشّك إنّما هو في التّكليف والشّبهة وجوبيّة ولا خلاف هنا في البراءة ومنها استصحاب عدم وجوب الإعادة والقضاء الثّابت قبل انكشاف الخلاف وفيهما معا أنّ الأصل والاستصحاب لا يقاومان إطلاق الأمر الواقعي الشّامل للجاهل وغيره العامل بالأمارة وغيره ومنها انصراف الإطلاقات إلى غير من قام له الأمارة وفيه أنّه ممنوع ومنها أنّ الإطلاقات إنّما هي تفيد أحكام المشافهين وأمّا الإجماع على الاشتراك فمفقود في المقام للخلاف في الإجزاء وعدمه وفيه أنّه لا خلاف في الاشتراك عند اتحاد الموضوع للإجماع والأخبار المتكثرة فلو كان الحكم بالنّسبة إلى الحاضرين الإجزاء كان في الغائبين أيضا كذلك قطعا وإلاّ فلا وحينئذ فنتمسك بالإطلاقات على عدم الإجزاء بالنّسبة إلى المشافهين مضافا إلى أصالة عدم التّقييد وعدم قرينة المجاز ونحو ذلك وإذا ثبت ذلك في حقهم ثبت في حقنا بالإجماع لاتحاد الموضوع والقول بأنّهم لم يكونوا يعملون بالأصول والأمارات ظاهر الفساد لمن تدبر أدنى تدبر وهذا كله إذا انكشف الخلاف قطعا وأمّا إذا انكشف كشفا ظنّيّا ففيه بين القائلين بعدم الإجزاء في السّابق خلاف وتوضيح المقام أنّه إذا ظهر للمجتهد خلاف ما ظنه أوّلا فلا يخلو من أحد وجهين أحدهما أن يظهر له فساد اجتهاده الأوّل بأن علم أنّه كان ساهيا فيه متوهما غير الدّليل دليلا فهو حينئذ قاطع بأنّه توهم في الدّليل لكنّه ظان بالنّسبة إلى الواقع فهذا أيضا كشف ظني بالنّسبة إلى الواقع وإن كان قطعيّا بالنّسبة إلى فساد الدّليل فهذا يرجع إلى الظّاهري العقلي إذ لم يكن الحكم السّابق حكما شرعيّا بل توهمه حكما فالكلام هو الكلام فيه الثّاني أن يظهر له خلاف ما ظهر له أوّلا مع فرض صحة الاجتهادين كما رأى العام أوّلا فحكم بمقتضاه بعد الفحص عن المخصّص وعدم وجدانه ثم ظهر له المخصّص وهذا على أقسام أحدها أن لا يكون بين المظنونين رابطة كما إذا ظن بوجوب الجمعة عينا ثم ظن بوجوب الظّهر وهذا أيضا خارج عن محل النّزاع كما سيظهر والثّاني أن يكون بينهما رابطة ولكن يلاحظه الاجتهادان بالنّسبة إلى وقتين كما إذا ظن يوم السّبت

 

بوجوب السّورة في الصّلاة ثم ظن في يوم الأحد بعدم وجوبها فلا خلاف هنا في عدم إجزاء الاجتهاد الأوّل بالنّسبة إلى ما بعد الاجتهاد الثّاني والثّالث أن يكون بينهما رابطة ويلاحظان بالنّسبة إلى وقت واحد كما لو ظنّ بوجوب السّورة فصلى الظّهر ثم ظن بعدم وجوبها فهل يجزي ما فعله بالاجتهاد الأوّل أو يجب الإعادة والقضاء فهذا محل النّزاع فنقول إنّ مقتضى ما ذكر سابقا في صورة القطع بالخلاف من أنّ حجيّة الأمارات إنّما هي من جهة الكشف عن الواقع وأنّه ليس فيها مصلحة إلاّ مصلحة الواقع هو عدم الإجزاء لأنّ الدّليل الثّاني كاشف عن فساد الدّليل الأوّل وعدم حصول مصلحة الواقع فيجب الثّانية فالمقتضي لعدم الإجزاء موجود فلا بد لمدعي الإجزاء إمّا من نفي وجود المقتضي أو إثبات المانع فنقول ذهب بعضهم إلى منع وجود المقتضي وقرر بوجوه أحدها منع كون حجيّة الأمارات من جهة الطّريقيّة والكشف وقد مر فساده الثّاني أنّه لم يثبت حجيّة الأمارات بالنّسبة إلى الأعمال اللاحقة وأمّا بالنّسبة إلى السّابقة فلا دليل على حجيتها ولا بدع في تبعض الحجيّة لجواز تفكك اللّوازم في الأحكام الظّاهريّة كثبوت المال دون القطع في السّرقة وثبوت النّجاسة دون الكفر لو دل خبر الواحد على نجاسة المفوّضة وكفرهم مثلا وغير ذلك وفيه أنّ هذا إنّما يتم لو كان دليل حجيّة الأمارات لبيّا وأمّا الأدلّة اللّفظيّة فبإطلاقها يشمل السّابقة واللاحقة لأنّها دالة على أنّه يجب أن يعمل مع مدلول الأمارة معاملة الواقع والواقع لا يتفاوت لاحقا وسابقا الثّالث أنّ الدّليل الثّاني ظني كالأوّل فلا ترجيح له عليه حيث يتعارضان وفيه أن المفروض حجيّة الدّليل الثّاني ووجوب العدول إليه وهو كاشف عن فساد الأوّل على ما هو المفروض فليس معنى حجيته إلاّ الحكم بفساد الأوّل فهو بمنزلة الوارد على الأوّل وذهب بعضهم إلى إثبات المانع وقرره بوجوه أحدها لزوم الحرج فإنّ من صلى بلا سورة خمسين سنة أو أكثر ثم ظهر له جزئيّتها فلا ريب أنّ وجوب القضاء عليه حرج عظيم والثّاني أنّه خلاف السّيرة المستمرة بين النّاس من المجتهدين والمقلّدين عند تجدد الآراء فلا يحكمون بوجوب الإعادة والقضاء ونقض آثار الفتوى الأوّل والثّالث أنّه مستلزم للهرج وعدم الوثوق بالشّرع فإن من يريد تزويج امرأة مثلا يحتمل عنده أن يتجدد رأي مجتهده بحيث يوجب بينونتها عنه بلا طلاق فتزوج بآخر ثم يعدل المجتهد فيجب إرجاعها إلى الأوّل ويلزم التّشاجر والمنازعة فلا يقبل التّزويج لارتفاع وثوقه بالشّرع وغير ذلك من الأمثلة وفي الجميع نظر أمّا الأوّل فلأنّهم اختلفوا في أنّ الحرج يرفع التّكليف شخصا أو نوعا والمراد بالأوّل أنّه إذا كان التّكليف الخاص بالنّسبة إلى مكلف خاص موجبا للحرج فهو مرفوع عنه لا عن غيره ممن ليس عليه حرج والمراد بالثّاني أنّه يلاحظ نوع المكلفين فإن كان ذلك التّكليف حرجا بالنّظر إلى الغالب ارتفع عن النّوع جميعا حتى من ليس عليه عسرا وعلى كل تقدير لا يتم الاستدلال أمّا على جعله شخصيّا فلأن صورة انكشاف الخلاف ظنا تتصور وجوها كثيرة لأنّه إمّا يعدل من مطابق الاحتياط إلى المخالف وهنا لا قضاء وإمّا من المخالف إلى المطابق وحينئذ لا يخلو أعماله السّابقة من أن يكون مطابقة للاحتياط وعدمه لجواز أن يظن بعدم جزئيّة السّورة مثلا لكن يحتاط

 

بقراءتها أو لا يحتاط فعلى الأوّل لا قضاء وعلى الثّاني إمّا يمكن له التّفصي من الاجتهاد الثّاني أو لا فالأوّل كأن يكون مقلدا لمن يرى عدم جزئيّة السّورة فعدل المجتهد وأفتى بجزئيتها فإنّه يمكن للمقلد أن يقلد غيره ممن لا يرى جزئيتها لبطلان تقليده السّابق له برجوع المجتهد فيجوز له تقليد الغير والثّاني كأن يكون مجتهدا أو يكون مقلدا لمجتهد منحصر وحينئذ فإمّا قد سبق له أعمال كثيرة يوجب تداركها الحرج أو لا والثّاني لا يستلزم العسر نعم الأوّل يوجب العسر فيجب الاقتصار عليه حيث إنّ المدار على العسر الشّخصي وأمّا على جعله نوعيّا فلأنّ نوع القضاء والإعادة ليس نوعا مستقلا في التّكليف بحيث يكون له أفراد متأصّلة بل هو منتزع من أنواع مختلفة من العبادات فيجب ملاحظة غلبة العسر بالنّسبة إلى تلك الأنواع فالصّلاة نوع والحج نوع والصّوم نوع يجب ملاحظة غلبة العسر بالنّسبة إليها فلو كان إعادة الصّلاة عسرا على أغلب النّاس ارتفعت بالنّسبة إلى الجميع ولم يرتفع إعادة الصّوم إذا لم توجب العسر هذا مع أنّك قد عرفت منع غلبة العسر لندرة الصّورة الموجبة في المكلفين وأمّا الثّاني فلمنع السّيرة بل المحكي عنهم خلاف ذلك كما حكي أن العلامة قضى جميع عباداته مرارا عديدة وكذا غيره من العلماء وأمّا الثّالث فلما عرفت من ندوره ذلك الصّورة الموجبة للمذكورات مضافا إلى النّقض بصورة كشف الخلاف قطعا فكل ما أجبت هناك فهو جوابنا هنا تذييل قد عرفت أن مورد النّزاع بدليّة الحكم الظّاهري عن الواقعي فاعلم أنّه ربما يحكمون في أبواب الفقه بما يشتبه بالقول بالإجزاء وليس منه مثل حكمهم بصحة الصّلاة في الثّوب المحكوم بطهارته للأصل وإن طهر نجاسته وبصحة الصّلاة إلى غير جهة الكعبة إذا ظنّه جهة الكعبة بالأمارات وبصحة الصّلاة في الثّوب المحكوم بكونه مزكى شرعا وإن ظهر خلافه ووجه ذلك أن حكمهم في جميع ذلك إنّما هو لما ثبت له أنّه ليس شرط الصّلاة إلاّ الطّهارة الظّاهريّة وأنّه يجب استقبال ما ظنّ كونه كعبة وأنّه يكفي في الثّوب التّزكية الظّاهريّة فالحكم الظّاهري يداخل المأمور به تحت أفراد المأمور به الواقعي وتسميته بالظّاهري إنّما هو بالنّسبة إلى كونه خلاف الواقع في نفسه فالطّهارة الثّابتة بالأصل تدخل الصّلاة المتلبسة بها تحت الصّلاة الواقعيّة وإن كانت الطّهارة في نفسها غير متحققة في الواقع وكذا الظّن بالقبلة ولهذا أسند القائل بوجوب الإعادة عند ظهور اختلاف القبلة إلى أنّ الواجب هو استقبال الكعبة واقعا ولم يحصل والقائل بالإجزاء إلى أنّ الواجب هو استقبال المظنون كونه كعبة وقد حصل فتأمّل ولا تغفل تتمة الحكم المعدول عنه لا تفاوت فيه بين أن يكون في الأحكام الشّرعيّة الكليّة أو في الموضوعات الخارجيّة فالأوّل كالاجتهاد في عدم وجوب السّورة والثّاني كالاجتهاد في جهة القبلة فالقول بالإجزاء ثابت فيهما وكذا القول بعده ولا تفصيل في المسألة إلاّ من ما يظهر من بعض الأفاضل وحاصل مذهبه أنّ الواقعة إن كان مما يتعيّن في وقوعها شرعا الأخذ بمقتضى الفتوى السّابق كان مجزيا كما لو أفتى بعدم وجوب السّورة ثم ظهر وجوبها وكما لو أفتى بصحة العقد بالفارسيّة وتزوج بها ثم ظهر الخلاف ونحو ذلك وإن لم يكن مما

 

يتعيّن في وقوعها شرعا الأخذ بمقتضى الفتوى السّابق لم يكن مجزيا كما لو أفتى بطهارة عرق الجنب الحرام ثم ظهر الخلاف وجب غسل الملاقي وكما لو أفتى بعدم نشر الحرمة بعشر رضعات فتزوجها ثم ظهر الخلاف حرمت عليه وكما لو أفتى بحليّة حيوان فذكها ثم ظهر حرمته وجب الاجتناب وتوضيح مطلبه أنّ حكم الاجتهاد الثّاني بالنّسبة إلى الأوّل حكم النّاسخ بالنّسبة إلى المنسوخ فإن كان المفتى به مما يكون وقوعه شرعا مناقضا ومنافيا للعمل بالاجتهاد الثّاني كان مجزيا إذ المفروض وقوعه شرعا فإنّ وقوع العقد بالفارسيّة وقوعا شرعيّا لا يمكن أن يجتمع مع العمل بالاجتهاد الثّاني لأنّه حاكم ببطلانه فالحكم بصحته إنّما يمكن إذا عمل فيه بمقتضى الدّليل الأوّل وقد عمل به فيجري استصحاب آثاره مضافا إلى لزوم الحرج في عدم الإجزاء فيحكم بالإجزاء وأمّا إذا كان المفتى به يمكن وقوعه شرعا مع العمل بمقتضى الاجتهاد الثّاني لم يكن مجزيا كالتّذكية فإنّ وقوعها شرعا يجتمع مع حرمة الحيوان أيضا وهنا لا دليل على الإجزاء لأنّ الحكم الظّاهري فرع الاجتهاد وبعد زوال الاجتهاد يزول هذا حاصل مراده وفيه نظر إذ لا دليل على هذا التّفصيل فإنّ المقتضي للإجزاء في القسم الأوّل وهو الحرج والاستصحاب موجود في الثّاني أيضا والمانع عنه في الثّاني وهو تبعيّة الحكم الظّاهري للاجتهاد موجود في الأوّل أيضا فالأولى أن يقال الوقائع ثلاثة أقسام أحدها الوقائع المتقدمة الغير المربوطة بالمتأخرة أصلا فيحكم فيه بالإجزاء والثّاني الوقائع المتأخرة الّتي لا ربط لها بالاجتهاد الأوّل أصلا فيعمل فيها بالاجتهاد الثّاني والثّالث الوقائع الّتي لها جهتان جهة إلى السّابق وجهة إلى اللاّحق فهنا محل الخلاف وكل من قال بالإجزاء قال به في جميع مسائلها ومن نفى نفى في الجميع والتّفصيل عليل خال عن الدّليل فتأمّل

المقام الثّالث

في أنّ الامتثال بالأمر الواقعي الاضطراري مجز عن الاختياري أو لا ربما يدعى عدم إمكان الإجزاء هنا نظرا إلى أنّ المصلحة في الاضطراري أنقص من الاختياري قطعا وإلاّ لجاز إتيان الاضطراري مع التّمكن من الاختياري أيضا فيلزم تفويت القدر الزائد من المصلحة لو كان الاضطراري مجزيا وهو خلاف اللّطف وفيه أنّه قد يكون تحصيل مقدار خاص من المصلحة مطلوبا لكن إذا حصل المكلف مقدارا من المصلحة أنقص من الأوّل فات محل الأوّل لأنّه مطلوب من حيث المجموع في المحل الفارغ وقد اشتغل المحل بالمقدار النّاقص ففات محل الزائد من حيث المجموع وخصوص التّفاوت وهو الزيادة ليس مطلوبا فهنا نقول إنّ المطلوب أوّلا هو الطّهارة المائيّة فإذا تعذرت وحصلت التّرابيّة فات محل المائيّة لاشتغال المحل بالمصلحة النّاقصة المانعة عن وقوع المصلحة التّامة بتمامها في ذلك المحل لاحتياجها إلى محل فارغ وإذا تحقق إمكان الإجزاء وجب بيان أنّه متحقق فعلا أو لا وقد عرفت في ابتداء المسألة أنّ مبنى المسألة هو وحدة التّكليف وتعدده فنقول إنّ في مسألة الوضوء والتّيمم قد علم وحدة التّكليف من الآية الشّريفة وقد سبق الإشارة إليه وكذا في مثل أقسام الصّلاة حال الاضطرار غير حال

 

التّقيّة وأمّا فيه فتابع لما يستفاد من الدّليل فإن كان مقتضاه الإذن في إتيان الصّلاة بطريق التّقيّة ظاهرا في وحدة التّكليف وإن كان مقتضاه الأمر بالتّقيّة وحفظ النّفس لم يكن ظاهرا في ذلك وإن أمكن الحكم بالإجزاء أيضا لا من حيث الأمر الاضطراري بل لعدم عموم في أدلّة وجوب الجزء المتروك تقيّة بحيث يشمل حال الاضطرار أيضا وكذا في غير التّقيّة من وقائع الاضطرار لكنّه خارج عن محل الكلام فافهم

[أصل في النواهي]

أصل هل النّهي بمادته وهيئته موضوع للتحريم أو لا

والحق هو الأوّل أمّا المادة فللتّبادر عرفا حيث يفهم من قولهم نهي الحرمة بمعنى المنع عن التّرك حتما لا الحرام الذي يستحق فاعله العقاب فإنّه تابع لمرتبة النّاهي وأنّه هل يجب متابعته أو لا وقد يستدل بقوله تعالى ماءاتيكم الرّسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا بتقريب أنّ المراد أنّه يجب الانتهاء عن كل ما نهى عنه الرّسول فيجب أن يكون النّهي للتحريم لعدم وجوب الانتهاء عن المكروهات واعترض بوجوه منها أنّه لا يدل على الوضع شرعا لاحتمال أن يكون النّهي مستعملا في الطّلب الحتمي والاستعمال أعمّ من الحقيقة وفيه أنّه لا قرينة على إرادة ذلك إلاّ لزوم الكذب لو أريد مطلق طلب التّرك ويمكن دفع الكذب بتخصيص النّهي وضعا بالطّلب التّحريمي فلا يتعين قرينة لما ذكر مضافا إلى دلالة الآية بعكس النّقيض على أنّ كل ما يوجب الانتهاء فليس بنهي يقول مطلق وهو المطلوب ومنها أنّه لا يدل على الوضع لغة ويكفي في رده أصالة عدم النّقل بعد ثبوت الوضع شرعا ومنها أنّه لو كان مقيدا للتحريم لما احتاج إلى الأمر بالانتهاء وفيه أنّ إفادة النّهي للتحريم لا يقتضي بنفسها وجوب الإطاعة وإلاّ لوجب إطاعة كل من صدر منه نهي فالآية إنّما هي لبيان وجوب ترك ما حرمه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لوجوب إطاعته دون من لا يجب إطاعته فإنّ نهيه وإن أفاد التّحريم لكن لا يجب ترك ما حرمه بالنّهي وأمّا الصّيغة فلصدق النّهي عليها عرفا مجردا عن القرينة وقد أثبتنا أنّ المادة تفيد الحرمة ويمكن الاستدلال بالآية السّابقة أيضا بناء على أنّ طلب التّرك بالصّيغة داخل في قوله ما نهاكم لصدق النّهي عليه عرفا فيدل الآية على وجوب ترك كل ما طلب تركه بالصّيغة مجردا عن القرينة فيجب أن تكون موضوعة للتحريم وإلاّ لم يجب الانتهاء عنه مطلقا وبعبارة أخرى تدل الآية على أنّ كل ما طلب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تركه بصيغة لا تفعل مجردا عن القرينة فهو واجب التّرك وبعكس النّقيض على أنّ كل ما ليس بواجب التّرك فهو ليس مما طلب الرّسول تركه بصيغة لا تفعل مجردة فيخرج المكروهات عن أن تكون مطلوب التّرك بالصّيغة المجردة فيثبت وضعها للتحريم وهو المطلوب وأمّا ما أفادتهما العلو والاستعلاء وعدمها فالكلام هو الكلام في الأمر وقد مر فراجع

أصل هل المطلوب بالنّهي هو الكف أو نفس أن لا يفعل

ذهب إلى كل فريق احتج الأوّلون بأنّ المطلوب يجب أن يكون مقدورا والعدم غير مقدور لأنّه أمر ثابت قبل الطّلب وأيضا يجب أن يكون في المطلوب مصلحة مقتضية للطلب والعدم لا أثر له حتى يترتب عليه المصلحة والجواب أمّا عن الأوّل فهو أنّ العدم مقدور باعتبار القدرة على استمراره مع أنّه لا يتم فيما إذا كان المكلف مشغولا بالفعل فإن طلب تركه منه حينئذ ليس

 

طلبا لتحصيل الحاصل وأمّا عن الثّاني هو أنّه يكفي في مطلوبيّة التّرك ترتب مفسدة على الفعل ولا يجب تحقق مصلحة في التّرك مع أنّا لا نسلم عدم ترتب الأثر على الأعدام بالإضافة وإن سلم عدم ترتبها على العدم المطلق ثم إنّ القول المذكور مع عدم تماميّة دليله فاسد من أصله إذ المراد من الكف هو التّرك مع الميل إلى الفعل فإن كان مطلوبيّة التّرك مشروطا بالميل لزم عدم وجوبه على من لا ميل له إلى الفعل وجواز ارتكابه له وإن كان الكف واجبا مطلقا بالنّسبة إلى مقدمته وهي الميل لزم وجوب تحصيل الميل مقدمة لحصول الواجب وهو الكف كما هو الشّأن في مقدمات الواجب المطلق ولم يقل بهما أحد فإذا الحق هو القول الثّاني

أصل هل النّهي يقتضي الدّوام أو لا

والكلام فيه يقع في مطالب أحدها أنّ مراد المثبتين غير معلوم بل يحتمل وجوها منها أنّ النّهي موضوع لمعنى يلزمه الدّوام بحيث لو أقيمت قرينة على عدم إرادة الدّوام كان مجازا كما لو استعمل الجملة الشّرطيّة من دون إرادة المفهوم منها ومنها أنّ النّهي وإن لم يكن موضوعا لما يلزمه الدّوام لكن لو أطلق يحكم العقل بإرادة الدّوام منه فلو قيد وأريد منه غير الدّوام لم يكن مجازا ومنها أنّ النّهي المطلق موضوع لنفس الدّوام أو أنّ مطلق النّهي موضوع للدّوام والفرق بينهما أنّه على الأوّل لو استعمل النّهي المقيد في غير الدّوام لم يكن مجازا وأمّا على الثّاني فهو مجاز وأمّا كلام النّافي فيحتمل النّفي لجميع ما يحتمل كلام المثبت ويحتمل النّفي في مقابل بعضها ومقتضى التّحقيق أن يقال لا ريب في بطلان الاحتمال الأخير لعدم الدّليل على وضع النّهي للدوام والوضع توقيفي ومادة النّهي موضوعة للجنس والهيئة لطلب تركها فأين الدّوام وبهذا علم بطلان احتمال الأوّل أيضا مضافا إلى ما نرى من عدم لزوم تنافر ولا تناقض عند تقييد النّهي بما ينافي الدّوام وأمّا الاحتمال الثّاني أعني كون الدّوام مقتضى إطلاق النّهي فنقول إنّ ترك الطّبيعة قد يكون في ضمن جميع الأفراد في جميع الأزمان وقد يكون في ضمن بعض الأفراد أو في بعض الأزمان وحينئذ فيحتمل في النّهي وجوه أربعة اقتضاء إطلاقه العموم الأفرادي والزماني وعدم اقتضائه لشيء منهما واقتضاؤه لأحدهما دون الآخر ذهب بعض المحققين إلى أنّ إطلاق النّهي يقتضي وجوب ترك الطّبيعة بجميع أفرادها لكن لا في جميع الأزمان لصدق ترك الطّبيعة بترك جميع الأفراد ولو في آن واحد فليس الدّوام مقتضى الإطلاق نعم يمكن إثباته بدليل الحكمة وذهب بعضهم إلى أنّ الإطلاق لا يقتضي شيئا نعم يمكن إثبات العموم الأفرادي والأزماني بدليل العقل أمّا الأفرادي فلأنّ ترك فرد واحد من الطّبيعة وإن صدق عليه ترك الطّبيعة لكنّه غير منفك عن المكلّف ضرورة فإنّه إن اشتغل بفرد منها فقد ترك الفرد الآخر فإرادة ترك فرد واحد إرادة لأمر حاصل قهرا فوجب الحمل على العموم الأفرادي حذرا من لزوم الأمر بتحصيل الحاصل وأمّا العموم الزماني فبينوه بوجهين أحدهما أنّ ترك الطّبيعة بجميع أفرادها في آن واحد لازم للمكلّف عادة فلا فائدة في طلبه فيجب أن يكون المطلوب التّرك في جميع الأزمان إذ لا تعيين لمقدار خاص والثّاني أنّ الزمان المطلوب التّرك فيه لو كان معينا عند الأمر لزم

 

الإجمال في كلام الحكيم فيجب الحمل على العموم كما يحمل عليه المفرد المحلى باللاّم واعترض على الأوّل بوجهين أحدهما أنّ الفائدة لا تنحصر في العموم لحصول الفائدة يكون المراد التّرك المتصل بالنّهي فإنّه ليس لازما للشّخص وبالجملة الفائدة تحصل بجعل النّهي للفور وفيه نظر لتصريحهم بعدم التّلازم بين نفي الدّوام وإثبات الفور وبناء على ما ذكر يلزم للقائل بنفي الدّوام أن يجعله للفور لئلا يلزم فوات الفائدة وليس كذلك والثّاني أنّ الفائدة هي تعريض العبد للامتثال فإنّه وإن لزم التّرك قهرا لكنّه لو لم يكن مطلوبا فيه طاعة وامتثال ففائدة النّهي تعريض العبد للطاعة وكسب الثّواب ونوقش بأنّه لم يقل أحد باشتراط قصد القربة في النّواهي بل هي من المعاملات اتفاقا ويحصل البراءة بمحض التّرك ولو من غير قصد فضلا عن قصد القربة وفيه أنّه لم يدع اشتراط القربة في النّواهي وإنّما جعل الفائدة تعريض العبد للطاعة والامتثال وهو غير اشتراطه بل معناه تمكينه منه وهو فائدة عظيمة إلاّ أن يعترض عليه بأنّ ترك الطّبيعة في أنّ ما ضروري للإنسان فليس بمقدور حتى يصح تعلق الطّلب به فتعلق الطّلب من أصله غير صحيح ويمكن دفعه بمنع كونه ضروريّا بل الغالب في أغلب المنهيّات عدم الاستغراق بالفعل لا كليّة كما ترى في مثل الشّرك فإنّه منهي عنه مع أنّه يمكن الاتصاف به دائما فيكون تركه ولو في آن واحد قابلا للطّلب واعترض على الثّاني بأنّه يجوز كون الزمان غير معين في الواقع ويكون المكلّف مخيرا في اليقين كما قال به المستدل في الأمر واستدل على أنّ الإطلاق يستلزم العموم الأفرادي بأنّ المراد بقولهم ترك الطّبيعة يصدق بتركها في ضمن بعض الأفراد وفي ضمن الجميع أنّا إذا لاحظنا ترك الطّبيعة في نفسها وجعلناها حكاية عن الطّبيعة المتعلقة للنّهي كان على التّقديرين صادقا بمعنى أنّ المطلوب إن كان ترك الطّبيعة المطلقة صدق عليه ترك الطّبيعة وإن كان ترك الطّبيعة في ضمن فرد صدق أيضا ولكن الطّبيعة المتعلقة للحكم لا يمكن اعتبارها بطريق التّرديد بين المطلقة والمقيدة بل المطلوب لا يكون إلاّ أحدهما معيّنا وعلى هذا فنقول إذا علق المتكلّم الحكم على الطّبيعة وكان مراده الطّبيعة المقيدة كان الواجب بيان القيد فإذا لم يبينه علم أنّ المطلقة هي بنفسها تمام متعلق الحكم وحينئذ فيسري الحكم إلى جميع أفرادها إذ لو لم يسر إلى الجميع لم يكن الطّبيعة تمام المتعلق للحكم بل كان المتعلق الطّبيعة بانضمام بعض الخصوصيّات دون بعض ثم إنّ بعضهم جعل العموم الزماني مستفادا من العموم الأفرادي بالتّبعيّة بتقريب أنّ الزّمان من مشخصات الأفرادي فإذا قيد النّهي بزمان خاص لزم خروج الأفراد المتأخرة عن ذلك الزمان عن تحت العموم ولزم تخصيص العموم الأفرادي وفيه نظر من وجوه أحدها أنّ تقيد النّهي بزمان لا يستلزم تقييد الطّبيعة المطلقة لأنّ الإطلاق والتّقييد اعتباريّان تابعان لنظر المعتبر فاعتبار التّقييد في زمان الطّلب لا يستلزم اعتباره في المطلوب غاية الأمر لزوم التّقييد فيه قهرا وهو غير التّقييد ولذا ذكروا أنّ الظّرف في قوله عليه‌السلام دعي الصّلاة أيّام أقرائك إن كان قيدا للنّهي كان الصّلاة منهيّا عنها لنفسها

 

وإن كان قيدا للصلاة كانت منهيّا عنها لوصفها وقد ذكره المستدل أيضا فإنّه لو كان تقييد النّهي مستلزما لتقييد المنهي لكان الصّلاة منهيّا عنها لوصفها على كلا التّقديرين والثّاني أنّه استدل على الدّوام بإطلاق الطّبيعة فلو لم يكن الدّوام منافيا لإطلاق الطّبيعة مع أنّه أيضا مستلزم لخروج الأفراد المتأخرة عن مدة العمر فلا يكون التّقييد بالزمان أيضا منافيا للإطلاق ويمكن دفعه بأنه لا يقول باستفادة الدّوام من الإطلاق بل مراده أنّ الإطلاق مستلزم لشمول جميع الأفراد لكن العقل يخصه بالأفراد المقدورة فيخرج الأفراد المتأخّرة عن العمر بحكم العقل ويبقى الباقي تحت عموم الإطلاق لأنّ المطلق إذا قيد من بعض الجهات لم يخرج عن الإطلاق من الجهات الأخر والثّالث أنّ هذا القائل لا يمكنه إثبات العموم الأفرادي أيضا بإطلاق الطّبيعة فكيف بالعموم الزماني وذلك لأنّه ذهب إلى أنّ متعلق الأحكام هو الأفراد وإن كان الأمر واردا على الطّبيعة لأنّ الأمر هو طلب الإيجاد وهذا وارد على الطّبيعة والوجوب هو الطّلب وهو متعلق بالإيجاد والإيجاد إذا نسب إلى الموجود كان عين وجوده لأنّه نسبة بين الفاعل والقابل إذا نسب إلى الأوّل فهو الإيجاد وإذا نسب إلى الثّاني فهو الوجود والحسن والقبح والمصالح والمفاسد إنّما هي من لوازم الأشخاص والوجودات دون الطّبائع وإلاّ لزم كون تصور الزّنا حراما لأنّ لازم الماهيّة يوجد معها في الذّهن أيضا فالحكم متعلق بالأشخاص والأفراد وليس الفرد إلاّ الطّبيعة الموجودة والوجود إنّما يرد على الطّبيعة المطلقة فتصير بسبب ذلك الموجود مقيدة لا أنّها قبل الوجود تصير مقيدة ثم توجد لأن التّحقيق أنّ التّشخص إنّما هو بالوجود وبالجملة الأمر وارد على الطّبيعة المطلقة ولكن متعلق الحكم الأفراد فكذا نقول في النّهي أنّه عبارة عن المنع عن الإيجاد والتّحريم هو المنع فهو وارد على الإيجاد كالأمر فيكون متعلق الحرمة الأفراد وإن كان متعلق النّهي الطّبيعة وقد عرفت أنّ كون متعلق الحكم الفرد لا يوجب تقييد متعلق النّهي سواء أريد فرد واحد أو جميع الأفراد لأنّ التّقييد إنّما يرد على الطّبيعة المطلقة والحاصل أنّ المنع عن الإيجاد يرد على الطّبيعة المطلقة لما عرفت أنّ الوجود إنّما يعرض على الطّبيعة المطلقة لا المقيدة وحينئذ فلا تفاوت بين أن يكون المطلوب إيجاد واحد أو جميع الإيجادات فيكون الطّبيعة مطلقة لا يوجب سراية الحكم إلى جميع الأفراد نعم لو كان متعلق الحكم هو الطّبيعة لكان ذلك صحيحا وهو غير قائل به فالأولى على مذهبه هو التّمسك بدليل الحكمة إذ لو كان متعلق الحكم الفرد المعين في الواقع لزم الإغراء بالجهل لعدم المعين أو كان الفرد الغير المعين لم يكن في النّهي فائدة فوجب في الحكمة إرادة جميع الأفراد فإن قلت على ما ذكرت من تعلق الأحكام بالأفراد وأنّ وحدة الفرد وتعدده لا يوجب التّقييد فما معنى الإطلاق والتّقييد هنا قلت المطلوب قد يكون فردا معينا في الواقع والفرد من حيث إنّه فرد موجود خارجي لا يمكن تعلقه بكنهه ولا بيان تعيينه للمخاطب ولكن لما كان

 

لكل وجود عوارض مختصة به فإذا أريد تعيين فرد معين لزم تقييد الطّبيعة ببعض عوارضه ليكشف ذلك عن إرادة الفرد المعين وإذا لم يقيد كشف عن إرادة جميع الأفراد على البدليّة أو استغراقا ولما لم يكن للعموم البدلي فائدة في المقام لعدم خلو المكلف عنه وجب إرادة الاستغراق لدليل الحكمة فافهم والأولى في الاستدلال على العموم الأفرادي والزماني جميعا أن يتشبث بالتّبادر عرفا وهو بناء العلماء أيضا من القديم إلى الآن حيث يفهمون من النّواهي المطلقة الدّوام وقد عرفت أنّه ليس من باب الوضع لعدم المنافرة والتّناقض عند تقييده بما ينافي الدّوام كما يلزم في المجازات فيكون إمّا من باب اللّزوم للإطلاق أو للحكمة أو لغيرها فإن فهم العرف بنفسه معتبر في باب الدّلالات وإن لم يعلم وجهه تفصيلا فافهم الثّاني اختلفوا بناء على القول بالدّوام في أنّه تكليف مستقل بأن يكون التّكليف بأصل ترك الطّبيعة مغايرا للتكليف بالدّوام فيكون التّارك في بعض الأزمنة دون بعض ممتثلا للتكليف الأوّل دون الثّاني أو لا بل هناك تكليف واحد فلا يتمثل إلاّ بالتّرك دائما والظّاهر هو الأوّل ولا ينافيه فتوى بعض الفقهاء بانحلال نذر ترك شيء دائما بفعله مرة بتقرير أن وجهه اتحاد التّكليف فيتحقق الحنث وإن ترك بعده أبدا إذ لا يحصل مجموع التّروك لتخلل الفعل لأنّه مستند إلى النّصوص الخاصة ولا دخل له بدلالة النّهي الثّالث الظّاهر من الدّوام على القول به هو الدّوام ما دام العمر لا الأبد لخروج ما بعد العمر بحكم العقل ولا معنى هنا للقول بأن دوام كل شيء بحسبه كما قيل به في الفور الرّابع كل من يقول بالدّوام يلزمه القول بالفور إذ هو مقتضى دليله وهو إفادة العموم ولا عكس لجواز أن ينفى الدّوام ويثبت الفور لدليل آخر أو ينفيهما معا فافهم

أصل اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنّهي في الشّيء الواحد الشّخصي مع تعدد الجهة وعدمه

على أقوال وتحقيق الحق يعلم في طي مطالب الأوّل قيل إنّ هذه المسألة أشبه بمقاصد الكلام منها بمسائل الأصول وربما يظهر من بعضهم أنّها داخلة في المبادي اللّغويّة ومن بعضهم أنّها داخلة في مسائل الأصول والتّحقيق خلاف ذلك كله أمّا عدم دخولها في الكلام فلأنّ الكلام على ما عرفوه صناعة نظريّة يقتدر بها على إثبات العقائد الدّينيّة من إثبات الصّانع وصفاته الّتي يتوقف عليها إثبات النّبي والولي والمعاد بما فيه وحاصله أنّه العلم الباحث عن أحوال المبدإ والمعاد ولا ريب في عدم ارتباط هذه المسألة بذلك إلاّ بأن يجعل البحث فيها عن حسن صدور الأمر والنّهي المذكور عن الله تعالى وقبحه وليس العنوان ذلك بل إنّما النّزاع في أنّ تعدد الجهة هل يوجب تكثّر الموضوع بحيث لا يلزم اجتماع الضّدين في موضوع واحد أو لا وأمّا عدم دخولها في المبادي اللّغويّة فلأنّ النّزاع لا ينحصر في الأمر والنّهي اللّفظيّين بل الكلام في اجتماع الوجوب والحرمة وإن أثبتنا بالإجماع أو بالعقل وأمّا عدم دخولها في مسائل الأصول فلأنّ مسألة الأصول هي ما يبحث فيها عن

 

أحوال دليل الفقه أي يكون بحيث يتفرع عليه الحكم بلا واسطة وهنا ليس كذلك لأنّ هذه المسألة يتفرع عليها مسألة أصوليّة وهي تعارض الأمر والنّهي بناء على عدم جواز الاجتماع وعدم تعارضهما بناء على الجواز ويتفرع صحة الصّلاة في الدّار المغصوبة وفسادها على التّعارض وعدمه لا على هذه المسألة وبهذا يعلم فساد ما ربما يتوهم من دخولها في الأدلّة العقليّة من علم الأصول بتقرير أنّ النّزاع إنّما هو في أنّ العقل يحكم بجواز ذلك أو لا وذلك لأنّ ما يبحث عنه في الأدلّة العقليّة أيضا يجب أن يكون مما يتفرع عليه المسألة الفقهيّة وقد علمت أنّ هذه المسألة ليست كذلك فالتّحقيق أنّها داخلة في المبادي الأحكاميّة الباحثة عن أحوال الحكم ولوازمه كمسألة مقدمة الواجب إذ يبحث هنا عن أنّ من أحوال الوجوب والحرمة عدم جواز اجتماعهما أو جوازه فتأمّل الثّاني المراد بالجواز هنا الإمكان العقلي كما يقال هل يجوز إعادة المعدوم أو لا لا الجواز المقابل للقبح كما يقال هل يجوز لله تعالى تصديق الكاذب أو لا ولا الجواز بمعنى الرّخصة المقابل للمنع كما سيظهر والظّاهر من العنوان هو توارد الأمر والنّهي بجميع خواصهما وآثارهما من الإطاعة والعصيان والثّواب والعقاب فالقول بأنّ المنهي عنه سقط عن المأمور به ليس قولا بجواز الاجتماع المتنازع فيه وأيضا الظّاهر منه أن يتوارد الأمر والنّهي أصالة على شيء واحد فلو تعلق كل منهما بشيء كلي وجمع المكلّف بينهما فهو خارج عن محل البحث فاستدلال بعضهم على الجواز بأنّ الأمر إنّما تعلق بعنوان الكلي والنّهي بكلي آخر وإنّما جمع المكلّف بينهما بسوء اختياره خروج عن محل النّزاع ويؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من أنّ بعضهم أجاب عن الاستدلال على الجواز بأنّه لو أمر السّيد عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص فخاطه في ذلك المكان لعد مطيعا عاصيا من جهتين بأنّ ذلك إنّما هو لأنّ الغرض هو حصول الخياطة فكيف اتفق فإنّ معنى هذا الجواب هو أنّ المثال المذكور خارج عن محل النّزاع لتعلق التّكليف فيه بالكلي فلو كان محل النّزاع شاملا لصورة تعلقهما بالكلي أيضا لكان الجواب بذلك تحرير الأصل محل الدّعوى وقد يسمى الاجتماع فيما إذا تعلقا بالفرد اجتماعا آمريّا وفيما إذا تعلقا بالكلي مأموريّا والتّحقيق شمول النّزاع لكلا الفرضين ويكون حاصل محل النّزاع جواز اجتماع الوجوب والحرمة في الفرد الواحد سواء كانا أصليّين بأن تعلقا بالفرد أصالة أو عرضيّين بأن تعلقا به عرضا عند تعلقهما بالكلي أصالة لاتحاده بالفرد وقد مر في المباحث السّابقة أنّ لوازم الواجب واجبة بالوجوب العرضي وإن لم نقل بوجوب المقدمة فدخل الصّورتان في محل النّزاع ولا ينافي ذلك ما أجيب به عن الاستدلال المذكور لاحتمال أن يكون المقصود منه أنّ الواجب في المثال هو الخياطة كيف اتفق بمعنى أنّه واجب توصلي يسقط الامتثال به بالحرام الصّرف فالخياطة في المكان المذكور حرام فقط ولكن يسقط به الواجب فلا يثبت بذلك جواز اجتماع الأمر والنّهي ثم إنّ تحرير محل النّزاع يتوقف على بسط في المقال فنقول إنّ متعلّق الأمر والنّهي إمّا أن تباينا ذهنا وخارجا كالصّلاة والزنا أو يتحدا

 

كذلك كصل ولا تصل أو مختلفا ذهنا ويتحدا خارجا ولا ريب في خروج الأوّلين عن محل النّزاع والثّالث على أقسام أربعة لأنّهما إمّا أن يتساويا في الخارج كالتّكلّم وترك السّكوت في نحو تكلم ولا تترك السّكوت أو يكون بينهما عموم مطلق والأمر هو الأخص نحو صل في الدّار المغصوبة ولا تغصب أو عموم مطلق والنّهي أخص نحو صل ولا تصل في الدّار المغصوبة أو يكون بينهما عموم من وجه وهذا على قسمين أحدهما أن يتلازما بسبب العوارض الخارجة كالدّاخل في الدّار المغصوبة فإنّه مأمور بالخروج ومنهي عن الغصب ولا تلازم بين الخروج والغصب ذاتا لكن امتثال الأمر هنا لا يمكن إلاّ بفعل الغصب بواسطة دخوله الدّار والثّاني أن لا يكون كذلك مثل صل ولا تغصب فهذه أقسام خمسة ولا شبهة في أنّ القسم الأخير داخل في محل النّزاع إنّما الإشكال في الباقي فقيل بخروجها جميعا أمّا الأوّل والثّاني والرّابع فللزوم التّكليف بما لا يطاق لو اجتمعا ولهذا اشترطوا وجود المندوحة للمكلّف في محل النّزاع وأمّا الثّالث فلأنّه داخل في المسألة اللاحقة وهي أنّ النّهي في العبادات هل يستلزم الفساد أو لا فلو دخل هنا أيضا لما كان بينهما فرق ويظهر من بعضهم دخول القسم الرّابع في المتنازع فيه حيث حكم فيه بالجواز مستدلا بأنّ التّغاير الذّهني كاف في الجواز وهو موجود فيه والتّحقيق أنّ الجميع داخل في المتنازع فيه لأنّ المراد بالجواز في العنوان إمّا الإمكان فيكون جهة البحث هي أنّ التّغاير الذّهني هل هو مكثر للموضوع ليرتفع صدق اجتماع النّقيضين في شيء واحد أو لا وحينئذ فيمكن القول بالجواز حتى في صورة التّساوي أيضا وحاصل الجواز أنّه لا يلزم منه اجتماع النّقيضين فلا يلزم منه أن يكون التّكليف أيضا صحيحا حتى يرد أنّه تكليف بما لا يطاق فيما لا مندوحة للمكلّف فيه وأمّا المراد بالجواز مقابل القبح فيكون جهة البحث هي أنّه يلزم من نفس اجتماعهما مع قطع النّظر عن الخارج التّكليف بما لا يطاق ليكون قبيحا أو لا وهذا أيضا يشمل جميع الصّور لإمكان أن لا يكون اجتماعهما بنفسه موجبا للتكليف بما لا يطاق ولكن يلزم ذلك بواسطة تلازم المتعلقين ذاتا أو بالعوارض وبالجملة لا وجه لاعتبار المندوحة في محل النّزاع ولذا لم يعتبروها في العنوان ويمكن أن يكون الاشتراط المذكور لبيان أنّ ثمرة النّزاع إنّما تظهر فيما يكون للمكلّف مندوحة فإنّه إذا لم يقدر على امتثال الأمر إلاّ في ضمن الفرد المنهي عنه لم يجز التّكليف بهما لكونه تكليفا بما لا يطاق من جهة تلازمهما ذاتا أو عارضا فلا ثمرة في النّزاع في أنّ نفس اجتماعهما أيضا هل يوجب التّكليف بما لا يطاق أو لا نعم يثمر ذلك فيما لا يكون هناك مانع سوى نفس الاجتماع فيثمر النّزاع حينئذ بقي الكلام في أنّه إذا كان النّزاع هنا شاملا للعموم المطلق فما الفرق بينه وبين المسألة الآتية مع أنّ الكلام فيها أيضا أعمّ لتمثيلهم فيها بالصّلاة والغصب في المنهي عنه لوصفه المفارق المتحد معه في الوجود ولو سلم اختصاص البحث هنا بالعام من وجه وهناك بالعام المطلق فما وجه التّفرقة بينهما مع اتحاد جهة الكلام فيهما فنقول ذكروا للفرق وجوها منها

 

أنّه يكفي في الفرق بينهما كون المسئول عنه بينهما مختلفا وإن ترتّب أحدهما على الآخر وذلك لأن المسئول عنه هنا هو جواز تعلق الطّلبين بشيء واحد وهناك أنّ النّهي إذا تعلق بشيء فهل يقتضي ارتفاع الأمر المتعلق به فيفسد إن كان عبادة أو لا وهذا غير الأوّل نعم هو متفرع عليه إذ لو جاز الأوّل لم يكن لارتفاع الأمر وجه ووجه التّفرقة عموم تلك المسألة إذ لا اختصاص لها بالعبادات لشمول الكلام فيهما للمعاملات أيضا ومنها أنّ الكلام هنا إنّما هو من جهة حكم العقل بجواز الاجتماع وعدمه وهناك إنّما هو في وضع النّهي أو في فهم العرف وأنّهم هل يفهمون من ورود النّهي تخصيص الأمر بغير مورد النّهي أو لا ويظهر الثّمرة في صورة صدور العبادة سهوا فيحكم بالصّحة إن حكم بعدم جواز الاجتماع عقلا لأنّه إنّما هو لعدم جواز اجتماع الحرمة والوجوب وحيث وقع سهوا فلا نهي فلا وجه للفساد ويحكم بالفساد إن لم يفهم التّخصيص لأنّ النّهي حينئذ كاشف عن عدم دخول الفرد المنهي عنه تحت الأمر فلا يكون مطلوبا من أصله لا في خصوص صورة الحرمة ولكن فيه أنّ الكلام في تلك المسألة لا يختص بالنّهي اللّفظي بل الكلام في الأعمّ منه ومن العقلي وغيره مما ثبت بالإجماع ونحوه فهما من هذه الجهة واحدة ولذا يستدلون في تلك المسألة أيضا بالوجوه العقليّة فالأولى في الفرق هو الوجه الأوّل ثم إنّك قد عرفت أنّ اعتبار المندوحة في محل النّزاع لا وجه له فنقول الوجوب والحرمة المتعلقان بالشيء المذكور قد يكونان تعيينيّين وقد يكونان تخييريّين وقد يكون أحدهما تعيينيّا والآخر تخييريّا والكل داخل في النّزاع على ما بينا وأمّا بناء على اعتبار المندوحة فلا يدخل منها في النّزاع إلاّ صورة واحدة وذلك لأنّهما إن كانا تعيينيّين لزم التّكليف بما لا يطاق وكذا إن كان الأمر تعيينيّا والنّهي تخييريّا لأنّ مقتضى كون النّهي تخييريّا الإذن في ترك كل منهما وحرمة الجمع والإذن في التّرك ينافي الوجوب عينا وإن كانا تخييريّين جاز قطعا لأن الوجوب التّخييري معناه حرمة ترك الجميع والحرمة تخييريّا معناها حرمة فعل الجميع ولا تنافي بينهما فبقي صورة واحدة وهو كون الوجوب تخييريّا والحرمة تعيينيّا كالصّلاة والغصب فإنّ وجوب الصّلاة بالنّسبة إلى أفرادها بحسب الأمكنة تخييري وحرمة الغصب تعيينيّة وهذا هو المتنازع فيه وليعلم المراد بالتّعيين والتّخيير هو ما يعتبر في المكلّف به لا بالنّسبة إلى المكلّف أعني العيني والكفائي فإنّ الصّور المذكورة لا يتفاوت ما ذكرنا فيها سواء كان الحكم بالنّسبة إلى المكلّف عينيّا أو كفائيّا فإذا كان الوجوب والحرمة بالنّسبة إلى المكلّف به تعيينيّين لم يكن جائزا وإن كانا بالنّسبة إلى المكلّف كفائيّين أو أحدهما عينيّا والآخر كفائيّا ولذا وقعوا في الإشكال في مسألة وجوب القضاء والحكومة بين النّاس فإنّه واجب تعييني مع أنّهم حكموا بكراهته في حق من لا يثق من نفسه ترك المحارم وإن كان القضاء بالنّسبة إلى المكلفين واجبا كفائيّا فإنّه لا يدفع الإشكال ولذا أجابوا عن الإشكال بوجه آخر وهو أنّ ذلك الشّخص خارج عن عموم دليل الوجوب فلا يجب في حقه أصلا لا أنّه واجب ومكروه فإنّه غير جائز

 

قطعا حتى عند من يجوز اجتماع الأمر والنّهي في محل النّزاع ثم إنّه لا فرق بين كون الأمر توصليّا أو تعبديّا وكذا بين كونهما موسعين أو مضيقين أو مختلفين وإن كان الظّاهر من العنوان الاختصاص ببعض الأقسام ثم إنّك قد عرفت أنّهم خصصوا محل النّزاع بما إذا كان بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه فاعلم أنّه قد يكون بين متعلق الأمر والنّهي العموم من وجه نحو أكرم العالم ولا تكرم الفاسق والظّاهر منهم خروجه عن محل النّزاع حيث مثلوا في المسألة بمثل صل ولا تغصب وذكروا في مسألة التّعادل والتّراجيح أنّه إذا كان بين الدّليلين العموم من وجه مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ففيه قولان التّساقط والتّخيير وليس هناك قول ثالث فإنّ مقتضى الاتفاق على القولين عدم جواز الاجتماع فيه وإلاّ لكان مقتضى القول بجواز الاجتماع العمل بهما معا فيكون قولا ثالثا وما يمكن أن يقال في الفرق وجوه منها أنّ الأمر والنّهي في مثل صل ولا تغصب قد ورد على الطّبيعة بخلاف الأمر بالإكرام فإنّه تعلق بأفراد العالم فيصير الاجتماع في الثّاني آمريّا وفي الأوّل مأموريّا وفيه أنّ هذا الفرق تحكم إذ لو تعلق الأمر بالطّبيعة تعلق بها فيهما وإلاّ فلا ومنها أنّ الصّلاة غير الغصب بخلاف الإكرام فإنّه واحد والقول بتعدده بالإضافة إلى العالم والفاسق باطل لأنّ الإضافة أمر اعتباري لا يوجب تكثر الماهيّة والشّاهد على ذلك ركاكة عطف أحدهما على الآخر بأن يقال أكرم وأكرم بخلاف مثل صلى وغصب والنّكتة في ذلك أنّ الإكرام من الأوصاف المتعلقة بالموجود الخارجي ابتداء وإن تعلق بالماهيّة أيضا بالتّعلق العرضي والمفروض أنّ الوجود واحد وهو مورد الاجتماع فيكون الوصف واحدا وفيه أنّ الإضافة توجب تكثر الماهيّة باعتبار الوجود كما أنّ السّجود إذا أضيف إلى الله وجب وإذا نسب إلى الصّنم حرم ولو لا كون الإضافة موجبة لتكثّر الماهيّة لكان الأمر والنّهي مجتمعين في غير مورد اجتماع العلم والفسق أيضا لاتحاد ماهيّة الإكرام الّتي هي المتعلق للأمر والنّهي وأمّا ركاكة العطف فإنّما هو لاتحاد اللّفظين والمفهوم المطلق ولذا لو قيد بالإضافة جاز العطف بأن يقال أكرم العالم وأكرم الفاسق والنّكتة لا دخل لها بالمقام لأنّها إنّما تجري في الأوصاف المتعلقة بالموجودات من غير أن يكون خصوصيّة الماهيّة معتبرة في الوصف وأمّا إذا كان الوجود واسطة في ثبوت الوصف للماهيّة فلا تجري تلك النّكتة فإنّ خصوصيّة ماهيّة العالم توجب وصف وجوب الإكرام وكذا خصوصيّة الفاسق والفرد واسطة في ثبوت الوصف للماهيّة لا للعروض لها والمفروض تعدد الماهيّة فيتعدد الوصف فالتّحقيق عدم الفرق ودخول الجميع في محل النّزاع وتمثيلهم بمثل صل ولا تغصب لا يدل على الحصر واتفاقهم على القولين هناك إنّما هو على فرض التّعارض لأنّ كلامهم هناك إنّما هو في الأدلّة المتعارضة فيكون بعد فرض تحقق الموضوع وهو التّعارض فافهم الثّالث اختلفوا في أنّ الكليّين إذا كان بينهما عموم من وجه فهل هما موجودان في مورد الاجتماع بوجودين مختلفين في الواقع وإن كان المحسوس وجودا واحدا أو لا بل هما موجودان بوجود واحد ولو كانا مختلفين ذاتا وعلى الأوّل لا شبهة في جواز الاجتماع لكونه نظير المتباينين وعلى الثّاني يدخل في محل النّزاع فقيل بالأوّل وهو إنّهما موجودان بوجودين مستدلا بأنّ

 

الكليّين المذكورين لما كان لكل منهما مورد افتراق عن الآخر لم يجز كون أحدهما ذاتيّا للآخر بأن يكون فصلا له ولا أن يكون من الأوصاف اللازمة له بل يجب إمّا أن يكون منزلة كل منهما من الآخر منزلة الوصف الغير اللازمة من الموصوف أو منزلة العرض المفارق من الموضوع ولا شبهة أنّ وجود الوصف والعرض المذكورين غير وجود الموصوف والمعروض ولذا يبقى وجوده مع انتفاء الوصف والعرض ويشهد له أنّهم فسروا الوصف المفارق في المسألة الآتية بما يكون الموصوف مع عروض ما يقابله باقيا بالعدد أي بشخصه وهو هو بعينه بخلاف الوصف اللازم فإنّ الموصوف ليس قابلا لعروض ما يقابله بحيث يبقى الموصوف بحاله وهو هو بعينه ومثلوا للنّهي عنه لوصفه المفارق بالصّلاة والغصب وللنّهي عنه لوصفه اللازم بالقراءة والجهر والإخفات لعدم بقاء القراءة بحالها عند زوال الجهر والإخفات لاختلافها باختلافهما بخلاف الصّلاة فإنّها لا تختلف بكون المكان مغصوبا ومباحا فعلم أنّ الوصف المفارق هو ما يبقى الموصوف بحاله مع عروض ما يقابل ذلك الوصف عليه ولا يمكن ذلك إلاّ مع فرض اختلاف الوجود وإلاّ لما كان لبقاء الموصوف مع زوال الوصف تعقل لا يقال لو كان الموجود متعددا لما جاز حمل أحدهما على الآخر لأنّ مقتضى الحمل اتحاد الوجود لكن الحمل جائز قطعا فيقال للصلاة المغصوبة إنّها غصب وبالعكس لأنّا نقول الوجود قسمان أحدهما الوجود في نفسه كما يقال زيد موجود والثّاني على صفة نحو زيد كاتب أي موجود على وصف الكتابة واتحاد الوجود المعتبر في الحمل يكفي فيه الاتحاد بأحد الوجهين ولا ريب أنّ الوجود على صفة هو عين وجود تلك الصّفة فإنّ وجود زيد على وصف الكتابة هو عين وجود الكتابة فحمل الكاتب على زيد إنّما هو بعد اعتبار معنى الكتابة في زيد وإلاّ لم يحمل الكاتب على زيد لأنّه في نفسه مع قطع النّظر عن الوصف ليس بكاتب وحينئذ فلا ضرر في أن يكون لزيد وجودان أحدهما الوجود في نفسه وهو مغاير مع وجود الكاتب والثّاني الوجود على صفة وهو عين وجود الكاتب وهو كاف في صحة الحمل وكذا نقول في مثل الغصب والصّلاة أنّ لكل منهما وجودا في نفسه مغايرا لوجود الآخر ووجودا على صفة وهو عين وجود الآخر وباعتباره يصح الحمل هذا غاية الكلام في توجيه القول المذكور ويرد عليه أوّلا أن المشاهد من الصّلاة في المدار المنصوبة ليس إلاّ الحركات والسّكنات المتحققة بالوضع الخاص ولا شبهة في أنّها أمر واحد لا تعدد في وجوده وهو واجب لكونه صلاة فإن زعمت أنّه أيضا حرام لوقوعه بغير إذن المالك لزم اجتماع الوجوب والحرمة في الموجود الواحد فقد أقررت بعد الإنكار وإن قلت إنّه ليس بحرام بل الحرام هو عدم الإذن ففيه أنّه إن أريد من حرمة عدم الإذن حرمته على المالك بمعنى وجوب الإذن عليه ففساده ظاهر إذ لا يجب عليه الإذن وإن أريد منه حرمة عدم الاستئذان من المالك فلا دخل له بالمسألة بل هو خروج عن محل الكلام لتباين المأمور به والمنهي عنه حينئذ كالصّلاة والنّظر إلى الأجنبيّة والكلام إنّما هو على فرض كون

 

الفرد الواحد موردا لاجتماع الكليّين والصّلاة ليست موردا لعدم الاستئذان أو هذا ظاهر جدا وثانيا أنّ العموم من وجه على قسمين موردي ومصداقي والضّابط في الأوّل أن يكون الكليّان مغايرين في الوجود ذاتا وخارجا ولكن قد يقترنان في مورد واحد كالسواد والحلاوة فإنّهما متغايران من جميع الوجوه ولا يصدق أحدهما على الآخر أصلا ولكن يمكن اقترانهما بأن يتصف شيء واحد بالسواد والحلاوة والضّابط في الثّاني أن يصدق الكليّان معا على فرد واحد ويكون ذلك الفرد مصداقا لهما معا بالوجود الواحد وهذا إنّما يمكن في كليّين يكون فوقهما كلي آخر وهو القدر المشترك بينهما ويكون ذلك الكلي بحيث يمكن أن يلحقه بعض القيود فيحصل أحد الكليّين وإن يلحقه قيد آخر فيحصل الكلي الآخر وإن يلحقه مجموع القيدين فيحصل مجموع الكليّين وإذا نسب القيدان إلى ذلك القدر المشترك لم يجز أن يكون كل منهما فصلا له لما ثبت في المعقول من أنّ الفصول متضادة لا يمكن اجتماعها والمفروض إمكان اجتماع القيدين فيجب أن يكون كل منهما عرضيّا أو يكون أحدهما فصلا والآخر عرضيّا كالأسود والحلو فإن فوقهما كلي مشترك بينهما وهو الجسم وهو قد يلحقه السّواد فقط فيحصل الأسود وقد يلحقه الحلاوة فيحصل الحلو وقد يلحقه الوصفان فيحصل الأسود والحلو والجسم الموجود في مورد الاجتماع أمر واحد موجود بوجود واحد في نفسه وإن كان وجود كل من الوصفين غير وجود الآخر واعتباره يتحقق للجسم وجودان آخران على صفة وهما عين وجودي تلك الصّفتين ولكن الجسم الذي هو مورد الاجتماع ليس إلاّ أمرا واحدا موجودا بوجود واحد ولو لا ذلك بأن يختلف وجود الجسم باعتبار السّواد والحلاوة لم يكن بينهما قدر مشترك يكونان مصداقا له فلا يكون بين القسمين من العموم من وجه فرق مع بداهة الفرق ويكفي فيه عدم صحة الحمل في الأوّل فلا يقال السّواد حلاوة وصحته في الثّاني حيث يقال الأسود هو الحلو إذا عرفت ذلك فنقول الصّلاة والغصب كليّان وفوقهما كلي هو مطلق الكون فقد يلحقه عوارض الصّلاة فيكون صلاة وقد يلحقه عوارض الغصبيّة فيكون غصبا وقد يلحقه العارضان فيكون صلاة وغصبا فوجود وصف الصّلاة غير الغصب ولكن الكون الموجود معهما الذي هو القدر المشترك أمر واحد موجود بوجود واحد فلا يمكن اجتماع الأمر والنّهي فيه واختلاف وجود وصفي الصّلاتيّة والغصبيّة لا يوجب تعدد وجود الكون الذي هو القدر المشترك فافهم وبما ذكرنا علم فساد ما ذكره بعضهم في المسألة من أنّ الجهتين المعتبرين في مورد الاجتماع إن كانتا تعليلتين لم يجز الاجتماع لوحدة المحل واختلاف التّعليل لا يوجب تعدد الموضوع وإن كانتا تقييديتين جاز لأنّ الموضوع باعتبار كل قيد غيره باعتبار القيد الآخر وذلك لما عرفت من أنّ اختلاف القيد في المسألة لا يوجب تعدد وجود الموضوع فلا فرق بين كون الجهة تعليليّة أو تقييديّة ووجهه أنّ الكلي إذا نسب إلى فرده لم يمكن أن يوجب تقييدا

 

في ذلك الفرد بل إنّما يمكن التّقييد إذا نسب الشّيء إلى الكلي الذي فوقه فلا يمكن في المسألة جعل تعدد الجهتين موجبا لتكثّر الموضوع لأنّ الموضوع فرد لهما ومصداق واحد للقدر المشترك بينهما وقد عرفت أنّ الوجود النّفسي فيه واحد فتأمّل الرّابع قد عرفت أنّ الكليّين الذين بينهما العموم من وجه يجب أن يكون فوقهما كلي آخر هو القدر المشترك بينهما وهو موجود واحد إذ لو كان متعددا لما كان بينهما اجتماع أصلا كالمتباينين فنقول على هذا لا حاجة إلى ما ذكره بعضهم من أنّ عدم جواز الاجتماع في المسألة مبني على تعلق الأحكام الشّرعيّة بالأفراد أو بالماهيّة باعتبار الأفراد لأنّ الفرد المشترك موجود بوجود واحد والحكم إنّما يتعلق بالفرد فيجتمع الأمر والنّهي في الواحد الشّخصي وذلك لأنّه وإن كان الحق تعلق الأحكام بالوجودات لأنّ المصلحة والمفسدة إنّما يثبت فيها دون الماهيّات وإلاّ لزم تحقق الامتثال بتصور الصّلاة والمعصية بتصور الزنا لأنّ عارض الماهيّة لا تنفك عنها في الذّهن والخارج بل التّحقيق أنّه لا عارض للماهيّة من حيث هي إلاّ الوجود وجميع العوارض اللاحقة للماهيّة غير الوجود فإنّما يعرضها بواسطة الوجود والتّفرقة إنّما هو باعتبار أقسام الوجود إذ قد يكون عارضا للوجود الخارجي وقد يكون عارضا للوجود الذّهني وقد يكون عارضا لهما والثّالث يسمى عارض الماهيّة اصطلاحا وإلاّ فهو أيضا من عوارض الوجود وبالجملة وإن كان التّحقيق ذلك وأنّ وجود الكليّين في مورد الاجتماع واحد لكن المسألة تتم بغير ذلك ولا تبتني عليه بل يتم منع صحة الاجتماع وإن قلنا بتعلق الأحكام بالماهيّات وذلك لأنّك قد عرفت من لزوم وجود كلي ثالث يكون واحدا بالذّات ولكن قد يعرضه بعض العوارض فيحصل أحد الكليّين وإذا علم أنّه واحد علم أنّه لا يجوز تعلق الأمر والنّهي بالكليّين لا بشرط لأنّه يقتضي كون ذلك الأمر الواحد مأمورا به ومنهيّا عنه مع أنّه واحد مثلا إذا تعلق الأمر بالكون الصّلاتي لا بشرط كان مقتضاه مطلوبيّته وإن وجد معه عارض الغصبيّة أيضا وإذا تعلق النّهي بالكون الغصبي لا بشرط اقتضى مغبوضيّة وإن وجد معه العارض الصّلاتي وحينئذ فيلزم في مورد الاجتماع اجتماع الأمر والنّهي في ذلك الكون مع أنّه واحد بالذّات لما عرفت أنّه لو كان متعددا لزم خلاف المفروض أعني أن يكون بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه فافهم الخامس قد سبق أنّ العنوان في كلمات القوم مختلف حيث جعل بعضهم النّزاع في تعلق الأمر والنّهي بواحد شخصي من جهتين وبعضهم جعل عدم جواز ذلك مفروغا عنه وجعل النّزاع في أنّه إذا تعلق الأمر والنّهي بكليّين بينهما عموم من وجه فهل هو مستلزم لتعلقهما بالفرد الذي هو مورد الاجتماع حتى يكون غير جائز أو لا يستلزم ذلك حتى يكون جائزا ويظهر هذا عن صاحب القوانين والمحقق الشّريف حيث قالوا بأنّ الفرد مقدمة للكلي فوجوب الكلي لا يستلزم وجوبه إلاّ من باب المقدمة ووجوب المقدمة توصلي يسقط الامتثال فيه بالحرام أو أنّه يجوز اجتماعه مع الحرام وبالجملة فالحكم المتعلق بالكلي لا يجب سرايته إلى الفرد ولا بد في تحقيق هذا المطلب من

 

بيان أمرين أحدهما أنّ الفرد مقدمة للكلي أو لا والثّاني أنّ حكم الفرد هل هو حكم مقدمي أو لا أمّا الأوّل فيظهر الحق فيه بيان النّسبة بين الكلي والفرد فنقول اختلفوا في أنّ الكلي الطّبيعي هل هو موجود في الخارج أو لا وعلى فرض وجوده هل هو عين الفرد أو جزؤه وذهب إلى كل بعض واستدل النّافون لوجوده بأنّه لو كان موجودا لكان إمّا عين الأفراد أو جزءا منها أو خارجا عنها لا سبيل إلى الثّالث لأنّه قدر مشترك ذاتي للأفراد فلا معنى لكونه خارجا عنها وأمّا الأوّل والثّاني فباطلان إذ لو كان عينا للأفراد لزم كون بعض الأفراد أيضا عينا للبعض الآخر لأنّه عين الكلي والكلي عين الفرد الآخر فهو عين الفرد الآخر لأنّ عين عين الشّيء عين ذلك الشّيء ولو كان جزءا لها لزم تقدم الكلي على الفرد في الوجود ضرورة وجوب تقدم الجزء على الكلي مع أنّه فاسد ضرورة فظهر أنّ الكلي لا وجود له في الخارج وإنّما الموجود هو الفرد والكلي شيء منتزع منه عقلا والتّحقيق أنّ الكلي موجود في الخارج وجزء للفرد وذلك لأنّ الكلي الطّبيعي وهو الماهيّة إذا اعتبر معها الوجود الخارجي كانت عين الفرد إذ ليس الفرد عبارة إلاّ عن الماهيّة الموجودة فالوجود إذا عرض على الماهيّة تحقق الفرد فهي مع اعتبار الوجود معها عين الفرد ومع قطع النّظر عن الوجود جزء للفرد لأنّ الفرد مركب من الماهيّة والوجود بالجملة الماهيّة إذا لوحظ معها الوجود الخاص تحقق الفرد المخصوص ولا يلزم من ذلك اتحاد الأفراد لاختلاف الوجودات بالذّات فالماهيّة مع كل وجود خاص عين الفرد الموجود بذلك الوجود ولا يلزم من ذلك اتحاد ذلك الفرد مع الفرد الآخر لأنّ الماهيّة إذا لوحظت مع وجود الفرد الأوّل لم يكن عين الفرد الآخر حتى يلزم اتحاد الفردين وأمّا لزوم تقدم الجزء على الكل فممنوع كليّة والمسلم منه إنّما هو في المركب من الأجزاء الّتي كل منها معروض الوجود كان يكون كل منها ماهيّة وأمّا المركب من أجزاء بعضها نفس وجود باقي الأجزاء فلا يجب فيه تقدم الجزء وجودا على الكل كما نحن فيه فإنّ الفرد مركب من الماهيّة والوجود العارض لها فالماهيّة إذا وجدت تحقق الفرد فلا يلزم وجود الماهيّة أو لا ثم وجود الفرد إذا ظهر هذا تبين أنّ الفرد ليس مقدمة للكلي بل هو عينه بحسب الوجود الخارجي ولا تمايز بينهما خارجا وأمّا الأمر الثّاني فقد ظهر مما قرّرنا لأنّ الفرد إذا كان عين الكلي في الخارج لزم كونه متعلقا لعين الحكم المتعلق بالكلي بأي نحو كان نفسيّا وعينيّا وتعيينيّا وغير ذلك لأنّه عين الكلي الموجود وعلى هذا ربما يشكل الأمر في مثل الواجبات التّعيينيّة كالصّلاة مثلا فإنّ مقتضى كون وجوب الفرد عين وجوب الكلي أن يكون كل فرد منها واجبا نفسيّا وحينئذ يلزم أن لا يحصل الامتثال بأحد الأفراد وإن يتعين الإتيان بالجميع ودفعه ظاهر لأنّ الوجوب المتعلق بالفرد هو عين ما تعلق بالكلي ومعنى وجوب الصّلاة تعيينيّا أنّ الإتيان بماهيّة أخرى غير الصّلاة كالزّكاة مثلا لا يجزي عنها فهذا ثابت في أفرادها أيضا لعدم سقوطها بإتيان فرد من ماهيّة أخرى وهذا لا ينافي التّخيير بين نفس أفراد تلك الماهيّة فافهم السّادس قد عرفت ما ذكره بعضهم من أنّ حكم الكلي لا يسري إلى الفرد بل الفرد مقدمة للكلي فيمكن كون الفرد حراما صرفا مسقطا

 

عن الامتثال بالكلي وكذا يمكن كون الفرد واجبا مقدميّا وحراما لجواز اجتماع الواجب التّوصلي مع الحرام وأقول على ما ذكرنا من أنّ الكلي في الوجود عين الفرد وأنّ التّشخص إنّما هو بالوجود ظهر أنّه لا معنى لكون الفرد مقدمة بل هو عين الكلي الموجود ونزيد هنا أنّه ولو سلمنا أنّ التّشخص إنّما هو بغير الوجود بل يحصل بشيء نسبته إلى النّوع كنسبة الفصل إلى الجنس وأنّ الفرد مركب من الماهيّة والتّشخص فنقول لا ريب في فساد القول بأنّ الفرد حرام ومسقط عن الواجب بيان ذلك أنّه يمكن أن يتحقق في شيء واحد عنوانان يكون ذلك الشّيء بأحد العنوانين مقدمة لنفسه بالعنوان الآخر وليس المراد أنّه متقدم على نفسه في الزمان بل المراد بالمقدميّة الأحقيّة في نسبته الوجود كالفصل بالنّسبة إلى الجنس فإنّ المراد من كونه مقدمة له هو أنّ نسبة الوجود إلى الفصل أولى من نسبته إلى الجنس لأنّ نسبة الوجود إلى الخاص وإلى من نسبته إلى العام مثال ذلك المقدمات العلميّة كالصّلاة إلى الجهات الأربع فإنّها واجبة لأن تحصيل العلم واجب فإذا لوحظ مجموع الصّلوات الأربع كان فيها عنوانان أحدهما عنوان تحصيل العلم إذ ليس معنى تحصيل العلم إلاّ إتيان الصّلاة الأربع والثّاني عنوان الصّلاة إلى الجهات وهي بالعنوان الثّاني مقدمة لها بالعنوان الأوّل وحينئذ فنقول في مثل هذا الشّيء إذا ثبت الوجوب له بأحد العنوانين اتصف بالوجوب ولزم الإتيان به ولا ثمرة في البحث عن أنّه هل يجب بالعنوان الآخر هو أو لا والعنوان الآخر لو لم يكن واجبا فلا ريب أنّه لا يمنع عن وجوبه بالعنوان الأوّل وإلاّ لزم عدم وجوب شيء من الواجبات لوجود العناوين الغير الواجبة في جميعها كالصّلاة فإنّ فيها عناوين تحريك البدن والاستقامة والانحناء وأمثال ذلك إذا عرفت هذا فنقول لا ريب أنّ الماهيّة والتّشخص لا تميز بينهما بحسب الخارج بل الموجود في الخارج شيء واحد هو الفرد قد جمع فيه عنوانان أحدهما الماهيّة والآخر عنوان التّشخص والمفروض وجوب عنوان الماهيّة لا بشرط شيء فعنوان التّشخص غير مانع عنه نعم لو اعتبر في المطلوب بعض الخصوصيّات كان غيره من الخصوصيّات مانعا عن مطلوبيّة الماهيّة الموجود معه لعدم وجود عنوان المطلوب فيه وليس المفروض هنا ذلك إذ الفرض وجوب الماهيّة لا بشرط شيء وحينئذ فالفرد يكون واجبا بعين وجوب الماهيّة فالقول بأنّه حرام صرف خارج عن المفروض ومع التّنزل وتسليم أنّ مقصوده هو أن مطلوبيّة الماهيّة مشروطة بغير خصوصيّة الفرد المحرم نقول إنّه لا معنى حينئذ لسقوط الامتثال بذلك الفرد مع عدم كونه مطلوبا أصلا لا نفسيّا ولا مقدميّا إذ مع اعتبار غيره من الخصوصيّات لا يحصل التّوصل به إلى المطلوب فإذا هو غير مطلوب أصلا ولا يحصل التّوصل به إلى المطلوب فما معنى الإسقاط مع عدم حصول الغرض والمطلوب فافهم السّابع في أنّ مقتضى الأصل في المسألة هل هو الجواز أو عدمه قال بعضهم إنّ مقتضى الأصل العقلي والأصل اللّفظي هو الجواز أمّا العقلي فلأنّ المراد بالجواز هو الإمكان ومعناه تساوي طرفي الوجود والعدم والامتناع معناه رجحان طرف العدم كما أنّ

 

الوجوب رجحان طرف الوجود ومقتضى الأصل تساوي الطّرفين لأنّ الرّجحان زيادة تنفى بالأصل ولذا ذكر الرّئيس أنّ كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قائم البرهان وأيضا الممكن أكثر فيجب إلحاق المشكوك به وأمّا الأصل اللّفظي فلأنّ الجواز هو مقتضى ظاهر الخطابين لتعلق كل منهما بطبيعة غير ما تعلق به الآخر وهو لا يستلزم أمرا محالا غاية الأمر أنّ المكلّف يجمعها في مورد واحد بسوء اختياره وفيه نظر لأنّ مقتضى العقل في مقام الشّك في الإمكان هو التّوقف لا الحكم بالإمكان وأصالة عدم الرّجحان فاسد لأنّ الامتناع على فرض ثبوته ليس مسبوقا بالعدم حتى يجري الأصل فيه كما سبق بيانه في مبحث المشترك وبالجملة العقل يحكم بالتّوقف والمراد من كلام الرّئيس هو أنّ كل ما قرع سمعك فاجعله أمرا محتملا ولا تحكم بامتناعه بلا دليل ولا بإمكانه أيضا ولذا ذكر أنّ كل من حكم في واقعة بحكم من دون أن يثبت عنده بالدّليل فهو خارج عن فطرة الإنسان ووجهه ظاهر وأمّا جهة الإلحاق بالأكثر ففسادها غير خفي لأنّ الممتنع لا يمكن وجوده حتى يكون الممكن أكثر منه وإن لوحظ الكثرة بالنّسبة إلى المفهومات الممكنة والممتنعة فأكثريّة الممكنة ممنوعة وأمّا الأصل اللّفظي فلا يظهر منه الجواز أمّا أوّلا فمنع تعلق الطّلبين بالطّبيعة بل الطّلب متعلق بإيجادها وهو الأفراد وحينئذ فظاهر الطّلبين اجتماعهما في مورد الاجتماع وهو غير جائز وأمّا ثانيا فلما ذكرنا أنّه يجب أن يكون بين الكليّين لا محالة قدر مشترك ليوجدا معا في مورد الاجتماع والطّلبان يتعلقان بذلك القدر المشترك الذي هو أمر واحد شخصي في مورد الاجتماع وهو محال فعلم أنّ ظاهر الخطابين ليس أمرا جائزا عقلا اللهم إلاّ أن يريد من ذلك أنّ مقتضى ظاهر الطّلبين هو اجتماعهما في مورد واحد فإنّه مسلم لكنّه غير مسألة جواز الاجتماع الذي كلامنا فيه إذ الكلام إنّما هو أنّ مقتضى الخطابين هل هو أمر جائز عقلا أو لا وقد عرفت عدم جوازه سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالأفراد أو بالطّبائع فتأمّل إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول اختلفوا في المسألة على أقوال الجواز مطلقا والمنع مطلقا والجواز عقلا لا عرفا استدل المجوزون بوجوه أحدها عدم المقتضي للمنع لأنّ وجه المنع إمّا لزوم اجتماع الضّدين في محل واحد أو لزوم التّكليف بما لا يطاق وكلاهما ممنوعان أمّا الثّاني فلاعتبار المندوحة أي القدرة على الامتثال المنفك عن المعصية وأمّا الأوّل فيقرر بوجهين أحدهما أنّ المأمور به والمنهي عنه لما كان بينهما عموم من وجه وجب تغايرهما ذاتا ووجودا فهما موجودان بوجودين فلا فرق بين الصّلاة والغصب وبينهما وبين النّظر إلى الأجنبيّة إلاّ أنّ تغاير الموجودين في الثّاني ظاهر على الحس دون الأوّل وإذا تغاير الوجودان والذّاتان لم يلزم اجتماع الضّدين في محل واحد وثانيهما أنّ اتحاد الوجودين مسلم لكن تغاير الذّاتين كاف في المطلوب لأنّهما إنّما تعلقا بالطّبيعتين من غير اعتبار الوجود فلا دخل للوجود في الطّلب فلا يلزم اتحاد المطلوب والمبغوض لا يقال إنّ الفرد لما كان مقدمة للطبيعة لزم سراية الحكم إليه من

 

باب المقدمة مع أنّ النّهي عن الطّبيعة نهي عن جميع أفرادها فيلزم اجتماع الحكمين في الفرد من باب المقدمة أو الأمر المقدمي والنّهي النّفسي لأنّا نقول لا نسلم أوّلا وجوب المقدمة وثانيا نسلم وجوبها التّوصلي وهو يجوز اجتماعه مع الحرام وثالثا نقول إنّ الفرد حرام صرف لكنّه يسقط الواجب لحصول الطّبيعة في ضمنها هذا حاصل التّقرير وهو متوقّف على مقدميّة الفرد وعدم وجوب المقدمة وجواز اجتماع الوجوب التّوصلي مع الحرام وجواز كون الحرام مسقطا والجميع في معرض المنع ويمكن تقرير الدّليل بطريق لا يتوقّف على تلك المقدمات الممنوعة بأن يقال إنّ وجوب الطّبيعة لا يستلزم وجوب الفرد بل لا حكم للفرد أصلا إذ ما يتصور حكما له إمّا الوجوب المقدمي وهو فرع كون الفرد مقدمة وهو ممنوع أو الوجوب النّفسي وهو أيضا باطل إذ المراد به إمّا النّفسي العيني أو التّخييري الشّرعي أو التّخييري العقلي والأوّل مستلزم لعدم حصول الامتثال ببعض الأفراد والثّاني فرع تعلق الخطاب الشّرعي بالأفراد تخييرا وهو مفقود والثّالث إن أريد به إنشاء العقل الوجوب التّخييري للأفراد فممنوع وإن أريد به حكمه وتصديقه بأنّ الإتيان بأحد الأفراد مسقط للتّكليف لحصول الطّبيعة في ضمنه فمسلم لكنّه ليس بالوجوب الشّرعي الذي هو ضد الحرمة فلم يلزم اجتماع الضّدين في محل واحد هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الدّليل العقلي للمجوزين وبما أسلفنا في المقدمات تعلم فساد جميع ذلك أمّا اعتبار المندوحة فلأنّه لا يوجب دفع المحذور وهو لزوم التّكليف بما لا يطاق إذ ليس علة قبح التّكليف بما لا يطاق كونه إلزاما بما لا يمكن إتيانه حتى لا يجري في الواجب التّخييري بل العلة هي أنّ الطّلب من المكلف لما لا يتمكن من امتثاله قبيح فلو أراد إتيان الصّلاة في الدّار المغصوبة وتركها كان قبيحا لأنّه إرادة ما لا يمكن امتثاله وأمّا منع لزوم اجتماع الضّدين بالوجوه المذكورة فلفساد جميع الوجوه أمّا الأوّل فلما سبق أنّه لا يمكن فرض العموم من وجه إلاّ بأن يكون بين الكليّين قدر مشترك هو الموجود في مورد الاجتماع فالوجود واحد كما أنّ الموجود بالوجود النّفسي أيضا واحد وأمّا الوجه الثّاني فلأنّه مبني على تعلق الأحكام بالماهيّات وكون الفرد مقدمة وجواز اجتماع الواجب التّوصلي مع الحرام أو كون الحرام مسقطا والتّحقيق خلاف ذلك كله بل الأحكام متعلقة بالوجودات الخارجيّة لأنّها المتصفة بالمصالح والمفاسد ولو قلنا بتعلقها بالماهيّة أيضا تم المطلوب لأنّ الماهيّة مع قطع النّظر عن وجودها الذّهني والخارجي عدم صرف لا يمكن كونها متعلقة للطلب فإنّ المطلوب يجب أن يكون مما له ثبوت ولو في ظرف الذّهن فيكون الماهيّة الثّابتة مطلوبة والوجود سواء كان في الذّهن أو في الخارج ليس مغايرا للماهيّة كالأوصاف الخارجيّة من السّواد أو البياض ضرورة تأخّر الصّفة وجودا عن الموصوف ولا يمكن تقدم الماهيّة وجودا على الوجود فهما متحدان ذهنا وخارجا وتغايرهما إنّما هو في التّصور بمعنى أنّه يمكن للذّهن أن يتصور الماهيّة مرة ويتصور لها الوجود بتصور آخر مع أنّها بالتّصور الأوّل أيضا موجودة ذهنا لكن الذّهن لا ينظر إلى ذلك الوجود فتغايرهما إنّما هو بالتّصور ولذا قال بعضهم إنّ الوجود

 

عارض الماهيّة تصورا واتحدا هويّة وإذا علم مطلوبيّة الماهيّة الثّابتة فإمّا يراد الثّابتة في ذهن الطّالب وهو محال لعدم قدرة المكلّف على التّصور الذي هو فعل ذهن الطّالب أو الثّابتة في ذهن المكلّف وهو مستلزم لحصول الامتثال بتصور الصّلاة كما سلف فإذا لا يكون المطلوب إلاّ الماهيّة الثّابتة في الخارج وقد عرفت عدم التّمايز بينها وبين الوجود فيلزم اجتماع الطّلبين بالنّسبة إلى الوجود الواحد وهو معنى اجتماع الضّدين وأمّا ما ذكره المستدل المذكور في آخر كلامه من أنّه لا استحالة في أن يقول الحكيم هذه الطّبيعة مطلوبتي ولا أرضى بإيجادها في ضمن هذا الفرد أيضا ولكن لو عصيتني وأوجدتها فيه أعاقبك لما خالفتني في كيفيّة الإيجاد لا لأنّك لم توجد مطلوبي لأنّ ذلك الأمر المنهي عنه خارج عن العبادة فهذا معنى مطلوبيّة الطّبيعة الحاصلة في ضمن هذا الفرد لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد فما لم نحصل معناه فإنّ الكون الصّلاتي في المكان المغصوب أمر واحد متصف باقترانه بعدم إذن المالك وقد عرفت اتحاد وجوب الغصب والصّلاة فيه فإن أراد بما ذكر أنّ ذلك الكون مطلوب صرف والاقتران مبغوض وهو أمر خارج عن العبادة فمع أنّه خروج عن محل البحث وهو العموم من وجه المصداقي وأنّ حرمة الاقتران بعدم الإذن غير معقول لا يجامع قوله لا أنّها مطلوبة مع كونها في ضمن الفرد وقوله بكون الفرد حراما مسقطا عن الواجب وإن أراد أنّ ذلك الكون حرام لاقترانه بعدم الإذن حصل الاجتماع لوحدة الوجود كما عرفت والظّاهر أنّه قد خلط عليه اجتماع جهتي الحسن والقبح بالمطلوبيّة والمبغوضيّة والواجب التّوصلي بالتّعبدي فإنّ اجتماع الأوّلين ممكن لكن مطلوبيّة الشّيء إنّما هي بعد ملاحظة جميع مصالحه ومفاسده فإن كان فيه المصلحة السّليمة عن معارضة المفسدة كان مطلوبا أو المفسدة السّليمة عن مزاحمة المصلحة كان مبغوضا وإلاّ فمباحا ولا يمكن اجتماع المطلوبيّة والمبغوضيّة في شيء واحد كما يمكن اجتماع العلم والفسق في زيد مع أنّ الأوّل جهة الكمال والثّاني جهة النّقص لكن لا يمكن أن يقال إنّ زيدا كامل وناقص نعم في الواجب التّوصلي يمكن كون الحرام مسقطا لحصول الغرض لا في المقام لعدم حصوله كما عرفته في المطلب السّادس وأمّا جواز اجتماع الوجوب التّوصلي مع الحرمة ففساده ظاهر لأنّ معنى الوجوب لا يتفاوت بكون المصلحة في نفس الواجب أو في غيره بل الوجوب مرتبة من الطّلب مانعة من النّقيض فاجتماعه مع الحرمة اجتماع الضّدين مطلقا وأمّا كون الفرد مقدمة فقد ظهر لك فساده وكذا فساد منع وجوب المقدمة وأمّا الوجه الثّالث فلأنّا نختار الوجوب العيني ولكن على نحو ثبوته للكلي وهو معناه عدم سقوطه بإتيان طبيعة أخرى كما سبق فتلخص مما ذكرنا أنّ اجتماع الأمر والنّهي أعني المطلوبيّة والمبغوضيّة في شيء واحد من جهتين مستلزم للتكليف بما لا يطاق سواء اعتبرت المندوحة أو لا ومستلزم لاجتماع الضّدين في محل واحد سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالوجودات أو بالماهيّة الثّابتة ولا ثالث بينهما وأنّ الفرد الحرام لا يمكن كونه مسقطا للواجب لما عرفت أنّ حرمة الفرد معناها مطلوبيّة الطّبيعة الموجودة في ضمن غير ذلك الفرد فبذلك الفرد لا يحصل المطلوب أصلا ولا معنى للسّقوط مع عدم حصول الغرض فالتّحقيق

 

عدم جواز الاجتماع عقلا وإذا لم يجز عقلا وجب تأويل كل ما يخالفه من الأدلّة النّقليّة كما سيأتي الثّاني من أدلّة المجوزين الوقوع شرعا فإنّه كاشف عن الإمكان الذي هو المراد بالجواز في المسألة كالعبادات المكروهة بحسب المكان كالصّلاة في الحمام ونحوه أو بحسب الزّمان كالصّوم يوم عرفة على بعض الوجوه وتقريب الاستدلال أنّ مناط البحث في اجتماع الأمر والنّهي هو أنّ تعدد الجهة هل يوجب تكثر الموضوع حتى لا يلزم اجتماع الضّدين في محل واحد أو لا وكما أنّ الوجوب والحرمة ضدان كذا الوجوب والكراهة أيضا ضدان فلو لم يكن تعدد الجهة مجديا في الأوّل لزم عدم جواز اجتماع الأخيرين أيضا مع أنّهم اتفقوا على صحة العبادات المكروهة وليس معنى الصّحة في العبادة إلاّ موافقة الأمر فيعلم من ذلك وجود الأمر والنّهي التّنزيهي أيضا موجود وإلاّ لم تكن مكروهة فقد ثبت الاجتماع وهو المطلوب وأيضا قد ورد في الشّرع اجتماع الحكمين المتماثلين في محل واحد من جهتين كالغسل الواحد للحيض والجنابة أو للجمعة والجامعة لاجتماع الوجوبين في الأوّل والاستحبابين في الثّاني من جهة السّببين فلو لم يجد تعدد الجهة في تكثر الموضوع لامتنع اجتماع المثلين أيضا مع وقوعه هذا غاية تقرير الدّليل وأنت بعد ما عرفت من استحالة الاجتماع عقلا علمت وجوب التّأويل في الظّواهر النّقليّة إذ لا يحصل منها العلم باجتماع الحكمين غاية الأمر الظّهور في ذلك وهو لا يعارض البرهان العقلي وحينئذ فنقول للمانعين في تأويل تلك الظّواهر مسالك عديدة ولنقدم ما ذكروه في العبادات المكروهة فنقول مرجع كل ما يذكر في التّأويل أحد الأمرين وذلك لأنّ الإشكال إنّما نشأ من كون العبادة مطلوب الفعل للأمر ومطلوب التّرك للنّهي وطلب الفعل والتّرك ضدان فدفع الإشكال بناء على القول بالمنع إنّما يكون برفع التّضاد بين طلب الفعل والتّرك فيها بتقييد التّرك المطلوب بما يخرجه عن كونه نقيضا للفعل المطلوب أو يمنع كون النّهي فيها بمعنى طلب التّرك فهنا وجهان أحدهما ما ذهب إليه بعض الأفاضل وتقريره من وجهين الأوّل أنّ وجه امتناع مطلوبيّة الفعل والتّرك هو امتناع اتصاف وجود الشّيء وعدمه بحكم واحد من المطلوبيّة والمبغوضيّة لكون الوجود والعدم متناقضين فيمتنع كونهما معا مطلوبين أو مبغوضين وحينئذ فلو قيد عدم الشّيء بما يخرجه عن كونه نقيضا له لم يكن مانع من اجتماعهما في الحكم الواحد كما في العبادات المكروهة وذلك لأنّ فعل العبادة بقصد القربة مطلوب ونقيض هذا هو ما لا يمكن رفعه معه وهو تركه المطلق فلا يمكن كونه أيضا مطلوبا وأمّا تركه المقيد بقصد القربة فليس نقيضا لفعله المعتبر معه قصد القربة لإمكان ارتفاعهما معا بأن يترك العمل من دون أن يكون التّرك بقصد القربة وحينئذ فلا مانع من كون التّرك المقيد بالقربة مطلوبا أن فعله المقيد بالقربة أيضا مطلوب لكن يجب أن لا يكون الطّلب عينيّا لا لاجتماع الضّدين في محل واحد لما عرفت من تغاير المحلين بل للزوم التّكليف بما لا يطاق لو تعين عليه الفعل بقصد القربة والتّرك كذلك وأمّا الطّلب التّخييري فلا ضرر فيه بل له نظائر عديدة في

 

الشّرع قد خير الشّارع فيها بين شيء وجودي وبين ترك شيء آخر كالعتق والصّوم في الكفارة لأنّ الصّوم معناه ترك الأكل بل خير في بعض الموارد بين فعل شيء وتركه المقيد بغير القربة من القيود كالصّوم المندوب وتركه المقيد بإجابة المؤمن في الإفطار بل الأمر كذلك في جميع الواجبات التّخييريّة لأنّ ترك كل واحد مقدمة للآخر فيكون مطلوبا بقيد التّوصل إليه مخيرا فالمكفّر مخيّر بين العتق وتركه المقيد بالإيصال إلى الطّعام أو الصّوم غاية الأمر أنّ الطّلب بالنّسبة إلى التّرك هنا غيري مقدمي وهو غير قادح وبالجملة إذا جاز مطلوبيّة الفعل نفسيّا ومطلوبيّة التّرك المقيد بغير القربة فما وجه الاستبعاد في جواز مطلوبيّة الفعل والتّرك المقيد بالقربة نفسيّا كان أو غيريّا لعدم تفاوت حقيقة الطّلب بالنّفسيّة والغيريّة كما مر وفيه أوّلا ما عرفت سابقا من أنّه لا يمكن جعل قصد القربة قيدا للمطلوب لأنّه مستلزم للدور لتوقف القربة على الأمر وثانيا أنّ قصد القربة بفعل شيء وبتركه أيضا غير معقول والتّخيير في المثال السّابق ليس بين فعل الصّوم وتركه بل إنّما هو بين الفعلين الصّوم والإجابة وثالثا أنّ فيما يكون بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه مثل صل ولا تكن في مواضع التّهم يلزم على ما ذكرت استعمال النّهي في المعنيين أعني الطّلب التّعييني بالنّسبة إلى غير مورد الاجتماع والتّخييري بين الفعل والتّرك بالنّسبة إلى مورد الاجتماع وكذا في صورة العموم المطلق يلزم استعمال الأمر في المعنيين أعني الطّلب التّخييري بين الأفراد الرّاجحة والطّلب التّخييري بين الفعل والتّرك بالنّسبة إلى الأفراد المكروهة فافهم الثّاني أنّ ترك العبادات مطلوبة على تقدير التّوصل به إلى الأفضل وفعلها مطلوب على تقدير عدم التّوصل بتركها إلى الأفضل وبالجملة فالتّرك الموصل مطلوب وهو ليس نقيضا للفعل لإمكان رفعهما معا في ضمن التّرك الغير الموصل وفيه أيضا نظر أمّا أوّلا فلاستلزامه في صورة العموم من وجه إرادة المعنيين من النّهي بأن يكون قوله لا تكن في مواضع التّهم مستعملا في النّهي التّوصلي بالنّسبة إلى مورد الاجتماع وفي النّهي النّفسي بالنّسبة إلى غيره وأمّا ثانيا فلأنّه لا معنى له فيما لا بدل له من العبادات كالتّطوع وقت طلوع الشّمس إذ لا معنى لمطلوبيّة تركه للتّوصل إلى بدله إذ لا يفرض له بدل من نوعه وهو المراد بالبدل لا نوع آخر وإلاّ لزم كراهة كل عبادة كان فوقها ما هو أرجح منها ولو من غير نوعها وأمّا ثالثا فلأنّ ظاهره أنّ سبب الكراهة هو محض حصول التّوصل بتركها إلى الأرجح وعلى هذا فيلزم كراهة الصّلاة في مسجد السّوق لمطلوبيّة تركها للتّوصل إلى مسجد الجامع مثلا وأمّا رابعا فلأنّ حاصل الجواب هو أنّ العبادة باقية على رجحانها الذّاتي غاية الأمر مطلوبيّة التّرك للتّوصل إلى الأفضل وهذا ينافي الأخبار الواردة في الباب لدلالتها على وجود منقصته في أصل تلك العبادة بل دل بعض الأخبار على كونها معصية تأكيدا للكراهة وبالجملة فالجواب بإبقاء النّهي على ظاهره من طلب التّرك بالوجهين المذكورين غير تمام فتأمّل ثانيهما أن ليس المراد بالنّهي في هذه الموارد طلب التّرك بل المراد منه الإرشاد إلى أقلّيّة الثّواب ليترك ويؤتى بالفرد الأفضل وبيانه أنّ الأمر المتعلق بالماهيّة يستفاد منه التّرخيص في إتيان

 

أي فرد أراد المكلف وحصول الامتثال بأي فرد كان وتساوي الأفراد في الثّواب فإذا تعلق النّهي ببعض الأفراد فإن كان تحريميّا كان ناظرا إلى رفع الأولين أي التّرخيص والامتثال كما سيأتي في المسألة الآتية وإن كان تنزيهيّا كان ناظرا إلى رفع التّساوي في الثّواب ومبينا لقلة ثواب ذلك الفرد عن ثواب أصل الطّبيعة بواسطة وجود خصوصيّة في ذلك الفرد موجبة للنّقص وذلك لأنّ أصل الطّبيعة له مقدار معين من الثّواب فقد يزيد بواسطة بعض الخصوصيّات وهو المستحب كالصّلاة في المسجد وقد ينقص بواسطة بعض الخصوصيّات وهو المراد بالمكروه كالصّلاة في الحمام وقد يبقى بحاله كالصّلاة في البيت مثلا فارتفع الاعتراض بأنّه يلزم على هذا كراهة أكثر العبادات الّتي ثوابها أقل من عبادة أخرى كالصّلاة في مسجد الكوفة لأنّها أقل ثوابا من الصّلاة في المسجد الحرام وكذا يلزم استحباب العبادات الّتي ثوابها أكثر من عبادة أخرى كالصّلاة في البيت بالنّسبة إلى الصّلاة في الحمام مع أنّه يلزم في الجميع اجتماع الاستحباب والكراهة بالنّسبة إلى ما هو أقل منها ثوابا وإلى ما هو أكثر ووجه ارتفاعه أنّ قلة الثّواب وكثرته فيما ذكرت من الأمثلة إنّما هي لعدم وجود الخصوصيّة الموجبة للزيادة أو الموجبة للنّقص لا لوجود خصوصيّة موجبة لهما فإنّ الصّلاة في البيت ثوابها أكثر من الصّلاة في الحمام لا لخصوصيّة أوجبت ذلك بل لعدم وجود الخصوصيّة المنقصة فيها وكذلك قلة الثّواب في الصّلاة في مسجد الكوفة ليست لوجود منقصة فيها بل لعدم وجود الصّفة الموجودة في المسجد الحرام فيها ثم إنّه قد علم بما ذكرنا أنّه يجب أن يكون ثواب الطّبيعة زائدا عن كفاية الوجوب ليبقى في الفرد المكروه ثواب كاف في الوجوب وإلاّ لم يكن معنى لبقائه على الوجوب والمطلوبيّة والحاصل أنّه لما قام الإجماع على صحة الفرد المكروه وقام الدّليل العقلي على عدم بقاء النّهي على حقيقته وجب حمله على الإرشاد ولازمه بالتّقرير المذكور كون ثواب أصل الطّبيعة زائدا عن كفاية الوجوب وحينئذ فلا يرد أنّ الوجه المذكور مبني على ثبوت أنّ ثواب أصل الطّبيعة زائد عن مقدار كفاية الوجوب وهو موقوف على إثباته بالدّليل واعترض على الجواب المذكور بأنّه لا يتم فيما لا بدل له من العبادات كالتّطوع في وقت طلوع الشّمس مثلا فإنّ كل زمان يسع فيه ركعتان من الصّلاة فهي مستحبة فيه وحينئذ فلا معنى للإرشاد إلى قلة الثّواب طلبا للتّوصل إلى الأفضل إذا الأفضل لا يقوم مقام الأوّل إلاّ إذا علم عدم تمكّن المكلّف من إتيانها معا فيجوز الإرشاد وحينئذ إلى إتيان الأفضل وتخصيص النّواهي بهذه الصّورة بعيد جدا هذا إذا أراد من جعل النّهي للإرشاد بقاءه على معنى الإنشاء بأن يكون حاصله طلب التّرك إرشادا إلى الأكثر ثوابا وأمّا إن أخرجه عن معنى الطّلب وجعله للإخبار بقلة الثّواب من غير قصد الإرشاد إلى الأفضل لم يرد عليه ما ذكر لكن يستلزم ذلك في ما يكون بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه استعمال النّهي في معنيين إنشاء طلب التّرك بالنّسبة إلى غير مورد الاجتماع والإخبار عن قلة الثّواب بالنّسبة إلى المورد وقد يجاب بوجه ثالث وحاصله أنّ النّهي مستعمل في طلب التّرك لكن لا بعنوان أنّه ترك للمستحب حتى يلزم منه مطلوبيّة الفعل والتّرك

 

واتصاف طرفي النّقيض بالمطلوبيّة بل بعنوان آخر متحد مع التّرك في الوجود أو مقارن معه نظير الواجبين المتزاحمين كإنقاذ أحد الغريقين فإن فعل كل منهما مطلوب وتركه بعنوان أنّه مقارن لإنقاذ الآخر أيضا مطلوب لا بعنوان أنّه تركه حتى يلزم الحذور وهنا أيضا كذلك فإنّ فعل الصّوم مطلوب والإفطار أيضا مطلوب لا بعنوان أنّه ترك للصّوم بل بعنوان أنّه متحد مع الإجابة لدعوة المؤمن فيكون الشّخص حينئذ مخيرا بين الفعل والتّرك المعنون بذلك العنوان والتّرك أرجح كما في أحد فردي الواجب التّخييري إذا كان أفضل وحينئذ إذا علم العنوان المتحد مع التّرك أو المقارن معه فلا إشكال وإلاّ فنقول إنّ النّهي كاشف عن وجود العنوان في الواقع إجمالا وإن لم نعلمه تفصيلا لا يقال لا يخلو الشّخص من الفعل والتّرك قطعا فما فائدة الطّلب لأنّا نقول الفائدة حصول الثّواب بواسطة الامتثال أنّه لا يمكن الامتثال بدون الطّلب فإن قيل على هذا يلزم الحكم بكراهة كل عبادة كان تركها معنونا بعنوان مطلوب بالطّلب الأرجح من طلب الفعل كالصّلاة في مسجد الكوفة إذا تحقق تركها مقارنا للصلاة في الحرم المطهر على ساكنه السّلام فيلزم كونها مكروهة قلنا بعد تسليم إمكان مقارنة تركها لفعل الأفضل لا يخفى أنّ تركها بعنوان أنّه فعل الأفضل أفضل من فعلها فلا ضرر في الحكم بالكراهة بهذا المعنى كما ذكروا أنّ حكمهم بكراهة الصّوم عند الدّعوة للإفطار وليس لتعلق النّهي بالصّوم بل لورود الخبر رجحان الإفطار للإجابة فإذا كان هذا موجبا للحكم بالكراهة فليكن الخبر الوارد برجحان الصّلاة في الحرم على الصّلاة في المسجد موجبا لكراهة الصّلاة في المسجد وإلاّ فما الفرق فإن قلت على هذا يلزم استعمال النّهي في التّعيين والتّخيير إذا كان المنهي عنه أعمّ من المأمور به من وجه لأنّ المطلوب منه التّرك معينا في غير مورد الاجتماع ومخيرا في المورد قلت هذا ليس جمعا بين المعنيين لأنّ النّهي حقيقة في الأعمّ من التّعيين والتّخيير كالأمر على ما سبق تحقيقه في مبحث الأمر فتأمّل وليعلم أنّ الإشكال في العبادات المكروهة لا يختص بمن لا يجوز الاجتماع بل هو وارد على المجوزين أيضا بالنّسبة إلى ما لا بدل له منها فإنّ الأمر فيها قد تعلق بالفرد عينا ولا يمكن امتثاله في ضمن فرد آخر لأنّه مأمور به بأمر آخر وعلى هذا فيلزم فيه اجتماع الأمر والنّهي في المحل الواحد والتّكليف بما لا يطاق لعدم المندوحة نعم فيما له بدل يمكن لهم التّفصي بأنّ المأمور به كلي والمنهي عنه كلي آخر على ما سبق والعجب من بعض المحققين حيث رام تصحيح الاجتماع فيما لا بدل له أيضا بالوجه الذي ذكروه فيما له بدل وقد أتى في بيانه بما يقتضي منه العجب كما يظهر لمن رجع إلى القوانين وهو أعلم بما قال هذا تمام الكلام في العبادات المكروهة وأمّا مسألة تداخل الأغسال فالكلام فيها من وجهين أحدهما في اجتماع المتضادين فيها إلى الواجب والمستحب كالجمعة والجنابة والثّاني في اجتماع المثلين أي الواجبين كالجنابة والحيض والجمعة والزيارة وأمثالها فنقول قد أجاب بعض المحققين في الأوّل بأنّه لا تضاد بين الوجوب والاستحباب حتى يمتنع اجتماعهما بل الاستحباب عبارة عن الطّلب الغير المانع عن النّقيض والوجوب هو الطّلب المانع عنه ولا تنافي بين ما يقتضي المنع وما لا يقتضيه نعم لو كان

 

الاستحباب مقتضيا للإذن لامتنع الاجتماع وما يرى من تعريف الاستحباب بقولهم هو طلب الفعل مع الإذن في التّرك ليس لاعتبار الإذن في مفهوم الاستحباب بل إنّما هو باعتبار أنّ المستحب اصطلاحا إنّما يطلق على ما لا يقتضي المنع أصلا بأن لا يكون في الشّيء عنوان يقتضي المنع من التّرك ولازم ذلك تحقق الإذن في التّرك وأمّا مع قطع النّظر عن الاصطلاح فيصدق المستحب على المطلوب بالطّلب الغير المقتضي للمنع وإن قارنه عنوان مطلوب بالطّلب المانع عنه وفيه نظر لأنّ الطّلب الاستحبابي وإن لم يعتبر فيه الإذن في التّرك لكن لا شبهة في أنّه مرتبة خاصة من الطّلب غير مرتبة الوجوب فحاله بالنّسبة إليه حال الظّن بالنّسبة إلى العلم فكما لا يمكن اجتماعهما بالنّسبة إلى متعلق واحد فكذا الطّلب الاستحبابي والوجوبي فالأولى في الجواب عن الوجهين أن يقال أوّلا إنّ الإشكال وارد على المجوزين أيضا في مسألة تداخل الأسباب الواردة لعمل واحد كالوضوء بالنّسبة إلى الغايات الواجبة والمندوبة فإنّ الظّاهر من الشّرع أنّ الوضوء طبيعة واحدة متى تحققت بالوجه الشّرعي ترتب عليها جميع الآثار والغايات فليس هناك عنوانان يتعلق الوجوب بأحدهما والاستحباب بالآخر يجمعهما المكلف في فرد واحد فإنّ الوضوء للصلاة المكتوبة والمندوبة أمر واحد لأنّه بالنّسبة إلى الأوّل نوع وبالنّسبة إلى الثّاني نوع آخر كغسل الجمعة والجنابة فعلى هذا يلزم اجتماع الضّدين لعدم تعدد الجهة التّقييديّة وثانيا أنّ الأمر الوجوبي والاستحبابي والأمران الوجوبيان إذا تعلقا بشيء واحد فمقتضاهما في حال الاجتماع غير مقتضاهما في حال الانفراد فمقتضى الأمرين الوجوبين مرتبة واحدة من الوجوب أشد منها حال الانفراد لا وجوبان ومقتضى الأمرين الاستحبابيين مرتبة واحدة من الاستحباب أشد منها حال الانفراد لا استحبابان وكذا في الوجوبي الاستحبابي يثبت الوجوب الأشد من الثّابت من الأمر الوجوبي حال الانفراد إذا تحقق هذا فنقول إن أردت من اجتماع المتضادين والمتماثلين هنا اجتماع الطّلبين فغير لازم بل هناك طلب واحد كما بينا وإن أردت منه صدق عنوان الاستحباب أو الوجوب مثلا باعتبار تحقق الاستحباب أو لا ثم اشتد فتحقق الوجوب فلا ضرر فيه لأنّ تحقق الوجوب ليس دافعا للاستحباب وإنّما هو استحباب مع شيء زائد وقد أشرنا إليه في مبحث تداخل الأسباب ولا يلزم من ذلك اجتماع الضّدين ليس هنا إلاّ طلب واحد فتأمّل ثم إنّ في المسألة تفصيلين عن بعض المحققين الأوّل التّفصيل بين العقل والعرف فيما إذا كان بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه فحكم بجواز الاجتماع عقلا ومنه عرفا ولا نعرف وجهه إذ المقصود من تفكيك العقل والعرف إمّا يكون بعد فرض اتحاد الموضوع بمعنى أنّه إذا ورد الأمر والنّهي على كليّين أو تعلقا معا بالأفراد فالعقل حاكم بالجواز دون العرف وإمّا يكون بعد فرض اختلاف الموضوع بمعنى أنّ العقل يحكم بجواز تعلقهما بكليّين بينهما عموم من وجه لكن يفهم العرف منهما طلب الأفراد فيكون ممتنعا أمّا الأوّل فبين الفساد إذ العرف إنّما يحكم بمقتضى عقله فكيف يمكن تجويز العقل ومنع العرف وأمّا الثّاني فمع أنّه على فرض تعلق التّكليف بالطّبيعة أيضا يمتنع الاجتماع عقلا على ما عرفت

 

يطابق مذهب القائل حيث ذهب إلى أنّ المتبادر من الأمر طلب الطّبيعة لا الأفراد وبذلك أثبت وضعه لذلك وحينئذ فنقول إذا كان الأمر موضوعا لطلب الطّبيعة وهو المتبادر منه عرفا فما وجه فهم العرف طلب الأفراد فإن كان لأجل امتناع اجتماع الأمر والنّهي في الطّبيعتين فقد حكمت بجوازه وإن كان لقرينة حاليّة أو مقاليّة فلم تظهر لنا بعد بل يجب أن تبين فتأمّل الثّاني التّفصيل فيما إذا كان المنهي عنه أخص من المأمور به مطلقا بين المنهي عنه لوصفه اللازم فمنعه عقلا وعرفا وبين المنهي عنه لوصفه المفارق فجوزه عقلا ومنعه عرفا على احتمال في الجواز أيضا مثال الثّاني قوله صل ولا تصل في الدّار المغصوبة فإنّ النّهي إنّما تعلق بالصّلاة باعتبار وصف الغصب وهو وصف مفارق للصّلاة لأنّ الصّلاة لا يختلف شخصها باختلاف المكان لأنّ نسبة المكان إلى الأفعال كنسبته إلى الأجسام فالمنهي عنه وهو الوصف المفارق مغاير للمأمور به ذاتا ووجودا وليس من مقوماته ومشخّصاته ولو سلم اختلاف الصّلاة بحسب اختلاف المكان فنقول إنّما هو إذا فرض اختلاف المكان بذاته وأمّا المكان بوصف كونه غصبا فليس من المشخّصات جزما فلو فرض زوال الغصبيّة للمكان المفروض لم يلزم مغايرة الصّلاة فيها حينئذ لها حال ثبوت الغصبيّة فثبت في ذلك الجواز عقلا لعدم المانع ومثال الأوّل قوله اقرأ ولا تقرأ جهرا أو اغتسل ولا تغتسل ارتماسا في نهار رمضان فإنّ النّهي قد تعلق بالقراءة والغسل باعتبار وصفهما اللازم أي الجهر والارتماس لاختلاف القراءة بالجهر والإخفات والغسل بالارتماس والتّرتيب والوصف في مثل ذلك من جملة المشخّصات والمقوّمات وحينئذ فلا معنى للاجتماع لأنّ الفرد الخاص إذا كان منهيّا عنه فالمأمور به إمّا الكلي بشرط غير ذلك الفرد أو بشرط ذلك الفرد أو لا بشرط فعلى الأوّل ثبت المطلوب وهو عدم كونه مأمورا به وعلى الثّاني يلزم الاجتماع الآمري وكذا على الثّالث لأنّ مقتضى مطلوبيّة الطّبيعة لا بشرط مطلوبيّة جميع الأفراد هذا حاصل كلامه وأنت بعد ما أسبقنا لك في المقدمات من المطالب تعلم فساد هذا التّفصيل أمّا أوّلا فبأنّ المحسوس من الصّلاة في الدّار المغصوبة هو إيقاع الحركات فيها بالوجه الخاص فإن كان هو منهيّا عنه فأي شيء يبقى مطلوبا وإن كان المنهي عنه هو المقارنة لعدم الإذن فقد مر أنّه يرجع إلى حرمة عدم الاستئذان من المالك أو عدم إذن المالك وكلاهما خارج عن محل الكلام كما عرفت وأمّا ثانيا فبأنّه على القول بمطلوبيّة الطّبيعة كما هو مذهب المفصل لا وجه للفرق بين الوصف اللازم والمفارق فإنّ الوصف اللاّزم ليس مقوما لأصل الطّبيعة الجنسيّة بل هو مقوم للفرد كالفصل بالنّسبة إلى الجنس فإنّه مقسم له وخارج عن حقيقته وإن كان بالنّسبة إلى النّوع مقوما فيكون حاله بالقياس إلى المطلوب وهو الكلي حال الوصف المفارق وهو ظاهر فتأمّل

تذنيبان

الأوّل

قد مضى الإشارة إلى أنّ ثمرة هذه المسألة هي المسألة الأصوليّة أعني ثبوت التّعارض بين الأمر والنّهي ويتفرع عليها مسألة فقهيّة هي صحة الصّلاة في الدّار المغصوبة وعدمها فإن قلنا بعدم التّعارض كان

 

العمل صحيحا وحراما وإن قلنا بالتّعارض فيجب ترجيح الأمر أو النّهي وإن لم يمكن فالتّساقط والرّجوع إلى الأصول العمليّة فهاهنا مقامان أحدهما في مقتضى الأصل عند التّساقط فنقول الأصل إباحة العمل لدوران الأمر بين الجواز والحرمة إذ الكلام في صورة وجود المندوحة فالفرد الّذي هو مورد الاجتماع يجوز تركه فالأمر دائر بين جواز فعله وحرمته فالأصل هو البراءة هذا في الحكم التّكليفي وأمّا الحكم الوضعي فقد يتوهم أنّه الصّحة إذ لا مقتضى للفساد ولا مانع عن الصّحة إلاّ حرمة العمل وبعد ما ثبت إباحته لم يبق مانع عن صحته وفيه نظر إذ الإباحة الثّابتة في المقام هي الإباحة الظّاهريّة وهي لا تقتضي مطلوبيّة العمل للشّارع واقعا كما هو معنى الصّحة الّتي هي عبارة عن موافقة الأمر بل المفروض انتفاء الأمر عند التّساقط فلا معنى للصّحة لا يقال لا يمكن تفكيك عدم الحرمة عن الإباحة الواقعيّة المستلزمة للصحة لتلازمهما ولا يجوز تفكيك اللاّزم عن الملزوم لأنّا نقول إثبات كل من اللاّزم والملزوم بحسب الظّاهر لا يستلزم إثبات الآخر لجواز التّفكيك في الأحكام الظّاهريّة كالمائع المشكوك كونه بولا أو ماء حيث يحكم بطهارته لأصالة الطّهارة ولا يحكم بكونه ماء مع تلازمهما واقعا وغير ذلك من الموارد فالتّحقيق أن يقال إنّ مقتضى القول بالاشتغال عند الشّك في المكلّف به هو الفساد ومقتضى القول بالبراءة الصّحة بأن يقال إنّ الأمر باق في المقام والشّك إنّما هو في شرطيّة إباحة المكان وبعبارة أخرى الشّك إنّما هو في أنّه هل يشترط كون الصّلاة مؤداة في غير المكان المغصوب أو لا فالأصل البراءة إذ الأصل كما يجري في الشّبهة الوجوبيّة يجري في الشّبهة التّحريميّة أيضا سواء كان الشّك في الشّرطيّة أو الجزئيّة أو غيرهما ويمكن المناقشة فيه بأنّ الأصل المذكور معارض بأصالة عدم إطلاق الأمر بمعنى أصالة عدم كونه لا بشرط لكنّا لسنا بصدد بيان صحة الأصل المذكور وفساده بل المقصود بيان مقتضى الأصل عند كل قوم حسب مذاقه وهو كما ذكرنا فتأمّل وثانيهما في ترجيح الأمر على النّهي وبالعكس والمراد بالمرجح هو المرجح الكلي النّوعي لا الجزئي الموجود في خصوص الموارد فإنّه تابع لنظر المجتهد فنقول قيل بترجيح النّهي على الأمر وجوه منها أنّ النّهي بالنسبة إلى الأمر كالدليل بالنسبة إلى الأصل وذلك لأنّ دلالة النّهي على العموم إنّما هي بالوضع ودلالة الأمر بالإطلاق والأوّل مقدم على الثّاني لأنّ دلالة الإطلاق على العموم البدلي متوقفة على عدم بيان القيد حتى يحكم العقل بإرادة الطّبيعة اللاّبشرط السّارية في جميع الأفراد ودلالة النّهي على العموم بالوضع فلا تتوقف على شيء وهو صالح لتقييد الأمر ومع بيان القيد لا يبقى للعقل حكم بالعموم نظير الأدلّة الشّرعيّة بالنسبة إلى أصالة البراءة ولذا تراهم يقدمون التّقييد على المجاز فإنّ الأمر بالمقيّد إذا كان للاستحباب لم يكن بين المطلق والمقيّد تعارض بل هو من باب أفضل الأفراد ومع ذلك فلا يحكمون بإرادة النّدب من الأمر المتعلق بالمقيد بل يحكمون بالتّقييد وذلك لأنّ بيان القيد يوجب ارتفاع موضوع العموم الإطلاقي أعني عدم بيان القيد فلا يلزم بسبب التّقييد مجاز كما سبق في محله مفصلا وفيه نظر

 

لأنّ النّهي أيضا كالأمر في اقتضائه العموم بالإطلاق لا بالوضع غاية الأمر استفادة العموم الاستغراقي في النّهي والبدلي في الأمر بواسطة النّفي والإثبات وهو لا يوجب الفرق المذكور نعم يمكن القول بأنّ النّهي أصرح دلالة من الأمر فلتقدمه عليه ظهور عرفي لا يقال يلزم حينئذ حرمة بطلان الفرد الّذي هو مورد الاجتماع على النّاسي والسّاهي والجاهل بالغصبيّة ونحوهم ممن لا يحرم عليه الصّلاة فيها إذ لو تقدم النّهي على الأمر بحسب فهم العرف لقدم مطلقا لأنّا نقول تقييد الأمر بالنهي يثبت بمقدار دلالة الخطاب فمتى وجد النّهي الدّال على الحرمة علم عدم شمول إطلاق الأمر وحيث لم يوجد النّهي بقي الأمر على شموله نعم لو كان النّهي متعلقا ببعض أفراد المأمور به نحو صل ولا تصل في الدّار المغصوبة كشف عن وجود مفسدة في ذاتها مانعة عن الطّلب ثابتة عند عدم الحرمة أيضا ومنها أنّ العمل بمدلول النّهي أرجح من العمل بمدلول الأمر وقرر بوجوه ثلاثة أحدها أسهليّة العمل بالنهي لأنّ المطلوب به هو التّرك وهو أسهل من الفعل وفيه منع ذلك كليّة بل قد يكون امتثال النّهي أصعب الثّاني أنّ العمل بالأمر جلب للمنفعة والعمل بالنهي دفع للمفسدة والثّاني أولى من الأوّل لأنّ جلب المنفعة إنّما هو طلب التّرقي ودفع المفسدة إنّما هو لدفع التّنزل ولا ريب أنّ دفع التّنزل أشدّ في نظر العاقل من طلب التّرقي وفيه منعه كليّة إذ ربما يكون المنفعة قويّة والمفسدة ضعيفة فيقدم جلب الأوّل على دفع الثّاني مع أنّه قد يكون العمل بالأمر دفعا للمفسدة والعمل بالنهي جلبا للمنفعة مضافا إلى أنّه يلزم على ما ذكرت كون فعل أصغر الصّغائر أبغض من ترك أعظم الواجبات لأنّ الأوّل موجب للتنزل والثّاني موجب لعدم التّرقي وليس كذلك قطعا الثّالث الاستقراء فإنّ الغالب في موارد الاجتماع تقديم جانب الحرمة والظّن يلحق الشّيء بالأعمّ الأغلب ولنذكر منها موردين أحدهما الحيض فإنّهم حكموا بأنّ ذات العادة إذا رأت الدّم وجب عليها ترك العبادة لاحتمال كونه حيضا فرجحوا جهة الحرمة وكذا في المبتدئة عند جماعة وأيضا حكموا في ذات العادة إذا تجاوز الدّم عن المعتاد بأنّها تترك العبادة إلى بلوغ العشر فإن تجاوزه قضاها والثّاني الماء الطّاهر المشتبه بالنجس في الإناءين المشتبهين فحكموا بوجوب الاجتناب عنهما معا ووجوب التّيمّم وليس ذلك إلاّ لترجيح جهة حرمة التّطهير بالنجس وفيه نظر لمنع الغلبة لانحصار التّرجيح في موارد محصورة مع أنّه لا دليل فيها على ترجيح جانب الحرمة أمّا في الحيض لاحتمال كون التّرجيح لقاعدة الإمكان فإنّ كل ما أمكن كونه حيضا فهو حيض ولاستصحاب الحيض بعد التّجاوز عن العادة مع أوفقيّته بطبيعة النّساء إذ الاستحاضة إنّما تحصل بسبب حدوث المرض المخرج لها عن الحالة الطّبيعيّة كما نطق به بعض الأخبار فالأصل عدمه فلا يتعين كون الحكم بالحيضيّة لترجيح جانب الحرمة وأمّا في الإناءين فإمّا يكون حرمة الطّهارة بهما بدعيّة أو ذاتيّة وعلى الأوّل لا وجه لترجيحه إذ لا ينافيه ترجيح الوجوب لأنّ العمل به حينئذ بقصد الاحتياط ليس تشريعا فيرتفع موضوع البدعة وعلى الثّاني مع أنّه لا دليل عليه يحتمل

 

أن يكون ترجيح الاجتناب عن كليهما لأمر آخر مثل وجود البدل للوضوء فلا يتم الاستدلال لقيام الاحتمال

التّذنيب الثّاني

قد ذكرنا أنّ المناط في جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه هو كون تعدد الجهة مجديا ومكثرا للموضوع وعدمه فإن قلنا بأنّه ليس بمكثر للموضوع لم يجز الاجتماع لكونه اجتماع المتضادين وإن قلنا بأنّه مكثر للموضوع لم يمتنع الاجتماع من جهة التّضاد لتعدد الموضوع لكن يمكن امتناعه من جهة أخرى مثل استلزامه التّكليف بما لا يطاق فإذا ثبت عدم الامتناع من هذه الجهة أيضا فلا إشكال في الجواز واعتبار المندوحة في المسألة ليس لأنّ المناط في البحث هو لزوم التّكليف بما لا يطاق وعدمه بل لرفع موانع الجواز من جميع الجهات ومن اعتبر المندوحة إنّما اعتبرها إذا لم يكن عدمها مستندا إلى سوء اختيار المكلف وأمّا إذا كان مستندا إلى سوء اختياره ففي جواز الاجتماع خلاف بين المجوزين ومثلوا له بالمتوسط في الدّار المغصوبة ومحل الكلام فيه هو الخروج حيث اجتمع فيه عنوانان أحدهما التّخلص عن الغصب وهو واجب والثّاني الغصب وهو حرام وفيه بينهم أقوال أحدها أنّه مأمور به ومنهي عنه من جهتين والتّكليف بالمحال إذا كان بسوء اختيار المكلف جائز الثّاني أنّه مأمور به وليس منهيّا عنه ولا عقاب عليه والثّالث أنّه مأمور به فقط لكونه معاقب عليه أقول التّحقيق أنّ هذه المسألة ليست من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنّهي لأنّ حاصل ما قيل في وجهه هو أنّ متعلق الحكم هو كلي التّخلص والغصب وانحصر في الفرد وذلك لا يوجب ارتفاع العموم من وجه بينهما فإنّ التّخلص عن الغصب قد يجتمع مع الغصب وقد يوجد الأوّل دون الثّاني كما لو استأذن عن المالك في الخروج وقد يوجد الثّاني دون الأوّل فيكون المثال من جزئيات المسألة وهو فاسد إذ لا خطاب هناك إلاّ النّهي بقوله لا تغصب مثلا وهو بعمومه يشمل جميع أفراد الغصب من البقاء والدّخول والخروج فلو توسط في الدّار لم يمكن الحكم بحرمة البقاء والخروج كليهما لأنّه تكليف بالمحال والخروج أقلّ قبحا من البقاء فيحكم العقل بوجوبه تخلّصا عن البقاء الّذي هو أقبح وبالجملة ليس هناك أمر ونهي بحيث يدخل في تلك المسألة هذا وأمّا الأقوال المذكورة فالحق فيها عدم جواز الاجتماع وإن قلنا في غيره بالجواز إذ لا فرق في قبح التّكليف بالمحال بين أن يكون مستندا إلى سوء اختيار المكلف وعدمه إذ الغرض من التّكليف إمّا بعث المكلف على الامتثال أو للامتحان الأوّل قبيح عقلا عند عدم قدرة المكلف والثّاني لا يمكن إلاّ مع جهل المكلف بعجز نفسه ليتمكن من التّوطين وإلاّ فهو كتكليف الإنسان بالطيران من باب الامتحان وأمّا ترتب العقاب فاستدلوا عليه بأنّه قبل الدّخول كان منهيّا عن جميع التّصرفات من الدّخول والخروج وغيرهما وبواسطة الدّخول ارتفع عنه النّهي بالنسبة إلى الخروج لكن يصدق أنّه عصى النّهي الثّابت المتعلق بالخروج فإنّه كان متمكنا من امتثاله نظير المتقاعد عن قطع الطّريق إلى ذي الحجة فإنّه ليس مأمورا به حينئذ لكنّه معاقب على ترك الحج لتمكّنه من الامتثال وتفويته بنفسه ويشكل بأنّ نهيه عن الخروج وإن فرض قبل الدّخول مستلزم

 

لاجتماع الأمر والنّهي فيه لأنّ الخروج شيء واحد قد نهي عنه قبل الدّخول وأمر به بعده واختلاف زمان الأمر والنّهي لا يوجب تعدد المطلوب منهما ذاتا وإن هو إلاّ نظير النّسخ قبل حضور وقت العمل وبالجملة الخروج متوقف على الدّخول فالنهي عنه نهي عن الخروج المحقق بعد الدّخول والمفروض أنّه بعينه مأمور به لكونه تخلصا عن الغصب وعلى هذا فلا يمكن كون الخروج منهيّا عنه وحيث لا نهي فلا عقاب ويمكن دفعه بأن يقال إنّ كل ما يمكن من التّصرفات المفروضة في الغصب فهو منهي عنه فيجب ترك كل من الدّخول والبقاء والخروج منضما بعضها إلى بعض لكنّه إذا عصى بالدخول فقد خالف النّهي واستحق العقاب لكنّه حينئذ يؤمر بالخروج وليس تركه حينئذ مطلوبا لفوات وصف الانضمام والحاصل أنّ الخروج يتصور تركان أحدهما تركه مع ترك الدّخول والثّاني تركه بعد الدّخول والواجب هو الأوّل فيستحق العقاب بمحض الدّخول لأنّه موجب لتفويت الواجب والحرام هو الثّاني ولذا يجب عليه الخروج بعد الدّخول وهذا نظير بعض المستحبات الّذي يجب إتمامه بالشروع كالاعتكاف والحج المستحب وأمثالهما فإنّه بحسب الظّاهر مشكل لأنّ المستحب هو ما يجوز تركه فإذا جاز ترك المركب جاز ترك أجزائه فما معنى وجوب بعض الأجزاء ودفعه أنّ ترك تلك الأجزاء قد يكون مع ترك الأجزاء الباقية وقد يكون مع إتيانه فإنّ ترك الصّوم في اليوم الثّالث من الاعتكاف قد يكون مع تركه في اليومين أيضا وقد يكون مع فعله فيهما والأوّل جائز وبه يصدق الاستحباب لأنّ المستحب هو ما يجوز تركه في الجملة والثّاني حرام فلا إشكال فافهم

تنبيه

قد أفتى الفقهاء بصحة الصّلاة عند الخروج من الغصب ماشيا في ضيق الوقت وهو بحسب الظّاهر ينافي ما حكموا به من بطلان صلاة الجاهل بحرمة الغصب أو بكونه مبطلا إذا كان مقصرا في ابتداء الجهل وإن صار بعد ذلك غافلا وكذا ناسي الغصبيّة أو ناسي الحكم إذا استند النّسيان إلى تقصيره فإنّ صحة الصّلاة حال الخروج إن كانت من جهة قبح التّكليف بما لا يطاق مطلقا وإن كان مستندا إلى سوء اختيار المكلّف فليس الخروج منهيّا عنه فظاهر أنّ هذا الوجه جار في الجاهل الغافل والنّاسي لقبيح تكليفهما وإن استند إلى التّقصير فيجب الحكم بصحة صلاتها أيضا وإن كان بطلان صلاتهما من جهة جواز التّكليف بما لا يطاق إذا استند إلى تقصير المكلف فظاهر أنّه جار في الخارج عن الغصب فيجب الحكم ببطلان صلاته ويمكن الجواب بأن يقال يكفي في بطلان العبادة كونها معصية وإن لم تكن منهيّا عنها حال الفعل فمن أوقع نفسه من شاهق في الماء في نهار رمضان لم يصح منه الغسل ارتماسا وإن ارتفع عنه النّهي عن الارتماس لعدم تمكنه من تركه لأنّ الارتماس معصية فلا يمكن أن يكون مطلوبا بل الكلام جار في كل في فعل منهي عنه لارتفاع النّهي حال وجود العلة التّامة الّتي من جملة أجزائها الإرادة وحينئذ فنقول إنّ صلاة الجاهل الغافل المقصر في الغصب ليست منهيّا عنها لغفلته لكنّها معصية فلا يمكن كونها مطلوبة وأمّا الخروج عن الغصب فليس معصية إذ لم يتعلق به نهي أصلا أمّا بناء على ما قيل من لزوم التّكليف بما لا يطاق لو تعلق به نهي ولو قبل الدّخول لاتحاد موضوع الأمر والنّهي وإن اختلف زمانهما فظاهر وأمّا على ما ذكرنا من كونه نظير إتمام

 

المستحب فلأنّ المطلوب بالنهي هو ترك الخروج المستند إلى ترك الدّخول وقد جعل معصيته بالدخول وأمّا الخروج المتعقب بالدخول فليس تركه مطلوبا أصلا لكن يشكل حينئذ بأنّه يلزم على هذا صحة صلاة الخارج ماشيا ولو في سعة الوقت ويدفع بأنّ بطلانها إنّما هو لفوات الشّرائط والأجزاء من الاستقرار والسّجود والرّكوع وأمثالهما فافهم

أصل تعلق النّهي بشيء هل يستلزم فساد المنهي عنه أو لا

والمراد من النّهي هو التّحريمي وإن جرى الكلام في النّهي التّنزيهي أيضا لكنّهم جعلوا الكلام فيه من لواحق المسألة ثم إنّ الكلام يعم النّهي الأصلي والتّبعي إذ المناط في البحث هو أنّ كون الشّيء مبغوضا هل يوجب فساده أو لا والمبغوضيّة أعمّ من أن تكون مستفادة من الخطاب قصدا أو تبعا بدلالة الإشارة فقول بعضهم إنّ النّهي التّبعي لا يقتضي الفساد عندهم وتفريعه على ذلك كون النّزاع في اقتضاء الأمر بالشيء النّهي عن ضده مختصا بالنهي الأصلي دون التّبعي لحكمهم بفساد الضّد الموسع بناء على القول بالاقتضاء فاسد أمّا أوّلا فلما ذكرنا من عموم مناط البحث وأمّا ثانيا فلأنّ القائلين بالاقتضاء في تلك المسألة استدلوا بالضرورة والبداهة ولا ريب أنّ دعوى الضّرورة على الدّلالة المقصودة مما لا يصدر عن ذي مسكة لغلبة الغفلة عن الضّد فكيف يكون قصد النّهي عنه ضروريا فهذا دليل على أنّ كلامهم إنّما هو في النّهي التّبعي فحكمهم بالفساد شاهد على أنّ الكلام هنا في الأعمّ من النّهي الأصلي والتّبعي فافهم وتحقيق الحق في المسألة يتم ببيان مطالب الأوّل العبادة في اصطلاحهم لها معنيان أحدهما فعل الشّيء بقصد الامتثال سواء كان قصد الامتثال شرطا في صحة ذلك الشّيء كالتّعبديّات أو لا كالواجبات التّوصليّة لإمكان فعلها بقصد القربة الثّاني ما تعلق الأمر به لأجل التّعبد والامتثال فيخرج الواجبات التّوصليّة فهذا المعنى أخصّ من الأوّل والمعاملة مقابلة للعبادة بالمعنيين فعلى الأوّل للمعاملة فعل الشّيء لا بقصد الامتثال سواء لم يكن قابلا للامتثال كالمحرم والمكروه أو قابلا كالواجبات التّوصليّة وعلى الثّاني يكون المعاملة ما لم يتعلق به الأمر لأجل الامتثال فيدخل فيها الواجبات التّوصليّة وقد يعرف العبادة بالمعنى الأخصّ بما يتوقف صحته على قصد القربة واعترض عليه بأنّه إن كان المراد بالصّحة حصول الامتثال دخل الواجبات التّوصليّة لتوقف حصول الامتثال فيها على قصد القربة وإن كان المراد إسقاط القضاء لزم الدّور لأنّ إسقاط القضاء من آثار العبادة بالمعنى الأخصّ فتعريفها به دور وفيه أنّه يختار الشّق الثّاني ولا يلزم الدّور لأنّ إسقاط القضاء من آثار ماهيات العبادة لا من آثار مدلول لفظ العبادة من حيث إنّه مدلول والتّعريف إنّما هو للمدلول وبعبارة أخرى هناك ماهيات خارجيّة معلومة كالصّلاة والصّوم ونحوهما والصّحة فيها وهي عبارة عن إسقاط القضاء موقوفة على قصد القربة فإذا لم يعلم أنّ لفظ العبادة موضوع لأيّ معنى أمكن تعريفه بأنّه موضوع لما كان إسقاطه القضاء مشروطا بالقربة وهي تلك الماهيات الخارجيّة والقرينة على إرادة هذا المعنى من لفظ الصّحة أنّه تعريف ذكره الفقهاء والصّحة في اصطلاحهم عبارة عن إسقاط القضاء كما سيأتي ثم إنّ الظّاهر من كلماتهم هو أنّ الكلام في المسألة على ما سيأتي إنّما هو في العبادة بالمعنى

 

الأخصّ لكن يظهر عند التّحقيق أنّ الكلام يجري في المعنى الأعمّ فيشمل الواجبات التّوصليّة أيضا إلاّ أنّ الفساد فيها معناه عدم حصول الامتثال لا عدم حصول الأثر أصلا كما سيظهر وأمّا المعاملة فهي مقابل العبادة فالمراد بها فعل الشّيء لا بقصد الامتثال وذلك الشّيء أعمّ من العقود والإيقاعات وغيرهما ولكن المراد بها في المسألة الفعل المقابل للاتصاف بالصّحة والفساد فإنّ المعاملة بالمعنى المذكور أقسام أحدها ما يقبل الاتصاف بالصّحة والفساد وإن لم يكن من العقود والإيقاعات كالاستنجاء بالحجر فقد حكم بعضهم بفساده إذا وقع بالمطعوم المنهي عنه في الأخبار ولم يعترض عليه غيره بخروجه عن المسألة نعم اعترض عليه بعدم دلالة النّهي على الفساد في مثل ذلك والثّاني ما لا يقبلهما لكن له آثار في الشّرع كالغصب فإنّه لا يتصف بالصحة والفساد لكن له آثار شرعيّة كالضمان ووجوب الرّد ونحوهما والثّالث لا ما يقبلها وليس له أثر شرعا كشرب الماء مثلا ولا ريب في خروج القسمين الأخيرين عن محل النّزاع كما يشهد له العنوان في المسألة بل النّزاع إنّما هو في القسم الأوّل وأمّا الأعيان المتعلّقة للحرمة نحو حرمت عليكم الميتة والدّم وحرمت عليكم أمهاتكم فهي على ما ذكرنا خارجة عن محل النّزاع لعدم قابليتها للصّحة والفساد بالمعنى المتنازع فيه وربما يظهر من بعضهم دخولها فيه ولعل وجهه أنّ التّحريم وإن ورد على الأعيان لكن المحرم في الحقيقة هو الأفعال المقصودة من الأعيان وعلى هذا يتّجه ما ذكره بعضهم من التّفصيل بين ما لو كان الفعل المقصود من ذلك العين قابلا لهما فيدخل في النّزاع كالوطي في مثل تحريم الأمهات وبين ما لو لم يكن قابلا فيخرج كالأكل في مثل تحريم الميتة وفصل بعضهم بين ما لو كان الفعل المقصود معاملة كالعقد في مثال تحريم الأمهات إن قدرنا العقد فيدخل في النّزاع وبين ما لو كان أثر معاملة سابقة كالوطي للأمهات لو قدرناه فإنّه من آثار العقد فيخرج عن محل النّزاع بل التّحريم فيه يدل على فساد تلك المعاملة التزاما وفيه نظر لأنّ حرمة الوطي وإن استفيد منها فساد العقد لكن لا يلزم خروجه عن النّزاع بالنظر إلى آثاره المترتبة عليه من الإلحاق في النّسب ولزوم المهر ونحوهما فالمتّجه هو التّفصيل الأوّل فتأمّل الثّاني في بيان معنى الصّحة والفساد الصّحة لها معنيان بالنسبة إلى العبادات والمعاملات أمّا في العبادات فالمتكلّمون عرفوها تارة بموافقة الأمر وتارة بموافقة الشّريعة لتوهم فساد التّعريف الأوّل من جهة عدم شموله للصّحة في المندوبات لظهور الأمر في الوجوبي واعترض على الثّاني بأنّه يشمل المباح أيضا لموافقته للشريعة وأجيب بأنّ المراد موافقة العبادة للشريعة والمباح يخرج بقيد العبادة والفقهاء عرفوها بإسقاط القضاء والمراد به على ما عرفت في مسألة الإجزاء أعمّ من التّدارك في الوقت وخارجه وأنّ المراد وقوع العمل بحيث لو كان له قضاء لم يجب على المكلف فلا ينتقض بفاسدة العيدين قالوا إنّ الصّحة بتفسير الفقهاء أخصّ منها بتفسير المتكلّمين لأنّ الصّلاة باستصحاب الطّهارة موافقة للشريعة وليست مسقطة للقضاء أقول لا ريب أنّه يجب أن يعتبر في الأخصّ القيود المعتبرة في الأعمّ مع زيادة ومن المعلوم أنّ إسقاط القضاء

 

لازم لموافقة الأمر وموافقة الأمر مستلزم لسقوط القضاء بالنّسبة إلى ذلك الأمر فكل منهما لازم للآخر ولا عموم في البين إلاّ أن يقال إنّ الأمر الّذي اعتبر موافقته في الصّحة قد يراد به الأعمّ من الواقعي والظّاهري وقد يراد به خصوص الأمر الواقعي فمراد المتكلّمين موافقة الأمر في الجملة أعمّ من الظّاهري والواقعي فيصدق على الصّلاة باستصحاب الطّهارة ومراد الفقهاء إسقاط القضاء بالنّسبة إلى خصوص الأمر الواقعي فلا يصدق عليها لوجوب التّدارك بعد انكشاف الخلاف ثم إنّ الظّاهر أنّ المراد سقوط القضاء بالنسبة إلى الواقعي في الجملة أعمّ من الواقعي الاختياري والاضطراري إذ لو أريد سقوطه بالنسبة إلى الاختياري فقط لزم أن يحكموا بفساد الصّلاة مع التّيمّم على القول بوجوب الإعادة لو تمكن من الماء وليس كذلك إذا عرفت معنى الصّحة فنقول إنّ الفساد مقابل لها فمعناه في العبادات عند الفقهاء عدم إسقاط القضاء عند المتكلّمين عدم موافقة الشّريعة ولا بأس بإيراد كلام في المقام لارتباطه بالمرام فنقول ذكر بعض المحققين أنّ الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد وفيه نظر بالنّسبة إلى العبادات لأنّ الكلام قد يفرض في العبادة الّتي تعلق بها أمر ظاهري فيشكّ في إسقاطها القضاء بالنسبة إلى الواقعي أو تعلق بها الأمر الواقعي الاضطراري فيشكّ في إجزائه بالنسبة إلى الواقعي الاختياري وحكمه بأصالة الفساد هنا ينافي ما اختاره في مسألة الإجزاء من أنّ المكلف به أمر واحد هو الكلي والطّبيعة والفرد الظّاهري أو الاضطراري أيضا من أفراده وفرع عليه لثبوت الإجزاء هناك فكيف يحكم بأنّ الأصل هو الفساد ومع قطع النّظر عن ذلك نقول لا أقل من الشّك في أنّ المكلف به هو القدر المشترك بينهما أو هو خصوص الواقعي الاختياري فإن ارتفع العذر في الوقت أمكن دعوى عدم سقوط القضاء لإطلاق الأمر الواقعي لكن هذا أيضا ينافي ما ذكره من أنّ إطلاق الأمر غير معلوم للشّكّ في أنّه مطلوب مطلقا أو ما دام لم يأت بمقتضى الأمر الظّاهري أو الاضطراري ومع الشّكّ في الإطلاق فالأصل هو البراءة وإن ارتفع العذر خارج الوقت فعلى القول بتبعيّة القضاء للأداء يجري الكلام المذكور بعينه وعلى القول بعدمه فلا وجه للحكم بوجوب القضاء للشّكّ في صدق عنوان الفوت الّذي هو شرط وجوب القضاء إلاّ أن يقال إنّ الفوت أمر عدمي يمكن إحرازه بالأصل لأنّه عبارة عن عدم حصول مطلوب الشّارع وقد سبق القول في ذلك وقد يفرض الكلام في العبادة الّتي تعلق بها النّهي كالصّلاة في الدّار المغصوبة للشّكّ في أنّ الامتثال الكلي الصّلاة هل يحصل بهذا الفرد أو لا فلا ريب أنّ الشّك هنا يرجع إلى أنّه هل يشترط في صحة الصّلاة عدم وقوعها في المكان المغصوب أو لا وحكمه بأصالة الفساد هنا ينافي ما ذهب إليه من القول بأصالة البراءة عند الشّك في شرطيّة شيء للعبادة أو جزئيّته لها وعدمه وقد يفرض الكلام فيما لا أمر به ظاهرا وحينئذ فلا شكّ في المقام حتى يرجع إلى الأصل إذ قد يعلم عدم الأمر قطعا وحينئذ فلا ريب في أنّ وجودها كالعدم وقد يشكّ في ثبوت الأمر وحينئذ فإن فعل بقصد

 

المشروعيّة كانت بدعة محرمة فاسدة قطعا وإن فعلها بقصد الاحتياط فإن اتفق ثبوت الأمر في الواقع كان صحيحا مسقطا للقضاء قطعا وإلاّ فهي كالعدم إذ لا أمر حتى يوافقه أو لا فأين مورد إجراء الأصل وأمّا كلامه في المعاملات فصحيح ووجهه أنّ الصّحة في المعاملة معناها ترتّب الأثر وهو موقوف على كون المعاملة سببا ومتى شكّ في السّببيّة فالأصل عدمها مع أنّ نفس الشّك في التّأثير كاف في حرمة ترتيب الآثار وهذا مقتضى الأصل الأولى ولكن ربما يستدل بأصالة الصّحة في بعض المقامات نظرا إلى الأصل الثّانوي الثّابت بالعمومات والإطلاقات في بعض المعاملات وكذا في بعض الشّبهات الموضوعيّة منها وقد يتمسك لإثبات أصالة صحة المعاملات بأصالة الإباحة والبراءة نظرا إلى أنّ ترتيب الآثار على المعاملة المشكوكة الصّحة وكذا إجراء نفس الصّيغة عمل مشكوك الحرمة فالأصل الإباحة كإثبات صحة البيع بقوله تعالى أحلّ الله البيع وفيه أنّه إن أراد رفع الحرمة الذّاتيّة لا بأصل فلا كلام فيها وإن أراد رفع الحرمة البدعيّة ففاسد لأنّ المعاملة متى لم يثبت صحتها بالأدلّة الشّرعيّة فيترتب الآثار الشّرعيّة عليها بدعة محرمة قطعا ولا شكّ في ذلك حتى يجري أصالة البراءة والإباحة وإلاّ لجرت في العبادات المشكوكة أيضا ورده بعضهم بوجه آخر وهو أنّ أصالة الإباحة أو البراءة إنّما تجري في الأفعال المقدورة والمعاملة ما لم تثبت صحتها لا يقدر الشّخص على ترتيب الآثار الشّرعيّة عليها وبالجملة الأصل إنّما يثبت إباحة المعاملة الصّحيحة فلا يثبت صحة المعاملة المشكوكة ومراده غير واضح والّذي يمكن أن يوجه به كلامه هو أنّ المعاملات العرفيّة منها ما هو سبب في النّقل واقعا ومنها ما ليس كذلك وإمضاء الشّارع كاشف عن السّببيّة الواقعيّة لا أنّه جاعل للسّببيّة وعلى هذا فإذا لم يعلم إمضاء الشّارع لم يعلم السّببيّة الواقعيّة فلا يقدر على إيجاد الأثر به وليس ذلك إلاّ كإيجاد الإحراق بما لم يعلم كونه نارا وهو محال فقوله تعالى أحل الله البيع ليس بنفسه جاعلا للسّببيّة حتى يلزم الدّور بإرادة الصّحيح من البيع بل كاشف عن الواقع ويمكن المناقشة فيه بأنّه لا دليل على ثبوت السّببيّة الواقعيّة مع قطع النّظر عن إمضاء الشّارع بل نقول إنّ للمعاملات في العرف آثارا مختلفة أمضى الشّارع بعضها فصار صحيحا شرعا ولم يمض بعضها ففسد فثبت صحة البيع بنفس قوله تعالى أحل البيع فلا يمكن أن يكون المراد بالبيع البيع الصّحيح بل المراد طبيعة البيع وحينئذ فلا يكون ما ذكره ره مانعا عن إجراء أصالة الإباحة بل الجواب هو ما ذكرنا فتأمّل الثّالث قسموا المنهي عنه إلى أقسام سبعة المنهي عنه لنفسه ولجزئه ولشرطه ولوصفه اللاّزم ولوصفه الفارق ولأمر خارج متحد معه في الوجود أو مفارق ومثلوا للأوّل في العبادات بصلاة الحائض نظرا إلى أنّ الحائض منهيّة عن طبيعة الصّلاة لا أنّ المرأة منهيّة عن الصّلاة الواقعة في أيّام الحيض لتدخل فيما يكون منهيّا عنه لوصفه وفي المعاملات بنكاح الخامسة نظرا إلى أنّ من عنده أربع نساء منهي عن طبيعة النّكاح والمراد بالمنهي عنه لجزئه أن يتعلق النّهي بالعمل

 

بواسطة تعلقه بالجزء وكذا المنهي عنه لشرطه ولا فرق حينئذ بين أن يكون متعلق النّهي نفس العمل كأن يقول لا تصل مع أن تقرأ العزيمة أو الجزء كأن يقول لا تقرأ العزيمة في الصّلاة لسراية المنهي في الثّاني إلى الكل أيضا عرضا ومثال المنهي عنه لجزئه في العبادات ما عرفت ومثل بعضهم له في المعاملات ببيع الغاصب مع جهل المشتري بتقريب أنّ البيع مركب من الإيجاب والقبول والإيجاب في المثال حرام دون القبول فالبيع المركب منهما منهي عنه لجزئه قال وعلى القول بأنّ البيع هو النّقل فالأمثلة كثيرة واضحة وفيه نظر لأنّ النّهي عن الإيجاب في المثال لا يسري إلى الكل لأنّ الجزء الآخر فعل لغير الغاصب مع أنّ حرمة الإيجاب أيضا محل كلام نظر إلى عدم حرمة بيع المغصوب وله محل آخر وإن فرض أنّ الغاصب قبل أيضا وكالة عن المشتري فهو أيضا ليس مثالا للمطلب إذ لو قلنا بحرمته مثل هذا التّصرف فلا ريب أنّ البيع بتمامه حينئذ حرام وإلاّ فلا حرام في البين وأمّا قوله فالأمثلة كثيرة فكان عليه بيان مثال واحد فإنّا لم نجد له مثالا أصلا وأمّا ما ذكره بعضهم من التّمثيل ببيع ما يملك وما لا يملك بصيغة واحدة ففاسد لأنّ النّقل أمر بسيط لا يقبل التّجزي والتّجزي في المثال إنّما هو في المنقول لا في النّقل هذا وذكر بعضهم أنّ المراد بالمنهي عنه لجزئه ولشرطه هو المنهي عنه لفقد الجزء والشّرط وهو باطل لأنّه حينئذ خارج عن محل النّزاع فإنّه إذا فقد الشّرط والجزء فلا ريب في فساد العمل وقال بعضهم إنّ ذكر المنهي عنه لشرطه لغو لأنّ النّهي إذا تعلق بالشرط فإن كان عبادة وقلنا بفسادها بالنّهي صار العمل منهيا عنه لفقد الشّرط ولا ريب في فساده وإن لم نقل بفسادها أو كان معاملة لم يسري النّهي إلى أصل العمل كما لو قال لا تستر العورة بلباس النّساء فإنّ السّتر من المعاملات ولا يفسد بالنّهي ولا يسري النّهي إلى الصّلاة لاختلافهما في الوجود نعم لو كان الشّرط المنهي عنه متحدا مع العمل في الوجود سرى النّهي إليه لكنّه حينئذ داخل في المنهي عنه لوصفه كالصّلاة في الدّار المغصوبة وفيه أنّ محل الكلام أعمّ من أن يتعلق النّهي بالعمل بواسطة الشّرط أو بالشرط ويسري إلى العمل والكلام من باقي الجهات مجمل ولعله يفيد في بعض الموارد فائدة كما سيظهر إن شاء الله والفرق بين الوصف اللاّزم والمفارق أنّ الأوّل من مشخصات الموصوف كالجهر والإخفات للقراءة بخلاف الثّاني كالغصب للصلاة كما مر في المسألة السّابقة والظّاهر أنّ المراد بالمنهي عنه لوصفه أن يتعلق النّهي بالعمل مقيدا بذلك الوصف كأن يقول لا تقرأ جهرا ولا تصل في الدّار المغصوبة ليمكن التّفريق بينهما بأن يقال إنّ المطلوب فيهما هو الشّخص الخاص والشّخص في الأوّل يتغير بتغير الوصف بخلاف الثّاني وأمّا إذا كان النّهي متعلقا بالوصف كما يقول لا تجهر أو لا تغصب فلا وجه للتّفريق بينهما حيث إنّ المنهي عنه في كل منهما أخص من المأمور به من وجه ويشعر بما ذكرنا تسمية الأوّل بالوصف اللاّزم إذ لو ورد النّهي على الوصف وكان المأمور به مطلقا لم يكن الوصف لازما فإنّ الجهر ليس لازما للقراءة لاتصافها بضده وهو الإخفات بخلاف ما لو اعتبر قيدا في المنهي عنه كأن يقول لا تقرأ جهرا فإنّ الجهر

 

لا ينفك عن القراءة الجهريّة فتأمّل وأمّا القسمان الآخران فزادهما بعض المتأخرين والمراد أن يتعلق النّهي بأمر خارج عن العمل متحد معه وجودا كقوله لا تغصب أو غير متحد معه لكن يجب حينئذ تقييد النّهي بحالة الصّلاة كأن يقول لا تكتّف في الصّلاة إذ لو لم يقيد حينئذ بالصّلاة لم يكن لسراية النّهي إليها وجه أصلا ثم إنّ المنهي عنه لنفسه قد يراد منه ما إذا كان العبادة أو المعاملة منهيا عنها بعنوان العبادة والمعاملة كصلاة الحائض والبيع الرّبوي والنّكاح في العدة وهو بهذا المعنى مقابل للمنهي عنه لأمر خارج فلا ينافيه كونها منهيا عنها مقيدا بوصف وقد يراد منه ما تعلق النّهي به غير مقيد بشيء أصلا في مقابل المنهي عنه لوصفه ولشرطه ولجزئه وغيرها وحينئذ فالبيع في وقت النّداء خارج عن المنهي عنه لنفسه وإن كان النّهي في الآية واردا على نفس البيع وذلك لأنّه ليس منهيا عنه بعنوان أنّه بيع بل بعنوان كونه تفويتا للجمعة وكذا بيع العبد من دون إذن السّيد منهي عنه بعنوان كونه مخالفة للسّيّد ولهذا مثلوا بهما للمنهي عنه لوصفه لا لنفسه فتأمّل ثم إنّ الأقسام المذكورة تجري في المنهي عنه لجزئه أيضا لأنّ الجزء إمّا منهي عنه لنفسه أو لجزئه إلى آخره وكذا في باقي الأقسام وأقسام الأقسام إلى أن ينتهي الجميع إلى المنهي عنه لنفسه فافهم ولا بأس بالإشارة إلى الأمثلة الّتي ذكروها للأقسام لما يترتب عليها من الثّمرات فالعبادة المنهي عنها لنفسها كصلاة الحائض وصوم يوم النّحر عند بعضهم والمعاملة كذلك كنكاح الخامسة والعبادة المنهي عنها لجزئها مع ورود النّهي على العبادة أو على الجزء كالصّلاة مع العزيمة والمعاملة كذلك كبيع الغاصب مع جهل المشتري وكبيع ما يملك وما لا يملك وقد عرفت ما فيه والعبادة المنهي عنها لوصفها اللاّزم كالقراءة جهرا في الظّهر وكصوم يوم النّحر على قول ولوصفها المفارق كالصّلاة في الدّار المغصوبة والمعاملة المنهي عنها لوصفها اللاّزم كبيع الحصاة وذبح الذّمي كذا قيل وفسر بيع الحصاة بوجوه أحدها ما إذا كان يتعين المبيع برمي الحصاة كأن يقول بعتك ثوبا والمبيع ما وقع عليه الحصاة والثّاني ما إذا كان لتحديد مقدار المبيع كأن يقول بعتك الأرض من هنا إلى ما يقع عليه الحصاة والثّالث ما إذا كان غاية لانقضاء زمان الخيار يقول بعتك هذا ولي الخيار إلى أن أرمي الحصاة والرّابع أن يكون رمي الحصاة نائبا عن الصّيغة بأن يقصد به البيع ابتداء كأن يخبره أو لا بأن المبيع هو ما يقع عليه الحصاة ثم يرميها قاصدا به البيع أمّا بالتّفسير الأخير فهو منهي عنه لنفسه وأمّا بالتّفسير الثّالث فإن قلنا إنّ الشّرط من جملة القيود فهو منهي عنه لوصفه اللاّزم وإن قلنا إنّه التزام مستقل فلا يتعلق النّهي بالبيع أصلا أو يتعلق لأمر خارج فتأمّل وأمّا على التّفسيرين الأوّلين فقالوا إنّه منهي عنه لوصفه اللاّزم لأنّ المنهي عنه هو بيع ما يكون تعيينه شخصا أو مقدارا برمي الحصاة وهذا الوصف من مشخّصات البيع وقيل إنّ النّهي فيه إنّما هو لكون البيع مجهولا فيكون منهيّا عنه لوصفه الغير اللاّزم وأمّا ذبح الذّمي فقيل إنّه محتمل لوجوه

 

أحدها أن يكون المراد أنّ الذّمي منهي عن طبيعة الذّبح وإن كان على طريق الإسلام والثّاني أنّ المسلم منهي عن الذّبح بطريق أهل الذّمة والثّالث أنّ الشّخص منهي عن الذّبح الواقع حال الذّميّة وعلى الأوّل يكون منهيّا عنه لنفسه وعلى الأخيرين لوصفه وفيه نظر لأنّ المستفاد من الأخبار هو النّهي عن ذبيحة الذّمي ونهي المسلمين عن أن يذبح لهم الذّمي ولا ريب أنّه لا دخل لهما بما ذكره من الاحتمالات وعلى الأوّل المنهي عنه هو الأكل فالنّهي قد تعلق بأثر الذّبح فيدل على فساده التزاما كما مر في صدر المسألة وعلى الثّاني يرجع النّهي إلى حرمة ذبح الذّمي على المسلم بمعنى تسبيبه فيه ولكنه منهي عنه لوصفه المفارق إذ لا يختلف تشخيص الذّبح بكون الذّابح مسلما أو ذميا إذا ذبح بطريق المسلمين والعبادة المنهي عنها لحرمة الشّرط أو لفقد الشّرط كالصّلاة مع السّتر بالحرير أو بلا طهور والمعاملة كذلك كبيع الملاقيح في الأطفال في الأرحام لعدم إمكان التّسليم والمنهي عنه لأمر مفارق متحد في الوجود كالصّلاة في الغصب والبيع مع التّكلم مع الأجنبيّة أو غير متحد في الوجود لكن مع تقييد النّهي بتلك العبادة أو المعاملة نحو لا تكتّف في الصّلاة أو لا تنظر إلى السّماء حالة البيع مثلا ثم إذا عرفت الأقسام وأمثلتها في الجملة نقول لا ريب أنّ العبارة النّهي عنها لنفسها خارجة عن محل النّزاع لأنّه إذا تعلق النّهي بطبيعة العبادة فلو بقي الأمر لزم اجتماعهما من جهة واحدة والمنهي عنه لفقد الجزء أو الشّرط خارج أيضا عبادة كان أو معاملة إذ لا شبهة في انعدام المشروط والكل بفقد الشّرط والجزء وأيضا إذ تعلق النّهي بأمر مفارق غير متحد في الوجود ولا مقيد بذلك العمل كان خارجا أيضا بل لا شبهة في عدم الدّلالة على الفساد حينئذ وأمّا سائر الأقسام فهي قابلة للنّزاع إذا تمهد هذه المقدمات فنقول لا ريب في اقتضاء النّهي للفساد في العبادات بجميع الأقسام سوى المنهي عنهما لحرمة الشّرط والمنهي عنه لأمر مفارق وغير متحد في الوجود فإنّ فيهما كلاما سيأتي إن شاء الله ووجهه ظاهر لأنّ الصّحة في العبادات فرع الأمر وبعد وجود النّهي يرتفع الأمر لعدم جواز اجتماعهما كما مر ولا إشكال في ذلك إنّما الكلام في أنّ الحرمة متفرعة على الفساد أو أنّ الفساد متفرع على الحرمة بمعنى أنّ النّهي هل هو الإرشاد إلى خروج المنهي عنه عن تحت المأمور به فالإذن المستفاد من الأمر يرتفع عن هذا الفرد فيلزمه الفساد لعدم الأمر ولازمه الحرمة البدعية أو لا بل النّهي مستعمل في التّحريم من غير إفادة الإرشاد ولازم التّحريم عدم الأمر فيكون فاسدا يظهر الثّمرة فيما لو أتى بالفرد المنهي عنه جهلا بالموضوع أو بالحكم أو سهوا بحيث يرتفع النّهي فعلى الأول هو فاسد لعدم المطلوبيّة وعلى الثّاني صحيح لأنّ الموجب للفساد هو الحرمة وبعد انتفائها لا وجه للفساد فنقول لا ريب في تحقق القسمين المتلازمين في نواهي الشّريعة فمتى علم كون النّهي من أحد القسمين فلا إشكال كالمنهي عنه لأمر مفارق كقوله لا تغصب فإنّه ليس ناظرا إلى قوله صل في نظر العرف قطعا بل لا يمكن جعله

 

قرينة على تقييد الأمر فهو من قبيل الثّاني وأمّا إذا شك في ذلك كقوله لا تصل في الدّار المغصوبة فهل الأصل كونه من قبيل الأوّل أو الثّاني فقيل إنّ الأصل حمل النّهي على التّحريم لأنّه موضوع له ولا وجه للعدول عنه إلى الإرشاد وأصالة حمل اللّفظ على المعنى الحقيقي سليم عن المعارض وما يقال من وجود الحرمة البدعيّة في صورة الحمل على الإرشاد فلا يلزم التّجوز فاسد لأنّ ثبوت الحرمة البدعيّة متفرع على إخراج النّهي عن ظاهره بإرادة الإرشاد لا أنّ النّهي مستعمل فيها حتى لا يلزم التّجوز هذا ويمكن أن يقال إنّ المنهي عنه إذا كان أخص من المأمور به مطلقا كان النّهي ناظرا في نظر العرف إلى رفع الإذن المستفاد من الأمر في الإتيان بأي فرد كان في مقام الامتثال وأنه يحصل به الامتثال كالأمر الوارد عقيب الحظر ومحض وقوعه عقيب الأمر قرينة على إرادة الإرشاد عرفا فلا يبقى لأصالة الحقيقة مجرى مع وجود القرينة وأمّا لو تعلق النّهي بأمر مفارق للعبادة غير متحد معها مع تقييد النّهي بها فنقول إن استفيد من النّهي كون ذلك الأمر مانعا فلا ريب في الفساد وإن استفيد منه محض التّحريم فلا ريب في عدمه إذ ليس التّحريم حينئذ موجبا لاجتماع الأمر والنّهي إنّما الشّأن في استفادة أحد الأمرين من النّهي فنقول إن ورد النّهي صريحا على ذلك الأمر مقيدا كان ظاهرا في بيان المانعيّة كأن يقال لا تكتّف في الصّلاة لأنّ بناء الشّارع غالبا على بيان الموانع بالنّهي فيحمل على الغالب وإلاّ بأن استفيد النّهي من العمومات كاستفادة النّهي عن ترك التّكتّف من حكمهم بوجوب التّقيّة وحرمة تركها فلا يستفاد المانعيّة فلا وجه للفساد حينئذ ولذا حكم جماعة بالصّحة لو ترك التّكتّف في حال التّقيّة وأمّا العبادة المنهي عنها لحرمة الشّرط فإن كان الشّرط عبادة اقتضى النّهي فيه الفساد فيفسد العمل لفقد الشّرط وإن كان معاملة قيل بعدم الفساد لأنّ الشّرط لا يفسد بالنّهي فلا وجه لفساد العمل والأولى أن يقال إنّه لو تعلق النّهي بالعبادة مقيدة بذلك الشّرط اقتضى الفساد كأن يقول لا تصل مع السّاتر المغصوب لأنّه من قبيل المنهي عنه لوصفه ولو تعلق النّهي بأصل الشّرط فإن اعتبر تقييده بالعبادة اقتضى الفساد كأن يقول لا تلبس الحرير في الصّلاة لظهور النّهي في الإرشاد إلى مانعيّة ذلك كما مر وإن لم يعتبر التّقييد كأن يقول لا تلبس لباس النّساء فهذا محل الإشكال والظّاهر فيه أيضا هو الفساد سواء قلنا باستفادة المانعيّة من النّهي أو التّحريم أمّا على الأول فظاهر وأمّا على الثّاني فلأنّ الشّرط قيد في المشروط فطلب المشروط طلب للشرط إذ الكلام في شرائط وجود الواجب المطلق وحينئذ فالسّاتر الّذي هو شرط للصّلاة يكون مطلوبا في ضمن الأمر بالصّلاة ويكون قيدا للمطلوب وإذا كان بعض أفراده حراما لم يكن مطلوبا فيكون الصّلاة المطلوبة من الرّجال هي الصّلاة المشروطة أي المقيدة بالسّاتر الّذي لا يكون لباس النّساء فإذا لبس لباس النّساء في الصّلاة لم يأت بالعبادة المطلوبة والقول بأن السّتر واجب توصلي يسقط بالحرام يحتاج إلى الدّليل إذ ليس كل واجب توصلي مما يسقط بالحرام فإنّ أداء الدّين

 

واجب توصلي لا يسقط بالحرام أعني الأداء من مال الغير بغير إذنه مثلا وقيل بعدم اقتضاء الفساد من هذه الجهة نظرا إلى تعلق النّهي بالأمر الخارج بل الفساد ثابت من جهة أخرى في بعض الأوقات وذلك لأنّ الصّحة في العبادة والمعاملة يحتاج إلى ثبوت الدّليل وذلك الدّليل قد يكون مثبتا للحكم التّكليفي نحو أحلّ الله البيع ويجب الوضوء للصّلاة وقد يكون مثبتا للحكم الوضعي نحو البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ولا صلاة إلاّ بستر العورة مثلا فعلى الأوّل إذا تعلق النّهي بفرد منها دل على فساده لارتفاع ذلك الحكم المقتضي للصّحة فيثبت الفساد بمقتضى الأصل وعلى الثّاني لا يدل على الفساد في المعاملة لعدم منافاة الحرمة مع الصّحة فيها ولا يرتفع الحكم الوضعي بالنّهي هذا ولكن الأدلّة الواردة في إثبات صحة المعاملات غالبا يقصد منها إثبات الحكم الوضعي وإن كانت بصورة الحكم التّكليفي وحينئذ فالنّهي فيها لا يقتضي الفساد وسيأتي الكلام تفصيلا إن شاء الله فالحاصل أنّ الفساد في العبادة المنهي عنها لشرطها مستند إلى أحد وجوه منها كون النّهي إرشادا إلى المانعيّة وهذا في صورة تقييد النّهي بالعبادة ومنها كونه موجبا لتقييد العبادة المطلوبة بالشرط المباح لا الحرام ومنها كونه موجبا لرفع دليل صحة الشّرط فيبقى على أصالة الفساد فيفسد العبادة لفقد الشّرط ومنها لزوم اجتماع الأمر والنّهي في بعض الموارد نحو الصّلاة مع السّاتر المغصوب لأنّ الحركات الرّكوعيّة والسّجوديّة تتحد مع الغصب حينئذ فإن تم أحد الوجوه ثبت الفساد وإلاّ فلا وأمّا المعاملات فالنّهي الوارد فيها على أقسام أحدها أن يتعلق بالمعاملة لا من حيث إنّها معاملة بل من حيث إنّها فعل من الأفعال كالنّهي عن البيع في وقت النّداء من حيث إنّه تفويت للجمعة وعن البيع مع الأجنبيّة من حيث إنّه تكلم معها ونحو ذلك ولا ريب في عدم اقتضائه الفساد والثّاني أن يتعلق النّهي بالمعاملة من جهة مبغوضيّة أثرها كالنّهي عن بيع المسلم من الكافر فإنّ الغرض من النّهي مبغوضيّة تملّك الكافر للمسلم فإن قلنا إنّ المعاملات أسباب واقعيّة لم يكن وجه للفساد بل النّهي حينئذ يدل على الصّحة لأنّ مقتضى أصالة الحقيقة حمل النّهي على التّحريم والمفروض أنّ الحرمة غيريّة بمعنى أنّ البيع أنّما حرم لئلا يلزم المبغوض فلو لم يكن البيع في مثل ذلك مؤثرا لم يكن التّحريم مفيدا لشيء وهذا نظير قولك لا تضرب زيدا بالسّيف لئلا يلزم قتله المبغوض إلاّ أن يحمل النّهي على الإرشاد إلى عدم السّببيّة الواقعيّة وهو خلاف الأصل وإن قلنا إنّها أسباب شرعيّة أمكن أن يقال إنّ جعل الشّارع شيئا مؤثرا في خصوص مبغوضه خلاف اللّطف كما ذكره بعضهم في المنهي عنه لذاته من أنّ جعل الشّيء المبغوض سببا مؤثرا قبيح وحينئذ فيكون هذا قرينة على حمل النّهي على الإرشاد وفيه أنّ اللّطف أنّما يلزم خلافه لو لم يكن السّبب محرما وأمّا مع فرض حرمته فلا يلزم نقض الغرض لاحتمال وجود الحكم في جعل السّببيّة له كما جعل الله تعالى السّيف سببا للقتل مع أنّه مبغوض له في بعض المواضع ومن هنا حكم جمع بفساد بيع المسلم بل الكافر لا من تلك الجهة بل من جهة قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين

 

على المؤمنين سبيلا حتى اعترض عليه بعضهم بأنّ الملك الآني الذي يكون معه محجورا عن التّصرف فيه إلاّ بالبيع ليس سبيلا والثّالث أن يتعلق النّهي بالآثار المترتبة على المعاملة كالنّهي عن أكل ثمن الكلب والخنزير ونحو ذلك ولا ريب في اقتضاء الفساد إذ لو ترتب الأثر عليه لم يكن للنّهي عن ترتيبها معنى وفي الحقيقة هذا القسم خارج عن محل الكلام لعدم تعلق النّهي بالمعاملة والرّابع أن يتعلق النّهي بالمعاملة من حيث إنّها معاملة وهذا على وجهين لأنّ النّهي قد يكون ناظرا إلى دليل الصّحة وقد يكون إرشادا إلى خروجها عن تحتها كالنّهي عن بيع الملاقيح وعن النّكاح في العدة ولا ريب في اقتضائه الفساد وقد يكون لمحض تحريمها من غير نظر إلى شيء وهذا محل الكلام ولا ريب أنّ الحرمة في المعاملات لا تنافي عقلا ترتب الأثر عليه ويمكن دعوى أنّ النّهي في الشّرع ظاهر في الفساد هنا لما يرى من بناء الشّارع على بيان فساد المعاملات بالنّهي ومن هنا لا زال يستدل الفقهاء في الأعصار والأمصار على فساد البيوع والأنكحة بالنّهي ويشهد لذلك ما ورد من صحة نكاح العبد بدون إذن السّيد إذا تعقبه الرّضا معللا بأنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيده فإنّه لما لم يمكن التّفكيك بين معصية الله ومعصية السّيد وجب أن يكون المراد بعدم كونه معصية لله أنّه لم يكن منهيّا عن النّكاح من حيث إنّه نكاح بل من حيث مخالفة السّيد فيدل على أنّ النّهي لو تعلق بالمعاملة من جهة عنوان آخر لم يقتض الفساد وإن تعلق بها من حيث إنّها معاملة اقتضى الفساد كالنّكاح في العدة وقيل إنّ المراد أنّه لم يعص الله بمعنى أنّه لم يصدر منه فعل لا يكون فيه الإذن من الله من جهة العمومات بل فعل ليس فيه إذن من سيده فيدل على فساد المعاملة إذا لم يكن لها مقتضى الصّحة من عموم أو إطلاق بل الحديث شاهد على الصّحة في المقام لحكمه بالصحة مع أنّه معصيته لله لحرمة مخالفة السّيد شرعا ويؤيّده صدر الخبر حيث سئل عن النّكاح بغير إذن السّيد لا مع نهي السّيد فيكون حاصل الخبر أنّ الحرمة في المقام غير مانعة من الصّحة وإنّما يقع العقد معلقا لفوات شرطه الذي هو إذن السّيد وهو فاسد أمّا أوّلا فلأنّ حمل العصيان على معنى الصّدور من غير إذن مجاز والتّفكيك ليس قرينة عليه لاحتمال المعنى الذي ذكرنا ولا يلزم عليه المجاز وإنّما يلزم التّقييد لأنّ المعنى أنّه لم يعص الله من حيث ذات النّكاح بل من جهة عنوان مخالفة السّيد وهو أرجح من المجاز والمراد من عدم إذن السّيد هو صورة النّهي لغلبة استعمال تلك العبارة في ذلك مع أنّ تصرف العبد في نفسه بالنّكاح وأمثاله من غير إخبار السّيد منهي عنه من جانب السّيد عموما كما لا يخفى وأمّا ثانيا فلأنّه على ما ذكره يلزم أن يكون المراد من معصية الله عدم الإذن الوضعي بمعنى عدم جعله سببا لأنّه المقتضي للفساد عنده لا عدم الإذن التّكليفي وهو الحرمة لأنّها لامتنع الصّحة عنده والمراد من معصية السّيد عدم الإذن التّكليفي إذ ليس الإذن الوصفي بيد السّيد فيكون معنى الحديث أنّه لم يفعل ما لم يجعله الشّارع سببا بنوعه بل فعل ما حرمه السّيد فيكون هذا تفكيكا بين معنى المعصيتين ولا يخفى ركاكته وأمّا ثالثا

 

فلأنّه لو كان المراد بالمعصية ما لا يكون فيه مقتضي الصّحة لم يكن للتّمثيل بالنّكاح في العدة وجه لوجود المقتضي للصّحة فيه وأقله عموم أوفوا بالعقود وغير ذلك فتأمّل وإذا فالتّحقيق هو اقتضاء الفساد

تنبيهات

أحدها قد عرفت أنّ النّهي في المعاملات إمّا يتعلق بها بعنوان آخر وإمّا يتعلق بها لمبغوضيّة أثرها وإمّا يتعلق بنفس الأثر وإمّا يتعلق بها إرشادا إلى فسادها وإمّا يتعلق بها لذاتها فإن علم كون النّهي من أحد الأقسام فلا كلام وأمّا إذا اشتبه الأمر فهل يحمل النّهي على أي الوجوه فنقول أمّا الوجه الثّالث فهو لا يشتبه أصلا لتعلّق النّهي بالأثر فهو خارج عن محل الكلام وأمّا بقيّة الأقسام فالوجه الأوّل والثّاني خلاف ظاهر النّهي لأنّ الظّاهر منه إذا تعلق بالمعاملة أن يكون ذات المعاملة متعلقا له لا عنوان آخر وأيضا الظّاهر عدم كونه نهيا غيريا بواسطة مبغوضيّة الأثر وأمّا الوجهان الآخران فلا ثمرة في تعيين أحدهما بالنّسبة إلى الفساد بعد ما ثبت من دلالة كليهما على الفساد ولكن يثمر في كيفيّة الحرمة فإنّها على الأوّل بدعيّة وعلى الثّاني ذاتيّة ولكن مقتضى أصالة الحقيقة حمل النّهي على التّحريم إلاّ أن يدعى غلبة استعماله في الإرشاد وهو في المعاملات ممنوع

الثّانية ذهب أبو حنيفة إلى أنّ النّهي يدل على صحة المنهي عنه لأنّه موضوع للصحيح ويجب كون المنهي عنه مقدورا فيدل على قدرة الشّخص بعد النّهي على الإتيان بالمنهي عنه صحيحا وفساده ظاهر أمّا أوّلا فلأنّ الكلام في هيئة النّهي والصّحة فيما ذكره لو تمت فإنّما هي من جهة المادة وأمّا ثانيا فلأنّ كلامه في العبادات لا يتم بوجه لمنع كونها أسامي للصحيح ولو سلم كما هو المحقق فإن أراد من دلالة النّهي على صحته أنّه موافق للأمر فظاهر البطلان لامتناع اجتماع الأمر والنّهي مطلقا خصوصا في المنهي عنه لذاته فيكون هذا قرينة على إرادة الأعمّ لا الصّحيح وإن أراد أنّه تام الأجزاء والشّرائط فنقول إنّ النّهي لا يمكن أن يتعلق بما يكون تام الأجزاء والشّرائط لأنّه مأمور به فهذا قرينة على نقصان بعض الشّروط والأجزاء فيكون مستعملا في الأعمّ مجازا أو أنّ ذلك قرينة على إرادة الإرشاد إلى عدم المقدوريّة نظير قوله إذا لم تستطع أمرا فدعه لا يقال إنّ الصّلاة في الدّار المغصوبة مأمور بها نسيانا محرمة عمدا مع أنّ شرائط الصّلاة وأجزاءه لا يختلف بتذكّر الغصب أو نسيانه فقد تعلق النّهي بعين ما تعلق به الأمر لأنّا نقول الغصب هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا وعند النّسيان يرتفع العدوان فيرتفع الغصبيّة فلم يتحد مع المنهي عنه وأمّا في المعاملات فإنّما يتم كلامه لو قلنا بوضعها للصحيح الشّرعي وهو ممنوع

الثّالثة لا ريب أنّ الفساد والصّحة لا يتبعضان بالنّسبة إلى طرفي المعاملة فإذا فسد المعاملة إيجابا أو قبولا فسد من الجانب الآخر هذا بحسب الواقع وأمّا بحسب الظّاهر فيمكن التّبعض كما لو اعتقد الموجب فساد العقد بالفارسيّة ومع ذلك عقد بها مع من يعتقد صحتها فإنّ العقد الصّحيح بالنّسبة إلى القابل في الظّاهر بمعنى أنّه يترتب عليه أحكام الصّحيح وفاسد بالنّسبة إلى الموجب وذلك لأنّ من اعتقد صحة ذلك فهو صحيح عنده وإن صدر ممن اعتقد الفساد لأنّ اعتقاد الفساد

 

لا يوجب فساد المعاملة في الواقع لأنّ الصّحة حكم وضعي لا يتغيّر بحسب الاعتقاد فإذا اعتقد الصّحة لزمه الالتزام بآثارها بخلاف من اعتقد الفساد وأمّا حرمة المعاملة من أحد الطّرفين فهل يستلزم حرمتها من الطّرف الآخر أو لا مثل قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فإنّه حرم الأمهات على الأبناء فهل يستلزم ذلك تحريم الأبناء على الأمهات مثلا أم لا قيل نعم لأنّ العقد أمر واحد ذات إضافة لا يمكن اجتماع الحرمة والإباحة فيه وهذا فاسد إذ لو أراد بالعقد الإيجاب والقبول فلا ريب في تعددهما وإن أراد منه الوطي فهو أيضا مختلف بالإضافة إلى الفاعل والقابل فإنّه باعتبار الفاعل معناه الواطئيّة وباعتبار القابل الموطوئيّة وقيل إنّه يستلزم حرمة الآخر لكونه إعانة على الإثم وفيه أنّ الكلام أنّما هو في الحرمة الذّاتيّة الثّابتة للطرف المحرم ويثمر فيها وصدر ذلك عنه جهلا بالحرمة أو نسيانا فإن قلنا بالحرمة من جهة كونه إعانة ارتفعت حينئذ إذ لا إثم حتى يكون ذلك إعانة وإن قلنا بالحرمة الذّاتيّة لم ترتفع والأولى أن يقال إنّ الحرمة إن كانت للمعاملة من أحد الجانبين ذاتا أي من حيث إنّها معاملة حرم الآخر أيضا لاقتضاء الحرمة بهذا النّحو الفساد والفساد لا يتبعض فيفسد من الجانب الآخر أيضا فيكون حراما بدعيا وإن كانت الحرمة باعتبار عنوان آخر كالبيع في وقت النّداء مع من لا يجب عليه الجمعة لم يحرم على الآخر إلاّ باعتبار الإعانة على الإثم فافهم

أصل في المفهوم والمنطوق

وتحقيق الكلام فيه في ضمن مطالب

الأوّل في بيان منابطهما

فنقول قسموا الدّلالة الوضعيّة أعني ما للوضع مدخل فيه إلى المطابقة والتّضمن والالتزام وذكروا أنّ المطابقة والتّضمن داخلان بأسرهما في المنطوق وأين الالتزام قسمان فمنه منطوق ومنه مفهوم والمدار فيهما على ذكر الموضوع وعدمه فالمنطوق هو الحكم أو الحال الثّابت لأمر مذكور والمفهوم هو الثّابت لأمر غير مذكور وإلى هذا يرجع التّعريف المشهور وهو أنّ المنطوق ما دل عليه اللّفظ في محل النّطق والمفهوم ما دل عليه اللّفظ إلاّ في محل النّطق بناء على جعل محل النّطق عبارة عن نفس الموضوع لأنّه لو كان مذكورا صدق عليه أنّه محل للنطق كما أنّه محل للحكم وإلاّ فليس في محل النّطق فالمعنى أنّ المنطوق هو الحكم الثّابت في موضوع هو محل النّطق أي مذكور ومنه يعلم معنى تعريف المفهوم بالمقايسة وهذا أولى مما ارتكبوه في التّعريفين لإرجاعها إلى ما ذكرنا من المحتملات حيث جعلوا محل النّطق ظرفا للموضوع فاحتاجوا في جعله حالا من الضّمير المجرور الرّاجع إلى المدلول إلى ارتكاب الاستخدام وكيف كان فنقول قد اعترض على الضّابط المذكور بأنّه منقوض من الطّرفين لأنّ مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة حكم لموضوع غير مذكور وهو الآثار أو المؤاخذة مع أنّهم عدوه من المنطوق الغير الصّريح وكذا قوله تعالى ولا تقل لهما أفّ فإنّ حرمة الضّرب معدودة في أقسام المفهوم مع أنّ الموضوع هو الوالدان المذكوران ومفهوم الشّرط نحو إن جاء زيد فأكرمه الموضوع فيه زيد وهو مذكور وكذا مفهوم الغاية صم إلى اللّيل الموضوع هو

 

الصّوم المذكور والقول باعتبار الحيثيّة لغو ومستبعد بل تكلف وتعسف ولذا تفرق القوم في بيان الضّابط إلى أقوال منها ما ذكره السّيد الكاظميني وهو أنّ المدلول المطابقي والتّضمني بأسرهما داخل في المنطوق والالتزامي بأسره في المفهوم غاية الأمر أنّ الالتزام قد يكون بينا بالمعنى الأخص أو الأعمّ كما في المفهوم الموافقة ومفهوم الشّرط وقد يكون غيرهما كما في المدلول بدلالة الاقتضاء نحو رفع عن أمتي تسعة واعترض على القوم في جعلهم ذلك من المنطوق الغير الصّريح بأنّه مما لا يفهم إلاّ بعد تمهيد مقدمات عقليّة من لزوم الصّدق على النّبي وعدم ارتفاع نفس المذكورات وغير ذلك مما لا يتمكن من إعمالها إلاّ العلماء فكيف يجعل ذلك منطوقا ويجعل مثل مفهوم الشّرط والغاية الذي يفهمه كل النّاس داخلا في المفهوم وفيه أنّه إن أراد بذلك بيان مصطلح القوم فهو خلاف منطوق كلماتهم وإن أراد تجديد الاصطلاح فلا كلام لنا فيه ومنها ما ذكره بعضهم من أنّ المنطوق هو ما أريد من اللّفظ من غير توسط المعنى وإن احتيج في فهمه إلى القرينة كما في المجاز والمفهوم هو ما استعمل فيه اللّفظ وأريد من اللّفظ بتبعيّة المعنى ويمكن إرجاع التّعريف المشهور إلى ذلك بجعل الظّرف متعلقا بالفعل أعني دل أي دلالة في محل النّطق وفيه أنّه حينئذ يخرج دلالة التّنبيه والإشارة عن المنطوق ضرورة عدم استعمال اللّفظ في المدلولين وكذا يدخل الكناية في المفهوم لأنّ إرادة المعنى الكنائي أنّما هو بالتبعيّة وهو خلاف ظاهر كلماتهم ومنها ما ذكره بعضهم من أنّ المفهوم مشترك لفظي بين الموافق والمخالف فالموافق هو ما فهم من اللّفظ الأولويّة والمخالف هو ما فهم منه مع المخالفة في الإيجاب والسّلب وغيرهما هو المنطوق وهذا أيضا خلاف ظاهر كلماتهم بل هو عجز عن تأسيس الضّابطة والذي يمكن أن يقال هو أنّ ما يقصده المتكلّم باللّفظ على قسمين أحدهما أن يكون ذلك مقصودا له من اللّفظ والثّاني أن يكون قصده له للملازمة الخارجيّة بينه وبين المستعمل فيه اللّفظ بحيث ينتقل منه إليه وإن قطع النّظر عن اللّفظ الثّاني مثل بعض المداليل الالتزاميّة كوجوب المقدمة والنّهي عن الضّد والكناية على القول بأنّ اللّفظ فيها مستعمل في الملزوم لينتقل منه إلى اللازم وهذا القسم خارج عن المنطوق والمفهوم وأمّا الأوّل وهو ما يكون مقصودا من اللّفظ فهو على قسمين أحدهما أن يكون مقصودا من اللّفظ ابتداء والثّاني أن يكون مقصودا تبعا لمعنى آخر بحيث يكون التّلازم بين إرادة المستعمل فيه وإرادة ذلك المعنى لا بين وجودهما في الخارج الثّاني هو المفهوم فإنّ مثل قولك أكرم زيدا العادل يدل على عدم وجوب إكرام زيد الفاسق لا للتّلازم الخارجي بين وجوب إكرام العادل وعدم وجوب إكرام الفاسق بل لأنّ إيجاب إكرام العادل لا ينفك في إرادة المتكلّم غالبا عن إرادة عدم إكرام الفاسق وكذا في مفهوم الموافقة والشّرط وغيرهما والأوّل وهو ما يكون مقصودا ابتداء هو المنطوق وهو على أقسام لأنّ ذلك المعنى المقصود إمّا عين المقصود الابتدائي وهو

 

المطابقة أو جزؤه وهو التّضمني أو يكون عنوانا للمقصود الابتدائي كالمدلول بدلالة التّنبيه فإنّ قوله عليه‌السلام كفّر عقيب قول الأعرابي هلكت وأهلكت إلى آخره يقصد منه ابتداء وجوب الكفارة لكن بعنوان كونها جزاء للوقاع والدّال على هذا العنوان هو بعد اقترانه بالسؤال لولاه وكون الكفارة مسببا عن الوقاع هو المدلول عليه بدلالة التّنبيه أو يكون من المحتملات في ضمن المقصود الابتدائي كالمدلول عليه بدلالة الإشارة فإنّ قوله تعالى حمله وفصاله ثلثون شهرا يقصد منه ابتداء بيان مجموع الزّمانين ويحتمل فيه ضمنا أن يكون مدة الحمل ستة أشهر والباقي للفصال فيكون مرادا ابتداء ثم يتعيّن هذا المحتمل بملاحظة قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فتأمّل أو يكون المقصود ابتداء بيانه لكن يذكر في الكلام ملزومه توطئة للانتقال إليه كالكناية على القول بأنّ المقصود الابتدائي هو اللازم وذكر الملزوم إنّما هو لمحض التّوطئة ولكن الإنصاف أنّ هذا الضّابط أيضا لا يخلو عن تكلف وأنّه لا ضابط في المقام أصلا فالأولى صرف الكلام إلى المطالب الأخر

الثّاني قسموا المنطوق إلى الصّريح وغيره

فالأوّل هو المطابقة والتّضمن والثّاني من جملة دلالة الالتزام لأنّ اللازم كثيرا ما يخفى على السّامع ولذا يطلق الكناية على ذكر الملزوم وإرادة اللازم لخفاء اللازم والكناية هي السّتر ثم قسموا المنطوق الغير الصّريح إلى أقسام الإشارة والتّنبيه والاقتضاء ووجه الضّبط أنّ المدلول إمّا يكون مقصودا من الكلام بعنوانه ووجهه أو لا الثّاني هو دلالة الإشارة كدلالة الآيتين على أقل الحمل فإنّه ليس الغرض من شيء منهما بيانه والأوّل إمّا يتوقف صدق الكلام أو صحته عليه أو لا يتوقف عليه شيء منهما ولكن الكلام قد اقترن بشيء يبعد اقترانه به لو لا ذلك المدلول الثّاني هو التّنبيه كقول الإمام عليه‌السلام كفّر بعد قول الأعرابي هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان فإنّه لو لا عليّة الوقاع للكفارة لبعد الجواب بقوله عليه‌السلام كفّر والأوّل هو دلالة الاقتضاء وهو على أقسام منها أن يتوقف عليه صدق الكلام نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة أي مؤاخذتها وإلاّ لزم الكذب ومنها أن يتوقف عليه صحته عقلا نحو واسأل القرية أي أهلها لعدم صحة السّؤال عن الجدران عقلا ومنها أن يتوقف عليه صحته شرعا نحو قوله أعتق عبدك عنّي بألف أي مملكا إياه قبل العتق إذ لا عتق شرعا إلاّ في ملك قال بعض الأفاضل مقتضى تمثيلهم في دلالة الاقتضاء بالأمثلة المذكورة اختصاصها بمجاز الحذف أو بالمجاز الذي يكون قرينته عقليّة نحو واسأل القرية إن قلنا إنّ المراد بالقرية هو الأهل فيبقى المجاز الذي يكون قرينة اللّفظ خارجا عن الأقسام لعدم دخوله في المنطوق الصّريح لانحصاره في المطابقة والتّضمن ولا في غير الصّريح لأنّ القابل لذلك هو دلالة الاقتضاء ومقتضى أمثلتهم خروجه عنها وفيه نظر لأنّهم إنّما مثلوا بمثل واسأل القرية بتقريب أنّ المراد هو السّؤال عن الأهل ولم يتعرضوا لأنّه هل هو من المجاز في الحذف أو في الكلمة وكلاهما

 

محتمل فيه وعلى الثّاني فالقرينة لفظيّة وهو السّؤال إذ لا فرق بينه وبين يرمي في قولك رأيت أسدا يرمي فإنّ الحكم بإرادة الرّجل الشّجاع إنّما هو من جهة أنّ الرّمي عقلا لا يتحقق من الحيوان المفترس فالقرينة في كليهما هو اللّفظ بضميمة العقل بل الكلام في جميع القرائن هو هذا وبالجملة فدلالة القرينة في جميع أقسام المجازات على إرادة المعنى المجازي دلالة التزاميّة اقتضائيّة ولا إشكال في ذلك إنّما الإشكال في أنّ دلالة اللّفظ على المعنى المجازي كدلالة الأسد على الرّجل الشّجاع داخلة في أي قسم من الأقسام وهو موقوف على فهم معنى المطابقة والالتزام فنقول قد عرفت المطابقة بدلالة اللّفظ على تمام ما وضع له والتّضمن على جزئه والالتزام على لازمه فإن كان المراد بالموضوع له الموضوع له بالوضع الحقيقي دخل المجاز في دلالة الالتزام ولو أريد إدخاله في المطابقة لزم تعميم الموضوع له بحيث يشمل الموضوع له بالوضع النوعي المجازي لكنّه لا يجتمع مع تعريف الالتزام بدلالة اللّفظ على الخارج اللازم للموضوع له إذ ليس هناك أمر خارج عن الموضوع له بالوضع الأعم إذ كل خارج لازم للموضوع له فهو داخل في تمام الموضوع له بالوضع النوعي إلاّ نادرا وهو صورة عدم المصحح للمجازيّة فيه فيبعد حمل التّعريف على هذا فالظّاهر من القوم إدخاله في دلالة الالتزام ويؤيّده أنّهم اختلفوا في أنّ الدّال على المعنى المجازي هل هو اللّفظ بشرط القرينة أو اللّفظ مع القرينة أو القرينة فقط والمعروف هو الأوّل ولا ريب أنّه ليس هناك إلاّ دلالة واحدة والمفروض أنّ دلالة القرينة دلالة التزاميّة كما ذكرنا فيكون دلالة اللّفظ المجاز أيضا كذلك لأنّها هي بعينها والفرق اعتباري ويؤيّده أيضا أنّهم إنّما أدخلوا دلالة الاقتضاء والتّنبيه والإشارة في المنطوق الغير الصّريح من جهة كونها دلالة التزاميّة ناشئة من اللّزوم واللّزوم أمر مخفي بسببه يدخل الدّلالة في غير الصّريح ولا ريب أنّ الدّلالة في المجاز أنّما هي من جهة اللّزوم فيناسب إدخالها في غير الصّريح فلا يمكن جعلها مطابقة لدخول المطابقة في أقسام المنطوق الصّريح فافهم ثم إنّا لو أردنا إدخال المجاز في المطابقة لم يمكن إلاّ بأحد الأمور أحدهما أن نعمّم الموضوع له في تعريف المطابقة بحيث يشمل الوضع النوعي الثّابت في المجاز وقد عرفت فساده والثّاني أن يعرف الدّلالات بوجه آخر وهو ما ذكره بعضهم من أنّ دلالة اللّفظ على تمام المراد مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى لازمه التزام فيدخل المجاز في المطابقة لدلالته على تمام المراد لكن ينتقض هذه التّعاريف بعضها ببعض فإنّ دلالة الجملة الشّرطيّة على مجموع المنطوق والمفهوم يدخل في المطابقة وعلى كل واحد من المنطوق والمفهوم في التّضمن لأنّ كلا منهما جزء المراد ويدخل دلالة العمى على البصر في دلالة التّضمن لكونه جزء المراد وإن كان خارجا عن ماهيّة العمى بل يختص الالتزام حينئذ بما إذا لم يكن اللازم مرادا أصلا فيخرج ما إذا كان اللازم أيضا مرادا بالتّبع مع أنّه داخل في الالتزام قطعا ويمكن دفع الجميع بتقييد المراد بكونه مرادا

 

ابتداء ولكن يدخل الكناية في المطابقة وهو خلاف كلماتهم والثّالث أن يعرف الدّلالات وهكذا دلالة اللّفظ على تمام المستعمل فيه مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى لازمه التزام فيدخل المجاز في المطابقة والكناية في الالتزام على القول بأنّ اللّفظ أنّما يستعمل في الملزوم ولينتقل منه إلى اللازم هذا ولكن ظاهر القوم إدخال المجاز في الالتزام بالتّعريف السّابق وهو أظهر فتأمّل

الثّالث قسموا المفهوم إلى قسمين

أحدهما مفهوم الموافقة والثّاني مفهوم المخالفة لأنّ الحكم المستفاد من اللّفظ التزاما إمّا يكون موافقا للمنطوق ويكون مستفادا منه بالأولويّة فهو مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التّأفيف على حرمة الضّرب وإمّا يكون مخالفا له فهو مفهوم المخالفة وحصر بحكم الاستقراء في الشّرط والوصف والغاية والحصر واللّقب والعدد والزّمان وقبل الخوض في الأقسام المذكورة يجب تمهيد كلام في بيان الضّابط في المداليل الالتزاميّة وحجّيّتها فإنّ المفاهيم من جملتها كما عرفت فنقول قيل بعدم حجّيّة المداليل الالتزاميّة مطلقا لوجوه أحدها أنّ المدلول الالتزامي يجب فيه تحقق اللّزوم بينهما بمعنى عدم انفكاكه عن الملزوم في التّصور فيكون استفادته قهريّا واضطراريّا وما هو كذلك ليس قابلا للنّفي والإثبات فلا معنى لكونه حجّة الثّاني أنّه لو كان دلالة الالتزام معتبرة لما احتاج الكناية إلى القرينة لأنّها عبارة عن ذكر الملزوم وإرادة اللازم والثّالث أنّها لو كانت معتبرة لدخل حيطان البيت في بيع سقفه لدلالة السّقف التزاما على الحيطان والرّابع أنّ الدّلالة أعمّ من الإرادة فإن حصل القطع بالإرادة فلا ريب في اعتباره وأمّا إذا كانت مظنونة كما هو الغالب فلا دليل على اعتبار الظّن في المراد والتّحقيق أن يقال إنّ دلالة الالتزام إمّا لفظيّة أو لا والمراد من الأوّل هو أن يكون الغالب عرفا ذكر ذلك اللّفظ لإفادة ذلك اللازم وإن كان بتبعيّة المعنى المطابقي ولا ريب في حجّيّة هذا النحو من الدّلالة وإن كان الإرادة مظنونة لما مر من كفاية الظّن المطلق في مداليل الألفاظ والمراد من الثّاني غير ذلك بأن يكون بين الملزوم واللازم تلازم بحسب الوجود الخارجي لا في الإرادة من اللّفظ وهو على أقسام لأنّ التّلازم إمّا عقلي كوجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة أو شرعي كدلالة صحة البيع على تحقق الملك لما ثبت شرعا أنّه لا بيع إلاّ في ملك أو عرفي كما إذا كان الغالب في العرف أنّ من يوجب شيئا يوجب مقدمته أيضا مثلا فالأوّل حجّة إن كان اللّزوم قطعيّا وكذا الثّاني إن كان المتكلّم متشرعا للقطع بإرادته فيهما وأمّا الثّالث فإن أفاد القطع فلا كلام فيه وإن أفاد الظّن فإن قلنا بحجّيّة الظّن المطلق في الأحكام كان حجّة لأنّ الظّن بالإرادة يوجب الظّن بالحكم وإلاّ فلا وعلى هذا فلا فرق بين كون اللازم بيّنا بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو غيرهما بل الضّابط ما عرفت وبما ذكرنا علم الجواب عن تلك الأدلّة الأربعة أمّا الأوّل فغير مفهوم المراد كما لا يخفى إذ لا يمنع كون المدلول اضطراريّا من إرادته فإنّ فهم المنطوق

 

أيضا اضطراري بالنّسبة إلى العالم بالوضع وأمّا الثّاني فلأنّ اللّزوم في الكناية إن كان خطابيّا فنحن أيضا نقول بعدم الحاجة إلى القرينة بل القرينة إنّما يحتاج إليها فيما إذا كان اللّزوم بحسب الوجود ولا يكون إرادته مقطوعا بها وأمّا الثّالث فلأنّ التّلازم بين السّقف والحائط وجودي لا خطابي وأمّا الرّابع فلقيام الدّليل على اعتبار الظّن المطلق في مداليل الألفاظ نعم لو لم يكن اللّزوم خطابيّا توقف حجّيّة الظّن فيه على حجّيّة الظّن المطلق في الأحكام فتأمّل

إذا عرفت هذا

فلنشرع في ذكر الأقسام وبيانها في طي مباحث

الأوّل في مفهوم الشّرط

وتحقيق القول فيه يظهر في ضمن أمور أحدها الأولى في تحرير محل النّزاع أن يقال إنّ تقييد الحكم بشيء بكلمة إن وأخواتها هل يدل على انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء مدخولها أو لا لا ما قيل في التّحرير من أنّ مفهوم الشّرط حجّة أو لا إذ الظّاهر منه الاتفاق في تحقق المفهوم والنّزاع في حجّيّته وليس كذلك بل المتنازع فيه هو تحقّق المفهوم وعدمه وأيضا إن أريد من الشّرط الأصولي فهو فاسد لأنّ الشّرط الأصولي عبارة عما يلزم من عدمه العدم وهو معنى المفهوم فكيف يتنازع في ثبوت المفهوم له وإن أريد منه الشّرط النحوي ففاسد أيضا لأنّه عبارة عن مدخول كلمة المجازاة ولا مفهوم له قطعا بل المفهوم لو كان فإنّما هو لمجموع الشّرط والجزاء ولا ما قيل في التّحرير من أنّ تعليق الحكم على شيء إلى آخره لأنّ التّعليق معناه إيقاف شيء على شيء وتوقف الشّيء على غيره يستلزم انتفاءه بانتفائه فكيف يتنازع في أنّه يستلزم الانتفاء أو لا فتأمّل الثّاني من البيّن أنّ الظّاهر من الجملة الشّرطيّة هو اللّزوميّة بمعنى أن يكون بين المقدم والتّالي علقة توجب عدم الانفكاك بينهما في الخارج فالاتفاقيّة خلاف الظّاهر بل هو مجاز بعلاقة التّشبيه أعني تشبيه التّقارن في الوجود بالتّلازم أو غير التّشبيه وكذا موارد استعمال كلمة إن الوصليّة نحو أكرم الضّيف وإن كان كافرا فإنّ الكفر ليس سببا للإكرام لكن نزل غير السّبب منزلة السّبب تنبيها على سببيّة ضد الكفر للإكرام بطريق أولى ونحو ذلك من المناسبات ثم إنّ علقة اللّزوم بينهما قد تكون بعليّة الأوّل للثّاني وقد تكون بالعكس وقد تكون بكونهما معلولي علة ثالثة وقد تكون بالتّضايف ولا ريب أنّ ثبوت المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء يتوقف على كون المراد عليه الأوّل للثّاني علة تامة منحصرة ولهذا حكموا بأنّه الظّاهر من الجملة الشّرطيّة بل استعمالها في موارد معلوليّة الأوّل خلاف الظّاهر نحو إذا نزل الثّلج فالزّمان شتاء وأرجعه بعضهم إلى الأوّل بأن جعل التّالي فيه الحكم بأنّ الزّمان شتاء لا نفس كونه شتاء وفيه نظر لأنّ الحكم المذكور مسبّب عن العلم بنزول الثّلج لا عن نفس نزوله وكيف كان فالظّاهر اتفاقهم على أنّ الظّاهر من الجملة الشّرطيّة هو العليّة التّامة المنحصرة للأوّل بالنّسبة إلى الثّاني واختلفوا في أنّ هذا الظّهور مستند إلى الوضع أو لا فقيل بالأوّل لأنّ الأصل في التّبادر أن يكون وضعيّا ورده الآخرون بأنّه لو كان الظّهور وضعيّا لكان استعمال الشّرطيّة في معلوليّة الأوّل للثّاني موجبا للتنافر كما في المجازات وليس كذلك بل الطّهور مستندا إلى شيء

 

آخر وقرر بوجوبها أنّ الظّهور من باب انصراف المطلق إلى الفرد الكامل نظرا إلى أنّ الشّرطيّة موضوعة لمطلق اللّزوميّة والفرد الكامل منها هو العليّة والمعلوليّة فلهذا ينصرف الشّرطيّة إليها وفيه نظر أمّا أوّلا فلأنّ وضع الحروف شخصي والموضوع له فيها جزئي لا فرد له حتى ينصرف إليه وأمّا ثانيا فلأنّ انصراف المطلق إلى الفرد الكامل غير مسلم ما لم يكن شائع الاستعمال فيه وشيوع الاستعمال في المقام غير مسلم لكثرة استعمال الشّرطيّة في الاتفاقيّات والوصليّات وموارد معلوليّة الأوّل للثّاني وأمّا ثالثا فلأنّ كون علقة العليّة أكمل لا يوجب إلاّ ظهور تحقق العليّة بين المقدم والتّالي فما وجه الحكم بعليّة الأوّل للثّاني دون العكس ومنها أنّ الظّهور المذكور من جهة إطلاق لفظ الشّرط فإنّ قوله إن جاء زيد فأكرمه يقتضي بإطلاق لفظ جاء أنّ المجيء مستقل في السّببيّة إذ لو كان هناك شرط آخر وجب ذكره وفيه أنّه إن أراد من الاستقلال في الشّرطيّة أنّ الشّرط ليس أمرا مركبا من أمور يكون المجيء جزءا منها بل هو مستقل في الشّرطيّة كنفس الوضوء للصلاة وليس من قبيل أجزاء الوضوء مثلا فمسلم لكن لا ينافي ذلك وجود شرط مستقل آخر فإنّ الوضوء شرط مستقل للصّلاة ولا ينافي كون ستر العورة أيضا شرطا وإن أراد أنّه سبب تام بحيث لا مدخليّة لشيء آخر في الشّرطيّة فاقتضاء إطلاق الشّرط لذلك ممنوع بل نقول إنّ إطلاق الشّرط لا يفيد الاستقلال بالمعنى الأوّل أيضا نعم يمكن استفادة ذلك من إطلاق الجملة الشّرطيّة مع إطلاق الجزاء إذ لو كان هناك شرط آخر لكان ترتيب الجزاء على الشّرط مطلقا غلطا ولكن لا يفيد ذلك إلاّ تحقق وجود الجزاء عند وجود الشّرط وأمّا كون الأوّل علة تامة فلا لإمكان كونه جزء الأخير من العلة أو كونه مع الجزاء معلولي علة واحدة أو كون الجزاء دائم الثّبوت حال وجود الشّرط وعدمه فالأولى هو إسناد الظّهور إلى الوضع لا لأصالة كون التّبادر وضعيّا لأنّ حجّيّة الأصل في اللّغات من باب الظّن واستفادة الظّن منه في المقام غير معلوم بل لأنّ الظّهور لا يخلو إمّا أن يكون للوضع أو لغلبة الاستعمال ولا ريب أنّه لو كان من جهة الغلبة لاحتاج المخاطب في فهم الظّاهر إلى ملاحظة الغلبة كما في المجاز المشهور ولكنّا إذا راجعنا أنفسنا نرى أنّا نفهم التّعليق من الجملة الشّرطيّة من غير التفات إلى أنّ ذلك هو المعنى الغالب الاستعمال بل قد علمت أنّ في أصل غلبة هذا الاستعمال منعا ظاهرا فكيف يستند الظّهور إليها ثم إنّ المستفاد من التّعليق هو توقف الجزاء على الشّرط وانتفائه بانتفائه ومقتضى المنطوق ووجوده عند وجوده ولكن لا يستفاد من ذلك كون المقدم علة تامة لاحتمال كونه جزء الأخير أو كونهما معلولي علة واحدة أو كونهما متضائفين أو يكون شيء آخر علة لكن يتوقف تأثيره على وجود المقدم نحو إن لقيت صديقي فسلّم عليه فإنّ اللّقاء ليس علة للسلام بل العلة هي الصّداقة ولكنّها لا تؤثر في وجوب السّلام إلاّ حال اللّقاء وبالجملة فيكفي في تحقق المفهوم استفادة التّوقيف والتّعليق من الشّرط وأن يثبت العليّة التّامة فافهم فقد علم بما ذكرنا أنّ الحق هو ثبوت المفهوم لأنّ المتبادر من الجملة الشّرطيّة هو التّعليق ولازمه ثبوت المفهوم كما عرفت وبهذا يعلم دفع ما يتوهم

 

من التّناقض بين حكمهم بثبوت المفهوم وبين حكمهم بعدم تكرر والحكم عند تكرر الشّرط إذ لو كان الشّرط علة تامة لوجب تكرر المشروط بتكرره واستدل لمنع ثبوت المفهوم بأنّ للجملة الشّرطيّة استعمالات ثلاث أحدها أن تستعمل في سببيّة الأوّل للثاني نحو إن كانت الشّمس طالعة فالنّهار موجود وهذا يفيد المفهوم والثّاني أن تستعمل في تلازمهما مع قصد الاستدلال بانتفاء التّالي على انتفاء المقدم نحو لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا والثّالث أن تستعمل في تلازمهما من دون القصد المذكور نحو إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ومع ثبوت هذه الاستعمالات يجب الحكم بوضعها للقدر المشترك وهو مطلق التّلازم حذرا من الاشتراك والمجاز وحينئذ فلا دلالة لها على المفهوم وفيه نظر أمّا أوّلا فلما عرفت من تبادر التّعليق من الجملة الشّرطيّة وهو علامة الحقيقة كما عرفت تقريره وأمّا ثانيا فلأنّ المعنى الثّاني والثّالث معنى واحد فإنّ لازم التّلازم هو إمكان الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ومن وجود الملزوم على وجود اللازم وفعليّة القصد المذكور وعدمه لا يوجب اختلاف المستعمل فيه وحينئذ فالمستعمل فيه معنيان السّببيّة والتّلازم ولا ريب أنّ السّببيّة ليست مقصودة بنفسها في الاستعمال الأوّل بل المراد فيه هو التّعليق ويستفاد منه السّببيّة وبالجملة فالمستعمل فيه أمّا التّعليق أو التّلازم وليس بينهما قدر مشترك يكون هو الموضوع له كما ذكره والقول بأنّ القدر المشترك هو مطلق التّلازم غير مفهوم إذ ليس مطلق التّلازم إلاّ عبارة عن المعنى الثّالث الذي جعله مقابل الأوّلين فكيف يكون مشتركا بين نفسه وقسيميه ويمكن دفع هذا بأنّ مراده من القدر المشترك هو المعنى الثّالث فيكون حاصله أنّ لها استعمالات ثلاث السّببيّة والتّلازم الخاص والقدر المشترك بينهما وهو مطلق التّلازم وحينئذ فيرد عليه ما سبق خاصة وأمّا ثالثا فلأنّ حكمه بثبوت المفهوم للقسم الأوّل لا وجه له لاحتمال وجود سبب آخر إذ لم يدع الانحصار بل لو ادعاه لكان فاسدا إذ لا يستعمل الجملة في السّببيّة المنحصرة بقيد الانحصار قطعا فالقول بتحقق المفهوم لا يتم إلاّ على فرض استعمالها في التّعليق إذ لولاه لكان المراد إمّا السّببيّة وقد عرفت عدم استلزامه للمفهوم أو الشّرطيّة الأصوليّة وهو فاسد لاستلزامه كون المفهوم منطوقا إذ يكون معنى إن جاء زيد فأكرمه أنّ الشّرط الأصولي في وجوب الإكرام هو المجيء ومعنى الشّرط الأصولي هو ما يستلزم انتفاؤه انتفاء المشروط وأمّا التّلازم وعليه فعدم ثبوت المفهوم ظاهر فالأولى في الإيراد أن يقال إنّ الجملة الشّرطيّة لا ينحصر استعمالها في التّعليق بل كثيرا ما تستعمل في التّلازم كما في كلام المنطقيّين بل لا يوجد استعمالها في التّعليق في كلامهم حيث حكموا بأنّ انتفاء التّالي موجب لانتفاء المقدم دون العكس وهذا ينافي التّعليق والجواب أنّ كلام المنطقيّين ليس في دلالة الجملة الشّرطيّة وإنّما شأنهم بيان طرق الاستدلال ومن جملة الطّرق هو التّلازم ولا ريب أنّ اللازم يجوز كونه أعمّ من الملزوم فانتفاؤه يدل على انتفاء الملزوم كليّا من دون العكس ومن شأن قواعد الميزان أن تكون مطردة ولذا يحكمون بأنّ رفع التّالي يدل على رفع المقدم دون العكس أي كليّا وليس كلامهم في دلالة الجملة الشّرطيّة فهو لا ينافي ما ذكرنا من تبادر التّعليق منها عرفا مع قطع النظر

 

عن ملاحظة غلبة الاستعمال وغيرها الذي هو علامة الحقيقة فتأمّل الثّالث إذا بينا على الشّك في ثبوت المفهوم وعدمه بحسب الأدلّة فهل الأصل يقتضي المفهوم أو لا قيل إنّ مقتضى الأصل انتفاء المفهوم لوجوه منها أنّ ثبوت المفهوم يتوقف على التفات الواضع حين الوضع إليه والأصل عدم الالتفات وفيه أنّ المفهوم من لوازم وضع حرف الشّرط للتّعليق ولا يتوقف على الالتفات ودعوى أنّ الأصل عدم الوضع للتّعليق معارضة بأنّ الأصل عدم الوضع لغيره ومنها أنّه لو كان الحكم الثّابت في المنطوق موافقا للأصل فلو تحقق المفهوم لكان مخالفا للأصل فالأصل عدمه كما لو قال إن جاء زيد كان لك الماء مباحا فإنّ المفهوم هو حرمة الماء عند عدم المجيء والأصل البراءة عن الحرمة ومنها أنّه لو كان موجبا لتخصيص عام أو لتقييد مطلق كان مقتضى أصالة العموم والإطلاق عدم ثبوت المفهوم كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء فإنّ المفهوم هو نجاسة الماء القليل بالملاقاة وهو يوجب تخصيص عموم قوله كل ماء طاهر وتقييد إطلاق قوله خلق الله الماء طهورا مثلا واعترض عليه بأنّ ثبوت المفهوم في هذه الموارد لا ينافي أصالة الإباحة ولا بقاء العام والمطلق على حاله لأنّ المفهوم إنّما هو رفع الإباحة الخاصة المسببة عن مجيء زيد فارتفاعها بارتفاع المجيء لا ينافي ثبوت الإباحة العامة بأصالة الإباحة وكذا ارتفاع الطّهارة الخاصة المسببة عن الكريّة بارتفاع الكريّة لا ينافي ثبوت الطّهارة الثّابتة لطبيعة الماء بقوله كل ماء طاهر في الماء القليل وفيه أوّلا أنّ ارتفاع الإباحة الخاصة والطّهارة الخاصة فرع ثبوت كون المقدم سببا للتالي وهو أوّل الكلام فلا يعلم أنّ المراد بالإباحة أو الطّهارة في التّالي هل هي الخاصة المسببة حتى يرتفع بارتفاع السّبب أو العامة حتى تبقى وإذا فلا يمكن الحكم بثبوت المفهوم من هذه الجهة أيضا والقول بأنّ الطّهارة العامة لا معنى لترتيبها على خصوص الكريّة باطل لجواز إثبات الحكم لفرد من أفراد الطّبيعة مع اشتراك الباقي معه فيه لكونه محل الحاجة فذكر خصوص الكر في المثال لا ينافي ثبوت الحكم لغيره أيضا وثانيا أنّا سلمنا ارتفاع الإباحة والطّهارة الخاصة بانتفاء الشّرط لكن بهذا لا يصدق تحقق المفهوم بل لا يصدق إلاّ بانتفاء مطلق الإباحة والطّهارة عند انتفاء المقدم كما سيظهر إن شاء الله وبالجملة فظهر أنّ المفهوم إذا كان مخالفا للأصل فالأصل عدمه نعم لو كان موافقا للأصل كان مقتضاه ثبوته والله يعلم فوائد أحدها لا ريب أنّ الحكم إذا ثبت لموضوع خاص بجعل خاص انتفى بانتفاء موضوعه بمعنى أنّ ذلك الخطاب لا يقتضي ثبوت الحكم لغير ذلك الموضوع فلو قال أكرم زيدا لم تقتض وجوب إكرام عمرو بهذا الخطاب ولكن انتفاء هذا الخطاب عند انتفاء الموضوع ليس للمفهوم وأيضا لو كان الحكم المنجعل لذلك الموضوع غير قابل لجعل آخر بالنّسبة إلى الموضوع الآخر فانتفاؤه عن غير ذلك الموضوع ليس مفهوما كما لو قال وقفت الدّار على الفقراء فعدم صحة وقفها على غيرهم إنّما هو لعدم إمكان وقف ما هو وقف لا لاقتضاء المفهوم بل المفهوم إنّما هو انتفاء نوع ذلك الحكم عن غير ذلك الموضوع بأن لا يمكن ثبوته له ولو بخطاب آخر

 

مع كون ذلك مستفادا من اللّفظ لا من جهة عدم إمكان الجعل ثانيا ولهذا اتّفقوا في أنّ الوصف يفيد التّخصيص مع اختلافهم في ثبوت مفهومه فإنّ معنى التّخصيص هو عدم ثبوت الحكم بالخطاب الخاص لغير الموصوف الخاص وأمّا جواز ثبوته للغير وعدمه بخطاب آخر فيبتني على وجود المفهوم وعدمه وحينئذ فيقع الإشكال فيما إذا كان الجزاء طلبا كالأمر في مثل إن جاء زيد فأكرمه من جهة أنّ الأمر موضوع للطّلب الخاص الجزئي الموجود في ذهن الطّالب فهو معلق على الشّرط وينتفي بانتفائه بمقتضى التّعليق فلا ينافي وجود طلب آخر مماثل لذلك الطّلب بوجود آخر بالنّسبة إلى الإكرام فيلزم أن لا يكون له مفهوم بخلاف الإخبار فإنّ المعلق فيها هو الحكم الكلي المستفاد من الجملة الخبريّة وقد أجيب عنه بوجوه منها منع كون الأمر موضوعا للطّلب الجزئي بل نقول إنّه موضوع للطّلب الكلي ولكن استعماله فيه مشروط بكونه موجودا ومتشخّصا في ذهن الطّالب واشتراط شيء في الاستعمال لا يوجب كون الموضوع له جزئيّا والتّعليق إنّما هو بالنّسبة إلى الموضوع له وقد سبق الإشارة إلى هذا الجواب ومنها أنّ الطّلب الجزئي ينتفي بانتفاء موضوعه فلو قال أكرم زيدا عند مجيئه لانتفى الطّلب الخاص بانتفاء المجيء فلو كان هذا مرادا لم يكن في جعل المجيء علة فائدة فمن جعله علة يستفاد أنّه علة لمطلق الطّلب لا للطّلب الخاص وهذا الجواب مبني على استفادة العليّة من الشّرط والأولى في الجواب أن يقال إنّه كما يتبادر التّعليق عرفا من أداة الشّرط كذلك يتبادر تعليق نوع الطّلب الخاص لا خصوص الطّلب الموجود في ذهن الطّالب حال الطّلب وهو يكفي في المطلوب ولا يلزمنا دعوى كون الموضوع له أيضا هو الكلي أو الجزئي وغير ذلك فتأمّل الثّانية إذا كان الحكم المعلق على الشّرط واردا على طبيعة مطلقة ففي إفادة المفهوم للعموم وعدمه خلاف وكذا إذا كان في الحكم المنطوق عاما فهل يقتضي المفهوم سلب العموم أو عموم السّلب فيه إشكال والأوّل نحو إن جاء زيد فأعتق رقبة والثّاني نحو إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء فهل المفهوم أنّ غير الكر ينجّسه شيء أو ينجسه كل شيء وقد استشكلوا فيما إذا كان الجزاء خبرا في معنى الطّلب نحو إذا جاء زيد فهو يكرم فحكم بعضهم بأنّ عموم المفهوم يقتضي بحرمة إكرامه عند عدم المجيء نظرا إلى أنّ الإكرام المطلوب في المنطوق هو الطّبيعة ففي المفهوم يرد عليها النّفي ونفي الطّبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها ونفي جميع أفراد الإكرام عند عدم المجيء يراد منه الطّلب كما في المنطوق فيكون المفهوم طلب عدم إيجاد شيء من أفراد الإكرام وهو معنى الحرمة وكذلك استشكلوا فيما إذا كان الثّابت في المنطوق نوعا خاصا من الوجوب كالعيني أو التّخييري والنّفسي أو الغيري فهل المفهوم انتفاء ذلك النّوع أو انتفاء نوع الوجوب فمفهوم قوله إذا دخل الوقت وجب الطّهور والصّلاة هو انتفاء الوجوب الغيري للوضوء بانتفاء الوقت فلا ينافي ثبوت الوجوب النّفسي له أو انتفاء وجوبه مطلقا فنقول التّحقيق في الضّابط أن يقال إنّ ثبوت المفهوم إمّا من جهة استفادة العليّة من الشّرط أو التّعليق كما عرفت وكيف كان لا يقتضي إلاّ انتفاء المعلول والمعلق

 

بجميع ما اعتبر فيهما من القيود واللّواحق فمفهوم قولنا إن جاء زيد فأكرمه غدا انتفاء وجوب الإكرام غدا لا مطلق الإكرام وبالجملة المنفي في المفهوم هو بعينه ما يثبت في المنطوق ولا فرق بين المفهوم والمنطوق إلاّ في النّفي والإيجاب نعم قد يكون للنّفي لوازم فيترتب عليه فإنّه لو كان الحكم واردا على المطلق في الإثبات اقتضى المفهوم نفيه عن المطلق ولازم النّفي عن المطلق هو النّفي عن جميع الأفراد وإلاّ لم يصدق انتفاء الحكم عن المطلق وبهذا الاعتبار يكون مفهوم القضيّة المطلقة أعني ما سبق في القسم الأوّل مفيدا للعموم وبما ذكرنا علم أنّ الحكم بأنّ مفهوم قولنا إن جاء زيد فهو يكرم حرمة الإكرام عند عدم المجيء باطل وما ذكر في تقريره فاسد وذلك لأنّ المعلول والمعلق في المنطوق ليس طبيعة الإكرام حتى يرد عليه النّفي في المفهوم بل هو طلب الإكرام وإن ذكر بصيغة الخبر وحينئذ فيرد النّفي في المفهوم أيضا على طلب الإكرام فيقتضي نفي وجوبه لا نفي طبيعة ويكون مفهومه مفهوم قولنا إن جاء زيد فأكرمه وأيضا علم بما ذكرنا جواب الإشكال الثّاني أيضا وبيانه أنّه إن كان الحكم الثّابت في المنطوق مترتبا على الإطلاق كالوجوب العيني والنّفسي لما عرفت من أنّ الوجوب حقيقة في جميع الأقسام المذكورة لكونه طبيعة واحدة إلاّ أنّه إذا لم يبيّن التّخيير أو الغيريّة أو الكفائيّة وجب الحكم بإرادة التّعييني النّفسي العيني بمقتضى الإطلاق فحينئذ لا ريب أنّ المفهوم يفيد العموم لأنّ الوجوب الثّابت في المنطوق مطلق فإذا ورد عليه النّفي في المفهوم أفاد العموم وإن كان الحكم مترتبا على التّعليق كما في قوله إذا دخل الوقت وجب الطّهور والصّلاة فنقول إنّ مفهومه أيضا يقتضي العموم وذلك لأنّه لما تحقق من الأدلّة أنّ الوجوب النّفسي لو ثبت للوضوء لم يكن معلقا على دخول وقت الصّلاة حكمنا بأنّ الوجوب في الخبر وجوب غيري لتعليقه على دخول وقت الصّلاة فاستفادة كون الوجوب غيريّا إنّما هي من التّعليق على دخول الوقت والوجوب في نفسه لم يعتبر كونه غيريّا قبل التّعليق حتى يكون المعلق هو الوجوب الغيري ليرد النّفي في المفهوم عليه بل المعلق هو طبيعة وجوب الوضوء إلاّ أنّ لازم تعليقه كونه غيريّا وإذا كان المعلق هو الطّبيعة ورد النّفي في المفهوم عليها واقتضى العموم كما بيّنا وأمّا إذا كان المنطوق عاما فالضابط في إفادة المفهوم العموم وعدمه هو أنّ العموم في المنطوق إن اعتبر جزءا للموضوع وقيدا ورد النّفي في المفهوم عليه فاقتضى سلب العموم نحو قولك إن شفى الله ولدي فله علي أن لا أشتم أحدا لظهور أنّ المراد تعليق عموم عدم الشّتم على الشّفاء فينتفي العموم بانتفاء الشّفاء وإن اعتبر آلة لملاحظة الأفراد في الحكم بحيث يراد تعليق الحكم في كل فرد فرد على الشّرط اقتضى المفهوم انتفاءه عن كل فرد وعلى ما ذكرنا يظهر لك التّحقيق في مفهوم قوله عليه‌السلام كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب وكذا قوله عليه‌السلام إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء إذ لو كان الغرض جعل العموم موضوعا اقتضى المفهوم سلب العموم وإلاّ فعموم السّلب ثم إنّ حصل العلم بأنّ المراد أي المعنيين فهو وإلاّ ففي الحمل على جعله موضوعا أو آلة للملاحظة إشكال ودعوى غلبة

 

الثّاني ليست بعيدة عن الصّواب فتأمّل هذا إذا كان العموم والإطلاق في الجزاء وأمّا إذا كان العموم في الشّرط نحو إن جاءك العلماء فأكرم زيدا فهل المفهوم انتفاء الجزاء بانتفاء مجيء مجموع العلماء فلو جاء بعض دون بعض انتفى الجزاء لصدق انتفاء عموم الشّرط أوّلا بل المفهوم انتفاؤه بانتفاء مجيء أحد من العلماء فلو جاء البعض لم ينتف الجزاء والضّابط هو أنّ العموم إن اعتبر موضوعا في الشّرط ترتّب انتفاء الجزاء على انتفاء العموم وإن اعتبر سورا وآلة للملاحظة وكان كل فرد موضوعا للتّعليق ترتّب انتفاء الجزاء على انتفاء الجميع والظّاهر في المثال هو الأوّل هذا إذا كان الجزاء حكما لغير العام وأمّا لو كان حكما له نحو إن جاءك العلماء فأكرمهم فالظّاهر منه عرفا هو التّوزيع فوجوب إكرام كل منهم معلق على مجيئه وينتفي بانتفائه ولا ينتفي بانتفاء مجيء غيره وأمّا لو كان الشّرط مطلقا فالمفهوم انتفاء الجزاء بانتفاء المطلق ولازم انتفائه انتفاء جميع أفراده كما عرفت ثم إنّه لو كان الجزاء مقيدا بقيود عديدة ورد النّفي على القيود إذا ثبت كونها قيدا من الخارج لا من نفس التّعليق كما أشرنا إليه ولا فرق في القيود الخارجيّة بين المتصل منها والمنفصل لأنّ المنفصل أيضا منوي مع المطلق وإنّما أخر بيانه فالمراد من الجزاء هو القيد فيكون هو المنتفي بانتفاء الشّرط لا المطلق تنبيه قد عرفت أنّ النّزاع في أنّه إذا كان الشّرط أو الجزاء عاما كان في المفهوم عموم السّلب أو سلب العموم مرجعه إلى أنّ الشّرط والجزاء أيّ شيء فإنّ الجزاء إن كان عموم الحكم كان المفهوم سلب العموم وإن كان نفس الحكم عموما كان المفهوم عموم السّلب وكذا إن كان الشّرط هو العموم انتفى الجزاء بانتفاء العموم وإن كان الشّرط كل فرد فرد انتفى بانتفاء الجميع على ما عرفت تحقيقه فاعلم أنّ ذلك النّزاع غير النّزاع في أنّ المفهوم يعمّ أوّلا فإنّ مرادهم أنّه بعد إحراز الشّرط والجزاء فهل المفهوم هو انتفاء الجزاء في جميع أحوال انتفاء الشّرط أو لا بل المفهوم انتفاؤه عند انتفائه في الجملة فيمكن ثبوت الجزاء في بعض أحوال انتفاء الشّرط وهذا النّزاع يجري على كل من القولين السّابقين وبالعكس فإنّ قولنا إن جاء زيد فأكرم العلماء إن قلنا إنّ الجزاء وجوب إكرام العموم كان المفهوم منه سلب العموم فيقع النّزاع في أنّ هذا أعني سلب العموم ثابت في جميع صور انتفاء المجيء أو لا بل يكفي تحققه في بعض الصّور مثل صورة كونه قاعدا مثلا وكذا إن قلنا إنّ الجزاء وجوب إكرام كل فرد فرد كان المفهوم عموم السّلب فلا يجب إكرام أحد من العلماء عند انتفاء المجيء فيقع النّزاع في أنّه ثابت في مجموع صوره أو بعضها وكذا لو كان الشّرط هو العموم انتفى الجزاء بانتفاء العموم فيقع النّزاع في انتفائه في جميع صور انتفاء الجميع أو بعض صوره وبالجملة الفرق بين المسألتين ظاهر ونزاعهم في مفهوم قوله عليه‌السلام إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء إنّما هو في تشخيص الجزاء أنّه عموم الحكم أو نفس الحكم وفي قوله عليه‌السلام كلما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب إنّما هو في عموم المفهوم وعدمه بمعنى أنّ انتفاء جواز الوضوء والشّرب هل هو ثابت في جميع موارد عدم حليّة اللّحم وجميع صوره أو لا بل يختص ببعض الصّور وقد خلط بعض المحققين بين المسألتين وجعلهما من واد واحد والتّحقيق

 

ما عرفت ثم إنّ الحق في المسألة الثّانية هو عموم المفهوم التّبادر عرفا فإن المتبادر عند الإطلاق هو التّعليق بالنّسبة إلى جميع الصّور والأحوال وقد عرفت أنّ مقتضى التّعليق الانتفاء عند الانتفاء ففي كل صورة انتفى الشّرط انتفى الجزاء وقيل بعدم العموم نظرا إلى أنّ الانتفاء في بعض الصّور كاف في خروج الكلام عن كونه لغوا ولا دليل على ثبوت المفهوم إلاّ لزوم كون التّعليق لغوا لولاه وفيه أوّلا ما عرفت من التّبادر وثانيا أنّ التّعليق لما كان ظاهرا في جميع الصّور والأحوال فلو ثبت الجزاء في بعض صور وجود الشّرط كان التّعليق بالنّسبة إلى تلك الصّورة لغوا وإن كان مفيدا بالنّسبة إلى سائر الصّور وهو كاف في المقصود فوائد أحدها إذا كان الجزاء عاما واستثني منه شيء فهل يجري التّعليق بالنّسبة إلى المستثنى أو لا فلو قال إن جاء زيد فأكرم العلماء إلاّ الفساق فإن المنطوق هو وجوب إكرام العدول وعدم وجوب إكرام الفسّاق عند المجيء فهل المفهوم هو عدم وجوب إكرام العدول ووجوب إكرام الفسّاق عند عدم المجيء أو لا بل هو محض عدم وجوب إكرام العدول وأمّا إكرام الفسّاق فسكوت عنه الحق هو الثّاني لعدم انفهام التّعليق عرفا إلاّ بالنّسبة إلى ما بقي تحت المستثنى منه وأمّا بالنّسبة إلى المستثنى فلا تعليق عرفا وقد عرفت أنّ ثبوت المفهوم أنّما هو من جهة فهم التّعليق فكل ما فهم التّعليق بالنّسبة إليه انتفى بانتفاء الشّرط وما لا فلا الثّانية إذا ورد قضيّتان شرطيّتان متحدتان في الجزاء مختلفتان في الشّرط كما لو قال إذا خفي الأذان وجب القصر وإذا خفي الجدران وجب القصر تعارض منطوق كل منهما ومفهوم الآخر لأنّ مفهوم الأوّل عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان سواء خفي الجدران أو لا وكذا مفهوم الثّاني عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدران سواء خفي الأذان أو لا وفي الجمع بينهما وجوه أحدها تقييد منطوق كل منهما بمفهوم الآخر فيكون منطوق الأوّل خفاء الأذان عند خفاء الجدران يوجب القصر فلو لم يخف الجدران لم يوجبه وهو مقتضى مفهوم الثّاني ويكون منطوق الثّاني أنّ خفاء الجدران عند خفاء الأذان يوجب القصر فلو لم يخف الأذان لم يوجبه وهو مقتضى مفهوم الأوّل فمقتضى هذا الجمع هو جعل المجموع سببا لوجوب القصر فينتفي وجوب القصر بانتفاء المجموع ولو بانتفاء بعضه ويوجد بوجود المجموع فقد استعمل أداة التّعليق في معناه وهو التّلازم في الوجود والعدم والتّقييد إنّما هو فيما اقتضاه إطلاق الشّرط من كونه سببا على الاستقلال وهذا لا يوجب التّجوز في أداة التّعليق الثّاني أن يقيد منطوق كل منهما بعدم الآخر فيحكم بأنّ خفاء الأذان سبب عند عدم خفاء الجدران وكذا خفاء الجدران عند عدم خفاء الأذان وأمّا عند خفائهما فالمجموع سبب واحد وهذا أيضا مستلزم لتقييد إطلاق الشّرط وإلاّ فالمفهوم بحاله لأنّ خفاء الأذان عند عدم خفاء الجدران يلزم من وجوده وجوب القصر ومن عدمه وكذا خفاء الجدران عند عدم خفاء الأذان الثّالث أن يجعل كل منهما

 

سببا لا من حيث الخصوص بل من حيث كونه فردا للقدر المشترك الذي هو سبب الوجوب فيكون التّصرف في الشّرط أيضا وعلى هذه الوجوه الثّلاثة لا يلزم تجوز في المنطوق وإن قلنا بوضع الأداة للتّعليق في الوجود والعدم الرّابع أن يجعل كل منهما شرطا أصوليّا لوجب القصر بحيث يلزم من عدمه العدم فلا يستفاد منهما كفاية الوجود في الوجود حتى حال اجتماع الخفاءين أيضا فإن قلنا إنّ أداة التّعليق موضوعة لإفادة التّلازم مع إفادة التّوقف لزم التّجوز حينئذ حيث لم تستعمل في التّلازم بل استعملت في التّوقيف فقط وإن قلنا إنّها موضوعة للتّوقيف فقط وإنّ استفادة السّببيّة إنّما هي من إطلاق الشّرط لم يلزم التّجوز الخامس أن يقيد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فيكون مفهوم الأوّل إذا لم يخف الأذان لم يجب القصر إلاّ إذا خفي الجدران فيجب القصر وإن لم يخف الأذان وهذا منطوق الثّاني ويكون مفهوم الثّاني إذا لم يخف الجدران لم يجب القصر إلاّ إذا خفي الأذان فيجب القصر وإن لم يخف الجدران وهو منطوق الأوّل فيكون مقتضاهما وجوب القصر بوجود أحدهما وانتفاؤه بانتفاء المجموع ولا يخفى أنّ تقييد المفهوم لا يمكن إلاّ بالتّصرف في المنطوق إذ لو كان مقتضى منطوق الأوّل توقف وجوب القصر على خصوص خفاء الأذان كما هو معنى التّعليق وأبقي على ظاهره اقتضى انتفاء الوجوب عند عدم الخفاء مطلقا وإلاّ لم يصدق التّوقف على الخصوص وحينئذ فيجب أمّا القول بأن ليس مقتضى المنطوق التّوقف على الشّرط بالخصوص بل التّوقف عليه إنّما هو من حيث كونه أحد أفراد القدر المشترك حتى يرجع إلى الوجه الثّالث والقول بعدم المفهوم فيهما رأسا لأنّ المفهوم لا يقاوم المنطوق إذا تعارضا بل يقدم المنطوق فيكون كل منهما سببا على التّخيير وعلى الأوّل لا تجوز كما عرفت في الوجه الثّالث وعلى الثّاني أعني طرح المفهوم يلزم التّجوز على التّحقيق من كون التّعليق ثابتا لأداته بحسب الوضع إلاّ أن يكون مستفادا من الإطلاق إذا عرفت الوجوه المذكورة وما يترتب عليها من التّقييد والتّجوز فاعلم أنّه وإن كان مقتضى القواعد ترجيح التّقييد على المجاز ولكن نحن مستغن عن إجراء القاعدة في المقام لنحتاج إلى ترجيح ملاحظة ترجيح آخر بين الوجوه المستلزمة للتّقييد بل نقول الظّاهر من القضيتين المذكورتين في العرف كون القدر المشترك سببا وانتفاء الجزاء بانتفاء الجميع وثبوته بثبوت أحدهما والمرجع في دلالة الألفاظ إلى الظّهور العرفي وإذا فالأظهر هو الوجه الثّالث وأمّا ما ذكره بعضهم من تقييد القضيّة الأولى منطوقا ومفهوما بمنطوق الثّانية ومفهومها دون العكس فيكون خفاء الأذان سببا عند خفاء الجدران وعدمه مستلزما للعدم عند عدم خفاء الجدران دون العكس فهو في الحقيقة طرح للقضيّة الأولى لا جمع بل يكون خفاء الأذان بالنّسبة إلى وجوب القصر كالحجر الموضوع في جنب الكاتب بالنّسبة إلى الكتابة فافهم الثّالثة يجري النّزاع المذكور في كل ما استفيد منه معنى إن الشّرطيّة مثل من الشّرطيّة وسائر ما يشعر بالتّعليق ولو مجازا ولذا استدل بقوله تعالى فمن لم يستطع منكم طولا إلى قوله

 

فما ملكت أيمانكم على أنّ من استطاع على مهر الحرّة لا يجوز له تزويج الأمة وكذا الفعل الواقع للطّلب نحو ادعوني أستجب لكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ونحو ذلك الرّابعة إذا كان الجزاء في المنطوق مجملا كان المفهوم أيضا مثله كما لو قال إذا توضأت فصلّ وفرض اشتراك الأمر بين الوجوب والإباحة كان المفهوم مردّدا بين انتفاء الوجوب وانتفاء الإباحة ثم إذا تعقب الجملة المذكورة جملة أخرى محتملة لأن تكون مذكورة للتّصريح بذلك المفهوم المجمل وأن تكون مستقلة بالإفادة وكانت مع فرض الاستقلال ظاهرة في معنى فهل تحمل على ظاهرها أو لا كما قال بعد المثال المذكور إن لم يكن وضوء فلا صلاة فإن مثل هذه العبارة إن ذكرت مستقلة كانت ظاهرة في نفي المشروعيّة عند عدم الوضوء أمّا على قول الصّحيحيّة فلإفادتها نفي الذّات وأمّا على قول الأعمّيّة فلأنّ نفي المشروعيّة أقرب إلى الذّات من نفي الوجوب ولكنّها لما وقعت عقيب قوله إن توضّأت فصّل احتمل كونها تصريحا بذلك المفهوم فتكون مجملة كالمفهوم إذ ليس الظّهور فيها على حدّ يوجب بيان المفهوم كما في العام إذا تعقبه ما يحتمل كونه مخصّصا وغير مخصّص فإن ظهور العام يوجب حمله على غير المخصص وأمّا فيما نحن فيه فليس الظّهور بهذا النّحو ولاحتمال كونها مستقلة فيزاد منها ظاهرها وهو نفي المشروعيّة وهذا لا يوجب بيان المفهوم لأنّ المفهوم لو كان نفي الوجوب لم يناف نفي المشروعيّة حتى يتعارض مع القضيّة الثّانية لتحمل على كونها بيانا والمرجع في استفادة كونها تصريحا بالمفهوم وعدمه هو فهم العرف ولا يبعد دعوى حملها على الاستقلال واستدل بعضهم عليه بأنّ التّأسيس أولى من التّأكيد إذ لو كانت تصريحا بالمفهوم لزم التّأكيد وفيه نظر إذ لو جعلت مستقلة لم ينتف احتمال التّأكيد أيضا ولم يتعيّن التّأسيس لاحتمال كون المفهوم في الواقع هو ما اقتضاه ظاهر القضيّة الثّانية أعني نفي المشروعيّة نعم لو ثبت حملها على ظاهرها أمكن دعوى كون المراد من المفهوم غير ما اقتضاه ظاهرها حذرا من التّأكيد لكنّه أوّل الكلام مع أنّه غير مراد المستدل فتأمّل

المبحث الثّاني في مفهوم الوصف

وتحقيق الكلام فيه يظهر ببيان أمور الأوّل المراد من الوصف ليس خصوص الوصف النّحوي وهو التّابع الدّال على معنى في متبوعه ولا خصوص المشتقات بل المراد به ما إذا اعتبر في الحكم ذات باعتبار بعض صفاته سواء صرّح بالقيد نحو أكرم الرّجل العالم أو لا بل ذكره في ضمن إيراده مشتقا نحو إن جاءكم فاسق أو ذكره كناية والتزاما نحو لأن يمتلأ بطن الرّجل قيحا خير من أن يمتلأ شعرا فإنّه كناية عن قبح الشّعر الكثير بل لا يبعد دعوى عدم الاختصاص باعتبار الصّفة مع الذّات بل يعم الكلام ما إذا اعتبر الذّات مقيدا سواء كان التّقييد بالصفة أو غيرها فيدخل في مفهوم الوصف مفهوم العدد والزّمان وأمّا إذا قيد الحكم بالمفعول والحال فهما وإن خرجا عن تقييد الذّات لأنّ التّقييد فيهما وارد على الفعل لا الموضوع لكن مناط البحث في الجميع واحد كما سيظهر بل التّقييد فيها راجع إلى الموضوع أيضا والقول بخروج التّقييد بالمفعول له

 

عن محلّ النّزاع كقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق من جهة أنّه علّة للحكم فاسد إذ لو أريد أنّه علّة للّنهي فممنوع كما لا يخفى وإن أريد أنّه علّة للقتل فهو لا يوجب عدم كونه قيدا فالحق دخوله في محلّ النّزاع الثّاني الوصف إمّا مساو للموصوف في العموم والخصوص ولا ريب في انتفاء المفهوم حينئذ بل يكون الوصف حينئذ موضحا أو مؤكدا أو غيرهما وإمّا يكون أخصّ منه مطلقا وهو داخل في النّزاع جزما أو يكون أخصّ منه من وجه نحو في الغنم السّائمة زكاة ولا ريب في دخوله في محلّ النّزاع بالنّسبة إلى الغنم الغير السّائمة أعني مورد الافتراق من طرف الغنم وأمّا بالنسبة إلى السّائمة من غير الغنم فهل يدل على انتفاء الحكم بانتفاء السوم قيل إنّه داخل في النّزاع من جهة أنّ بعض العامة حكم بثبوت المفهوم فيه وفيه نظر إذ يعتبر في المفهوم والمنطوق أن لا يكون بينهما فرق إلاّ من جهة النّفي والإثبات ووجود الشّرط والوصف وعدمه فيشترط اتحاد الموضوع فيهما والموضوع في المثال هو الغنم فالمفهوم هو انتفاء الحكم عن الغنم المعلوفة لا عن الإبل بل الانتفاء عن الإبل المعلوفة يتوقّف على ثبوت كون السوم علة منحصرة للزّكاة في مطلق الحيوان ولو ثبت ذلك فليس لمفهوم قولنا في الغنم السّائمة زكاة بل لدليل خارجي كما هو ظاهر ثم إنّ بعض أقسام الوصف خارج عن محل النّزاع قطعا منها الوصف العدمي كما لو قال أكرم الرّجل الّذي ليس بجاهل إذا الظاهر منه عرفا كون الجهل مانعا عن وجوب الإكرام ومنها الأوصاف المذكورة في الحدود نحو الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد لا لظهور الوصف في الاحتراز لأنّه غير المراد من المفهوم فإنّ الاحتراز إنّما يستلزم انتفاء الحكم الخاص بانتفاء الوصف لا مطلق الحكم كما هو معنى المفهوم بل لأنّ ظاهر من يذكر الحد إيراد الحد المساوي للمحدود أعني الجامع المانع فلو كان يصدق المحدود على غير المتّصف بتلك الأوصاف لما كان الحد مانعا وهو خلاف ظاهر المحدد الثّالث قيل النّزاع في ثبوت مفهوم الوصف ليس بحسب الوضع اللّغوي لأنّ الوضع للتّلازم والتّوقيف على الوصف كما هو معنى المفهوم إمّا يدعى ثبوته للوصف فقط وهو ظاهر البطلان أو لهيئة تركيبه مع الموصوف وهو أيضا فاسد لأنّها لا تقتضي إلاّ اتصاف الموصوف بتلك الصفة ولذا عرف النّعت بأنّه التّابع الّذي يدل على معنى في متبوعه أو يقول إنّ هيئة تعليق الحكم على الوصف موضوعة للتّوقيف المذكور وهو خلاف ظاهرهم إذ لم يقيموا في المسألة دليلا يقتضي ذلك والأصل عدم الوضع بل الظاهر أنّ النّزاع إنّما هو في ظهور الهيئة المذكورة في التّوقيف عرفا إمّا بدعوى انصرافها عرفا إلى معنى التّلازم والتّوقيف أو من جهة أنّه إذا لم يكن للوصف فائدة سوى المفهوم وجب إرادته لئلا يلزم كونه لغوا والحق أنّ النّزاع إنّما هو في أصل الدّلالة أعمّ من الوضع والانصراف العرفي لأنّ استدلالهم في المسألة بأنّ الوصف تارة يراد منه المفهوم وتارة لا يراد فيجب كونه قدر المشترك حذرا من المجاز والاشتراك إنّما هو في مقابل القول بالوضع لا بالانصراف واستدلالهم بلزوم اللّغو لو لم يكن هناك فائدة سوى المفهوم إنّما هو في مقابل

 

من يدعي نفي الانصراف فيعلم أنّ النّزاع إنّما هو في أصل الدّلالة وإن اختلفوا في كيفيّتها أيضا ويظهر الثّمرة بين القول بالانصرافي وبين القول بالوضع مع لزوم المجاز على الثّاني عند عدم إرادة المفهوم دون الأوّل في الوصف المؤكدة والموضحة نحو نفخة واحدة فإنّ تعليق الحكم على مثل ذلك يفيد المفهوم على القول بالوضع دون الانصراف لأنّ الانصراف أنّما هو فيما إذا لم يكن فائدة سوى المفهوم وهذا غير جار فيه لأنّ التّأكيد من أظهر الفوائد في مثله فإذا تمهدت هذه المقدمات فنقول استدلوا على ثبوت المفهوم بوجوه منها اتفاق العلماء على وجوب حمل المطلق على المقيد إذا كانا إثباتين ولو لم يكن قوله أعتق رقبة مؤمنة مفيدا لانتفاء الوجوب عن عتق غير المؤمنة لم يكن بينه وبين قوله أعتق رقبة تعارض ومنافاة حتى يلزم الحمل ومن هنا نشأ الإشكال حيث اتفقوا هناك على الحمل المذكور واختلفوا في ثبوت المفهوم بل المشهور على عدمه وهذا تناقض بيّن وفيه نظر لأنّ حكمهم بالحمل هناك ليس من جهة المفهوم بل لأنّ كلامهم هناك إنّما هو فيما إذا اتحد سبب الحكم في المطلق والمقيد واتحاده يكشف عن وحدة التّكليف ومع وحدته يقع التّعارض بين منطوق المطلق والمقيد من جهة ظهور الأوّل في الوجوب التّخييري في الأفراد وظهور الثّاني في الوجوب العيني للمقيّد فإن قلنا إنّ المطلق لا يصير مجازا بالتّقييد لأنّ الإطلاق أنّما هو من جهة حكم العقل بإرادة الطبيعة اللابشرط عند عدم بيان القيد كان حمل المطلق على المقيد من جهة ارتفاع موضوع حكم العقل بواسطة الخطاب بالمقيد إذ بعد بيان القيد لا يبقى للعقل حكم بإرادة الإطلاق والحمل حينئذ ليس من جهة التّعارض وإن قلنا إنّ التّقييد يوجب التّجوز في المطلق لكونه موضوعا للطّبيعة المعراة عن القيود دار الأمر حينئذ بين التّقييد في المطلق وحمل الأمر على الوجوب التّخييري أو الاستحباب ولا ريب أنّ ظهور الأمر في الوجوب العيني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق فيقدم عليه وبالجملة ليس الحمل من جهة المفهوم كيف ولو قطع النّظر عن وحدة التّكليف لم يكن للحمل المذكور وجه وإن قلنا بثبوت المفهوم للوصف وذلك لأنّا إن قلنا إنّ الحكم المرتفع في المفهوم هو الثّابت في المنطوق كان المرتفع في المثال المذكور الوجوب العيني عن غير المؤمنة وهو لا ينافي ثبوت الوجوب التّخييري له كما هو مقتضى المطلق وإن قلنا إنّ المرتفع هو الحكم كليّة فإن قلنا بأنّ التّقييد مجاز لزم تعارض الظاهرين ظهور المطلق في الإطلاق وظهور الوصف في المفهوم والتّرجيح الأوّل لأنّ ظهور المنطوق مقدم على المفهوم نعم لو قلنا إنّ التّقييد لا يوجب التّجوز وجب تقديمه على ترك المفهوم ولكن المسألة خلافيّة أعني كون التّقييد موجبا للتّجوز وعدمه مع أنّهم اتفقوا على الحمل المذكور فيعلم أنّه ليس من جهة المفهوم لابتناء صحّته حينئذ على أمور غير متفق عليها كما عرفت ولذا تراهم لا يحكمون بوجوب حمل العام على الخاص المثبتين نحو أكرم البصريين وأكرم علماءهم مع أنّه لو كان للوصف مفهوم كان الخاص معارضا للعام فعدم الحكم بذلك إنّما هو من جهة أنّ مقتضى العام هو الوجوب

 

العيني بالنسبة إلى كل فرد فلا ينافي مدلول الخاص وهو الوجوب العيني بالنّسبة إلى الفرد بخلاف المطلق والمقيّد لأنّ مقتضى المطلق وجوب الأفراد تخييرا فينافي عينيّة الفرد كما يقتضيه المقيد فلذا يحكمون بحمله عليه وبهذا علم دفع الإشكال أيضا ومنها اتفاقهم على أنّ الوصف يوجب التّخصيص وقد علمت جوابه وهو أنّ التّخصيص أنّما هو في الحكم الخاص لا مطلق الحكم ومنها أنّ الوصف إذا كان له المفهوم كان أفيد إذ يستفاد منه حكمان مفهوما ومنطوقا وهو إثبات اللّغة بالاستحسان ومنها فهم أهل اللّسان كما نقل أنّ أبا عبيدة فهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي الواجد يحل عقوبته وعرضه أنّ لي غير الواجد ليس كذلك واعترض عليه بأنّه لعله كان ذلك عن اجتهاده لا عن نقله واجتهاده لا عبرة به وأيضا هو معارض بقول الأخفش حيث نفى المفهوم وأجيب عن الأوّل بأنّ اجتهاده حجة إذا حصل منه الظّنّ وليس هذا تقليدا له بل هو مدرك للظّنّ كما أنّ اجتهاد علماء الرّجال في التّعديل والجرح معتبر لاستفادة الظّنّ منه وعن الثّاني بأنّ الأخفش ناف والمثبت مقدم على النّافي في اللّغات لاستناد دعوته إلى مشاهدة الاستعمال والنّافي يدعي عدم المشاهدة ولا حجة له على مدعاها وفيهما نظر أمّا الثّاني فلأنّ تقديم المثبت غير مسلم كليّة بل فيه تفصيل سبق في ابتداء الكتاب وهنا نقول إنّه إن كان المثبت يدعي الوضع والنّافي ينفيه قدم النّافي لاستناد المثبت إلى مشاهدة الاستعمال وعدم العلم بالقرينة والنّافي يدعي وجود القرينة نعم لو كان الكلام في الانصراف العرفي قدم المثبت لاستناده إلى وجود القرينة الموجبة للانصراف والنّافي إلى عدمها وأمّا الأوّل فلأنّ اجتهاد المجتهد إنّما يكون حجة إذا انحصر مدرك الحكم فيه وإذا علم مدركه وجب النّظر فيه ولا يجوز العمل باجتهاده وقول علماء الرّجال إنّما يعتبر إذا لم يعلم مستندهم مثل الكشي وأمثاله من المتقدمين الّذين لا يعلم مستندهم وأمّا العلاّمة وأمثاله من المتأخّرين فيعلم أنّ مستندهم هو قول الكشي وأمثاله فلا يجوز العمل باجتهاده في تصحيح الخبر بل يجب النّظر في مدركه وهنا أيضا كذلك لأنّ العرف مدرك في أمثال ذلك فيجب الرّجوع إليهم وكل ما ثبت عرفا ثبت لغة بضميمة أصالة عدم النّقل فإن عارضه قول اللّغوي كان المعتبر أقوى الظّنّين أعني الظّنّ الحاصل من العرف بضميمة الأصل والظّنّ الحاصل من قول اللّغوي بل من نقله أيضا والعرف لا يحكمون باستفادة العليّة من الوصف أصلا ولو سلم انفهام العليّة فلا ريب في عدم انفهام العليّة المنحصرة قطعا ولذا لا يحكمون بالتّنافر لو قال أكرم العالم والجاهل ولو استفيد المفهوم من العالم لكان ذكر الجاهل موجبا للتنافر مع أنّ المشهور عدم حجّيّته بين القوم والقول بها نادر جدا ولذا تراهم يقولون تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليّة والإشعار غير الدّلالة تنبيهات أحدها المعروف أنّ الوصف أو الشّرط إذا كان واردا مورد الغالب لم يدل على انتفاء الحكم نحو قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لأنّ القتل غالبا إنّما يتحقق خشية

 

الإملاق وقوله تعالى وربائبكم اللاّتي في حجوركم واختلف في وجه عدم المفهوم في ذلك فقال بعض المحققين إنّ وجه ذلك هو أنّ الفرد النّادر هو الّذي يحتاج بيان حكمه إلى التّنبيه لانصراف المطلق إلى غيره والفرد الشّائع لا يحتاج بيان إرادته إلى التّنبيه فالمطلق في نفسه ينصرف إلى الفرد الشّائع ولا يشمل النّادر فتقييده بالفرد الشّائع لا يمكن أن يكون للتّنبيه على عدم إرادة النّادر إذ مع عدم التّقييد بذلك أيضا لم يشمله المطلق فليس الوصف في ذلك مخصّصا بل يجب أن يكون له فائدة أخرى غير التّخصيص ثم ذكر بعض الفوائد واعترض عليه بعضهم بأنّ عدم انصراف المطلق إلى النّادر لا يوجب عدم إرادة المفهوم من الوصف الشّائع للفرق بين عدم إرادة النّادر من المطلق حتى يكون مسكوتا عنه وبين نفي ثبوت الحكم فيه كما هو مقتضى المفهوم قال فالأولى في الوجه أن يقال إنّه لمّا لم يكن المطلق شاملا بحسب العرف للفرد النّادر كان الوصف الشّائع وصفا موضحا لتساويه مع الموصوف في الأفراد والوصف الموضح لا يفيد المفهوم واعترض عليه بعض الأفاضل أوّلا بأن يكون الوصف موضحا إنّما هو في صورة كون الانصراف على نحو يقطع بعدم إرادة النّادر منه وأمّا لو كان موجبا للإجمال وكان الحمل على الشّائع لكونه متيقّنا فلا يتم ذلك لجواز كون الوصف حينئذ موجبا لرفع الإجمال بنفي الحكم عن النّادر من جهة المفهوم وثانيا بمنع كون الوصف الموضح في مثل المقام غير مقيد للمفهوم بل هو أولى بالإفادة من الوصف المخصّص لوجود فائدة التخصيص في الوصف المخصّص بخلاف الموضح فلو لم يكن له مفهوم لكان ذكره لغوا فحينئذ الأولى التّفصيل بين الشّرط والوصف وأنّ الثّاني لا فرق فيه بين الورود في مورد الغالب وعدمه بناء على القول بثبوت المفهوم للوصف فيفيد المفهوم في كليهما على القول بإفادته بل يجب الحكم بإفادته حينئذ في مثل الآية يعني وربائبكم إلى آخره لتعقبه بقوله تعالى من نسائكم اللاّئي دخلتم بهن فإنّه يفيد المفهوم قطعا وإذا ترتب وصفان واستفيد من أحدهما المفهوم استفيد من الآخر أيضا عرفا فالحكم بعدم المفهوم في الآية بخصوصها باطل وإن سلّمنا أنّ الوصف لا يفيد المفهوم لو ورد مورد الغالب وأمّا الشّرط فالتّحقيق فيه عدم المفهوم لو ورد مورد الغالب نحو إن جاء زيد فأكرمه إن كان الغالب من أحواله المجيء لفهم العرف حيث لا يفهمون من ذلك إلاّ وجوب الإكرام كليّة لا عند خصوص المجيء وكذا الوصف على القول بنفي المفهوم بل يفهم من الشّرط والوصف كليّة الحكم أيضا لا كون النّادر مسكوتا عنه وحكمة التّعليق إنّما هي بيان كون الملاقاة في المثال المذكور شرطا في الوجوب فلا يجب تحصيله من باب المقدمة فالشرط حقيقة هو الملاقاة وأمّا ذكر المجيء فإنّما هو لكونه غالب أفراد الملاقاة الّذي هو شرط جعل كناية عن اشتراط الملاقاة نحو قوله تعالى إذا نودي للصّلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله لوجوب الجمعة لو ترك النّداء أيضا لكن التّعليق إنّما يفيد كون دخول الوقت شرطا وكذا النّداء كناية عن دخول الوقت وذكر ذلك لكونه ملازما لدخوله غالبا هذا حاصل ما ذكره في المقام وأقول أمّا التّمثيل بقوله تعالى وربائبكم فظاهر الفساد لأنّه جمع مضاف يفيد

 

العموم من المقرر عندهم عدم انصراف العام إلى الفرد الشّائع فجعل الوصف موضحا فاسد وأمّا دعوى الانصراف إلى الشّائع فلا يتم كليّة إذ لو أريد من الفرد الشّائع الفرد الشّائع في الوجود دون الاستعمال فهو لا يوجب الانصراف كما مر وإن أريد الشّائع في الاستعمال فلا ريب أنّه يختلف بحسب الأحكام فإنّ الماء يستعمل في الماء الحلو غالبا عند الأمر بالشرب وفي الماء المالح غالبا في أمثال هذه الأماكن المتبركة عند الأمر بالاستعمال وبالجملة يختلف شيوع الاستعمال في الفرد بحسب الموارد والأحكام والأماكن فالحكم بالانصراف كليّة عند شيوع الاستعمال لا وجه له وغلبة استعمال ربائب في مقام تحريم النّكاح في الرّبائب الّتي في الحجور ممنوعة ثم إنّ الانصراف إلى الغالب في الشّرط غير معقول المراد خصوصا في مثل إذا جاء زيد فأكرمه حيث يكون الموضوع مشخصا معيّنا إذ لو أريد انصراف زيد إلى الغالب لشيوع استعماله في زيد الجائي فلا يخفى سخافته وإن أريد أنّ المجيء منصرف إلى الغالب فلا ريب أنّه ليس له فردان غالب وغيره وبالجملة فلا يتعقل الانصراف إلاّ في الحكم الّذي تعلق بالمطلق الّذي شاع استعماله في فرد خاص في سياق ذلك الحكم ففي مثل هذا الموضع لو تعقبه الوصف الشّائع كان موضحا وأمّا غير ذلك فلا نعلم جهة الانصراف بل لا يتعقل في بعض الموارد كالشرط على ما بيّنا ثم إنّ الظاهر من المحقق القمي رحمة الله عليه أنّ الوصف إذا ورد مورد الغالب لم يفد المفهوم لكن الحكم يختص بالفرد الشّائع لنفس الانصراف فإنّه مثل الأمر بالتيمّم لمن منعه زحام الجمعة عن الخروج فإنّ الغالب عدم وجدانه الماء في المسجد فلا يجري الحكم بالنسبة إلى واجد الماء وظاهر الفاضل الشّريف رحمة الله عليه أنّ الوصف الوارد مورد الغالب يوجب تعميم الحكم إلى الفرد النّادر أيضا وكذا الشّرط نحو إذا نودي للصّلوة من يوم الجمعة والتّحقيق أنّه إذا كان للمطلق أفراد شائعة فقد يعبرون في العرف عن الحكم الثّابت للمطلق بالأفراد الشّائعة فيقال أكرم المتلبس بالعمامة ويراد منه إكرام الطلاب وإن خلوا عن الوصف وقد يعبرون عن الحكم الثّابت للأفراد الشّائعة بلفظ المطلق فيقال اسقني الماء ويقصد الماء الحلو وهذا شائع في العرف جدّا ثم إنّ الوصف إمّا من المشتقّات كما يقال أكرم العالم أو لا بل هو وصف نحوي وبعبارة أخرى إمّا أن يكون الموضوع في الحكم هو الوصف المشتق من دون ذكر الموصوف أو يكون الموضوع هو المطلق ويذكر بعده النّعت النّحوي والمناط في عدم تعميم الحكم الصورة انتفاء الوصف كون الغرض منه التّخصيص وكونه موضوعا للحكم الثّابت في الكلام والمناط في استفادة المفهوم كون الغرض من ذكره تعليق الحكم عليه وإناطته به والمناط في استفادة العموم كون الموضوع هو المطلق إذا لم يكن له فرد شائع الاستعمال ويكون ذكر الوصف لغير التّخصيص والإناطة إذا عرفت هذا فنقول إنّ الوصف الوارد مورد الغالب ليس الغرض منه الموضوعيّة في الحكم ولا التّعليق والإناطة بل وجوده بالنّسبة إلى الحكم كالعدم عرفا وإنّما يذكر لفائدة أخرى ويكون الموضوع هو الموصوف فإذا كان الوصف

 

من المشتقات كان الموضوع هو الذّات فيعم صورة انتفاء الوصف أيضا وإن كان نعتا نحويّا فالموضوع هو ذات الموصوف فإن كان عاما عم الحكم صورة انتفاء الحكم للوصف أيضا نحو ربائبكم وإن كان مطلقا فإن كان شائع الاستعمال في ذلك الوصف اختص الحكم به لا من جهة الوصف المذكور بل من جهة انصراف المطلق إليه عرفا وكونه من قبيل التّعبير عن حكم الفرد الشّائع بالمطلق وإن لم يكن شائع الاستعمال بل كان محض الشّيوع الوجودي عم الحكم صورة انتفاء الوصف أيضا ويكون علة ذكر الوصف كونه موضع الحاجة وكذا الكلام في الشّرط نحو وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة إذ ليس الغرض من الشّرط التّعليق ولا بيان الموضوع بل الموضوع هو الشّخص والتّقييد إنّما هو لكون الغالب في موارد الحاجة إلى الارتهان حالة السفر وعدم الكاتب والآية للإرشاد إلى كيفيّة العمل في موضع الحاجة ولكن الحكم عام لعموم موضوعه وبما ذكرنا علم أنّ كلام المحقق القمي رحمه‌الله معناه اختصاص الحكم بالمتصف بالوصف من جهة كون الموضوع هو المطلق وهو منصرف إلى الشّائع لا من جهة استفادة التّخصيص من الوصف ولكنه لا يتم في العام مثل ربائبكم ولا في المطلق الّذي ليس شائع الاستعمال في الفرد نعم يتم في المطلق الّذي شاع استعماله في الفرد كما عرفت وكذا كلام الفاضل الشّريف من دعوى العموم مطلقا فإنّه لا يتم فيما شاع استعماله في الفرد نعم يتم في غير ذلك وما ذكرنا لا شبهة فيه إنّما الإشكال في تميز الوصف الّذي يكون الغرض منه التّخصيص والموضوعيّة والإناطة عما لا يراد منه شيء منهما وكذا الشّرط والظّاهر أنّه إذا وردا مورد الغالب لم يفهم منهما إناطة الحكم عرفا وأمّا فهم الموضوعيّة فيختلف بحسب الموارد ولا ضابط كليّا في المقام نعم متى شكّ في الموضوعيّة وعدمها وجب الاقتصار على المتصف بالوصف الثّاني إذا كان تحقق الحكم في صورة انتفاء الوصف أولى لم يفد المفهوم وكذا الشّرط نحو لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لأنّ الحكم بحرمة القتل في صورة انتفاء الخشية أولى والظاهر أنّ هذا أيضا داخل في انصراف المطلق إلى الشّائع لأنّ الغالب من القتل إنّما هو في صورة خشية الفقر فالموضوع هو ذات القتل وذكر القيد لنكتة أخرى غير التّخصيص ولذا مثلنا بالآية في التّنبيه السابق أيضا الثّالث قد اشترطوا في استفادة المفهوم من الشّرط أو الوصف عدم ذكره في السؤال وإلاّ لم يكن الجواب مفيدا للمفهوم كما لو قيل هل في السّائمة زكاة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في السائمة زكاة إذ لعل التّقييد إنّما هو لمطابقة السؤال وأيضا اشترطوا كونه في كلام من لا يحتمل فيه الجهل وإلاّ لم يجز الحكم بإرادة المفهوم لاحتمال أنّ تخصيص المتصف بالشرط أو التّقييد من جهة جهله بحكم صورة انتفائه ولهذا لو ذكر التّقييد المذكور في كلام الفقيه لم يمكن الحكم بإرادة المفهوم لاحتمال أنّه أنّما اجتهد في حكم من يوجد فيه القيد فعلمه دون فاقده ومرجع هذه الوجوه المذكورة هو أنّ الضّابط في استفادة المفهوم كونه ظاهرا فيه من جهة الوضع أو الانصراف ولا يكون في المقام ما يوجب ظهوره في عدمه كالغلبة والأولويّة وغيرها من الوجوه

 

المذكورة أو غيرها وأمّا على القول باستفادة المفهوم من الوصف من جهة خلوه عن الفائدة فمتى احتمل أحد هذه الوجوه كفى في الخروج عن اللّغويّة ولم يمكن معه إثبات المفهوم وإن لم يكن على حد الظّهور العرفي

المبحث الثّالث في مفهوم الغاية

وتحقيق المطلب فيه يظهر في طي أمور الأوّل النّزاع في هذا الأصل إنّما هو في أنّ تحديد الحكم بغاية هل يدل على انتفائه عما بعد الغاية بحيث لو دل دليل آخر على ثبوته في ما بعدها لعارضه أو لا وأمّا انتفاء نفس الحكم الخاص عن ما بعد الغاية فلا نزاع فيه وللغاية إطلاقات منها النّهاية ومنه العلل الغائيّة لأنّ غاية العمل نهاية له في الجملة ومنها المسافة كقولهم من لابتداء الغاية إذ ليس للنّهاية بداية وإنّما النّهاية والبداية كلاهما للمسافة وهي حقيقة في المعنى الأوّل وإطلاقها على الثّاني مجاز بعلاقة الجزء والكل لأنّ النّهاية جزء المسافة كما قيل واعترض عليه بأنّ نهاية الشّيء ضد له لأنّها حده والحد خارج عن المحدود فالأولى أن يقال إنّه تجوز بها عن الجزء الأخير من المسافة لمجاورته مع النّهاية ثم تجوز به عن المسافة بعلاقة الكل والجزء فيكون من قبيل سبك مجاز عن مجاز وفيه نظر إذ لا نسلم كون نهاية الشّيء ضدا للشّيء بل البداية والنّهاية أمران منتزعان من الشّيء باعتبار انقطاعه من أحد الجانبين فهما صفتان عارضتان للشّيء منتزعتان منه فيمكن التّجوز بهما عن الشّيء بحيث لا يلزم سبك المجاز عن المجاز ومنها مدخول الأدوات الدّالة على التّحديد مثل إلى وحتى وهو المراد في قولهم هل الغاية داخلة في المغيّا أو لا إذ ليس المراد هو النّهاية إذ النّهاية إمّا عبارة عن الحد فهو خارج عن المحدود جزما أو عن الجزء الأخير وهو داخل قطعا بل النّزاع إنّما هو في أنّ مدخول حتى مثلا داخل في المغيّا حتى يثبت حكمه من المنطوق أو لا حتى يخرج وإذا حكم بخروجه جرى النّزاع في ثبوت المفهوم بالنّسبة إليه وعدمه وكذا بالنّسبة إلى ما بعده سواء قيل بدخوله في المغيّا أو خروجه وقيل إنّه إذا قيل بخروج المدخول عن المغيّا فخروج ما بعده عنه أولى فلا معنى للنّزاع في ثبوت المفهوم حينئذ فاسد لأنّ الخروج عن المنطوق إنّما يوجب كونه مسكوتا عنه وأمّا نفي الحكم عنه فيتوقف على استفادة المفهوم ثم إنّ المراد بالغاية في محل النّزاع إمّا مدخول الأدوات فيكون حاصل النّزاع أنّ الحكم المذكور هل يدل على انتفاء الحكم عن ما بعد مدخول الأدوات وإمّا نفس المدخول فإن قيل بدخوله في المنطوق فهو وإن قيل بخروجه لم يدخل في هذا النّزاع بل يحتاج إلى نزاع آخر أو المراد بالغاية هنا هو النّهاية فيكون النّزاع في أنّ تحديد الحكم بنهاية هل يدل على انتفاء الحكم عما بعد تلك النّهاية أو لا ويكون النّزاع في تلك المسألة في أنّ مدخول الأدوات هل هو نهاية للحكم بنهايته حتى يدخل في المنطوق لأنّ نهايته حينئذ حد للحكم أو بابتدائه فيدخل في المفهوم لكونه ما بعد النّهاية حينئذ وهذا هو الصّواب في محل النّزاع لئلا نحتاج في صورة الحكم بخروج المدخول عن المنطوق إلى نزاع مستقل والحاصل أنّ النّزاع هنا في حكم ما بعد النّهاية من حيث المفهوم وهناك في تحديد النّهاية وأنّها ابتداء المدخول أو انتهاؤه فافهم الثّاني اختلفوا في أنّ الغاية أعني مدخول الأدوات كحتى

 

وإلى داخلة في المغيّا أو لا عند عدم القرينة على أقوال ثالثها التّفصيل بين إلى وحتى فيدخل في الثّاني ويخرج في الأوّل أو بالعكس ورابعها التّفصيل بين كون المدخول من جنس المغيّا فيدخل وبين غير ذلك فيخرج وقيل إنّ الأداة إنّما وضعت للدّلالة على كون مدخولها جزءا حقيقيّا لما قبلها ويكون المدخول مما ينتهي به الشّيء نحو أكلت السّمك حتى رأسها فإنّ الرّأس جزء حقيقي للسّمك وينتهي به السّمك فإذا استعملت فيما ليس جزءا أخيرا حقيقة بل هو مما يلي الجزء الأخير كانت مجازا نحو سلام هي حتى مطلع الفجر فإنّ طلوع الفجر ليس جزءا للّيل بل هو مما يلي الجزء الأخير وحينئذ فإذا استعملت في الجزء الأخير كان داخلا في الحكم لدخوله في ما قبلها إجمالا فإنّ قوله أكلت السّمك يشمل الرّأس إجمالا فذكر حتى رأسها يكون تفصيلا للإجمال ولأنّ المتبادر من هذا القسم كون المدخول مما ينتهي به الحكم لا ما ينتهي عنده وأمّا إذا استعملت فيما يلي الجزء الأخير كالآية فالمتبادر عرفا عدم الدّخول ولم يكن داخلا في ما قبلها إجمالا حتى يكون الأداة للتفصيل وحينئذ فإذا علم أنّه جزء أخير حقيقة حكم بالدخول وإن علم عدمه حكم بالخروج وإن شكّ في أنّه جزء أخير أو لا حكم بالدخول حملا لأداة على المعنى الحقيقي وهو أن يكون مستعملا في الجزء الأخير الحقيقي والتّحقيق عدم الفرق بين القسمين والعرف حاكم في الجميع بعدم الدّخول في الحكم حيث يتبادر عندهم تحديد الحكم بمدخول الأدوات وخروج الحد عن المحدود ووضع الأدوات لما كان جزءا أخيرا حقيقيّا ممنوع بل إنّما وضعت لتحديد شيء بشيء ودعوى تبادر الدّخول من حتى رأسها إنّما هو لا شيئا حتى العاطفة بالجارة فالحكم في الأوّل كذلك بخلاف الثّاني ولهذا لو أبدلت بإلى تبادر عدم الدّخول ولو سلم الوضع لذلك فدعوى الدّخول في الحكم إجمالا ممنوعة لجواز نسبة الحكم إلى الكل باعتبار ثبوته للبعض ولو سلم فتحديده بالحد الخاص يخرجه عن الحكم كالاستثناء للتّبادر عرفا نعم فيما إذا قوبلت بمن في مقام إفادة عموم الحكم شمل الحكم للمدخول أيضا نحو قرأت القرآن من أوله إلى آخره فيشمل الآخر أيضا والظّاهر في أدوات الابتداء أيضا هو عدم الدّخول فيكون المبدأ هو منتهى المدخول نحو سرت من البصرة إلى الكوفة إذ لا يجب كون المبدإ أوّل البصرة كما أنّه ليس النّهاية منتهى الكوفة بل مبدؤها فتأمّل الثّالث قد عرفت خروج الغاية عن الحكم الثّابت للمغيّا لتبادر التّحديد من الأدوات عرفا وبذلك علم ثبوت المفهوم للغاية بمعنى أنّ مقتضى التّحديد انتفاء مطلق الحكم عما بعد الغاية لا انتفاء الحكم الخاص لأنّه ليس معنى المفهوم كما عرفت مرارا ووجهه ظاهر وحاصله أنّ المتبادر من تحديد الحكم بغاية نفيه عما بعدها وقال بعض الأفاضل إن كان المراد بمفهوم الغاية انتفاء الحكم الخاص عما بعد الغاية فهو مسلم وإن كان المراد انتفاء مطلق الحكم فلا أمّا الثّاني فلأنّ الغاية في الحقيقة غاية للمطلوب لا للطلب سيما على التّحقيق في وضع هيئة الأمر فإنّها موضوعة للطلب الكلي الذي يلزمه التّشخص في الاستعمال والهيئة معنى حرفي لا يقبل التّحديد فالتّحديد إنّما هو للمادة فالصوم يقيد أوّلا

 

بكونه مغيّا بالغاية الكذائيّة وهي اللّيل ثم يرد عليه الأمر فيكون الغاية بمنزلة صفة من صفات المطلوب فطلب شيء موصوف بوصف خاص لا ينافي طلب غيره بخطاب آخر أعني الصّوم في اللّيل مثلا وأمّا الأوّل فلأنّه إذا قال صم اللّيل فظاهر الأمر كون متعلقه واجبا نفسيّا وكون اللّيل بتمامه غاية لا بجزئه الأخير ليدخل بنفسه في المنطوق وحينئذ فإن كان الصّوم في الليل أيضا مطلوبا بهذا الطّلب لزم أمّا كون الأمر مستعملا في الطّلب الغيري لأنّ جزء المطلوب مطلوب بالطلب الغيري وأمّا كون اللّيل بجزئه الأخير غاية وكلاهما خلاف ظاهر الخطاب فإن قيل فما الفرق بين الغاية والصّفة بعد اشتراكهما في ارتفاع الحكم الخاص عن ما انتفى فيه الغاية أو الوصف وعدم الدّلالة على ارتفاع مطلق الحكم ولم نفيت المفهوم في الوصف وفصلت في الغاية قلنا بينهما فرق وذلك لأنّ التّكليف ربما يكون واحدا فحينئذ لو قال صم إلى الغروب وصم إلى المغرب تعارض الخطابان لأنّ ظاهر الأوّل أنّ المكلف به بالتّكليف النّفسي هو الصّوم المحدد بالغروب ومقتضى الثّاني أنّه المحدد بالمغرب بخلاف الوصف فإن ورد الحكم على موصوف لا ينافي وروده على غيره أيضا هذا حاصل كلامه وفيه نظر من وجوه أحدها أنّ جعل الغاية غاية للمادة لا يتم في مثل ولا تقربوهن حتى يطهرن إذ ليس المنهي عنه القرب الممتد المحدود بالطهر وكذا في مثل كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط إذ ليس المأمور به الأكل الممتد المحدود بطلوع الفجر فالتّحقيق أنّ الغاية أنّما هي للفعل من حيث كونه متعلقا للطّلب لا للفعل مع قطع النّظر عن الطّلب حتى يكون الطّلب واردا على الفعل المقيد والقول بأنّ الطّلب من المعاني الحرفيّة ولا يمكن تحديده مدفوع بأنّ التّحديد حقيقة للفعل باعتبار الطّلب لا للطلب نفسه والتّحديد بهذا النّحو يصدق بكون المطلوب الفعل الواحد المستوعب للوقت ويكون المطلوب الفعل المستوعب له بطريق التّكرر وبكون المطلوب الفعل مخيرا في أجزاء الوقت المحدود فمثل قوله تعالى أقم الصّلاة لدلوك الشّمس إلى غسق اللّيل يدل على طلب فعل محدود باعتبار الطّلب بالوقت الخاص وذلك بالتّخيير في إيقاعه في أي جزء أراد وأمّا لو كان تحديدا للفعل المطلوب لكان المطلوب الصّلاة الممتدة المستوعبة لذلك الوقت ولا يخفى فساده مع أنّ الوجه المذكور لا يجري في الإخبار المقابل للإنشاء وهو ظاهر والثّاني أنّ مقتضى كلامه أنّه لو لا ظهور الأمر في الواجب النّفسي لما صح القول بانتفاء الحكم الخاص أيضا وهو فاسد لأنّ الحكم الخاص نفسيّا كان أو غيريّا إنّما تعلق بالموضوع الخاص فبانتفائه ينتفي جزما حتى لو قلنا بظهور الأمر في الواجب الغيري لكان الوجوب الغيري حينئذ منتفيا عن الموضوع الخاص نعم يجوز إثبات وجوب آخر بخطاب آخر نفسيّا أو غيريّا للموضوع الآخر كما لا يخفى والثّالث أنّ اتحاد التّكليف لا يختص فرضه بالغاية بل يمكن فرضه في الصّفة أيضا ولا ربط له بإثبات المفهوم بل هو موجب لحصول التّعارض بين المنطوقين كما عرفت سابقا فإنّا لو علمنا أنّ في الغنم ليس إلاّ تكليف واحد فورد أنّ في السّائمة زكاة وفي مطلق الغنم زكاة وقع التّعارض بين المنطوقين لاستفادة الوجوب العيني

 

من الأوّل والتّخييري من الثّاني كما مر فإن قلت سلمنا أنّ التّحديد أنّما هو للحكم لا للمادة لكن لا يتم ذلك إلاّ في الزّمان وأمّا المكان فلا يمكن كونه غاية للحكم إذ لا يمكن وقوعه في المكان ففي مثل سر إلى الكوفة يكون التّحديد للسير لا للطلب فيتم المطلوب قلت لا فرق بين الزّمان والمكان فيما ذكرنا فإنّ المحدود هنا أيضا هو السّير باعتبار كونه مطلوبا كما أنّ المحدود باللّيل هو الصّوم باعتبار كونه مطلوبا والحاصل أنّ النّوع السّير الواجب هو السّير المحدود بالحد الخاص فينتفي نوع المطلوب عند انتفاء الغاية لا أنّ شخص السّير المطلوب هذا الخطاب محدود حتى ينتفي الشّخص دون النّوع فتأمّل

تذنيب

اختلفوا في أنّ التّحديد بكلمة إلى أو من أو هما معا هل يدل على التّرتيب أو لا وثمرة الاختلاف يظهر في وجوب النّكس في غسل اليد إلى المرفق وعدمه لقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ومنشأ النّزاع هو أنّ التّحديد تحديد لكيفيّة الغسل أو لكميّة المغسول فعلى الأوّل يدل على التّرتيب دون الثّاني قيل الظّاهر كونه حقيقة في تحديد الكيفيّة للتبادر وغلبة الاستعمال وهما علامتان للحقيقة ولأنّه لو كان لتحديد الكميّة وجب تقدير متعلق له في الآية مثل الماهيّة إلى المرافق ونحوها إذ لو تعلق بالغسل لكان لتحديد الكيفيّة وفيه نظر إذ يمكن تعليقه باغسلوا مع كونه لتحديد الكميّة لأنّ للغسل أيضا باعتبار المحل كمّا مخصوصا فهو بمنزلة أن يقال أوجد غسلا محدودا بالحد الفلاني وظاهر أنّه لا يقتضي التّرتيب وأمّا التّبادر والغلبة فممنوعان ولو سلم جميع ذلك فالنّص عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام أوجب حمل الآية على تحديد المغسول وإن كان مجازا فافهم

المبحث الرّابع في مفهوم الحصر

وتحقيق الكلام فيه يظهر في طي أمور الأوّل الحصر قد يكون بالمادة كالحصر بالاستثناء وبإنّما وبل ولا وقد يكون بالهيئة كالحصر بتقديم ما هو حقه التّأخير أمّا الاستثناء فاستفادة الحصر منه مبني على المشهور من أنّ الاستثناء من النّفي إثبات وبالعكس وأنكره أبو حنيفة وقال بأنّ المستثنى مسكوت عنه ويمكن اشتراكه مع المستثنى منه في الحكم واستدل بمثل لا صلاة إلاّ بطهور إذ لو كان الاستثناء موجبا لإثبات الحكم هنا لزم الحكم بتحقيق الصّلاة بمحض الطّهور مع أنّها تتوقف على أمور أخر وأجيب بأنّ الحصر هنا إضافي بالنسبة إلى صورة كونها جامعة لجميع الشّرائط والأجزاء سوى الطّهور بحيث لو وجد الطّهور لكانت صحيحة أو أنّ المراد لا صلاة ممكنة الصّحة إلاّ بطهور فيثبت إمكان صحتها عند وجود الطّهور بضم سائر الشّرائط أيضا واستدل المشهور بالتّبادر عرفا فإنّ الظّاهر عرفا منه مخالفة المستثنى للمستثنى منه وأيضا لولاه لم يكن لا إله إلاّ الله كلمة التّوحيد لأنّ معنى التّوحيد نفي الغير وإثبات الواحد واعترض على المشهور بأنّه لا يفيده على مذهبهم أيضا لاحتياج لا إلى الخبر فإن قدر موجود لم يثبت الامتناع للشريك وإن قدر ممكن ثبت الإمكان للواحد لا الوجود والتّوحيد مركب من إثبات الوجود للواحد وإثبات امتناعه لغيره وأجيب بأنّ لا لا يحتاج إلى الخبر لأنّه كما أنّ الوجود قسمان وجود هو المحمول كما في قولك زيد موجود ووجود

 

هو الرّابطة كقولك زيد موجود قائما فكذلك العدم نحو زيد معدوم وزيد ليس بقائم والمقصود في كلمة التّوحيد من نفي الإله هو العدم المحمول فهو كقولك الإله معدوم إلاّ الله فيثبت العدم للشريك والوجود للواجب وفيه مع أنّه موجب لتركيب الكلام من الحرف والاسم يرد عليه أنّ إثبات العدم للإله إن كان بالفعل لم يثبت الامتناع وإن كان بالإمكان لم يثبت نفي الوجود أيضا وإن كان بالضرورة يرتفع ضرورة العدم عن الله ولا يثبت الوجود فضلا عن الوجوب والأولى أن يقدر الخبر موجود فيقتضي نفي وجود الشّريك فعلا ولازمه إثبات الامتناع إن كان المراد بالإله واجب الوجوب لأنّه إن لم يكن موجودا فهو ممتنع بالضرورة وإن كان المراد المعبود بالحق لم يلزمه عقلا الامتناع ولكنه لازم أذهان العرف فإنّ كل من اعتقد نفي وجود المعبود فعلا غير الله لا يخطر بباله إمكان وجوده فيما بعد أو كونه فيما سبق بل يعتقد أنّ من كان مستحقا للعبادة يجب كونه مخالفا للممكنات ويكون قديما أزليّا دائما أبديّا كما لا يخفى فتأمّل وكيف كان فلا ريب في أنّ الاستثناء يفيد الحصر وأمّا كلمة بل فاستفادة الحصر منها وعدمه إنّما يظهر ببيان معناها فنقول إنّها إمّا تقع بعد الإثبات إخبارا كان أو إنشاء وإمّا تقع بعد النّفي والنّهي أمّا الأوّل فلا شبهة في أنّه يثبت الحكم السّابق لمدخوله نحو قام زيد بل عمرو فيثبت القيام لعمرو وهل يدل على انتفائه عن زيد حتى يفيد حصره في عمرو بالإضافة إلى زيد أو لا بل يجعله مسكوتا عنه فيه خلاف وأمّا الثّاني في نحو ما قام زيد بل عمرو ففي إثبات القيام لعمرو مع بقاء النّفي عن زيد ليفيد الحصر الإضافي أو نفيه عن عمرو مع بقائه عن زيد ليتفقا في الحكم أو جعل زيد مسكوتا عنه مع إثبات القيام لعمرو أو نفيه عنه أقوال ولا يستفاد الحصر إلاّ على القول الأوّل وهو الحق لأنّ المتبادر عرفا من قولنا ما قام زيد بل عمرو هو نفي القيام عن زيد وإثباته لعمرو يتأكد النّفي لو أدخل عليها لا نحو ما ضرب زيد لا بل عمرو فلا إشكال في استفادة الحصر منه حينئذ وأمّا الإثبات فمع دخول لا يفيد الحصر قطعا نحو جاءني زيد لا بل عمرو وأمّا بدون لا ففيه إشكال إذ قد يستعمل تارة في نفي الحكم عن ما قبله ويكون لتدارك الغلط ادعاء أو حقيقة نحو حبيبتي قمر بل شمس ورأيت زيدا بل حمارا وقد يستعمل في إثباته لهما نحو تحير فيك العلماء بل الأنبياء ويدرك الزّكي ذلك بل البليد ولكن يمكن إرجاع هذا أيضا إلى نفي الحكم عن السّابق بوجه اعتبار ونكتة وهي دعوى إثبات الحكم له بالأولويّة لا بالنحو الثّابت في الكلام فتأمل وأمّا كلمة إنّما فاختلف في إفادتها الحصر وعدمها فقيل نعم لوجوه منها اتفاق المفسرين على أنّ معنى قوله تعالى إنّما حرم عليكم الميتة ما حرم عليكم إلاّ الميتة ومنها فهم الفقهاء من قوله عليه‌السلام إنّما الأعمال بالنّيّات توقف كل عمل على النّيّة وليس إلاّ لاستفادة الحصر وكذا من قوله عليه‌السلام إنّما الولاء لمن أعتق أنّه لا ولاء لغير المعتق ومنها نقل أهل اللّغة ومنها التّبادر عرفا ومنها فصل الضّمير بعدها في قوله وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ولا موجب له سوى الحصر وأجيب عن الأوّل بأنّ

 

اتفاقهم إنّما هو عن اجتهادهم ولا دليل على اعتباره وبه يجاب عن الثّاني والثّالث مع عدم الاتفاق عليه لذهاب جماعة إلى الخلاف مع أنّ فهم الحصر من الحديثين إنّما هو من تعريف المسند إليه باللام وعمومه لدلالته على أنّ صحة كل عمل مسببة عن النّيّة فلا يمكن صحة البعض بدونها وإلاّ لم يصدق الكليّة وكذا في إنّما الولاء لمن أعتق مع أنّ الحصر إنّما هو بالنسبة إلى الولاء المغايرة لولاء المعتق ولا ينافي اشتراك الولاء الواحد بينه وبين غيره إلاّ من جهة ظهور الكلام في استقلال المعتق بالولاء كما لو كان الدّار مشتركة بين زيد وعمرو صح أن يقال ملك جميع الدّار لزيد ولعمرو إلاّ أنّه ينافي ظهور الكلام في الاستقلال لا من جهة استفادة الحصر وعن الرّابع بأنّه إنّما ينفع لو كان في عرف العرب إذ لا مرادف له في عرف العجم بحيث يستفاد منه الحصر بل إنّما يستفاد منه تأكيد الكلام وأنّه صادق لا كاذب كما لا يخفى والتّبادر في عرف العرب غير معلوم وعن الخامس بأنّ غاية ما يدل عليه الفصل كون المراد بها الحصر لا وضعها له لاحتمال كون الفصل قرينة ودفعه بالأصل غير ممكن وظاهر وقد استعملت في غير الحصر أيضا نحو إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لعدم الانحصار فيهم واعترض عليه بأنّ المراد حصر المؤمنين الكاملين لا مطلقا والتّحقيق أنّ المناط في أمثال ذلك على الظّن المطلق كما مر في صدر الكتاب فإن حصل الظّن بإفادة الحصر من جهة نقل النّقلة أو اتفاق المفسرين أو نحو ذلك فهو وإلاّ فمشكل بل يجب التّوقف والرّجوع في مقام العمل إلى الأصول فتأمّل الثّاني هل الحصر في المذكورات مفهوم أو منطوق والتّحقيق أنّه إن كان المراد بالحصر إثبات الواحد ونفي ما عداه كان منطوقا وإن كان المراد الانحصار الذي هو لازم النّفي والإثبات أمكن جعله مفهوما لأنّه مدلول التزامي يجري فيه المفهوم والمنطوق بخلاف الأوّل فإنّه حينئذ مدلول مطابقي أو تضمني وكلاهما من المنطوق كما مر الثّالث مما جعلوه مفيدا للحصر تعريف المسند إليه وربما عبر عنه بتقديم الوصف على الموصوف الخاص خبرا له وربما قيل إنّ مطلق تقديم ما من حقه التّأخير يفيد الحصر ويظهر من الأوّل أنّ نفس تعريف المسند إليه يفيد الحصر ويظهر من بعض أدلّتهم في المقام أنّ كون الموضوع هو الأمر المخصوص يقتضي الحصر كما ذكر ولأنّ جعل الموضوع جنسا لما كان يقتضي اتحاده مع الفرد لزمه إفادة الحصر ويظهر من الأخير أنّ محض خلاف التّرتيب يوجب الحصر ويمكن الجمع بينهما بأنّه لما قدم النّكرة وجب تعريفها لئلا يلزم الابتداء بالنكرة فلما عرف صار الموضوع هو الأمر المخصوص المفيد للحصر وبهذا الاعتبار جاز نسبة الحصر إلى التّقديم وإلى التّعريف وإلى جعل الموضوع هو الأمر المخصوص ثم إنّ مقتضى العبارة الثّانية اختصاص الكلام بصورة كون الموضوع وصفا والمحمول أخص منه مطلقا ولكن أكثر أمثلتهم يقتضي كون الكلام أعم من كون المسند إليه وصفا وكونه اسم جنس وكون المحمول أخص مطلقا أو من وجه نحو المنطلق زيد والكرم في العرب والأئمة من قريش بل يجري الكلام فيما إذا كان المحمول أعم مطلقا مثل الإنسان

 

حيوان والأولى ذكره في لواحق المسألة لاختصاصها بما لو كان المحمول أخص ولو من وجه ولنجعل الكلام في بعض الأمثلة ليقاس عليه الباقي فنقول ما مثلوا به للمسألة هو مثل المنطلق زيد واستفادة الحصر منه بأنّ اللام إمّا للاستغراق فيقتضي اتحاد جميع الأفراد مع زيد فيجب أن لا يكون هناك فرد غيره وإلاّ لزم الكذب وإمّا للجنس فيقتضي اتحاد الطّبيعة مع زيد فيجب أن لا يكون لها فرد آخر غيره واعترض عليه بأنّ هذا الكلام جار في صورة تعريف السّند أيضا نحو زيد المنطلق حرفا بحرف فلا دخل للتقديم في ذلك بل لا مدخليّة للتعريف أيضا لجريانه في الخبر المنكر مثل زيد منطلق إذ المراد من الحمل هو الاتحاد فإن أريد اتحاد الجنس مع الفرد ذاتا أو أريد اتحاد جميع الأفراد معه أفاد الحصر وإن أريد بيان اتحاد الجنس معه في الوجود فلا حصر وهذا الكلام لا فرق فيه بين المسند المعرفة والنّكرة والمقدّم والمؤخّر وما يقال من أنّ المسند إذا كان نكرة فالمراد به الفرد لا الجنس فاسد ضرورة أنّ المراد بالمحمول هو المفهوم لا المصداق بل الفرديّة لازمة للحمل فإنّ معنى قولنا زيد قائم ليس أنّه فرد للقائم لأنّه أيضا كلي فيكون المعنى أنّه فرد لفرد القائم وهكذا فيلزم التّسلسل والقول بأنّه في صورة التّعريف يكون للمقصود الحمل الذّاتي وفي صورة التّنكير الحمل المتعارفي يحتاج إلى دليل ولا دليل في المسألة إلاّ أمور إن تم بعضها ثبت المطلوب وإلاّ فلا منها أنّه لو كان المستفاد في صورة التّعريف والتّنكير أمرا واحدا لضاع التّعريف لكونه لغوا أو فيه أنّه لا ينحصر فائدته في ذلك فلعلها شيء آخر ومنها أنّ اللام في مثل المنطلق زيد يتعين للاستغراق لأنّ مقتضى الحمل صدق المحمول على الموضوع ويمتنع صدق زيد على الجنس إلاّ ادعاء وإرادته خلاف الأصل فيجب إرادة الأفراد من الموضوع ليمكن صدق زيد عليها بعد فرض الانحصار وأمّا مع عدم الانحصار فيكون الكلام كذبا فصرف الكلام عن الادعاء والكذب يوجب الحمل على إرادة الحصر وفيه أوّلا أنّ المعتبر في الحمل صدق واحد من الموضوع أو المحمول على الآخر لا صدق المحمول على الموضوع إذ لا دليل عليه وثانيا أنّ إرادة بعض الأفراد ممكن معينا أو غير معين فلا يتعيّن الاستغراق ومنها أنّ اللام ليس للاستغراق لقبح قولنا زيد كل فرد من أفراد الإنسان بل هي للجنس لكن بالنظر إلى تحصله في الخارج عموما وكمالا فمعنى الصّديق زيد أنّه كل هذه الطّبيعة وتمامها فلو كان هناك صديق غيره لما كان هو تمام الطّبيعة وفيه أوّلا أنّه لا دليل على كون المراد هو جميع التّحصلات بل هو أوّل الدّعوى بل لا دليل على كون المراد الجنس باعتبار الوجود واللام لا يقتضي إلاّ تعريف المدخول ويكفي فيه كون الجنس معهودا بنفسه ولا يلزم أن يلاحظ فيه الوجود حتى يحتاج التّعيين إلى إرادة جميع الأفراد وثانيا أنا لا نرى فرقا بين ما ذكره وبين الاستغراق الذي جعله قبيحا إذ ليس الاستغراق إلاّ عبارة عن الجنس باعتبار وجوده في ضمن جميع الأفراد فالتعبير بالتحصيل دون الوجود لا يوجب المغايرة كما لا يخفى فتأمل والأولى أن يحال فهم الحصر إلى العرف فإنّه متبادر قطعا من قولك المنطلق زيد بل من العكس أيضا وإن لم يعلم وجهه وقيل إنّ تعريف المسند إليه لا يفيد الحصر وإلاّ لا فائدة تعريف المسند أيضا وهو

 

فاسد وجه الملازمة اشتراك الدّليل وهو أنّ إرادة الجنس فاسدة كما مر فيجب إرادة جميع الأفراد وحملها على الفرد لحمل الفرد عليها من غير فرق فعدم الاستفادة في العكس شاهد على فساد الدّليل المذكور وأيضا الفرق بينهما يوجب القول باختلاف معنى المفردات بالتقديم والتّأخير وهو غير معهود وأجيب تارة بالقول بالموجب وعدم الفرق بين الصّورتين كما صرح به علماء المعاني وأنّ تعريف المسند أيضا يفيد الحصر وأخرى بإبداء الفارق وحاصله أنّ المراد بالمعرف في صورة التّقديم هو الذّات المتصفة بالوصف العنواني وفي صورة التّأخير المراد به ذات متصفة بالوصف العنواني كما في النّكرة وهذا من عوارض الذّات المتصف بالوصف العنواني فالأوّل يقتضي اتحاد الذّات المتصفة مع زيد فيفيد الحصر والثّاني لا يفيد إلاّ اتحاد زيد مع ذات متصفه الذي هو عارض من عوارض الذّات المتصفة واتحاده مع عارض من عوارض الذّات لا ينافي اتحاد غيره معه أيضا واعترض عليه بأنّ المراد بالمعرف مطلقا هو الذّات المتصف بالوصف العنواني سواء أخر أو قدم فيفيد الحصر في الصّورتين نعم المراد من المنكر ذات متصف به ولذا لا يفيد الحصر ورد بأنّ المحمول يجب أن يراد به المفهوم مطلقا معرفا كان أو منكرا ولا يمكن أن يراد به الذّات بل المراد من الموضوع هو الذّات فالفرق بين صورتي التّقديم والتّأخير ظاهر نعم لو كان المحمول معرفا باللام الموصولة كان المراد به الذّات المتصف بالوصف العنواني وأفاد الحصر دون المعرف بلام التّعريف والظّاهر أنّ المورد المذكور توهم أنّ المراد بالذات في كلام المجيب والمعترض هو ما يقابل المفهوم وليس كذلك بل المراد من الذّات في كلام المجيب هو الطّبيعة ومن ذات ما هو الفرد فإنّه عارض للطّبيعة باعتبار عروض الفرديّة فحاصل مراد المجيب أنّ المعرف باللام في صورة التّقديم يراد به الطّبيعة باعتبار جميع أفرادها لفساد إرادة الجنس كما مر وأمّا في صورة التّأخير فيراد به الفرد لأنّ حمل الطّبيعة على الشخص معناه صدقها عليه وكون الموضوع من أفرادها ولا ينافي ذلك وجود فرد آخر فيجب حمل كلام المعترض على إرادة أنّ المعرف سواء قدم أو أخر فالمراد به الذّات والطّبيعة لا الفرد نعم المراد في المنكر هو الفرد إذ لو حمل على إرادة الذّات المقابل للمفهوم لكان مع فساده في نفسه كما ذكره المورد غير مربوط بكلام المجيب إذ كون المحمول ذاتا بهذا المعنى لا ينافي كون المراد به الفرد كما هو مراد المجيب وأنت بعد ما قررنا كلام المجيب تعلم عدم ورود الاعتراض عليه وذلك لأنّ غرضه هو أن ما يدل على إفادة الحصر في صورة التّقديم هو أنّ اللام لا يمكن كونها للجنس وإلاّ لزم صدق المحمول عليه مع استحالة صدق الشخص على الجنس فيجب حملها على الاستغراق فيفيد الحصر وهذا الوجه غير جار في صورة التّأخير لجواز كون المراد هو الجنس لإمكان صدقه على الموضوع ولا يوجب ذلك إلاّ كون الموضوع من أفراد ذلك المحمول ولا ريب أنّ هذا لا يفيد الحصر نعم يرد عليه منع لزوم صدق المحمول على الموضوع بل الحمل إنّما يقتضي صدق أحدهما على الآخر فإذا كان الموضوع جنسا والمحمول شخصا جاز وكفى صدق الموضوع على المحمول لكونه من أفراده وحينئذ فيكون

 

صورة التّقديم كصورة التّأخير من غير فرق والتّحقيق استفادة الحصر في الصّورتين للتّبادر عرفا كما مر وإن لم يمكن إثباته بالدّليل بل يمكن الإثبات في صورة تقديم المعرف من جهة ظهور الحمل في كون الموضوع بحيث متى وجد وجد المحمول فإنّ قولك زيد قائم معناه وجود القائم كلما وجد زيد فقولك المنطلق زيد معناه وجود زيد كلما وجد المنطلق وهذا معنى الحصر وكيف كان ففي صورة تقديم المعرف يستفاد حصر الموضوع في المحمول وفي صورة التّأخير حصر المحمول في الموضوع وإذا كان كل منهما معرفا نحو الكرم التّقوى والعلماء الخاشعون فقيل يستفاد منه حصر اللام في الأخص لما مر في مثل المنطلق زيد وعكسه فينحصر الكرم في التّقوى هذا إذا كان أحدهما أعم مطلقا وإلاّ نحو العلماء الخاشعون ففي حصر كل منهما في الآخر أو التّوقف لعدم التّرجيح وجهان وفيه إشكال ومقتضى ما ذكرناه في مثل المنطلق زيد أن يكون مفاد المثالين حصر المبتدإ في الخبر فتأمل ثم إنّ طريقة استفادة الحصر لا تنحصر في التّبادر بل يلزم بإلاّ أمّا وفي مثل الماء طاهر مما جعل فيه الموضوع للحكم مفردا معرفا من جهة أنّ الحكم إمّا يتعلق بالطبيعة باعتبار الأفراد فإن كان المراد الفرد المعيّن وجب بيانه والفرد الغير المعيّن خلاف الامتنان فيكون المراد جميع الأفراد وإمّا يتعلق بالطّبيعة ومقتضى إطلاقها عدم اعتبار بعض الخصوصيّات فيقتضي وجود الحكم في جميع الأفراد وإلاّ لكان لبعض الخصوصيّات مدخليّة في الحكم وهو خلاف الإطلاق ثم إنّ الحصر الذي يستفاد من الهيئة مفهوم قطعا لا منطوقا وإن كان من جهة التّبادر وإمّا إن كان من جهة دليل الحكمة فيحتمل كونه مفهوما من اللّفظ بقرينة العقل ويحتمل كونه لازما عقليّا غير المفهوم والمنطوق كوجوب المقدمة مثلا

المبحث الخامس في مفهوم اللّقب

والمراد باللّقب هو ما يجعل ركنا من أركان الكلام مسندا أو مسندا إليه أو غيرهما مما يكون مقصودا مستقلا سواء كان علما أو غيره والنّزاع إنّما هو في أنّ محض جعل ذلك شيئا خاصا هل يقتضي انتفاء الحكم عن غيره أو لا والحق عدمه لانتفاء الدّلالة عرفا ولا ينافي ذلك استفادة الحصر من كونه موصوفا بوصف أو نحو ذلك في بعض الموارد إذ الكلام إنّما هو من جهة جعله ركنا في الكلام لا في جهة أخرى فقولنا السّائمة فيه الرّبوة لا يقتضي نفيها عن غير السّائمة من جهة كونها موضوعا وإن قلنا باقتضائها ذلك من جهة كونها صفة ويثمر في مثل زيد جاء فلا يقتضي عدم مجيء غيره وتخصيصه بالذكر لأنّه محل الحاجة دون غيره وأيضا لو أفاد الحصر لكان قولك زيد موجود ومحمد نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستلزما لنفي الصّانع ونبوّة سائر الأنبياء

المبحث السّادس فمفهوم العدد

والمراد أنّ إثبات حكم لعدد هل يدل على انتفائه عن الزّائد والنّاقص أو لا فيه أقوال الدّلالة مطلقا وعدمها كذلك والتّفصيل بين إثبات الحكم ونفيه فيقتضي في الأوّل دون الثّاني فلو قال أكرم عشرين عالما دل على عدم وجوب إكرام الزّائد ولذا يخصص به لو قال سابقا أكرم العلماء بخلاف ما لو قال لا يجب إكرام العلماء ثم قال لا يجب

 

إكرام عشرين عالما والحق أنّ إثبات الحكم لعدد أو نفيه بنفسه لا يقتضي انتفاءه عن الزّائد والنّاقص لعدم مساعدة العرف على فهم ذلك نعم ربما يدل على ذلك بقرائن الحال أو المقال كأن يكون في مقام البيان لكونه محل الحاجة ولذا يستفاد المنافاة بين أخبار المنزوحات وكأن يقول أكثر الحيض عشرة وأقله ثلاثة فإنّه في مقام التّحديد وذكر الأكثر والأقل يقتضي انتفاء الحكم عن الزّائد والنّاقص هذا وأمّا حكم الزّائد والنّاقص فالضّابط فيه أنّ جعل العدد متعلق الحكم إمّا يعلم كونه لا بشرط الزّيادة والنّقيصة أو يعلم كونه بشرط عدم الزّيادة والنّقيصة أو يعلم كونه بشرط عدم الزّيادة لا بشرط عدم النّقيصة أو بالعكس أو لا يعلم الاشتراط وعدمه وهذا في حكم العلم بعدم الاشتراط لما ذكرنا من أنّ اللّفظ لا يقتضي إلاّ ثبوت الحكم لذلك العدد فما لم يعلم الاشتراط يحكم بعدمه وحينئذ فنقول إن علم عدم الاشتراط فهو قسمان لأنّ الحكم إمّا وجوب واستحباب أو تحريم وكراهة وبعبارة أخرى إمّا نفي أو إثبات فإن كان وجوبا مثلا نحو صم ثلاثين يوما فلا ريب أنّ الزّيادة لا تتصف بالوجوب ولو صام أزيد من ثلاثين حصل الامتثال بثلاثين لكونه لا بشرط وأمّا وجوب الأقل فإن كان اللّفظ ظاهرا في وجوب المجموع كان الأقل مقدمة للواجب وحينئذ ففي وجوبه تبعا مطلقا أو إذا قصد به التّوصل مطلقا وإذا حصل به التّوصل مطلقا وجوه يتفرع على الأقوال في وجوب المقدمة وإن كان اللّفظ ظاهرا في وجوب الجميع كان كل واحد مطلوبا وواجبا بالاستقلال وإن كان الحكم تحريما مثلا كأن يقول لا تضربه عشرين سوطا فحرمة الأقل تتوقف على استفادة الاستقلال لكل واحد أو حرمة مقدمة الحرام بالتفصيل إن كان المقصود المجموع من حيث المجموع وأمّا الزّائدة فقيل يثبت فيه الحكم بطريق أولى لكن إذا كان ذلك العدد علة للحكم كأن يقول قلتان من الماء لا يحمل خبثا فإذا بلغ ثلاث قلل فبطريق أولى وهو حسن إذا علم كونه علة لا بشرط لكن ثبوت الحكم في الزّائد حينئذ إنّما هو لثبوت العلة لا للأولويّة وقيل إنّه حينئذ يقتضي نفي الحكم عن الأقل لانتفاء المعلول بانتفاء العلة وفيه أنّ كونه علة لا ينفي علّيّة غيره إلاّ إذا ثبت كونه علة منحصرة لا مطلقا واللّفظ لا يدل على شيء نعم إن ثبت من الخارج الانحصار انتفى وإلاّ فلا يقتضي الانتفاء وأمّا إن علم اشتراط عدم الزّيادة والنّقيصة فهو أيضا قسمان كالسابق فإن كان وجوبا كالمثال السّابق لم يحصل الامتثال أصلا لو زاد على ذلك العدد وكذا لو نقص وإن كان تحريما نحو لا تضربه عشرين سوطا وعلم أنّ المحرم ضرب عشرين خاصة لم يحرم الأقل قطعا ولا الأكثر فلو زاد لم يعص أصلا إذا فعل الجميع دفعة وأمّا إذا فعل تدريجا فإن قصد من أوّل الفعل إتيان الزّائد وفعل فلا إشكال في عدم العصيان وإن قصد خصوص العشرين لكن بعد ما وصل إليه تجاوز فالعمل لم يقع محرما نعم يمكن القول بحرمة قصده الأوّل إن قلنا بحرمة التّجري وإن قصد الجميع مع الزّائد أوّلا ثم بعد ما وصل إلى عشرين توقف لم يلزم حرمة ما فعله لأنّه لم يفعله بقصد المحرم وإن كان توقفه موجبا

 

لتحقيق الحرام الواقعي فهو نظير من شرب الخمر الواقعي باعتقاد كونه ماء ففعله لم يقع محرما عليه ولا يستحق العقاب عليه وفي حرمة توقفه توقف فتوقف وكذا الكلام في صورة الوجوب فإن قصد الزّائد من أوّل الأمر وتجاوز لم يمتثل وإن لم يتجاوز حصل الامتثال في غير العبادات وإن قصد خصوص العشرين فإن لم يتجاوز حصل الامتثال وإلاّ فلا مطلقا وإن علم كونه بشرط عدم الزّيادة لا بشرط عدم النّقيصة فالكلام فيه هو الكلام في صورة كونه بشرط عدمهما وإن علم كونه بشرط عدم النّقيصة لا بشرط عدم الزّيادة فالكلام فيه هو الكلام في صورة كونه لا بشرط فيهما فإنّ كونه بشرط عدم النّقيصة أو لا بشرط لا فرق بينهما بعد كون المتعلق هو العدد المعيّن فإنّ مقتضى المنطوق هو عدم الاكتفاء بالأنقص فلا فرق بين اعتبار عدم النّقيصة وعدم اعتباره فتأمّل جدا

أصل في العموم والخصوص

العام على ما عرّفه البهائي هو اللّفظ للموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئيّاته واحترز بالقيد عن المثنى والجمع المنكر والجمع المعهود والعدد لأنّها دالة على المستغرق لا الاستغراق كذا وزيادة قيد الأجزاء ليشمل الجمع المعرف بالنّسبة إلى الأفراد على القول بكونه موضوعا لاستغراق الجماعات لأنّ الأفراد حينئذ من أجزائه لا من جزئيّاته ولم يكتف به عن الجزئيّات ليشمله بالنّسبة إلى دلالته على استغراق الجماعات وكذا على القول الجمع بكونه موضوعا لاستغراق الأفراد واعترض عليه بأنّ قيد الوضع للدلالة مستدرك بل محل لخروج ما يدل عليه من غير وضع كالنّكرة المنفيّة لأنّ دلالتها على العموم إنّما هي من جهة ورود النّفي على الجنس وهو يقتضي بحكم العقل انتفاء جميع الأفراد وكذا الجمع المعرف على القول بأنّ استفادة العموم منه إنّما هي من جهة أنّ اللام إنّما وضعت للإشارة إلى شيء معين فردا كان أو جنسا فلما دخلت على الجمع انتفى احتمال إرادة الجنس فوجب الحمل على عموم الأفراد حيث لا يتعين لبعضها فالأولى أن يعرّف بأنّه اللّفظ المستغرق لأجزائه أو جزئيّاته فيخرج المثنى لأنّه ليس مستغرقا لأفراد مفهوم المثنى إذ لا يشمل رجلان كل رجلين رجلين ولا لأجزائه إذ لا أجزاء للمثنى بل له جزءان ويخرج الجمع المنكر لعدم شموله للأفراد ولا للأجزاء إذ ليس أجزاء الجمع إلاّ الأفراد المعتبرة بهيئة الانضمام فكل فرد من أفراد الرّجل يصلح لكونه معتبرا من أجزاء رجال كما يصلح لكونه من أفراده وبالجملة كلما يصلح لكونه مرادا من الجمع المنكر لا يدل اللّفظ على إرادته كما هو معنى الاستغراق وكذا يخرج الجمع المعهود إذ لا يراد منه كل ما يصلح إرادته منه وأمّا العدد نحو عشرة مثلا فهو وإن دل على استغراق الأجزاء ولكن الملحوظ فيه هو المجموع من غير نظر إلى الأفراد بخلاف العام إذ يجب فيه ملاحظة الأفراد ولو إجمالا ويرد عليه أنّه إن أراد أن الأفراد لا يلاحظ في العدد أصلا ولو إجمالا في ضمن ملاحظة هيئة الاجتماع بخلاف العام فهو ظاهر الفساد إذ العشرة ليست إلاّ الآحاد المنضمة وإن أراد أنّها ليست ملحوظة استقلالا بل في ضمن الهيئة بخلاف العام فإنّ الأفراد فيه ملحوظة استقلالا ولو بملاحظة واحدة لا في ضمن الهيئة ففيه أنّه لا يتأتى ذلك في الجمع المعرف باعتبار

 

العموم المجموعي بل الأفرادي أيضا إذ الملحوظ فيه جميع الأفراد بملاحظة واحدة إلاّ أن يقال إنّ الانضمام في العدد معتبر في اللّحاظ فيعتبر آحاد المنضمة ويضع اللّفظ لها بوصف الانضمام بخلاف العام فإنّ الملحوظ فيه هو نفس الآحاد لكن لما كان ذلك بلحاظ واحد لزمه الانضمام في التّصور كما في المشترك عند إرادة المعنيين بإرادة واحدة كما هو محل النّزاع فإنّه غير إرادتهما بوصف الانضمام وإن لزمه الانضمام لاتحاد الإرادة وذلك نظير قول الصّحيحيين والأعميين فيما سبق فإنّ المطلوب عند كل منهما هو الصّحيح لكن الصّحة معتبرة في المطلوب عند الأولين ولذا يكون اللّفظ مجملا ومترتبة على الطّلب عند الآخرين ولذا يكون جميع الأفراد صحيحا ولا إجمال حينئذ وبالجملة يلاحظ الأفراد في العام بلحاظ واحد لا بهيئة الانضمام وإن ترتب الانضمام على وحدة اللّحاظ عقلا في العموم فإنّ الانضمام ملحوظ فيه هذا في العموم الأفرادي ظاهر وكذا المجموعي سواء كان مثل لفظ جميع وكافة وقاطبة أو مثل الجمع المعرف بناء على كون عمومه مجموعيّا أمّا الأولى فلأنّها موضوعة لإفادة الشمول في شيء آخر كما في قولك جميع القوم فيلزم فيه ملاحظة استغراق الآحاد ولازم الاستغراق ثبوت الانضمام في التّصور وأمّا الثّاني فلأنّ الجمع المعرف إنّما يستعمل في مقام شمول أفراد غير منحصرة إذ ليس لها جامع يضبطها سوى أمر يفيد الشمول نحو العلماء إذ ليس أفراده منحصرة في العشرة والعشرين ونحو ذلك فليس شيء يجمعها في التّصور إلاّ العنوان العام وهو الجمع المعرف فالملحوظ فيه ابتداء هو الآحاد ولازمها الانضمام هذا غاية ما يمكن من توجيه الكلام المذكور ولكنه بعد محل نظر مع أنّه لا يوجب صحة التّعريف بالوجه المذكور كما لا يخفى وقيل الأولى في التّعريف أن يقال إنّه اللّفظ المستغرق لجزئيّات مفهومه وضعا والمراد بمفهوم ليس مفهوم مجموع ذلك اللّفظ بل مفهوم ما يشتمل عليه اللّفظ ولو في الجملة فدخل الجمع المعرف باعتبار العموم الجمعي لأنّه دال على استغراق جزئيّات مفهوم الرّجل المشتمل عليه الرّجال وإن كانت تلك الجزئيّات أجزاء بالنّسبة إلى مفهوم الجمع وخرج المثنى إذ لا يشمل أيضا جميع جزئيّات المفرد ولا المثنى وهو ظاهر وكذا العدد فإن عشرة ليست مشتملة على مفهوم حتى يستغرق اللّفظ جزئيّاته ولو تكلف بالقول بشموله على مفهوم واحد قلنا إنّه لا يستغرق جميع جزئيّات الواحد وأمّا الجمع المعهود فهو داخل في العام لأن المفهوم الذي يعتبر استغراق اللّفظ لجزئيّاته لا يشترط كونه مطلقا بل هم أعم من كونه مطلقا ومقيدا فقوله جاءني العلماء مريدا منهم العدول يعتبر فيه أوّلا تقييد العالم بالعادل فيريد بالجمع استغراق أفراد العالم العادل فالوصف من قبيل المقيدات لا المخصصات ألا ترى أنّهم حكموا بأنّ الجمع المضاف من ألفاظ العموم نحو علماء البلد وهو إنّما يتم على ما ذكرنا وإلاّ فلا وجه له فإنّه لا يشمل جميع أفراد العالم وهو ظاهر ومنه يظهر أنّ الاستغراق العرفي ليس مغايرا للاستغراق الحقيقي بل هو هو إلاّ أنّ العرف شاهد على إرادة التّقييد فقولك جمع الأمير الصّاغة بمنزلة قولك جمع جميع صاغة البلد فكما أنّه يفيد الاستغراق الحقيقي لأنّ

 

التّقييد إنّما لوحظ قبل ملاحظة العموم فورد العموم على المقيد فكذا ما بمعناه وفيه أنّ الفرق بين الجمع المضاف وبين الجمع المعهود أو الموصوف ظاهر وذلك لأنّ الاستغراق في المضاف إنّما يستفاد من نفس الإضافة لكونها للإشارة إلى معين فلا يمكن إرادة بعض الأفراد لعدم التّعيين ولا الجنس لكونه جمعا فيجب إرادة جميع الأفراد نحو علماء البلد بخلاف الجمع المعهود والموصوف فإنّه يفيد الاستغراق مع قطع النّظر عن العهد والوصف وهما يوجبان نقصا للشّمول المستفاد منه إن قلنا إنّ اللام إنّما تدخل على المطلق ثم يقيد بالوصف ونحوه نعم إن قلنا بأنّها تدخل بعد ورود القيد أفادت استغراق المقيد كما ذكره فكون الجمع المعهود مفيدا للعموم والاستغراق مبني على دخول اللام بعد ملاحظة القيد بخلاف الجمع المضاف فإنّ إفادته للاستغراق إنّما هي من جهة نفس الإضافة فظهر الفرق هذا بحسب اللّغة إذ لا يبعد تسمية استغراق المقيد استغراقا فعليه يمكن عد الجمع المعهود من صيغ الاستغراق بناء على دخول اللام بعد القيد وأمّا بحسب الاصطلاح فالظّاهر في صدق الاستغراق كون اللام داخلة على المطلق فلو قيد كان تخصيصا ولذا تراهم يسمون الوصف مخصصا والاستغراق العرفي خارجا عن الاستغراق الحقيقي وعليه فيجب إخراج الجمع المعهود عن تعريف العام لعدم إفادته العموم اصطلاحا وإن قلنا بإفادته للاستغراق اللّغوي فتأمّل ثم إنّه ينتقض ما ذكره من التّعريف مثل اشتريت كل العبد فإنّ كل من ألفاظ العموم مع أنّه ليس مستغرقا لجزئيّات العبد وبالجملة فتعريفاتهم للعام غير سالمة عن المناقشة وما يوجب الإشكال هو الفرق بين العام وبين أسماء العدد ويمكن بيانه بوجوه أحدها أنّ الحكم على أمور متعددة تارة يكون بملاحظة كل واحد منها تفصيلا بعنوانه الخاص كأن يقول أكرم زيدا وعمرا وخالدا وبكرا إلى غير ذلك من الأفراد ويسمى الملاحظة التّفصيليّة وتارة يكون بملاحظة كل واحد تفصيلا لكن بعنوان واحد صادق على الجميع كأن يقول أكرم كل واحد من الرّجال فإنّ الحكم يتعلق بكل فرد فرد على الاستقلال في اللّحاظ وإن كان اللّفظ واحدا وهذا هو العموم الأفرادي نحو كل رجل وتارة يكون بملاحظة الجميع بملاحظة واحدة بحيث يكون كل منها في عرض الآخر أمّا مع وصف الاجتماع كما في أسماء العدد أو بدونه كما في العموم المجموع والتّثنية والجمع فإن الجمع إنّما وضع لنفس الآحاد لا بملاحظة وصف الاجتماع وكذا التّثنية ولذا جعلوا النّزاع في استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد في المثنى والجمع أيضا كالنّزاع في المفرد مع أن النّزاع في المفرد إنّما هو في جواز الاستعمال في المعنيين بالاستقلال من غير ملاحظة وصف الانضمام فلو كان التّثنية موضوعا للاثنين مع الانضمام لكان محل النّزاع فيه مخالفا لمحل النّزاع في المفرد وليس كذلك وكذا الكلام في الجمع فالحاصل أنّ العام لا يعتبر فيه هيئة الانضمام بخلاف أسماء العدد فيكون دلالة العدد على جزئه دلالة تضمنيّة بخلاف دلالة العام على بعض الأفراد فإنّه ليس

 

مطابقة لعدم كونه تمام الموضوع له ولا تضمنا لعدم اعتبار هيئة الانضمام حتى يكون جزءه ويشكل جعله التزاما أيضا وكيف كان فهذا الوجه قد مر الإشارة إليه إجمالا عند ذكر التّعريف الثّاني لكنّه لا يدفع الإشكال الوارد على ذلك المعرف لأنّه يجعل دلالة العام على أفراده دلالة تضمنيّة فيكون العام عنده دالا على الأفراد بوصف الانضمام كالعدد وأيضا يجعل عموم الجمع المعرف والنّكرة المنفيّة مستفادا من العقل لا اللّفظ فيلزم خروجهما عما ذكره من التّعريف فتذكر الثّاني أنّ ألفاظ العموم بأسرها موضوعة للعموم الأفرادي لا للعموم المجموعي والفرق بينهما أنّ في الأوّل يكون كل فرد على الاستقلال مناطا للحكم نفيا وإثباتا بخلاف الثّاني فإنّ المناط فيه هو المجموع كما في العدد وهذا هو الفارق لكن الشّخص الحاكم على أفراد العام ربما يلاحظ الأفراد في مقام الحكم بوصف الاجتماع وذلك لا يوجب اعتباره في الموضوع له كما لو قال أكرم زيدا وعمرا معا مثلا فإن اعتبار اجتماعهما في مقام الحكم لا ينافي ملاحظة زيد مستقلا وكذا عمرو والثّالث أنّها بأسرها موضوعة للعموم المجموعي كالعدد ويكون دلالتها على الفرد بالتّضمن ولكن الحاكم في مقام الحكم ربما يلاحظ الأفراد على الاستقلال في العام دون العدد وأنت خبير بضعف الوجه المذكورة وعدم مساعدة الدّليل على شيء منها فالأولى في التّعريف أن يقال إنّ العام هو اللّفظ المستعمل لاستغراق جزئيّاته أو أجزائه فعلا حقيقة أو ادعاء فدخل فيه الجمع المعرف والنّكرة المنفيّة والمعرف باللاّم المستعمل في مقام الامتنان واللّفظ الواقع في جواب السّؤال مع ترك الاستفصال ونحو ذلك مما يشكل دعوى وضعه للاستغراق بل يستعمل لغرض الاستغراق وإن كان القرينة على الاستغراق حكم العقل من جهة الحكمة ونحوها ودخل فيه اشتريت كل العبد وخرج ما لم يستعمل للاستغراق فعلا وإن كان له شأنا كالجمع المعهود بناء على ما ذكرنا من أنّ المعتبر في العموم كونه لاستغراق المعنى مطلقا لا بعد التّقييد فإنّه حينئذ ليس للاستغراق فعلا نعم لو قلنا بأنّ المعتبر فيه هو استغراق المعنى ولو مقيدا لكان حينئذ للاستغراق فعلا فكان داخلا في التّعريف ولكن الظّاهر هو الأوّل ودخل فيه ما يستعمل للاستغراق ادعاء بأن ينزل بعض الأفراد منزلة المعدوم فيسند الحكم إلى الجميع بادعاء انتفاء ما لا يثبت الحكم فيه كأن يقول أكلت كل رمان في البستان مع أنّه لم يأكل واحدا منها فهو ينزل غيره المأكول منزلة المعدوم ويسند الحكم إلى الجميع ادعاء فهذا مستعمل في العموم حقيقة على سبيل الادعاء ولا مجاز فيه بناء على كونه موضوعا للاستغراق كما في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد فإنّ كلمة لا مستعملة في معناها الحقيقي وهو نفي الجنس لكن على سبيل المبالغة فلا مجاز نعم لو استعمل لفظ كل في المأكول خاصة لكان مجازا كما لو استعمل كلمة لا في نفي الكمال وأمّا الاستغراق العرفي أعني استغراق المعنى المقيد الّذي يكون العرف قرينة على تقييده فكونه عاما وعدمه مبني على اعتبار كون المعنى مطلقا وعدمه كما عرفت وأنّ الظّاهر هو الأوّل بحسب الاصطلاح لعدهم الوصف من المخصّصات دون المقيّدات فينبغي تقييد الجزئيّات والأجزاء

 

في التّعريف بجزئيّات المعنى المطلق وأجزائه ليخرج هذا عنه نعم لا يبعد كونه عاما بحسب اللّغة كما أشرنا إليه إذا عرفت تعريف العام في الجملة فهنا مطالب الأوّل العام على قسمين أفرادي وهو الّذي يكون كل واحد من أفراده مرادا من اللّفظ استقلالا مثل كل واحد وكل رجل ونحو ذلك ومجموعي وهو أن يكون المراد منه مجموع الأفراد بملاحظة واحدة كلفظ جميع ومجموع والجمع المعرف على قول وكل منهما قد يتعلق به الحكم بهيئة الاجتماع وقد يتعلق بكل فرد مستقلا لأنّ استقلال كل فرد في القسم الأوّل إنّما هو من حيث الإرادة من اللّفظ فلا ينافي تعلق الحكم به من حيث الاجتماع وكذا عدم الاستقلال في القسم الثّاني إنّما هو من حيث الإرادة من اللّفظ فلا ينافي تعلق الحكم بكل واحد على الاستقلال فإنّه لا يوجب استعمال اللّفظ في العموم الأفرادي ألا ترى أنّ قوله تعالى إنّ الله يحب المحسنين تعلق الحكم بكل فرد من المحسن مع أنّه لم يستعمل لفظ المحسنين إلاّ في الجميع هذا بحسب أصل الوضع لكن يمكن دعوى ظهور اللّفظ في مقام الحكم في إرادة العموم الأفرادي فيكون كل فرد مستقلا في الإرادة هذا في الكلام المثبت أمّا المنفي فقد قيل إنّه إذا دخل النّفي على العام المجموعي أفاد سلب العموم وإذا دخل على العام الأفرادي أفاد عموم السّلب تارة وسلب العموم أخرى نحو إنّ الله لا يحب كل مختال فخور وقوله ما كل ما يتمنى المرء يدركه واعترض عليه بأنّه إذا أفاد سلب العموم خرج اللّفظ عن إفادة العموم الأفرادي لأنّ المراد به كون الأفراد بأسرها متعلقا للحكم على الاستقلال إثباتا كان أو نفيا والمؤدي لهذا المعنى في الإثبات هو كلمة كل واحد وفي النّفي هو كلمة لا شيء من الأفراد وفيه ما عرفت من أنّ اعتبار العموم الأفرادي والمجموعي إنّما هو بالنّظر إلى الإرادة من اللّفظ لا بالنّظر إلى الحكم فتعلق الحكم ببعض الأفراد أو بالمجموع لا ينافي كون المراد من اللّفظ كل الأفراد مستقلا فلا يلزم خروجه عن العموم الأفرادي إذا ورد السّلب على العموم ثم التّحقيق أمّا في العام المجموعي فهو أنّه كما يجوز تعلق الحكم الإثباتي بالأفراد استقلالا ومجتمعا كذا يجوز تعلق النّفي بالجميع على الاستقلال أو بهيئة الاجتماع ألا ترى أنّ المراد بقوله تعالى إنّ الله لا يحب المفسدين أنّه لا يحب أحدا منهم مع أنّ لفظ المفسدين عام مجموعي لم يستعمل إلاّ في معناه ونظيره في القرآن أكثر من أن يحصى بل لا يبعد دعوى ظهور النّفي كالإثبات في تعلق الحكم بكل واحد وأمّا العام الأفرادي فله أيضا استعمالان فتارة يتعلق النّفي فيه بالعموم وتارة يتعلق بكل فرد فمن الأوّل قوله ما كل ما يبتني المرء يدركه ومن الثّاني قوله تعالى إنّ الله لا يحب كل مختال فخور وكل من الاستعمالين لا يوجب استعمال اللّفظ في غير معناه الّذي هو العموم الأفرادي لأنّ اعتبار الاجتماع إنّما هو في الحكم وأمّا النّكتة في اختلاف المعنى في هذين الاستعمالين فهي أنّ لفظ كل في الإثبات قد يعتبر موضوعا للحكم فإذا ورد النّفي عليه ورد على العموم فلا يقدح فيه ثبوت الحكم لبعض الأفراد وقد يعتبر سورا في القضيّة وآلة الملاحظة أفراد الموضوع فإذا ورد النّفي على الموضوع ورد على جميعها وصار الكل حينئذ آلة الملاحظة موضوع الحكم السّلبي فاقتضى عموم السّلب وأمّا ظاهر اللّفظ فقد يدعى أنّه سلب العموم وقد يدعى أنّه عموم السّلب

 

وقد يفصل بين تقدم العام على النّفي فعموم السّلب وبالعكس فسلب العموم وقيل إنّ النّكتة في الاستعمالين فيما إذا ورد النّفي على اللّفظ العام هي ما مر وأمّا إذا ورد النّفي على فعل متعلق بالعام مثل إنّ الله لا يحب كل مختال فخور النّكتة فيه أنّ الإسناد إمّا يعتبر تحققه قبل دخول النّفي فيرد النّفي على الفعل المتعلق بالعام فيقتضي سلب العموم وإمّا يعتبر تحققه بعد دخول النّفي فيتعلق الفعل المنفي بالعموم فيكون بمنزلة قولك كل مختال غير محبوب معناه عموم السّلب وفيه نظر لأنّ المتعلق بالمفعول هو نفس الفعل لا الفعل مع حرف النّفي والنّفي إنّما يرد على الفعل المتعلق وإلاّ لما كان فرق بين القضيّة المعدولة والسّالبة والحق أنّ النّكتة هنا أيضا هي الّتي أشرنا إليها من أنّ أداة العموم قد تعتبر في الموضوع فيرد النّفي عليها وقد تعتبر آلة الملاحظة أفراده فيرد النّفي على الجميع وأمّا ظاهر اللّفظ ففي العام المجموعي ما عرفت وفي العام الأفرادي مختلف بحسب المقامات وقال بعض الأفاضل إن كان العام من قبيل لفظ كل وجميع وعام وأمثالها كان النّفي ظاهرا في سلب العموم وإن كان من قبيل الجمع المعرف كان نفيه ظاهرا في عموم النّفي لأنّه اسم للأفراد وليس لها هيئة انضمام في الملاحظة وإنّما الانضمام شيء ينتزع من الأفراد في مثله فالأصل عدم اعتباره في مقام النّفي وفيه أنّه لا يجتمع هذا مع دعوى ظهور الجمع المعرف في تعلق الحكم بمجموع الأفراد من حيث المجموع لأنّ مقتضاه يعني النّفي بالمجموع من حيث المجموع وهو معنى سلب العموم والظّاهر فساد هذه الدّعوى وأمّا كلامه الأوّل فغير بعيد المطلب الثّاني فيما يدل على العموم مادة أو هيئة وفيه مقامان الأوّل فيما يفيد بمادته وهو أمور كلفظ كل وجميع وما يتعلق به كأجمع وجمعاء وأجمعين وجمع وما يلحق به كأكتع وأبتع وأبصع ولفظ عامة وقاطبة وكافة وحذافير وتمام وأسره وسائر وغير ذلك ولا إشكال في إفادتها العموم في الجملة وإنّما الكلام في إفادتها العموم الأفرادي أو المجموع فنقول أمّا كلمة كل ففصلوا فيها بين صورتي إضافتها إلى المعرفة والنّكرة فتفيد العموم المجموعي في الأولى نحو اشتريت كل العبد والعموم الأفرادي في الصّورة الثّانية والأولى أن يقال إنّها إن أضيفت إلى المفرد النّكرة أو إلى الجمع مطلقا أو إلى الموصول أو لم تضف أصلا أفادت العمومي الأفرادي نحو كل رجل وكل رجال وكلهم آتيه يوم القيامة فردا وكل من رأيت وكل في فلك وإن أضيفت إلى المعرفة الشّخصي كالعلم والإشارة ونحوها أفادت العموم المجموعي نحو كل زيد وكل هذا الرّجل وكل العبد وقيل إنّها بعد الإثبات للعموم الأفرادي وبعد النّفي للعموم المجموعي وقد مر فساده وأنّه لا فرق بينهما هذا في كلمة كل وأمّا البواقي فالظّاهر منها هو العموم المجموعي مطلقا كل ذلك للتّبادر ومنها من وما الاستفهام متباين نحو من زارك وما صنعت والمقصود من إفادتهما العموم أنّهما إنّما وضعتا لأن يستفهم بهما عن كل من اتصف بالمدخول فالمثالان في المعنى بمنزلة أن يقال بين لي كل من زارك وكل ما صنعت والدّليل على ذلك التّبادر وأنّه لو ذكر البعض في الجواب لقيل له ما أجبت بالتّمام وأنّه يصح الجواب بلفظ كل بأن يقال كل النّاس مثلا وليس زائدا عن محل السّؤال وأنّه لو لا العموم لوجب السّؤال عنه أنّه هل استفهم لبيان الجميع أو البعض ليجاب بمقتضى سؤاله ولم يجز الجواب قبل

 

الاستفصال ليس كذلك وما يقال من أنّه لو أفاد العموم لكان بمنزلة أكل الناس ذلك فيمكن أن يكون الجواب بنعم أو لا بتعداد الزائرين فاسد جدا إذ ليس الاستفهام هنا لطلب التّصديق بل الطّلب التّصور فعمومه إنّما هو بمنزلة قولك بين لي كل من زارك كما ذكرنا فافهم ومنها من وما الشّرطيّتان نحو من تضرب أضرب وما تصنع أصنع فالمتبادر منهما العموم وقد يستدل عليه بأنّ مقتضى الشّرطيّة سببيّة الأوّل للثّاني ويجب تحقق المسبب كلما تحقق السّبب فيكون المضروبيّة للمخاطب سببا للضرب فيتحقق الثّاني كلما تحقق الأوّل وهو معنى العموم وفيه الطّلب إذ لا نسلم استفادة السّببيّة غاية الأمر الملازمة في الجملة ولو سلم فلا يستفاد فيه إلاّ السّببيّة في الجملة لا مطلقا ولذا ذهب جماعة إلى عدم تكرر المشروط بتكرر الشّرط لاحتمال كون الشّرط سببا في ابتداء وجوده لا مطلقا ولا ينافي ذلك انتفاء الحكم بانتفائه كما هو معنى المفهوم لأنّ الوجود عند الوجود كما هو معنى السّببيّة المطلقة غير الانتفاء عند الانتفاء وهو ظاهر ومنها من وما الموصولتان نحو أكرم من يأتيك وافعل ما بدا لك فالمتبادر منهما العموم سواء تضمنا معنى الشّرط أو لا وتخصيصه بالأوّل ضعيف ويشهد لما ذكرنا فهم ابن الزّبعري من قوله تعالى إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم العموم وتقرير النّبي له على ذلك بالنّسبة إلى غير ذوي العقول وقد يقال إنّ الموصول إنّما وضع لمن يعتقد المتكلم أنّ المخاطب يعرفه بالصّلة فتارة يطلق على المعين الشّخصي نحو أكرم من كان معنا أمس وقد كان معهما شخص معين وتارة يطلق على العموم نحو أكرم من قلت لك أكرمه وقد قال له أكرم كل عالم فلا يجوز حمله على العموم مطلقا وفيه نظر لأنّ المراد بإفادتهما العموم هو ثبوت الحكم لكل من يعتقد المتكلم أنّ المخاطب يعرف اتصافه بالصّلة وإن كان هذا الكلي منحصرا في الفرد ففي قوله أكرم من كان معنا أمس يراد به كل من كان معنا غاية الأمر انحصاره في الفرد وهذا لا يوجب استعمالا في الخاص ألا ترى أنّ قوله من أبوك استفهام يطلب ببيان كل من اتصف بكونه أبا للمخاطب فهو يفيد العموم بحسب المفهوم ولا ينافي انحصاره في الفرد بحسب الخارج ولذا لو قال أكرم من كان معنا أمس وكان معه عشرة فلم يكرم إلاّ واحدا إلى تسعة لعد عاصيا في تركه إكرام الباقي وهو ظاهر وهل العموم في هذه المذكورات أفرادي أو مجموعي الظّاهر هو الأوّل للتّبادر ولو سلم وضعها للعموم المجموعي فلا ريب أنّ الحكم إنّما يتعلق بالأفراد استقلالا وحينئذ فلا ثمرة في كون مفاد اللّفظ الآحاد أو المجموع وما ذكرنا لا فرق فيه بين النّفي والإثبات لما ذكرنا من التّبادر والقول بأنّها في سياق النّفي تفيد نفي العموم ضعيف فإن قولك لا تكرم من يدخل الدّار في معنى قولك لا تكرم أحدا من الدّاخلين كما لا يخفى ومنها سائر أسماء الاستفهام والشّرط والموصولات كمهما ومتى وأيّان وحيثما وأين وغيرها والّذين والّذي والّتي وأي في الاستفهام والشّرط والصّلة لكن في عموم

 

أي خلاف هل هو العموم البدلي أو الشّمولي فقيل بالأوّل وقيل بالثّاني وقيل بالأوّل في أي الاستفهاميّة والثّاني في الشّرطيّة والموصولة والحق أنّه يفيد العموم الشّمولي مطلقا والّذي نشأ منه توهم العموم البدلي في الاستفهاميّة هو أنّ السّؤال به عن التّعيين والغالب في المسئول عنه به عدم صلاحيّته لأكثر من واحد نحو أينا أقل مالا وأيهم أفضل ونحو ذلك وقد عرفت أنّ الانحصار في الفرد بحسب الخارج لا يوجب انتفاء العموم ألا ترى أنّه لو قال أيّهم أخوك وكان الآخر متعددا لوجب تعدادهم ولم يجز الاكتفاء بذكر واحد هذا في الاستفهام وأمّا عموم الشّرطي والموصول فشمولي بلا ريب فلو قال أكرم أي رجل دخل الدّار كان بمعنى أكرم كل رجل دخلها وأمّا على القول بالعموم البدلي فإن دخل واحد من الرّجال تعيّن إكرامه فإن أكرمه سقط التّكليف لحصول الامتثال وإن لم يكرمه حتى دخل آخر ففي تعيين الأوّل من جهة الاستصحاب أو التّخيير بينهما كما لو دخلا دفعة وجهان والأقوى الثّاني لأنّ تعيّن الأوّل لم يكن بتعيين الآمر بل إنّما عيّن لانحصار المطلوب في الفرد وقد زال الانحصار بدخول الثّاني فيعود التّخيير فلا وقع للاستصحاب لارتفاع الموضوع وهذا نظير ما قيل في وجوب تقليد الأعم من أنّه إذا انحصر المجتهد في واحد تعيّن على العوام تقليده فإذا وجد حينئذ مجتهد آخر مفضول بالنّسبة إليه لم يجز العدول إليه استصحابا لتعيين الأوّل وفساده يعلم مما ذكرنا فإن تعين الأوّل لم يكن لتعيين الشّارع بل إنّما هو لانحصار فرد العالم المأمور بالرّجوع إليه فإذا وجد فردا آخر زال الانحصار وعاد التّخيير فافهم الثّاني فيما يدل عليه بالهيئة وهو أمور منها النّكرة في سياق النّفي وإفادتها للعموم في الجملة مما لا إشكال فيه إنّما الكلام في جهات أحدها أن استفادة العموم منها هل هي بالمطابقة أو بالالتزام فقيل بالثّاني لأنّ قولك لا رجل في الدّار يفيد العموم قطعا وكلمة لا موضوعة لنفي مدخولها ورجل موضوع للطّبيعة والمركب موضوع بالوضع النّوعي للرّبط بين المفردات ومقتضى ذلك أن يكون المدلول المطابقي هو نفي الطّبيعة ولازمه نفي جميع الأفراد باللّزوم العقلي هذا بحسب وضع المفردات فمن يدعي الدّلالة على العموم مطابقة فعليه إقامة الدّليل على ثبوت الوضع الجديد بحسب الهيئة للعموم إذ الأصل عدمه وقيل بالأوّل وهو المطابقة للتّبادر إذ لا ريب أنّ المتبادر من قولك لا رجل في الدّار هو العموم والأصل في التّبادر أن يكون وضعيّا وأيضا لو كان الدّلالة بالالتزام لكان فهم العموم متأخّرا عن الالتفات إلى نفي الطّبيعة ضرورة أن الالتفات إلى اللازم تابع للالتفات إلى الملزوم وأيضا لو كان المدلول المطابقي هو نفي الطّبيعة لما جاز استثناء الفرد متصلا في مثل لا إله إلاّ الله لأنّ

 

الفرد ليس من جنس الطّبيعة فيكون الاستثناء منقطعا وليس كذلك وفي الجميع نظر أي لا نسلم أنّ الأصل في التّبادر أن يكون وضعيّا مطلقا إذ الدّليل عليه إمّا أصالة عدم القرينة أو غلبة استناده إلى الوضع والأوّل لا يجري فيما إذا وجد في الكلام ما يحتمل كونه قرينة إذ لا يجري حينئذ أصالة عدم كونه قرينة إذ ليس ذلك مسبوقا بالعدم القطعي حتى يجري فيه الأصل وهنا من هذا القبيل لاحتمال كون العموم مستفادا من نفي الطّبيعة الّذي هو مقتضى وضع المفردات ويؤيد بأصالة عدم الوضع الجديد والثّاني ممنوع لانصراف المطلقات إلى الأفراد الشّائعة وليس مسندا إلى الوضع كما مضى وأمّا لزوم تأخّر الالتفات إلى العموم عن الالتفات إلى نفي الطّبيعة فممنوع لأنّ اللّزوم بين شيئين قد يكون بينا جدا بحيث يكون الالتفات إليه كأنّه في عرض الالتفات إلى الملزوم ومن هنا توهم بعضهم كون مفهوم الشّرط مدلولا تضمنيّا حيث خفي عليهم ترتبه على المنطوق فزعموا أنّه في عرضه وأمّا صحة الاستثناء المتصل فوجهها أنّ النّفي إنّما يرد على الطّبيعة لكن لا من حيث هي هي بل من حيث الوجوه وبهذا الاعتبار يكون الفرد متحدا معها في الجنس فتأمل ثانيها أنّ جميع أقسامها يفيد العموم أو لا فقيل إنّ النّكرة إن وقعت بعد لاء النّافية للجنس أو كانت مما يختص بالنّفي كأحد وديار وبد أو كانت مدخولة لمن أو كانت مما يصدق على القليل والكثير كلفظ الماء والخبز أفادت العموم وإلاّ فلا لأنّه يصح في مثل ليس في الدّار رجل الإضراب بقولك بل رجلان أو رجال ولو كانت تفيد العموم لما صح الإضراب بذلك كما لا يصح في لا رجل في الدّار والحق أنّها تفيد العموم مطلقا للتّبادر وأمّا صحة الإضراب في المثال المذكور بقوله بل رجلان فإنّما هو لأنّ التّنوين الدّاخلة على النّكرة قد يكون للتّمكن نحو أسد علي وفي الحروب نعامة وقد يكون للتّنكير فعلى الأوّل يراد بها الجنس فالنّفي الدّاخل عليها يلزم العموم وعلى الثّاني يراد بها الواحد من الجنس إمّا لا بشرط أعني الوحدة المطلقة وإمّا بشرط لا أي الوحدة العدديّة فعلى الأوّل يكون مقتضى نفيها عموم النّفي لكل واحد وعلى الثّاني يكون مقتضاه نفي الوحدة فلا ينافي ثبوت الأكثر وحينئذ فنقول إنّها ظاهرة في العموم لظهورها في إرادة الجنس أو إرادة الوحدة المطلقة والأحزاب المذكور يكون قرينة على إرادة الوحدة العدديّة فافهم لا يقال إن وحدة الشّيء عبارة عن كونها ملحوظة بالانفراد بحيث يكون غير قابلا للانقسام في جهة الملاحظة وكل ما كان غيره يكون خارجا عن ملاحظة فإذا قلت ليس في الدّار رجل بإرادة الوحدة من التّنوين وجب أن لا يكون في الدّار أحد وإلاّ لصدق وجود الواحد ولو في ضمن الكثير إذ ليس الكثير إلاّ عبارة عن الوحدات

 

المنضمة وكل منها ملحوظة بالاستقلال غير قابلة للقسمة من حيث هو شخص فلا فرق بين كون الوحدة مطلقة أو عدديّة لأنّا نقول الشّيء قد يلاحظ منفردا من حيث هو شخص وفي جهة تشخصه ولا ريب في اتصاف الواحد بهذا الوصف في ضمن الكثير وقد يلاحظ منفردا في وصف من الأوصاف بحيث يعتبر عدم مشاركة غيره له فيه كالكون في الدّار حيث يعتبر الرّجل منفردا في وصف كونه في الدّار ثم يرد النّفي على الرّجل الموصوف بالوحدة الوصفيّة فيتعلق النّفي بالوصف ولا ريب أنّه إذا كان في الدّار أكثر من رجل لا يصدق على كل منهم أنّه منفرد في الكون في الدّار وإن كان منفردا في جهة تشخصه والمراد بالوحدة المطلقة وحدة الشّيء في اللّحاظ من جهة شخصه ولذا يقتضي نفيه نفي جميع الأفراد وبالوحدة العدديّة وحدته في وصف من الأوصاف فلا يقتضي نفيه نفي الوصف الأكثر وثالثها أنّ جميع أقسامها نص في العموم أو لا الحق هو الثّاني لأنّ بعضها ظاهر فيه كمدخول ليس وما يشابهها مع عدم كونه مدخول من ولا لفظ أحد وما شاكله وذلك لاحتمال كون المراد منه الوحدة العدديّة كما تقدم وقيل بإلاّ ونظرا إلى أنّ قولك ليس في الدّار رجل بل ورجلان أيضا مفيد للعموم بالنّسبة إلى أفراد الوحدة العدديّة الّتي هي مدخول النّفي ولذا لا يصح الإضراب بقولك بل زيد وبالجملة النّفي الوارد على النّكرة يفيد نفي جميع أفراد مدخوله سواء كان دالا على الجنس أو على الوحدة المطلقة أو العدديّة وفيه نظر لأنّ أفراد الوحدة العدديّة لا تتعدد إلاّ بملاحظة الموضوعات مثل زيد فقط وعمرو فقط وخالد فقط مثلا ولا ريب أن ليس الغرض في المثال إيراد النّفي على هذه الأفراد إنّما الغرض أنّ الموجود في الدّار ليس واحدا بل متكثرا وهذا لا يفيد العموم قطعا كما أنّ قولك الموجود فيها ليس بشرا بل واحدا لا يفيده فتأمل رابعها لا فرق في استفادة العموم والنّكرة حينئذ بين النّكرة الواحدة والنّكرات المتعددة فقولنا ما ضربت أحدا يوم جمعة أمام أمير يفيد انتفاء وقوع الضّرب في جميع أفراد يوم الجمعة أمام جميع أفراد الأمير وكذا لا فرق بين النّكرة المفردة والمثنيات والمجموع إلاّ أنّ عموم المفرد أشمل لأنّ قولنا ما جاءني رجال لا ينافي ثبوت المجيء لرجل أو رجلين خاصها النّفي الدّاخل على الفعل يقتضي العموم أيضا فقولك ما ضرب معناه انتفاء جميع أفراده ومثله النّهي الدّاخل عليه ولا إشكال في ذلك في شيء من أقسام الفعل سوى ما يدل على المساواة كقولنا لا يستوي زيد وعمرو فاختلفوا في اقتضائه انتفاء المساواة في شيء من الأشياء أو انتفاءه في الجملة ولو في بعض الصّفات ويجري النّزاع المذكور في غير الفعل من هذه المادة أيضا كقوله ليسوا سواء فقيل بأنّه كسائر الأفعال والنّكرات موضوع للماهيّة ونفيها يقتضي نفي جميع أفرادها بالاستلزام

 

كما أنّ إثباتها لا يقتضي إلاّ إثبات بعض الأفراد وقيل إنّ إثبات المساواة بين شيئين يقتضي عموم المساواة في الصّفات ونفيه يكون نفي العموم لا عموم النّفي أمّا الأوّل فلأنّ التّساوي لو كان يصدق بمحض الاشتراك في بعض الصّفات لكان الإخبار بمساواة شيء لشيء عاريا عن الفائدة لكونه إخبارا بالبديهي ضرورة ثبوت التّساوي في بعض الصّفات حتى المتناقضين لتساويهما في صفة التّناقض أو في الشّيئيّة أو نحو ذلك أمّا الثّاني فلأنّه مقتضى ورود النّفي على العام مع أنّه لو كان مقتضى عموم النّفي لكان نفي التّساوي بين الشّيئين كذبا ضرورة ثبوت التّساوي في الجملة كما بينا وفيه نظر لأنّ من يدعي عموم النّفي إنّما يدعيه بالنّسبة إلى ما يمكن عقلا أو عرفا وكذا يحمل الإثبات على غير ما يعلم بالبديهة فيحصل الفائدة وينتفي الكذب وما يقال من أنّ إثبات نفي التّساوي تارة يستعمل في التّساوي من جهة وأخرى فيه من جميع الجهات فيكون موضوعا للقدر المشترك فمع تسليمه لا ينافي العموم في النّفي بالاستلزام إذ غايته نفي كونه موضوعا للعموم هذا في ما إذا لم يذكر المتعلق وأمّا إذا ذكر كقوله زيد يساوي عمرا في العلم أو لا يساويه فيه فهل يقتضي الأوّل إثبات المساواة في جميع المراتب أو في الجملة والثّاني انتفاؤه في الجميع أو في الجملة إشكال ويمكن أن يقال إنّ إثبات التّساوي في العلم قد يراد به التّساوي في أصل الطّبيعة فلا ينافي الاختلاف في المرتبة وقد يراد به التّساوي في المرتبة فينافيه وحينئذ فنفي التّساوي على الأوّل يقتضي انتفاء طبيعة العلم في أحدهما وعلى الثّاني يقتضي اختلاف المرتبة فتأمّل جدا سادسها النّكرة بعد الإثبات لا تقتضي العموم الاستغراقي نعم يقتضي العموم على نحو البدليّة ولا فرق في ذلك بين وقوعها بعد الإخبار أو الإنشاء كالاستفهام مثل هل رأيت رجلا فإنّه استفهام عن وقوع الرّؤية على أفراد الرّجل بنحو البدليّة فلو قال في الجواب نعم لم يقتض العموم وإنّما أفاد وقوع الرّؤية على فرد ما منه نعم لو قال إلاّ أفاد العموم من جهة أنّه في المعنى ما رأيت رجلا فيكون النّكرة في الجواب واقعة في سياق النّفي وأمّا النّكرة الواقعة في سياق الشّرط ففي استفادة العموم منها وعدمه إشكال فقيل إنّ الحكم إن تعلق بنفس النّكرة الواقعة في غير الشّرط أو بمتعلقاته أفادت العموم نحو إن جاءك رجل فأكرمه وإن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا إذ المعنى تبينوا عن خبره وإن تعلق بغيرهما فلا نحو إن جاءك رجل فأكرم زيدا وقيل في تقريب التّفصيل المذكور أنّ الحكم في الجزاء معلق بالشّرط والنّكرة شاملة لجميع الأفراد على البدليّة فيعلق الجزاء على الجميع فيكون قوله إن جاءك رجل بمنزلة إن جاءك زيد عمرو بكر وهكذا والجزاء في الجميع هو قوله

 

فأكرمه فيجب إكرام الجميع وضعفه ظاهر لأنّ هذا إخبار في الصّورة الأخيرة أيضا وحله أنّ شمول النّكرة لجميع الأفراد على البدليّة لا يقتضي إلاّ تعلق الحكم بالجميع على البدليّة لا الشّمول كما هو المدعى ثم إنّ هذا المفصل قائل بعدم تكرر الحكم بتكرر الشّرط والصّفة وهو ينافي حكمه هنا بالعموم في الصّورتين الأوليين والجواب بأنّ العموم أنّما هو بالنّسبة إلى أفراد الرّجل والتّكرر إنّما هو بالنّسبة إلى تكرر المجيء من رجل واحد فلا ينافي الدّلالة على الأوّل عدم الدّلالة على الثّاني المذكورتين صحيح لكنّه لا ينفع للمفصل لأنّه يقول في الصّورتين المذكورتين بتكرر الجزاء بالنّسبة إلى أفراد المجيء ولو صدرت من شخص واحد اللهم إلاّ أن يقال إنّه إنّما ينفي دلالة التّعليق على التّكرار كما ادعاه بعضهم فلا يقدح استفادة التّكرر من دليل آخر كفهم العرف في بعض المقامات فالضّابط أنّ التّعليق على الشّرط بنفسه لا يقتضي إلاّ تقيد حكم الجزاء وكونه مؤثرا في الجزاء ولو باعتبار بعض وجوداته فلا يدل على تحقق الجزاء متى تحقق الشّرط نعم قد يستفاد من دليل آخر أنّ المراد كون الجزاء مما يترتب على الشّرط المذكور وحينئذ فيتكرر ولعله رأى استفادة هذا المعنى من الصّورتين الأوليين دون الأخيرة والتّحقيق أن يقال إنّ النّكرة إن وقعت بعد أداة الشّرط المفيدة للعموم كمهما ومتى وكلما أفادت العموم كقوله كلما جاءك رجل فأكرمه والقول بأنّها إنّما تفيد العموم بحسب الزّمان فلا يستلزم العموم الأفرادي كما في قوله كلما جاءك زيد فأكرمه مدفوع بأنّه يستلزم العموم بالنّسبة إلى كل مجيء رجلا لاختلاف أشخاص المجيء باختلاف الزّمان لأنّه من مشخصات الأفعال فكلما تحقق المجيء من أي رجل كان ترتب الجزاء سواء تكرر المجيء من واحد أو صدر من متعدد على التّعاقب أو على الاجتماع إذ الظّاهر إرادة الواحد اللابشرط لا بشرط لا وإلاّ لم يجب الجزاء في صورة الاجتماع وإن وقعت بعد ما لا يفيد العموم كإذا وإن فلا تفيد العموم سابعها النّكرة في سياق الطّلب الوجوبي أو الاستحبابي لا تفيد العموم الشّمولي بل يحصل الامتثال بأحد الأفراد على وجه التّخيير ولا إشكال في ذلك لفهم العرف وهل هو تخيير عقلي أو شرعي فقيل إنّ النّكرة موضوعة للفرد الواحد المهم الصّادق على كل واحد من الأفراد لأنّ الإبهام إنّما هو من جهة عدم اعتبار التّعيين لا اعتبار عدمه وعلى هذا فمعنى النّكرة كلي تعلق به الطّلب فإن قلنا إنّ الطّلب يرد على الطّبيعة من حيث هي والأفراد مقدمات كان التّخيير عقليّا وإن قلنا إنّ الطّلب يتعلق بالطّبيعة باعتبار وجوداتها والمطلوب حقيقة هو الأفراد على البدليّة كان التّخيير شرعيّا وقيل إنّه لو قلنا بأنّ الطّلب

 

يرد على الطّبيعة أيضا يمكن النّزاع المذكور من جهة أنّ معنى النّكرة وهو الطّبيعة المقيّدة بالوحدة المبهمة إن كان كليّا بأن كان القيد هو مفهوم الواحد الغير المعين الّذي هو كلي وضم الكلي إلى الكلي لا يوجب التّشخص والجزئيّة كان التّخيير عقليّا لورود الأمر على الكلي فيحكم العقل بين أفراده بالتّخيير وإن كان معنى النّكرة جزئيّا بأن كان القيد هو كل واحد من جزئيّات مصداق الواحد المبهم على وجه التّرديد كان التّخيير شرعيّا ولعل الثّاني أظهر وهو المراد بقولهم إنّ النّكرة جزئي مردد وفرق بعضهم في المطلق بين الأمر الوجوبي والاستحبابي فحكم في الأوّل بما ذكرنا وفي الثّاني بسريان الحكم إلى جميع أفراد الطّبيعة شمولا كالعام فحكم بعدم جواز حمل المطلق على المقيّد في الحكم الاستحبابي لعدم التّعارض بينهما كالعام والخاص المتوافقي الظّاهر فإنّ مقتضى المطلق استحباب جميع الأفراد عينا فلا ينافي مقتضى المقيد وهو استحباب الفرد الخاص عينا بخلاف الحكم الوجوبي فإنّ مقتضى تعلقه بالمطلق تخيير المكلف في الأفراد فينافي كون الفرد الخاص واجبا عينيّا كما هو مقتضى المقيد والتّحقيق ما ذكرنا إذ لا فرق بين الحكمين كما لا فرق فيما ذكرنا بين المطلق والنّكرة ثامنها النّكرة في سياق الحكم الوضعي أو في مقام الإخبار لا تحمل على العموم البدلي قطعا ولا على الفرد المبهم بنحو التّخيير بل يجب الحمل على المعين الواقعي وحينئذ فإن كانت في مورد البيان أو في مقام الامتنان حملت على العموم الشّمولي أمّا في مقام البيان فظاهر إذ لا يحصل بإرادة بعض الأفراد وأمّا في مقام الامتنان فقد أطلقوه ويجب تقييده بما إذا توقف الامتنان على الشّمول بأن لا يكون تعلق الحكم ببعض الأفراد موجبا للامتنان فالتّمثيل بقوله تعالى وأنزلنا من السّماء ماء طهورا لذلك مشكل لإمكان الامتنان بإنزال بعض المياه نعم إذا ضم إليه كونه في مقام البيان صح الحكم بالعموم لذلك لا لمحض الامتنان إلاّ أن يقال إنّ الامتنان لا يحصل إلاّ بالبيان إذ لا فائدة في كون بعض المياه تظاهرا على الإجمال فكونه في مقام الامتنان يكشف عن كونه في مقام البيان المستلزم للعموم ثم إنّ العموم عند كونه في مقام البيان يختلف بحسب الموارد لأنّ الموجب للحمل عليه أنّ الحمل على بعض الأفراد دون بعض ترجيح بلا مرجح فإذا كان اللّفظ شائع الاستعمال في بعض الأفراد بحيث كان ظاهرا فيه عند الإطلاق وجب حمله عليه ويختلف ذلك بحسب الأحكام كما أنّ العبد في مقام الاشتراء ظاهر في السّليم دون المعيب وفي مقام العتق بالعكس فلا ينبغي عن الغفلة عن ذلك فتنبه ومنها المفرد المعرف والجمع المعرف فقد اختلفوا في دلالتهما على العموم وفي كيفيّة الدّلالة أنّها وضعيّة أو لا وقيل الخوض في المقصود ينبغي بيان أمور

 

أحدها بيان الألفاظ الّتي تذكر في طي المبحث فنقول إنّ من جملتها لفظ الجنس وهو عبارة عن الماهيّة من حيث هي هي وقيل إنّه المعنى الكلي الّذي يستفاد من جوهر اللّفظ مع قطع النّظر عن اللّواحق فيخرج عنه الأعلام الشّخصيّة لجزئيّة ما يستفاد من اللّفظ فيها وكذا يخرج المثنى والمجموع لكن بالنّسبة إلى المعنى المستفاد من المفرد لأنّ معنى التّثنية أو الجمع لا يستفاد من جوهر اللّفظ مع قطع عن اللّواحق نعم يمكن إدخاله في التّعريف من جهة المعنى المستفاد من مجموع الملحوق واللاحق فإنّه أيضا كلي يمكن فيه اعتبار الوحدة والتّعدد أو الجمع والتّعريف والتّنكير وتفصيل القول أن كلاّ من المثنى والمجموع يحتمل في وضعه وجوه ثلاثة أحدها أن يكون موضوعا لمفهوم الجماعة فيكون المعنى المستفاد منه كليّا فيدخل في التّعريف وإلى هذا نظر من أجرى الجنسيّة في الجمع أيضا والثّاني أن يكون موضوعا بالوضع العام لجزئيّات مفهوم الجماعة فيكون الموضوع له خاصا والثّالث أن يكون موضوعا لنفس تلك الجزئيّات على نحو التّرديد كالمفرد المنكر نظير الواجب التّخييري كما اختاره بعض الأفاضل وعلى الثّاني فلا يكون جنسا من حيث المعنى الجمعي لكونه موضوعا للجزئيّات نعم كل واحد من تلك المراتب الجزئيّة جنس باعتبار كونه كليّا من جهة أخرى قابلا للتّقييد بالوحدة والتّعدد والتّعريف والتّنكير فإنّ مثل الثّلاثة جزئي من جزئيّات مفهوم الجماعة لكنّه كلي باعتبار شموله لكل ما صدق عليه أنّه ثلاثة وعلى الثّالث لا يكون جنسا أيضا وزاد بعضهم احتمالا رابعا وهو أن يكون موضوعا للوحدات كائنا ما كان قال فهو حينئذ يكون جنسا لكونه كليّا لأنّ الرّجال مثلا موضوع لطبيعة الرّجل مقيدة بالوحدات فيصدق على الثّلاثة والأربعة فصاعدا وزعم أنّ هذا هو التّحقيق في معنى الجمع وأنّه غير الاحتمالات السّابقة وفيه أنّ المراد بالوحدات الّتي اعتبر تقييد الطّبيعة بها أمّا المفهوم فيكون راجعا إلى الاحتمال الأوّل لأنّ الطّبيعة المقيدة بمفهوم الوحدات ليست إلاّ مفهوم جماعة الرّجال أو المراد مصداق الوحدات وحينئذ فإمّا يكون المراد جميع الآحاد فيلزم كون الجمع موضوعا للعموم ولم يقل به أو المراد آحاد كل مرتبة مرتبة من مراتب ما فوق الاثنين ويكون الجمع موضوعا لها بوضع واحد فيكون راجعا إلى الاحتمال الثّاني أو المراد أنّه موضوع لتلك المراتب على نحو التّرديد كما في المفرد المنكر فيكون راجعا إلى الاحتمال الثّالث ولا يكون جنسا على هذه من الاحتمالين كما بيناه

أصل في المطلق والمقيد

عرف المطلق تارة بأنّه ما دل على شائع في جنسه وأخرى بأنّه الماهيّة من حيث هي هي أمّا التّعريف بالوجه الأوّل فبينوه بأنّ المراد أنّ المطلق هو اللّفظ الدّال على حصة محتملة للحصص الكثيرة مما يتدرج تحت أمر مشترك والمراد بالحصة هي الطّبيعة

 

بقيد الإضافة إلى قيد وبالحصص ما يكون حصة من تلك الطّبيعة المضافة فيعتبر في تلك الحصص قيد زائد عن القيد الملحوظ إضافة الطّبيعة إليه فيكون المراد بالحصص حصص تلك الحصة والأمر المشترك عبارة عن نفس تلك الطّبيعة المضافة مع التّجرد عن قيد الإضافة فالمراد مما دل هو اللّفظ ومن الشّائع الحصة فإنّها شائعة في الحصص الّتي هي من جنس تلك الحصة أي داخلة تحت جنسها فدخل في التّعريف النّكرة المقابلة لاسم الجنس وخرج الأعلام الشّخصيّة لعدم الشّيوع وكذا ألفاظ العموم لأنّ المراد بالاحتمال الصّدق على نحو البدليّة لا الشّمول لكن يبقى في التّعريف الألفاظ الدّالة على العموم البدلي مثل من وما الاستفهاميّتين أو الموصولتين فينبغي إخراجهما بتقييد الشّيوع بالشّيوع الحكمي ليخرج الوضعي كذا قيل ويمكن أن يقال إنّهما يخرجان بقيد في جنسه بناء على أنّ المراد أن يكون اللّفظ دالا على الجنس باعتبار القيد الملحوظ فيه ومن الموصولة إنّما وضعت لنفس المصاديق على البدليّة لا للجنس باعتبار الإضافة وما يقال من أنّها موضوعة لمن يعقل إنّما هو بيان للضّابط لتلك المصاديق لئلا يتعدى عند الاستعمال عن حد الوضع لا أنّ هذا المفهوم معتبر في الوضع وكذا الكلام في الاستفهاميّتين فإن قلت إنّ التّعريف شامل للمطلق المنصرف إلى الأفراد الشّائعة لأنّه شائع في الحصص الشّائعة مع أنّه مقيد قلت فلا يجتمع الجهتان في لفظ كما في مثل رقبة مؤمنة فإنّه مطلق باعتبار شيوعه في جنس الرّقبة المؤمنة ومقيد بملاحظة أنّ الرّقبة لوحظ معها قيد المؤمنة ودخولها في التّعريف إنّما هو بالاعتبار الأوّل وهو مطلق بذلك الاعتبار وأمّا بالاعتبار الثّاني فهو خارج عن التّعريف ولا يوجب القدح فيه لأنّه بهذا الاعتبار مقيد ولا فرق بين كون التّقييد لفظيّا كالمثال المذكور بين كونه لبيّا كالمطلق المنصرف إلى الأفراد الشّائعة فإنّ إطلاقه إنّما هو بملاحظة شيوعه في الحصص المتحصلة بعد الانصراف وهو بهذه الملاحظة داخل في الحد نعم هو بملاحظة تقييده بالأفراد الشّائعة مقيد وليس داخلا في الحد من هذه الحيثيّة حتى يقدح فيه وبما ذكرنا ظهر ما في كلام بعض الأفاضل فإنّه بعد ما ذكر أنّ المراد بالشّائع الحصة المحتملة لحصص الجنس قال وخرج المطلق المقيد لأنّه وإن دل على حصة شائعة إلاّ أنّها غير شائعة بين جميع ما يتناوله اللّفظ عند التّجرد عن القيد كما هو الظّاهر من إطلاق الحد ثم قال وإنّما لم يعتبر الشّيوع في جميع حصص الجنس لئلا يخرج المطلقات المنصرفة إلى أفرادها الشّائعة فإنّها تعد مطلقات وإن لم يتحقق لها الشّياع

 

المذكور وذلك لأنّ الظّهور الّذي ادعاه من التّعريف يغني عن استدراك كلمة جميع والمطلق المنصرف أيضا يخرج بالظهور المذكور إذ ليس شائعا في جميع ما يتناوله اللّفظ عند التّجرد عن القيد الّذي هو شيوع الاستعمال أو الوجود والحاصل أنّ المطلق المقيد إن أريد إخراجه لعدم شيوعه في جميع أفراد المطلق فالمطلق المنصرف أيضا كذلك وإن أريد إدخال المطلق المنصرف لشيوعه في جميع ما يتناوله اللّفظ بضميمة الانصراف فالمطلق المقيد أيضا كذلك فالفرق بين القيد اللّفظي واللّبي لا وجه له ثم إنّ الفرق بين النّكرة ومن وما الموصولتين حيث قلنا بدخولها وخروجهما ظاهر على القول بكليّة النّكرة إذ يمكن فرض الحصص تحتها حينئذ وإنّما على القول بجزئيّتها فمشكل وعلى ما ذكرنا من إخراج الموصول بقولهم في جنسه يظهر الفرق لأنّ النّكرة دالة على الجنس مع أحد التّشخصات على التّرديد وهذا المعنى حصة من الجنس وتحتها حصص كثيرة أي كل واحد من التّشخصات على نحو التّعيين لأنّ التّعيين أمر زائد عن التّرديد بخلاف الموصول إذ لا دلالة فيه على الجنس أصلا وأمّا على ما قيل من خروج الموصول بزيادة قولنا شيوعا حكميّا فيشكل دخول النّكرة حينئذ لأنّ شيوعها بالنّحو الّذي ذكرنا وضعي عند القائل المذكور إلاّ أن يقال إنّ المعتبر في الوضع وضع جوهر اللّفظ لا لواحقه وشمول النّكرة للجزئيّات مستند إلى وضع التّنوين لا إلى جوهر اللّفظ بخلاف الموصول ولكن يخرج عن التّعريف المقرر المعرف وكذا الماهيّة من حيث هي إذ لا يصدق عليها الحصة ومن الظّاهر إطلاق المطلق عليهما في الاصطلاح فالتّعريف المذكور غير جامع وأمّا التّعريف الثّاني أي ما دل على الماهيّة من حيث هي فهو يصدق على جنس الأجناس قطعا وعلى الأنواع والأجناس المتوسطة كالجسم والنّامي والحيوان والنّوع السّافل كالإنسان لأنّ كل واحد منها ماهيّة من الماهيّات قابلة للشرائط واللّواحق فإذا اعتبر مجردا عنها كان داخلا في الحد وكذا الأصناف إذ ليس المراد بالماهيّة ما يكون ذاتيّا لأفراده بل الأعم منه ومما يكون عرضيّا وكذا دخل المطلق المقيد مثل رقبة مؤمنة لأنّ المجموع أيضا ماهيّة من الماهيّات قابلة لشروط أخر كالسّواد والبياض والطّول وغيرها ولا فرق بين التّعبير عن الماهيّة بلفظ مفرد كالإنسان أو مركب كالحيوان النّاطق لكن يخرج عنه النّكرة أي الفرد المنتشر لأنّ التّشخص إذا اعتبر في الماهيّة لم يطلق الماهيّة على المجموع مع أنّه يطلق عليها المطلق في الاصطلاح فانقدح عكس هذا التّعريف أيضا وقد يعترض على عكس الحدين بخروج إطلاق الأمر وفيه نظر لأنّ إطلاقه إمّا راجع إلى المادة

 

وهي من الماهيّات بل يفرض فيها الحصة أيضا وإمّا راجع إلى الهيئة أعني الوجوب أو النّدب مثلا وهو أيضا داخل في الماهيّة فلا وجه لتوهم الإخراج ثم إنّ التّحقيق أنّ المطلق في الاصطلاح عبارة عن الشّيء المرسل عن القيود الّتي يصلح لحوقها به من حيث هو كذلك وهذا يصدق على الماهيّة وعلى النّكرة وعلى المطلق المقيد وعلى الأعلام الشّخصيّة والمعرف الخارجي ولكن بالنّسبة إلى جهة إرسالها عن اللّواحق والمقيد بخلافه من حيث هو كذلك والغالب اجتماعهما في الموارد بتعدد الحيثيّة ولا خفاء في هذا إنّما الكلام في مطالب الأوّل هل المطلق الّذي أريد به المقيد حقيقة أو مجاز اختلفوا فيه على أقوال فقيل إنّه مجاز مطلقا وقيل مجاز إن كان القيد غير لفظي بل علم من دليل خارج وحقيقة إن كان لفظيّا وقيل مجاز إن أريد معنى القيد من لفظ المطلق وإمّا إن أريد من القيد ولوحظ انضمامه بمعنى المطلق فحقيقة ويظهر الثّمرة فيما إذا ورد أمر مطلق ثم أمر مقيد كقوله أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة فإن كان إرادة المقيد من المطلق حقيقة قدم على حمل أمر المقيد على الاستحباب عملا بأصالة الحقيقة في الأمر من غير معارض وإن كان مجازا وجب ملاحظة التّرجيح في تقديم التّقييد على المجاز والحق هو القول الأخير واعلم أوّلا أنّ المطلق بحسب المفهوم عبارة عن الشّيء الّذي اعتبر تجرده عما يقبله من اللّواحق كما عرفت وهذا المفهوم له مصاديق بحسب الخارج كالإنسان والرّجل ونحوهما والنّزاع إنّما هو في استعمال تلك المصاديق فنقول لا ريب في أنّ الإنسان مثلا إنّما وضع لنفس الطّبيعة من حيث هي هي القابلة لكونها مطلقة ومقيدة فكل من الإطلاق والتّقييد خارج عنها لاحق لها فمعنى كونها مطلقة أنّه أريد من اللّفظ نفس الطّبيعة المجردة عن القيد بمعنى أنّه لم يعتبر معها انضمام لاحق من اللّواحق ومعنى كونها مطلقة أنّه أريد من اللّفظ نفس الطّبيعة المجردة عن القيد بمعنى أنّه لم يعتبر معها انضمام لاحق من اللّواحق ومعنى كونها مقيدة إرادتها بضميمة القيد فالمتكلم القاصد للحكم قد يريد التّعبير عن تمام مراده بلفظ الإنسان ويكون مراده الطّبيعة المطلقة وقد يريد التّعبير عن بعض مراده بذلك وعن البعض الآخر بأمر آخر هو القيد فيكون مراده الطّبيعة المقيدة لكنه لم يستعمل لفظ المطلق في تمام مراده ففي هذين الصّورتين لا وجه للتّجوز إذ لم يستعمل لفظ الإنسان إلاّ فيما وضع له وضم شيء آخر إليه في الإرادة لا يوجب تجوزا لأنّ التّجرد عن انضمام اللّواحق ليس معتبرا في وضع الإنسان للماهيّة قطعا كما هو المشاهد في الأوضاع الشّخصيّة من الأعلام وغيرها ودعوى أنّ الوضع في حال

 

التّعرية متيقن دون غيره فاسدة كما أشرنا إليه في مبحث المشترك نعم لو أراد المتكلم التّعبير عن تمام مراده بلفظ الإنسان مع كون المراد الفرد كان مجازا لكن الاستعمال بهذا النّحو غير متحقق في موارد إرادة الفرد من الكلي ولا فرق في عدم المجازيّة حين إرادة التّعبير عن بعض المراد بلفظ المطلق بين التّعبير عن القيد باللّفظ المتصل أو المنفصل أو الحال أو العقل أو الانصراف أو غير ذلك فلا تجوز في شيء من هذه الموارد ومما يشهد على ذلك كثرة المطلقات المقيدة بالنّسبة إلى بعض الأشخاص دون بعض فلو كان التّقييد مستلزما للتّجوز لزم في مثل ذلك استعمال اللّفظ في معنييه الحقيقي والمجازي وهو غير جائز على ما سبق وفصل بعضهم بين الإنشاء والإخبار فحكم في الأوّل بالتّجوز دون الثّاني نظرا إلى أنّ المتكلّم في مقام الإنشاء لا بد له من تعيين متعلق الحكم لامتناع إنشاء الحكم للطّبيعة على وجه الإبهام فيجب أن يكون مراده التّعبير بلفظ المطلق عن تمام مراد مع أنّ مراده المقيد بخلاف الإخبار لجواز الإخبار عن الشّيء على وجه الإبهام وفيه ما لا يخفى لأنّ امتناع إنشاء الحكم المبهم لا يقتضي وجوب التّعبير عن المقيد بلفظ المطلق لإمكان الإنشاء للمقيد في الضّمير ثم إبرازه بلفظين يدل كل منهما على بعض المراد أو بلفظ وغيره ولا يقدح نسبته إلى الطّبيعة أوّلا لأنّ الحكم الثّابت للمقيد ثابت للمطلق أيضا لاتحاده معه وجودا فافهم الثّاني قد عرفت أنّ كلا من الإطلاق والتّقييد أمر خارج عن الموضوع له لاحق له فنقول إنّ حمل اللّفظ على إرادة المقيد ينشأ من بيان ما يصلح كونه تقييدا وأمّا الحمل على إرادة الإطلاق الّذي مرجعه إلى كون مدلول اللّفظ تمام المراد فمتفرع على أمرين أحدهما عدم الاقتران بما يصلح للتّقييد فلو اقترن بذلك لم يجز الحمل على الإطلاق لانتفاء المقتضي لا لوجود المانع وذلك لأنّ اللّفظ في نفسه قابل لإرادة تمام المراد منه وبعضه والحمل على تمام المراد إنّما هو لحكم العقل وهو فرع عدم وجود ما يصلح للتّقييد ذيل وجوده لا حكم للعقل وبما ذكرنا عرفت وجه عدم معارضة الإطلاق لشيء من الأصول اللّفظيّة كأصالة عدم التّخصيص وأصالة الحقيقة فلو توقف كون شيء قرينة للتّقييد على إجراء أصالة الحقيقة لم يزاحم إجراؤها أصالة عدم التّقييد كما أشرنا إليه عند حمل المطلق على المقيد مع احتمال كون أمر المقيد للاستحباب الأمر الثّاني كون المطلق واردا في مقام بيان تمام المراد فإنّ العقل يحكم حينئذ بأنّه لو لم يكن الطّبيعة تمام المراد والمفروض عدم ذكر ما يصلح للتّقييد لكان الاقتصار على ذلك اللّفظ نقصا للغرض الّذي هو بيان تمام المراد وأمّا لو لم يكن كذلك

 

فلا يحكم العقل بالإطلاق لعدم المقتضي أيضا ثم إن علم وجود الشّرطين أو انتفاء أحدهما فهو وإن شك فيه فإن كان في وجود القرينة جاز دفعه بأصالة عدم القرينة وإن كان في الشّك في كونه في مقام البيان جاز إثباته بالأصل نظرا إلى أنّ الطّبيعة لو كانت جزءا للمراد لكان بيان الجزء الآخر بلفظ آخر والأصل عدم بيان جزء آخر والأصل المثبت معتبر فيما يرجع إلى أحوال الألفاظ مضافا إلى غلبة كون المطلق في مقام البيان سيما في خطابات الشّارع المبين للأحكام فيحمل عليه عند الشّك وإلى ما ذكرنا من الشّرطين يرجع الشّرطان اللّذان ذكرهما القوم لحمل المطلق على العموم أحدهما عدم انصرافه إلى الفرد الشّائع وهذا يرجع إلى الأمر الأوّل لأنّ الانصراف يصلح للتّقييد والثّاني عدم وروده في مورد حكم آخر وهذا راجع إلى الثّاني لأنّ حاصله أنّ المطلق في هذا المقام إنّما قصد به البيان بالنّسبة إلى غير جهة النّزاع فلا يعم بالنّسبة إليها كقوله تعالى كلوا مما أمسكن عليكم فإنّه وارد لبيان الحكم من جهة التّذكية فلا من جهة الطّهارة والنّجاسة ليعم جهة عض الكلب أيضا ولا فرق فيما ذكرنا بين حمل المطلق على العموم من جهة السّراية أو من جهة الحكمة أمّا الأوّل فقد مر وجهه من أنّ الحكم بالعموم فرع تحقق كون الطّبيعة تمام متعلق الحكم وهو موقوف على الشّرطين المتقدمين وأمّا الثّاني فلأنّه مبني على كون الحكم متعلقا بالأفراد والحمل على العموم متوقف على كونه في مقام البيان وعدم وجود ما يصلح للتّعيين كالانصراف إلى الشّائع فإنّه صالح للتّقييد بالاتفاق في الجملة وإن اختلفوا في الشّيوع الوجودي وقد سبق تحقيقه نعم للسيد المرتضى رحمه‌الله تفصيل لا بأس بالإشارة إليه لارتباط له في الجملة وهو أنّه إذا قام الإجماع على جريان حكم المطلق في بعض الأفراد النّادرة وجب حمل المطلق على العموم وجرى الحكم في غير مورد الإجماع من سائر الأفراد النادرة أيضا وعليه فرع جواز الغسل بالماء المضاف لقيام الإجماع على جواز الغسل بماء النّفط والكبريت وهما من الأفراد النّادرة فهذا الإجماع يكشف عن إرادة طبيعة الغسل من الأمر وهو يصدق بماء المضاف وفيه أنّ الإجماع إنّما هو على الإلحاق في الحكم لا على الإرادة من اللّفظ ولو فرض الاجتماع على الإرادة كما إذا كان مستند المجمعين إطلاق اللّفظ لم يجز التّعدي عن مورد الإجماع لجواز تبعض اللّفظ في الإطلاق والتّقييد فالإجماع كاشف عن وجود قرينة موجبة لبقاء الإطلاق بالنّسبة إلى مورده فما الوجه في التّعدي إلى سائر الموارد مع وجود المانع عن الإطلاق بالنّسبة إليها وهو الانصراف ثم إنّ ما ذكرنا من أنّ الإطلاق من جهة فرع كونه في مقام البيان بالنّسبة

 

إلى تلك الجهة دون سائر الجهات إنّما هو عند عدم التّلازم بينها فلو كان بين جهة البيان تلازم مع غيرها حكم بالعموم مطلقا كما إذا ورد الحكم بجواز الصّلاة مع حمل جزء ما لا يؤكل لحمه جهلا وكان في مقام البيان بالنّسبة إلى جهة نجاسته حكم بالعموم بالنّسبة إلى جهة كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه أيضا لعدم التّفكيك بينهما فلو حمل على العموم بالجهة الأولى دون الثّانية لزم كون الحكم لغوا ومن هنا قيل بأنّ زوال العين مطهر للحيوان لما ورد من طهارة أسئارها مع عدم انفكاكها غالبا عن ملاقاة النّجاسة وكذا قيل بحليّة أطراف الشّبهة الغير المحصورة لما ورد من حل الشّبهة الابتدائي نظرا إلى أنّه لا يخلو عن العلم الإجمالي بملاحظة النّوع فلو لم يكن المشتبه في غير المحصور حلالا لزم عدم حليّة المشتبه الابتدائي لعدم الانفكاك فيكون الحكم بحليته لغوا ونحو ذلك الثّالث إذا ورد مطلق ومقيد فإن اختلف المحكوم به فيهما لم يحمل أحدهما على الآخر نحو أكرم عالما وأطعم عالما عادلا أو لا نطعم عالما عادلا نعم لو توقف أحدهما على الآخر وجب حمل المطلق على المقيد نحو أعتق رقبة ولا تملك رقبة كافرة لتوقف العتق على الملك فيكون قوله أعتق رقبة بمنزلة قوله تملك رقبة فوجوب الحمل إنّما هو لرجوعه إلى ما اتحد فيه المحكوم به وإن اتحد المحكوم به فإن اختلف سبب الحكم لم يحمل أيضا نحو إن ظاهرت فأعتق رقبة وإن فطرت فأعتق رقبة مؤمنة وإن اتحد السّبب أيضا فإمّا أن يكونا موجبين أو منفيين أو مختلفين فإن كانا موجبين نحو إن ظاهرت فأعتق رقبة وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وجب حمل المطلق على المقيد بمعنى الحكم بأنّ المراد من الحكم على المطلق هو الحكم على المقيد وقيل في وجه ذلك أنّ الحمل على المقيد جمع بين الدّليلين والجمع أولى من الطّرح وأنّ الحمل عليه مقتضى قاعدة الاشتغال للشّكّ في البراءة بإتيان غير المقيد من أفراد المطلق ويرد على الثّاني أنّ قاعدة الاشتغال لا تعين إرادة المقيد من المطلق ويظهر الثّمرة عند عروض عدم التّمكن من المقيد بعد التّمكن منه فإنّ مقتضى قاعدة الاشتغال وجوب فعل فرد آخر من المطلق وبالجملة قاعدة الاشتغال فرع إجمال اللّفظ فلا يوجب تعيين المراد واعترض على الأوّل بأنّ الجمع لا ينحصر في الحمل بل يمكن بحمل أمر المقيد على الاستحباب أو حمله على التّخيير وفيه أنّ حمل المطلق على المقيد أظهر من حمل الأمر على الاستحباب أو حمله على التّخيير إن أريد من التّخيير كون الأمر بالمقيّد أمرا مقدميّا لتحصيل الطّبيعة وأمّا إن أريد به حمل كلا الأمرين على التّخيير ليرجع إلى التّخيير بين المطلق والمقيد ففساده ظاهر فإن معنى التّخيير جواز ترك أحدهما إلى الآخر ولا يعقل ترك

 

المطلق فلا معنى للتّخيير بينه وبين المقيد ويظهر من بعضهم أنّ وجه الحمل هو تعارض مفهوم الوصف في المقيد مع إطلاق المطلق فإنّ مفهوم قوله أعتق رقبة مؤمنة عدم وجوب عتق الكافرة وهو ينافي في المطلق وفيه أوّلا أنّه لا مفهوم للوصف كما حقق سابقا وثانيا أنّه أضعف من غيره بمراتب فما وجه تقديمه على الإطلاق وثالثا أنّه لا تعارض بينهما لأنّ المفهوم نفي الوجوب العيني عن غير المقيد وذلك لا ينافي ثبوت الوجوب التّخييري كما هو مقتضى المطلق كذا قيل والحق أنّ المفهوم هو نفي سنخ الوجوب كما قررناه في المفاهيم والتّحقيق أنّ هذه الوجوه في الحمل غير موجه بل الوجه فيه أنّ التّعارض البدوي إنّما هو بين المنطوقين بملاحظة وحدة التّكليف لأنّ مقتضى المقيد وجوبه عينا ومقتضى المطلق وجوب الطّبيعة اللابشرط المقتضي لوجوب الأفراد تخييرا ولا يمكن اجتماعهما مع وحدة التّكليف ولكن لما كان حمل المطلق على الطّبيعة اللابشرط موقوفا على عدم بيان القيد والأمر بالمقيد بيان ولو بضميمة أصالة الحقيقة لم يكن هناك مقتض للإطلاق كما عرفت ثم إنّ وحدة التّكليف هل يتوقف على أمر خارج مثل ملاحظة وحدة السّبب مثلا لكون تعدد الأمر موجبا لتعدد التّكليف فيحتاج نفي التّعدد إلى الدّليل أو لا بل تعدد الأمر لا يقتضي التّعدد فيحتاج إثبات التّعدد إلى الدّليل وبدونه ينفى بالأصل الحق هو الثّاني سواء كان الأمران متعلقين بطبيعة واحدة أو أحدهما بالطّبيعة المطلقة والأخرى بالمقيدة أمّا في الأوّل فلأنّ كون الكلام تأكيدا أو تأسيسا خارج عن نفس اللّفظ وإنّما يتفرع على دواعي الأمر فإن كان الدّاعي في الكلام بيان حكم جديد كان تأسيسا وإن كان الدّاعي تقرير حكم معلوم كان تأكيدا ولو كان التّأسيس والتّأكيد داخلين في معنى اللّفظ لكان ذكر العام بعد الخاص مستلزما لاستعماله في المعنيين لكونه تأكيدا بالنّسبة إلى مورد الخاص تأسيسا بالنّسبة إلى غيره من الأفراد وإذا كانا خارجين عن اللّفظ فتعدد الأمر المتعلق بطبيعة واحدة كما يحتمل كونه تأسيسا كذا يحتمل كونه تأكيدا ودعوى غلبة التّأسيس ممنوعة فإذا شك في اقتضائه لتعدد التّكليف وعدمه وجب الرّجوع إلى الأصل وهو يقتضي البراءة وأمّا في الثّاني فلما مر من أنّ المطلق لا يعلم كونه تمام متعلق الحكم إلاّ بعدم بيان القيد وبعد بيانه لا يعلم ذلك فيشك في وحدة التّكليف وتعدده فيرجع إلى الأصل فثبت أنّه لا حاجة إلى دليل خارج في إثبات وحدة التّكليف بل عدم ثبوت الدّليل على التّعدد كاف في الحكم بالوحدة بضميمة الأصل وحينئذ فإن اتحد السّبب كان مؤكدا للوحدة وإن ثبت التّعدد من الخارج كان ذلك كاشفا عن كون الطّبيعة تمام المتعلق في الأمر بالمطلق ومثله ما لو قلنا بأنّ الإطلاق

 

مأخوذ في مدلول اللّفظ فإنّ المطلق حينئذ ظاهر في الطّبيعة اللابشرط فيقتضي تعدد التّكليف وعليه فيجب في الحكم بالاتحاد من وجود دليل خارجي ومنه وحدة السّبب إن قلنا بظهورها في وحدة التّكليف وفيه إشكال والحاصل أنّه على المختار من عدم اعتبار الإطلاق في مدلول اللّفظ ينبغي الحمل على وحدة التّكليف سواء لم يذكر سبب أصلا أو اتحد السّبب والحمل على تعدده بتعدد السّبب أو وجود دليل آخر على التّعدد وعلى القول باعتبار الإطلاق في المدلول ينبغي الحكم بالتّعدد في صورة عدم ذكر السّبب وصورة تعدّده والحكم بالوحدة في صورة اتحاد السّبب على إشكال أو وجود دليل على الوحدة فالثّمرة إنّما تظهر عند عدم ذكر سبب أصلا وعدم وجود دليل من الخارج على الوحدة أو التّعدد وقد عرفت التّحقيق وإن كانا منفيين فالمعروف عدم حمل أحدهما على الآخر سواء اتحد السّبب أو اختلف نحو لا تعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة وقيل في وجهه إنّ النّفي إذا ورد على الطّبيعة اقتضى نفي جميع الأفراد شمولا وذلك لا ينافي نفي خصوص المقيد أيضا غاية الأمر أنّه يكون تأكيدا وقد عرفت أنّه ليس أمرا راجعا إلى اللّفظ بل هو لازم على فرض الحمل أيضا وبالجملة هو نظير العام والخاص الغير المتنافي الظّاهر إذ لا تخصيص حينئذ قطعا والتّحقيق أنّه لا فرق بين المثبتين والمنفيين فكما يحمل المطلق على المقيد في المثبتين ولا يقتضي اللّفظ تعدد التّكليف فكذا في المنفيين وذلك لما عرفت أنّ مدلول اللّفظ هو نفس الطّبيعة والإطلاق والتّقييد خارجان عنه عارضان له بملاحظة عدم ذكر القيد وذكره ونفي الطّبيعة كما يصدق بنفي جميع الأفراد كذا يصدق بنفي البعض أيضا نعم نفي الطّبيعة اللابشرط يقتضي نفي جميع الأفراد وحينئذ فنقول إنّ استفادة العموم من المطلق المنفي فرع كون المراد منه الطّبيعة اللابشرط وهو متوقف على عدم بيان القيد فإذا بين القيد لم يكن مقتضي للإطلاق كما قررناه في الموجبين حرفا بحرف فالأمران لا يوجبان إلاّ تحريم المقيد فيرجع في حكم سائر الأفراد إلى الأصل ولا فرق في ذلك بين ورود النّفي على المحكوم به كما في المثال المذكور أو وروده على الحكم كأن يقول لا يجب عتق الرّقبة ولا يجب عتق الرّقبة الكافرة فلا يقتضي الخطابان إلاّ نفي وجوب عتق الكافرة فيرجع في المؤمنة إلى أصالة عدم الوجوب وذلك وإن وافق حكم المطلق في هذا المقام لكنّه يثمر فيما إذا قام دليل آخر على وجوب عتق المؤمنة فإنّه لا معارض له على ما ذكرنا بخلاف ما لو قلنا بعدم الحمل فإنّه يعارض الخطاب المطلق فافهم هذا ولقائل أن يقول إنّ المستند في عدم الحمل ليس هو ما سبق ليرد عليه الاعتراض المذكور بل

 

المستند هو بناء العرف في مثل المقام على عدم الحمل فإن تم ذلك فهو وإلاّ فالحكم ما ذكرنا وإن كانا مختلفين فإن كان المنفي هو المقيد فلا يخلو إمّا أن يرد النّفي على الحكم أو على المحكوم به أمّا الأوّل نحو يجب عتق رقبة ولا يجب عتق الكافرة فإن قلنا إنّ المستفاد من الخطاب المقيد نفي مطلق الوجوب من العيني والتّخييري الأصلي والمقدمي حمل المطلق على المقيد لتنافيهما حينئذ لأنّ مقتضى المطلق وجوب المقيد تخييرا مقدميّا لحصول الطّبيعة في ضمنه ومقتضى المقيد نفيه فيقيد المطلق بغير هذا الفرد وإن قلنا إنّ المستفاد منه هو نفي الوجوب الأصلي العيني فلا حمل إذ لا منافاة بين انتفاء الوجوب الأصلي وثبوت الوجوب المقدمي فيحصل امتثال الخطاب المطلق بفعل المقيد أيضا وأمّا الثّاني نحو يجب عتق الرّقبة ويجب ترك عتق الكافرة أو يحرم أو أعتق الرّقبة ولا تعتق الكافرة فإن قلنا إنّ النّهي يقتضي الفساد وجب التّقييد لأنّ إبقاء المطلق على الإطلاق يقتضي حصول الامتثال بأي فرد فرض من الأفراد فإذا ثبت بمقتضى الخطاب المقيد عدم حصول الامتثال بفرد لزم إخراجه عن تحت الخطاب المطلق وإن قلنا إنّه لا يقتضي الفساد بل إنّما يوجب الحرمة فقط فإن قلنا بعدم جواز اجتماع الأمر والنّهي ولو من جهتين وجب التّقييد أيضا وإلاّ لزم الاجتماع في الفرد وإن قلنا بجوازه فلا مقتضي للحمل فيحصل امتثال المطلق وعصيان المقيد بفعل الفرد المنهي عنه قيل إنّهم اتفقوا في صورة كون المطلق مثبتا والمقيد منفيّا على وجوب التّقييد وهذا ينافي اختلافهم في دلالة النّهي على الفساد وجواز اجتماع الأمر والنّهي فإنّه بعد الحمل على المقيد لا يبقى أمر بالنّسبة إلى الفرد المنهي عنه فيفسد ولا معنى للخلاف في الفساد والاتفاق على الحمل وكذا بالنّسبة إلى امتناع الاجتماع إذ بعد جوازه لا داعي على الحمل قلت يمكن أن يكون اتفاقهم على الحمل مبنيّا على اقتضاء الفساد كما ذكرنا لأنّ كلامهم هنا إنّما هو على فرض منافاة المقيد مع المطلق ولا يكون هذا إلاّ إذا فرض اقتضاء النّهي للفساد وعدم جواز اجتماع الأمر والنّهي وكلامهم هناك إنّما هو في تحقق المنافاة وهو أنّه هل يقتضي الفساد وهل يمتنع اجتماع الأمر والنّهي لتحقق المنافاة أو لا فلا منافاة وإن كان المنفي هو المطلق نحو لا تعتق الرّقبة وأعتق المؤمنة أو لا يجب عتق الرّقبة ويجب عتق المؤمنة لزم التّقييد سواء كان المطلق في مقام البيان أو لا أمّا الأوّل فلأنّه يكون عاما فيخصص بالخطاب المقيد وأمّا الثّاني فلأنّه يكون قضيّة مهملة وهي في قوة الجزئيّة ولا تنافي بين الجزئيّتين فيحمل على إرادة غير المقيد وهو أيضا تقييد إذ لا نعني بالتّقييد إلاّ عدم بقائه على الإرسال كما تقدم

تذنيبات

أحدها

يستثنى من صورة حمل المطلق على المقيد عند

 

الاتحاد في الحكم صورتان أحدهما كون الحكم استحبابا فلا يحمل المطلق على المقيد ووجهه مع جريان ما ذكرناه في الحكم الوجوب هنا أيضا أمران أحدهما استقراء موارد ورود الاستحباب على المطلق فإنّ المطلق فيها وارد في مقام البيان فيحمل على إرادة الطّبيعة اللابشرط والثّاني أنّ الطّبيعة الواحدة قابلة للاتصاف باستحبابات متعددة بتعدد المراتب الموجودة في الأفراد بخلاف الوجوب وذلك لأنّ المصلحة في الوجوب مصلحة واحدة تحصل بكل من أفراد الطّبيعة ولهذا إذا تعلق الوجوب بالطّبيعة لم يجب إلاّ أحد الأفراد على البدل بخلاف الاستحباب فإنّه يجوز أن يكون المصلحة الموجبة للاستحباب في كل فرد غير المصلحة الموجبة له في الفرد الآخر ولهذا حكموا بسراية الاستحباب المتعلق بالطّبيعة إلى جميع الأفراد على سبيل الشّمول والاستغراق مضافا إلى الانفهام العرفي وحينئذ فيكون المطلق في مقام الاستحباب في حكم العام وقد تحقق أنّ العام لا يحمل على الخاص عند عدم التّنافي في الظّاهرين الثّانية أن يكون الحكم وضعيّا فقوله خلق الله الماء طهورا لا يحمل على قوله ماء البئر طاهر وذلك أيضا للأمرين المذكورين في الحكم الاستحبابي بالتّقريب المتقدم

الثّاني

ربما يحمل المطلق في مقام الاختيار على فرد لدعوى انصرافه إليه ومع ذلك يتمسك بالإطلاق في مقام عدم التّمكن من ذلك الفرد على وجوب فرد آخر كما حكموا بوجوب المسح بباطن الكف عند التّمكن لدعوى انصرافه إليه ومع ذلك حكموا على العاجز عنه بوجوب المسح بظاهر الكف للإطلاق وهذا في الظّاهر مشكل لأنّ الانصراف إن كان سببا للحمل على الفرد الشّائع وجب الحكم بإرادة الفرد الشّائع من المطلق فلا يبقى الإطلاق حتى يتمسك به في حال العجز وإن لم يكن سببا للحمل وجب الحكم بإجزاء الظّهر في حال الاختيار أيضا ومثله ما إذا ورد الدّليل على التّقييد في بعض الأحوال فيحكمون بالإطلاق في غيره كما إذا دل الدّليل على وجوب السّورة في الصّلاة فيحكمون بوجوبها على المختار تقييدا لإطلاق الصّلاة المأمور بها ومع ذلك يحكمون بوجوب الصّلاة الخالية عنها على العاجز عن تعلم السّورة لضيق الوقت ونحوه فإن الإشكال المذكور جار فيه ويمكن الذّبّ عنه على المختار من أنّ الإطلاق ليس مأخوذا في مدلول اللّفظ وإنّما يعرضه باعتبار عدم بيان القيد وقد سبق أنّ المطلق يجوز تقييده بحسب جهة دون أخرى لكونه في مقام بيان الثّانية دون الأولى وذلك لا يستلزم الجمع بين المعنيين فنقول إنّ المطلق في مقام الاختيار ينصرف إلى خصوص الفرد الشّائع وأمّا في حال الاضطرار فلا انصراف فيراد منه بالنّسبة إلى الحالة الأولى خصوص المقيد وبالنّسبة إلى الثّانية الطّبيعة اللابشرط وكذا لو ثبت التّقييد في حال

 

الاختيار بدليل لفظي غير الانصراف نعم هذا الإشكال وارد على من يقول بمجازيّة المطلق المقيد كما أشرنا إليه

الثّالث

إذا ورد أمر بمطلق ثم ورد التّقييد بمطلق آخر ثم بمقيد نحو قوله صل ويشترط ستر العورة في الصّلاة ويشترط ستر العورة بغير الحرير فهل يحكم بتقييد المطلق الثّاني أوّلا ثم يجعل المقيد قيدا للمطلق الأوّل فيفيد إطلاق شرطيّة السّتر بقيد غير الحرير ثم يجعل مجموع المقيد وهو السّتر بغير الحرير شرطا للصّلاة أو لا بل يجعل المطلق شرطا والمقيد شرطا آخر ويظهر الثّمرة سيما إذا لم يتمكن من غير الحرير وقلنا بعد سقوط المشروط بانتفاء الشّرط أو بتقييد الشّرطيّة بحال الاختيار فإنّه حينئذ يحكم على الأوّل بوجوب الصّلاة عاريا لانتفاء الشّرط الّذي هو السّتر بغير الحرير وعلى الثّاني يحكم بوجوب السّتر بالحرير لأنّ سقوط الشّرط المقيد لعدم إمكانه لا يقتضي سقوط الشّرط المطلق وهو السّتر والتّحقيق في المثال هو الثّاني لأنّ الشّرطيّة من الأحكام الوضعيّة وقد سبق أنّ المطلق لا يحمل على المقيد في الأحكام الوضعيّة

الرّابع

إذا ورد أمر بمطلق ثم ورد الحكم في المقيد على الفرد النّادر كأن يقول أعتق رقبة ثم يقول أعتق رقبة ذات رأسين فهل يحمل المطلق على المقيد أو يحكم بتعدد التّكليف أو يجعل المقيد كاشفا عن إرادة الطّبيعة اللابشرط من المطلق دون خصوص الشّائع وجوه أوسطها الوسط لأنّ الأخير لا وجه له إذ لا دلالة في الأمر بالمقيد على إرادة الطّبيعة اللابشرط من المطلق بشيء من الدّلالات وقد أشرنا إليه سابقا في الكلام على ما ذهب إليه السّيد المرتضى رحمه‌الله وأمّا الوجه الأوّل فهو وإن كان مقتضى ما قررناه سابقا في المطلق المقيد بغير الفرد النّادر نظرا إلى أنّ مدلول المطلق ليس إلاّ الطّبيعة والإطلاق متوقف على عدم بيان القيد لكن ذلك إنّما يجري في التّقييد بالفرد الشّائع وأمّا في ما نحن فيه فلا وذلك لأنّ المراد من المطلق هنا بقرينة الانصراف إلى الأفراد الشّائعة هو خصوص الشّائعة فيكون الخطاب المطلق والمقيد بمنزلة خطابين تعلقا بموضوعين متباينين مقتضاهما تعدد التّكليف نعم لو ثبت من الخارج وحدة التّكليف أو الأمر بين ارتكاب خلاف الظّاهر في المطلق بحمله على الفرد النّادر وبين حمل الأمر بالمقيد على الاستحباب ونحوه فيجب ملاحظة التّرجيح بين الظّاهرين هذا إذا كانا مثبتين وأمّا إذا كانا منفيين نحو لا تعتق رقبة ولا تعتق رقبة ذات رأسين فلا حمل قطعا لأنّ المراد من المطلق إمّا العموم فيكون المقيد تأكيدا وإمّا خصوص الأفراد الشّائعة فيكونان حكمين على موضوعين وإذا كان المطلق مثبتا والمقيد منفيّا كان المقيد تقريرا لما يستفاد من المطلق بقرينة الانصراف

 

من عدم وجوب الفرد النّادر وإذا كان المطلق منفيّا والمقيد مثبتا نحو لا تعتق رقبة وأعتق ذات رأسين فإن حمل المطلق على العموم كان المقيد مخصصا وإن اختص بالفرد الشّائع كانا حكمين على موضوعين ويكون المقيد تقريرا لما يستفاد من المطلق من عدم حرمة الفرد النّادر فافهم

الخامس

إذا ورد مطلق ثم ورد مقيدان مختلفان نحو أعتق رقبة أعتق رقبة مؤمنة أعتق رقبة كافرة ففيه وجوه أحدها تساقط التّقييدين فيؤخذ بالإطلاق والثّاني حمل التّقييد على كونه لبيان الإطلاق فيؤخذ بالإطلاق أيضا ويحمل أمر المقيد على التّخيير المقدمي الثّالث التّخيير بين المقيدين في الأخذ لأنّهما دليلان تعارضا فيحكم بالتّخيير الرّابع حمل الأمر في المقيد على الوجوب العيني والتّقييد بكليهما الخامس إجمال الكلام فيرجع إلى الأصل العملي والتّحقيق أنّه لا وجه للأخذ بالإطلاق والحكم بتساقط القيدين للقطع بالتّقييد والشّك إنّما هو في المقيد فلا وجه للأخذ بالإطلاق وأمّا حمل الأمر على التّخيير بين الفردين فهو خلاف ظاهر الأمر فالحق أنّه إن لم يقم دليل على وحدة التّكليف حكم بتعدده بمعنى وجوب الإتيان بكلا الفردين لأنّه مقتضى ظاهر الأمرين ولا يلزم التّجوز في المطلق لما عرفت من خروج الإطلاق عن مدلول اللّفظ وإن قام الدّليل على وحدة التّكليف تعارض المقيدان فإن قلنا بالتّخيير عند تعارض الدّليلين حكم بالتّخيير وإلاّ فبالإجمال والرّجوع إلى الأصول العمليّة ولا فرق فيما ذكرنا بين كون المقيّدين مستوعبين لأفراد المطلق بأن لا يكون بينهما واسطة أو لا لكن قد يثمرانه إذا لزم بناء على تعدد التّكليف بالمقيدين تقييد المطلق بالنّسبة إلى القيدين فلو لم يتمكن منهما لم يجب الواسطة بخلاف ما إذا لم نقل بالتّقييد بل حملنا الأمر في المقيد على بيان الإطلاق فإنّه حينئذ يجب إتيان الواسطة هذا في غير المستوعب وأمّا فيه فلا فرق بين التّقييد والإطلاق من هذه الجهة أعني عند عدم التّمكن من المقيدين إذ لا واسطة حتى يجب إتيانها لو حمل على الإطلاق والمثال الفقهي للمسألة ما ذكروه في غسل الإناء من ولوغ الكلب حيث ورد الأمر المطلق بالغسل بالتّراب في إحدى الغسلات وورد التّقييد في الغسلة الأولى والتّقييد في الغسلة الأخيرة والتّحقيق لو لا الدّليل الخارجي على عدم لزوم تعدد الغسل بالتّراب من الإجماع ونحوه هو الحكم بالتّعدد لظهور الأمرين في تعدد التّكليف ولا يقدح في ذلك عدم قابليّة المطلق للتّقييد بهما معا لعدم صدق إحداهن على غسلتين وذلك لأنّا نجعل إحداهما تقييدا للمطلق والآخر تكليفا مستقلا ولا يجوز إبقاء المطلق على إطلاقه والأخذ بالمقيدين

 

أيضا مستقلا لما عرفت سابقا من أنّ الأمر بالمطلق والمقيد لا يستفاد منه إلاّ تكليف واحد بخلاف الأمر بالمقيدين فيجمع هنا بين الحقين فيحكم بتقييد المطلق بأحد القيدين على التّخيير ويجعل الآخر تكليفا آخر وإن كان ثمرة الإبقاء على الإطلاق منتفية في المثال بعد ثبوت التّقييد إذ لو لم يتمكن من التّراب في الغسلة الأولى أو الأخيرة لم ينفع الوسط في التّطهير إذ لا يسقط اعتباره فيها بعدم التّمكن هذا ولكن الظّاهر في المقام قيام الدّليل على الاتحاد فيقع التّعارض بين المقيدين فإمّا نقول بالتّخيير كما هو التّحقيق أو بالإجمال والرّجوع إلى الأصل العملي من استصحاب النّجاسة إلى أن يتحقق الرّافع أو أصالة البراءة أو نحوهما فتأمّل

أصل في المجمل والمبين

عرف المجمل بأنّه ما لم يتضح دلالته ونقض طرده بالمهملات لأنّها غير واضحة الدّلالة وفيه أنّ المراد بالموصولة ما كان موضوعا أو أنّ الظّاهر من السّالبة كونها موجودة الموضوع ونقض أيضا يزيد المسموع من وراء الجدار لدلالته على وجود اللافظ مع أنّه غير واضح لعدم تعيّنه ويمكن دفعه بأنّ الظّاهر اعتبار الدّلالة الوضعيّة دون العقليّة والطّبعيّة ويشكل بأنّهم جعلوا الفعل من أقسام المجمل مع أنّه غير موضوع بل دلالته على الجهة الّتي يراد الاستدلال بها عقليّة كما يستدل بفعل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على كونه مشروعا وينتقض أيضا بالمشترك لأنّ دلالته على المعنى واضحة بعد العلم بالوضع وإن اعتبر الدّلالة على المراد انتقض بالفعل إذ لا دلالة له على المراد بل لا يصدق المراد فيه مع أنّه يلزم كون اللّفظ المراد به المعنى المجازي مع انفصال القرينة مجملا في الواقع وكذا العام المخصص والمطلق المقيد عند تأخير المخصص والمقيد والظّاهر خلافه والأولى أن يقال إنّ المجمل هو ما يحتمل احتمالين متساويين فصاعدا سواء كان الاحتمال من جهة عدم العلم بالوضع أو من جهة تعدد الوضع كالمشترك أو من جهة الجهل بالمراد كما لو نصبت قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي مع تعدد المجازات وخرج العام المخصص وأمثاله لعدم تساوي الاحتمالين لأنّه قبل بيان المخصص ظاهر في العموم وبعده يظهر الخصوص فلا احتمال أصلا وإطلاق البيان على المخصص لا يستلزم كون العام مجملا إذا المراد بكونه بيانا أنّه يبين مورد الحكم المتعلق ظاهرا بالعام ثم المجمل إمّا قول أو فعل والقول إمّا مفرد أو مركب وإجمال المفرد إمّا من جهة اللّفظ أو المعنى وكل منهما إمّا بالذات أو بالعارض فالذّاتي في اللّفظ كلفظ إنّ لاشتراكه بين الحرف والفعل وكل منهما يختص بمعنى واحد والعرضي في اللّفظ كلفظ مختار لاشتراكه بين اسم الفاعل والمفعول بسبب الإعلال والذّاتي في المعنى كلفظ عين المشترك بين المعاني

 

الكثيرة والعرضي في المعنى كاللّفظ الّذي تعددت مجازاته عند نصب القرينة الصّارفة عن المعنى الحقيقي وإجمال المركب إمّا لوقوع لفظ فيه موجب للإجمال في خصوص ذلك المركب نحو قول بعضهم حيث سألوه عن الإمام بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال من بنته في بيته لاحتمال إرجاع الضّمير الأوّل إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والثّاني إلى الموصول كما هو مراد القائل أو إرجاع الضّمير الثّاني إلى النّبي والأوّل إلى الموصول كما فهمه السّائل إذ لا إجمال في شيء من المفردات بل المنشأ للإجمال وقوع الضّمير بعد شيئين يحتمل كل منهما أن يكون مرجعا وإمّا يكون الإجمال لمجموع المركب ومثلوا له بقوله تعالى وإن طلّقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلاّ أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح لاحتمال كون المراد بالّذي بيده عقدة النّكاح الأزواج أو ولي الزّوجة وفيه نظر أمّا أوّلا فلأنّ الإجمال لو كان فإنّما هو في الموصول باعتبار أنّه لم يتعين بالصّلة المذكورة له فهو كالإجمال في الضّمير باعتبار عدم تعينه بالمرجع وأمّا ثانيا فلأنّ الموصول إن كان صالحا لهما معا فما وجه الاختصاص بأحدهما فليحمل عليهما معا فلا إجمال والتّحقيق أن يحمل على خصوص ولي الزّوجة دون خصوص الزّوج ودون الجميع ولا إجمال وذلك لأنّ الظّاهر من نصف الفريضة المتقدم في الكلام هو النّصف الّذي تستحقه الزّوجة والمستثنى الأوّل مستثنى من منطوقه فإذا حمل الموصول على ولي الزّوجة كان أيضا مستثنى من المنطوق وأمّا إذا حمل على الزّوج لزم أن يكون مستثنى من المفهوم أعني رجوع النّصف الآخر إلى الزّوج فيلزم التّفكيك وكذا إن حمل عليهما معا فإنّه باعتبار إرادة الزّوج يكون مستثنى من المفهوم وباعتبار إرادة ولي الزّوجة يكون مستثنى من المنطوق وهذا مع أنّه تفكيك عن المستثنى الأوّل جمع بين المعنيين ولا يجوز حمل النّصف المذكور على النّصف الرّجوع إلى الزّوج لأنّه خلاف الظّاهر مع أنّه يلزم حينئذ استثناء قوله إلاّ أن يعفون من المفهوم إذ المراد هو الزّوجات بقرينة عدم حذف النّون مع النّاصب فيلزم التّفكيك أيضا نعم لو جعل النّصف المذكور عبارة عن النّصفين جميعا بأن يكون قوله فنصف ما فرضتم بمعنى فلينصف المهر بينهما صح إرادة الزّوج من الموصول لكنّه تعسف بعيد فتعين كون المراد أولياء الزّوجة ولا إجمال والله أعلم وأمّا الفعل المجمل فكما إذا صدر من الإمام عليه‌السلام فعل ولم يعلم كونه على وجه الوجوب أو الاستحباب ثم إنّ المبين مقابل المجمل فهو ما لم يحتمل احتمالين فصاعدا مع التّساوي إذا عرفت تعريف المجمل والمبين فهنا مطالب أحدها إذا ورد مجمل ومبين فإن اتحد المحكوم به والسّبب والحكم وكان إيجابا حمل المجمل

 

على المبين كقوله إن جاء زيد فتصدق بعين وإن جاء زيد فتصدق بذهب مثلا فيحمل العين على الذّهب لما مر في وجه حمل المطلق على المقيد إذ لا يقتضي الخطابان أكثر من تكليف واحد لاحتمال كون المراد من العين هو الذّهب فلا يكون تكليف زائد فالأصل هو البراءة وكذا لو كان الحكم نفيا نحو لا تتصدق بعين ولا تتصدق بالذهب لعين ما ذكر في الإيجاب ولا يجري هنا ما سبق في المطلق والمقيد من الحمل على العموم إذ لو حمل على العموم بالنّسبة إلى معنى واحد لم ينفع وإن حمل على نفي جميع المعاني لزم استعماله في الأكثر من معنى واحد وهو غير جائز وإذا كانا مختلفين نحو تصدق بعين ولا تتصدق بالذّهب أو بالعكس حمل المجمل على ضد المبين فإن كان متحدا حصل البيان مطلقا وإن تكثر الضّد بقي الإجمال بالنّسبة إليها وهو ظاهر وبما ذكرنا تبين أنّ حمل المجمل على المبين في المثبتين والمنفيين إنّما هو في مقام الحكم لا الإرادة بمعنى أنّه لا يوجب كون المراد من المجمل هو المبين بل لما كان ذلك محتملا أوجب الشّك في وحدة التّكليف وتعدده الموجب للرّجوع إلى أصالة عدم التّعدد وأمّا في المختلفين فالحمل إنّما هو في مقام الإرادة حذرا من لزوم التّناقض وأمّا حمل القرء في العدة على الحيض للخبر الدّال على كون العدة بذلك فإنّما هو لما ثبت في الخارج من أنّ العدة ليست إلاّ بالطّهر أو بالحيض وكذا حمل ما ورد من أنّ المسافر إذا أقام مترددا في بلد شهرا أتم على إرادة العددي لما ورد من الخبر الدّال على أنّه إذا أقام ثلاثين يوما مترددا أتم فإنّما هو أيضا الثّبوت عدم اعتبار المجموع العددي والهلالي والحاصل أنّه إذا ثبت اتحاد التّكليف من دليل خارجي حمل المجمل على المبين في مقام الإرادة أيضا دون ما لو ثبت الاتحاد بالأصل فإنّه لا يعين المراد وكذا يحمل على المبين إذا كان عدم حمله عليه مستلزما للّزوم مخالفة الظّاهر في الخطاب فإنّ أصالة عدم مخالفة الظّاهر موجبة لحمله عليه كما لو قال أكرم العلماء ثم قال لا تكرم زيدا وكان زيد مشتركا بين العالم والجاهل فإنّ أصالة عدم التّخصيص مبيّنة لإرادة الجاهل منه وكذا لو كان الإجمال في الحكم كما ذكروا الإجماع على جواز بيع المأخوذ بالمعاطاة فإنّه مجمل لاحتمال كونه حكما تعبديّا في مورده ويحتمل كونه لأجل إفادة المعاطاة للملك وأصالة عدم التّخصيص في قوله لا بيع إلاّ في ملك يبين أنّ وجه الحكم هو الاحتمال الثّاني وكالحكم بجواز التّطهير بالماء القليل لاحتمال نجاسة الماء بالاستعمال فيكون مخرجا عن عموم القاعدة وهي أنّ النّجس لا يطهر واحتمال عدم النّجاسة فلا يلزم التّخصيص وأصالة عدم التّخصيص يعين الثّاني إن لم يعارض بلزوم التّخصيص على الثّاني للقاعدة أيضا أعني نجاسة الماء القليل بالملاقاة وأمثال

 

ذلك كثيرة جدا الثّاني إذا تردد اللّفظ بين احتمالين يلزم من أحدهما كونه مجملا ومن الآخر كونه مبينا فهل هو مجمل أو لا نحو قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فإنّ الإحصان مردد بين احتمالين أحدهما أن يكون المراد التّزويج فلا إجمال والثّاني أن يكون المراد التّعفف وهو مجمل إذ لا يعلم أنّ التّعفف يحصل بأي شيء والتّحقيق أن يحمل على المعنى الأوّل لغلبة البيان في كلام الشّارع فحمله على المعنى الموجب للاحتمال حمل على خلاف الغالب وهو غير جائز الثّالث المجمل إمّا ذاتي أو عرضي فالذّاتي هو الّذي لم يقترن بالبيان أصلا والثّاني هو الّذي اقترن بالبيان ولكن عرض اختفاء المبين بسبب الحوادث وطول العهد وأكثر المجملات الموجودة في الأخبار اليوم من هذا القبيل ومحل علاجه مبحث البراءة والاحتياط وأمّا الإجمال الذّاتي فاختلفوا في أنّه هل يجوز أن يقع في كلام الشّارع من غير أن يذكر له بيان أصلا ولو في زمان الحاجة أو لا فقيل بعدمه لوجهين الأوّل أنّ الشّارع إذا ذكر المجمل فإن لم يكن غرضه الإفهام كان عبثا وسفها وإن قصد الإفهام فإن كان من غير قرينة كان قاصدا للحال وإن كان مع القرينة كان تطويلا بلا طائل وهذا الاستدلال لو تم لدل على عدم جواز الخطاب بالمشترك ولو مع القرينة وفساده ظاهر أمّا أوّلا فلأنّه إن أراد من الإفهام الإفهام الإجمالي بدون القرينة فكونه محالا ممنوع لأنّ المخاطب يفهم أنّ المراد أحد المعنيين وهذا هو ما قصده المخاطب بالإفهام وإن أراد الإفهام تفصيلا فانتفاؤه لا يستلزم العبث إذ ربما يتعلق غرض المولى باختبار العبد أنّه في أي مقام من الطّاعة فيخاطبه بالمجمل ليرى أنّه هل ممتثل بإتيان جميع المحتملات أو لا وأمّا ثانيا فلأنّ الإفهام مع القرينة ليس تطويلا إذ ربما يترتب على ذكر القرينة فائدة لا يترتب عند فقدها الثّاني أنّ التّكليف بالمجمل تكليف من غير بيان وهو قبيح وفيه أنّ انتفاء البيان إنّما يكون موجبا لقبح التّكليف إذا كان بحيث لا يتمكن المكلف من الامتثال بإتيان المحتملات احتياطا وأمّا مع إمكانه فلا يقبح التّكليف عقلا وما يقال من أنّه قبيح عرفا لأنّ المولى إذا أمر العبد بمجمل وترك العبد الاحتياط معتذرا بعدم البيان فعاقبه المولى عد قبيحا في العرف مدفوع بعدم التّسليم بل لا يبعد بناء العرف على ذم العبد التّارك للامتثال سيما إذا كان عدم البيان من المولى لعذر فافهم قال بعض الأفاضل ما ذكره بعضهم من جواز التّكليف بالمجمل ينافي ما تقرر عندهم وأقر به ذلك البعض من قبح تأخر البيان عن وقت الحاجة وذلك لأنّه أعم من أن يكون المجمل نفس التّكليف أو المكلف به فالجمع بين القولين تناقض وفيه أنّ المراد من وقت الحاجة هو وقت الاحتياج إلى البيان لا وقت الفعل

 

ولا وقت يصح الفعل وحينئذ فارتفع التّناقض فهنا دعويان أحدهما أنّ المراد بوقت الحاجة هو وقت الحاجة إلى البيان والثّانية ارتفاع التّناقض حينئذ أمّا الثّانية فظاهر لأنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك إليه لا يعين وقت الحاجة فيجب تعيينه من الخارج فنقول أمّا الإجمال في التّكليف فوقت الحاجة إلى البيان فيه وقت الخطاب أو وقت العمل على اختلاف القولين وكيف كان فالاحتياج فيه ثابت قطعا إمّا لأنّ الغرض من التّكليف حمل المكلف على إتيان الفعل بعنوان الطّاعة وهذا غير حاصل عند عدم البيان فالتّكليف بدونه عبث وأمّا استقلال العقل وبناء العقلاء على استقباح المولى إذا عاقب العبد على مخالفة التّكليف الّذي لم يتمكن العبد من تحصيل العلم به ولو إجمالا وغير ذلك من الوجوه المذكورة لأصالة البراءة عند الشّك في التّكليف وأمّا الإجمال في المكلف به فالحاجة إلى البيان فيه ثابت في مقامين أحدهما كون المكلف به ماهيّة مركبة مخترعة بحيث لا يصل إليه العقل كالصّلاة والحج مثلا فالتّكليف به قبيح من دون بيان ثانيهما كونه مرددا بين أمور غير محصورة لا يتمكن المكلف من إتيانها جميعا فالتّكليف به أيضا قبيح وأمّا إذا كان مرددا بين أمور محصورة يتمكن المكلف من إتيانها فلا قبح في التّكليف به من غير بيان ولا حاجة فيه إلى البيان كما يحكمون بذلك في الإجمال العرضي وهو الحاصل باختفاء البيان بسبب الحوادث وبالجملة لا يعتبر في التّكليف إلاّ التّمكن من العلم بالتّكليف ولو إجمالا والتّمكن من الامتثال ولو بالاحتياط ومن يجوّز التّكليف بالمجمل إنّما يجوّزه مع وجود هذين الأمرين لا مطلقا ومع وجود الأمرين ليس هناك وقت الحاجة إلى البيان حتى يقبح تأخير البيان عنه فلا تناقض وأمّا الأولى فلأنّه لا وجه لقبح تأخير البيان عن وقت الفعل أو عن وقت يصح فيه الفعل أمّا الأوّل فلأنّه لا يقبح تأخيره عن وقت نفس الفعل المطلوب إذ الفعل المجهول إن أمكن إتيانه فلا وجه لقبح تأخير البيان وإن لم يمكن فكيف يتحقق الفعل حتى يتأخر عنه البيان وأمّا الثّاني أعني عن وقت يصح فيه الفعل فلأنّه ربما يكون المكلف عاصيا لا يكون بصدد الامتثال فلا وجه لقبح تأخير البيان في حقه وكذا لا يتم في الواجب الكفائي إذا أتى به من فيه الكفاية وكذا في الواجب التّخييري إذا تمكن الشّخص من بدله فلا قبح في تأخير بيان المجمل عن وقت يصح فيه العمل في شيء من هذه المقامات وليس ذلك إلاّ لعدم كونه وقت الاحتياج إلى البيان فتأمل

تنبيهات

أحدها

اختلفوا في أنّ العام الوارد في مورد المدح أو الذّم مجمل فلا يجوز التّمسك بعمومه أو مبين ذكروا في ذلك في قوله تعالى

 

قد أفلح المؤمنون إلى قوله والّذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّه وارد في مورد مدح المؤمنين فقيل لا يمكن التّمسك بعموم المستثنى منه على عدم جواز أمر ثالث غير التّزويج وملك اليمين فلا يضر جعل التّحليل شقا ثالثا ولا يوجب زيادة التّخصيص بل العام فيه مجمل لشيوع ذكر العام في مقام المدح في العرف والعادة من باب المبالغة والادعاء كقوله وأخفت أهل الشّرك حتى أنّه لتخافك النّطف الّتي لم تخلق وشيوع ذلك قادح في ظهور العام في العموم الحقيقي حينئذ كما أنّ شيوع استعمال الأمر عقيب الحظر في رفع الحظر مانع عن ظهوره في الوجوب في ذلك المقام وقيل بل لا إجمال بل يحمل على العموم الحقيقي لأنّ مثل ذلك مبالغة مردودة لا تقع في كلام من لا يجوز عليه الإغراق والكذب بل لا يقع المبالغة في كلامه إلاّ المقبولة كقوله تعالى يكاد زيتها يضيء والشّيوع المذكور إنّما هو في كلمات الشّعراء وأمثالهم لا في العرف والعادة ليمكن تنزيل كلام الشّارع عليه وهذا أقوى ولو سلم فالحصر مستفاد في الآية من قوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون

الثّاني

اختلفوا في أنّ قوله تعالى وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين مجمل أو لا فقيل مجمل نظرا إلى أنّ الباء للتّبعيض ولا يعلم أنّ المراد أي بعض من الأبعاض أو أنّه للإلصاق فيكون مرددا بين إرادة مسح كل الرّأس أو البعض وفيه نظر أمّا على الإلصاق فلأنّه إمّا ظاهر في اقتران المسح بكل الرّأس أو ظاهر في الأعم منه ومسح البعض فيحصل الامتثال بكل منهما ولا إجمال على التّقديرين وإمّا على التّبعيض فلظهوره حينئذ في البعض المطلق فيحصل الامتثال بأي بعض كان لو لا المعين الخارجي والتّحقيق أنّ الباء في الآية للتّبعيض لتصريح أهل اللّغة بوروده له لغة ولا عبرة بإنكار سيبويه لأنّ المثبت مقدم على النّافي وكل من قال بوروده للتّبعيض لغة قال بأنّه المراد في الآية ولما ورد في الرّواية عن زرارة حيث سأل الصّادق عليه‌السلام من أين علمت أنّ المسح ببعض الرّأس فقال عليه‌السلام لمكان الباء إذ لو كان الباء للإلصاق لما كان الاكتفاء بالبعض أو تعيينه مستندا إليه وهو الظّاهر وبذلك يندفع اعتراض العامة على الشّيعة في تعيين الكعب بيانه أنّ الكعب عند الشّيعة إمّا قبة القدم أو المفصل بين السّاق والقدم وعند العامة الكعبان هما المعظمان الثّابتان في طرفي القدم واعترضوا على الشّيعة بأنّ المراد بأرجلكم إمّا أفراد الرّجل أو مجموع الأرجل وعلى الأوّل يجب أن يقال إلى الكعب لأنّ لكل رجل كعب عندكم لا كعبان وعلى الثّاني يجب أن يقال إلى الكعبان وهو ظاهر ووجه دفعه أنّ أرجلكم معطوف على مدخول الباء فيكون

 

المراد البعض فيدور الأمر بين إرادة بعض كل رجل وبعض مجموع الأرجل بأن يمسح كل أحد تمام أحد رجليه فإنّه يصدق أنّهم مسحوا بعض الأرجل فلو قال إلى الكعب أو إلى الكعاب لم يعلم أنّ المراد مسح البعض من كل رجل فتثنية الكعب قرينة على أنّ المراد مسح الرّجلين أي البعض من كل منهما وهذا بخلاف مسح الرّأس إذ لا يفرض التّبعيض بالنّسبة إلى مجموع الرّءوس إلاّ بأن يجب على الشّخص المسح برأس غيره لا يقال إنّ المراد أن يمسح كل أحد تمام رأسه ورأسه بعض الرّءوس لأنّا نقول لا يصدق حينئذ أنّ المسح وقع ببعض الرّءوس فإنّه إذا مسح كل مكلف رأسه فقد وقع المسح بكل رأس بخلاف الرّجل إذ لو مسح كل أحد أحد رجليه لم يصدق أنّه وقع المسح بكل رجل وهذا هو النّكتة في تثنية الكعب ولانتفاء التّبعيض في اليدين لم يأت بالتّثنية في المرفق بل قال إلى المرافق وحينئذ فيرد الاعتراض على العامة أنّه لو كان في كل رجل كعبان فلا يكون دلالة في الآية على وجوب مسح الرّجلين بل لو اكتفى بمسح رجل واحد إلى الكعبين صدق مسح بعض الأرجل لما عرفت من أنّ التّحقيق كون الباء للتّبعيض إلاّ أن يمنع كون العطف على الرّءوس بل هو معطوف على الوجوه ويكون الجر للجوار وفيه تكلف ظاهر هذا كله بناء على قراءة الجر وأمّا على النّصب فهو معطوف على محل الرّءوس ولا يدخل عليه التّبعيض فنجيب عن الاعتراض المذكور بأنّ الكعبين عبارة عن مجموع قبّة القدم والمفصل والمراد انتهاء حد المسح بهذه المسافة ويأتي الكلام في أنّ المنتهى أوّل المسافة أو آخرها وبعبارة أخرى المنتهى هو الكعب الأوّل أو الأخير والحاصل أنّا نسلم أنّ في كل رجل كعبين لكنّهما غير العظمين النّائبين فالإعراض مدفوع رأسا فتأمّل

الثّالث

إذا تعلق الحكم باسم فهل هو ظاهر في التّعلق بجميع أجزاء المسمى أو ظاهر في الأعم من الكل والبعض أو مجمل نحو قوله تعالى اغسلوا وجوهكم ونحو وليتراوح عليه أربعة يوما فقيل إنّ الاسم الموضوع للكل إنّما هو موضوع له في حالة الأفراد وأمّا في حالة التّركيب فهو موضوع بوضع آخر لكل جزء من الأجزاء إمّا بطريق الاشتراك المعنوي أو الاشتراك اللّفظي فاليوم في حالة الأفراد موضوع للمقدار الخاص ما بين طلوع الفجر أو الشّمس إلى الغروب وأمّا في حالة التّركيب فموضوع لكل بعض من أبعاض اليوم ولهذا يغتفر في يوم الأجير مضى مقدار من طلوع الشّمس أيضا والتّحقيق أنّه لا يختلف وضع الاسم أفرادا وتركيبا بل هو موضوع لمجموع الأجزاء مطلقا ويكفينا أصالة عدم تعدد الوضع مع أنّ الاشتراك المعنوي بين الأقل والأكثر غير معقول لانتفاء القدر المشترك بينهما لأنّ المقدار

 

الزّائد عن الأقل إن كان معتبرا في الموضوع له خرج الأقل عن أفراده وإن لم يعتبر خرج الأكثر هذا ولكن نسبة الحكم إلى الاسم المذكور تختلف باختلاف المقامات ففيما إذا جعل الزّمان مقدارا لشيء فظاهر النّسبة التّقدير بمجموع الزّمان كما في التّراوح وفي أقل الحيض وأمثاله وإذا جعل ظرفا لشيء فهو أعم من البعض والكل بل في مقام التّقدير أيضا ربما يتعارف إرادة التّقدير بالبعض كيوم الأخير فتحمل النّسبة عليه وأمّا غير الزّمان فهو أيضا يختلف باختلاف المتعارف فإذا قال اغسل جسدك فالظاهر تمام الجسد وإذا قال اغسل يدك فالظاهر غسله من الزّند مثلا لا إلى الكتف كل ذلك للتّعارف في النّسبة وليس في شيء من ذلك تصرف في معنى الاسم وما ذكروه من الأمثلة لإطلاق الاسم على بعض الأجزاء كلها محمولة على التّصرف في النّسبة كما في قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق فلم يطلق اليد على بعض العضو بل الحكم إنّما تعلق بالبعض ولا ينافي ذلك كون إلى غاية للمغسول لا للغسل كما هو مذهب الخاصة وذلك لأنّ الغسل إذا تعلق بالبعض الخاص حصل له بتبعيّة مسافة المغسول مسافة موهومة نظير الحركة بمعنى القطع الّتي تنتزع من نسبة الحركة بمعنى التّوسط إلى أجزاء المسافة وحينئذ فيكون كلمة إلى بيانا لمقدار مسافة الغسل لا بيانا لكيفيّة الغسل حتى يلزم النّكس في الوضوء

أصل المبين نقيض المجمل

فهو ما ليس فيه احتمالان فصاعدا على وجه التّساوي إمّا في نفسه أو بواسطة كونه مبينا بأمر خارج وإطلاقه على الأوّل من قبيل قولهم ضيق فم الرّكيّة أي أوجده ضيقا وهو أيضا قد يكون لفظا وقد يكون فعلا والمبين بالكسر يطلق على اللّفظ الّذي يحصل به بيان المجمل أو الفعل كذلك وهكذا البيان لكنّه قد يطلق على ما يحصل به بيان المجمل وقد يطلق على ما يبين به إرادة خلاف الظّاهر كقرينة المجاز والتّخصيص بالنّظر إلى العام إذا عرفت ذلك فهنا مطالب أحدها لا إشكال في اعتبار ظواهر الألفاظ في مقام البيان وغيره وإن لم يفد سوى الظّن وهل يكتفي بالظّنّ بكون اللّفظ واردا لبيان المجمل أو لا بل لا بد من العلم بذلك أو تصريح المتكلم بلفظ آخر دال بظاهره على أنّه في مقام البيان الحق أنّه إذا ظهر بسبب حال المتكلم أنّه في مقام البيان كان كافيا ولا يلزم العلم بذلك ولا لفظ آخر وذلك لأنّ كون المتكلم قاصدا لمعنى من المعاني من اللّفظ من الحقيقة أو المجاز أو الكناية أو المبالغة أو التّأكيد أو نحو ذلك ليس أمرا مستفادا من نفس اللّفظ ولا منه مع العلم بالوضع أو القرينة بل لا بد في ذلك من ضم مقدمات عديدة راجعة إلى ملاحظة حالة المتكلم مثل أنّه حكيم لا يفعل العبث ولا القبيح بعدم إرادة المعنى أو إرادة

 

معنى لا يستفاد من اللّفظ وأنّه في مقام بيان ما في ضميره وغير ذلك ففي كل مقام من المقامات يحتاج الحكم بإرادة المعنى المستعمل فيه من اللّفظ إلى ملاحظة هذه المقدمات فلو لا الاكتفاء فيها بالظهور لما كان للإجماع على حجّيّة ظواهر الألفاظ فائدة بعد ظنّيّة هذه المقدمات غالبا بل لو تأملت لوجدت الإجماع على حجّيّة هذا الظّهور أظهر من الإجماع على حجّيّة الظّواهر كما يظهر من ملاحظة المحاورات المتعارفة ولا معنى للحكم بلزوم بيان القصد المذكور بلفظ آخر بل ذلك مستلزم للتّسلسل لأنّ كونه قاصدا به المعنى أيضا يتوقف على بيانه بلفظ آخر حينئذ لكن لا ينبغي التّعدي عن الظّهور الناشئ من قرينة الحال إلى سائر الأمور الخارجة كما سيظهر إن شاء الله الثّاني قد عرفت عدم الإشكال في اعتبار ظهور كون اللّفظ في مقام البيان كاعتبار نفس ظاهر اللّفظ وهل يكتفى في الفعل أيضا بظهوره في مقام البيان أو لا بد من العلم بذلك وبعد العلم بكونه للبيان هل يكتفى بالظن الحاصل منه كالظّهور اللّفظي أو لا بد من العلم وأيضا هل يحصل البيان بالأمر الّذي لم يثبت حجّيّته شرعا أو لا إشكالات ربما يظهر من بعضهم اختيار الشّق الأوّل في كل من المسائل الثّلاث لوجهين أحدهما أنّ البيان ليس في عرض سائر الأدلة وإنّما هو قرينة على تعيين معنى المجمل والمدار في القرائن على الكشف عن المعنى ولو ظنا ولا يعتبر في القرينة الكشف القطعي ولا كونها حجّة بنفسها فإن الغلبة قد تكون قرينة على تعيين معنى المشترك مع أنّها غير قابلة لإثبات الأحكام وكذا قرينة الحال قد تصير سببا لتعيين المراد مع أنّها غير معتبرة بنفسها ولهذا لم يكتف جماعة بشهادة الحال بجواز التّصرف في المال الموضوع إلاّ إذا أفادت العلم وثانيهما أنّ الظّهور اللّفظي حجّة إجماعا واللّفظ المجمل بعد اقترانه بهذه الأمور يصير ظاهرا في أحد المعنيين فيكون حجّة ولا يدع في صيرورة الأمر الغير المعتبر سببا لحدوث وصف الاعتبار في شيء ألا ترى أنّ الشّهرة في نفسها ليست بحجّة مع أنّها تصير سببا لاعتبار الخبر الضّعيف بناء على القول بحجّيّة الظّن الخبري مطلقا وذلك لأنّ الشّهرة توجب حدوث الظّن بمضمون الخبر المذكور ويكون معتبرا وحينئذ فيتم المطالب الثّلاثة لأنّ الظّن بكون الفعل بيانا أو ظهوره في المعنى أو الأمر الغير المعتبر كل منها سبب لحدوث وصف الظّهور في المجمل والظّاهر حجّة وفيهما نظر أمّا الأوّل فلأنّا نسلم أنّ المدار في القرينة على الكشف ولو ظنا ولكن في الجملة لا مطلقا بل يعتبر في القرينة كونها مما يمكن اتكال المتكلم عليه عرفا في إفادة مراده ولذا تسمعهم يقولون إنّ الشّهرة لا تصلح جابرة لدلالة الخبر لعدم إمكان اتكال الإمام عليه‌السلام في إفادة مراده على الشّهرة الّتي تحدث بعد سنيين كثيرة ولا دليل على اعتبار هذه الأمور أمّا الثّاني فلأنّ محض الظّن بكون المراد من المجمل أحد المعنيين

 

بسبب هذه الأمور لا يوجب حدوث وصف الظّهور اللّفظي الّذي هو حجّة لأنّ المناط في الظّهور المعتبر كون الكلام مع ما يكتنفه من اللّواحق المعتبرة عرفا ظاهرا في شيء وهنا ليس كذلك فالتّحقيق عدم اعتبار شيء من هذه الأمور إلاّ على القول باعتبار مطلق الظّن في الأحكام الشّرعيّة وأمّا بناء على حجّيّة الظّنون المخصوصة فلا دليل على شيء منها نعم ظهور الفعل إذا كان مستندا إلى وضع الواضع لم يكن في اعتباره إشكال كالخطوط أو العقود والإشارات ونحوها لأنّ الظّواهر الوضعيّة لا فرق فيها بين الألفاظ وغيرها وأمّا غيره فلا الثّالث هل يعتبر في البيان كونه أقوى من المبين من حيث السّند ومن حيث الدّلالة أو لا الحق أنّه إن كان بيانا للمجمل فلا يعتبر فيه إلاّ كونه حجّة في نفسه إذ لا تعارض بينه وبين المبين ليرجع إلى المرجح وإن كان قرينة لصرف المبين عن ظاهره اعتبر فيه كونه أظهر دلالة من المبين ليوجب صرفه عن ظاهره ولا يعتبر كونه أقوى سندا بعد فرض كونه حجّة فيجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد فإنّ الجمع متى أمكن بالوجه المتعارف فالرّجوع إلى المرجحات السّنديّة باطل نعم لو كان قوة السّند في المبين سببا لخروج البيان عن الحجّيّة لم يجز صرفه عن ظاهره وهو خارج عن محل الكلام كالعام الموافق للمشهور فإنّه لا يخصص بالخاص المخالف له لخروج الخاص بإعراض المشهور عن الاعتبار بناء على كون مخالفة الشّهرة موهنة فافهم واغتنم قد وقع الفراغ من تسويد المجلد الأوّل من كتاب غاية المسئول في علم الأصول على يد مؤلفه الجاني محمد حسين بن محمد علي بن محمد حسين الموسوي الحسيني الشّهرستاني 1281 كتبه العبد الآثم الجاني ابن محمد علي محمد حسن الگلپايگاني

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه ثقتي

الحمد لله رب العالمين ونشهد أن لا إله إلاّ الله مخلصين ونصلي على محمد خاتم النّبيين وآله أمناء الدّين المبين سيما على أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين وبعد يقول العبد البائس الفاني محمد حسين محمد بن علي الموسوي الحسيني الشّهرستاني إنّ هذا هو المجلد الثّاني من كتاب غاية المسئول ونهاية المأمول وهو مشتمل على جملة من مسائل الأصول كحجّيّة الظّن بإطلاقه أو بخصوص بعض أقسامه وبعض الأصول العمليّة وقع التّشاجر والتّنازع فيها بين الأكابر الفحول وبالله أستعين فإنّه خير مأمول

أصل اختلفوا في التّعبد بالظّنّ هل هو ممكن عقلا أو لا وعلى الأوّل هل هو واقع شرعا أو لا

والحق في المقامين هو الثّبوت بل إثبات الوقوع يغني عن إثبات الإمكان وقد ثبت بالأدلة القطعيّة حجّيّة أمور لا تفيد إلاّ الظّن في هذه الأزمان كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله ووافقنا في حجّيّة تلك الأمور بعض الأخباريّة من الشّيعة ومع ذلك ادعوا عدم حجّيّة شيء من الظّنون وعدم وقوع التّعبد بها في الشّريعة فاعترفوا بحجّيّة أخبار الآحاد ومع ذلك ادعوا العمل بالعلم وطعنوا على المجتهدين في العمل بالظّنّ وهم في الدّعوى المذكورة فرق عديدة فمنهم من زعم أنّ الحكم الواقعي هو مدلول الأخبار لا حكم في الواقع غيره وهو علمي فلا عمل إلاّ بالعلم وذلك إمّا لقبح التّكليف بما لا سبيل إليه علما فيكون المكلف به هو ما يكون السّبيل إليه علما وليس إلاّ مدلول الأخبار فيكون هو المكلف به وإمّا لأنّ المفروض أنّ الشّارع خاطب بتلك الألفاظ في مقام إفادة الحكم الواقعي والخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه قبيح فلا يصدر من الحكيم تعالى فالحكم الواقعي ليس إلاّ مدلول الخبر وهو وإن كان ظنّيّا مع قطع النّظر عن المقدمة المذكورة لكنّه علمي بعد ملاحظتها ومنهم من زعم أنّ الحكم الواقعي في كل واقعة واحد ثابت عند الإمام عليه‌السلام لا يختلف باختلاف الأفهام وأنّ النّاس مكلفون بطلب ذلك الحكم من الأخبار المعتبرة فإذا اجتهد الشّخص وفهم من

 

الخبر حكما فهو وإن كان ظنا لاحتمال كونه مخالفا للواقع لكنّه يكون علما بملاحظة أنّ الإمام عليه‌السلام يجب عليه من باب اللّطف ردع من خطأ في الاجتهاد من العلماء وإلاّ لانتفى وجه الحاجة إليه وقد ورد في الأخبار أيضا أن من شأن الإمام عليه‌السلام رفع ما يقع في الّذين من زيادة أو نقيصة وحكاية المفيد رحمه‌الله وقول الإمام عليه‌السلام له منك الخطأ ومنّا التّشديد مشهور وحينئذ فإذا لم يرد ردع على المجتهد علم أنّ ما فهمه هو الحكم المطلوب منه واختلافه مع الحكم الواقعي إن كان فهو لا يضر لأنّه بحسب ما يراه الإمام عليه‌السلام من المصلحة قد انطبع الواقع في ذهن المكلف بصورة أخرى مطابقة للمصلحة فالاختلاف إنّما هو في الصّورة وإلاّ فالحقيقة واحدة كالبياض المشاهد من وراء منظرة خضراء يرى أخضر مع أنّه بياض فالبياض هو الّذي ظهر بصورة الخضرة لا أنّ الحقيقة قد تبدلت هذا حاصل ما ذهب إليه طوائف الأخباريّة والكل ظاهر الفساد أمّا ما ذهب إليه الفرقة الأولى فيدفعه أوّلا ما ورد في الأخبار المتواترة واتفقت عليه الإماميّة من اتحاد الحكم الواقعي وعدم اختلافه باختلاف الظّنون والآراء فإنّهم إن أرادوا بالمدلول المدلول الواقعي فيكون هو المكلف به فلا ريب في أنّ الطّريق إليه هو الظّن لاختلاف المجتهدين فيه والكل ليس مدلولا واقعيّا فعاد المحذور وهو التّعبد بالظّنّ طريقا وإن أرادوا بالمدلول ما يظن المجتهد أنّه مدلول فهو المكلف به فلازمه أنّ الظّن به شرط التّكليف وموضوع له فهذا هو عين مذهب التّصويب بل أدون منه لأنّ الظّن عند المصوّبة يلحظ بالنّسبة إلى الواقع فيكون الظّن بالواقع موضوعا للحكم عندهم وعند هؤلاء بالنّسبة إلى مدلول الدّليل وكلاهما مشتركان في القول بتبعيّة الحكم الظّن المجتهد من غير جعله حجّيّة من باب الطّريقيّة إلى الحكم الواقعي الأوّل كما يقوله المجتهدون وفساده ظاهر وثانيا أنّ ما ذكروه في وجه الاستدلال من قبح التّكليف بما لا سبيل إليه علما مسلم لكن لا يلزم منه كون المكلّف به في الواقع هو مدلول الخبر ضرورة أنّ التّكليف يتبع المصلحة وانسداد باب العلم إلى ما فيه المصلحة المقتضية للتّكليف حدوث المصلحة فيما يمكن تعلق العلم به وهو ظاهر وأيضا لا نسلم كون مدلول الخبر علميّا ضرورة كونه مما يحتمل فيه إرادة خلاف الظّاهر فلا يتم الوجه الأوّل بضميمة الوجه الثّاني من قبح إرادة خلاف الظّاهر بلا قرينة وهو أيضا لا يثبت المدعى أعني العمل بالعلم وذلك لأنّ الإرادة من اللّفظ فرع صدور اللّفظ من الحكيم وهو غير معلوم غاية الأمر ثبوت حجّيّة تلك الأخبار بالقطع حتى عند الأصوليين من غير حاجة إلى تلك المقدمة وهي لا توجب قطعيّة صدور اللّفظ من الإمام عليه‌السلام حتى يكون مدلوله قطعيّا بالنّسبة إلى الحكم الواقعي نعم يكون لزوم العمل به قطعيّا وأمّا أنّه نفس الواقع أو بدله أو شيء آخر فلا يعلم من ذلك ثم إنّ ذكر تلك المقدمة حينئذ مستدرك إذ لا ربط لها بإثبات هذا المطلب نعم لو

 

أريد إثبات حجّيّة الخبر بآية النّبإ مثلا صح إتمامه بالمقدمة المذكورة على إشكال فيه أيضا وكذا من ادعى قطعيّة صدور الأخبار المجموعة في الكتب الأربعة وهم فرقة ثالثة من الأخباريّة أمكنه التّمسك بالمقدمة المذكورة لإثبات كون المدلول علميّا بالنسبة إلى الواقع لكن يرد عليه الإيراد الأوّل مع فساد دعواهم رأسا في القطعيّة لما حقّقناه في تحقيق الأدلّة وسيأتي تفصيله إن شاء الله وأمّا ما ذهب إليه الفرقة الثّانية فيدفعه أنّهم إن أرادوا أنّ الظّن بسبب ملاحظة لزوم التّسديد يكون علما بالنظر إلى الحكم الواقعي بعد ثبوت حجّيّته بدليل آخر فلا ريب في أنّ تجويز مخالفته للواقع حتى بعد التّسديد حينئذ فاسد لأنّ العلم لا يحتمل فيه المخالفة والقياس على المنظرة فاسد لأنّ المعلوم في المقام هو الحكم الخاص كالوجوب مثلا وقضيّة مطابقة العلم للمعلوم أن يكون الواقع أيضا هو الوجوب وإلاّ لم يكن علما بل جهلا مركبا فلا يمكن أن يكون الواقع هو الحرمة ويحصل العلم بأنّه الوجوب والقول باتحاد الحقيقة لا ينفع لأنّ المفروض تعلق العلم بالكيفيّة لا بالحقيقة فلا يجوز اختلاف الكيفيّة أيضا وأمّا مثال المنظرة فالمشاهد فيه إنّما هو الجسم متلبسا بلون الخضرة وكون الخضرة لونا للجسم المرئي ليس مشاهدا وإنّما هو توهم نشأ من اقتران لون المنظرة بلون الجسم فتوهم أنّها لون الجسم وليس المقام من هذا القبيل لعدم إمكان تخلف العلم عن المعلوم ولا موجب للوهم ولا مدخل له في المقام أصلا مع أنّ المحقق في محله تضاد الأحكام الشّرعيّة ودعوى اتحاد الحقيقة غير مسموعة مضافا إلى أنّ كل ذلك عرفان واستحسان لا وقع له عند أرباب الحقيقة والإتقان وإن أرادوا أنّ الظّن بسبب لزوم التّسديد يكون معلوم الحجّيّة ففيه أنّ حجّيّة الظّنّ لا بد أن تنتهي إلى دليل قطعي حتى عند الأصوليين غاية الأمر أنّهم يثبتونها ببرهان الانسداد أو أنتم بدليل التّسديد وهذا لا يوجب الطّعن مع أنّ دليل التّسديد عليل في إثبات هذا المطلب ضرورة أنّ لزوم التّسديد إنّما هو فرع كون الشّخص مكلفا بالعمل بالظّنّ وأمّا مع عدمه فلا دليل على لزوم الرّدع ولهذا لو حصل الظّن من القياس لم يجب على الإمام عليه‌السلام التّسديد حيث أنّه لم يثبت حجّيّته فافهم هذا مع أنّ لزوم التّسديد حتى عند ثبوت حجّيّة الظّن أيضا فاسد لوقوع خلافه في الخارج ضرورة اختلاف الظّنون في مسألة واحدة والمفروض اتحاد الحكم الواقعي فلو كان الرّدع لازما لزم كون غير واحد من المجتهدين مقصرا في عدم الارتداع عن ردع الإمام عليه‌السلام وهو خلاف مذهبهم إلاّ أن يدعو اختلاف المصلحة حيث تعلق الظّن بخلاف الواقع بحيث صار المظنون واقعيّا ثانويّا نظير لزوم الغسل حال التّقيّة فهو وإن كان ظنا بالنّظر إلى الحكم الواقعي لكن عدم الرّدع منه مع جعله حجّة سبب للعلم بأنّه الحكم المطابق للمصلحة بالنّسبة إلى هذا الظّان بحيث لو سئل الإمام عليه‌السلام حال حضوره لأجابه بالحكم المذكور وهذا دعوى أخرى لا اختصاص لها بالأخباريين بل القائل بها موجود من الأصوليين أيضا لكن من وجه آخر

 

وحاصله أنّ تعلق الظّن المعتبر بحكم مخالف للحكم الواقعي يوجب حدوث مصلحة في ذلك الحكم يتدارك بها المصلحة الفائتة الثّابتة في الحكم الواقعي وإلاّ لزم تفويت المصلحة الواقعيّة من إيجاب العمل بالظّنّ وعندنا أن شيئا منهما غير لازم لجواز كون السّبب لجعل الظّن حجّة هو التّحفظ على مصلحة الواقع بقدر الإمكان فإنّهم لما صاروا بأنفسهم سببا لانسداد باب العلم وغيبة الإمام عليه‌السلام دار الأمر بين ارتفاع التّكليف رأسا وتفويت جميع المصالح وبين التّكليف بمقدار يساعده الأمور الظّنيّة المطابقة للواقع غالبا ولا ريب في أنّ مقتضى اللّطف هو الثّاني فوجب في الحكمة إيجاب العمل بمقتضى تلك الظّنون المطابقة للواقع ولما كان موارد المطابقة مشتبهة غير ممتازة عن موارد التّخلف وجب العمل بالجميع تحفظا على موارد المطابقة لحفظ المصلحة الواقعيّة بقدر الإمكان نظير أوامر الاحتياط عند الشّك في المكلف به إذ ليس فيها مصلحة إلاّ مصلحة الواقع وهو ظاهر ولو سلم فليس هذا مما يجعل محلا للنّزاع ومحلا للطّعن واللّعن كما لا يخفى هذا مضافا إلى الأخبار الواردة في أصالة البراءة عند الشّك في التّكليف مما فيه تجويز مخالفة الواقع عند الجهل به فلو كان التّسديد واجبا لكونه لطفا في التّكليف لم يكن مورد للجهل حتى يحتاج إلى أصالة البراءة وهكذا الاحتياط وسائر الأصول المعتبرة عند التّحيّر والشّك وأمّا ما ورد في الخبر من لزوم رفع الزّيادة والنّقيصة فليس فيه دلالة على كيفيّة الرّفع وأنّه بنحو الإلهام أو بالطّريق المتعارف الّذي يعتبر فيه التّمكن وعدم الخوف كما هو شأن الأئمة عليهم‌السلام في زمان حضورهم عليهم‌السلام إذ لا فرق بين حضورهم عليهم‌السلام وغيبتهم عليهم‌السلام ولا ريب أنّ ردعهم في زمان الحضور لم يكن خارجا عن الطّريق المتعارف وكان متوقفا على عدم الخوف والتّقيّة ونحوهما فكذا في زمان الغيبة وبالجملة فساد هذه الأقوال أظهر من أن يحتاج إلى بيان أو أن يتوقف على برهان سيما الأخير فإنّ لزوم التّسديد بالنّسبة إلى المجتهدين المختلفين في الحكم بسبب اختلافهما في فهم دلالة الخبر مثلا يوجب نسبة الإضلال إلى الإمام عليه‌السلام وذلك أنّ اللّفظ ليس له في الواقع دلالة تامة إلاّ على حكم واحد والآخر أخطأ في فهم الخبر حيث زعم غير المدلول مدلولا وهم يقولون إنّ ذلك من جهة أنّ الإمام عليه‌السلام أوقع هذا المعنى في فهم ذلك المجتهد لكون ما فهمه منه هو الحكم له بحسب مصلحته واستعداده ولا ريب أنّ الفهم المذكور خطأ قطعا فالإمام عليه‌السلام هو الّذي أوقعه في الخطإ فهو تضليل مقدمة للإرشاد ونسبة ذلك إلى الإمام عليه‌السلام ليس إلاّ من الإلحاد مع عدم المقتضي لهذه التّكلّفات إلاّ العجز عن شبهة اعترض بها العامة على الإماميّة حيث أوجبوا العصمة الإمام عليه‌السلام بأنّكم تجوزون الخطأ على المجتهدين الّذين هم الوسائط فلم لا تجوزونه في الإمام عليه‌السلام فالعجز عن الجواب ألزمهم إيجاب عصمة المجتهدين أيضا مع أنّ الجواب ظاهر لأنّ الوجه في وجوب العصمة ليس هو وصول كل أحد إلى الواقع علما ولو بغير النّحو المتعارف وإلاّ لوجب عصمة جميع الخلق بل الوجه في عصمة الإمام عليه‌السلام

 

وهو قطع النّزاع وعدم إمكان الاعتراض عليه بوجه حتى من مجتهد آخر ولو لم يكن معصوما لكان لغيره القدح في فتواه ورميه بالخطإ والشّهود دعوى العلم بخلاف ما يفتي به وأمّا المعصوم فلا يمكن ذلك بالنّسبة إليه وأمّا عدم وصول الواقع إلى الخلق فإنّما هو لعدم وجوب التّكليف مطلقا حتى مع عدم وجود الطّريق العلمي بالأسباب المتعارفة بل الواجب في اللّطف هو التّكليف فيما يكون طريق العلم إليه موجودا بالأسباب المتعارفة وهو مما يفتقر إلى البعث ونصب الإمام عليه‌السلام وتكليف الخلق بالاستعلام منه ونقل الحاضرين إلى الغائبين والواجب من هذه الأمور على الله تعالى من باب اللّطف هو بعث الرّسول ونصب الإمام عليه‌السلام وتكليف الخلق بالأخذ منه وأمّا عدم منع الإمام عليه‌السلام من التّبليغ والاستعلام منه والنّشر في البلاد فإنّما يجب على الخلق فإذا قصروا في ذلك وكانوا سببا لغيبة الإمام عليه‌السلام وانسداد الطّريق العلمي فلا نسلم وجوب التّكليف حينئذ على إطلاقه بل إنّما يجب حسب ما يساعده الطّريق الظّنّي الّذي ربما يطابقه وحيث لم يكن موارد المطابقة معينة حكم بلزوم العمل بالكل مقدمة لما أشرنا إليه هذا كله مع أنّ التّسديد لو كان فإنّما يتعقل في المجتهدين وأمّا في المقلدين المخيرين في تقليد أيهم شاءوا فلا معنى لتسديدهم إلاّ أن يلهمهم الإمام عليه‌السلام تقليد من يطابق فتواه الحكم الواقعي المطابق لمصلحة ذلك المقلد ظهورا وانكشافا في ذهن المجتهد وهذا معنى عصمة الخلق طرا وهو أظهر فسادا من التّصويب الّذي ذهب إليه العامة فافهم وهناك فرقة أخرى من الأخباريّة ادعوا العمل بالعلم من جهة دعوى قطعيّة الأخبار المودعة في الكتب الأربعة دلالة وسندا فيكون العمل بها في هذا الزّمان كالعمل بما يسمع من لفظ الإمام عليه‌السلام فكما أنّه علمي بمعنى أنّه الحكم المطلوب من المكلف المطابق للمصلحة الواقعيّة فكذا العمل بهذه الأخبار أمّا قطعيّة الدّلالة فبما تقدم سابقا من قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه وأمّا قطعيّة السّند فتبينوها بوجهين أحدهما ما سبق الإشارة إليه من أنّ فائدة الإمام المعصوم سد الخلل الواقع في الشّرع وإيصال العباد إلى الأحكام الواقعيّة فلو كان تلك الأخبار مع وجوب العمل بها اتفاقا موضوعا ومجعولا لكان على الإمام عليه‌السلام الرّدع والبيان وحيث لم يكن ذلك فهي صحيحة قطعا والجواب ما تقدم من أنّ لزوم الإمام عليه‌السلام المعصوم إنّما هو لكونه لطفا من جانب الله تعالى ليكون رادعا عن الخطإ بحسب الأسباب المتعارفة الّتي لا تنافي اختيار العباد لأنّ اللّطف هو التّقريب إلى الطّاعة من غير الوصول إلى حد الإلجاء وأمّا وجوب التّصرف والرّدع فعلا فهو مشروط بعدم المانع من جانب الخلق وحيث تحقق المانع فلا يجب الرّدع بما يخرج عن الطّريق المتعارف وهذا مراد من قال إنّا نعمل بهذه الأخبار إذا كان هناك إمام معصوم من شأنه سد الخلل بالنحو المتعارف وأمّا مع فقده فلا يجوز العمل بها لإمكان أن يقع فيها خلل يمكن سدها بالنحو المتعارف فعدم نصب من يسدها مناف

 

للّطف الواجب على الله تعالى من باب الحكمة فلو فرض عدم النّصب لكان التّعبد بهذه الأخبار قبيحا ونقضا للغرض ومع ذلك فينتفي التّكليف لفقدان الطّريق وهو أيضا خلاف اللّطف فحيث لزم التّكليف لزم نصب الإمام عليه‌السلام ثم التّعبد بالأخبار فلا يرد حينئذ إيراد العامة بأنّه إذا جاز خطأ الوسائط جاز خطأ كلها فلا يجب نصب الإمام عليه‌السلام بل يكفي الوسائط عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا حاجة إلى التزام وجوب سد الخلل فعلا على الإمام عليه‌السلام ولو بغير النّحو المتعارف إذا منعوه من النّحو المتعارف باختيارهم لعدم الدّليل عليه عقلا ولا نقلا لأنّ ما ورد من أنّ الإمام عليه‌السلام يرفع الزّيادة والنّقيصة ويسد الخلل إنّما المراد به ما كان ممكنا بالنّحو المتعارف وأنّه شأنه ذلك لو لا الموانع الاختياريّة الصّادرة عن العباد عصيانا وظلما ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل وما أنزل الله إليهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولو أنّهم ردوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم والثّاني احتفاف تلك الأخبار بقرائن كثيرة توجب العلم بصحتها وصدورها عن المعصوم عليه‌السلام ومرجع ما ذكروه طرا إلى مقدمات ثلاثة قطعيّة بزعمهم أحدها تواتر الكتب الأربعة عن المحمدين الثّلاثة بحيث ليس هناك شك لأحد في كونها منهم والثّانية أنّ المحمدين الثّلاثة صرحوا بأنّ أخبار كتبهم مأخوذة عن الأصول المعتبرة الأربعمائة وشهدوا بذلك حتى أنّ الكليني جعل أخبار كتبه حجّة بينه وبين ربه ونحن نعلم قطعا أنّهم لم يتعمدوا الكذب في ذلك وليس الخطأ في المحسوسات مما يعتنى باحتماله عند أحد من العقلاء والثّالثة أنّ تلك الأصول كلها أخبار صحيحة يقطع بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام سيما ما انتخب منها وأثبت في الكتب الأربعة وهذه الدّعوى لا تختص بالأخباريين بل وافقهم في ذلك جماعة من الأصوليين واستظهروها من ملاحظة كيفيّة ورودها إلينا وكيفيّة اهتمام أرباب الكتب الأربعة ومن تقدم عليهم في تنقيح ما ودعوه في كتبهم وعدم الاكتفاء بمحض وجدان الرّواية في كتاب وإيداعها في كتبهم حذرا من كون ذلك الكتاب مدسوسا فيه من بعض الكذابين بل كان مدارهم على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب أو ممن سمعه منه مع الاطمئنان التّام بالوسائط وشدة وثوقهم بهم حتى أنّهم ربما كانوا يتبعونهم في تصحيح الحديث ورده كما اتفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه محمد بن الحسن بن الوليد رحمه‌الله وقد حكي عن جماعة منهم التّحرز عن الرّواية عمن يروي من الضّعفاء ويعتمد المراسيل وإن كان ثقة في نفسه بل عمن كان يعمل بالقياس مع أنّ عمله لا يقدح في الرّواية وكانوا يتوقفون في روايات من كان على الحق فعدل عنه وإن كانت حال استقامته حتى أذن لهم الإمام عليه‌السلام مضافا إلى أنّ الدّاعي إلى شدة الاهتمام موجود وهو كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قوام الشّرع المتين وقد وقع الحث الأكيد من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطّاهرين عصرا بعد عصر على ضبط الأخبار و

 

تدوينها ونشرها وحفظها لتكون مرجعا لمن يأتي بعدهم حذرا من تضييع من في الأصلاب هذا مع أنّ جملة من تلك الأصول قد عرضت على الأئمة عليهم‌السلام فصححوها فما ورد من الكذب والوضع والدّسيسة لا يقدح في القطعيّة لأنّها إنّما كانت قبل النّقد والانتخاب كيف وقد كان الأصحاب شكر الله تعالى سعيهم من زمان الصّادقين عليه‌السلام إلى زمان أرباب الكتب مما يقرب من ثلاثمائة سنة في غاية الاهتمام في تنقيح الأخبار وتهذيبها وحفظها حتى حكي أنّ محمد بن مسلم حفظ ثلاثين ألف حديثا عن الباقر عليه‌السلام وستة عشر ألفا عن الصّادق عليه‌السلام ويونس بن عبد الرّحمن ألف مائة كتاب في رد العامة وجابر بن يزيد حفظ سبعين ألفا مما أمر بنشره وروايته وسبعين ألفا مما أمر بكتمانه ونقل عن الحسن بن علي الوشاء أنّه قال إنّي أدركت في هذا المسجد مائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد عليه‌السلام وقد حكي أنّ الرّواة عن الصّادق عليه‌السلام تبلغ إلى أربعة آلاف وأيضا من المعلوم أنّ الأصول الأربعمائة تشترك في أحاديث كثيرة ولا ريب في أنّ الخبر إذا كان مرويّا بأربعمائة طريق يكون قطعيّا ولهذا حكي عن بعضهم أنّ التّدوين في الكتب الأربعة أوجب خروج تلك الأخبار عن التّواتر لإسقاط الطّرق والاقتصار على طريق واحد للاختصار ويؤيد ذلك تصريح السّيد المرتضى وابن إدريس ومن عاصرهما بأنّ جل الفقه يستفاد من الأخبار المتواترة فكان تواتر الأخبار من المسلمات عندهم وكيف يخفى مثل هذا الأمر على السّيد ونظرائه وغير ذلك من القرائن والأمارات الّتي يحصلها المتتبع في الآثار والمنتقد للأخبار هذا مع أنّ أصحاب الكتب الأربعة على وثاقتهم وعلو شأنهم شهدوا بقطعيّة أخبار كتبهم مع الإذعان بكونها مأخوذة من كتب الأصول وهذا هو شهادة بقطعيّة الأصول ألا ترى إلى الفقيه حيث قال في أوّل كتابه ما هذا حاصله أنّي لم أجر في كتابي هذا على طريقة المصنفين في ذكر كل ما رووه من الأخبار بل اقتصر على ذكر ما أقطع على صحته وأفتى به وجميعها مذكورة في الكتب المشهورة الّتي إليها المرجع وعليها المعول فإنّ الصّحة عند القدماء يطلق على معان ثلاثة أحدها ما يقطع على صدوره والثّاني ما يقطع على صدوره ووجوب العمل به لعدم معارض أقوى والثّالث ما يقطع بصحة مطابقته للواقع والضّعيف مقابلها وكيف كان يثبت قطعيّة الأخبار بإحدى المعاني وهو كاف في المقام واعترض عليه بأن تصريح الصّدوق بأنّه ليس بناؤه على طريقة سائر المصنفين يدل على أنّ بناء المصنفين ذكر ما لا يعتمد عليه من الأخبار أيضا ولا ريب في دخول أصحاب الأصول في المصنفين فيدل على عدم قطعيّة أخبار الأصول ولما صرح أن أخبار كتابه مأخوذة منها دل على عدم قطعيّتها أيضا وأجيب أوّلا بأن المراد غير أصحاب الأصول لتصريحه بالتعويل على الأصول والاعتماد عليها وثانيا بأنّ مراده من طريقة المصنفين هو ذكر ما يعمل به لا لعدم صدوره قطعا بل لوجود المعارض الأقوى فهو لا يذكر إلاّ ما يعمل به لقوله وأفتى به وثالثا

 

سلمنا أنّ طريقة أصحاب الأصول ذكر الأخبار الصّحيحة والضّعيفة لكن لا على وجه يشتبه الأمر بل إنّما ذكروا الضّعيفة مع التّصريح بضعفها لئلا يختلط الأمر فالصدوق ترك ذلك واقتصر على الصّحيحة ولا يقدح ذكر الضّعيفة ممتازة في قطعيّة الصّحاح وانظر إلى ما ذكره الشّيخ في التّهذيب بعد أن بين وجه التّصنيف حيث قال ما لفظه وسألني أي بعض الأصدقاء أن أقصد إلى رسالة شيخنا أبي عبد الله أي المفيد ره المسماة بالمقنعة إلى أن قال وأذكر مسألة مسألة فأستدل عليها إمّا من ظاهر القرآن عن صريحه أو فحواه أو دليله أو معناه وإمّا من السّنة المقطوعة بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار الّتي تقترن إليها القرائن الّتي تدل على صحتها وإمّا من إجماع المسلمين إن كان فيها أو إجماع الفرقة المحقة ثم أذكر من بعد ذلك ما ورد فيه من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك وأنظر ما ورد بعد ذلك مما ينافيها ويضادها وأبين الوجه فيها إمّا بتأويل أجمع بينها وبينها أو أذكر وجه الفساد فيها إمّا من ضعف في أسنادها أو عمل العصابة بخلاف متضمنها إلى آخر ما قال فإنّه صريح في أنّ الأخبار الّتي عمل بها الشّيخ كلها مقطوع بها من تواتر أو احتفاف بقرائن القطع وقال أيضا في الإستبصار والعدة ما حكي عنهما من أنّ الأخبار عندهم على وجوه أربعة منها المتواتر ومنها المحفوف بقرائن القطع ومنها ما أجمع الأصحاب على روايته ومنها ما أجمعوا على صحته والعمل به وهذا أيضا صريح فيما قلناه وأنظر إلى ما ذكره الشّيخ الجليل الكليني رحمه‌الله في ديباجة الكافي فإنّه كاف في المطلوب حيث قال والشّرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه وبعلم ويقين وبصيرة ليكون المؤدى بها محمودا عند ربه إلى أن قال وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرّواية فيها وإنّك تعلم أن اختلاف الرّواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها إلى أن قال وقلت إنّك تحب أن يكون عندك كتاب كاف بجميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدّين والعمل به بالآثار الصّحيحة عن الصّادقين عليهم‌السلام والسّنن القائمة الّتي عليها العمل وبها يؤدى فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن قال وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سئلت وأرجو أن يكون بحيث توخيت انتهى فقد ذكر أولا أن الشّرط من الله على العباد أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين ثم ذكر أنّك سألت تأليف ما يأخذ منه من يريد علم الدّين والعمل به من الآثار الصّحيحة الّتي يؤدى بها فرض الله ولازم ذلك أن يكون العامل بتلك الآثار عاملا بالعلم واليقين بحسب الشّرط المتقدم ثم ذكر أنّ الله يسر تأليف ما سئلت ولازمه أن يكون الأخبار المجموعة في كتابه كلها قطعيّة من الآثار الصّحيحة الّتي يؤدى بها فرض الله تعالى وهو المطلوب مضافا إلى ما مر من أنّ معنى

 

الصّحيح عند القدماء هو المقطوع به بأحد المعاني المتقدمة هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول وكله يرجع إلى مقدمتين إحداهما أنّ بناء القدماء إنّما هو على الاقتصار على الأخبار القطعيّة دون غيرها والثّانية أنّ حصول القطع لهم يستلزم حصوله لنا أيضا أمّا المقدمة الأولى فممنوعة بل الّذي يظهر من مراجعة كلماتهم أنّ بناءهم على العمل بالأخبار الّتي يعتمد صدورها وإن لم تكن مقطوعة الصّدور فما يدل على ذلك ما ذكره الشّيخ رحمه‌الله في العدة حيث قال وأمّا ما اخترته من المذهب فهو أنّ الخبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويا عن النّبي أو عن أحد الأئمة عليهم‌السلام ولا يكون ممن يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدل على صحة ما تضمنه الخبر جاز العمل به والّذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي دونوها في أصولهم إلى أن قال فإن قيل يحتمل أنّ عملهم إنّما كان لأجل احتفافها بقرائن الصّحة قلنا القرائن منحصرة في أمور مخصوصة كالكتاب والسّنة والإجماع والتّواتر ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل الّتي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك لأنّها أكثر من أن تحصى ولا يوجد تلك القرائن إلاّ في نادر منها ومن قال عند ذلك إنّي متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشّرع به وهذا أحد يرغب أهل العلم عنه ومن صار إليه لا يحسن مكالمته لأنّه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشّرع خلافه انتهى ملخصا فانظر إليه حيث ادعى إجماع الإماميّة قديما وحديثا على العمل بخبر الواحد المعرى عن قرائن الصّحة وادعى خلو أكثر الأخبار عن قرائن الصّحة إذ لو كانت الأخبار الغير القطعيّة نادرة لم يلزم من طرحها خلو أكثر الأحكام عن الدّليل ليلزم من طرحها والرّجوع إلى حكم العقل مخالفة الضّرورة ومما يدل على ذلك أيضا ما ذكره الصّدوق في كتبه مما يدل على اعتماده على أمور لا توجب القطع لمن كان من أهل الفطانة منها ما حكي عن عيون الأخبار أنّه روي فيه رواية عن محمد بن عبد الله المسمعي ثم قال كان شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد سيئ الرّأي في محمد بن عبد الله راوي هذا الحديث وأنا أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنّه كان في كتاب الرّحمة لسعد بن عبد الله الأشعري وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي انتهى فإنّه اعتمد على الخبر بمحض عدم إنكار الشّيخ ومنها ما ذكره في الفقيه في باب ما يصلى فيه وما لا يصلى فيه من الثّياب حيث قال سمعت مشايخنا يقولون لا يجوز الصّلاة في العمامة الطّابقيّة إلى آخره فإنّ ظاهره عدم القطع بكون هذا الحكم صادرا عن المعصوم عليه‌السلام ومنها ما ذكره في باب الزّراعة والإجارة وسألت شيخنا محمد بن الحسن رحمه‌الله عن رجل آجر ضيعته هل له أن يبيعها قال ليس له بيعها قبل انقضاء مدة الإجارة إلاّ أن يشترط على المشتري الصّبر إلى انقضائها وظهوره في عدم

 

القطع ظاهر لاستناد فتواه إلى فتوى شيخه ومعلوم أنّه لا يفيد القطع غاية الأمر إيراث الاطمئنان لكثرة الوثوق ومنها ما ذكره في باب الوصي يمنع الوارث ماله فيزني الوارث بعد بلوغه فذكر فيه رواية على أنّ ثلثي الإثم على الوصي ثم قال ما وجدت هذا الخبر إلاّ في كتاب محمد بن يعقوب وما رويته إلاّ من طريقه فكيف يدعي العاقل تواتر مثل هذا الحديث الّذي لم يكن في شيء من الأصول إلاّ أن يقال لم يكن عند الصّدوق من تلك الأصول ما كان فيه هذا الحديث وهو كما ترى ومنها الرّوايات الّتي يذكرها ثم يقدح في سندها بالإرسال والقطع ومع ذلك يفتي بها منها ما ذكره في باب مقدار الماء للوضوء فإنّه روى حديثا ظاهره استحباب تثنية الغسل فطعن فيه بانقطاع الإسناد ومع ذلك أفتى به بناء على أنّ المراد منه تجديد الوضوء فإنّ ملاحظة ترجيح السّند لا يكون في القطعيّات ومنها ما ذكره في باب الصّلاة في شهر رمضان وممن روى الزّيادة في التّطوع في شهر رمضان زرعة عن سماعة وهما واقفيان قال سألته عن شهر رمضان إلى أن قال وإنّما أوردت هذا الخبر في هذا الباب مع عدولي عنه وتركي لاستعماله ليعلم النّاظر في كتابه هذا كيف يروي ومن رواه وليعلم من اعتقادي أني لا أرى بأسا باستعماله ومنها ما ذكره في باب ما يصلى فيه وما لا يصلى فيه من الثّياب وأمّا الحديث الّذي روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لا بأس أن يصلي الرّجل والنّار والسّراج والصّورة بين يديه إلى أن قال فهذا حديث يروى عن ثلاثة من المجهولين بإسناد منقطع يرويه الحسن بن علي الكوفي وهو معروف عن الحسين بن عمرو عن أبيه عن عمر بن إبراهيم الهمداني وهم مجهولون يرفع الحديث قال قال أبو عبد الله ذلك ولكنّها رخصة اقترنت بها علة صدرت عن ثقات ثم اتصلت بالمجهولين والانقطاع فمن أخذ بها لم يكن مخطأ بعد أن يعلم أنّ الأصل هو النّهي وأنّ الإطلاق رخصة والرّخصة رحمة إلى آخره فلو كان هذا الحديث قطعي الصّدور لما كان يطعن في سنده بالنّحو المذكور ثم يقبلها من جهة القرائن المذكورة ثم إنّ ذيل عبارة الصّدوق لا يخلو عن إشكال فقد نقل في معناه وجوه أحدها أنّ المراد نفي البأس في الخبر رخصة اقترنت بها علة أي الاضطرار في أصل المبدإ وكانت تلك العلة صادرة عن الثّقات ثم لما اتصلت بالمجهولين والانقطاع حذفوا العلة المذكورة فالعمل بالخبر في صورة الاضطرار رخصة والأصل هو النّهي نسب هذا المعنى إلى المجلسي رحمه‌الله الثّاني أنّ المراد أنّها رخصة اقترنت بها علة وهي التّعليل المذكور في الخبر وهذه الرّوايات صدرت عن الثّقات وهم الوسائط بين الصّدوق وبين الحسن بن علي الكوفي ثم اتصلت بالمجهولين إلى آخره وهذا المعنى لا يناسب ذيل الكلام الثّالث وهو الّذي ظهر في النّظر القاصر وحكي عن المحقق القمي رحمه‌الله أنّ المراد أنّها رخصة اقترنت بها علة وهي العلة المذكورة في الخبر صدرت تلك العلة عن الثّقات في غير مورد الخبر وهو الخبر الوارد في الصّلاة

 

مع مرور النّاس بين يدي المصلي فقد روى نفس البأس فيه معللا بأنّ الّذي يصلى له أقرب إليه من حبل الوريد ثم اتصلت هذه العلة بالمجهولين والانقطاع فمن عمل بها نظرا إلى عموم العلة في تلك الأخبار الّتي هي قرينة صدق هذا الخبر لم يكن مخطأ لكن يجب عليه أن يعتقد أنّ الأصل الّذي ينبغي البناء عليه هو النّهي للأخبار المتضمنة له وأنّ الإذن رخصة وحاصله حمل أخبار النّهي على الكراهة والحاصل أنّه يظهر من كلمات هذه الشّيوخ الأجلة أنّهم كانوا يعتمدون في قبول الأخبار على ما لا يحصل منه العلم عادة ويقدحون في بعضها بما لا يكون انتفاؤه موجبا لحصول العلم ككون الراوي مجهولا مثلا فإنّ معنى كونه قادحا أنّه لو لم يكن مجهولا كان مقبولا ومن المعلوم أنّ معلوميّة الراوي لا يوجب حصول العلم من قوله هذا مع أنّ المشايخ كثيرا ما يطعن بعضهم على ما عمل به الآخر فلا يمكن كونه مقطوعا به عندهما معا ألا ترى أنّ الصّدوق رحمه‌الله أورد في كتاب الصّوم في باب النّوادر الأحاديث الدّالة على أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا مثل رواية حذيفة بن منصور بطريقين ورواية محمد بن إسماعيل عن محمد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه ثم قال من خالف هذه الأخبار وذهب إلى الأخبار الموافقة للعامة اتقى كما يتقى من العامة مع أنّ الشّيخ بالغ في الطّعن على حديث حذيفة بأنّه لا يصح العمل به من وجوه أحدها أنّ متن هذا الحديث لا يوجد في شيء من الأصول المصنّفة وإنّما هو موجود في شواذ من الأخبار ومنها أنّ كتاب حذيفة عرى عنه والكتاب مشهور معروف ولو كان هذا الحديث صحيحا لضمنه كتابه ومنها أنّ هذا الخبر مختلف الألفاظ مضطرب المعاني ألا ترى أنّ حذيفة تارة يرويه عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله عليه‌السلام وتارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام بلا واسطة وتارة يفتي به من قبل نفسه وهذا الضّرب من الاختلاف مما يضعف الاعتراض به والتّعلق بمثله ومنها أنّه لو سلم من جميع ما ذكرناه لكان خبرا واحدا لا يوجب علما ولا عملا إلى آخره والشّيخ المفيد طعن على رواية حذيفة بالشذوذ وعلى رواية محمد بن إسماعيل عن محمد بن يعقوب بالشذوذ أيضا بأنّ محمد بن يعقوب لم يرو عن أبيه حديثا غير الحديث وبأنّ ليعقوب هذا أصلا قد جمع فيه جميع ما رواه عن الصّادق عليه‌السلام ليس هذا الحديث منه وعلى رواية محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه الّتي فيها أنّه لا يكون فريضة ناقصة إنّ الله يقول ولتكملوا العدة ولتكبروا الله بأنّها شاذة مجهول الأسناد مع أنّها مخالفة للكتاب والسّنة وإجماع الأمّة ولا يصح على حساب ملي أو ذمي ولا مسلم أو منجم ومن عول على مثل هذا الحديث في فرائض الله تعالى فقد ضل ضلالا بعيدا وبعده فالكلام الّذي فيه بعد ليس من كلام العلماء فضلا عن أئمة الهدى عليهم‌السلام لأنّه قال فيه لا يكون فريضة ناقصة وهذا مما لا معنى له لأنّ الفريضة بحسب ما أديت على التّثقيل والتّخفيف لم تكن ناقصة انتهى ملخصا وما ذكره الشّيخ في آخر كلامه من أنّه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ولا يجوز أن يعارض

 

بها الكتاب والأخبار المتواترة لا ينافي ما ذكرنا أمّا أوّلا فلأنّ اعتبار خبر الواحد له شرائط ولعلها كانت مفقودة في ذلك الخبر فلهذا كان مما لا يوجب العمل وأمّا ثانيا فلأنّ الخبر الواحد لا يعارض القرآن بالتباين بل يجب طرحه حينئذ وكذا لو عارضه بالعموم والخصوص عند الشّيخ فلهذا لم يوجب عملا عنده لا أنّ كل أخبار الآحاد هكذا ثم إنّ ما ذكره الشّيخ رحمه‌الله من أنّ حذيفة هو الّذي يفتي به من قبل نفسه خطأ لأنّه إنّما نقل الفتوى عن المعاذ بن كثير وليس حذيفة في الخبر إلاّ راويا وهذا أيضا يؤيد ما ذكرنا من عدم القطعيّة لأنّه إذا وقع مثل هذا الخطأ في النّقل من مثل الشّيخ على جلالة شأنه فمن غيره بالأولويّة وأيضا قد أورد الصّدوق رحمه‌الله حديث سهو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحكم بصحته وجواز صدور السّهو عنه في غير مقام التّبليغ وأنّ أوّل مراتب الغلو نفي السّهو عنه ووعد أنّه إن وفق الله له بالبقاء أن يكتب في ذلك رسالة ومع ذلك طعن فيه الشّيخ والمرتضى والمفيد في رسالته وأنّه مما لم يعمل به سوى الحشويّة أو النّاصبة ونسب العامل به إلى التّقليد فلو كان قطعيا لم يكن لهذا الطّعن وجه وأيضا قد أورد الكليني رحمه‌الله في باب الرّجلين يوصى إليهما فينفرد كل منهما بنصف التّركة حديثا بأن الراوي سأل الإمام عليه‌السلام عن رجل أوصى إلى رجلين فقال أحدهما لصاحبه لي نصف التّركة ولك الباقي فأبى الآخر قال الإمام عليه‌السلام لا بأس به وقال الصّدوق وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله عن أحمد بن محمد ونقل الحديث إلى آخره ثم قال لست أفتي بهذا الحديث بل أفتى بما عندي بخط الحسن بن علي عليه‌السلام من أنّهما لا يخالفان الموصي ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بالقول الأخير فإنّ ظاهره نفي صحة ما أورده الكليني رحمه‌الله واعترض الشّيخ على الصّدوق بأنّه لا منافاة بين الخبرين حتى يؤخذ بالأخير أو يطرح الأوّل بعدم الصّحة لجواز كون نفي البأس في الخبر الأوّل راجعا إلى قوله فأبى الآخر فيطابق مضمونه مضمون الخبر الثّاني كما لا يخفى فهذه الوجوه وغيرها مما يظهر للمتتبع تدل على أنّ مرادهم في الحكم بصحة الأخبار ليس قطعيّة الصّدور بل المراد الاعتماد عليه بحسب القرائن والأسباب وكان الخبر المعتمد الصّدور حجّة عندهم بالدليل كما نثبت نحن أيضا حجّيّة فيما بعد إن شاء الله وأين هذا من قطعيّة الصّدور فافهم فتبين مما ذكرنا عدم قطعيّة تلك الأخبار عند أصحاب الكتب الأربعة وظهر أيضا فساد ما ذكروه في المقدمات الثّلاث المتقدمة من تواتر الكتب الأربعة عن مصنفيها وأنّ تلك الكتب مأخوذة عن الأصول الأربعمائة وأنّ تلك الأصول متواترة أمّا الأوّل فلمنع تواتر تلك الكتب بتفاصيلها لاختلاف النّسخ غالبا وأمّا الثّاني فلتصريح المصنفين بأنّ بعض ما يشتمل عليها تلك الكتب غير موجودة في شيء من الأصول كما عرفت من رواية حذيفة بن منصور وأمّا الثّالث فلما عرفت من تصريح أصحاب الكتب الأربعة بما يظهر منه عدم قطعيّة أخبار كتبهم مع تصريحهم بأن كتبهم مأخوذة من الأصول المشهورة ويلزمه عدم

 

قطعيّة الأصول عندهم فكيف يكون قطعيّا عندنا مع أنّ ظاهر لفظ الصّدوق حيث قال من كتب مشهورة عدم تواتر تلك الكتب عن مصنفيها أيضا بل هي مشهورة عنهم فإنّ شهرة انتساب الأصل إلى رجل لا يدل على تواتر أخباره عنه وكونه مرجعا ومعولا لا يدل إلاّ على وثاقة صاحب الأصل حيث يعتنى بأصله ويرجع إليه في النّقد والانتخاب ولا يدل على قطعيّة أخباره طرا بحيث لا يحتاج إلى ملاحظة السّند كما ادعاه الأخباريّة فإنّ أصحاب الأصول منهم من لا يوثق به لكونه كذوبا غير معتمد القول كما ذكروه في يونس بن ظبيان ومحمد بن سنان ووهب بن وهب القرشي ومحمد بن موسى الهمداني وعبد الله بن محمد البلوي ومحمد بن علي الصّيرفي ونظرائهم حيث نسبوهم إلى الكذب ووضع الأحاديث ولهذا كان أصولهم من الأصول الغير المشهورة وغير ما يعول عليه بخلاف أرباب الأصول من الثّقات فإنّ أصولهم معتمد عليها في الرّجوع إليها في انتخاب الأخبار كما هو الحال في هذا الزّمان بالنّسبة إلى الكتب الأربعة وهذا لا يقتضي قطعيّة تلك الأخبار ولو كان القطعيّة لكون صاحب الأصل نفسه لم يختص ذلك بالأصول بل لكان اللازم حينئذ الحكم بقطعيّة كل خبر رواه ثقة وهو كما ترى فتحقق مما سطرنا أنّ مراد القدماء من صحة الأخبار ليس ما توهمه الأخباريّون من قطعيّة الصّدور لما عرفت من شواهد ظنيتها عندهم فيكون مرادهم بها كونها معتمد الصّدور بحيث يجوز التّعويل عليها ومرجعه إلى قطعيّة الاعتبار لا قطعيّة الصّدور وبينهما بون بعيد وأمّا المقدمة الثّانية أعني استلزام القطعيّة لهم القطعيّة لنا ففساده أظهر من أن يبين لأنّ قطعهم بذلك لو كان مستندا إلى الحس لم يكن مستلزما لحصوله لنا لعدم اجتماع التّواتر كيف وليس مستندا إلى الحسن بل إلى الحدس ومقدمات ظنيّة يغلب عليها الخطأ كما يظهر من تصحيح الصّدوق بسبب تصحيح شيخه ابن الوليد ونحو ذلك ومما ذكرنا تبين فساد ما يقال إنّا لا نحتاج في دعوى انفتاح باب العلم إلى إثبات قطعيّة صدور الأخبار بل يكفينا قطعيّة اعتبارها بالخصوص وهي ثابتة بشهادة أصحاب تلك الكتب وجه الفساد أنّ شهادتهم على قطعيّة الاعتبار لا تفيد قطعيّتها عندنا لعدم استناده إلى الحس بل إلى الاجتهاد والحدس ومثل هذه الشّهادة ليست بحجة تعبدا أيضا فضلا عن استلزامه القطع لا يقال إنّها لا تقصر عن شهادة علماء الرّجال بعدالة الرّواة أو بتصحيح السّند بل هي في الحقيقة شهادة على صحة سند جميع تلك الأخبار إجمالا فكما أنّك تعتمد على ذلك فاعتمد على هذا أيضا لأنّا نقول إنّ الرّجوع إلى هذه الطّريقة فرع بطلان طريقة الأخباريين لأنّه بعد ما ثبت عدم القطعيّة وجب الرّجوع إلى الدّليل الدّال على

 

حجّيّة الخبر الواحد الظّني فإذا اقتضى حجّيّة الخبر المظنون الصّدور أو المعتمد الصّدور مثلا فبالرّجوع إلى قول علماء الرّجال يحصل الاعتماد أو الظّن ولهذا يعمل به وحينئذ فلا بأس بالأخذ بقول أرباب الكتب في الحكم بصحتها إذا استلزم الاعتماد أو الظّن بالصّدور ولا كلام في ذلك إنّما الكلام في جعل نفس شهادتهم دليل على قطعيّة الخبر صدورا واعتبارا وقد عرفت فساده بما لا مزيّة عليه هذا تمام الكلام على ما ادعته الأخباريّة من قطعيّة الأخبار سندا وأمّا ما ادعوه من قطعيّتها دلالة فيدل على فساده أنّ المقصود من أهل هذا الزّمان هو العمل بما كان ظاهرا في العصر الأوّل لا ما هو الظّاهر عندهم وإن قلنا بشمول الخطاب لغير المشافهين وذلك لأنّ المقصود من الخطاب لا يمكن أن يكون بالنّسبة إلى كل شخص ما هو الظّاهر عنده لعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ولأدلة اشتراك الكل في التّكاليف ولا يجوز أن يكون المراد من الحاضرين ما هو الظّاهر عند المعدومين وهو بديهي فتعين أن يكون المراد من الجميع ما هو الظّاهر عند الحاضرين ولا ريب في أنّ تشخيصه بالنّسبة إلى هذا الزّمان يحتاج إلى إعمال ظنون شيء كالتبادر والرّجوع إلى اللّغويين في إثبات أصل الظّاهر ثم إثبات إرادته من الحاضرين بأصالة عدم القرينة وليس شيء من ذلك مما يفيد القطع ولا ينفع المقدمة المتقدمة من قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة في إثبات قطعيّة إرادة ما هو الظّاهر عندنا لما بينا من أنّ المراد منا ما هو الظّاهر عند المشافهين ولا يمكن تشخيصه إلاّ بالظّنّ فثبت أن مدعي انفتاح باب العلم في هذا الزّمان مكابر في دعواه بل يقول كلاما من غير قصد إلى معناه فلنعطف عنان القلم نحو إثبات حجّيّة الخبر بناء على عدم قطعيّة الصّدور فإنّه ميدان المسابقة والمصارعة ومضمار المبارزة والمقارعة فنقول وبالله التّوفيق إنّ بعض الأخباريين لما تفطن لفساد دعوى قطعيّة الأخبار حاول تأويل كلماتهم بما يدفع الطّعن عنهم فقال إنّ مرادنا يكون الأخبار معلوم الصّدور العلم العادي الّذي هو المعتبر في الشّرعيات وهو ما كان احتمال الخلاف فيه في غاية الضّعف بحيث لا يوجب تزلزل النّفس واضطرابه ويقابله العلم العقلي الّذي لا يحتمل فيه الخلاف أصلا ووافقه بعض الأصوليين في دعوى القطعيّة بهذا المعنى إلاّ أنّه فسر العلم العادي بما يجوز فيه الخلاف لا ما يحتمل فيه الخلاف وفرق بعضهم بين الوجهين بأنّ تجويز الخلاف معناه الإمكان بمعنى أنّه لا يلزم من فرض خلافه محال بخلاف العلم العقلي البرهاني فإنّه ما يلزم من فرض خلافه المحال وكلاهما مشترك في اعتبار الجزم وعدم احتمال الخلاف وهذا بخلاف ما لو فسر بما يحتمل فيه الخلاف ضعيفا والتّحقيق أنّ العلم عبارة عن الجزم الّذي لا يحتمل فيه الخلاف أصلا و

 

دعوى أنّ العلم الشّرعي أعم من هذا فاسده لأنّ المراد بالعلم الشّرعي ما علم تنزيله شرعا منزلة العلم كالشّهادة واليد ونحوهما ولا ريب أنّه ليس الملحوظ فيها جهة المرآتيّة ليحتمل فيها الخلاف أو لا بل لو لم يحصل الظّن الضّعيف أيضا من الشّهادة لم يقدح ذلك في كونها علما شرعيّا فجعل العلم الشّرعي عبارة عن الظّن المتاخم للعلم فاسد جدا ثم إنّ العلم العادي الّذي يجامعه احتمال الخلاف ليس مما يكون حجّة بنفسه كالقطع بل يحتاج إثبات حجّيّته إلى الدّليل فدعوى علميّة الأخبار بهذا المعنى لا يغني عن إقامة الدّليل على حجّيّتها بيان ذلك أنّ العلم العقلي الّذي لا يحتمل فيه النّقيض حجّة بنفسه بمعنى أنّه لا يحتاج في ترتيب آثار معلومة إلى دليل زائد على الدّليل الدّال على ثبوت ذلك الأثر لذلك المعلوم فإنّه إذا علم خمريّة شيء ثبت له الحرمة بنفس دليل حرمة الخمر فيقال هذا خمر وكل خمر حرام فهذا حرام أمّا الصّغرى فثابتة علما وأمّا الكبرى فثابتة بالدليل فلو قال الشّارع لا تعمل بهذا العلم كان مناقضا لحكمه بحرمة كل خمر والحاصل أنّ العلم إذا أخذ طريقا إلى متعلقه فترتب حكم متعلقه لا يحتاج إلى قيام الدّليل على اعتبار العلم وما يقال من وقوع الخلاف في حجّيّة العلم شرعا فليس معناه الخلاف في هذه الجهة بل الاختلاف إنّما هو في أنّ القطع هل هو حجّة شرعيّة في إثبات متعلقة واقعا ليترتب عليه آثار الواقع وإن كان مخالفا للواقع أو لا بل إنّما يترتب عليه ما يترتب على الواقع إن طابقه وإلاّ فلا ويظهر الثّمرة فيما لو قطع بخمريّة ماء مثلا فشربه فعلى الأوّل يستحق العقاب المترتب على شرب الخمر الواقعي وعلى الثّاني فلا عقاب وهذا هو المسألة المشهورة بين القوم بمسألة التّجري وأنّه يترتب عليه أثر في صورة انكشاف الخلاف أو لا ولا دخل له بمسألة اعتبار العلم من حيث كونه طريقا إلى الواقع الّذي هو المتعلق له فإنّه ليس قابلا للجعل الشّرعي حسب ما بيناه ولا قابلا للفرق بين أقسامه المختلفة بحسب أسباب الانكشاف وهذا بخلاف الظّن وإن فرض كونه متاخّما للعلم فإنّ ثبوت آثار الواقع للمظنون يفتقر إلى دليل آخر غير دليل ثبوته للواقع فإنّ دليل حرمة الخمر لا يدل على ثبوت الحرمة لما هو مظنون الخمريّة إذ لا يجوز أن يقال هذا خمر وكل خمر حرام لعدم ثبوت الصّغرى إلاّ ظنا فلا ينتج إلاّ الظّن ولا يمكن معه الحكم الجزمي بثبوت ذلك الحكم لهذا الشّيء بل يحتاج إلى إثبات ذلك إلى دليل علمي يكون مؤداه أنّ مظنون الخمريّة أيضا حرام فحينئذ بالظّنّ يثبت الصّغرى جزما ويتصل بهذه الكبرى فينتج القطع وبما ذكرنا علم فساد ما ذكره بعضهم من الفرق بين أقسام القطع في الاعتبار وأنّه لا عبرة بقطع القطاع وكذا ما ذكره بعضهم من الفرق بين ما يزول بالالتفات كالتّقليد للآباء في العقائد فليس حجّة وبين ما لا يزول به فهو حجّة ووجه الفساد ما عرفت من أنّ القطع حيث يعتبر طريقا للحكم

 

لا يمكن عقلا الفرق بين أقسامه وأمّا ما ورد من ذم الكفار على تقليدهم فلا نسلم أوّلا كونهم قاطعين بل صريح الآيات أنّهم ما لهم به من علم إن هم إلاّ يظنون وثانيا أنّ الذم راجع إلى تقصيرهم في الاعتماد على التّقليد وتحصيل الجزم منه وهو في تنبيه لهم ليزول عنهم القطع الفاسد فلنرجع إلى ما كنا فيه نقول قد عرفت بما ذكرنا أنّ الظّن في أي مرتبة كان يحتاج إثبات حجّيّته إلى دليل قطعي ولا ينفع دعوى كون الأخبار معلومة الصّدر بالعلم العادي بالمعنى الرّاجع إلى الظّن في سقوط البحث عن حجّيّته فالشأن إنّما هو في بيان الدّليل على حجّيّته الظّن فنقول إنّ من الظّنون ما لا نزاع في حجّيّته كظواهر الكتاب والأخبار المتواترة ومنها ما لا نزاع في عدم حجّيّته كالقياس والرّمل والجفر والنّجوم ونحوها ومنها ما هو محل النّزاع كخبر الواحد والإجماع المنقول والشّهرة والاستقراء وأمثالها والنّزاع في هذا القسم تارة يقع باعتبار الظّان بمعنى أنّ الظّن حجّة إذا كان للمجتهد المطلق أو للمتجزي أيضا أو للمقلد أيضا والمتكفل لبيان هذا المرام مبحث الاجتهاد والتّقليد وتارة يقع من حيث السّبب من أنّه الحاصل بخبر الواحد فقط أو بالشهرة أيضا ونحوها وأخرى يقع من حيث المتعلق من أنّه حجّة في الأحكام فقط أو في الموضوعات أيضا وعلى الأوّل فهل يختص بالأحكام الفرعيّة أو الأصوليّة العمليّة أو يجري في الأصول العقائد أيضا وعلى الثّاني فهل يختص بالموضوعات المستنبطة أو يجري في الموضوعات الصّرفة أيضا وأخرى يقع من حيث المرتبة من أنّه حجّة بأدنى مراتبه أو يعتبر المرتبة الأعلى من الظّن من حيث يعتبر وهو الظّن الاطمئناني فهذه مقامات ثلاثة يجب التّكلم فيها تحقيقا للحق الحقيق بالتحقيق وقبل الخوض في المطلب ينبغي تأسيس الأصل في أنّ الظّن حجّة أو لا فنقول وبالله التّوفيق إنّ العمل بالظّنّ تارة يتصور بالعمل على طبق الظّنّ من غير أن ينسب المظنون إلى الشّارع ويتدين به ويحكم بثبوته شرعا وأخرى بالتدين به وجعله حجّة مثبته للحكم ونسبته المظنون إلى الشّارع أمّا الأوّل فالأصل فيه الجواز لأنّه في الحقيقة ليس عملا به بل إنّما هو عمل على طبقه وهو جائز إذا لم يلزم منه مخالفة لدليل معتبر بل القائلون بعدم حجّيّته الظّنّ أصلا ربما يعملون بالظّنّ بهذا المعنى كما لو شكّ في حرمة شيء وإباحته فظن الحرمة فإنّ الأخباريين يبنون عملهم على الحرمة فيطابق الظّنّ لكن ليس عملهم من كونه مظنونا بل إنّما هو من جهة الاحتياط في محتمل الحرمة وهذا مراد من استدل على حجّيته الظّنّ بأنّ دفع الضّرر المظنون لازم فإنّ اللازم منه إنّما هو محض تطبيق العمل عليه لا جعله حجّة شرعيّة في إثبات الحكم نعم لو كان مخالفا لدليل معتبر لم يجز العمل عليه بهذا المعنى أيضا كما لو ظن إباحة وطي الحائض بعد انقطاع الدّم قبل الغسل فإنّه لا يجوز تطبيق العمل عليه للزوم

 

طرح الاستصحاب المعتبر شرعا بناء على حجّيّته في المقام وأمّا الثّاني فهو محل الكلام في المقام إذ الأوّل ليس من جهة حجّيّة الظّن في شيء فنقول قد يقال إنّ الأصل الأوّلي في الظّن الحجّيّة بمعنى جواز نسبته المظنون إلى الشّارع والتّدين به لأصالة الإباحة وأصالة الحل وهذا نظير تمسكهم في حليّة المتعة بأصالة الإباحة وفي أنّ الأصل في العقود الصّحة بأصالة الحل والإباحة ورد بأنّ أصالة الإباحة إنّما تجري في ما يشك في حرمته والتّدين بالظّنّ ليس مشكوك الحرمة بل هو مما يحكم العقل جزما بقبحه فلا يبقى مورد للأصل واعترض عليه بأنّ أصل تطبيق العمل على الظّنّ يحكم بإباحته من جهة أصالة الإباحة وإذا ثبت إباحته شرعا لزم التّدين به كما لو أباح الشّارع صريحا العمل بظن خاص وكذا نقول في البيع المشكوك صحته إنّ ذات البيع مباح بالأصل فثبت صحته كما لو ثبت الإباحة بقوله تعالى أحل الله البيع وأجيب عن هذا بأنّ البيع لا يكون مباحا إلاّ إذا ثبت القدرة عليه ولا يثبت القدرة إلاّ بعد ثبوت الصّحة فإثبات الصّحة بالإباحة دور ظاهر وفيه نظر لأنّ البيع عبارة عن الأمر العرفي الثّابت عندهم وصحته عبارة عن إمضاء الشّارع له فكل نقل وانتقال أمضاه الشّارع صح وإلاّ فلا وليس البيع عبارة عن النّقل الشّرعي ليتوقف القدرة عليه على الصّحة والتّحقيق في الجواب عن الإشكال في المقامين أن يقال إنّه قد ذكرنا أنّ للعمل بالظّنّ معنين أحدهما محض تطبيق العمل عليه بإتيان مظنون الوجوب وترك مظنون الحرمة والثّاني التّعبد به بمعنى إتيان مظنون الوجوب على أنّه واجب شرعا وترتيب آثار الواجب عليه أمّا المعنى الأوّل فقد عرفت أنّ الأصل فيه الجواز بمعنى أنّه إذا ظن وجوب الفعل جاز شرعا إتيان ذلك الفعل لا لأنّه مظنون الوجوب بل لأنّه لم يثبت فيه التّكليف شرعا وكل ما كان كذلك كان مباحا في الظّاهر فالإباحة إنّما تعلقت بإتيان ذات العمل حين كونه مشكوك الوجوب وليس هذا من حجّيّة الظّن في شيء وأمّا المعنى الثّاني فالأصل فيه الحرمة لحكم العقل بأنّه متى لم يثبت حجّيّة الظّن فالتّدين بمؤده على أنّه من الشّارع بدعة وقبيح فإذا ظن بوجوب شيء فالإتيان به على أنّه واجب وترتيب آثار الواجب عليه قبيح ما لم يثبت حجّيّة ذلك الظّن شرعا فموضوع أصالة الإباحة هو ذات العمل المشكوك وجوبه من حيث إنّه مشكوك وموضوع الحكم بالحرمة فهو إتيان العمل المشكوك وجوبه على أنّه واجب شرعا فجريان أصالة الإباحة في موضوعها لإثبات إباحة ذات العمل المشكوك وجوبه لا يوجب ثبوت الوجوب الذّات العمل شرعا ليرتفع موضوع حكم العقل بالحرمة البدعيّة بل يوجب تأكد حكم العقل بالحرمة البدعيّة لأنّه قبل إجراء أصالة الإباحة كان الإتيان به إدخالا لما يشك في وجوبه في الواجب الشّرعي وبعد إجراء الأصل يكون إدخالا لما يقطع بكونه مباحا في الظّاهر في الواجب الشّرعي والثّاني أقبح من الأوّل فإن قلت نحن لا نجري أصالة

 

الإباحة في ذات العمل ليكون إثباته بوصف الوجوب بدعة بل لما شككنا في أنّ التّدين بالظّنّ حرام أو لا حكمنا بإباحته للأصل قلت ليس لنا شك في حرمة التّدين بالظّنّ ما لم يرد فيه الإذن فلا مجرى لأصالة الإباحة وبهذا علم الفرق بين إثبات الإذن في العمل بالظّنّ بالدليل الخاص وبين إثباته بأصالة الإباحة فإنّ الإذن المستفاد من الدّليل إنّما يرد على التّدين بالظّنّ الفلاني من حيث هو وبعد ورود الإذن يرتفع موضوع حكم العقل بالحرمة وأمّا الإذن المستفاد من الأصل فإنّما يرد على التّدين بالظّنّ إذا كان مشكوك الجواز فيجب أو لا إحراز الشّكّ في الجواز حتى يجري الأصل ونحن نعلم بالعقل المستقل أنّ التّدين بالظّنّ حرام ما لم يرد فيه الإذن الخاص فيرتفع الشّك الّذي هو موضوع الأصل فلا يجري أصل الإباحة حتى يستفاد منه الإذن ليرتفع موضوع البدعة ولو لا ما ذكرنا لجاز التّعبد بالشّكّ والوهم أيضا بل لم يتحقق للبدعة موضوع أصلا إلاّ في ما قطع بعدمه وليس كذلك وكذا نقول في مثال البيع الفرق ظاهر بين إثبات الحل بقول الله تعالى أحل الله البيع وبين إثباته بأصالة الإباحة فإنّ الأوّل إنّما يرد على ذات البيع فيقتضي إمضاءه ويرتفع الشّك رأسا ويترتب عليه الصّحة وأمّا الثّاني فإنّما يرد على البيع من حيث إنّه مشكوك الصّحة فلا يوجب ارتفاع الشّك في الصّحة فيبقى أصالة عدم ترتب الأثر بحالها والحاصل أنّ أصالة الإباحة وأصالة عدم ترتب الأثر كلاهما واردان على موضوع واحد هو البيع المشكوك الصّحة فلا يرتفع موضوع أحدهما بالآخر واللازم كون الأصل رافعا لموضوع نفسه وهو محال وكذا الكلام في إثبات حليّة المتعة بالأصل فإنّه إنّما يثبت حليته المتعة من حيث إنّها مشكوكة الصّحة فلا توجب ارتفاع الشّك في الصّحة فتجري أصالة عدم ترتب الأثر لأنّ مجراها الشّك في الصّحة وهو موجود لم يرتفع بأصالة الإباحة بخلاف ما لو قال الشّارع المتعة حلال فإنّه يرد على ذات المتعة لا من حيث إنّها مشكوكة الصّحة وإذا ثبت الحليّة لذات المعاملة ترتب عليها الآثار فكانت صحيحة ولا يجري حينئذ أصالة عدم ترتب الأثر لارتفاع موضوعها وهو الشّك فافهم وقد يتمسك لإثبات أصالة حرمة العمل بالظّنّ بأصالة عدم الحجّيّة واعترض عليه الفاضل الأنصاري رحمه‌الله بأنّ الحكم بالحرمة لا يتوقف على ثبوت عدم الحجّيّة ليتمسك في إحرازه بالأصل بل محض الشّكّ في الحجّيّة كاف في حكم العقل بحرمة العمل من غير حاجة إلى إحراز عدم الحجّيّة وحاصله أنّ أصالة عدم الحجّيّة لا يترتب عليها حكم في المقام لأنّ الحكم بالحرمة وارد على نفس

 

الشّكّ في الحجّيّة وهو يقيني الثّبوت مع قطع النّظر عن الأصل فلا فائدة في الأصل المذكور ونظير ذلك ما قيل من أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما لو أريد إثبات الحكم لموضوع متيقن في السّابق مشكوك في اللاحق فيحكم بثبوت ذلك الموضوع في اللاحق ليترتب عليه حكمه وحينئذ فلو كان هناك حكم وارد على نفس الشّكّ في ثبوت ذلك الموضوع لم ينفع الاستصحاب في إجرائه لتحقق موضوعه مع قطع النّظر عن الاستصحاب فنقول في المقام إنّه لو قطع النّظر عن كون عدم الحجّيّة متيقنا في السّابق فالعقل قاطع بالحرمة لوجود موضوعها وهو الشّك في الحجّيّة ونظير ذلك الحكم بوجوب تحصيل البراءة اليقينيّة بعد اليقين بالاشتغال وعدم الاكتفاء بالشّكّ في البراءة فإنّه لا فائدة في استصحاب الاشتغال في الحكم بوجوب تحصيل القطع بالبراءة لكن بين المقامين فرق وهو أنّ الحكم في مسألة الاشتغال إنّما هو وارد على نفس اليقين السّابق فإنّ من أحكامه العقليّة وجوب تحصيل القطع بالبراءة فمتى تحقق موضوعه ترتب عليه الحكم من غير حاجة إلى استصحاب الاشتغال في حال الشّكّ في البراءة بل لا فائدة في استصحابه وفي هذه المسألة إنّما يرد الحكم على نفس الشّكّ في الحجّيّة مع قطع النّظر عن كونها متيقن العدم في السّابق والحاصل أنّه متى كان الحكم واردا على نفس اليقين السّابق أو على نفس الشّكّ اللاحق فلا مسرح فيه للاستصحاب للقطع بالحكم بعد القطع بموضوعه ومسألة الاشتغال من قبيل الأوّل وهذه المسألة من قبيل الثّاني وما ذكره الفاضل المذكور من أنّ مسألة الاشتغال أيضا من قبيل الثّاني لأنّ نفس الشّك في البراءة كاف في الحكم بوجوب تحصيل القطع بها غير صحيح إذ لو صح ذلك لوجب الاحتياط عند الشّك في التّكليف أيضا لوجود الشّك في البراءة فالتحقيق ما عرفت من أنّ جريان استصحاب الاشتغال إنّما هو لكون وجوب تحصيل القطع بالبراءة إنّما هو من أحكام نفس اليقين السّابق وهو متيقن الثّبوت فيكون حكمه ثابتا من غير حاجة إلى إحراز الاشتغال في الزّمان الثّاني ونظير ذلك ما لو نذر أنّي متى تيقنت وجود زيد في يوم الجمعة أتصدق على الفقراء بدرهم ثم حصل اليقين بوجوده في يوم الجمعة ثم شك في وجوده يوم السّبت فالحكم بوجوب الصّدقة لا يتوقف على استصحاب وجوده إلى يوم السّبت بل لا فائدة في الاستصحاب المذكور في ذلك الحكم أصلا فتأمّل وهل الحكم في المعاملات أيضا كذلك فلا يحتاج إثبات الفساد إلى أصالة عدم الصّحة بل نفس الشّك في الصّحة كاف في الحكم بالفساد أو لا بل يحتاج إليها ربما يتوهم الأوّل نظرا إلى أنّ الشّك في الحرمة لما كان كافيا في الحكم بالحرمة كان كافيا في الحكم بالفساد أيضا وليس كذلك لأنّ الشّكّ في الحرمة كاف في الحكم بالحرمة التّشريعيّة ولا يثبت الحرمة الذّاتيّة بل لو ثبت الحرمة الذّاتيّة أيضا لم يدل على الفساد لعدم التّلازم بين الحرمة والفساد وحينئذ فلا بد من إثبات الفساد بالأصل ويثبت

 

بقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقد يتمسك لعدم الحجّيّة بقاعدة الاشتغال من وجهين أحدهما أنّ التّكليف بتحصيل الاعتقاد في الأحكام متيقن والأمر دائر بين مطلق الاعتقاد وخصوص الاعتقاد العملي ومتى دار الأمر بين المطلق والمقيد كان مقتضى قاعدة الاشتغال عدم الاكتفاء في الامتثال بالمطلق والثّاني أنّ العلم الإجمالي بوجود التّكاليف الواقعيّة حاصل ومقتضى ذلك وجوب الإتيان بكل ما يحتمل الوجوب دون الحرمة وترك ما يحتمل الحرمة دون الوجوب والتّخيير لو دار الأمر بين الاحتمالين وحينئذ فربما يكون العمل مطابقا للظّنّ كما لو ظن الوجوب وقد يكون مخالفا كما لو ظن الإباحة واحتمل الوجوب فيجب الإتيان للاحتياط فلو كان الظّن حجّة لوجوب الاقتصار في الامتثال على الظّن وهو ينافي قاعدة الاشتغال الحاكمة بعدم جواز الاقتصار في الامتثال على الظّنّ ومما ذكرنا يظهر فساد ما توهم من أنّ قاعدة الاشتغال تثبت حجّيّة الظّنّ لعسر الاحتياط بالإتيان بجميع المحتملات فيقتصر على الظّن لقبح ترجيح الوهم عليه وجه فساده أنّ الاقتصار على الاحتمال الظّنّي من جهة العسر ليس من حجّيّة الظّنّ في شيء وإنّما هو تبعيض في الاحتياط لعسر الاحتياط الكلي واعترض على الوجه الأوّل بأنّ الحاكم لا يجوز له الجهل بموضوع حكمه والحاكم بلزوم تحصيل الاعتقاد هو العقل فلا يجوز دوران الأمر عنده بين المطلق والمقيد ليجب الأخذ بالمقيد من باب قاعدة الاشتغال وفيه نظر لأنّ مبنى هذا الوجه إنّما هو على كون لزوم تحصيل الاعتقاد شرعيّا لا عقليّا والحاكم بالاشتغال هو العقل ويجوز جهل العقل بموضوع الحكم الشّرعي كما في سائر مجاري القاعدة المذكورة فافهم وقد يتمسك لأصالة عدم الحجّيّة بالآيات النّاهية مثل قوله تعالى وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا إنّ الظّن لا يغني عن الحق شيئا سبحانه على متابعة مطلق الظّن فيكون الأصل فيه عدم الحجّيّة واعترض عليه بوجوه منها أنّه يلزم من العمل بها عدم العمل بها لأن مدلولها ظني أيضا فيشمل نفسه وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال وأجيب عنه بوجهين أحدهما أنّ مدلولها عدم حجّيّة الظّنون المشكوكة الاعتبار والظّن الكتاب مقطوع الاعتبار وفيه أنّ ظاهر الآية العموم لكل ظن وحينئذ فيقع الإشكال في صيرورتها قطعيّة الاعتبار مع أنّ مضمونها عدم حجّيّة نفسها إذ قطعيّة الاعتبار ولا يخرجها عن ظنّيّة الدّلالة نعم لو استفيد منها القطع بالحكم لم يلزم المحذور والثّاني أنّها غير منصرفة إلى نفسها وفيه أنّه أنّما هو لضيق العبارة عن شموله وإلاّ فيعلم أنّ المناط هو الظّن من غير خصوصيّة وذلك نظير قول السّيد بعدم حجّيّة خبر الواحد ونقله الإجماع عليه فإنّه لا يشمل نفسه لكن لو سئل السّيد إن نقل لنا إجماعك لخبر الواحد فهل هو حجّة لنا فليس له بد من أن يقول لا فيلزم من حجّيّة قوله عدمه ومنها أنّ الآية موردها أصول الدّين

 

فلا تشمل مطلق الظّن فإنّ العموم المستفاد من المطلق بدليل الحكمة مشروط بعدم كون بعض الأفراد متيقن الإرادة وإلاّ لم يجر دليل الحكمة كما هنا للقطع بإرادة الظّن في أصول الدّين لأنّه مورد الآية فلا داعي للحمل على غيره سيما في المسبوق بالمنكر فإنّه قرينة على حمل اللام على العهد الذّكري وإن قلنا بمجازيّته هذا مع أنّه أولى من التّخصيص اللازم من الحمل على العموم لخروج كثير من الظّنون عن تحت الآية وما يقال من أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص المورد إنّما هو في العموم الوضعي لا في الإطلاقي والجواب أنّ المناط في استفادة العموم حكمة إنّما هو كون اللّفظ بحيث لو عرض على العرف لم يكن هناك عندهم قرينة معيّنة لبعض الأفراد فحينئذ يحمل على العموم حكمة ونحن إذا عرضنا هذه الآية على العرف نراهم لا يفهمون التّخصيص بخصوص المورد بل إنّما يفهم عندهم أنّ المناط في الذّم على متابعة الظّنّ في الأصول إنّما هو كونه اتباع الظّنّ مذموم فيكون نظير قول الطبيب لمن يأكل الرّمان هذا يأكل حامضا وأكل الحامض مضر فلا يفهم منه اختصاص المضرة بحموضة الرّمان وهذا ظاهر جدا والجواب عن الاعتراض الأوّل أنّه إمّا يسلم قيام الدّليل القطعي على حجّيّة الظّن الكتابي أو لا فعلى الثّاني لا يصح الاستدلال من رأس لأنّه استدلال على عدم حجّيّة الظّنّ بالظّنّ وعلى الأوّل يجب تخصيص مضمون الآية بذلك الدّليل القطعي ووجهه ظاهر وقد يقال إنّه ليس تخصيصا بل هو من باب التّخصيص نظرا إلى أنّ العمل بالظن الكتابي ليس عملا بالظّنّ بل هو عمل بذلك الدّليل القطعي الموجب لحجّيّة ظاهر الكتاب أو من جهة أنّ قيام ظاهر الكتاب على شيء سبب شرعا لثبوته على المكلف واقعا وإن لم يفد الظّن كسائر الأسباب الشّرعيّة من اليد والفراش ونحوهما فليس فيه عمل بالظّنّ لكنّه فاسد جدا لأنّ قيام الدّليل القطعي على حجّيّة الظّن لا يوجب خروج الموضوع عن كونه عملا بالظّنّ بل هو عمل بالظّنّ غاية الأمر جوازه بالدليل القطعي فيلزم تخصيص ما دل على حجّيّة الظّن كليّة وحجّيّة الأمارات في الأحكام ليست من جهة السّببيّة على التّحقيق بل من جهة الكشف عن الواقع فحينئذ يكون عملا بالظّنّ فالتحقيق أنّه من باب التّخصيص كما عرفت فثبت مما ذكرنا أنّ الأصل الأوّلي هو عدم حجّيّة الظّنّ ويكفي في ذلك حكم العقل ولا حاجة إلى سائر الوجوه فحينئذ يجب بيان ما ادعي خروجه عن هذا الأصل بالخصوص أعني خبر الواحد فإنّ المعروف حجّيّته بالخصوص في الجملة والمراد به أنّه هل يثبت السّنة بنقل الواحد أو لا فنقول قد استدلوا على حجّيّته بوجوه من العقل والنّقل أمّا العقل فمن وجوه أحدها أنّ قيام الخبر على التّكليف موجب للظّنّ بترتب الفرد على تركه ودفع الضّرر المظنون واجب وفيه أوّلا أنّه لا يختص بالخبر بل يشمل مطلق الظّنّ وثانيا أنّه إن فرض عند التّمكن من العلم ففيه أنّ الضّرر حينئذ في الاقتصار على الظّن لاحتمال مخالفة الواقع

 

وإن فرض عند عدم التّمكن منه ففيه أنّه إن أراد من الضّرر العقاب فالصغرى ممنوعة لقبح العقاب بلا بيان فلا ملازمة بين الحكم الواقعي وبين العقاب ليلزم من النّص بالحكم الظّن بالعقاب بل قبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب ما لم يثبت الحكم بالعلم أو بالعلمي والقول بأنّ قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل كاف في البيان فلا يقبح العقاب فاسد جدا لأنّ تلك القاعدة فرع احتمال العقاب في المقام فلا تكون هي بنفسها بيانا ومصححة للعقاب وبعبارة أخرى قبل البيان لا يحتمل الضّرر بحكم العقل فلا يجري للقاعدة حتى يحصل البيان نعم هي تجري عند الشّك في المكلف به مع العلم الإجمالي فإنّه كاف في البيان فيحتمل الضّرر في كل من طرفي الشّك فيجب دفعه وأمّا عند الشّكّ في التّكليف فلا لا أن يقال بعدم قبح التّكليف بلا بيان وإنّما يسلم قبح تكليف الغافل لعدم تمكنه من الاشتغال وأمّا الشّاك فلا يقبح تكليفه وعقابه وحينئذ فيكون الأصل عند الشّكّ هو الاحتياط إلاّ أن يقوم الدّليل النّقلي على عدم التّكليف عند الشّكّ فيه لكن هذا فاسد جدا لتقبيح العقلاء للمولى إذا عاقب عبده بأنّك جوزت أن أكون طالبا منك كذا وكنت قادرا على إتيانه فلم لم تفعل وعدوا ذلك ظلما وعدوانا وليس هذا إلاّ لاشتراط البيان في صحة العقاب هذا وإن أريد من الضّرر الضّرر الدّنيوي فالصغرى مسلمة بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد فالظّنّ بالحرمة ظن بتحقق المفسدة في الفعل لكن نقول إنّ حكم العقل بوجوب دفع الضّرر الدّنيوي معلق على عدم انجبار ذلك الضّرر والكاشف عن الانجبار هو خطاب الشّرع الشّامل بعمومه أو إطلاقه لأحوال الضّرر فلا يمكن تخصيصه أو تقييده بحكم العقل وذلك لكشف الخطاب عن انجبار الضّرر فلا يبقى للعقل حكم بلزوم الدّفع وما يرى من حكم الفقهاء بسقوط التّكليف عند ظن الضّرر فليس لحكم العقل بل إنّما هو لقوله عليه‌السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فإنّه حاكم على العمومات ومخصص لها بصورة انتفاء الضّرر فإن قلت مقتضى الخبر خروج ما فيه ضرر في الواقع عن تحت الخطابات فيكون العام منقسما إلى قسمين ما فيه ضرر فهو خارج عنه وما ليس فيه ضرر فهو داخل فيه فإذا لم يعلم فرد أنّه مما فيه ضرر أو لا هو صورة الشّك في الضّرر فينبغي أن لا يتمسك فيه بالعام لعدم العلم بدخول هذا الفرد فيه مع حكمهم في صورة الشّك بثبوت التّكليف قلت قد أجيب عن هذا الإشكال بأنّ الضّرر إن كان منجبرا فليس ضررا أصلا إنّما الضّرر هو ما لم ينجبر وحينئذ فلا تعارض بين قوله لا ضرر وبين العمومات لكشفها عن الانجبار واعترض عليه بأنّه يلزم على هذا أن لا يسقط التّكليف عند القطع بالضرر أيضا لثبوت الانجبار بالتّكليف وأيضا يلزم كون الخبر لغوا لا يترتب عليه ثمرة في الفقه وإنّما يكون إخبارا بأنّ الأحكام ليس فيها ضرر بلا عوض فإن كان ضرر الخبر بالعوض وهو خلاف ما يفهم منه عرفا بل خلاف ما فهم منه العلماء قديما

 

وحديثا وأجيب بأنّ التّكاليف إنّما نكشف عن انجبار الضّرر المترتب على نوع التّكليف دون المترتب عليه في خصوصيات الموارد وحينئذ فيتمسك في نفي التّكليف في الخصوصيات بالخبر لعدم ثبوت الانجبار وفيه أنّه إذا لم يثبت الانجبار حينئذ فلم لا يتمسك في نفيه بحكم العقل والحق أنّ الضّرر لا يخرج بالانجبار عن عنوان الضّرر والتّكاليف إنّما نكشف عن انجبار الضّرر في ولو في الآخرة وهو كاف في رفع حكم العقل بالدفع لكن لا يرتفع بالانجبار الأخروي صدق الضّرر الدّنيوي وإن سلم ارتفاع صدقه بالانجبار الدّنيوي وحينئذ فإذا تحقق الضّرر الدّنيوي حكم برفع التّكليف فيه بمقتضى الخبر لأنّه حاكم بأنّ التّكاليف ليست بحيث يترتب عليها ضرر في الدّنيا فإذا ترتب الضّرر على شيء فلا تكليف فيه بخلاف حكم العقل فإنّه يرتفع بكشف الخطاب عن الانجبار الأخروي أيضا وذلك نظير الإكراه فإنّه لا يصدق بالإيعاد على العذاب الأخروي وإلاّ لكان إتيان العبادات إكراها ولا إكراه في الدّين والتّحقيق أن يقال إنّ الخطابات لا تكشف عن الانجبار وخبر نفي الضّرر حاكم بنفي الضّرر الواقعي وموجب لانحلال العام إلى قسمين كما ذكرناه أوّلا والضّرر المنجبر أيضا ضرر وحينئذ فنقول إن علم تحقق الضّرر في شيء علم عدم التّكليف فيه بمقتضى الخبر وإلاّ كان مقتضى حكم العقل بوجوب دفع الضّرر وجوب دفعه عند الشّك أيضا لكن نقول إنّ مقتضى أدلة الأصول العمليّة من البراءة والاستصحاب ونحوهما انجبار الضّرر المحتمل الّذي لم يقم الدّليل الشّرعي على التّكليف فيه فإنّ الشّك فيه من جهتين إحداهما من جهة التّكليف الشّرعي والثّانية من جهة الشّكّ في ثبوت الضّرر أمّا الجهة الأولى فهي من مسائل الشّكّ في التّكليف في الشّبهات الموضوعيّة والأصل فيه البراءة اتفاقا وأمّا الجهة الثّانية فيعمل فيها بأصالة عدم الضّرر وحينئذ فيثبت التّكليف الثّابت لما ليس فيه ضرر في الواقع لهذا الموضوع الّذي ثبت عدم الضّرر فيه بالأصل ولو كان فيه ضرر في الواقع كان منجبرا بمقتضى أدلة حجّيّة الأصل ومقتضى هذا الوجه الاقتصار في تخصيص العمومات على صورة القطع بالضرر لكن قد قام الإجماع على حجّيّة الظّن في مسألة الضّرر إثباتا ونفيا فلا ينظر فيه إلى مقتضى الأصل نعم في حالة الشّك يجب النّظر إلى مقتضى الأصل فإن كان الحالة السّابقة هي وجود الضّرر كان الضّرر مستصحبا فيكون مثل صورة الظّن بالضرر وإن كانت عدم الضّرر كان مستصحبا فكان كالظن بعدمه فلا يجوز الحكم بثبوت التّكاليف عند الشّكّ في الضّرر مطلقا ولا بنفيها كذلك لكن يرد على هذا الوجه أنّه إذا كان إثبات التّكليف في موارد الظّن بعدم الضّرر واستصحاب عدمه بسبب الأصل وكان المناط في حجّيّة الظّن هنا هو كونه طريقا إلى الواقع وكذا الأصل إنّما يجري عند الجهل بالواقع فيكون ثبوت التّكليف في المورد من الأحكام الظّاهريّة مع أنّهم حكموا فيمن يتيمم بظن الضّرر ثم ظهر عدم

 

الضّرر لم يجب عليه إعادة الصّلاة وهذا هو الإجزاء الّذي منعوا ثبوته في الأحكام الظّاهريّة وهذا يعطي أنّ الحكم في موارد الضّرر حكم واقعي لا ظاهري فكيف يجتمع هذا مع هذا الوجه الّذي عرفت أنّ مقتضاه كونه حكما ظاهريّا ويمكن الجواب عنه بأنّ رفع الشّارع للحكم في موارد الضّرر ليس لمنقصة في ذات الحكم مانعة عن جعله بل المانع منه إنّما هو محض التّفضل على العباد كما يظهر من سياق قوله عليه‌السلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وحينئذ فإذا اعتقد المكلف انتفاء الضّرر علما أو بالأصل الشّرعي فهو لا محالة يأتي بذلك الفعل ويوقع نفسه في الضّرر وحينئذ فلا ريب أنّ مقتضى التّفضل حينئذ جعل الحكم ليتدارك به ذلك الضّرر لا رفعه كما لا يخفى أو نقول إنّ دليل حجّيّة الأصل كاشف عن وجود مصلحة يتدارك بها مفسدة الوقوع في الضّرر فلا يبقى مانع عن جعل الحكم في الواقع إذ المانع عنه إنّما هو مفسدة الضّرر فإذا ارتفعت بالتدارك لم يبق مانع بعد فرض وجود المصلحة فيه وعدم حدوث منقصة فيه إلاّ مزاحمة المفسدة فتحقق مما ذكرنا فرق آخر بين قاعدة نفي الضّرر المستفادة من العقل وبين حديث نفي الضّرر والضّرار وهو أنّ القاعدة أنّما أثبتت حكما شرعيّا كوجوب العمل بالظّنّ في المقام أو حرمة ارتكاب ما يحتمل الضّرر بخلاف الحديث فإنّه إنّما ينفي جعل حكم متضمن للضرر وليس بنفسه جاعلا للحكم الشّرعي ولهذا لم يتمسك به أحد في مقامنا هذا أعني مقام حجّيّة الظّن وكيف كان فلنرجع إلى ما كنا فيه ونقول إنّ وجوب دفع الضّرر الدّنيوي موقوف على عدم وجود الكاشف عن الانجبار وهو موجود أعني أدلة الأصول الدّالة على انتفاء التّكليف عند الجهل به لكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يتم لو ثبت حجّيّة الأصل بالسمع القطعي دون ما لو ثبت بالظّنّي أو بالعقل أمّا الأوّل فلأنّ غاية الأمر حصول الظّنّ بالتدارك وهو لا يوجب رفع احتمال الضّرر الّذي هو موضوع حكم العقل إلاّ أن يمنع من وجوب دفع غير المظنون وأمّا الثّاني فلأنّ حكم العقل بالبراءة إنّما يثمر دفع احتمال العقاب بلا بيان وهو لا ينفع في المقام لأنّ العقل إذا حكم بوجوب دفع الضّرر الدّنيوي المحتمل حكم به الشّرع أيضا لأنّ العقل من أدلة الشّرع فحصل البيان في ذلك فجاز العقاب وارتفع موضوع الأصل أعني عدم البيان فافهم وعلى هذا فيكون الأصل الأوّلي في الأشياء هو الخطر لاحتمال الضّرر الدّنيوي المترتب على احتمال التّكليف وأمّا استدلالهم على أصالة الإباحة ببناء العقلاء ففيه أنّ بناء العقلاء إنّما هو على الإباحة قبل ورود الشّرع وذلك لدوران الأمر حينئذ بين الضّررين في كل من الفعل والتّرك ولهذا يحكم بالإباحة أو من جهة عدم إدراك العقل للمفاسد الخفيّة الّتي يكشف عنها التّكاليف الشّرعيّة ولا نسلم أنّ العقل بعد ملاحظة وجود الشّرع يحكم بالإباحة نعم قد ثبت ذلك بالسمع القطعي ولا كلام فيه وهو كاف في بطلان الدّليل المذكور مع أنّه لو تم فلا يدل على حجّيّة الظّن أيضا وإنّما يدل على لزوم تطبيق العمل على الظّن بالتكليف احتياطا وهذا غير حجّيّة الخبر والظّن

 

كما لا يخفى الثّاني أنّه إذا دل خبر الواحد على وجوب شيء حصل الظّن به فكان راجحا وخلافه مرجوحا وترجيح الرّاجح على المرجوح قبيح عقلا وحاصله أنّه لما كان المقصود هو الوصول إلى الأحكام الواقعيّة فكل ما ترجح في النّظر أنّه الواقع فهو أقرب إلى المقصود فترجيح الموهوم عليه نقض للغرض وهو الوصول إلى الواقع فيكون قبيحا والجواب أنّ تماميّة هذا الدّليل موقوف على ثبوت التّكليف بالنّسبة إلى الواقع وعدم وجود العلم وعدم التّمكن من الاحتياط وإلاّ فإن قلنا بانصراف التّكليف من الواقع إلى مؤدى الطرق الشّرعيّة كان اللازم هو العمل بالظن في الطريق لا في الواقع لأنّه أقرب إلى المقصود وإن قلنا بوجود الطريق العلمي أو التّمكن من الاحتياط لم يجز اختيار الرّاجح وترك المرجوح بل كان اللازم أوّلا الاقتصار على العلم وثانيا العمل بالراجح والمرجوح معا لأنّه أقرب إلى الواقع من اختيار الرّاجح فقط مثلا لو ظن الإباحة وتوهم الوجوب فلا ريب في أنّ الإتيان به أقرب إلى الواقع لأنّه إدراك له على جميع الاحتمالات بخلاف ما لو طرح الوهم ولم يأت بالفعل فيحتمل كونه تاركا للواجب حينئذ وقد يقرر الدّليل المذكور بوجه آخر وهو أنّ العمل بالظن راجح أي حسن عقلا يثاب فاعله والعمل بالوهم مرجوح وقبيح عقلا يذم فاعله ويعاقب لأنّ الوهم كذب حقيقة وفيه أنّ الظّن أيضا إن لم يقم دليل على حجّيّته كان العمل به والتّدين به قبيحا كالوهم من غير فرق وإن قام الدّليل على حجّيّته كان المتبع هو الدّليل وإن فرض قيامه على الوهم وجب اتباعه فلا فرق بين الظّنّ والوهم من هذه الجهة ثم إنّ هذا الدّليل أيضا كسابقه لا يدل على فرض تسليمه إلاّ على لزوم تطبيق العمل بالظن من باب الاحتياط وإدراك الواقع لا حجّيّة الظّنّ ووجوب التّديّن به فضلا عن حجّيّة الخبر كما لا يخفى الثّالث أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كافة الأنام بلا كلام فيجب عليه تبليغ الأحكام ومقتضى هذين المطلبين صدور التّبليغ من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنقول إنّ التّبليغ الصّادر منه إمّا أن يكون بنفسه وهو منتف فرضا بل غير ممكن عادة وإمّا أن يكون بعدد التّواتر وهو أيضا كذلك أو بالآحاد المقرونة بقرائن القطع وهو كسابقيه فلم يبق من طرق التّبليغ إلاّ الواحد فيكون تبليغه الصّادر منه إنّما هو بخبر الواحد ثم نقول إنّه لو لم يجعل خبر الواحد حجّة تعبديّة لم يمكن التّبليغ به إذ يجب في التّبليغ أن يكون بحيث لا يبقى عذر للمكلفين والخبر لما كان غير مفيد للعلم لم يكن قاطعا للعذر إلاّ إذا جعله الشّارع حجّة تعبديّة فإذا دل الدّليل المذكور على ثبوت التّبليغ بالخبر دل على أنّ الخبر حجّة تعبديّة شرعيّة وهو المطلوب وفيه أنّ غاية ما يستفاد من هذا الوجه هو وجود طريق تعبدي وأمّا أنّه الخبر مطلقا أو بعض أقسامه أو شيء آخر معه فلا يستفاد منه فلا فائدة في نتيجة بل لا يتم هذه النّتيجة المحتملة أيضا إلاّ بعد إثبات عدم وجوب الاحتياط لأنّ تبليغ الأحكام المجعولة بنحو العلم ممكن غالبا فلم لا يجوز أن يكون هذا كافيا في التّبليغ لتمكن المكلفين من الامتثال بالاحتياط فيكون هذا الدّليل مفتقرا إلى مقدمات دليل الانسداد بل راجعا إليه في الحقيقة كما يظهر عند التّأمل وأمّا النّقل فأمور منها

 

قوله تعالى يا أيها الّذينءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا وجه الاستدلال أمران أحدهما أنّه تعالى علق وجوب التّبين على مجيء الفاسق بالخبر فينتفي عند انتفائه وإذا لم يجب التّبين عند مجيء غير الفاسق فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب أو الرّد فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق أو نقول إنّ المراد ليس وجوب التّبين بنفسه بل عند إرادة العمل بقوله فإذا انتفى وجوب التّبين بهذا المعنى في خبر العادل كان مقتضاه جواز العمل من غير تبين وهذا معنى الحجّيّة الثّاني أنّه علق وجوب التّبين على فسق المخبر فينتفي بانتفائه ومفهوم الوصف وإن لم يكن حجّة مطلقا لكنّه حجّة قد يكون حجّة بالقرائن كما هنا لأنّ وصف كونه خبر الواحد ذاتي ووصف كونه خبر الفاسق عرضي وتعليق الحكم على الوصف العرضي مع كون المناط فيه هو الوصف الذّاتي قبيح فيكون المناط هو الوصف العرضي واعترض عليه بأمور أحدها أنّ مفهوم الشّرط في الآية هو أنّه إذا انتفى مجيء الفاسق بالخبر ينتفي وجوب التّبيّن عن خبر الفاسق لأنّه الثّابت في المنطوق وإنّما ينتفي في المفهوم عين الحكم الثّابت في المنطوق لا شيء آخر غير وفيه أنّ تقييد النّبإ بالفاسق إنّما استفيد من الشّرطيّة ومثل هذا القيد لا يعتبر في الموضوع وإلاّ لكان مفهوم قولنا إن جاء زيد فأكرمه إن لم يجئ زيد فلا تكرم زيد الجائي لأنّه الموضوع في المنطوق فلا ينافي وجوب إكرام زيد الغير الجائي وهذا يوجب انسداد باب المفاهيم الثّاني أنّ مورد الآية هو إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق وخبر العادل الواحد ليس حجّة في الارتداد اتفاقا فليس للآية مفهوم بالنّسبة إلى موردها والقول بإرادة المفهوم بالنّسبة إلى غير المورد موجب لتخصيص المورد وهو مستهجن واعترض عليه بأنّ هذا ليس تخصيصا للمورد أمّا أوّلا فلأنّ المورد هو المنطوق ولم يتصرف فيه بشيء وأمّا ثانيا فلأنّه تقييد للمورد لا تخصيص لأنّ الخبر العدل الواحد في الارتداد أيضا حجّة كما هو مفهوم الآية لكن بشرط انضمامه إلى عدل آخر فلم يلزم إخراج العدل الواحد رأسا في مورد الآية ليلزم التّخصيص وأجيب عن الثّاني بأنّ الحجّة في الارتداد هو مجموع الشّاهدين لا كل واحد وحينئذ فلو شمل الآية للارتداد لكان المراد بمفهومها إثبات حجّيّة كل واحد في غير الارتداد وكل اثنين في الارتداد وهذا جمع بين المعنيين فإمّا تحمل على إرادة كل اثنين فلا تدل على حجّيّة خبر الواحد وتحمل على إرادة كل واحد وخروج الارتداد عن المفهوم وهو تخصيص للمورد لا تقييد والتّحقيق في وجه الإيراد أن يقال إنّ إرادة الشّرط موضوعة للتعليق وظاهر الكلام تعليق وجوب التّبين في النّبإ على الفسق مطلقا سواء كان في الموضوعات أم في أحكام أو غيرها مع أنّه ليس كذلك لأنّ التّبين في الارتداد ليس معلقا على الفسق بل إمّا على الفسق أو على وحدة العدل وحينئذ يجب عدم إرادة التّعليق بالنّسبة إلى المورد فإن أريد بالنّسبة إلى غيره لزم استعمال الأداة في المعنيين ولا فرق في هذا بين أن يكون الحجّة كل واحد من العدلين بشرط الانضمام أو المجموع من حيث المجموع وإذا لم يجز الجمع بين المعنيين وجب عدم إرادة التّعليق رأسا أو إرادة تعليق إطلاق

 

التّبين على الفسق فيكون المعنى أنّه لا يعتنى بالخبر أصلا ومطلقا إذا كان المخبر فاسقا أو إذا كان عادلا فليس كذلك بل مخبره إمّا بلا اشتراط كما في الأحكام أو بشرط الانضمام كما في الارتداد ولكن لا يمكن التّمسك بالآية حينئذ على حجّيّة خبر العادل في موارد الشّك لأنّ المهملة لا حجّة فيه على الخصم نعم يمكن التّمسك على الحجّيّة في الأحكام إذا لم يقل أحد باشتراط تعدد العدل فيها فمتى ثبت اعتبار قول العدل فيها في الجملة ثبت مطلقا بالإجماع المركب فتأمل الثّالث أنّ ذكر الشّرطيّة في الآية إنّما هو لبيان موضوع الحكم فلا يكون لها مفهوم كما في قولنا إن مات زيد فادفنه وإن ركب فخذ ركابه وذلك لأنّ التّبين عن النبإ لا يمكن إلاّ عند المجيء به ويمكن الجواب عنه بأنّ الشّرط ليس مطلق المجيء بل مجيء الفاسق ولا ريب في أنّ إمكان التّبين عن النّبإ لا ينحصر في صورة مجيء الفاسق به لإمكان تحققه عند انتفاء هذا الشّرط أعني مجيء العادل فلا يكون الشّرط لبيان تحقق الموضوع الرّابع أنّ مفهوم الآية معارض بمنطوق التّعليل المذكور في ذيلها حيث يقتضي عدم اعتبار غير العلم وبينهما عموم من وجه لأنّ المفهوم يقتضي حجّيّة خبر العادل أفاد العلم أم لا والتّعليل يقتضي عد حجّيّة غير العلم سواء كان خبر العادل أم لا ولا مرجح لتخصيص أحدهما بالآخر فالمرجع أصالة عدم حجّيّة الظّن وأجيب عنه بأنّ المفهوم أخص مطلقا من التّعليل لاختصاصه بخبر العدل الغير العلمي لأنّ المفهوم يجب اتحاده مع المنطوق موضوعا ولا ريب في أنّ الموضوع في المنطوق هو الخبر الّذي لا يفيد العلم وإلاّ لم يجب التّبين فيكون المفهوم مختصا به أيضا فالأولى في تقرير الاعتراض أن يقال إنّ تعليل الحكم بشيء يوجب تبعيّة الحكم للعلة في العموم والخصوص كقول الطبيب لا تأكل الرّمان لكونه حامضا فيتعدى إلى كل حامض كما يقتصر من الرّمان على خصوص الحامض هذا في غير الجملة الشّرطيّة وأمّا فيها فلما كانت هي ظاهرة في المفهوم وقع التّعارض بين الظّهورين ظهور الجملة في المفهوم وظهور التّعليل في العموم فلا بد من ترجيح أحد الظّهورين وطرح الآخر فإنّ رجحان التّعليل طرحنا المفهوم وبالعكس وحيث لا ترجيح فالمرجع هو الأصل وأجيب بأنّ المراد بالجهالة هو السّفاهة فيكون العلة هي إصابة القوم بسفاهة وهذه هي العلة في وجوب التّبين عن خبر الفاسق وهذه العلة منتفية في خبر العادل لأنّ العمل بقوله ليس سفاهة بحسب العرف لبناء العقلاء عليه ويشكل بأنّ العمل بخبر الفاسق قبل التّبين العلمي إن كان سفاهة لم يكن يصدر من الصّحابة لأنّهم عقلاء فلا معنى لنهيهم عنه بل الظّاهر أنّهم لم يكونوا يعملون به إلاّ بعد حصول الظّن لهم ومعه فليس العمل به سفاهة فالأولى أن يقال إنّ الغرض من ذلك تنبيهم على أنّ الفاسق ليس أهلا للاطمئنان من جهة عدم وجود الرّادع عن الكذب فيه فحصول الظّن بقوله ظن بدوي فلا ينبغي أن يلتفت إليه وهذه العلة منتفية في خبر العادل فإذا حصل الاطمئنان بقوله فلا جهالة في العمل به فتدل الآية على حجّيّة

 

الاطمئنان المستقر من أي شيء حصل وعلى هذا فيكون المراد بالجهالة خلاف الاطمئنان والمراد من التّبيّن طلب ظهور الحال أعم من العلمي أو الظّني غاية الأمر تقييده في المورد بخصوص العلمي وهو غير قادح وقد يقال إنّ الجهالة معناها خلاف العلم والمراد من التّبين هو خصوص العلمي ومع ذلك فليست العلة مشتركة وذلك لأنّ الجهالة تارة يراد بها عدم العلم أي الاعتقاد الجازم المطابق فيصدق على الشّكّ والظّنّ المطابق وغير المطابق والجزم غير المطابق وهذا المعنى غير مراد لأنّ العمل بالظّنّ المطابق لا يورث النّدم وقد تطلق على الاعتقاد الغير المطابق وهو المراد لأنّه الّذي يورث النّدم بسبب انكشاف خطائه ثم إنّ حصول اعتقاد الخطإ من خبر الفاسق تارة يكون من جهة سهوه وغفلته وأخرى من جهة تعمده للكذب والّذي يناسبه وصف الفسق هو الثّاني وحينئذ فيكون وجوب التّبين العلمي عن خبر الفاسق من جهة كونه سببا للوقوع في اعتقاد الخطإ من جهة احتمال تعمده الكذب بحسب النّوع فهذا هو الباعث لعدم جواز الرّكون إليه والعمل بخبره وهذه العلة منتفية في خبر العادل لانتفاء احتمال تعمد الكذب غالبا في حقه فهو من هذه الجهة لا يوقع في الخطإ وإن أوقع فيه من جهة احتمال السّهو والنّسيان لكنّه ليس علة لوجوب التّبين في خبر الفاسق حتى يقال بثبوت هذه العلة في العادل أيضا وحينئذ فلا تعارض بين المفهوم والعلة أصلا والحاصل أنّ الآية أنّما تدل بحسب المفهوم على عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب في العادل لأنّ فيه رادعا عنه بحسب الأغلب بخلاف الفاسق والأحكام الشّرعيّة تتبع الحكم الغالبة فلا يلزم فيه الاطراد وأمّا احتمال الخطإ والسّهو فالآية ساكتة عن نفيه وإثباته وإنّما يرجع فيه إلى أمر خارج ولهذا نقول بعدم الاعتناء به في المحسوسات لبناء العقلاء دون الحدسيّات وكذا نقول باشتراط كونه ضابطا لأنّ أصالة عدم السّهو والنّسيان لا يجري في غيره فافهم ويحتمل في الآية وجه آخر وإن كان ضعيفا وهو أن يكون المراد بالجهالة جهالة الفاسق المخبر فالمعنى تبينوا مخافة أن تصيبوا قوما بسبب الجهالة الثّابتة للفاسق حيث أخبركم كذبا فيكون أصابتكم للقوم مستندا إلى جهالته وهذه العلة منتفية في خبر العادل لأنّه ليس له جهالة بهذا المعنى غالبا والله العالم الخامس أنّ الآية ظاهرة في الإخبار بلا واسطة فلا تشمل أخبارنا الموجودة لكثرة الوسائط فيها بيننا وبين المعصوم وأجيب بأنّ كل واحد من تلك الوسائط يحكي خبرا بلا واسطة لأنّ إخبار الأخير إنّما هو عن إخبار سابقه وهو بلا واسطة وهكذا إخباره عن إخبار سابقه فيدخل الجميع في عنوان الإخبار من غير واسطة فيكون الجميع حجّة والأولى في تقرير الاعتراض أن يقال إنّ المراد من حجّيّة الخبر هو ترتيب آثار المخبر به عليه فحجّيّة الأخبار بالعدالة معناها وجوب ترتيب آثار العدالة الواقعيّة على الإخبار بها فيجب أن يكون للعدالة حكم واقعي قبل ذلك ليجب ترتيبها بدليل الحجّيّة وهذا المعنى مفقود في الإخبار الثّاني فإنّ حجّيّة إخبار زرارة عن محمد بن مسلم مثلا معناها

 

وجوب ترتيب آثار إخبار محمد بن مسلم على إخبار زرارة فيجب أن يكون لإخبار محمد بن مسلم حكم واقعي مع قطع النّظر عن الآية ليجب ترتيبها على إخبار زرارة بدلالة الآية وحجّيّة خبر محمد بن مسلم وإن كانت من الأحكام الواقعيّة الثّابتة له إلاّ أنّ ثبوتها له إنّما هو بهذه الآية وبتقرير آخر إذا تعلق الحكم بعام وجب أن يكون أفراده متساوية في تعلق الحكم بها فإذا فرض وجود فرد له بسبب ثبوت حكم العام لفرد آخر لم يمكن شمول الحكم لذلك الفرد لوجوب تقدم الموضوع على الحكم والمفروض في المقام أنّ ثبوت خبر محمد بن مسلم ودخوله في أفراد الخبر موقوف على ثبوت حكم العام لخبر زرارة إذ لو لا حجّيّة خبر زرارة لم يكن لمحمد بن مسلم خبر حتى يشمل حكم العام كذا قرره الفاضل الأنصاري ره وأجاب عنه بوجوه أحدها النّقض بالإقرار بالإقرار حيث حكموا بثبوت المقر به وترتبه عليه بنفس قوله عليه‌السلام إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ مع أنّ الإقرار الثّاني ليس ثابتا إلاّ بنفوذ الإقرار الأوّل والثّاني أنّ ترتب أفراد العام في الوجود وكون بعض الأفراد علة لبعض لا ينافي تساوي إقدامها في الحكم في نظر الحاكم والثّالث أنّ حكم العام وإن لم يشمل هذا الفرد الثّاني لقصور العبارة لكنّه معلوم بتنقيح المناط للعلم بعدم الفرق بين أفراد الخبر في هذا الحكم أقول أمّا الجواب الثّاني فضعفه ظاهر إذ ليس التّرتب في المقام بين نفس الأفراد بل التّرتب إنّما هو بين ثبوت الحكم لفرد وبين وجود فرد آخر ومثل هذا مانع عن تساوي الإقدام لاستلزام شمول الحكم للفرد الثّاني تقدم الحكم على ثبوت الموضوع والجواب النّقضي لا يدفع الإشكال وأمّا الآخر فلا يتم الجواب به إلاّ على التّقرير الثّاني وهو فاسد جدا لأنّ معنى حجّيّة الخبر ليس إثبات نفس المخبر به في مرحلة الظّاهر ليترتب عليه الحكم الواقعي بدليله فلو أخبر بطهارة الماء مثلا فليس معنى حجّيّة الحكم بكون هذا الماء طاهرا فثبت له الحكم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل ماء طاهر فهو مطهر للحدث والخبث بأن يكون دليل الحجّيّة مثبتا للصغرى وينضم إليه الكبرى الثّابتة بدليلها وذلك لأنّ الحكم في الكبرى إنّما يرد على الأفراد الواقعيّة ودليل الحجّيّة إنّما يثبت الفرديّة الظّاهريّة فبضمها إلى الكبرى لا ينتج ثبوت الحكم بل معنى حجّيّة الخبر وجوب ترتيب الآثار الواقعيّة الثّابتة للمخبر به الواقعي على الإخبار فهذا الخطاب بنفسه جاعل لأحكام العدالة الواقعيّة للإخبار بالعدالة لأنّ دليل حجّيّة الخبر يثبت كون المخبر بعدالته عادلا فيثبت له أحكام العادل بدليله لما عرفت وحينئذ ظهر لك بطلان التّقرير الثّاني لأنّ معنى حجّيّة خبر زرارة ليس أنّ خبر محمد بن مسلم فيثبت له حكم الخبر بالخطاب العام ليرد أنّ الأفراد يجب تساويها في الإقدام وذلك لأنّ الخطاب العام لا يشمل إلاّ الأفراد الواقعيّة للخبر دون الأفراد الظّاهريّة فجعله خبرا في الظّاهر لا ينفع في إثبات حكم العام بل معنى حجّيّة خبر زرارة بإخبار محمد بن مسلم هو وجوب ترتيب الآثار الواقعيّة النّائبة لخبر محمد بن مسلم في الواقع على إخبار زرارة ومنه يظهر قوة التّقرير الأوّل وعدم صحة الجواب عنه بهذه الوجوه وكذا نقول في مسألة الإقرار بالإقرار فإنّ معنى نفوذ الإقرار هو ترتب الأحكام الواقعيّة الثّابتة للمقر به على الإقرار في الظّاهر فيجب أن يكون ذلك الحكم الواقعي ثابتا للمقر به

 

مع قطع النّظر عن دليل نفوذ الإقرار لأنّ الحكم الواقعي والظّاهري لا يمكن إثباتهما بخطاب واحد إذ ليس معنى الحكم الظّاهري إلاّ إثبات الأحكام الواقعيّة ظاهرا فهذا الخطاب يكون متأخرا بالطبع عن الخطاب الدّال على الحكم الواقعي فلا يمكن إثباتهما بخطاب واحد فالإقرار المتقدم من أحكامه الواقعي هو النّفوذ وهذا قد ثبت بالخبر فهذا الحكم لا يمكن ترتيبه على الإقرار الثّاني لأنّه في هذه المرحلة يكون ظاهريّا مترتبا على الإقرار الثّاني فيكون الخبر دالاّ على الحكم الواقعي والحكم الظّاهري معا وهو فاسد ولا يمكن أن يقال إنّ فرديّة الإقرار الثّاني إنّما هي بعد ثبوت النّفوذ للإقرار الأوّل كما هو معنى التّقرير الثّاني لما عرفت من أنّه ليس معنى النّفوذ هو كون نفس المقر به ثابتا في الظّاهر ليثبت له الحكم بدليله فإنّ نفوذ الإقرار بالدّين ليس معناه الحكم بثبوت الدّين في الظّاهر ليثبت له وجوب الأداء بما دل على وجوب أداء الدّين لما عرفت من أنّ الحكم في الكبرى إنّما ورد على الأفراد الواقعيّة دون الظّاهريّة بل معنى النّفوذ هو الحكم بثبوت أحكام الدّين الواقعي للإقرار بالدّين فيسقط التّقرير الثّاني رأسا نعم يبقى الإشكال الأوّل في المسألة وفي مسألة الإقرار بالإقرار وفي مسألة الشّهادة على الشّهادة فإنّ حجّيّة شهادة الأصل على فرض تحققها في الواقع إنّما تثبت بدليل حجّيّة الشّهادة فلا يمكن ترتيبها على شهادة الفرع ظاهرا بنفس ذلك الدّليل وإلاّ لكان مثبتا للحكم الواقعي والظّاهري معا وهو باطل حسب ما عرفت وقد ظهر ذلك بما قررنا أنّ التّقريرين متناقضان لأنّ مقتضى التّقرير الثّاني هو أنّ ثبوت الحكم للخبر السّابق موقوف على ثبوته للخبر اللاحق إذ لو لم يثبت اللاحق لم يكن السّابق خبرا حتى يكون حجّة ومقتضى التّقرير الأوّل هو أنّ ثبوت الحكم للخبر اللاحق موقوف على ثبوته للخبر السّابق إذ لو لم يثبت الحجّيّة للخبر السّابق لم يكن له أثر شرعي حتى يترتب على حجّيّة الخبر اللاحق فلم يكن لحجّيّته معنى فحجّيّة اللاحق موقوفة على حجّيّة السّابق والحاصل أنّ الخبر اللاحق طريق بالنّسبة إلى الخبر السّابق فإذا لم يكن للسابق حكم لم يعقل جعل الطريق له وهذا هو عدم جواز إثبات الحكم الظّاهري والواقعي بخطاب واحد لأنّ جعل الطريق وذي الطريق مترتبان لا يمكن إنشاؤهما بخطاب واحد فعلم أنّ جعل التّقرير الثّاني عبارة أخرى عن التّقرير الأوّل لا وجه له أصلا وعلمت أنّ الحق في تقرير الاعتراض هو الأوّل والشّأن إنّما هو في الجواب عنه وقد يجاب عنه بأنّ الأفراد إذا كانت مترتبة في الوجود فلا ضرر في تقدم بعضها على بعض في ثبوت الحكم وهنا كذلك فإنّ الخبر الثّاني مترتب على الخبر السّابق فيدخل الخبر السّابق الثّابت واقعا تحت حكم العام قبل الخبر الثّاني المترتب عليه ثم يدخل الخبر الثّاني وهذا المقدار من التّقدم كاف بالنّسبة إلى الحكم الواقعي والظّاهري وكذا في مسألتي الإقرار بالإقرار والشّهادة بالشّهادة فإنّ الشّهادة السّابقة متقدمة بالوجود دائما على الشّهادة اللاحقة فحكم وجوب القبول يلحق السّابقة أولا فيثبت لها حكم وجوب القبول واقعا ثم يلحق اللاحقة ومعنى وجوب قبولها وجوب ترتيب آثار السّابقة عليها ومنها وجوب القبول فافهم

 

فإنّه دقيق ويمكن الجواب بتنقيح المناط فإنّا نعلم عدم الفرق بعد وجوب ترتيب الآثار على المخبر به بين الآثار الثّابتة بنفس هذه الآية وبين غيرها من الآثار فإذا ثبت وجوب ترتيبها بهذه الآية ثبت هذا الأثر أيضا بتنقيح المناط القطعي وقد يقرر أصل الاعتراض بوجه آخر وهو أنّ المراد بالبناء في الآية هو الخبر الّذي يكون مقصودا بالبيان بالأصالة كالارتداد في موردها وأمّا إخبار الواسطة فلا يقصد الإخبار به أصالة بل هو واسطة في الإخبار بالمطلوب فإذا ضم إلى ذلك ظهور فيما لا يكون له واسطة تم الاعتراض ولا يمكن الجواب السّابق بأنّ كل راو إنّما يحكي خبرا بلا واسطة وذلك لأنّه ليس خبرا مقصودا بالأصالة نعم يمكن منع اعتبار كونه مقصودا بالأصالة وله وجه السّادس أنّ المراد بالفاسق كما يظهر من اللّغة هو مطلق الخارج عن طاعة الله سواء كان بالصغائر أو الكبائر أو من ارتكب كبيرة وكل ذنب كبيرة وهو موضوع للفاسق الواقعي وأعم ممن كان فاسقا قبل الخبر أو صار فاسقا بالكذب في هذا الخبر وحينئذ فلا يكون الحجّة إلاّ خبر من يعلم منه الاجتناب عن جميع الذّنوب حتى الصّغائر في الواقع وحتى في نفس هذا الخبر ولا يعلم ذلك إلاّ في خبر المعصوم فإنّ غيره لا يخلو من ارتكاب الصّغائر أو احتماله في حقه احتمال الكبيرة ولو بالكذب في هذا الخبر فيدل الآية على حجّيّة خبر المعصوم ولا كلام فيه وأجيب عنه بأنّ احتمال إرادة الفاسق بنفس هذا الخبر بعيد جدا إذ الظّاهر من الآية أنّ من كان فاسقا قبل هذا الخبر تبين عن خبره وهو ظاهر وأمّا تعميم الفسق بالنّسبة إلى مرتكب الصّغائر فهو أيضا فاسد بل هو عبارة عن كل مرتكب للكبيرة والقول بأنّ كل ذنب كبيرة أيضا فاسد ويدل على فساد كلتا الدّعويين الصّحيحة الواردة في تحديد العدالة حيث قال بم يعرف عدالة الرّجل فقال عليه‌السلام ما حاصله أنّها تعرف باجتناب الكبائر فلو كان كل ذنب كبيرة لقال عليه‌السلام باجتناب الذّنوب مضافا إلى قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم إذ لو كان كل ذنب كبيرة لم يبق بعد اجتناب الكبائر سيئة حتى تكفر وقد دلت الصّحيحة على أنّ العدالة هي اجتناب الكبائر وهو ضد للفسق لا يمكن اجتماعهما في الشّخص فلو كان ارتكاب الصّغائر فسقا لزم كون مرتكبها وتارك الكبائر عادلا وفاسقا معا وهو محال فدلت الصّحيحة على أنّ الفسق هو ارتكاب الكبائر ومن الظّاهر أنّ المراد من الصّحيحة بيان العدالة الّتي هي الموضوع للأحكام الشّرعيّة وحينئذ فلا تفاوت بين أن يقال إنّ هذا هو المعنى اللّغوي أو الشّرعي أو غيرهما إذ لا يتعلق غرض بالبحث عن ذلك وكيف كان فلا يعتبر في العدالة الّتي هي الموضوع للأحكام الشّرعيّة إلاّ ما ذكر في الصّحيحة نعم العدالة في اصطلاح علماء الأخلاق ملكة يقتدر بها العقل العملي على إدخال القوى النّفسانيّة تحت العقل النّظري أو ملكة تقتدر بها على الاقتصاد والتّحفظ عن الوقوع في طرفي التّفريط والإفراط ويقابلها الجور باصطلاحهم وهذا المعنى لا يعتبر في العدالة الشّرعيّة لعدم وجوده في غير المعصوم غالبا نعم نسلم كون الفاسق اسما للفاسق الواقعي فيثبت من الآية أنّ خبر من لا

 

يكون مرتكبا للكبائر واقعا مع قطع النّظر عن هذا الخبر حجّة وهذا كثير في الأخبار وأمّا معرفة كون هذا الرّاوي متصفا بعدم اجتناب الكبائر فهو أمر خارج عما نحن بصدده وسيأتي الكلام فيه في شرائط الخبر وأنّ العدالة تثبت بأي شيء وأنّها شرط أو الفسق مانع ونحو ذلك من المباحث إن شاء الله ومن الآيات قوله تعالى في سورة البراءة وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون أوجب الحذر عند إنذار المتفقّهين الّذين هم طائفة من كل فرقة من غير تقييد بكونه مفيدا للعلم فيكون إخبارهم حجّة مطلقا وهو المطلوب أمّا كون الحذر واجبا فلوجهين أحدهما أنّه جعل غاية للإنذار الّذي هو غاية للتفقّه الّذي هو غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة التّنديم لكن هذا الاستدلال يتوقف على حمل لعل بمعنى كي التّعليليّة كما هو أحد معانيها حتى يتحقق كون الحذر غاية وأيضا يتوقف على كون المراد من المتفقّهين هم النّافرين ليثبت كون التّفقه غاية للنفر وأمّا على التّفسير الآخر للآية وهو كون المراد تفقّه المتخلفين لإنذار النّافرين بعد رجوعهم فيقرر بوجه آخر وهو أنّ التّنديم في الحقيقة حينئذ راجع إلى نفر الجميع ومقتضاه وجوب تخلف البعض والتّفقه غاية لهذا الواجب المستفاد من التّنديم ضمنا الثّاني أنّ كلمة لعل لا يمكن استعمالها في التّرجي الّذي هو ارتقاب الشّيء الّذي لا يوثق بحصوله فإنّ هذا المعنى مستحيل بالنّسبة إلى العليم الخبير فتكون مستعملة في الطلب فيكون الحذر عند الإنذار مطلوبا فحينئذ نقول إنّ الحذر إن كان المراد به العمل بالخبر والتّدين بمضمونه ثبت المطلوب وهو الحجّيّة لأنّ جواز التّدين بما لم يثبت حجّيّة باطل قطعا لأنّه تشريع محرم عقلا ونقلا فيكشف جواز العمل بشيء عن كونه حجّة وإن كان المراد به محض تطبيق العمل فنقول ظاهر الحذر هو الحذر عن العقاب الأخروي واستحبابه غير معقول لأنّه إن كان بعد قيام الحجّة على التّكليف كان واجبا وإن كان قبل قيام الحجّة كان العقاب مقطوع العدم فلا معنى للحذر عنه فلا ينفك رجحان الحذر من العقاب عن وجوبه الكاشف عن قيام الحجّة فيثبت كون الخبر حجّة وهو المراد واعترض عليه بوجوه أحدها أنّ المراد بالتّفقه هو استنباط الأحكام عن الأدلة والحكم المستفاد منها إنّما يكون حجّة على المقلد لا مجتهد آخر ولا يشمل التّفقه استعلام الخبر وروايته وفيه أنّ التّفقّه بهذا المعنى اصطلاح جديد وإلاّ فالمراد به استعلام المسائل الدّينيّة فيكون الإنذار عبارة عن نقل ما استعمله من المسائل وإن كان بطريق الرّواية الثّاني أنّه لا داعي لإخراج كلمة لعل عن معناها وهو الارتقاب واستحالته من الله لا يوجب ذلك لإمكان حمله على ارتقاب المخاطب كما أنّ أو يحمل على تشكيك المخاطب فيكون المعنى لينذروا مرتقبين حصول الحذر مع عدم الوثوق بحصوله لكون حصوله موقوفا على حصول العلم بقول المنذر وعدم المانع عن العمل ولما كان كلا الأمرين غير موثوق الحصول بالإنذار كان حصول الحذر مرتقبا

 

فلا تدل الآية على وجوب حصول الحذر مطلقا بل يكون احتمال حصوله بحصول العلم وفقد الموانع غاية للإنذار الواجب كما أنّ احتمال حصول العلم للحاكم بقول الشّاهد الواحد يكفي في وجوب الإقامة عليه هذا مع عدم اطراد إتيان لعل بمعنى كي التّعليليّة أو بمعنى الطلب حتى في كلام الله تعالى لانتقاض الأوّل بقوله تعالى وما يدريك لعله يزكى والثّاني بقوله تعالى وما يدريك لعل السّاعة قريب بل الأوّل به أيضا وإنّما المناسب فيهما هو المعنى الّذي ذكرنا الثّالث أنّ المراد بالتفقّه هو استعلام الأحكام الواقعيّة الثّابتة في الشّريعة فيكون المراد من أنّ الإنذار تبليغ تلك الأحكام الواقعيّة والمراد بالحذر العمل بتلك الأحكام الواقعيّة المستعملة المنقولة فإذا لم يعلم المنقول له أنّ ذلك إنذار بالحكم الواقعي لم يجب العمل عليه ولا يعلم ذلك إلاّ بعد العلم بصدق المخبر والحاصل أنّ الغرض من الآية وجوب العمل بالأحكام الواقعيّة لا وجوب العمل بكل ما يقال إنّه الحكم الواقعي ليثبت حجّيّة الخبر الرّابع أنّ الإنذار هو الإبلاغ مع التّخويف والحذر هو التّخويف الحاصل بعد التّخويف ولا ريب أنّ التّخوف عند التّخويف لا يجب إلاّ على المقلد عند إنذار المجتهد وأمّا المجتهد فلا يجب عليه التّخوف بمحض تخويف الراوي بل يجب عليه ملاحظة معنى الرّواية وأنّها دالة على ما يوجب الخوف أو لا فإيجاب التّخوف بمحض التّخويف قرينة على إرادة وجوب التّقليد على العامي لا على وجوب تصديق الراوي على المجتهد ويشهد له استدلالهم بالآية على حجّيّة الفتوى على المقلد والجواب عن الأوّل منع انحصار التّفقه في الاستنباط الظّني بل استعلام الخبر تفقه ونقله إنذار بل لم يكن التّفقه والإنذار في زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بهذا الطريق كما لا يخفى وعن الثّاني أنّ الظّاهر من الآية هو كون الحذر مطلوبا عقيب الإنذار ومقتضاه كون الإنذار علة مستقلة لطلب الحذر من غير واسطة شيء ولو توقف طلبه على حصول العلم بالإنذار لكان المعنى لينذروا قومهم لعلهم يعلمون فيحذرون وهو خلاف الظّاهر المتبادر من الآية عرفا واحتمال كون التّرديد من جهة انتفاء المقتضي في بعض الأوقات خلاف الظّاهر ولا يعتنى به عرفا وعن الثّالث أنّ كون التّفقه هو استعلام الواقع مسلم لكن وجوب كون الإنذار بنفس الواقع ممنوع بل يجب الإنذار ربما اعتقده واقعا لأنّ التّكليف بالإنذار بنفس الواقع تكليف بما لا يطاق لعدم تميز الاعتقاد المطابق للواقع عن غير المطابق في نظر المعتقد فتكليفه بالإنذار بخصوص المطابق غير جائز فليس المطلوب إلاّ الإنذار بما يعتقده المنذر بالكسر أنّه الواقع والمفروض وجوب الحذر والعمل بتلك الأحكام الّتي وقع بها الإنذار فإذا تفقه الشّخص واعتقد حكما هو الحكم الواقعي فأنذر به وجب على المنذر بالفتح العمل بذلك المعتقد لأنّه الحكم المنذر فلا يشترط فيه علمه بكونه الحكم الواقعي نعم يعتبر علمه بكونه هو الحكم المعتقد للمتكلم وهو يحصل من نفس إخباره عادة فتأمل وعن الرّابع أنّ الإنذار يصدق بنقل ألفاظ الخبر الدّال على التّكليف وإن استند الخوف إلى فهم نفس المنذر بالفتح لا يجب في صدقه كون الخوف مستندا إلى فهم المنذر بالكسر

 

حتى ينحصر المورد في الإفتاء بل ليس مضمون الآية إلاّ نظير أن يقول المجتهد لمقلديه لو لا نفر منكم طائفة ليتعلموا مسائلهم مني ثم ينذروا العوام لعلهم يحذرون أترى أنّ ذلك إيجاب لتقليد العوام للوسائط بينهم وبين المجتهد فالحق أنّ الآية شاملة لنقل الخبر والإفتاء ويشهد لما ذكرنا من أنّ الإنذار يصدق بنقل ما يتضمن التّخويف قوله تعالى وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ حيث نسب الإنذار بنقل القرآن إلى نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس ذلك إلاّ لكونه ناقلا للآيات المتضمنة للتخويف وإن كان حصول الخوف مستندا إلى فهم السّامعين لا إلى تفسير ومن الآيات قوله تعالى في سورة البقرة إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون أوجب على العلماء بيان ما يعلمونه من الهدى ومنه الأخبار المسموعة عن النّبي والأئمة عليهم‌السلام وحرم عليهم الكتمان ويلزمه إيجاب القبول وإلاّ لكان الإظهار لغوا واعترض عليه بوجوه أحدها أنّ حرمة الكتمان لا تستلزم وجوب القبول مطلقا ولا يلزم اللّغو لأنّه ربما أوجب حصول العلم فيجب الإظهار طلبا لحصول العلم كما أنّ حرمة كتمان الشّهادة لا تدل على وجوب قبول شهادة الواحد ويؤيد ذلك أنّ الآية واردة في كتمان أهل الكتاب علائم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الموجودة في كتبهم مع أنّ إظهارهم ليس حجّة إذا لم يفد العلم لكونه من أصول الدّين الثّاني أنّ وجوب القبول فرع العلم بأن ما أظهره النّاقل هو الهدى الواقعي لأنّه الّذي يحرم كتمانه فمتى لم يعلم صدقه لا يجب عليه القبول لاحتمال أنّه قد كتم الهدى وأظهر الضّلال فلا يجب القبول منه الثّالث أنّه مقيد بالهدى المبين للناس في الكتاب فيدل على وجوب قبول الخبر الّذي مضمونه كان موجودا في الكتاب وهو غير نافع فإنّ مضمون الخبر إذا كان قطعيّا لم يثمر النّزاع في حجّيّته شيئا وإنّما النّزاع في الخبر الّذي لم يقطع بصدق مضمونه من دليل آخر والجواب عن الثّاني هو ما تقدم في آية النّفر من أنّ التّكليف بإظهار الحق الواقعي غير جائز بل المكلف به هو إظهار ما يعتقد كونه حقا فيكون الواجب هو قبول ما يعتقده المخبر حقا لا الحق الواقعي وعن الأخير أنّ جميع الأحكام مبين في الكتاب على ما ورد في الأخبار غاية الأمر عدم تمكن غير الأئمة من استنباطها وهو غير قادح لكن الإيراد الأوّل موجه إلاّ أنّ الأولى في تقريره أن يقال إنّ الكتمان عبارة عن السّتر والإخفاء وحرمته لا تدل على وجوب القبول وإن سلمنا وجوب القبول عند وجوب الإظهار للفرق الظّاهر بين وجوب الإظهار وبين حرمة الكتمان فإنّ الأوّل يدل عرفا على وجوب القبول بخلاف حرمة الكتمان فإنّ كتمان الحق في نفسه أمر قبيح دال على خبث سريرة فاعله فيجوز أن يكون حراما بنفسه بخلاف ترك الإظهار فإنّه لا يدل على خبث الباطن فلا يكون حرمته إلاّ من جهة وجوب القبول وإلاّ لكان وجوب الإظهار لغوا في نظر العرف فتأمل ومن الآيات قوله تعالى فاسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون أوجب السّؤال من أهل الذّكر عند عدم العلم وظاهره أنّ محض

 

الجواب هو العلم فيكون الجواب علما شرعيّا حيث لا يكون علما حقيقيّا وهو معنى الحجّيّة أو يقال إنّه إذا لم يكن الجواب حجّة لكان السّؤال لغوا واعترض عليه أوّلا بأنّ الظّاهر من تعليق السّؤال على فقد العلم أنّ الغرض منه تحصيل العلم والظّاهر منه العلم الحقيقي فلا يدل على حجّيّة الجواب تعبدا وثانيا بأنّ سوق الآية شاهد على أنّ المقصود هو السّؤال عن بشريّة الأنبياء من أهل الكتاب ليحصل العلم من قولهم فالمسئول عنه أمر مخصوص وأهل الذّكر أشخاص مخصوصون فلا يعم وثالثا أنّ الأمر دائر بين تقييد السّؤال بالسؤال المخصوص أعني السّؤال عن بشريّة الأنبياء لغرض تحصيل العلم وبين إبقائه على إطلاقه وتخصيص أهل الذّكر بالمجتهدين أو الرّواة الجامعين للشرائط من العلم والعدالة والضّبط وتخصيص المسئول عنه الّذي هو عام مقدر حينئذ بخصوص من الأحكام الفرعيّة لعدم حجّيّة الظّن في الأصول ولا ريب أنّ التّقييد مقدم على التّخصيص تقديما لأصالة الحقيقة في العام الّتي هي الدّليل بالنّسبة إلى أصالة الإطلاق الّتي هي حكم العقل المستند إلى انتفاء الدّليل على التّقييد كما قرر في محله ورابعا أنّه لو قطع النّظر عما ذكر فالظّاهر من الآية أنّ السّؤال عن أهل الذّكر إنّما يكون للعلم وكون الشّخص من أهل الذّكر مدخل فيه وهو الفتوى والحكم الواقعي دون سماع ألفاظ الخبر من الإمام عليه‌السلام فإنّه لا مدخليّة لكون الشّخص من أهل الذّكر في ذلك لإمكان صدوره من كل أحد فيكون تعليق السّؤال عن سماع الألفاظ على أهل الذّكر نظير أن يقال سل الطبيب هل قدم زيد من السّفر أو لا فإنّه قبيح في العرف كقبح أن يقال سل العطار عن قيمة البطيخ والفقيه عن سعر الحنطة والشّعير ونحو ذلك وحينئذ فينحصر مورد الآية في الأمر بالتّقليد كما استدلوا بها عليه دون الرّواية ونقلها وخامسا أنّها لا تدل على وجوب قبول الخبر ابتداء بل بعد السّؤال فلا تعم المدعى والجواب عن الأوّل أنّ الظّاهر من هذا الكلام أنّ وظيفة الجاهل إنّما هو السّؤال عن أهل العلم فكأنّه إرشاد إلى ما ارتكز في الأذهان من اعتبار قول الثّقة إذا كان من أهل الخبر في كل ما يعد فيه من أهل الخبرة كما يقال إذا جهلت الطريق فاسأل الطائفة الفلانيّة فلا يراد من مثل هذا اشتراط العمل بقولهم بحصول العلم كما لا يخفى وعن الثّالث أنّ أولويّة التّقييد على التّخصيص بحسب استنادها إلى الظّهور العرفي ولا يخفى أنّه مع قطع النّظر عن سوق الآية لا ريب في أولويّة التّخصيص هنا على مثل هذا التّقييد وعن الرّابع أنّ الراوي كما أنّه سامع للألفاظ عن الإمام فلا ريب في أنّه عالم بالحكم من نفس الرّواية فإذا وجب الرّجوع إليه في استعلام الحكم فإذا أجاب بما يعلم منه الحكم وجب العمل به سواء أجاب بنفس علمه وهو الإفتاء أو بطريق علمه وهو الرّواية فتشمل الآية الفتوى والرّواية معا غاية الأمر اختصاص كل منهما بطائفة من الخارج أعني المقلد والمجتهد ولا ضير فيه وعن الخامس أنّ حجّيّة القول هو الدّاعي إلى وجوب السّؤال لأنّ السّؤال يوجب حجّيّة الجواب وهو ظاهر نعم الإيراد الثّاني متجه وهو أنّ سياق الآية مناف للحمل على العموم بل يفهم

 

عرفا من مثل هذا خصوص السّؤال المعين لكن يمكن دفعه بما ذكر في الجواب عن الأوّل من أنّ الغرض منه التّنبيه على ما ارتكز في الأذهان من قبول قول الثّقة في ذلك والعمل به إذا أفاد الاطمئنان والله العالم ومنها قوله تعالى في سورة البراءة ومنهم الّذين يؤذون النّبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذينءامنوا منكم والّذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم مدحه الله تعالى على تصديقه للمؤمنين وليس التّصديق إلاّ عبارة عن ترتيب آثار المخبر به على الخبر ويؤيّده الخبر الوارد في حكاية إسماعيل حيث أراد إعطاء الدّنانير لرجل فقال له الصّادق عليه‌السلام أما بلغك أنّه يشرب الخمر قال سمعت النّاس يقولون فقال عليه‌السلام إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم واستشهد بهذه الآية فلو لا أنّ المراد ترتيب الآثار لم يكن للاستشهاد وجه واعترض عليه بأنّ الآية واردة في الجواب عما ذكره المنافقون من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أذن والمراد به سريع الاعتقاد بشيء فيكون المدح على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حسن الظّن بالمؤمنين فيعتقد كلما يقولون فلا تدل على العمل تعبدا بل بعد الاعتقاد وأجيب عنه بأنّ الحمل على هذا المعنى غير ممكن بعد ملاحظة مورد الآية حيث ذكر في تفسيرها أنّها نزلت في نمام كان من المنافقين فأخبر جبرئيل بخبره فأحضره النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بذلك فأنكر وحلف عليه فصدقه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج وذكر لأصحابه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أذن أخبره جبرئيل بأنّي أنم عليه فقبل وأخبرته بعدمه فقبل مني فنزلت الآية في رده ولا ريب أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يعتقد صدق خلاف ما أخبر به جبرئيل وحينئذ فليس المراد حصول الاعتقاد فيندفع هذا الاعتراض نعم يرد اعتراض آخر وهو أنّه ليس المراد أيضا القبول تعبدا لمنافاته المورد مع أنّه لا يمكن العمل بقول جميع المؤمنين حذرا من التّناقض مع أنّ كون المراد ترتيب الآثار ينافي كونه رحمة لجميع المؤمنين كما في ذيل الآية إذ ربما أخبر بارتداد طائفة منهم فترتيب الآثار عليه يوجب إيذاءهم وقتلهم وهو ينافي الرّحمة العامة فيكون المراد به التّصديق الصّوري أي لا ينكر عليهم قولهم وأمّا ترتيب الآثار فهو أمر آخر نعم ربما يوجب الخبر في مورد لزوم الاحتياط والحذر كما في حكاية إسماعيل لا لأنّه ترتيب للآثار على الخبر ولعل هذا هو السّر في التّفريق بين الإيمان بالله والمؤمنين في تعدية الأوّل بالباء والثّاني باللام ويمكن أن يقال إنّ للتصديق مراتب ثلاث أحدها التّصديق الواقعي أعني الاعتقاد والثّاني التّصديق الظّاهري وهو القبول التّعبدي أو ترتيب الآثار والثّالث التّصديق الصّوري وعدم الإنكار والكل مذكور في الآية الشّريفة فالأوّل هو قوله يؤمن بالله والثّاني قوله يؤمن للمؤمنين والمراد المؤمن الحقيقي والثّالث قوله ورحمة للذينءامنوا منكم والمراد المؤمن الصّوري ويكون هذا هو الجواب عن قوله هو أذن لئلا يلزم التّكرار في الآية وحينئذ فيدل الآية على لزوم قبول قول المؤمن الحقيقي تعبدا ويتم الاستدلال وأمّا الفرق بالباء واللام فإنّما هو لكون المراد بالأوّل التّصديق بالوجود والثّاني غيره مما هو غير مذكور في الآية أقول لا يخفى أنّ المراد بقوله يؤمن للمؤمنين أمّا الاعتقاد

 

الحقيقي وهو غير نافع في الاستدلال سواء أريد المؤمن الحقيقي أو الصّوري كما علم في الاعتراض الأوّل وأمّا التّصديق الصّوري وهو أيضا غير نافع كما مر وأمّا التّصديق التّعبدي والحمل عليه مشكل إلاّ أن يراد إخبارهم في الموضوعات الخارجيّة مع تعدد المخبر وهو الشّهادة وذلك لأن وجوب قبول قول المؤمنين على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن في الأحكام الشّرعيّة قطعا ولا في الموضوعات من غير تعدد وحينئذ فإذا لم يكن ذلك ثابتا في حقه لم يمكن جعل المراد في الآية التّصديق في كل خبر حتى ينفعنا في الاستدلال ومتى لم يثبت الحكم في مورد الآية كيف يتعدى منه إلى غيره فافهم وأمّا حديث إسماعيل فقد يستدل به على حجّيّة شهادة العدل مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل نظرا إلى أنّ المراد بالمؤمنين فيه هو الجنس والمقصود منه من اتصف بالإيمان ويرد عليه أنّه يلزم حينئذ إخراج الموارد الّتي ليس الحجّة فيها إلاّ شهادة العدلين لأنّ إرادة الواحد والمتعدد جمع بين المعنيين وليس بينهما قدر مشترك يحمل عليه وحينئذ يلزم إخراج المورد لأنّه الشّرب الّذي لا يثبت بخبر الواحد وهذا الاعتراض يرد لو حمل المؤمنون على الاستغراق أيضا بإرادة التّوزيع لا أن يكون موضوع وجوب التّصديق هو شهادة الجميع بل الحكم هو وجوب تصديق كل واحد عند شهادته فيرد عليه لزوم إخراج المورد ولهذا قيل الأولى حمل المؤمنين على الاستغراق العرفي فيكون الخبر دليلا على حجّيّة الشّياع مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل ولا نسلم عدم حجّيّته في المورد ليلزم التّخصيص به أقول الاستغراق العرفي يتصور بوجهين أحدهما الاستغراق الحقيقي بالنسبة إلى موضوع يحكم العرف بكونه مقيدا كما لو قيل جمع الأمير الصّاغة فإنّ العرف يقيدها بصاغة البلد ويكون المراد الاستغراق الحقيقي بالنّسبة إلى صاغة البلد والثّاني شمول الحكم لأكثر الأفراد بحيث ينزل الباقي منزلة العدم في نظر العرف وشيء من المعنيين لا يناسب الخبر إذ ليس المراد أكثر أفراد المؤمنين ولا المراد جميع مؤمنين بلد المخاطب ولو سلم فليس شيء منهما معنى الشّياع إذ قد يكون جميع مؤمنين البلد ثلاثة أو أربعة ولا يحصل منهما الشّياع وقد يكون أكثرهم ثلاثة مثلا وهو ليس بشياع فالأولى هو الحمل على المعنى الأوّل أعني الجنس وإنّما يلزم تخصيص المورد إن قلنا في شهادة العدلين بأنّ الحجّة هو المجموع وأمّا إن قلنا إنّ الحجّة هو كل منهما بشرط الانضمام فلا يلزم شيء فنقول إنّ الخبر يشمل شهادة كل عدل غاية الأمر ثبوت شرط للحجّيّة في موارد شهادة العدلين ومنها مورد الآية ويبقى الباقي تحت الإطلاق وتقييد المطلق بالنّسبة إلى مورد دون آخر لا يستلزم الجمع بين المعنيين لأنّ الإطلاق خارج عن مدلول اللّفظ كما قررناه في محله وأمّا الإجماع فقد قرر بأنّ نقل الإجماع على عمل الطائفة بأخبار الآحاد في الجملة مستفيض في كلمات الأصحاب بحيث يحصل من مجموعها العلم بأنّ ذلك قد كان طريقة للشّيعة سلفا وخلفا منها ما تقدم نقله عن الشّيخ في العدة من أنّ الطائفة مجمعة على العمل بخبر الواحد إذا كان من طرق أصحابنا وكان

 

الرّاوي سديدا في النّقل غير مطعون فيه ومنها ما نقل عن العلامة من أنّ الأخباريّة من الشّيعة لم يعولوا في أصول الدّين ولا فروعه إلاّ على أخبار الآحاد والأصوليون عملوا بها في الفروع ولم ينكره سوى المرتضى واتباعه لشبهة حصلت لهم ومنها ما نقل عن المحقق من أنّ الحشويّة قد عملوا بكل خبر وخصه طائفة بما إذا كان الرّاوي سديدا في النّقل وكلاهما فاسد فإنّ الكذوب قد يصدق وما من مصنف إلاّ ويعمل بأخبار الآحاد وإن لم يتصف الرّاوي بالسداد بل الحق العمل بكل خبر كان مقبولا عند الطائفة معمولا لآية عندهم ومنها ما نقل عن عن ابن طاوس ومنها ما ذكره صاحب المعالم رحمه‌الله من ادعاء إطباق الأصحاب على نقل الأخبار وتدوينها والبحث عن رجالها وليس ذلك إلاّ لعلمهم بها وكيف كان فنقل الإجماع على عمل الطائفة بأخبار الآحاد في الجملة مستفيض في كلامهم والكلام يقع في مقامين أحدهما في أنّ هذا النّقل هل له معارض من جنسه أو لا والثّاني أنّه على فرض عدم المعارض المعتبر وكونه مفيدا للعلم هل يدل هذا الإجماع على المطلوب وهو حجّيّة الخبر من حيث إنّه خبر أو لا بل هو مجمل لا يثبت الحجّيّة أمّا المقام الأوّل فنقول فيه قد يقال إنّ الإجماع المذكور معارض بما نقله السّيد المرتضى رحمه‌الله من إجماع الشّيعة على عدم جواز العمل بأخبار الآحاد وعدم الاعتناء بها في الأحكام وجرى منعهم عنها مجرى منعهم عن العمل بالقياس فكما أنّ ذلك معلوم من مذهبهم ضرورة يعرفهم به كل مخالط لهم فكذا هذا وقد صار ذلك شعارا للشيعة قديما وحديثا واشتهر بينهم بحيث لا يقبل الإنكار وأجيب عن ذلك بوجوه يرجع أكثرها إلى أمرين أحدهما أن السّيد مخطئ في الدّعوى المذكورة وقرر بوجوه ثلاثة أحدها أنّه يظهر من كلماته أنّ حكمه بذلك إنّما ينشأ مما رأى من اتفاقهم على حرمة العمل بما لا يفيد العلم كالقياس فجعل ذلك كبرى مجمعا عليها وهي حرمة العمل بكل ما لا يفيد العلم واستنبطها من حكمهم بحرمة العمل بالقياس وتعليلهم له بكونه مما لا يفيد العلم وضم إليه الصّغرى المستنبطة باجتهاده وهي أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم فادعى الإجماع على النّتيجة نظرا إلى كون الكبرى موردا للإجماع وكم له من نظير في كلامه ثانيها أنّه لأنسه بطريقة المتكلمين ونظره إلى إطباقهم على منع العمل بخبر الواحد في العقائد حسب أنّ ذلك مطرد في الفرعيّات أيضا ثالثها أنّه لكونه من المتكلمين والمقرر عندهم اقتضاء دليل اللّطف انفتاح باب العلم وعدم جواز التّعبد بغيره كما حكي عن ابن قبة ادعى الاتفاق على ذلك غفلة عن طريقة أصحاب الحديث وعدم تماميّة دليل اللّطف في إثبات هذا المطلب وعدم منافاته لحجّيّة الطرق الظّنّيّة والثّاني أنّ السّيد لم يخالف القوم في نقل الإجماع فإنّ مراده من العلم في كلامه ما يعم الوثوق والاطمئنان ولم يظهر من كلام الشّيخ وغيره نقل الإجماع إلاّ على حجّيّة الخبر المفيد للاطمئنان ولا منافاة بينهما بوجه من الوجوه هذا آخر ما أمكن تحريره وقدر تقريره على يد الأقل الجاني محمد حسين الشّهرستاني عفا الله عن سيئاته بحق مواليه وساداته أنّه على كل شيء قدير

 

أصل الدّليل العقلي للحكم الشّرعي حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي

إثباتا أو نفيا دون الدّليل الّذي يتوصل به إلى ذلك الحكم العقلي كما توهمه في الخزائن وإلاّ لخرج الحكم العقلي الضّروري عن الأدلة العقليّة ومناط حكم العقل إمّا الحسن والقبح أو التّلازم بين الشّيئين كوجوب المقدمة والكلام هنا في القسم الأوّل فنقول من جملة الأدلة العقليّة أصالة البراءة من التّكليف والمراد بها حكم العقل بقبح العقاب على التّكليف عند عدم قيام الحجّة عليه ولا حاجة في مجراه إلى استصحاب البراءة عن التّكليف واقعا لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس مترتبا على العدم الواقع حتى يترتب على استصحابه مع أنّه ليس من الأحكام القابلة للجعل أو الرّفع الشّرعي وإنّما موضوعه عدم الحجّة على التّكليف وهو معلوم فالحكم قطعي لا ظني كما في الاستصحاب ونظيره قاعدة الاشتغال فإنّ الموضوع فيها القطع باشتغال الذّمة واحتمال الفراغ فإنّ العقل يحكم حينئذ بوجوب تحصيل القطع بالفراغ بإتيان المحتملات لا لاستصحاب التّكليف إذ الحكم بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ ليس مترتبا على نفس التّكليف حتى يترتب على استصحابه بل هو من أحكام العلم بالتّكليف آنا ما والشّك في الفراغ وهما ثابتان جزما من غير شك فلا معنى للاستصحاب هذا مع أنّه من الأحكام العقليّة الغير القابلة للجعل كما عرفت ومن ذلك علم اختلاف مجاري الأصول الثّلاثة العمليّة أعني الاستصحاب وقاعدة البراءة والاشتغال وأمّا قاعدة التّخيير فمجراها هي مجرى قاعدة الاشتغال مع عدم التّمكن من الاحتياط أو أعم منه لجريانها عند دوران الأمر بين كل المحذورين مطلقا كدوران الأمر بين الوجوب والحرمة وغيره فتأمل ثم إنّه كل ما كان ثبوت التّكليف ملزوما لوجود الدّليل عليه بحيث لو تفحص المجتهد عنه في مظانّه لعثر عليه فإذا فحص ولم يعثر عليه يعلم عدم التّكليف واقعا إن كان الملازمة بين الواقع والدّليل المفروض وإلاّ فظاهر القبح التّكليف بلا بيان ولعل هذا هو المراد مما نقل عن المحقق من جعله عدم وجدان الدّليل على التّكليف دليلا على عدمه وهو أعم من أصالة البراءة لأنّها ناظرة إلى الظّاهر فقط بخلاف قاعدة عدم الدّليل فإنّها فرع الملازمة حسب ما عرفت ثم إنّ أصالة البراءة يعتبر في مجراها الشّك في التّكليف فإنّ الشّك ابتداء إمّا يتعلّق بالتّكليف بأن لا يكون نوع الحكم الشّرعي في المحل معلوما وإمّا يتعلق بالمكلّف به بأن يكون التّكليف معلوما كذلك وكلاهما في الشّبهة الوجوبيّة أو التّحريميّة أو هما فهذه ستة أقسام والثّاني إمّا في المتباينين أو الأقل المرتبط بالأكثر أو المستقل عنه فهذه اثنا عشر قسما والشّبهة في الجميع إمّا موضوعيّة أو حكميّة ومنشأ الثّانية إمّا فقد النّص أو إجماله أو تعارض الأدلة فالأقسام ثمانية وأربعون والحق في الشّك في التّكليف هو البراءة مطلقا موضوعيّة كانت أو حكميّة لقبح العقاب بلا بيان عقلا ونقلا وقيل بالاحتياط دفعا للضرر المحتمل وفيه منع الاحتمال لما بينا مع أنّ الغرض من التّكليف هو بعث المكلف على العمل ولا يحصل مع الجهل لا يقال إنّ الاحتمال يكفي في البعث فلا حاجة إلى العلم لأنّا نقول إن قام الدّليل على

 

اعتبار الاحتمال كان هو المصحح للعقاب وإلاّ فلا يكفي الاحتمال في تصحيح التّكليف الواقعي من حيث الغرض إذ لا ربط بين الاحتمال والواقع لعدم الملازمة في شيء من الطرفين فلا يعقل في صحة التّكليف كون الغرض منه كون الاحتمال باعثا للمكلف وهو ظاهر ويمكن المناقشة بمنع كون ذلك غرضا من الحكم الواقعي بل هو وصول المكلف إلى المصالح الواقعيّة وإنّما هو غرض من الإلزام المنجز ويكفي في حصوله في حكم العقل بالإلزام ولو من جهة احتمال الحكم الواقعي كما يكفي في حصول الغرض الإلزام العقلي بإتيان ما يدرك العقل حسنه بحيث يكون دليلا للشّرع فتأمل فإنّ مسألة الاحتياط من حيث لزوم دفع الضّرر المحتمل غير قابل للخطاب الشّرعي إلاّ من باب الإرشاد وهو غير كاف في تصحيح العقاب لترتبه على صحة العقاب فافهم ثم إنّه يشكل الأمر بالنّسبة إلى الشّبهة في الموضوع إذ لا قبح في ترتب العقاب على الفرد المشتبه بعد بيان الشّارع للحكم في كلّيّه وهو الّذي يقتضيه شأن الشّارع وأمّا بيان المصاديق فليس من شأنه فلا مناص في الحكم بالبراءة فيها من الرّجوع إلى الأدلة النّقليّة وهي كما تدل على ذلك تدل على نفي التّكليف في الشّبهة الحكميّة أيضا وهي كثيرة فمن الكتاب قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا أي حتى نقيم الحجّة أو المورد خصوص غير المستقلات العقليّة ويمكن حملها على العموم ويحمل على نفي فعليّة العقاب وهو لا ينافي الاستحقاق بالذّات نعم لا قائل بالفصل في مجاري البراءة فيمكن التّمسك بها فيها كما صدر عن بعض الأعاظم أو يمكن استفادة القبح العقلي من الآية لأنّ المتبادر نفي لياقة العذاب ومنافاته للحكمة ومنه قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلاّ ما أتاها أي ما أعلمها وما أقدرها عليه ويحتاج في الاستدلال على المعنى الثّاني إلى بيان أنّ التّكليف بالمجهول تكليف بغير المقدور وهو في الغافل المحض ظاهر وأمّا في الملتفت فيمكن تقريره بأنّ الغرض وهو كون التّكليف باعثا وداعيا له إلى الامتثال غير مقدور كما تقدم ومنه قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها بالتّقريب المذكور ومنه قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ونفي الخذلان يستلزم نفي العقاب ومنه قوله تعالى ذلك إن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون سواء فسر بظلم العباد أو بظلم المهلك وعلى الأوّل فهو دليل على نفي العقاب في المستقلات العقليّة أيضا مع الغفلة إلى غير ذلك من الآيات الجارية في الشّبهات الحكميّة وإجرائها في الموضوعيّة يتوقف على التّكلف ومن السّنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن أمتي تسعة الخطأ والنّسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقونه وما اضطروا إليه ومما استكرهوا عليه والحسد والطيرة والتّكفر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة بتقريب أن ليس المراد رفع أعيان التّسعة لأنّه كذب فالمراد إمّا رفع خصوص المؤاخذة أو جميع الآثار ومنها المؤاخذة فيدل على عدم المؤاخذة فيها فيما لا يسلمون وهو المطلوب ويشكل بأنّ رفع المؤاخذة عن الخطإ والنّسيان وما لا يطاق والمجهول الصّرف عقلي لأن العقاب قبيح فكيف يختص بهذه الأمة وأجيب بوجوه

 

منها أنّ المراد رفع الجميع عن مجموع الأمّة لوجود المعصوم فيهم بعد بعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلاف سائر الأمم بعد بعثه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم وجود المعصوم في باقي الأمم حينئذ وفيه نظر إذ لا معنى لذلك فيما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه لإمكان الاضطرار والإكراه في المعصوم وأيضا لا يناسبه التّقييد بما لم ينطقوا بشفة وأيضا لا يدل حينئذ على حجّيّة أصالة البراءة كما لا يخفى ومنها أنّ المراد رفع المؤاخذة عن المجموع من حيث المجموع وهو لا ينافي عدم اختصاص البعض وفيه أنّه أيضا خلاف المتبادر ومنها أنّ المراد مطلق الخطإ والنّسيان ورفعه يمكن فيه التّخصيص لأنّ منهما ما يستند إلى عدم مبالاة المكلف به وهو مما لا يقبح المؤاخذة عليه فيمكن عدم رفعه في سائر الأمم والمراد مما لا يطيقون هو ما يشق عليهم مشقة لا تتحمل لا غير المقدور الصّرف وهو أمر قابل لعدم الرّفع وقد كان ثابتا في الأمم الماضية كما ورد في الآثار ويبقى الكلام فيما لا يعلمون وقيل في وجه الاختصاص فيه أنّ المراد منه رفع وجوب الاحتياط في صورة عدم العلم بالواقع وإذا لم يجب الاحتياط فلا مؤاخذة بخلاف سائر الأمم لإمكان أن يجب عليهم الاحتياط فيترتب على تركه المؤاخذة فيما لا يعلمون وفيه نظر إذ المؤاخذة على الاحتياط الّذي علم وجوبه شرعا ليست مؤاخذة على غير المعلوم بل مؤاخذة على المعلوم الّذي هو وجوب الاحتياط ولو أريد من المؤاخذة الثّابتة بعد الأمر بالاحتياط المؤاخذة على نفس مخالفة الواقع المجهول قول بجواز العقاب على المجهول وكلامنا على فرض تسليم قبحه نعم لو قيل بجوازه عند الاحتمال لم يكن مانع من تخصيص رفعه بهذه الأمة ويمكن دفع الإشكال بجواز المؤاخذة على المخالفة في الشّبهات الموضوعيّة كما أشرنا إليه وحينئذ فيمكن تخصيص رفعها في ذلك بهذه الأمة ومنه يتجه حينئذ تخصيص رفع المؤاخذة عن مطلق ما لا يعلمون بهذه الأمة لعدم ثبوت هذا الإطلاق في سائر الأمم ضرورة إمكان مؤاخذتها في الموضوعيّات فتأمّل ويمكن الجواب أيضا بأنّا إذا حملنا ما لا يعلمون على الموضوعات المشتبهة بقرينة السّياق أمكن تصحيح المؤاخذة عليها بإيجاب الاحتياط شرعا فإذا كان مرفوعا عن هذه الأمة كان في المعنى رفع وجوب الاحتياط بخلاف سائر الأمم لإمكان المؤاخذة فيها على الموضوعات المشتبهة بإيجاب الاحتياط وصيرورة وجوب الاحتياط معلوما لا يوجب رفع الاشتباه في الموضوع حتى لا يصدق أنّ العقاب على ما لا يعلمون كما مر في رد الجواب المتقدم وأجاب بعض المحققين عن الإشكال هنا بمنع حكم العقل على المشتبه بعد تفطن المكلّف لاحتمال التّكليف وهذا لا يجامع استدلاله على أصالة البراءة في الحكم والموضوع بالدليل العقلي فتأمل ثم في الخبر المذكور وجوه آخر من الإشكال منها أنّه لا يصح حمل الخبر على رفع المؤاخذة لأنّها من الأمور العقليّة اللازمة للتكليف المنجز عقلا والخبر ظاهر في رفع الآثار الشّرعيّة دون العقليّة ومنها أنّ التّمسك بالخبر المذكور على رفع جميع الآثار الشّرعيّة بحيث يترتب عليه صحة صلاة ناسي النّجاسة أيضا مشكل لأنّ وجوب الإعادة وإن كان حكما

 

شرعيّا لكنّه مترتب على الإخلال بالمأمور به وهو لازم عقلي للصلاة في النّجاسة من حيث استلزامها فوات الشّرط الّذي هو طهارة السّاتر مثلا فإذا لم يرتفع الأمر العقلي بالخبر لم يرتفع الأثر الشّرعي المترتب على ذلك الأمر العقلي أيضا وأجيب عن الإشكال الأوّل بأنّ المراد رفع أصل التّكليف في حال النّسيان مثلا فيرتفع المؤاخذة قهرا برفع ملزومها الشّرعي وعن الثّاني بأنّ المراد رفع شرطيّة الطهارة في حال النّسيان فيرتفع الإخلال بالمأمور به قهرا فيرتفع وجوب الإعادة وقد يقرر الإشكال الثّاني بأنّ الصّحة أيضا من الآثار الشّرعيّة كوجوب الإعادة فلو كان المراد رفع جميع الآثار لزم التّناقض إذ يرتفع الفساد والصّحة معا حينئذ وهو محال والجواب إذ ليس المراد رفع جميع الأحكام في حال النّسيان بل المراد رفع الآثار الثّابتة لنفس الفعل في حال العمد مثلا فهذه الآثار مرتفعة في حالة النّسيان ويلزم من رفعها آثار أحكام أخر وهي لا ترتفع بالخبر حتى يلزم التّناقض وقد يقال بناء على أنّ المراد رفع المؤاخذة أيضا يمكن الاستدلال بالخبر على نفي الجزئيّة والشّرطيّة في حال النّسيان بحيث يترتب عليه صحة المأتي به وهو مشكل على إطلاقه لأنّ غاية ما يقتضيه رفع المؤاخذة هو عدم تحقق العقاب بالعمل النّاقص ولا يلزم منه كونه مطلوبا بالأمر الأوّل ولا بأمر آخر فالأولى أن يفصل بين الشّرائط فما كانت ثابتة بالخطابات التّكليفيّة بحيث كانت الشّرطيّة متفرعة على الأمر المنجز بالشرط كشرطيّة إباحة المكان حيث أنّ المانع هو النّهي عن الغصب فما دام النّهي موجودا يكون العمل حراما فلا يكون صحيحا وكستر العورة فإنّه ما دام واجبا في حال الصّلاة يكون الصّلاة بدونه باطلا فيقيد إطلاق أوامر الصّلاة في هذا القسم بقدر ما اقتضاه الأمر بالشرط فإذا قيدنا أمر الشّرط بحال الذّكر والعلم بقي حال النّسيان والجهل تحت إطلاق الأوامر فالمقتضي للصحة حقيقة هو الإطلاق وحديث الرّفع إنّما هو لرفع مزاحمة المقيد وأمّا الشّرائط الثّابتة بالخطابات الوضعيّة كالطّهارة من الحدث من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا صلاة إلاّ بطهور فمقتضاها تقييد الإطلاقات مطلقا لأنّ رفع المؤاخذة لا يقتضي رفع الشّرطيّة الّتي هي من الوضعيّات فلا يكون في حال النّسيان مقتضي للصحة ومثله القول في الشّرائط الثّابتة بالأوامر أو النّواهي الإرشاديّة الكاشفة عن تقييد المأمور به واقعا لا باعتبار الخطاب الفعلي بتلك الشّرائط ففيها أيضا لا ينفع حديث الرّفع في الحكم بصحة فاقد الشّرائط ناسيا أو جاهلا إلاّ إذا قلنا بارتفاع جميع الآثار حتى مثل الشّرطيّة والجزئيّة وأمّا محض رفع المؤاخذة فلا يترتب عليه صحة العمل في هذا القسم فتأمل وقد يقال لا يمكن حمل الخبر على إرادة رفع الآثار المترتبة على أضداد المذكورات كالعمد والذّكر والعلم والاختيار لارتفاعها بارتفاع موضوعها فلا حاجة فيها إلى الرّفع ويمكن دفعه بأنّ الرّفع بالدليل غير الارتفاع بالأصل نعم يعتبر في صدق الرّفع وجود المقتضي لثبوت الحكم في هذه الأحوال وإن لم يشملها الدّليل هذا ولقائل أن يقول يشمل الحديث جميع الآثار المترتبة على ذات الفعل مطلقا وعليه مقيدا بالمذكورات أو بأضدادها بأن يحمل على رفع أعيان المذكورات ادعاء

 

بمعنى أنّ الفعل أو التّرك الصّادر سهوا كأنّه لم يقع ولا شك أنّه مع عدم وقوعه لا يترتب عليه شيء من الأحكام المذكورة وحينئذ فإذا شك في مورد في وجوب سجدتي السّهو أمكن دفعه بالحديث المذكور إلاّ أن يقوم عليه دليل خاص بالنّسبة إلى الحديث فيخصص به كما قام في بطلان العمل بزيادة الأركان سهوا أو نقصانها وغير ذلك فافهم ثم إنّ الظّاهر من الحديث على ما قررنا هو رفع جميع الآثار وأمّا بناء على حذف المضاف فقيل إنّ المتيقن حينئذ هو رفع المؤاخذة فإن أراد أنّ ذلك يجعل الحديث ظاهرا في رفع المؤاخذة ففاسد لأنّ كونه متيقنا لا يلازم الظّهور وإن أراد أنّ تقدير جميع الآثار يستلزم التّصرف في الخطابات المطلقة المبنيّة للشرائط والأجزاء بالتقييد والأصل عدمه فله وجه بل يمكن دعوى أنّ ظهور تلك الخطابات في الإطلاق يرفع الإجمال عن هذا الحديث ويجعله ظاهرا في إرادة رفع المؤاخذة لما قرر من وجوب حمل المجمل على المبين لكن ما ذكرنا من ظهور رفع جميع الآثار بضميمة استدلال الإمام عليه‌السلام به على عدم ترتب الأثر على الحلف المكره عليه كاف في حمله على إرادة رفع جميع الآثار ويؤيده استدلال الفقهاء به في جملة من الموارد على ذلك وأمّا شموله للشّبهة الحكميّة والموضوعيّة معا بالنّسبة إلى ما لا يعلمون فقد نوقش فيه بأنّ وروده في سياق النّظائر شاهد على اختصاصه بالموضوعات المجهولة مع أنّا لو قدرنا المؤاخذة لم يصح إضافتها إلى الحكم لأنّ المؤاخذة إنّما هي على مخالفة الحكم في الموضوع لا على نفسه وفيه منع ظهور السّياق بحيث يصلح لتقييد العموم ومنع عدم صحة الإضافة إذ يكفي فيها أدنى ملابسة وهي حاصلة بين الحكم والمؤاخذة لأنّه سبب لها في الجملة ولو باعتبار المخالفة فتأمّل ومن السّنة قوله عليه‌السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف أنّه حرام وقد استدل به على حليّة المشتبه حكما أو موضوعا بتقريب أنّ المراد كل ما احتمل فيه الحل والحرمة وكان قابلا للاتصاف بهما إمّا في الواقع أو في نظر المكلف فهو حلال وأورد عليه بأنّه موجب للاستعمال في المعنيين باعتبار إرادة القابليّة والفعليّة معا ويدفعه أنّ المراد هو الاحتمال وبه يخرج غير القابل أيضا وأورد أيضا بأن المعرفة في الأحكام بالأدلة وفي الموضوعات بشيء آخر فيلزم فيها الجمع بين المعنيين ويدفعه أنّ اختلاف أسباب المعرفة لا يوجب تعددها معنى وأورد أيضا أنّ جعل القيد للاحتراز موجب لجعل السّالبة منتفية الموضوع في جانب المفهوم لأنّ المفهوم حينئذ كل ما لا يحتمل الحل والحرمة فمجهوله ليس بحلال لعدم تحقق المجهول فيه ويدفعه أنّ الموضوع في المنطوق هو المجهول والحكم هو الحليّة الظّاهريّة والمفهوم أنّ غير المشتبه ليس بحلال ظاهري وهو صحيح إلاّ أن يقال إنّ التّقييد بالظّاهري إنّما نشأ من تقييد المنطوق بالاحتمال لا أنّه المراد من لفظ الحلال بل المراد به الحلال بقول مطلق ونفيه على الإطلاق في جانب المفهوم عند انتفاء القيد غير صحيح إلاّ بفرض تقييده بالموضوع المشتبه فيكون انتفاؤه بانتفاء الموضوع وبعبارة أخرى المفهوم هو أنّ غير المشتبه ليس بحلال وهو غير صحيح لأنّه قد يكون حلالا معلوما إلاّ بأن يكون المراد أنّه ليس بحلال حيث الاشتباه فيرجع إلى انتفاء الموضوع هذا لو حملنا الشّيء على الجزئي الخارجي المشتبه حكما أو موضوعا وكذا

 

لو جعلنا المراد به الكلي الّذي فيه احتمال الحل والحرمة حكما أو من المشتبه فالحكم إنّما هو على هذا الكلي بأنّه حلال بقول مطلق إلاّ إذا علم كونه حراما شرعيّا أو في ضمن فرده المعلوم الحرمة فإنّ الموضوع للحكم بالحليّة حينئذ ليس هو الكلي بجميع أفراده لأنّ المعلوم الحليّة لا يغني حليته بشيء فالموضوع من أفراده حينئذ هو المشتبه فيرجع المفهوم إلى منتفية الموضوع والعجب من بعض الأفاضل أنّه مع جعله الشّيء عبارة عن الكلي المشتمل على النّوعين لم يعترف بصيرورة المفهوم سالبة منتفية الموضوع ولا وجه له وكيف كان فالحديث ظاهر في الشّبهة الموضوعيّة لأنّ الشّبهة في الحكم لا تناط بالعلم باشتمال الكلي على النّوعين ولا يغني حكمها بمعرفة النّوع الحرام وهو ظاهر مع أنّه يمكن دعوى أنّ المراد بالشيء في الحديث هو الجزئي الخارجي الّذي علم اشتمال أمثاله على الحلال والحرام كاللّحم الموجود في السّوق فإنّا نعلم أنّ في نوعه حلالا خارجيا هو المذكى يعني ما تحقق فيه التّذكية وحراما خارجيا هو الميتة لا بمعنى الشّبهة المحصورة أو غير المحصورة بل بمعنى أنّه شيء يتحقق فيه هذان الوصفان في الخارج لا في عنوان الشّرع فهذا الشّيء حلال ما يتشخص كونه من الحرام الموجود وهذا هو المتبادر من الحديث دون ما قيل من أنّ المراد كل كلي كان له نوعان شرعا حلال وحرام فهو يعني مصداق المشتبه حلال ودون ما قيل إنّ المراد كل جزئي خارجي كان له عنوانان في الاحتمال حلال وحرام بأن احتمل دخوله في كل منها فهو حلال ودون ما قيل إنّ المراد كل جزئي كان في نوعه حلال وحرام شرعا كاللّحم الخاص فإنّ في نوع اللّحم عنوانا محللا ومحرما شرعا كالمذكى والميتة فهو حلال عند الاشتباه فإنّ علة اشتباه الحكم في الموضوع هو تحقق النّوعين في الخارج لا اشتمال النّوع على العنوانين شرعا فالمتجه هو ما ذكرنا وهذه المعاني كلها خلاف المتبادر ثم إنّ الحديث هل يشمل الشّبهة المقرونة بالعلم الإجمالي أو لا الحق هو الثّاني

أصل الاستصحاب

هو الحكم ببقاء ما كان ثابتا عند الشّك واختلفوا في اعتباره من جهة العقل أو الشّرع نفيا وإثباتا بالإطلاق والتّفصيل على أقوال ثم إنّه إذ أخذ من العقل فالمراد به حكم العقل الظّني بالبقاء ويلزمه حكم الشّرع إمّا لدليل الانسداد أو للأخبار ويكون أمارة اجتهاديّة ناظرة إلى الواقع مقدمة على الأصول العمليّة ويكون البحث عنه مسألة أصوليّة كالبحث عن حجّيّة الأخبار والمدرك لحصول الظّن إمّا قاعدة أنّ ما ثبت يدوم أو أنّ الممكن إذا كانت الرّاجح عند العقل بقاؤه أو الغلبة في الممكنات القارة أو المشكوكة البقاء أو بناء العقلاء الكاشف عن تقرير المعصوم عليه‌السلام أو عن حكم العقل كسيرة المتدينين الكاشفة عن رأي صاحب الدّين أو لأنّ المقتضي مفروض الثّبوت واحتمال المانع مدفوع باحتمال عدمه فيعمل المقتضي عمله أو غير ذلك والكل ضعيف لمنع اقتضاء الثّبوت الدّوام ومنع الرّجحان كليّة والغلبة إنّما تنفع بعد استعلام مناط اللّحوق وهو غير ممكن في الأحكام عند الشّك في المقتضي لعدم انضباط أغراض الحاكم والشّك في الرّافع يختص مورده

 

بالنّسخ المجمع على أصالة عدمه عند الشّكّ وغلبة بقاء المشكوكات بوصف الشّك ممنوعة وعند زواله يرجع إلى ما سبق مع أنّ الغلبة إنّما تفيد الظّنّ الفعلي ولا عبرة به عندهم مع أنّه لا دليل على حجّيّة هذا الظّن سيما في الموضوعات ومن هنا عدل المتأخرون إلى جعله حجّة من جهة الأخبار تعبدا وحينئذ فيكون قاعدة فقهيّة نظير قاعدة الطّهارة والحليّة ونحوهما تجري في الأحكام والموضوعات وجريانها في الأوّل يتوقف على الفحص ولهذا اختص إعماله بالمجتهد ولا يوجب ذلك دخوله في قواعد الأصول ثم إنّ المناط فيه الشّكّ في بقاء شيء لموضوع ثابت في حال الشّك على نحو ثبوته في الزّمان السّابق موضوعا حتى يصدق على ترك البقاء أنّه نقض اليقين السّابق ولا فرق بعد ذلك بين أن يكون الثّابت في السّابق حكما شرعيّا أو عقليّا أو وصفا خارجيّا أو اعتباريّا وما يقال من منع جريانه في العقلي من جهة أنّه إذا شكّ في بقاء حكمه رجع الشّكّ إلى بقاء الموضوع لأنّ كل ما يعتبر في حكم العقل مأخوذ في موضوعه مدفوع أوّلا بالنقض بالحكم الشّرعي لأنّه أيضا يرد على الموضوع العقلي وثانيا أنّه يمكن أن يحكم العقل على موضوع يحكم حين اتصافه بوصف لا بشرط الوصف من غير أن يظهر له أنّ علة الحكم هو حدوث الوصف أو بقاؤه ومن جهة يشك في البقاء بعد زوال الوصف فيصدق على ذلك الموضوع أنّ ثبوت الحكم الشّرعي له كان متيقنا من جهة ملازمة الشّرع للعقل وزواله مشكوك فلا ينقض اليقين بالشّكّ فافهم ثم إنّهم استدلوا لاعتباره تعبدا بأخبار الأوّل صحيحة زرارة عنه عليه‌السلام في الرّجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء إلى أن قال فإن حرك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به قال لا حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشّكّ أبدا ولكن ينقضه بيقين آخر الخبر وظهور اليقين والشّكّ في العموم غير قابل الإنكار سيما وهو بمنزلة كليّة الكبرى للاستدلال على الجواب المقدر ودلالتها على الاستصحاب ظاهرة وأمّا حملها على عدم العبرة بالشّكّ السّاري إلى اليقين السّابق لتكون دليلا على قاعدة اليقين بقرينة ظهور اتحاد متعلقي اليقين والشّكّ المختص بمورد القاعدة بخلاف مورد الاستصحاب حيث إنّ متعلق الشّك فيه هو البقاء دون الثّبوت وظهور لفظ النّقض في ذلك أيضا وظهور قوله فإنّه على يقين من وضوئه لأنّ العبرة في الاستصحاب بالثّبوت في السّابق لا باليقين به سابقا فلو أريد الاستصحاب لقيل فإنّه كان على وضوئه يقينا فباطل إذ لو أريد التّخصيص بها لكان الجواب خارجا عن مورد السّؤال وإن أريد التّعميم للقاعدتين ففيه جمع بين المعنيين لأنّ معنى عدم نقض اليقين بالشّكّ الطاري معناه الحكم ببقاء ما ثبت مع عدم النّظر إلى ثبوته وبالشّكّ السّاري معناه الحكم بالثّبوت في الزّمان الأوّل مع عدم النّظر إلى بقائه فالجمع بينهما غير جائز لعدم الجامع وبعبارة أخرى لما كان مقتضى ظاهر لفظ النّقض اتحاد متعلقي اليقين والشّك كان اللازم عند إرادة الشّك السّاري من لفظ الشّك أن يراد من اليقين اليقين بالثّبوت

 

في الزّمان الأوّل لأنّه متعلق الشّك السّاري عند إرادة الشّك الطاري أن يراد من اليقين اليقين بأصل الثّبوت مع قطع النّظر عن الزّمان الأوّل ليتحد مع متعلق الشّك الّذي هو البقاء باعتبار كونه أيضا شكا في الثّبوت وإرادة اليقين بالثّبوت المقيد بالزّمان الأوّل واليقين المطلق جمع بين المعنيين لا يقال إنّ هذا الاختلاف إنّما نشأ من تعليق الحكم على العام المختلف الأفراد في اللّوازم فإنّ اليقين والشّك عامان بالنّسبة إلى اليقين بالثّبوت المطلق والمقيّد والشّك عام في السّاري والطاري وتعلق حرمة النّقض بعموم اليقين بالنّسبة إلى عموم الشّك يلزمه عدم نقض اليقين الأوّل بشيء من الشّكين ولازم عدم نقضه بالشّكّ السّاري الحكم بثبوته في الزّمان الأوّل وفي الشّك الطاري ببقائه في الزّمان الثّاني وليس فيه جمع بين المعنيين أو أنّه من قبيل التّوزيع في العمومين فلا ينقض اليقين بالثّبوت المقيد بمقابله من الشّك السّاري والمطلق بمقابله من الطاري لأنّا نقول ليس هناك فردان متحققان من اليقين في الخارج مختلفان في اللازم بل المتحقق هو الفرد الشّخصي من اليقين المتعلق بالثّبوت المقيّد في الزّمان الأوّل غاية الأمر صدق اليقين بالثّبوت المطلق عليه أيضا قضيّة صدق العام على الخاص فلا تعدد لهما إلاّ في الملاحظة فإن أريد من اللّفظ شخص اليقين الموجود فلا يمكن إرادة المطلق أيضا إلاّ بإرادة أخرى وهو الجمع بين المعنيين في لفظ اليقين ولا ينفع في ذلك تعدد الشّك حقيقة لأنّا ندعي الجمع المذكور في لفظ اليقين لا في لفظ الشّك كذا قيل ويمكن دفعه بإمكان حمل لفظ اليقين على اليقين بأصل الثّبوت الّذي يصدق على اليقين المقيد أيضا الّذي يقابله الشّك السّاري ويكون هو القدر المشترك المراد من لفظ اليقين عند حمله على مورد الشّكين وحينئذ يكون معناه أنّه إذا تعلق اليقين بثبوت شيء فلا ينقض بشيء من أفراد الشّك ساريا كان أو طارئا بالنّسبة إلى زمان الشّك فاللازم في السّاري الحكم بالثّبوت في الزّمان الأوّل وفي الطاري الحكم بالبقاء في الزّمان الثّاني لأنّه زمان الشّك وإن اجتمع الشّكّان كما لو سرى الشّك إلى اليقين وكان على فرض الثّبوت أيضا محتمل الزّوال فيحكم بالثّبوت والبقاء معا نعم لو كان على فرض الثّبوت متيقن البقاء لم يحتج إلى الاستصحاب بل كان أصل الحكم بالثّبوت كافيا في الحكم بالبقاء من جهة الملازمة وبعبارة أخرى قد يكون الشّك بالبقاء فقط وهو مجرى قاعدة الاستصحاب فقط وقد يكون الشّك في الثّبوت فقط ويكون البقاء متيقنا على فرض الثّبوت فهو مجرى القاعدة فقط ويحكم بالبقاء ملازمة وقد يكون الشّك فيهما وهو مجرى القاعدتين وقد يقال في دفع الجمع بين المعنيين بأنّ المراد من الخبر هو خصوص اليقين بالثّبوت المقيد والشّك في البقاء ومع ذلك يشمل القاعدة أيضا نظرا إلى أنّ الشّك في البقاء أعم من أن يكون سببا عن الشّك في الثّبوت كما في موارد الشّك السّاري أو لا كما في الطاري وإذا حكم بالبقاء في المقامين دل بالالتزام على الحكم

 

بالثّبوت أيضا إذ لو لا الثّبوت لما كان وفيه نظر بقي الكلام في دعوى ثبوت البقاء بالملازمة بناء على اختصاص الخبر بالقاعدة في صورة تكون البقاء على فرض الثّبوت متيقنا فقد يورد عليه بأنّ مقتضى الخبر إنّما هو جعل المتيقن ثابتا في زمان الشّك ويلزمه جعل الآثار الشّرعيّة دون العقليّة والعادية والبقاء ليس من الآثار الشّرعيّة لينجعل بجعل الثّبوت في الزّمان الأوّل وفيه أنّه قد يكون البقاء من جملة الأحكام الشّرعيّة كبقاء النّجاسة ما لم يصادفها المطهر فإنّه من أحكام نجاسة الشّيء فإذا حكم بانجعال النّجاسة في زمان لزمه انجعال البقاء أيضا ما لم يصادفها المطهر وإلاّ لم يمكن الحكم ببقاء النّجاسة المستصحبة في الزّمان الثّاني من أزمنة الشّك إذ لا يترتب على الاستصحاب أيضا إلاّ الآثار الشّرعيّة إلاّ أن يقال إنّ البقاء في الزّمان الثّاني أيضا هو البقاء بحكم الاستصحاب كبقائها في الزّمان الأوّل من أزمان الشّك لا أنّه بقاء مترتب على استصحاب النّجاسة في الزّمان الأوّل فافهم بل لنا أن نقول هنا كما أنّ نفس النّجاسة قد كانت متيقنة في الزّمان السّابق فكذا بقاءها أيضا قد كان يقينيّا فإذا كان مقتضى قاعدة اليقين الحكم بصحة اليقين السّابق وجب الحكم بالبقاء أيضا لأنّه بنفسه متعلق لليقين السّابق لا لكونه من لوازم النّجاسة المتيقنة وهذا بخلاف موارد الأصل المثبت فإنّ وجود اللازم مقطوع العدم في الزّمان السّابق لأنّه من لوازم وجوده في الزّمان الثّاني فليس اللازم هناك موردا لليقين ليجري فيه الاستصحاب فإذا أريد الحكم بثبوته في الزّمان الثّاني فإنّما هو لمحض استصحاب المتيقن السّابق فيكون أصلا مثبتا لا حجة فيه لأنّ الظّاهر من أدلة الاستصحاب إنّما هو جعل آثار نفس المتيقن وإنّما ينجعل به الآثار القابلة للجعل دون الأمور العقليّة والعادية وأمّا ما نحن فيه فهو نظير ما إذا قام أمارة معتبرة على بقاء شيء في الزّمان الثّاني فيترتب عليه لوازم البقاء أيضا وإن كانت عادية لأنّ الأمارة كما تحكي الملزوم تحكي اللازم أيضا فجريانها في اللّوازم إنّما هو لكونها مؤدى الأمارة ولو تبعا لا لانجعالها بانجعال حكم للملزوم وبهذا ظهر الفرق بين قيام الأمارة على حياة زيد بعد تسعين سنة وبين استصحابها بعده حيث ذكروا أنّ الأوّل يترتب عليه أحكام بياض اللّحية اللازم للبقاء بخلاف الثّاني ونظير ما نحن فيه أيضا ما إذا قامت البينة على نجاسة شيء سابقا وعلم عدم المزيل لها فإنّ الحكم بالبقاء حينئذ ليس للاستصحاب لعدم الشّك في البقاء على فرض الثّبوت بل لأنّه من لوازم النّجاسة فالإخبار بها إخبار به أيضا فيشمله أدلة حجّيّة البينة أيضا فتأمل فإنّ بقاء النّجاسة ما لم ترفع برافع ليس من الموضوعات الّتي يمكن إثباتها بالبيّنة بل هو من أحكام النّجس الواقعي وليس مشكوكا أيضا حتى في الزّمان الثّاني والبيّنة غير نافعة في إثبات الأحكام فلا محالة يكون ترتيبه على البيّنة من جهة الملازمة لا لكونه من جملة ما أخبر به البينة كبياض اللّحية ولكن لما كانت الملازمة شرعيّة لم يقدح فيما نحن فيه بصدده فالحاصل أنّ اللازم إن كان من الآثار الشّرعيّة كان ترتبه على الأمارة كترتبه على الاستصحاب يعني من جهة

 

الملازمة نعم يفترقان في اللّوازم العادية والعقليّة فترتب على الأمارة إذا وقعت محكيّة لها لشمول دليل حجّيّتها لجميع المداليل المطابقيّة وغيرها ولا تترتب على الاستصحاب كما تقدم فالحق في الجواب هنا هو الجواب الأوّل فتأمل قيل إنّه لو حمل الخبر على قاعدة اليقين لزم مناقضة لنفسه لشموله للاستصحاب جزما فإذا سرى الشّك إلى زمان اليقين لزمه استصحاب الحالة السّابقة على زمان اليقين السّابق لصيرورته مشكوك الزّوال وهو مناقض للحكم بصحة اليقين الّذي سرى إليه الشّك مثاله إذا كان زيد محدثا ثم تيقن بالطّهارة ثم شك فيها ساريا إلى الزّمان الأوّل صدق عليه أنّه متيقن في كونه محدثا في الزّمان السّابق وشاك في ارتفاع حدثه فيجب عليه استصحاب الحدث إلى هذا الزّمان ومقتضى الحكم بصحة يقينه بالطّهارة وعدم انتقاضه بالشّكّ السّاري الحكم بارتفاع الحدث السّابق في زمان الشّك وهما متناقضان ويمكن دفعه بأنّه كشمول الخبر لاستصحاب نجاسة اليد واستصحاب طهارة ملاقيها فكما يقدم الأوّل لكونه مزيلا للشّكّ الّذي هو موضوع الثّاني فليقدم القاعدة هنا لأنّ الحكم بصحة اليقين الثّاني موجب لنقض اليقين الأوّل باليقين دون العكس أو نقول إن الحديث لا يشمل استمرار النّقض المستند إلى اليقين الثّاني وإن صدق عليه أنّه نقض بالشّكّ بل إنّما يمنع من إحداث النّقض بالشّكّ فتأمل لكن الإنصاف اختصاص الخبر بخصوص الشّكّ الطّاري لظهور قوله عليه‌السلام فإنّه على يقين من وضوئه في أنّه كذلك حين الشّك وهذا لا يتحقق في الشّك السّاري فافهم ثم إنّ شمول الخبر للشّكّ في وجود المانع مع استمرار المقتضي مما لا إشكال فيه وإنّما الكلام في أمور منها أنّه هل يشمل صورة الشّك في مانعيّة الموجود أو لا فقيل بعدمه لظهور الخبر في حرمة النّقض المستند إلى الشّك استناد المعلول إلى العلة التّامة أو إلى الجزء الأخير منها والنّقض في المفروض مستندا إلى اليقين بوجود المشكوك فيه لسبق الشّك في المانعيّة على تحققه الّذي هو سبب النّقض وفيه أنّ معنى الشّك في مانعيته قبل تحققه أنّه شيء لو تحقق في الخارج لحصل الشّك في بقاء الممنوع عنه فالشّكّ في البقاء فعلا متأخر عن اليقين والنّقض مستند إليه لا إلى اليقين لعدم المعارضة بين اليقينين وهو ظاهر ومنها أنّه هل يشمل صورة الشّك في بقاء المقتضي أو يختص بالشّكّ في الرّافع فقيل بالثّاني ونسب إلى المحقق الخوانساري ره ولكن عبارته المحكيّة عنه تقتضي مذهبا آخر أعم من ذلك من وجه فإنّ حاصله أنّه إذا ثبت حكم إلى غاية واقعيّة غير مشروطة بالعلم فشكّ في تحققها في الخارج وجب إبقاء الحكم المذكور إلى أن يعلم تحقق الغاية دون غير ذلك وهذا أعم من أن يكون الغاية غاية للمقتضي بالكسر أو مانعا عن تحقق المقتضى بالفتح كما أنّ من يقول بجريانه في الشّك في المانع يعمم الحكم إلى صورة لم يكن هناك دليل يدل على الاستمرار إلى الغاية الواقعيّة الغير المشروطة بالعلم بل يقول بجريانه في كل حكم ثبت أنّه أمر مستمر لو لا القاطع ويكون الشّكّ في انقطاعه بشيء مطلقا وكيف كان فاحتج المحقق الخوانساري رحمه‌الله على مذهبه بوجهين أحدهما قاعدة الاشتغال بعد فرض القطع

 

بالحكم والشّكّ في امتثاله الثّاني الأخبار السّابقة ثم اعترض بأنّ تلك الأخبار جارية في غير الصّورة المفروضة أيضا وأجاب عنه بمنع ذلك لأنّ مقتضى تلك الأخبار المنع عن نقض اليقين بالشّكّ والنّقض بالشّكّ لا يتحقق إلاّ في صورة التّعارض ومعنى التّعارض أن يكون هناك شيء يوجب اليقين لو لا الشّك وفيما فرضه القوم ليس كذلك لأنّ قيام الدّليل على ثبوت الحكم في زمان ليس مما يوجب اليقين به في زمان آخر لو لا الشّك انتهى وحاصله أنّ التّعارض إنّما هو بين العمل في زمان الشّكّ بخلاف الحكم السّابق وبين دليل اليقين فإنّ دليل اليقين السّابق إذا كان شاملا لزمان الشّك في الواقع فالعمل بخلافه في زمان الشّكّ نقض احتمالي لذلك الدّليل وهو معنى النّقض بالشّكّ وبعبارة أخرى يعتبر عنده في تحقق النّقض أن يكون الشّك في الزّمان الثّاني في الموضوع بعد معلوميّة الحكم بحيث لو فرض ارتفاع الشّك وعلم اندراجه تحت الموضوع الخاص لكان الدّليل الدّال على حكمه هو الدّليل الأوّل واعترض عليه بعض المحققين بأنّ ظاهر كلامه هو أنّ المقتضي لليقين هو الدّليل السّابق فقط والشّكّ مانع وليس كذلك لأنّ ثبوت الحكم في الزّمان المشكوك لو لا الشّكّ مستند إلى مقدمتين هي أنّ هذا الزّمان نهار والنّهار يجب إمساكه مثلا لا إلى الثّانية فقط فعدم الشّك الّذي هو عبارة عن تشخيص الصّغرى جزء لمقتضى اليقين لا أنّ الشّكّ مانع وحينئذ فليس المقتضي لليقين حال الشّك عين المقتضي له في الزّمان السّابق لاختلاف الصّغرى الموجب لاختلاف المقتضي كما أنّ في ما فرضه القوم أيضا المقتضي مختلف باختلاف الكبرى أو باختلاف المقدمتين وأجيب عنه بأنّ معنى فرض عدم الشّك فيما فرضه المحقق المذكور هو ملاحظة الزّمان المذكور بعنوان أنّه نهار ولا ريب أنّ ثبوت الحكم له بهذا العنوان مستند إلى الكبرى فقط لا إلى المقدمتين المذكورتين فإنّ النّتيجة فيهما هي ثبوت الحكم لذلك الزّمان من حيث هو لا بعنوان أنّه نهار وإن شئت فقل إنّ المتعارف في كلمات العلماء نسبة الحكم إلى الدّليل الّذي هو الكبرى دون مجموع المقدمتين كما يقال إنّ الدّليل على نجاسة الغسالة هو مفهوم قوله إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء مع أنّ الدّليل في الحقيقة هو أنّ الغسالة ماء قليل وكل ماء قليل ينجس بالملاقاة والثّاني هو مؤدى المفهوم المذكور وأمّا ما ذكره من جريان ذلك في استصحاب القوم فيرد عليه أنّ مراد المحقق هو أنّ الدّليل على الحكم على فرض عدم الشّك لا بد أن يكون هو الدّليل المثبت له في الزّمان الأوّل لا مطلقا وهذا لا يتحقق عند الشّك في الكبرى إذ لو فرض عدم الشّك لكان الحكم ثابتا لكن بدليل آخر لا بالدليل الأوّل إذ المفروض اختصاصه بالزّمان الأوّل وقد يورد على المحقق المذكور بأنّه يمكن فرض ما ذكره في صورة ثبوت استمرار الحكم في الجملة أيضا كما في مثاله الّذي ذكره من أنّ وجوب الاجتناب عن محل النّجو ثابت قبل استعمال الحجر الواحد وأمّا بعده فمحل شكّ لا من جهة الشّكّ في حصول الغاية المعلومة بل في كون ذلك غاية أيضا وفي مثله لا يجري الاستصحاب فيقال هنا أيضا قد ثبت وجوب الاجتناب عن النّجاسة قبل

 

حصول المطهر الشّرعي إجماعا والشّكّ في زوالها بالحجر الواحد شكّ في حصول المطهر الشّرعي فيكون شكا في تحقق الغاية المعلومة وفيه أنّه ليس هناك خطاب بهذا العنوان في الشّرع حتى يكون الشّكّ في تحققه في الخارج وإنّما هو أمر منتزع من الأمر بالاجتناب عن جملة من الأشياء وزوال هذا الحكم بجملة من الأمور فانتزع عنوان النّجاسة من الأوّل والمطهر من الثّاني فإذا دل الدّليل على ثبوت وجوب الاجتناب إلى زمان خاص فنقول إنّه محكوم بالنّجاسة إلى ذلك الزّمان ولا دليل على النّجاسة بعده فيثبت الطهارة بالقاعدة سواء سمي وصول ذلك الزّمان مطهرا أو لا وهذا نظير ما يقال من أنّه لا يمكن التّمسك بعموم قوله تعالى أوفوا بالعقود على اللّزوم ولا الصّحة في العقد المشكوك للقطع بخروج العقود الجائزة والفاسدة عنها فالشّكّ إنّما هو في صدق المخصص وإجماله يسري إلى العام ودفعه ظاهر إذ لم يرد مخصص بهذا العنوان حتى يوجب إجماله العام بل مقتضى العموم الحكم بصحة جميع أفراد العقود ولزومها فكل ما دل الدّليل على خروجه بالخصوص عن العموم حكم بفساده أو جوازه وما شك فيه فإنّما هو الشّك في خروجه وعدمه وأصالة عدم التّخصيص تقتضي العدم ولو أمكن هذا الكلام لأمكن أن يقال في جميع العمومات إنّها مخصصة عقلا بعنوان الخارج الواقعي فيرجع الشّك في خروج شيء إلى الشّكّ في المخصص لا التّخصيص فيسقط أصالة عدم التّخصيص عن الاعتبار وفساده غني عن البيان وأمّا ما ذكره من إجراء قاعدة الاشتغال في المقام مع إجراء الاستصحاب فتحقيقه موقوف على فهم الفرق بينهما والنّسبة فنقول معنى القاعدة حكم العقل عند اليقين بالتّكليف بوجوب تحصيل اليقين بالإطاعة حذرا من الوقوع في ضرر العقاب المترتب على مخالفة الواقع فليس في مجراها حكم سوى الواقع ولا عقاب إلاّ على مخالفة الواقع وأمّا الاستصحاب فمعناه حكم الشّارع ببقاء المتيقن السّابق في الزّمان الثّاني ليترتب عليه أحكامه الثّابتة له في حال اليقين فالفرق بين المفهومين من وجوه ثلاثة أحدها أنّ الحكم بالاحتياط مترتب على نفس اليقين السّابق من غير حاجة إلى إحراز بقاء المتيقن في الزّمان المتأخر الثّاني أنّ موضوع حكم القاعدة هو محض احتمال بقاء التّكليف لا نفس البقاء بخلاف الاستصحاب الثّالث أنّه لا يترتب على مخالفتها إلاّ الضّرر الواقعي لو فرض ترك الواقع بترك الاحتياط بخلاف الاستصحاب فيترتب على مخالفته العقاب وإن فرض تخلفه عن الواقع وأمّا بحسب المورد فقد يقال بأنّ النّسبة عموم من وجه فيجري القاعدة فقط عند دوران الحكم بين الأقل والأكثر الارتباطي عند ضيق الوقت إذ لا مجرى للاستصحاب بعد إتيان الأقل لخروج الوقت والاستصحاب فقط في مثل حرمة وطي الحائض بعد انقطاع الدّم لعدم ثبوت الاشتغال اليقيني إلاّ بالتحريم قبل الانقطاع ويجريان معا عند الشّك في إتيان صلاة الظّهر مثلا بعد اليقين بتعلق التّكليف فوجوب إتيانها ثابت للاستصحاب ولتحصيل اليقين بالامتثال وقد يناقش في ذلك بأنّه لا وجه لتخصيص الفرض الأوّل بصورة ضيق الوقت بل كل ما فرض دوران الأمر بين شيئين في المكلف به فهو

 

مجرى القاعدة دون الاستصحاب إذ لو كان وجوب الاحتياط من لوازم التّكليف المعلوم بالإجمال فهو ثابت بنفس اليقين السّابق فلا معنى لترتبه على استصحاب ذلك التّكليف وإن لم يكن من آثاره فلا ينفع إبقاؤه في الحكم بوجوب تحصيل اليقين بالامتثال وإن أريد الحكم بأنّ الواجب الواقعي هو ما لم يفعل أولا من جهة استصحاب التّكليف بعده فهو أصل مثبت لا اعتبار به وكذا لا وجه لجعل الصّورة الأخيرة من مجرى القاعدتين بل هناك أيضا لا يجري إلاّ قاعدة الاشتغال لكفاية اليقين السّابق في الحكم بوجوب تفريغ الذّمة فلا يترتب على الاستصحاب وقد يقال بل لأنّه لا يترتب على استصحاب التّكليف وجوب الإطاعة لأنّه من الأحكام العقليّة الغير القابلة للجعل بالاستصحاب وفيه أنّ الجعل الاستصحاب إذا تعلق بالموضوع الخارجي كان معناه جعل الأحكام أو الآثار فيختص بالأحكام القابلة بخلاف الاستصحاب الحكمي فإنّ المنجعل فيه هو نفس الحكم الشّرعي في مرحلة أيضا فيترتب عليه وجوب الإطاعة عقلا لثبوت موضوعه واقعا لا لثبوت نفسه بالاستصحاب فافهم وعلى هذا فيكون بين القاعدتين التّباين الكلي وفيه نظر لأنّا وإن سلمنا ثبوت وجوب الامتثال بالقاعدة لكنّه لا يمنع من إثبات بقاء الوجوب الشّرعي بالاستصحاب ويترتب عليه ترتب العقاب على ترك الإتيان وإن فرض كونه إتيانه في الواقع بخلاف الوجوب الثّابت بالقاعدة فإنّه حكم إرشادي عقلي لا يترتب على مخالفته شيء إلاّ الوقوع في مفسدة ترك الواقع وكذا يترتب على الاستصحاب عدم جواز الاشتغال بالتّطوع لثبوت بقاء الخطاب شرعا ولا يترتب ذلك على القاعدة لعدم ثبوت الوجوب الشّرعي وهذه الفائدة تثبت في صورة دوران الأمر بين الأمرين أيضا كما لا يخفى ثم إنّ المحقق المذكور قد ذكر جريان قاعدة الاشتغال عند ثبوت الحكم إلى غاية معينة في الواقع مطلقا في الوضعي والاقتضائي والتّخييري وذكر أنّ الأوّل راجع إلى الثّاني وأنّ الحكم في الثّالث أوضح واعترض عليه بعضهم بأنّ الحكم التّكليفي المستمر إلى غاية إمّا أمر أو نهي ففي الأمر يتم إجراء القاعدة عند الشّكّ في الغاية مطلقا وأمّا النّهي فلا وذلك لأنّ التّحريم المستمر إلى غاية إمّا يفرض متعلقه أمرا مستمرا إلى الغاية أو أمورا متعددة فعلى الثّاني يرجع الشّكّ في الغاية إلى الشّكّ في التّكليف والأصل فيه البراءة وعلى الأوّل إمّا يقال بحرمة التّلبس أو بحرمة المجموع فعلى الأوّل المتيقن هو الأقل فهو الحرام دون الأكثر وعلى الثّاني المتيقن هو الأكثر لأصالة عدم تحقق المعصية بالأقل للشّكّ في صدق المحرم عليه وفيه نظر لأنّه إذا تعلق النّهي بأمر مركب وشكّ في مصداقه وجب اجتناب كل ما يحتمل أن يكون مصداقا له إذا دار بين أمور محصورة لتحصيل الامتثال القطعي وكون الأكثر متيقنا إن أراد أنّه من جملة المصاديق يقينا فممنوع لاحتمال كون المصداق هو الأقل وحينئذ فلا يكون الأكثر مصداقا بل هو مشتمل على المصداق فإنّ الإمساك المستمر إلى نصف اللّيل ليس مصداقا للصّوم بل هو مشتمل على مصداق الصّوم الّذي هو الإمساك

 

إلى الغروب وإن أراد أنّه يقيني الحرمة لأنّه إمّا مصداق أو مشتمل عليه ففيه أنّ تركه حينئذ إنّما يوجب انتفاء المخالفة القطعيّة وهو غير كاف بل اللازم هو الامتثال القطعي ولا يحصل إلاّ بتركهما معا فالحائض إذا علمت بحرمة الصّلاة عليها وشكّت في جزئيّة السّورة للصّلاة وقلنا بأنّ اللازم هو ترك مجموع الصّلاة لا ترك التّلبس فحينئذ يجب عليها ترك الصّلاة مع السّورة وبدونها ولا يجوز لها فعلها بلا سورة لاحتمال كونها مصداق الصّلاة المنهي عنها كاحتمال كون المصداق الصّلاة مع السّورة فيجب عليها تركها معا ولا يجوز الرّجوع في الأقل إلى أصالة عدم تحقق المعصية وإلاّ لجرى بالنّسبة إلى ارتكاب بعض أطراف الشّبهة المحصورة مع أنّه لا يجوز ارتكابه فافهم ثم إنّ ما ذكره المحقق من أنّ الأمر في التّخييري أوضح إن أراد به إثباته عند الشّك في الغاية بقاعدة الاشتغال فهو باطل لأنّها لا تجري إلاّ في التّكليف الثّابت لا في الإباحة وتوجيهه بوجوب الاعتقاد بكونه مباحا إلى الغاية الواقعيّة غير نافع لإثبات وجوب اعتقاد كونه مباحا في زمان الشّك لأنّه فرع ثبوت موضوعه والمفروض أنّه مشكوك مع أنّه قد يكون الفعل بعد الغاية حراما أو واجبا فيجب تبديل الاعتقاد في زمان الشّك إلى الحكم المتأخر بقاعدة الاشتغال حسب ما قرره إذ لا مرجح للحكم السّابق ومع التّساوي فالواجب هو التّوقف عن الحكم الشّرعي والإذعان بالحكم الكلي وهو حاصل بعد الغاية أيضا وإن أراد إثباته عند الشّك بحكم العقل ولو بغير قاعدة الاشتغال كأصالة البراءة أو الإباحة فهو متجه لكن قد أورد عليه أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية الحرمة مثلا فيجب في زمان الشّكّ الحكم بالحرمة لقاعدة الاشتغال بالنّسبة إلى ذلك التّكليف كما إذا ثبت إباحة الأكل مستمرا إلى طلوع الفجر الواقعي في رمضان فإذا شك في طلوع الفجر كان أصالة إباحة الأكل معارضة بقاعدة الاشتغال بالصّوم إذ لو أكل حينئذ احتمل وقوعه في الصّبح فلا يحصل الامتثال لخطاب صم من الفجر إلى اللّيل مع تسليم تعلقه بالمكلف في اللّيل والثّاني مقدم لأنّ الإباحة الذّاتيّة تجتمع مع الحرمة المقدميّة هذا مع أنّ أصالة الإباحة لا تجري في الإباحة المستفادة من خطاب الوضع كإباحة التّصرف في مال الغير المستفادة من إذنه في التّصرف إلى غاية واقعيّة فعند الشّك في تحققها لا يجوز إجراء أصالة الإباحة لأنّها لا تثبت إذن المالك في زمان الشّكّ ومتى شك في الإذن حرم التّصرف بالعقل والنّقل فلا ينفع هنا إلاّ استصحاب الإذن إن كان جاريا فافهم ثم إنّ ما ذكره من رجوع الأحكام الوضعيّة إلى الشّرعيّة هو أحد القولين في المسألة ولا بأس بتنقيح القول فيه فنقول إنّ الحكم الوضعي عبارة عن النّسب الشّرعيّة الّتي من شأنها أن تؤخذ من الشّارع ولا يكون طلبا ولا تخييرا كالشّرطيّة والمانعيّة والسّببيّة للأحكام أو للمطلوبات والجزئيّة والصّحة والفساد والطهارة والنّجاسة والحدث والجنابة والضّمان والملكيّة والزّوجيّة والحريّة والرّقيّة ولا نزاع في أنّ مفاهيم هذه

 

الأمور غير مفهوم الطلب ولا في أنّ من شأنها أن تؤخذ من الشّارع ولا في أنّ هناك خطابات في الشّرع متعلقة ببيان هذه الأمور بل النّزاع إنّما هو في أنّها منجعلة تبعا لجعل الأحكام التّكليفيّة أو لا بل هي مجعولة أصالة فقيل بالأوّل لوجوب جعل التّكليف عقلا وشرعا وهذه الأمور تنجعل قهرا بجعل التّكاليف الواقع على أنحاء شتى من إطلاق الطلب وتعليقه على حال أو وصف أو زمان وإطلاق المطلوب أو تقييده بوجود شيء أو عدم شيء أو كونه بسيطا أو مركبا فينتزع الشّرطيّة والمانعيّة والسّببيّة للطلب من تعليق الطلب معلقا للمطلوب بتعليق الطلب بأمر مع اعتبار التّقييد بما ذكر والجزئيّة بتعلقه بأمر مركب وإذا انجعلت قهرا فلا وجه لجعلها مستقلا فإنّه تحصيل للحاصل مع أنّا لا نتعقل من إنشاء شرطيّة شيء للطلب إلاّ إنشاء الطّلب عند حصوله وكذا من شرطيّته للمطلوب إلاّ إنشاء طلب وارد على أمر مقيد وكذا البواقي مضافا إلى ملاحظة العرف والعادة فإنّا نراهم لاحظون في خطاباتهم وإنشاءاتهم إلاّ أمورا تكليفيّة ينجعل بها هذه الأمور تبعا نعم بعض تلك الأمور خارجيّة مستأصلة لا مدخل لإنشاء الشّرع فيها لكن لما كان وجودها وأسبابها الواقعيّة ربما يخفى على المكلفين بينها لهم الشّرع كالحدث والطهارة وأسباب الملك والزّوجيّة ونحو ذلك فليس فيها إنشاء من الشّرع أصلا حتى يكون طلبا أو أمرا آخر وقيل بالثّاني نظرا إلى ثبوت الوضعيّات في موارد انتفاء التّكليفي فإنّ الصّغير إذا بال يكون محدثا إذا تلف مال غيره فهو له ضامن وإذا باع له الولي صار مالكا ولا تكليف بالنّسبة إليه وأجيب بأنّها أيضا منتزعة من التّكاليف غاية الأمر عدم تعلقها بالصّبي وهو غير قادح إذ يكفي انجعالها بتعلق التّكليف بالولي بأداء قيمة المال المتلف من أمواله وحفظ الثّمن له أو بتعلقه بالصّبي بعد البلوغ فإنّه لما دل الخطاب التّكليفي على أنّ البالغ الّذي بال قبل بلوغه يجب عليه الوضوء انتزع منه أنّ الصّبي يكون محدثا بالبول وهكذا وأمّا الملكيّة فهي من الأمور الواقعيّة كما سبق ويمكن دعوى ذلك في مثل الحدث والضّمان أيضا على إشكال في الأخير أقول إن أراد القائل بالانتزاع أنّها منتزعة من نفس التّكاليف فباطل جدا لأنّ الشّرطيّة غير الوجوب مفهوما وذاتا وإنّما أمر منتزع من تعليق الوجوب أو تقييد الواجب والأوّل حاصل مع الوجوب والثّاني قبله لاعتباره في متعلقه والتّعليق والتّقييد اعتباران حادثان زائدان على نفس الوجوب فإن أراد القائل بالجعل الأصلي هذا المعنى فهو الحق الّذي لا مناص عنه وإن أراد أنها أمور ملحوظة بمفاهيم مستقلة مجعولة فهو غير لازم قيل ويظهر الثّمرة عند الشّك في الشّرطيّة والجزئيّة فعلى القول بالجعل المستقل يجري أصالة عدمه وعلى القول بالتبعيّة يرجع الشّكّ إلى تعلق الطلب بالمطلق أو بالمقيد وبالبسيط أو المركب ولا يتعين شيء منهما بالأصل أقول ويظهر من ذلك قوة القول بالاستقلال بالوجه الّذي قررناه لأن أصالة عدم التّقييد من الأصول الاتفاقيّة ويلزم على القول

 

بالتبعيّة عدم جريانها لأنّها مثل أصالة عدم الشّرطيّة بل هي هي إلاّ أن يقال إنّ ذلك من الأصول اللّفظيّة الّتي مرجعها إلى أصالة عدم ذكر القيد في كلام المطلق فيحمل المطلق على الإطلاق إمّا لأصالة الحقيقة أو لقبح التّكليف بلا بيان فلا دخل له بما نحن فيه لكن يمكن أن يقال إنّه لا شبهة في جريانه في مقام فقد اللّفظ المطلق أيضا غاية الأمر أنّه من الأصول المثبتة لأنّ تعلق التّكليف بالمطلق من اللّوازم العقليّة لعدم ملاحظة القيد وهذا غير أنّه من مسألة الشّكّ في الحادث الّذي لا يجري فيه الأصل أصلا فتأمل جدا وقد يقال تحقق الثّمرة أيضا في نفي الجزئيّة والشّرطيّة في حالة السّهو والنّسيان أو الجهل بحديث الرّفع فإنّ المراد منه رفع الأمر الشّرعي القابل للجعل والرّفع دون الأمور العقليّة والشّرعيّة المترتبة عليها فإن قلنا بأنّ الجزئيّة مجعولة للشارع أمكن دعوى رفعها عن النّاسي وأخويه وإن قلنا بأنّها انتزاعيّة عقليّة فلا معنى لرفعها إلاّ رفع الحكم التّكليفي المتعلق بالمركب في حالة العذر وهو مسلم لقبح تكليف الغافل لكنّه لا يجدي في مطلوبيّة العمل النّاقص بخلافه على الأوّل فتأمل هذا تمام الكلام فيما يتعلق بما ذكره المحقق الخوانساري رحمه‌الله غير أنّه بقي الكلام في النّظر فيما ذكره من معنى النّقض وأنّه مختص بما فرضه دون استصحاب القوم أو لا فنقول إنّ حاصل ما ذكره هو في معنى النّقض هو أنّ المراد بنقض اليقين هو مخالفة اليقين السّابق أي العمل بخلاف مقتضى الدّليل الأوّل ولما كان معنى النّقض هو رفع اليد عن الشّيء الثّابت فعلا وهذا المعنى لا يمكن تحققه في زمان الشّكّ بنحو القطع وجب أن يقال بكونه مستعملا في مطلق رفع اليد عن الشّيء في زمان الشّكّ في بقائه إذا احتمل كونه مخالفة للدليل الأوّل واقعا وذلك لأنّه نقض في كثير من الأحوال فأطلق اسم النّقض عليه باعتبار الغالب فرضا لوجود الوصف في الفاقد أو لتنزيل الفاقد منزلة عدمه وهذا باب شائع في المحاورات وهو السّر في حكمهم بأنّ الوصف الوارد مورد الغالب لا يوجب تخصيص الحكم بواجد الوصف كقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم واعترض عليه بعضهم بأنّ إرادة هذا المعنى من النّقض وهو رفع اليد عن الشّيء المحتمل الثّبوت لا يتصور بالنّسبة إلى نقض اليقين باليقين لعدم احتمال ثبوت المتيقن السّابق حينئذ ولا وجه للتفكيك بين النّقضين فيجب حمل النّقض على معنى يشملهما بحيث يكون قريبا من المعنى الحقيقي وهو ليس إلاّ رفع اليد عن الشّيء الّذي من شأنه الثّبوت ويكون الشّك حينئذ في خصوص الرّافع فإنّ رفع اليد في مثل ذلك لا يجوز بالشّكّ في الرّافع ويجوز باليقين به فيكون مفاد الخبر الاستصحاب في خصوص موارد الشّك في الرّافع دون وهذا أحد الأقوال في مسألة الاستصحاب أقول والتّحقيق أنّ ما ذكره المحقق الخوانساري رحمه‌الله غير صحيح مضافا إلى ذلك من جهة أنّ النّقض ليس معناه مخالفة اليقين بل المراد به هدم البناء الّذي عقده الشّخص بسبب اليقين وهذا البناء أمر يستمر فعلا لو لم ينقضه الشّخص بنفسه ولما كان قيد

 

الزّمان غير ملحوظ في مورد اليقين والشّكّ صدق توارد اليقين والشّكّ على موضوع واحد ويكفي ذلك في تحقق معنى النّقض كنقض العهد فهو مستعمل في معناه الحقيقي والمراد باليقين إمّا المتيقن مجازا أو بحذف المضاف أي متعلق اليقين والمراد بالخبر أنّه إذا بنى المكلف على شيء بسبب اليقين فلا يهدم ذلك البناء بالشّكّ في بقائه فلا وجه لحمل النّقض على المخالفة ليختص مورده بصورة شمول الدّليل الأوّل لحال الشّكّ بعنوان كلي كما يقوله الخوانساري ره ولا لحمله على رفع اليد عن الأمر الثّابت استمراره شأنا ليختص بالشّكّ في الرّافع فإنّ جميع ذلك موجب للتّخصيص في لفظي اليقين والشّكّ بلا ضرورة داعية إليه ولو سلم كون ما ذكرنا من معنى النّقض خلاف ظاهره فلا ريب أنّ تخصيص متعلق النّقض أيضا خلاف الظّاهر وإذا دار الأمر بين التّصرف في الفعل أو في المتعلق فمقتضى نظائره تقديم الأوّل كقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم فإن حمل أموالكم على العموم سبب لحمل الأكل على معنى التّصرف ولا يوجبون ظهور الأكل في معناه سببا لتخصيص الأموال بالمأكولات فتأمل جدا ومنها أنّه هل يختص مفاد الخبر بالأحكام أو يجري في الموضوعات أيضا الحق هو الثّاني للعموم وقد يقال باختصاصه بالأوّل لأنّ بيان الموضوعات ليس من شأن الشّارع ويدفعه أوّلا أنّه إن أراد بالموضوعات ما يقابل بالأحكام الكليّة فلا ريب أنّه مستلزم لتخصيص مورد الخبر فإنّه الشّكّ في بقاء الطّهارة الجزئيّة وإن أراد ما يقابل مطلق الأحكام فيرد عليه النّقض بالأحكام الجزئيّة فإنّ بيانها أيضا ليس من وظيفة الشّارع وثانيا أنّ بيان أنّ الحكم في صورة الشّك في بقاء الموضوع هل هو البناء على الحالة السّابقة أو نقضها ليس إلاّ وظيفة للشّارع وهو ظاهر ومنها أنّه هل يختص مفاده بغير الأحكام الكليّة أو لا قد يقال الأوّل إمّا لأنّ الشّكّ في الحكم الكلي إنّما يجري فيه أخبار التّوقف والاحتياط كما يظهر من الأخباريين وإمّا أن الشّك في بقاء الحكم ليس إلاّ من جهة تبدل حالة أو وصف يحتمل مدخليّته في ثبوت الحكم وهو معتبر في الموضوع فيكون الشّكّ راجعا إلى بقاء الموضوع فلا يتحقق نقض اليقين بالشّكّ ولا يكون الحكم بثبوت الحكم للموضوع الثّاني إبقاء للحكم الأوّل حقيقة ودعوى كفاية الوحدة العرفيّة ممنوعة لأنّها وحدة تسامحا وهي إنّما توجب صدق النّقض تسامحا والمنهي عنه إنّما هو النّقض الحقيقي وهو لا يفرض إلاّ في صورة الشّك في الرّافع لأنّه إنّما يرفع الحكم بعد تحققه لموضوع عن ذلك الموضوع بعينه فيكون نقضا وليس عدم الرّافع معتبرا في الموضوع وإلاّ لتبدل الموضوع بوجوده فلا يكون الرّافع رافعا هذا خلف وفي الجميع نظر أمّا الأوّل فلمنع جريان أخبار التّوقف في مجاري الاستصحاب كما قرر في محله وأمّا الثّاني فلمنع مدخليّة الأوصاف والأحوال في الموضوع بل الموضوع ربما يكون ذات الشّيء والحالات والأوصاف إنّما تعتبر علة أو زمانا لثبوت الحكم للموضوع فإذا شك في كونها علة أو ظرفا للحدوث فقط أو له وللبقاء يتحقق الشّكّ بعد زوالها في بقاء

 

الحكم لذلك الموضوع بعينه فيصدق النّقض حقيقة لا تسامحا وأمّا أنّ الموضوع ما ذا فالمرجع فيه ظاهر الخطابات الشّرعيّة أو نظر العرف ولا يوجب ذلك كون الوحدة مسامحة عرفيّة حتى يقدح في صدق النّقض حقيقة وبهذا التّقرير يتضح إمكان جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة أيضا كما أشرنا إليه سابقا بل لنا أن نقول بأنّ ظاهر الخبر المنع عن كل ما يكون نقضا عرفا كما هو الشّأن في مداليل الألفاظ ويكفي في صدقه عرفا الوحدة العرفيّة فلا حاجة إلى تحصيل الوحدة الحقيقة بالوجه الّذي قررناه ومن هنا يتجه استصحاب الكريّة في الماء بعد أخذ مقدار منه مع فقد الوحدة الحقيقة هنا قطعا ومنها هل يجري في مطلق الأحكام الشّرعيّة أو يختص بالوضعيّات قد يتوهم الثّاني نظرا إلى عدم تحقق الشّك في البقاء بالنّسبة إلى التّكليفيّات وضعفه ظاهر كما بيناه مفصلا في الرّسالة الاستصحابيّة ومنها أنّه هل يختص بالمنجزات أو يجري في المعلقات أيضا الحق هو الثّاني للعموم فيجري استصحاب كون العصير مما ينجس بالغليان في عصير الزّبيب بعد ثبوت هذا الحكم له حال كونه عنبا فيحكم بنجاسته للاستصحاب ويقدم هذا الاستصحاب على استصحاب طهارته الثّابتة له قبل الغليان كما يقدم استصحاب نجاسة الثّوب على استصحاب طهارة ملاقيه وهو ظاهر وسيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء الله ومنها هل يجري في الوجوديّات والعدميّات أو لا الحق هو الأوّل للعموم وقد يقال بأنّه مختص بالعدميّات والوجوديّات الّتي يكون الشّك في بقائها ناشئا عن الشّك في الواقع والمانع نظرا إلى عدم النّقض إلاّ فيما إذا كان المتيقن مستمرا لو لا الرّافع وهذا هو المتحقق في العدميّات مطلقا وفي القسم المذكور من الوجوديّات مضافا فيه إلى أنّ الشّك في المانع مع تحقق المقتضي لا يعتنى به عند العقلاء وقد قال الرّئيس كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان فإنّ وجود المانع موجب لعدم إمكان المقتضي بالفتح فمقتضى قاعدة الإمكان الحكم بعدمه فيؤثر المقتضي أثره وفيه منع توقف صدق النّقض على ذلك والسّند قد تقدم وما ذكره من قاعدة الإمكان ليس المراد به ما ذكره بل المراد به الحكم بالإمكان في مقابل الوجوب والامتناع الذّاتيين دون الإمكان الفعلي في مقابل الامتناع الفعلي كيف وهذا مما لم يقم عليه دليل أصلا وقد حمل كلام الرّئيس على أنّ المراد الحكم بالاحتمال في مقابل الجزم بأحد الطرفين من غير دليل وكيف كان فلا ربط له بمسألة الاستصحاب ولو تم لاقتضى الحكم بوجود المقتضي بالفتح عند الشّكّ في المانع مطلقا وإن لم يكن له حالة سابقة ثم إنّ القول بجريانه في مطلق العدميّات يستلزم القول بجريانه في الوجوديّات أيضا بمعنى أنّه يترتب الأمر الوجودي المتيقن سابقا على استصحاب عدم أضداده فلا فائدة في منعه في الوجودي بعد تسليمه في العدمي سيما على القول باعتباره من باب الظّن نعم على القول بالتعبد قد يثمر فيما إذا لم يكن الوجودي من الآثار الشّرعيّة للعدم السّابق فإنّ استصحابه لا ينفع في ترتيبه على التّحقيق من عدم اعتبار الأصول

 

المثبتة وسيأتي زيادة تحقيق لهذه الأمور إن شاء الله الثّاني من الأخبار الواردة في المضمار رواية أخرى لزرارة أيضا صحيحة قال قلت له عليه‌السلام أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت أثره إلى أن قال فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت ولم أر شيئا فصليت فيه فرأيت فيه قال عليه‌السلام تغسله ولا تعيد الصّلاة قلت ولم ذلك قال لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ الحديث ودلالتها على اعتبار الاستصحاب واضحة والكلام في عموم اليقين والشّكّ وعموم النّقض ما تقدم في الخبر السّابق ولإضمار فيه غير قادح كالسّابق لجلالة شأن الرّاوي وطريقة السّؤال والجواب قيل ويستفاد منها مع حجّيّة الاستصحاب أمران أحدهما أنّ الأمر الظّاهري الناشئ من الاستصحاب مفيد للإجزاء وإلاّ لما كان وجه لترك الإعادة بعد حصول اليقين بسبق النّجاسة الكاشف عن مخالفة العمل للواقع والثّاني صحة عمل الجاهل الدّاخل في العمل مع جهله بأنّه مطلوب منه واعترض على الأوّل بأنّه لو كان المراد ذلك لقال وما كان ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ حتى يكون ترك الدّخول نقضا إذ ليس الإعادة بعد اليقين يسبق النّجاسة نقضا لليقين إلاّ باليقين لا بالشّكّ كما في الخبر فيكون هذا الكلام شاهدا على أنّ مورد السّؤال هو رؤية النّجاسة بعد الفراغ مع احتمال طروها حينئذ فإنّ الإعادة حينئذ نقض لليقين بالشّكّ ويمكن دفعه بأنّ المراد أنّ الإعادة ملزومة لعدم الإجزاء وهو ملزوم لعدم الأمر الظّاهري لأنّ الأمر يلزمه الإجزاء عدم الإجزاء لا يكون إلاّ لعدم الأمر وعدم الأمر ليس إلاّ بتجويز نقض اليقين بالشّكّ فيكون الإعادة بضميمة تسليم أنّ الأمر الظّاهري يلزمه الإجزاء يكون نقضا لليقين بالشّكّ وحيث إنّ ظاهر السّؤال حصول اليقين بسبق النّجاسة فلا مناص عن التزام التّسليم المذكور ليتجه التّعليل فالأولى في الاعتراض أن يقال إنّ عدم الإعادة يحتمل أن يكون من جهة تحقق الطّهارة الشّرعيّة الّتي هي شرط واقعي للصّلاة ويكون التّعليل من جهة أنّ الإعادة يستلزم منع وجود الطّهارة الشّرعيّة حال الصّلاة وهو معنى نقض اليقين بالشّكّ فلا يتعين حمل الخبر على كون الأمر الظّاهري للإجزاء كما لا يخفى واعترض على الثّاني بأنّه سؤال عن واقعة مفروضة لا محققة حتى يدل على كفاية عمل الجاهل والأولى أن يعترض بأنّه إنّما سئل عن صحة العمل بعد انكشاف وجود النّجاسة حال الصّلاة فلا دلالة في الجواب ولا في السّؤال على أنّه كان جاهلا بجواز الدّخول في العمل باستصحاب الطّهارة اللهم إلاّ مع التّوجيه الّذي ذكرنا من أنّ السّؤال إنّما يرجع إلى أنّه هل كان مأمورا بالدّخول أو متطهرا شرعيّا حتى لا يجب الإعادة لموافقة الأمر الظّاهري أو لوجود الشّرط الواقعي أو لا والجواب راجع إلى إثبات ذلك وإلاّ لزم نقض اليقين بالشّكّ وحينئذ فيكون في السّؤال دلالة على جهله بالأمر في الأوّل وبوجود الشّرط شرعا في الثّاني وعليها فيثبت المطلوب فتأمل وهناك أخبار أخر قد تمسكوا بها في مسألة الاستصحاب وفيما ذكرنا كفاية وهنا فوائد أحدها مقتضى الصّحيحتين وغيرهما من أخبار الباب جريان الاستصحاب في صورة الظّن بالبقاء والشّكّ فيه والظّن بالارتفاع جميعا لوجوه منها أنّ الشّكّ لغة خلاف اليقين

 

فيشمل الصّور الثّلاث ومنها قوله في الخبر الأوّل فإن حرك إلى جنبه شيء فإنّه من أمارات النّوم ومنها قوله عليه‌السلام لا حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ومنها قوله عليه‌السلام ولكن ينقضه بيقين آخر ومنها قوله في الخبر الثّاني فإن ظننت أنّه إضافي مضافا إلى عدم ظهور القول بالفصل بين القائلين باعتباره من جهة الأخبار والمراد بالظّنّ بالارتفاع الظّنّ الغير المعتبر وأمّا الظّن الّذي قام الدّليل على حجّيّته فيقدم على الاستصحاب وينقض به اليقين السّابق لحكومة دليله على دليل الاستصحاب وسيأتي بيانه إن شاء الله الثّانية مقتضى إطلاق الأخبار السّابقة حجّيّة الاستصحاب مطلقا في الحكم والموضوع ومعناه في الحكم جعله بنفسه ظاهرا عند الشّكّ ويترتب عليه آثار ثبوت الحكم الشّرعي من وجوب الإطاعة وشبهه بأدلة ثبوته لا بدليل الاستصحاب ومعناه في الموضوع جعل آثاره ولوازمه الشّرعيّة ظاهرا وهذا الفرق هو لازم معنى عدم نقض اليقين بالشّكّ في الموضعين فلا يستلزم استعمال اللّفظ في معنيين وأمّا اللّوازم العقليّة والعادية وآثارهما الشّرعيّة والملزومات مطلقا وكذا الملازمات والأمور المقارنة للمستصحب اتفاقا بحسب خصوصيّة المقام فلا يترتب شيء منها على الاستصحاب كاستصحاب طهارة الإناء المردد بين البول والماء فإنّها لازمة شرعا لكونه ماء رافعا للحدث والخبث ورافعيّته للحدث ملازمة للطّهارة واستصحاب عدم المانع يلزم عادة وصول الماء إلى البشرة بالارتماس واستصحاب طهارة أحد الإناءين يقارنها نجاسة الآخر بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما فإنّ شيئا من ذلك لا يثبت بالاستصحاب على التّعبد وكذا على الظّن إلاّ اللّوازم العقليّة والعادية فإنّها تترتب على استصحاب للملزوم بناء على الظّن لأنّ الظّن بالملزوم يلزمه الظّن باللازم ولا يعارض بالعكس لأنّه من التّوابع كذا قيل وفيه نظر وأمّا في المقارنات فلا يجري مطلقا إلاّ إذا كان نفس المقارن متيقنا في الزّمان السّابق فيستصحب بنفسه مطلقا وكذا لو لم يكن له حالة سابقة أصلا فيمكن ترتيبه بناء على الظّن وكذا في البواقي وكيف كان فلا يثبت بالاستصحاب على المختار من حجّيّة على وجه التّعبد إلاّ الآثار الشّرعيّة الثّابتة للمستصحب بلا واسطة دون اللّوازم العادية والعقليّة وآثارهما وهذا هو المراد بعدم اعتبار الأصل المثبت لأنّ المتبادر من الأخبار تنزيل واحد لا تنزيل في تنزيل وذلك التّنزيل إنّما هو في الآثار الثّابتة أصالة إلاّ بواسطة شيء آخر أعني الواسطة في الثّبوت فلا يقدح الواسطة في العروض كاستصحاب عدم الدّين المترتب عليه وجوب الحج لواجد المال لثبوت الاستطاعة الشّرعيّة الّتي هي واسطة في عروض الحكم لعدم الدّين لأنّه جزء معنى الاستطاعة فهذا ليس بأصل مثبت ولا فرق في الآثار الشّرعيّة الثّابتة للشيء بين المنجزة والمعلقة كما سبق فلا يقدح استصحاب التّنجس بالغليان للعصير بعد صيرورة العنب زبيبا بخلاف استصحاب صحة الغسل بالارتماس الثّابتة عند عدم المانع لأنّها ليست من آثار عدم المانع أصلا بل هي من آثار وصول الماء إلى البشرة وهو موضوع آخر بخلاف استصحاب كون الشّيء منجسا بالملاقاة فإنّه من

 

أحكام النّجس لا من أحكام الملاقاة فافهم وقد يقال إنّ مقتضى الأخبار فرض المشكوك متيقنا وترتب الآثار عليه مطلقا من غير فرق بين الآثار اللاحقة له من حيث اليقين السّابق أو من جهة الأمور الخارجة وهو ممنوع ويترتب على ذلك عدم حجّيّة أصالة تأخر الحادث الّتي مرجعها إلى أصالة عدم الحادث في السّابق فلا يترتب عليها أحكام تأخره عن شيء آخر لأنّه موضوع آخر وليس من الآثار الشّرعيّة للمتيقن نعم لو كان لأصل العدم السّابق حكم ترتب على استصحابه كما يترتب الأحكام الوجود اللاحق في الزّمان الثّاني لليقين وأمّا أحكام الحدوث الّذي هو ابتداء الوجود فهل يترتب على الأصل نظرا إلى أنّ الوجود متيقن والعدم قبله مستصحب فيثبت كونه حدوثا ومن أنّ ذلك من اللّوازم العقليّة وجهان والحق أنّ الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم فهو كالاستطاعة الّتي تحصل بأمرين وجودي وعدمي فإذا ثبت أحد جزأيه بالوجدان والآخر بالأصل ترتب عليه الأحكام ولذا يترتب أحكام أوّل الشّهر على استصحاب عدمه في اليوم الماضي أو على استصحاب الشّهر السّابق في يوم الشّكّ وليس ذلك بأصل مثبت الثّالثة قد يستصحب الصّحة في العبادات عند الشّكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته أو ناقضيّته إذا ترك نسيانا أو فعل كذلك ويترتب عليه نفي الجزئيّة والشّرطيّة والمانعيّة والنّاقضيّة واعترض عليه بأنّ الصّحة المستصحبة إن كانت صحة المركب فهي غير متحققة قبل إتمام العمل حتى تستصحب وإن كانت صحة الأجزاء السّابقة فلا يترتب عليها صحة المركب لأنّها من آثار إتيان المركب بجميع ما يعتبر فيه من الأجزاء والشّرائط وهو مشكوك ونفي جزئيّة المشكوك وشرطيّته باستصحاب صحة الأجزاء السّابقة باطل لأنّه ليس من لوازمه الشّرعيّة فالأصل بالنّسبة إليه مثبت كذا قرره بعض الأفاضل وناقش بعضهم في الاستصحاب المذكور بوجه آخر وهو أنّه لا مجرى لاستصحاب صحة الأجزاء السّابقة أصلا لأنّ صحة الجزء ليست إلاّ وقوعه جامعا لما يعتبر فيه بنفسه بحيث لو ضم إليه باقي أجزاء المركب بالشّرائط والآداب لحصل امتثال الكل وهي هنا غير مشكوكة إنّما الشّكّ في انضمام باقي الأجزاء فلا وجه للاستصحاب نعم لو حصل الشّكّ في انقطاع الهيئة الاتصاليّة المعتبر في العمل شرعا ببعض النّواقض أمكن استصحاب تلك الهيئة ويترتب عليه عدم ناقضيّته المشكوك وليس ذلك بأصل مثبت أقول ليس المراد بالهيئة الاتصاليّة الهيئة القائمة بأجزاء المركب لأنّها أمر ربطي لا تحقق لها إلاّ بتحقق الجزء السّابق واللاحق فقبل تحقق الجزء اللاحق لم يتحقق بينه وبين السّابق اتصال حتى يشك في انقطاعه بل المراد الهيئة الّتي اعتبرها الطّالب بين الأجزاء في ذهنه بالكيفيّة المخصوصة وإذا شرع المكلف في ذلك العمل فقد دخل في العمل وصدق عليه أنّه متلبس بالعمل إلى أن يخرج منه فإذا شك في أنّه هل خرج منه بالفراغ أو بأمر مناف لما اعتبره الآمر استصحب التّلبس المذكور الّذي هو أمر واحد مستمر موجود من المبدإ إلى المنتهى لو لا القاطع ثم إنّ غرضه من الفرق بين الشّكّ في القاطع والمانع مع اشتراكهما في الشّكّ

 

في الانقطاع أنّه في الأوّل ليس الشّكّ في جامعيّة العمل للأجزاء والشّرائط فإنّ الجميع متحقق إنّما الشّكّ في بقاء التّلبس وعدمه فلا مانع من استصحابه بخلاف الثّاني لأنّ الشّكّ في التّلبس وعدمه ناش من الشّكّ في الإتيان بما يعتبر في العمل جزءا أو شرطا فاستصحاب التّلبس غير نافع بعد عدم إمكان نفي الجزئيّة أو الشّرطيّة وعدم إحراز كون العمل جامعا للأجزاء والشّرائط ولكن لقائل أن يقول بإمكان نفي الشّرطيّة باستصحاب الصّحة لكن بتقرير آخر بأن يقال إذا دخل في العمل على وجه الصّحة يقينا ثم فقد المشكوك الشّرطيّة أمكن أن يقال إنّ الأجزاء السّابقة قد كانت قبل فقد المشكوك متصفا بصفة وهي أنّها لو اتصلت بها الأجزاء اللاحقة لحصل المركب وسقط الأمر وبعد فقده يشكّ في بقاء هذه الصّفة لها فتستصحب لها هذه الحالة وبعبارة أخرى يجعل حال وجود الأمر المشكوك ظرفا لثبوت الحكم لا قيدا للمحكوم به حتى يقدح الشّكّ فيه في الاستصحاب بأن يقال قد كانت الأجزاء السّابقة بحيث لو ضم إليها الأجزاء الباقية حال وجود ذلك المشكوك لكان العمل مجزيا فإذا فقد ذلك الشّيء لم ينفع الاستصحاب في شيء ولكن ذلك الكلام لا يجري في الجزء المشكوك كما لا يخفى فتأمل الرّابعة الاستصحاب العرضي ليس بحجّة والمراد به كون الحكم المتيقن السّابق ثابتا من جهة غير الجهة المشكوكة البقاء كالحيوان المشكوك كونه نجس العين فإنّ نجاسته حال ولادته متيقنة لتلطّخه بالدم فإذا زال العين بمطهر أو مطلقا شك في بقاء النّجاسة لاحتمال كونه نجس العين ولا يجوز استصحاب النّجاسة لأنّ العرضيّة قد زالت والذّاتيّة غير ثابتة في السّابق والجهتان هنا تقييديتان يختلف بهما الموضوع وأمّا مع اتحاد الحكم وتعدد الجهة التّعليليّة فليس الاستصحاب فيه عرضيا نعم قد لا يجري من جهة أخرى كما إذا كان الجهة السّابقة علة للحدوث والبقاء معا فإنّه مع العلم بزوالها لا يمكن استصحاب الحكم إلاّ مع فرض احتمال قيام علة أخرى مقام العلة الزّائلة ولكن أصالة عدم تلك العلة حينئذ واردة على استصحاب المعلول إلاّ إذا فرض كون ترتب ذلك المعلول على عدم علته عقليّا أو عاديا فلا ينفع أصالة عدم العلة في ترتيب عدم المعلول شرعا وحينئذ فيبقى الشّكّ في بقاء المعلول فيمكن استصحابه ومما ذكرنا علم عدم جريان استصحاب الوجوب العيني لتقليد شخص كان المجتهد منحصرا فيه ثم وجد مجتهد آخر مفضول بالنّسبة إلى الأوّل فيقال مقتضى الاستصحاب المذكور وجوب تقليد الأعلم وذلك لأنّ علة العينيّة هي الانحصار وقد زالت والجهة الأخرى أعني الأعلميّة غير معلوم العليّة ابتداء وكذا في صورة تساوي المجتهدين ثم عروض الأعلميّة لأحدهما لا يمكن استصحاب التّخيير وبه يدفع وجوب تقليد الأعلم لأنّ علته التّساوي وقد زالت فافهم وكذا لا يمكن استصحاب النّجاسة في الجاري الّذي تغير لونه مع الشّكّ في تغير طعمه إذا زال تغير لونه مع الشّكّ في بقاء نجاسته لاحتمال بقاء تغير طعمه وذلك لأنّ الأصل عدم تغير طعمه ابتداء والمفروض زوال تغير لونه فلا يكون ماء متغيرا فيكون طاهرا شرعا وهذا الأصل

 

مقدم على الاستصحاب وارد عليه الخامسة قد عرفت أنّ الاستصحاب ليس حجّة عند سراية الشّكّ إلى اليقين السّابق وأمّا حكم المسألة فقد يقع الكلام فيه تارة من حيث العمل السّابق وتارة من حيث الأعمال اللاحقة ومتعلق اليقين قد يكون حكما وقد يكون موضوعا وليعلم أنّه لا إشكال في صحة الأعمال السّابقة الّتي موضوع الصّحة فيها الاعتقاد واقعا نعم لو كان الموضوع الاعتقاد المستمر وجب الحكم بالبطلان وأمّا لو كان الموضوع هو الواقع أو الواقع المعتقد فمقتضى الأصل الأوّلي عند زوال الاعتقاد الحكم بفساد كل عمل ترتب على ذلك الاعتقاد سابقا ولاحقا للأصول المتعددة إنّما الكلام في المخرج عن هذا الأصل فنقول قد يقع الكلام في الحكم بصحة الأعمال السّابقة وقد يقع في الحكم بصحة الاعتقاد وموافقته للواقع ليحكم بثبوت المعتقد واقعا حتى بالنّسبة إلى الأعمال اللاحقة أمّا الأوّل فقد يقال إنّ مقتضى أدلّة الشّكّ بعد التّجاوز والفراغ الحكم بصحة ما مضى من الأفعال والحق فيه التّفصيل لأنّ المعتقد إمّا حكم أو موضوع وعلى التّقديرين إمّا يكون صورة العمل معلوما أو لا والمتيقن من مجاري الشّكّ بعد الفراغ هو الشّبهة الموضوعيّة مع عدم كون صورة العمل معلوما كما إذا لم يعلم أنّه هل قرأ السّورة في العمل أو لا مع علمه بأن كان معتقدا لقراءتها في محلها ليدخل في محل الكلام وإلاّ فهذا العلم غير شرط في جريان القاعدة فحينئذ لا يعتنى بهذا الشّكّ بعد التّجاوز لأنّه حين الفعل أذكر وأمّا مع علمه بأنّه ترك السّورة معتقدا عدم وجوبها ثم شك في الوجوب فلا مجرى لأدلة الشّكّ بعد الفراغ وكذا في الشّبهة الموضوعيّة مع العلم بصورة العمل كما لو علم أنّه لم يحرك الخاتم حال الغسل ثم شك أنّه هل تخلله الماء بنفسه أو لا وقد يدعى شمول العمومات لجميع أقسام الشّبهة الموضوعيّة ولا يخصصها التّعليل بالأذكريّة في بعض الأخبار وأمّا الشّبهة الحكميّة فلا وكذا الكلام لو تمسك بقاعدة حمل فعل المسلم على الصّحة بناء على جريانها في أعمال نفس الحامل وأمّا الثّاني فقد يقال بأنّ مقتضى أصالة الصّحة في أفعال المسلمين هو الحكم بصحّة الاعتقاد أيضا لأنّه عمل القلب ويلزمه الحكم بثبوت المعتقد في الواقع لأنّه معنى صحة الاعتقاد مع إمكان الحكم بثبوته من جهة الحكم بصحة الأعمال السّابقة المبتنية على وجود ذلك المعتقد فإنّ الحكم بصحتها مع عدم ثبوت المعتقد الّذي هو شرط للصّحّة غير ممكن ومن هنا ادعي الشّهرة بل نفي الخلاف على عدم وجوب تجديد النّظر على المجتهد إذ ليس له مبنى إلاّ الحكم بصحة الاعتقاد السّابق وثبوت المعتقد مع زوال الاعتقاد في الزّمان الثّاني لنسيان المدرك والشّكّ في صحته وقد يجري أصالة الصّحة في الاستناد إلى المدرك وذلك مخصوص بصورة نسيان المدرك بخلاف أصالة الصّحة في الاعتقاد فإنّها جارية حتى مع القطع بفساد المدرك والتّحقيق أن يقال إنّ قاعدة الحمل على الصّحة لا تنفع في تصحيح الاعتقاد الّذي فرضنا كونه طريقا إلى إثبات المعتقد لأنّ الحكم بثبوت المعتقد دائر مدار وجوده فمتى زال الاعتقاد كيف يحكم بثبوت المعتقد من غير طريق ولا فرق في ذلك بين العلم والظّنّ المطلق نعم لو

 

كان المدرك هو الدّليل التّعبدي ونسيه في الزّمان الثّاني ثم شك في صحة الاستنباط منه والرّكون إليه أمكن التّمسك بالقاعدة وأمّا مع تذكره والشّكّ في اعتباره فلا تنفع فيه القاعدة أيضا كما عرفت وأمّا الحكم بثبوت المعتقد من جهة الملازمة مع صحة العمل فباطل جدا لأنّ الحكم بصحّة العمل من حيث وقوعه من المسلم أو مضى محله حكم ظاهري وما يلزمه ثبوت المعتقد هو الصّحة الواقعيّة وهي غير معلومة حتى يترتب عليها ثبوته وتوافق الحكم الظّاهري مع الواقعي في كل شيء حتى في اللّوازم العقليّة والعادية ممنوع وأمّا حكمهم بعدم وجوب تجديد النّظر على المجتهد ففيه تفصيل وذلك لأنّ المجتهد إذا التفت ثانيا إلى المسألة فإمّا أن يتذكر المدرك أو لا وعلى الأوّل فإمّا يقطع بفساده أو يشك فيه والحكم مع القطع بفساد المدرك هو تجديد النّظر بلا إشكال ومع الشّكّ فيه هو محل الكلام في المقام وقد عرفته نعم لو نسي المدرك أو ذكره واحتمل أنّه لو جدد النّظر فيه لحصل له رأي آخر لزيادة القوة في الاستنباط فهذا هو الّذي يظهر منهم القول بعدم اللّزوم لا لأصالة الصّحة بل للزوم العسر والحرج لعدم وقوعه على حد مخصوص لأنّه في ازدياد القوة كل يوم مع عدم الدّليل على وجوب الاجتهاد في كل مسألة أكثر من مرة لمحض ازدياد القوة فتأمل هذا آخر ما تيسر من تحرير ما أفاده الأستاذ العماد والعلم السّناد شيخ الإسلام وفقيه أهل البيت عليهم‌السلام العالم الرّباني المولى محمد حسين الأردكاني أعلى الله مقامه في غرف الجنان وأنزل عليه سحائب الغفران الأحقر العبد الجاني الفاني محمد حسين بن محمد علي الحسيني الشّهرستاني عفا الله عنهما ووقع الفراغ من هذه النّسخة في يوم الخميس ثالث عشر من رجب المرجب سنة ألف وثلاثمائة وثمان من الهجرة الشّريفة والحمد لله.


تعليقات