المنهج التقليدي عند الأصوليين:
المعروف أن القدماء رتبوا مسائل علم الأصول على وفق الدليل الفقهي، وهو ما يعبر عنه بالمنهج التقليدي، فهم يقسمون علم الأصول على أربعة اقسام رئيسية تكون ملامحها العامة بحسب التصنيف الآتي لمباحث هذه الاقسام:
المقدمة: ويبحث فيها عادة مباحث مثل موضوع علم الأصول والوضع، والحقيقة والمجاز، ومبحث الصحيح والأعم، ومبحث الحقيقة الشرعية، ومبحث المشتق.
مباحث الألفاظ: وتتضمن عادة مباحث مثل الأوامر والنواهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفهوم والمنطوق، والمجمل والمفصل، والكثير منهم من يبحث مباحث النسخ في نهاية مباحث الألفاظ، وبعضهم يلحقه بعد البحث عن الاخبار.
مباحث الدليل: ويبحثون فيه عن الدليل النقلي من الكتاب والسنة، فيبحثون عن حجية ظواهره، ويبحثون أيضاً كيفية ثبوت السنة وما يتعلق بها، والاجماع وانواعه، ثم الدليل العقلي ويبحثون فيه عن الحسن والقبح العقليين، وقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، والاستصحاب، والقياس، وغيرها من المباحث
الخاتمة: وهي في مبحث التعارض أو ما يسمى بالتعادل والتراجيح ،وكثير من الأصوليين يلحق مبحثاً في الاجتهاد والتقليد بعد هذه الخاتمة.
وقد اعترض على هذا المنهج باعتراضين:
أولا: أبدل الشيخ الأعظم الأنصاري التصنيف المذكور على حسب الحالات الوجدانية للمكلف عند الالتفات الى الحكم الشرعي وهي القطع والظن والشك، وكانت الأقسام فيها كالآتي:
البحث التفصيلي والاجمالي للقطع.
البحث للظن المعتبر وغيره من الظنون.
بحث الشك والذي يشمل الأصول الأربعة وهي الوظيفة العملية التي يرجع اليها المكلف الشاك.
ثانيا: وهو الذي تبناه المحقق الاصفهاني: وقد توسع في مباحث الألفاظ إذ إنّه يلاحظ في مباحث الألفاظ توجد ما يرتبط به مثلاً صيغ الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد، واللافت للنظر أنّ القدماء وضعوا بعض الأبحاث ولا ربط لها بهذه المباحث، مثل تقسيم الحكم على التكليفي والوضعي وتقسيم الواجب على التوصلي والتعبدي والتعييني والتخييري والعيني والكفائي والنفسي والغيري والمطلق والمشروط والموسع والمضيق، فهي كلها مرتبطة ومتفرعة عن الواجب بما هو سواء كان مدلولا لفظيا ام لم يكن، وكذلك بعض البحوث لا ارتباط لها بعالم اللفظ أو مباحث الألفاظ، كما في بحوث التزاحم- ارتباط الحكم بالقدرة ودرجاتها المختلفة-، وبحث مقدمة الواجب (بحث عوارض الحكم كالانحلال الاستقلالي والضمني والتضاد والتلازم، والاطلاق والتقييد الثبوتيين، ومسألة التلازم في تلازم الأمر بالشيء مع النهي عن ضده، وتلازم الوجوب النفسي والغيري) .
المسيرة التاريخية للمنهج الأصولي:
من يتابع تاريخ التصنيف في علم الأصول يجد أن هذا المنهج قد تطور في مراحل مختلفة وخصوصاً في القرون المتأخرة، وبالنسبة للإمامية فأن الكتب القديمة المصنفة في علم الأصول منها ما يتخصص في موضوع معين كالناسخ والمنسوخ أو اختلاف الحديث الذي سمي فيما بعد بالتعارض مثلا، ومنها ما هو عام لمسائل علم الأصول، سواء كان مقدمة لكتاب فقهي، أم كان مستقلا ككتاب أصولي، ويمكن عدّ القرن الخامس الهجري بداية لتبلور علم الأصول كعلم مستقل وقد وصلتنا الكتب التي صنفت فيه مثل كتاب الشيخ المفيد (ت413هـ) التذكرة(*) والذي لم يصلنا بنفسه وأنما الذي وصلنا هو مختصره كما عنونه الشيخ محمد بن علي بن عثمان الكراجكي في كنزه ب(مختصر التذكرة بأصول الفقه)، على الرغم أن معظم المسائل التي أشار إليها هي مما بحثها وتوسع فيها المتأخرون، إلا أننا لا نجد منهجا واضحا لتقسيم مسائله، فمثلا يبتدئ المفيد ببيان أصول الحكم الشرعي وهي كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقوال الأئمة (عليهم السلام)، وهذا يدل على أن القدماء لم يكن يعتمدون إلا المصادر الاصلية للتشريع، فلم يذكر الاجماع (**)،أو العقل(***)كمصدر اساسي، فضلا على الأصول التبعية الظنية التي يعتمدها غير الأمامية، ثم يتناول الطرق الموصلة الى تلك الأصول وهي العقل واللسان والاخبار، ثم قسم الخبر الى متواتر وآحاد، والآحاد إمّا معتضد بقرينة تشهد بصدقه، وأمّا غير معتضد بقرينة، بينما هذه المباحث عند المتأخرين تدرج في مباحث الحجة، ولكن بحثه لهذه المواضيع كأنه يحمل التعليل للبدء بها وتسلسلها فيبتدأ من مصادر الحكم الشرعي، ثم الطرق الموصلة للحكم الشرعي، وهكذا تجد كل موضوع مرتبط بما قبله فمثلا نجد أن مبحث الأوامر يفرعه على مبحث حجية ظاهر القرآن الذي هو أول المصادر الشرعية، وهكذا في سائر ترتيب مسائله، ونلاحظ أن تلميذه الشيخ الطوسي ينتقد كتاب التذكرة بقوله بانه : "لم يستقصه وشذ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها وتحريرات غير ما حررها" ، ثم نجد مما وصلنا كتاب السيد المرتضى (436هـ) الضخم نسبة لكتاب أصولي في تلك المرحلة والمسمى بالذريعة، والذي يظهر من مقدمته أن هناك كثيراً من الكتب المصنفة في هذا العلم قبله، بحيث أن السيد المرتضى ينتقد منهجيتها والتداخل الذي يحصل فيها بين علم الأصول وعلم الكلام، ولكن كثرة تلك التصانيف السابقة عليه لا تخص المدرسة الأمامية وحدها، لأنه يناقش في كتابه آراء أعلام الامة الاسلامية من مختلف المذاهب، والذي يتابع مواضيع الكتاب يجد اهتمام السيد المرتضى بمنهج العلم واضحاً جداً، فهو لا يبتدئ بموضوع إلا ويعلل سبب بحثه له، ويرى السيد المرتضى أن كتابه هذا ليس له نظير من الكتب المصنفة قبله، وهو اقرب الى المنهج التقليدي المتقدم ذكره، وإنّ اختلفت تسميات المسائل عنده وطريقته الادبية في بيانها والاستدلال عليها واهتمامه بالخطاب لأنه يصرح بإنه هو مدار الكلام في علم الأصول ، ثم نجد كتاب الشيخ الطوسي (ت460هـ) الذي جمع كل الأصول والمصنفات في كل فن في كتب جامعة، وفي الأصول فأن كتابه الجامع هو العدة، والحقيقة أن الشيخ الطوسي وإنّ كان تلميذ السيد المرتضى، إلا أنه الف كتاب العدة قبل أن يؤلف السيد المرتضى كتاب الذريعة، لأنه يقول في عدته: "وإن سيدنا الأجل المرتضى - أدام الله علوه - وإن كثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع اليه ويجعل ظهرا يستند اليه" ، ولكن أدرج بحثنا هذا كتاب السيد المرتضى مقدما على كتاب الشيخ الطوسي، لأن الذي يتابع كتب الشيخ الطوسي يجده يضيف ويعدل عليها كما تجد ذلك صريحا في كتاب الفهرست بغض النظر عن موضوعه الخاص، فلا يبعد أنه يضيف لكتابه نظرية أو رأيا أصولياً فيما بعد، فعده متأخراً زمنياً عن كتاب الذريعة هو الأولى، ولكن على الرغم من تلك العبارة التي يظهر منها سبقه لتأليف العدة على الذريعة، إلا أن مقارنة الكتابين تظهر جامعية كتاب العدة وسعة مباحثه بحيث إنّ جملة من تحقيقاته لم يلتفت إليها السيد المرتضى، مما يجعل تقدم كتاب العدة تأليفاً على كتاب الذريعة من المسائل التي تحتاج الى جهد من الباحثين للتحقيق فيها، ويمكن عدّ كتاب العدة نموذجاً من نماذج المنهج التقليدي المتقدم في معظم أبوابه إلاثني عشر، يقول السيد الخوئي: "قد فرض التفاعل الفكري بين الفقه والأصول أن يواكب هذا التوسع الفقهي نحو محسوس في الفكر الأصولي تمثل هو الآخر في كتاب (العدة) للشيخ الطوسي (قدس سره)، ولم يحقق هذا مرحلة جديدة في تطوير الفكر الفقهي الشيعي ومناهجه الأصولية فحسب، بل حقق مكسباً عقائدياً كبيرا إذ رد على ذلك الاتهام الذي وجهه الخصوم الفكريون إلى مدرسة أهل البيت وتحميلها مسؤولية عجز الفقه الشيعي عن النمو والامتداد"، وقد ذكرت المصادر جملة من مصنفات علم الأصول للأعلام المتأخرين عن عهد الشيخ الطوسي ككتاب (التقريب (أو التهذيب) في أصول الفقه) لسلار بن عبد العزيز صاحب كتاب المراسم (٤٦٣ هـ)، وكتاب المصادر لسديد الدين الحمصي (٦٠٠ هـ) ، وغيرها، إلا أننا لم نعثر على هذه الكتب مطبوعة.
منهج الحليين والعامليين:
ثم يبزغ عهد الحليين وتطويرهم لهذا العلم ورفدهم له بعدة نظريات كتبلور مسالة حجية خبر الواحد وموقف الأمامية من دليل الاجماع والتعبد بالظن، وغيرها، وابرز مصنفات تلك الحقبة هو كتاب المعارج للمحقق الحلي(٦٧0هـ) الذي يشابه في كثير من ابوابه منهج الشيخ الطوسي في العدة، و ستة كتب للعلامة الحلي (٧٢٦هـ) في علم الأصول، مهمة إذ بقيت بعده محورا للشروح والتعليق من قبل العلماء، مثل كتاب (غاية البادئ في شرح المبادئ) لركن الدين الجرجاني تلميذ العلامة الحلي، وكتاب (غاية السؤول في شرح تهذيب الأصول) لفخر المحققين ابن العلامة، وكتاب (شرح المبادئ) لفخر الدين الطريحي، وكتاب (نهاية المأمول في شرح مبادئ الأصول)، وكتاب (نهاية المأمول في شرح مبادئ الأصول) للفاضل المقداد السيوري، ثم تطور هذا العلم عند الأمامية في عهد العامليين وخصوصاً في كتاب المعالم للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني (١٠١١هـ) والذي بقي كتابه متنا للبحوث وعليه تكتب الشروح والتعاليق الأصولية الى عهد قريب، ولم يزل الى الآن أحد الكتب الأساسية التي تدرس في الحوزات العلمية، ولكن ماتزال السمة العامة لهذه الحقبة هو اتباع المنهج التقليدي الذي تقدم ذكره .
آثار الحركة الإخبارية ومنهج الشيخ الأنصاري:
ساهم ظهور الحركة الاخبارية في انضاج هذا العلم لأنه لولا ما اثارته هذه الحركة من انتقادات مهمة لم تتبلور الحركة التجديدية لعلم الأصول، إذ نجد أن تلك الحركة اضطرت العلماء الى غربلة مباحث هذا العلم من الجذور، وليس في التفريعات الجزئية للمسائل، حيث نجد أيضاً صياغات جديدة لدى الأعلام كالمباحث المهمة لدى الوحيد البهبهاني في رسائله الأصولية، كتركيزه على وجوب تحصيل العلم أو الظن المعلوم الاعتبار، ومعنى ظنّية الطريق،واثبات الاجتهاد، وردوده على الإخباريين في جملة من مبانيهم، ووضعه الأساس لفهم الأصول العملية كما في رسالته في أصالة البراءة، ورسالته في الاستصحاب، ولكن الذي يمكن اعتباره منهجا جديدا فعلا هو ما بلوره الشيخ الأنصاري، ليس في ترتيب مسائل علم الأصول، وأنما في ما يمكن اعتباره ثمرة النزاع بين الاخباريين والأصوليين، إذ أقام كتاب الفرائد ليبين أن المدرسة الأمامية لا تعمل بالظن ابداً، وأنّما قام استنباط الحكم الشرعي في هذه المدرسة، على العلم والعلمي، فالعلم حجيته ذاتية لا تحتاج الى الجعل، لأنه إراءة كاملة، واما العلمي فهو وإن كان في الأساس دليل ظني إلا أنه قام الدليل القطعي على اعتباره مما يجعله ظناً خاصاً بمعنى أن الدليل القطعي على اعتباره خصص العموم الثابت الدال على النهي عن العمل بالظن، وكأن الشارع بهذا الاعتبار تمم حجية هذا الدليل ونزل إراءة الدليل الظني الناقصة بمنزلة الاراءة التامة، واذا فقد العلم والعلمي، لم يترك الشارع المكلف حائرا، بل جعل له وظيفة لأجل العمل، ليس فيها نظر للواقع، وأنّما هي وظيفة للجاهل أو الشاك فقط في مقام الجري العملي، وهذه الوظيفة هي ما تعرف بالأصول العملية، لأنها الاصل الذي يرجع اليه في مقام العمل عند فقد الدليل، وبذلك لم يحد الأصولي الأمامي عن العلم الى الظن في كل مراحل الاستنباط، ولأجل هذا المنهج العلمي نجد الشيخ الأنصاري عدل عن منهج القدماء، بأن ابدل التصنيف الذي ذكرناه في بداية هذا المبحث الى النظر للحالات الوجدانية للمكلف عند الالتفات الى الحكم الشرعي وهي القطع والشك والظن، فكانت ثمرة هذا التقسيم تلك البحوث المفصلة في القطع والظن المعتبر، وبحث الشك، هذا المنهج العلمي هو الذي قامت عليه المدرسة الأصولية عند المتأخرين بعد الشيخ الأنصاري، وما يزال كتاب فرائد الأصول ضمن مناهج الحوزات العلمية، وبلغ هذا المنهج القمة في نضجه في كتاب الكفاية للمحقق الآخوند الخراساني تلميذ الشيخ الأنصاري وما يزال هذا الكتاب هو المتن للبحوث في الحوزات العلمية وهو كتاب الدرس لمرحلة السطوح.
وقد وجهت لهذا المنهج جملة من الانتقادات لا مجال في هذا البحث للتعرض لها .
منهج المحقق الاصفهاني:
على الرغم من عظمة هذا الكتاب - كفاية الأصول - نجد مباشرة أن تلميذ المحقق الخراساني وهو الحكيم المحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني يضع منهجاً جديداً في علم الأصول يغير تقسيمات مسائله الرئيسة تماما، فأنه اهتم بالملاك وجهة البحث، والتي على اساسها تصنف مسائل علم الأصول، إذ قسم مباحث علم الأصول على أربعة اقسام، ورتب مسائله على اساسها، وهذا ما افضى به الى تغيير ترتيب مسائل علم الأصول وهجر المنهج القديم كل مسألة بحسب ملاكها، كنقله لمبحث المشتق من مباحث المقدمات الى المباحث اللفظية، ونقله جملة من مباحث الألفاظ الى المباحث العقلية وهي مباحث الاستلزامات والاقتضاءات، كبحث مقدمة الواجب ومبحث الضد ومبحث اجتماع الأمر والنهي ومبحث استلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده وغيرها، فأن البحث في هذه المسائل عن الملازمة وليس عن الدلالة فالبحث فيها عقلي لا لفظي، وهكذا، وقد ألف الاصفهاني كتاباً خاصاً لبيان هذا المنهج مفصلا ذكر فيه طريقته في ذلك وهي كالأتي :
قسم الأصول على: المباحث اللفظية ومباحث الملازمات العقلية ومباحث الحجة ومباحث الأصول العملية
ومنها بيان القسمة، وحيث إنّ مـقـاصد الفن تـارة مـن المسائل اللفظية، وأخرى من المسائل العقلية، وثالثة فيما يتعلق بالحجج الشرعية، ورابعة في تعارضها دلالة وسنداً، فقد جعلنا الكتاب مرتباً على مقدمة وأبواب أربعة وخاتمة.
فـالمقـدمـة في المبـادئ التصـوريـة والـتـصـديـقـيـة بـقسـميها مـن اللـغـوية والاحكامية.
والأبواب أربعة:
الباب الأول: في المسائل العقليـة النظرية والعملية، وإنما قدمـنـاها على اللفظية لشرافتها وقلة مواردها.
الباب الثاني: في المسائل اللفظية، وفيه مقاصد:
الأول: في المجعولات التشريعية من حيث نفسها من الأوامر والنواهي.
الثاني: في المجعولات المزبورة من حيث تعليقها على شرط أو وصف ونحوهما. الثالث: في موضوعات المجعولات التشريعية ومتعلقاتها من حيث العموم والخصوص، والاطلاق والتقييد، والاجمال والبيان.
الباب الثالث: في مـا يـتعلـق بالحجج الشرعية مـن حجية الظاهر مطلقاً وخصوص ظاهر الكتاب، وحجية حكاية السنة، وحجية نقل الاجماع، وحجية الاستصحاب.
يذكر كل منها في ضمن مطلب.
الباب الرابع: في تعارض الحجتين دلالة أو سنداً.
والخـاتـمة: في البراءة والاشتـغـال، والاجتهاد والتقليـد، فأن مسائلها أما بنفسها حكم شرعي مستنبط، أو لا ينتهي إليه أصلاً، فلذا جعلناها خارجة عن مقاصد الفـن ومندرجة في خاتمتها، إذ لم يبحث عنها في علم آخر مع حاجة الفقيه إليه .
وقد تبنى هذا المنهج بعده تلميذه المجدد الشيخ المظفر والذي صاغ كتابه أصول الفقه على اساس هذا المنهج، وما يزال كتاب المظفر يدرس ضمن منهج علم الأصول في الحوزات العلمية.
منهج السيد الصدر:
السيد محمد باقر الصدر من خلال كتابه المعالم الجديدة للأصول، وكتابه الدروس أو الحلقات، وضع ملامح لمنهج جديد، فيه ملامح من معطيات الفلسفة الغربية، وخصوصا الفلسفات الوضعية في جانبها الاستقرائي لا في نتائجها الخاصة هذا من جهة، وفيه ملامح من جمعه بين مدرستي النجف وقم من جهة ثانية، وهو نتاج محاولته أن تكون لغةً الأصول في كتبه قابلة لفهم المثقف العام كما في كتاب المعالم الجديدة مما اضطره أن يستعين بجملة من المصطلحات والنظريات والافكار الجديدة وادخالها الى علم الأصول، مع تبسيطها وتطويعها لتناسب البحوث الأصولية.
ولا نقصد بالمنهج الجديد هنا النظريات الكثيرة والآراء المهمة في جملة من مسائل علم الأصول كنظرية الاقتران الشرطي في الوضع، أو ما جاء به بالمعنى الحرفي أو في حقيقة السيرة أو بنظرية التعويض في مبحث خبر الواحد، ولا ابطاله لنظرية حكومة الأصول على بعضها اذا كانت متوافقة، أو الامارة على الاصل الموافق، ولا طريقته في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، ولا ما ذكره في بحث الترتيب والتزاحم وقاعدة لا ضرر، وغير ذلك من نظرياته وافكاره المهمة؛ لأن هذا تجديد في النظريات والافكار في الجانب المعرفي، وليس في الجانب المنهجي، وهو أمر تعود عليه علم الأصول عند كل علمائنا بأن يأتوا بآرائهم ونظرياتهم ويصوغون بها بيانهم لمسائل هذا العلم وفق رؤيتهم.
وكذلك ليس المقصود بالتجديد المنهجي اسلوبه ولغة علم الأصول التي ارادها في كتاب المعالم الجديدة للمثقف العام الراغب في معرفة هذا العلم، بحيث ابتعد تماما عن الاسلوب المعقد لطرح مسائل علم الأصول، وطرحه لمصطلحات كثيرة جديده في علم الأصول تستوعب النظريات التي ادخلها للعلم؛ لأن هذا تجديد في الاسلوب ولغة العلم لا في المنهج، وقد سبقه الى ذلك معاصره الشيخ المظفر في كتبه مثلاً.
وليس المقصود أيضاً استبدال المنهج التقليدي للدراسة الحوزوية للكتب الأربعة التي كانت محور الدرس للطالب سابقا بكتاب الحلقات وما ذكره في المقدمة القيمة في حلقاته والاسباب الضرورية لاستبداله لهذه الكتب التي تخاطب العالم بدل الطالب، إذ أن ما ذكره من الاسباب مهم جدا، إلا أنه تجديد في المناهج الدراسية، وليس تجديد في منهج علم الأصول.
وليس المقصود تقسيمه لمسائل علم الأصول على مجموعتين هما مباحث الأدلة ومباحث الأصول العملية، لأجل تقريب التصنيف الأصولي لواقع الاستنباط الذي يمر به الفقيه، فأن هذا التقسيم لمسائل العلم الى مجاميع لا يتعلق بمنهج العلم بحيث يمس جوهر مسائل العلم، وأنّما هو يتعلق بمظهر العلم لا بجوهره، وقد وجه هو بنفسه هذا النقد لمنهج الشيخ المظفر المأخوذ من المحقق الاصفهاني من حيث تقسيمه الرباعي.
وأنما تظهر ملامح المنهج التجديدي في جهات مختلفة تغير النظرة لجوهر مسائل علم الأصول، ويجد البحث أن أهمها في جهتين:
الجهة الأول: ربما يلخصه قوله بأن علم الأصول يقوم بدور المنطق بالنسبة الى علم الفقه، وقد ظهر هذا جلياً في كتابه المعالم الجديدة فأنه بعد أن حصر وسائل الاثبات على قسمين هما البيان الشرعي والادراك العقلي، قسم مسائل العلم بحسب طريقة اثباتها والتي يقوم في جميعها عنصر مشترك هو العلم والانكشاف التام، الى مسائل يقوم دليلها الفقهي أو وسيلة اثباتها الى ١- الدليل اللفظي، ٢- الدليل البرهاني المستمد من العقل، ٣- الدليل الاستقرائي، ٤- التعارض بين الأدلة، وصنف مسائل العلم على اساسها، بحيث كشف الملاك في البحث في مسائل العلم، فمثلا أن مبحث القياس والاجماع والسيرة يصنفها في الدليل الاستقرائي، من دون تأثر بنظر المناهج السابقة التي تنظر لملاك الحجية، إذ تدرج الأدلة جميعها في مباحث الحجج، وهكذا في مبحث التعارض بين الأدلة والذي توسع فيه ليضم إليه مباحث مهمة جدا وفق هذا المنهج والذي وضع فيه العناصر المشتركة التي تقوم عليها عملية الاستنباط، ولا يمكن في هذه العجالة بيان ميزات هذا المنهج مفصلاً، خصوصاً وأنّ الحوزة العلمية لم تتبنَ هذا المنهج الى الآن، نعم نجد أن جملة من الأعلام قد تأثروا بهذا المنهج في كتبهم وبحوثهم، وأحدهم هو السيد السيستاني، ويظهر ذلك في جملة من المباحث كتبنيه لحساب الاحتمالات وادخاله في بعض مسائل هذا العلم.
الجهة الثانية : تبنيه لمسألة حق المولوية في مقابل المنهج السائد والمعروف في المنجزية والمعذرية، فأن هذا التبني ليس رأيا في مسألة، وأنّما هو مبنى سابق على علم الأصول، يجعل النظر لمسائل العلم مختلف، ومن ثمراته قوله بأصالة الاحتياط في الشبهة البدوية، نعم قال بالبراءة الشرعية فيها للادلة الشرعية التعبدية، والمقصود هنا أن هذا المبنى نموذج لمباني تُغير جهة النظر للمسائل، وليس مجرد اختلاف في الرأي عن العلماء السابقين في هذا العلم في المسائل نفسها، ومثل هذه المباني تغير في منهجية علم الأصول ليس من حيث ترتيب مسائلها، وأنّما من حيث زواية النظر لمسائل العلم .
منهج السيد السيستاني:
ولابد لبيان هذا المنهج من تقديم بعض المقدمات التي تنفع في بيان جذور هذا المنهج، وأثره في مسيرة العلم وتصنيفه:
أولا: الحاجة الى المنهج:
العلم الذي يقبل التطور والنضج وتضاف له النظريات المختلفة باستمرار مسيرته وتتسع مسائله كما وكيفا، لابد له من تطور في المنهجية، أمّا من ناحية ترتيب وتصنيف مسائله على اساس جديد يستوعب مباحث هذا العلم، أو من ناحية تبدل زواية النظر لأساسيات هذا العلم، وعلم الأصول من العلوم التي ما تزال تشهد تطوراً ملموساً بأطراد، وخصوصا في المدرسة الأمامية التي بلغ فيها هذا العلم درجة عالية من الدقة والتطور، إذ إنّ أعلامه تمكنوا من توظيف نظريات علمية وفلسفية ولغوية وطوعوها لخدمة مسائل هذا العلم، ومثل هذا التطور لابد معه في كل مدة بحكم ما يستجد فيه كما ونوعا أنّ يجد منهجية جديدة تستوعب تطوره، خصوصا وأن أعلام هذا العلم عند الأمامية، هم في الغالب من المجتهدين والمراجع الذين ترجع اليهم الطائفة في احكامهم الشرعية، ولم يكونوا كذلك حتى بلغوا الاجتهاد في كل علوم الشريعة؛ لأن من حكم المجتهد عندهم أن يكون مجتهداً في جميع مقدمات الاستنباط، وإلا لو كان في بعضها مقلداً لكان في المجموع مقلدا باعتبار أن النتيجة تتبع أخس المقدمات، ومثل هذا السعة عند هؤلاء الأعلام تجعل العطاء العلمي المتجدد عندهم، ومزاوجة العلوم وتطويعها لخدمة علم الأصول أمرا متوقعا جدا، وهو ما يحتاج الى ترتيب ما يستجد ضمن تصنيف ومنهجة علمية تقوم على اساس منطقي في ترتيبها أو تساوق بالترتيب الجديد الغرض الذي قام العلم عليه، أو أعادة النظر في ترتيب جملة المسائل، لأجل اختلاف زاوية النظر للمسائل، وفي المقابل فأن هذا التطور يجعل بعض مسائل هذا العلم تهمل وتترك ويثبت التطور عدم أهليتها للبقاء في سياق مسائل العلم، كما نجد ذلك واضحاً جدا في مقارنة الكتب المفصلية التي ذكرناها في تاريخ التصنيف في الأمر الثاني من هذا المبحث، ولكن يثير السيد السيستاني نقطة فنية مهمة ضمن منهجه المقترح، وهو أنه يشترط أن لا يكون المنهج الجديد فيه طفرة عن سياق المنهج المألوف الذي اعتادت عليه الحوزات العلمية، بل يراعى التدرج في تطوير العلم ونضجه، إذا أمكن لهذا التدرج أن يحقق الغاية المطلوبة من العلم ، وكأنه أشترط ذلك لكي لا يحدث في هذا العلم شرخا يفصل المنهج الجديد عن سياق العلم فيحدث فجوة بين الماضي والحاضر، فيضيع الترابط عند المنتهلين من هذا العلم بين التراث الأصولي وبين النتاج الجديد لهذا العلم، هذا من جهة ومن جهة ثانية، فأن علم الأصول الذي نشهده في الحوزات العلمية لا يقوم على التصنيف والقراءة، بل هو علم تفاعلي بين أساتذة هذا العلم في بحوث الخارج وبين طلبتهم، فأتباع منهج جديد غير مألوف بشكل مفاجئ يزعزع الانسجام والتفاعل في البحوث العلمية الحوزوية.
ثانياً: الدافع للتطور المنهجي:
هناك جهة أخرى ذكرها السيد السيستاني غير ما سبق، في سياق حديثه عن الأدوار التي مر بها علم الأصول، وهي جهة التنافس العلمي، التي من خلال محطاتها البارزة يتطور العلم وتبرز الحاجة الى تجديد مناهجه والرجوع الى بلورته من الجذور مرة بعد أخرى، قال السيد السيستاني: "فكما أنّ المجتمعات تترقى في سلم الحضارة نتيجة التنافس الاقتصادي والثقافي فيما بينها، فكذلك تطور أيّ فكرٍ كان يحتاج لنوع من الصراع الحاد بين أقطاب هذا الفكر" ، وعلى هذا الأساس قام بتقسيم ادوار هذا العلم الرئيسية بناءً على وجود صراع وتنافس علمي ادى الى بروز طور جديد لهذا العلم، وقد قسم هذه الأدوار على ثلاثة أدوار:
الدور الأول: وهو عبارة عن مواقف علماء الشيعة تجاه المدارس الفكرية الأخرى، وتجاه العلماء الشيعة المتأثرين بهذه المدارس، أمثال ابن عقيل وابن الجنيد.
الدور الثاني: وهو عبارة عن الصراع والتنافس بين المدرسة الأصولية والأخبارية.
الدور الثالث: وهو عبارة عن المرحلة الفعلية التي ما زلنا نعيشها.
والسيد السيستاني وإن ذكر ذلك في سياق تقسيمه للأدوار التي مر بها علم الأصول، الا أننا في هذا البحث نجعل مسالة الصراع سبباً خاصاً للحاجة الى لغةً منهجية جديدة، فالصراع في زمننا هذا والذي ظهر فيه السيد السيستاني واجهة للمرجعية الشيعية بكل وضوح، هو أبلغ من كل الصراعات التي مر بها التشيع بل والتي مر بها الإسلام؛ لأنّ الحملة العالمية الممنهجة لتشويه صورة الاسلام ووسمه بالارهاب من جهة، والحملة الخاصة من التكفيريين لتشويه صورة التشيع من جهة ثانية، والظروف التي مرت بالعراق وظهور داعش ووحشيتها وما رافق ذلك من مفترقات طرق حاسمة من جهة ثالثة، والانفتاح الأعلامي إذ اصبحت الساحات العلمية وتحركات أعلام الامة ظاهرة لكل احد، ومحلا للنقد والنظر من قبل كل احد من جهة رابعة، كل هذا يجعل لزاما على ساحة البحث العلمي أن تجد لغةً جديدة تنسجم مع هذه الظروف، ويرى البحث أن هذا السبب لا يخص السيد السيستاني فحسب بل سينسحب على كل قادة الفكر وأعلام المدرسة الأمامية، وعلى الرغم من أن المنهجين المقترحين للسيد السيستاني قد سبقا بعض هذه الظروف التي ذكرناها، ولكن مراجع التقليد لا يتوقف عندهم البحث العلمي عند كتاب أو بحث، فهم يزاولون بإستمرار عملية الاستنباط للأحكام الشرعية ويبذلون الوسع في التوصل الى مبادئ عملية الاستنباط من خلال العلوم التي تمهد لعملية الاستنباط.
ثالثا: المصادر المؤثرة لهذا المنهج:
لأجل أن نعرف جذور المنهج المقترح لأحد الأصوليين لابد أن نعرف المصادر التي أثرت في مسيرته العلمية، ولا شك أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)هي المنهل الأول للسيد السيستاني وهو متضلع في علوم الحديث وله تضلع في علم الطبوغرافيا، بحيث إنه في مجلس بحثه لا يذكر الحديث ويكتفي بسنده بل يتابع تاريخ الكتاب الذي ورد فيه ومدى اعتباره، ولكنه لا يهمل آراء علماء الامة الاسلامية فمن ميزات بحثه أنه يذكر آراء علماء المسلمين احيانا من المذاهب الأخرى، ولكن السيد السيستاني لديه شغف بالقراءة، إذ تجده موسوعياً في جملة من المعارف ومتابعا للأحداث بدقة، وقد نقل عنه السيد عدنان البكاء رحمه الله وكان له مجالس خاصة معه، انه قرأ أكثر من مئة كتاب في الفكر الشيوعي(*)، وهذا مجرد مثل لموسوعيته، فهو فضلا على اجتهاده في العلوم الدينية، تجد لديه إلمام واسع بجملة من العلوم كعلم الاجتماع وعلم النفس كما نرى ذلك جلياً في تحليل المحركية العقلية في موازنة النفس بين حجم الاحتمال وأهمية المحتمل، وعلم التاريخ، والتاريخ السياسي منه للدول الاسلامية، والقانون، كما يتجلى ذلك عن نظرية الاستبطان في بيانه لمعنى الحكم الوضعي وعلاقته بالحكم التكليفي، وبيان معنى عنصر البعث والعنصر الجزائي، في داعوية ايجاد الداعي بعثا وانزجارا، وتجده مطلعا بسعة على القانون العراقي والمصري والفرنسي، ومن يتابع مباحثه الأصولية يجد استفادته من علم الالسنيات كما في تقسيم الدلالة في مبحث المفاهيم، وكذا في مبحث الحكومة، وغير ذلك، كما يجد استفادته من حساب الاحتمالات ونظريات برنولي والاستقراء، كما في بحث حجية الاجماع ومعنى التواتر، وهكذا استفادته من علم المنطق كما نجد ذلك في نظرية الهوهوية التصويرية في تفسيره للعلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، واستفادته من الفلسفة في جملة من المباحث كما في معنى الوجود الرابط في المعنى الفلسفي الذي بين بواسطته حقيقة المعنى الحرفي، والحقيقة أن بحثنا هذا بجملته سيتكفل بيان المباني المختلفة التي يبني عليها مسائله الأصولية، واما مصادره من ناحية تأثره بالشخصيات العلمية، فأن جيل السيد السيستاني لا شك من تأثره بصاحب الكفاية وبمدرسة النائيني بعده من جهة، واستمراره الذي هو السيد الخوئي، وهذا واضح في كثير من المسائل مع استقلاله تماما عن موروثهما كما نجد ذلك في ما طرحه من نظرية متمم الجعل التطبيقي في بحث الحقيقة الشرعية، كما يظهر تأثره بالشيخ محمد حسين الاصفهاني رغم انه لم يتأثر بمنهجه الأصولي، وكذا في مدرسة المحقق العراقي، ويمكن أن نلمس أيضاً تأثره بالسيد محمد حسين الطباطبائي من جهة اهتمامه بمبحث الاعتبار والفرق بين أنواع الاعتبار، وهو ما كرس له السيد الطباطبائي جملة من مقالاته في كتابه أصول الفلسفة، ولعل من المباحث التي تأثر بها أيضاً من موروث الطباطبائي ما بينه من مراتب ظهور المشتق في الفعلية تبعاً لتنوع المبادئ من مبدأ جلي ومبدأ خفي، وتحليله لبساطة المشتق في مقام المعقول الأولي الذي لا ينافي تركيبه بحسب المعقول الثانوي، من جهة أن السيد الطباطبائي أولى الاهمية الفائقة لبحث المعقولات في تراثه الفلسفي، وكذا نجد تأثره الفلسفي في استفادته من نظرية أغا علي مدرس التي ترى أن الوجود العرضي لا يقابل الوجود الجوهري وأنما هو شأن من شؤونه، ولونا من ألوانه، كما في بحثه لتمييز التركيب الإنضمامي عن التركيب الاتحادي في مبحث اجتماع الأمر والنهي، كما يظهر تأثره الواضح بالسيد محمد باقر الصدر في تبنيه لحساب الاحتمالات والنظرة الاستقرائية لمباحث الاجماع والسيرة وأنواع الشبهة المحصورة وغير المحصورة وغير ذلك، بل سنجد أن المنهج المقترح على الطريقة الأولى الذي يدور حول معنى الحجية، يحمل في جوهره حساب الاحتمال أيضاً، ولكن نجد أن مع تأثره بالسيد الصدر فأنه مستقل عنه تماما في مبانيه، كما نجد ذلك في رفضه لمبنى المولوية وحق الطاعة، كما في مبحث التجري، ومن كل هذا لا نستغرب أن نجد في منهجه المقترح أن تقسيمه بالأساس فيه مشارب النظرة العميقة لمعنى الاعتبار، والحجية ومعنى الادراك، ومعنى الميثاق العقلائي، كما سنفصله ان شاء الله تعالى.
رابعا: المنهج المقترح
يقترح السيد السيستاني طريقتين كمنهج لعلم الأصول:
الطريقة الأولى: الارتكاز على محور الحجية:
بما أن نتائج مسائل علم الأصول هي بمثابة مباني لعلم الفقه ومقدمات له، وعلم الفقه هو العلم الذي يعنى بتحديد الأحكام الشرعية، فمن المناسب جدا أن تدور مسائل علم الأصول على الحجية المثبتة للحكم الشرعي، ونتيجة لذلك اقترح السيد السيستاني وفقا لذلك أن نقسم مسائل علم الأصول على ثلاثة اقسام، وهي الحجية من ناحية الاحتمال، والحجية من ناحية الكشف، والحجية من ناحية الميثاق العقلائي.
القسم الأول: الحجة من جهة الاحتمال، وهو على خمسة أصناف:
1ـ الاحتمال الواصل إلى درجة القطع، والبحث في حجيته هو البحث عن حجية القطع وتكون حجيته ذاتية خارجة عن جعل الجاعل .
2ـ الاحتمال الواصل إلى درجة الاطمئنان، والبحث في حجيته هو البحث في حجية الاطمئنان الذي يقارب العلم العرفي .
3ـ الاحتمال المعتمد على قوة المحتمل، وإن كانت درجة الاحتمال ضعيفة، بمعنى أن الشارع يريد المحافظة على أغراضه الضرورية وأن كانت درجة المطابقة للواقع ضعيفة كما في قول المشهور بأصالة الاحتياط في موارد الأعراض والأموال والدماء، وهذا ما يبحث أصوليا بمعناه الأعم في حجية الاشتغال.
4ـ الاحتمال المعتمد على العلم الإجمالي، أي الذي يقترن بعلم مشوب بشك من جهة وجود المعلوم في محتملين أو أكثر، مقابل الشك البدوي أو الساذج، وهذا ما يبحث شرعا وعقلا عن حجيته بما يطلق عليه أصوليا بالعلم الاجمالي.
5ـ الاحتمال الذي لا يستند لقوة الاحتمال ولا أهمية المحتمل، وهو على نوعين:
أ- الاحتمال المعارض باحتمال معاكس لوجود العلم الإجمالي بالجامع، وهذا مورد أصالة التخيير حيث يمتنع أصوليا تحقق موضوع اصالة الاحتياط كما في مورد دوران الأمر بين المحذورين .
ب- الاحتمال غير الساذج أو غير المعارض بغيره، وهو المجرد عن العلم سواء كان الشك في الحكم أو في الموضوع وهذا ما يحقق الشك في التكليف فيكون مورد لأصالة البراءة عند أصولي الأمامية .
القسم الثاني: حجية الكشف، وهو على نوعين:
النوع الأول: الكشف الإدراكي المتحقق بواسطة الكليات الشرعية والعقلية بمناط الأمارات العقلائية والشرعية، ويتم البحث فيه عن حجية الطرق والأمارات.
النوع الثاني: الكشف الإحساسي، وهو الذي يتم بواسطة الوجدان أو التعبد الشرعي ومثاله مباحث الاستصحاب المعتمد على إبقاء ما كان لوجود الأصل الموضوعي الكاشف عن هذا الإبقاء .
القسم الثالث: حجية الميثاق العقلائي
وهو كل طريق تباني عليه المجتمع العقلائي، كميثاق يؤخذ بلوازمه وآثاره، سواء كان ذلك التباني بسبب الكاشفية النوعية، كما يُدعى ذلك في خبر الثقة، أو للمصلحة الاجتماعية العامة كما في حجية الظواهر، فيبحث عنها من حيث الكبرى وهي حجية الظهور ومن حيث الصغری كالبحث في صيغة الأمر والنهي والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد ونحوها من مباحث الألفاظ.
كما أن بحث تعارض الأدلة فيه صور متعددة أظهرها الترجيح لأحد الخبرين لميزة تقتضي الترجيح بعد تمام شرائط الحجية فيهما معا من الصدور والظهور والجهة وهذا ما اطلق عليه السيد السيستاني بحجية الكشف أو حجية الميثاق العقلائي، وكذلك يتحقق في صورة التكافؤ بالمرجحات المنصوصة أو غير المنصوصة، بناءً على القول بالتخيير عند السيد السيستاني، خلافا للمشهور القائل بالتساقط والرجوع الى العمومات الفوقانية، وإلا فأن الأصل العملي العقلي هو المحكم في هذا المورد وبناءً عليه يدخل البحث في هذا القسم عن حجية الاحتمال.
في ضوء ما تقدم يظهر أن هذا التقسيم لمسائل علم الأصول ولمنهج البحث فيه له دوافع وثمرات علمية تمس حقيقة البحث الأصولي العلمي، إذ اصبح ملاك الحجية هو الضابط في التقسيم ونكته المركزية في التنوع مع العلم أن السيد السيستاني يشترط وبناءً على تقديره للموروث الفقهي والأصولي للمتقدمين والمتأخرين من علماء الطائفة فلذلك أشترط التدرج في التجديد لا أن تكون هناك طفرة تمس الأسس والثوابت بل أن تكون متدرجة بسبب تطور العمق وكثرة النظريات الأصولية مما يتحتم التجديد بشكله النوعي المنضبط فلذلك قال: "بُعد هذه الطريقة عن المألوف في التصنيف الحوزوي لعلم الأصول، ومن شرائط فنّ التصنيف أن لا يُعدّ طفرة مستنكرة ما دامت خطوات التدرج كافية في تحقيق الهدف؛ لذلك نرى أن الطريقة الثانية أقرب للتصنيف المألوف" .
الطريقة الثانية: الارتكاز على محور الاعتبار:
أنّ حقيقة علم الفقه هو تحديد الحكم الشرعي الذي هو أعتبار من قبل المولى، ومبادئ هذا العلم لابد أن تبحث في علم آخر، وهو علم الأصول، وحيث أن حقيقة الحكم الشرعي هو الاعتبار، وحقيقة علم الأصول هو العلم الذي محوره البحث عن الاعتبار بصفة عامّة، والاعتبار الشرعي بصفة خاصّة.
فهذه الطريقة الثانية ترتكز على الاعتبار كمحور للجمع بين مسائل علم الأصول المتعددة التي تقع كبرى في الاستنباط الفقهي وقد حصرها السيد السيستاني وبضابطة الاعتبار الشرعي والبحث فيها خمسة عشر بحثاً حصراً استقرائيا ، وهي:
1ـ تعريف الاعتبار.
2ـ تقسيم الاعتبار إلى أدبي وقانوني.
3ـ العلاقة بين الاعتبارين.
4ـ أسلوب الجعل للاعتبار القانوني.
5ـ مراحل الاعتبار القانوني.
6ـ أقسام الاعتبار القانوني.
7ـ العلاقة بين هذه الأقسام.
8 ـ أقسام القانون التكليفي والوضعي.
9ـ عوارض الأحكام القانونية.
10ـ وسائل إبراز الحكم القانوني.
11ـ وسائل استكشافه.
12ـ وثاقة هذه الوسائل.
13ـ التعارض الإثباتي والثبوتي بين وسائل الاستكشاف.
14ـ التنافي بين الاعتبارات القانونية حين التطبيق.
15ـ تعيين القانون عند فقد الوسيلة الإعلامية.
وتتفرع مسائل علم الأصول على هذه المباحث.
اذن المنهج المقترح عنده هو دوران البحث في علم الأصول مدار الاعتبار القانوني وشؤونه وأقسامه .