المبحث الأول : المباني الفلسفية وأثرها في علم الأصول :
اقترن علم الأصول منذ نشأته وتأسيسه بعلمي الفلسفة والكلام وتأثر بهما تأثراً مباشراً في معظم المدارس والمذاهب الإسلامية سواء كان هذا في تأليفاتهم بصورة رسائل مستقلة في موضوع ما، أم بصورة مؤلف عام شامل يتعرض فيه لجميع المباحث الأصولية .
وهذا أمر واضح من الناحية التاريخية، ونلاحظ في اقدم كتاب أصولي محفوظ الى الان في المدرسة الأمامية وهو كتاب الذريعة للسيد المرتضى أنه يشكو من هذا التأثير، فيقول: " فقد وجدت بعض من أفرد في الأصول كتاباً ..... قد تشرد عن قانون أصول الفقه وأسلوبها، وتعداها كثيرا وتخطاها ، فتكلم على حد العلم والظن وكيف يولد النظر العلم ، والفرق بين وجوب المسبب عن السبب" واختتم الكلام بقوله: إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في أصول الدين دون أصول الفقه" .
واما في العصر المتأخر في المدرسة الأصولية الأمامية فقد أصبحت معظم المسائل الأصولية تنقح مباحثها وتشقق تفريعاتها الدقيقة بواسطة المباحث الفلسفية، والأساس في هذا التأثير منهجياً يمكن بيانه باعتبار أن نتائج المسائل الفلسفية تكون مبادئ لعلم الأصول : فمثلا حين يستدل الأصولي على أن الدور أو التسلسل باطلان فأنه لا يحتاج أن يبرهن على بطلانهما في علم الأصول، بل يأخذهما كنتائج مسلمة بعد أن تم البرهنة عليهما وتم تنقيحهما في علم الفلسفة، والدور نفسه تتخذه مسائل علم الأصول بالنسبة للفقه ، فالأصولي يقدم مسائله كمبادئ جاهزة للفقيه والذي يجعلها كبريات كلية لإنتاج الأحكام الفقهية، بعد أن يضم لها صغريات من الأدلة التي يقرها الشرع الحنيف.
والكلام في مطلبين:
المطلب الأول : إشكالات في دخول المباني الفلسفية في علم الأصول :
قبل الدخول في المباني الفلسفية للسيد السيستاني التي لها الأثر في علم الأصول، لابد من الإشارة الى وجود إشكالات في أساس دخول المباني الفلسفية في علم الأصول، ومن أهم الإشكالات في العصر الحديث إشكال نلخص بيانه فيما يأتي:
الاشكال: عدم امكان اعمال النتائج الفلسفية التكوينية في مسائل علم الأصول الاعتبارية.
بالمجمل يتبنى الأصوليون مقولة للقدماء بأن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، وقد برهنت هذه المقولة بالنسبة للعلوم البرهانية بعد الفراغ في تلك المقولة من أن لكل علم موضوعاً جامعاً لموضوعات مسائلة، وموضوع علم الأصول بحسب التعريفات المشهورة لا يخرج عن كونه كلياً جامعاً ينطبق على موضوعات مسائله ومعظمها يحكم عليها بالأحكام الاعتبارية ، وأمّا موضوع علم الفلسفة وهو الموجود المطلق فيكون مدار البحث فيه عن احوال الموجود بما هو موجود، ونتيجة لذلك فأن النتائج التي يخرج بها الفيلسوف تخص الوجود، فالدور والتسلسل مثلاً باطلان في المسائل التكوينية، ومن ثمّ فلا يمكن الاستدلال بذلك في المسائل التي مدارها الأحكام الاعتبارية كعلم الأصول، ونتيجة لذلك فهناك خلط في دخول المباني الفلسفية في الأصول بين التكويني والاعتباري، وهو خلط ينعكس أثره على كثير من الاستدلالات التي يستدل بها علم علماء الأصول مما يسقط كثير من نتائج علم الأصول عن الاعتبار، والتفريق بين التكويني والاعتباري تارة يكون من خلال العقل النظري والذي في الأساس يرجع الى نوع المدركات، وتارة يكون من خلال العقل العملي وهو محل حديثنا هنا، فالأمر يحتاج الى البيان والتمييز لكي يتضح بُعد هذه المناقشة، وسنجد من خلال ذلك أن السيد السيستاني ممن اهتم بهذا الإشكال:
الفرق بين الحقيقي والاعتباري: من خلال ما يأتي:
أولا- المدركات الحقيقية التكوينية والمدركات الاعتبارية :
وهو الفرق بينهما من جهة العقل النظري وهو الذي يهم الفلاسفة في بحثهم عن العلم ففي ذكرهم لانقسامات العلم الحصولي يذكرون انقسامه على الحقيقي والاعتباري باعتبار انقسام المفاهيم التي يمكن للذهن تصورها على هذين القسمين، وللتمييز بين أفرادهما اصطلحوا على ما تصدق عليه المفاهيم الحقيقية بالأفراد وعلى ما تصدق المفاهيم الاعتبارية بالمصاديق، والمفاهيم الحقيقية هي الماهيات الموجودة خارجاً أو ذهناً، وهي مفاهيم مأخوذة في حد الفرد وما يصدق عليه في جنسه وفصله، فعندما ينسب المفهوم الحقيقي الى أفراده فأنه يشكل ماهية ذلك الفرد، وأما الادراكات الاعتبارية فالضابط فيها أنها ليست مفاهيم ماهوية، ولكن ليس معنى ذلك أنها لا واقع لها، ولكن فقط ليس لها حد ماهوي، فالوجود والحياة والوحدة وغيرها من صفات الوجود تحمل مثلًا على مفهوم واجب الوجود، مع أنه ليس لواجب الوجود ماهية تعالى عن ذلك، فهذا الحمل الذي يدركه الانسان ويوقعه الذهن على مصاديقه انما عمله بنوع من التعمل فنقول إنّ هذه المفاهيم اعتبارية، ومثال آخر أنه اذا وجدنا مفهوماً حمل على أكثر من مقولة من مقولات الاجناس العالية فهو لا شك مفهوم اعتباري؛ لأن الاجناس العالية متباينة بتمام الذات فصدق مفهوم عليها يستكشف منه أنه مفهوم اعتباري، وليس للمفهوم الاعتباري حد فلا يوجد له تعريف منطقي من الجنس والفصل؛ لأن تلك المفاهيم بالأساس بسيطة ليست ماهوية ، وهذا المعنى للحقيقي والاعتباري هو المرتبط بالعقل النظري وليس هو المقصود بالبحث، وأنما ذكرناه هنا ليتضح المقصود بالمعنى الآخر، وليرتفع الخلط الذي يقع في تناول هذه المعاني.
ثانيا- الفرق بين الحقيقي والاعتباري المرتبط بالبحث
الطباطبائي في كتابيه بداية الحكمة ونهاية الحكمة ذكر معنى آخرَ للحقيقي والاعتباري يرتبط بالعقل العملي، إذ يحمل المعنى الاعتباري بنوع من التشبيه والمناسبة للحصول على غاية عملية، ومعنى الاعتبار بهذا المعنى يرجع إلى استعارة المفاهيم النفس الأمرية الحقيقية بحدودها لغاية عملية يحتاجها الانسان، كاعتبار الرئاسة مثلاً لزيد فيقال أنه بمنزلة الرأس من البدن في تدبير أمور قومه، أو اعتبار المالكية لزيد على مال معين، ليكون له الاختصاص بالتصرف فيه كيف شاء، كما هو شأن المالك الحقيقي كالنفس الإنسانية المالكة لقواها، وهكذا اعتبار الزوجية بين الرجل والمرأة ليشترك الزوجان في ما يترتب على مفهوم الزواج، كما هو الشأن في الزوج العددي، وعلى هذا القياس، وهذا المعنى الاعتباري لا حد له ولا برهان عليه كما المعنى الأول المتقدم للاعتباري لأنه لا ماهية منطقية له، وأنما له حدود مستعارة من الحقائق ، وأما أنه لا برهان عليه، فليس له مقدمات تطابق الواقع، فتلك المفاهيم مجرد فـروض واستعارات وتشبيهات يصطنعـهـا الذهن البشري لتنتج أثرا عمليا نافعا .
اذن فالمعنى الاعتباري هنا ذا طابع فرضي وجعلي واعتباري ووضعي، وليس له علاقة بالواقع ونفس الأمر.
وتلك المفاهيم الاعتبارية لا يمكن استخدامها في البراهين الفلسفية أو العلمية الطبيعية أو الرياضية فليس لها قيمة منطقية، ويمكن التدرج بها عبر حركة متكاملة متنامية، بحسب حاجات الانسان وظروفه وتتغير تبعاً لتغيرها، بينما المعنى الحقيقي التكويني خلاف الاعتباري في كل هذا.
يقول السيد السيستاني في معنى الاعتبار وفرقه عن الأمر الحقيقي التكويني : " إن الفارق بين الأمر الاعتباري والتكويني يتلخص في كون التكويني حقيقة واقعية لا تختلف باختلاف الأنظار والتوجهات وتكون نسبة الذهن البشري لها نسبة العلم الانفعالي لمعلومه ، بينما الأمر الاعتباري عمل ذهني إبداعي يقوم به الفرد أو المجتمع وتكون نسبة العقل البشري له نسبة العلم الفعلي لمعلومه ، فلذلك يختلف باختلاف النظرات والتوجهات والمجتمعات".
والمشكلة تبدأ من هنا لأن الخلط بين الإدراكات الحقيقية والاعتبارية أمرٌ في غاية الخطورة ، إذ أدى هذا الخلط بكثير من المفكرين إلى قياس الإعتباريات بالحقائق، يقول المطهري: "وتعاملوا مع الإعتباريات وفقاً للمناهج العقلية الخـاصـة بـالحـقـائق، وقام بعضهم الآخر بالعكس ، إذ عـمـمـوا نتـائج دراساتهم بالنسبة للإعتباريات على الحقائق " ، ثم يقول في موضع آخر: " من هنا تتضح السلبية والخطورة البالغةً للخلط بين الاعتباريات والحقائق من زاوية منطقية ، ويتضح أيضاً أن الأدلة التي ترتكب هذا الخلط تفتقر الى القيمة المنطقية، سواء ارتكن الباحث لاثبات الحقائق الى الأمور الاعتبارية، كما هو الحال في اغلب أدلة المتكلمين، الذين استخدموا بشكل عام قاعدة الحسن والقبح وسائر المفاهيم الاعتبارية، مبتغين من وراء ذلك الإفادة بذلك في أبحاث المبدأ والمعاد، وكما هو الحال في كثير من ادلة الماديين ، الذين حسبوا أن احكام الأمور الاعتبارية وسماتها صادقة في الأمور الحقيقية، ام ارتكن الباحث لاثبات الأمور الاعتبارية الى القواعد والأصول الخاصة بالأمور الحقيقية" .
والمعنى الأخير الذي ذكره المطهري في خلط بعضهم بأثبات الأمور الاعتبارية الى القواعد والأصول الخاصة بالأمور الحقيقية هو الإشكال الذي يتوجه الى استعمال المباني الفلسفية في علم الأصول، وذكر السيد كمال الحيدري في شرحه لبداية الحكمة: " وحيث إنّ علم الأصول من الأمور الاعتبارية ، فأن جريان الدور والتسلسل وتقدم المشروط على الشرط .... ونحوها من الأبحاث لا معنى لها في علم الأصول، وبتطبيق هذه النظرية فأن نصف علم الأصول يحذف " .
والسيد السيستاني أهتم بهذا الإشكال وذكر أمثلة مفصلة لنتائج تأثر الأصول بالفلسفة ووقوع الخلط بين القوانين التكوينية والاعتبارية، وقد فرع من خلال الأمثلة التي ذكرها أمورا لم يذكرها الأصوليون من قبل، ومما ذكره من الأمثلة القول بامتناع الشرط المتأخر لاستحالة تقدم المعلول على علته زمانا مع أنّ الشرط المتأخر من الاعتباريات لا التكوينيات، ومنها استحالة القول بالكشف الانقلابي في الإجازة المتأخرة عن البيع الفضولي، ومنها القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وامتناع اجتماع الحكم الواقعي والظاهري لاستحالة اجتماع المثلين أو الضدين، ومنها بعض مباحث متممية الجعل بحسب مبنى الشيخ النائيني، ومنها انكار المحقق النراقي لبيع الكلي في الذمة، ومنها الاعتراض على مسلك السيد السيستاني في تبنيه لمتمم الجعل التطبيقي في بحث الحقيقية الشرعية في مسألة الانطباق القهري للكلي على فرده، ومنها الاعتراض على عدم حجية الأصل المثبت .
وكخلاصة يثبتها البحث عن هذا الإشكال أنه لا يتوجه لمطلق دخول المباني الفلسفية في علم الأصول، وأنّما يتوجه فقط لمن يخلط بين الاعتباري والحقيقي التكويني، فلا يتوجه على السيد السيستاني وأمثاله ممن نبهوا على هذا الخلط ولم ينساقوا مع من وقع فيه من العلماء المتقدمين.
المطلب الثاني: مناقشة المدرسة التفكيكية لإدخال المباحث الفلسفية وغيرها في علم الأصول .
ربما يتبادر لمن يقرء اصطلاح التفكيكية الإشارة الى الفلسفة التفكيكية التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930- 2004) م، في علاقة النص بالمعنى، ولكن المقصود هنا لا علاقة له بتلك الفلسفة، وأنما له علاقة بالمعنى اللغوي للتفكيكية بمعنى الفصل، والفصل والتفكيك المقصود لهذه المدرسة يكون بين سبل المعرفة ومسالكها لأجل تنقية علم ما مما يداخله، للوصول الى العلم الصافي اللاهجين البعيد عن الممارسات التأويلية وتدخل الاذواق الشخصية والاجتهادات الفردية، ليكون لكل علم منطقه الخاص، ويعتبر المؤسس لهذه المدرسة هو الميرزا مهدي الاصفهاني (1303-1365هـ / 1885-1946م) الذي جاء الى خراسان ووضع معالم تلك المدرسة، والتي بلورها تلامذته من بعده ، ويمكن معرفة مباني الأصفهاني بمراجعة كتاب : المدرسة التفكيكية: قضايا اسلامية معاصرة ، لمحمد رضا حكيمي، والذي هو أول من استخدم مصطلح التفكيكية للتعبير عن هذه المدرسة.
ومسالك المعرفة التي تعنى المدرسة التفكيكية بالفصل بينها ثلاثة: وهي المسلك القرآني والمسلك العرفاني والمسلك الفلسفي، إذ ارادت تلك المدرسة في البداية أن تصل الى فهم القرآن الكريم فهما نقيا بعيدا عن التأويل والتفسير بالرأي والاختلاط بأفكار ومذاهب دخيلة، كي تبقى حقائق الوحي نقية صافية لا يشوبها الفكر البشري والاذواق المختلفة في الفهم القرآني، وخصوصا الفصل عن المسلك الفلسفي والعرفاني، الذي يطوع ما يتناوله وفقا لرؤيته، ثم سرى هذا المنهج التفكيكي لبقية العلوم ومنها علم أصول الفقه، يقول الأستاذ محمد رضا الحكيمي في شرحه العام لمدرسة التفكيك : " والمدرسة التفكيكية تعني المدرسة التي تفصل ما بين سبل المعرفة الثلاثة ، ومدارس الفكر الثلاث التي عرفتها الإنسانية في تاريخها العلمي والفكري، أي : سبيل القرآن ومدرسته، وسبيل الفلسفة ومنهجها، وسبيل العرفان ومسلكه، وتهدف هذه المدرسة أيضاً إلى تصفية المعارف القرآنية، وتخليصها وتنقيتها، بعيداً عن الممارسات التأويلية، والاختلاطات الفكرية مع النحل الأخرى والأنظار الوافدة، والتخلي ـ كما التنحي ـ عن ممارسة أشكال التطويع أو التفسير بالرأي، حتى تبقى حقائق الوحي ، وأصول العلم الصحيح محمية من أي دخيل، ومصونة عن أن تغدو مشوبة بالأذواق البشرية ومعطيات الفكر الإنساني ".
وهناك انتقادات كثيرة سبقت المدرسة التفكيكية، ومحاولات من عدة علماء لمحاربة تدخل الفكر الفلسفي وبعض تأويلات المسلك العرفاني، بل وأي مسلك يجعل الدين مفتقرا في فهمه الى آليات دخيله، ويصور الميانجي التفكيكة من زاوية مختلفة، فيرى أن التشيع في حقيقته هو الاسلام ،وأن النسبة بينهما التساوي الكلي العام، وهذا يعطي للتشيع استقلاليته وتماميته وكماله أصولا وفروعا، ومن كماله أنه غني عن الأدوات الدخيلة، مثلا لا نحتاج الى الفلسفة اليونانية لفهم المنظومة العقائدية، ولا نحتاج الفلسفة وبعض مباحث العرفان لفهم الآيات الكريمة، بأعتبار أنه مع هذا الكمال الذي اتسمت به المنظومة الدينية يجعلها " لا حاجة لها لأي فكر آخر، وتتسم بالاستغناء والاكتفاء الذاتي والقدرة على تلبية كافة المتطلبات المعرفية للإنسان" .
ولذلك لابد من السعي الى حمايتها من التحريف والمزج ما بينها وبين المدارس الفكرية الأخرى، وهذا هو مضمون التفكيكية.
يقول الأصفهاني: " لقد أدّت سلطة خلفاء الجور، وتعظيم مكانة الفقهاء المتبدلين، ونشر ثقافة مدرسة القياس والاستحسان، وترجمة الفلسفة والعرفان اليونانيين، أو المستمدّين من غير اليونان، على يد الخلفاء والحكّام، أدّت إلى اختلاط الشبهات والموهومات والظلمات بالأحكام النورانية للإسلام في المجالات العقدية، وهذا الأمر المهم يفرض ممارسة الاجتهاد، وبذل المشقّة وعظيم السعي من جانب فقهاء الأمامية الكبار، في حفظ الدين ، ودفع بلاءات أنواع الغزو الثقافي الأجنبي أو القادم مع الحكّام والظلمة" .
كما يرى الميانجي أن هذا هو المنهج الأساسي في الاسلام وعليه سلك اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحاب الائمة (صلوات الله عليهم اجمعين)ويذكر نماذجا منهم كهشام بن الحكم وهو من أصحاب الامام الصادق (عليهم السلام) الذي ألف كتابا في الرد على ارسطو في التوحيد وغير ذلك من الامثلة، ويستمر هذا المنهج صريحا بين الأعلام بل أن احد اهم علماء الحديث عند الشيعة وهو الشيخ الكليني في مقدمة كتابه الكافي يصرح بأثر دخول المذاهب والافكار الفاسدة، وأن الايمان يحتم علينا أن نأخذ الدين من الكتاب الكريم والسنة المطهرة بعلم ويقين وبصيرة .
ويؤكد مؤسس التفكيكية الميرزا مهدي الاصفهاني على دور الاجتهاد والتفقه في أصول الدين وفروعه بمعنى بذل وسع الفقهاء جهدهم في جانبي الكلام والفقه؛ لأن فروع الدين مؤسسة على الأصول ومتأخرة عنها ذاتاً، ، وهو يعظم العلماء السابقين ويذكرهم بكل اجلال، إلا أنه في المقابل كان يبدي انزعاجه جدا من ادخال الفلسفة والعرفان في علم أصول الفقه، ، وهذا النمط من المعرفة بخصوص الاجتهاد الفقهي وأنه لابد من التفكيك بين علوم الشريعة والدراسات العقلية البحتة ومنها علم الفلسفة بعد أن تمعن في الكتب الفلسفية أنها متداخلة جدا في علم الأصول وانها ما يؤثر سلبا في عملية الاستنباط والوصول الى الحكم الشرعي مع الحفاظ على الفطرة والوجدان والارتكاز في معرفة معطيات الشريعة ،وكان يقول: "لم يطمئن قلبي بنيل الحقائق ولم تسكن نفسي بدرك الدقائق فعطفت وجه قلبي إلى مطالب أهل العرفان فذهبت إلى أستاذ العرفاء والسالكين السيد أحمد المعروف بالكربلائي في كربلاء وتلمذت عنده حتى نلت معرفة النفس" ثم يقول: " ومع ذلك لم تسكن نفسي إذ رأيت هذه الحقائق والدقائق التي سموها بذلك لا توافق ظواهر الكتاب وبيان العترة ولابد من التأويل والتوجيه" فترك الفلسفة والعرفان معا وتوجه الى مسجد السهلة متضرعا، يقول: " فبان لي الحق وظهر لي أمر الله ببركة مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)، ووقع نظري في ورقة مكتوبة بخط جلي: طلب المعارف من غيرنا أو طلب الهداية من غيرنا (الشك مني) مساوق لإنكارنا، وعلى ظهرها مكتوب: أقامني الله وأنا الحجة ابن الحسن.
فقال على أثر ذلك: فتبرأت من الفلسفة والعرفان وألقيت ما كتبت منهما في الشط ووجهت وجهي بكله إلى الكتاب الكريم وآثار العترة الطاهرة (صلوات الله عليهم اجمعين)فوجدت العلم كله في كتاب الله العزيز وأخبار أهل بيت الرسالة (صلوات الله عليهم اجمعين)الذين جعلهم الله خُزَّاناً لعلمه وتراجمة لوحيه، ورغَّب وأكد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بهما، وضمن الهداية للمتمسك بهما " .
وعلى هذا الأساس تتضح لنا سمات تلك المدرسة فنجد أن من أهم مميزاتها أنها لا تأخذ مفاهيم الحقائق إلا من الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، فمثلاً أن مفاهيم العقل والروح والنفس، وصفات الله عز وجل، والوحي والنبوة وحقيقة الولاية لا يمكن معرفة حقيقتها إلا من خلال المعصوم(عليهم السلام)، وليس للأذواق البشرية أن تدرك حقائق هذه الأمور، من دون أن تتأثر بمعطيات تربوية أو اجتماعية عرفية وغير ذلك مما يؤطر الفكر البشري، وقد انعكست هذه الميزة لهذه -المنهج على نظرتهم للمباحث العلمية لا مجال لسردها في هذا البحث، كالفرق بينهم وبين الفلاسفة في معنى العلم الالهي، وكالفرق بينهم وبين الأصوليين في مباحث الألفاظ .
واذا اتضح لنا منهج تلك المدرسة على الاجمال، فليس من الصحيح التعبير عن التفكيكية بانها الاخبارية بثوب جديد أو أنها اجترار لنفس مقولات المدرسة الاخبارية ، باعتبار أنها تلتقي مع المدرسة الاخبارية في رفض زج المباحث الفلسفة بإشكالها كآلية يمكن أن تدخل في العلوم الدينية، وصولا الى عدم حجية العقل في استنباط الحكم الشرعي، وكذلك اتفقتا في القول بضرورة الرجوع للمعصوم (عليه السلام)في فهم الحقائق الدينية، ورفض التأويل الذي تمارسه الاذواق البشرية في مقابل النصوص الدينية.
إلا أن هناك فروقاً تجعل المدرستين مختلفتين جدا، حتى في نظرهم للحجية، بل للتفكيكيين مباحث رائعة في معنى العقل ونوريته وكاشفيته عن الحقائق ، بخلاف الاخباريين الذين انكروا الدليل العقلي تماما، كما في منهج المتشددين كالامين الاستربادي- ينقل الشيخ يوسف البحراني وهو أخباري معتدل عن السيد نعمة الله الجزائري: "إنّ أكثر أصحابنا قد اتّبعوا جماعة من المخالفين، من أهل الرأي والقياس، ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها، وطرحوا ما جاء به الأنبياء عليهم السلام حيث لم يأتِ على وفق عقولهم-" .كما انهم يعترفون بالمنهج الأصولي في استنباط الأحكام الشرعية ويوقرون علماء الأصول، ولا يتفقون مع الاخباريين في مسائل الخلاف الشهيرة بينهم وبين الأصوليين، يقول الاصفهاني بعد حديث مفصل عن علم أصول الفقه ومسيرته التاريخية واهميته والثناء على رجاله : " فظهر بحمد الله تعالى كمال الاحتياج لتعلم أصول الفقه، وبدون ذلك يمتنع استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، وليس جمعها وتدوينها وتعليمها وتعلمها بدعة ولا اقتباساً من أصول العامة" وهو رد صريح من الاصفهاني لشبهات الاخباريين، هذا مضافا الى عدم اتفاق التفكيكية مع الاخباريين في عدم حجية ظواهر الكتاب، ولا تدعي قطعية الكتب الأربعة ، وليس لها موقف معادي من علم الرجال وغير ذلك من الاختلافات المهمة جدا، فوجود بعض المشتركات بين المدرسة الاخبارية والتفكيكية مع وجود جملة من الاختلافات الواضحة لا يسمح بنعت التفكيكية بانها الاخبارية بثوبها الجديد.
عموماً أن المدرسة التفكيكية تحاول التخلص الى حد ما من التداخل بين العلوم وأثرها في البحث الفقهي، وخصوصا أن الكثير من جذور المسائل الأصولية وتعقد البحث فيها ودقتها ترجع الى ادخال المباحث الفلسفية في علم الأصول مع أن لها تأثير علمي لا عملي وهذا ما يُعدّوه يحقق نوعاً من ضياع وتركيز للمبحث الأصولي على الاستنباط، وفي خصوص الأدلة اللفظية بدليل أنهم أي الفقهاء كثير ما يختلفون في تنقيح تلك المسائل الأصولية ولهم فيها مسالك مختلفة بينما نراهم في مقام الاستنباط وتشخيص الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري يتفقون، فلذلك يكون البحث في تلك المسائل العقلية نوع من الترف الفكري أو لإظهار أعلمية المتصدي له، وعليه لابد من تخليص علم الأصول من تلك المسائل التي لا تؤثر في عملية الاستنباط وتحقق المبتغى في جعله كبرى كلية لمقام بيان الحكم الشرعي، إلا أن منهج السيد السيستاني في البحث الأصولي لم يستطع تحقيق الغرض من منهجية تلك المدرسة مع أنه من روادها بل على العكس فأنه يصرح بأدخال المباني الفلسفية في علم أصول الفقه وهذا الاشكال لابد من حله وإيجاد الطرق الصحيحة ما بين مباني تلك المدرسة وروادها، وهذا ما عليه كثير من أنصار تلك المدرسة، مع العلم أن السيد السيستاني قد تتلمذ مباشرة على يد مؤسس المدرسة التفكيكية الميرزا مهدي الاصفهاني، ووجه ذلك بحسب المنهج الأصولي الظاهر في مصنفات السيد السيستاني الأصولية أو درسه في البحث الخارج، أنه اتخذ طريقا وسطا بين المدرسة التفكيكية القائلة بضرورة تنقية علم الأصول من المباحث الفلسفية وبين المدرسة العقلية التي اقحمت المباحث الفلسفية كالمحقق الاصفهاني مثلا، واقتصر منهج السيد الأصولي على المباحث الفلسفية التي لها تأثير عملي في مقام الاستنباط بشرط أن لا تؤثر على الفهم العرفي وافساد الفطرة في فهم النصوص لأن منشأ الخلاف بين الاتجاهين قائم على أساس أن الخطابات الشرعية المتمثلة بالقرآن والسنة ارتكزت على أساس الفهم العرفي العام وأنها موجهة الى عموم المخاطبين، فكيف يتفق هذا مع ادخاله للمباني الفلسفية في علم أصول الفقه، وهو محل الحديث في بحثنا هذا.
اضف الى ذلك ذكر الباحثون جملة من الإشكالات تتوجه الى هذه المدرسة اهمها ما يتوجه الى المبدأ الرئيسي الذي ترتكز عليه هذه المدرسة، وهو الفصل بين تدخل الاذواق البشرية في المعارف الالهية، معتبرين أن ذلك المبدأ لا يمكن تحقيقه، لأن المعارف الالهية وإن كانت خارجة عن الاحاطة البشرية، إلا أن تلك المعارف خاطبتنا عبر نصوص تحمل معاني مطلقة ولكنها صيغت بصياغة يحتملها التعقل البشري، والانسان لابد له في تعامله مع تلك النصوص ان يعمل الفكر البشري لإدراكها، فنقع في اشكالية التعامل مع تلك النصوص : " فالنص متعالٍ عن الفهم المطلق، كما أنه لا يمكن أن ينحدر إلى مستوانا، لأننا نمارس عملية الفهم من خلال استدعاء مجمل التكوين المعرفي وهنا لا بد أن يصطبغ هذا الفهم بما نحمل من معارف ونظرات وتأملات كونية، وقطعاً لا يمكن القول: إننا يمكن أن نفهم النص من خلال إقصاء معارفنا وأفكارنا بكاملها لأن ذلك لا يمكن تحققه حتى في الخيال" .
واذا تم هذا الانتقاد للمبدأ الأساسي للمدرسة التفكيكية تهاوى ما دونه من ابنية المنهج التفكيكي التي اعتمدت في الأساس على ذلك المبدأ.
ولكن يرى الباحث أن هذا النقد الذي يرى استحالة اقصاء المعارف والافكار بكاملها في التعامل مع النصوص المقدسة، لا يقصده التفكيكيون، وإلا اذا كان مقصودهم اقصاء كل المعارف والافكار في التعامل مع النص، يصبح منهجهم مصداقا من مصاديق الفلسفة الظواهراتية للفيلسوف الالماني آدموند هوسرل الذي يريد يعلق كل المسبقات والمعارف والثقافات في التعامل مع الحقيقة ويجعلها بمثابة القشور التي علينا أن نعلقها مؤقتا لكي نجد الحقيقة من حيث هي، وهذا ليس مقصودهم حتما، فهم مثلاً يرجعون لنصوص المعصومين لفهم القرآن الكريم من دون التخلي عن التعامل الظاهر معها ولا يدعون اقصاء كل مقدمة معرفية ولا اقصاء جميع المنطق البشري للإدراك التعقلي للنصوص، وأنما غايتهم " التصدي للسيل الجارف من التأويلات ومحاولات المزج الهجين، والعمل على تأصيل المعرفة القرآنية والحقائق السماوية وعلوم الوحي وتنقيتها وصيانتها من الذوبان" .
وهذه الغاية لا يتوجه إليها النقد المتقدم، ونتيجة لذلك يعود هذا النقد الى المنهج والآليات التي تحقق هذه الغاية، والطرق التي يستعين بها رجال هذه المدرسة لتنقية النصوص المقدسة من التدخل البشري.
ولكن يمكن للباحث أن يوجه النقد الأتي الى المنهج التفكيكي:
وهو انه يجب التفريق بين المبدأ الذي ذكرناه لمدرسة التفكيك هل غايته التفكيك بين اساليب المعرفة وفصل العرفان والفلسفة على نحو الكلية الكبرى، أو أنه وجد تدخلًا واسعاً للتأويل العرفاني والفلسفي ومزج الافكار والتدخلات البشرية بشكل واسع فحاول ان يحد منها، فتكون محاولة الفصل صغروية في المصاديق لا في جميع نتاج الفلسفة والعرفان في فهم النصوص، وبعبارة مختصرة هل المقصود التفكيك الكبروي أو الصغروي؟
فإذا كان المقصود التفكيك الكبروي فهو غير مسلم؛ لأن العرفان مثلا ليس منهجا خارجا عن المنظومة الدينية، بل هو الغاية التي يريد الدين للإنسان أن يصل لها، واذا انكرنا تلك الغاية انكرنا كل الاشادات التي ترد في النصوص على العرفان كمناجاة العارفين للامام السجاد (عليه السلام) مثلا، بل وانكرنا معنى الولاية ووجود الأولياء، فأن الدين ليس منظومة تشريعية فقط، وأنما هو مجموع الحقائق الالهية من جهة وهو منظومة اخلاقية وتشريعية من جهة أخرى، ولذلك نجد أنه بعد تبليغ تمام التشريع خوطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم يبلغ الرسالة ما لم يبلغ أمر الولاية، مع أن التشريع بأحكامه كان قد بلغ ، وحين تم التبليغ بالولاية يكمل الدين وتتم النعمة ويرتضي الله لنا هذا الاسلام دينا، فقبل تبليغ الولاية لم يكن الدين كاملاً ولا الاسلام مرضيا، لأنه يكون بمثابة جسد بلا روح، فمعنى الولاية التي ليست في عرض التشريع بل هي ورائه، لا اقل أن نفهم منها أنها الولي هو روح التشريع، وكمال الدين، وهذا الأمر ظهر بكماله في محمد آل محمد المعصومين (عليهم السلام) ، ولكن لا يعني ذلك انقطاع الولاية، فأولياء الله موجودون في كل زمان بهم يحفظ الله حججه وبيناته كما وصفهم امير المؤمنين (عليه السلام) وانهم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وانسوا بما استوحش منه الجاهلون"، وغير ذلك من الاوصاف، وأحاديث أخرى كثيرة تتكلم عن الأولياء في تراث أهل البيت (عليهم السلام)، وهي أوصاف لا تليق بالمعصومين من ال محمد (صلوات الله وسلامه عليهم)، فهم غير خاضعين لهذه القسمة للأنس والوحشة وللاستلانة والاستعوار، خصوصً بملاحظة وصفهم بأنهم يودعوا العلم والحكمة في نظرائهم ويزرعوها في قلوب اشباههم، فأن أهل البيت (عليهم السلام) ليس علمهم من كسب وزراعة ، وأنّما علمهم ذاتي لم يفارقهم صغاراً ولا كباراً قاموا أو قعدوا، فهم علماء غير معلمون، واذا حاول اصحاب المدرسة التفكيكية التأويل لهذه الأحاديث فهم بذلك يحيدون عن منهجهم ويكونوا غير أمناء عليه، وكيف لهم أن يأولوا كل هذا الكم الهائل الذي يتحدث عن أن من عرف نفسه فقد عرف كل شيء، والأحاديث الأخرى في معرفة النفس، واذا انقطع سبيل الولاية في نظرهم ووجود الأولياء من غير آل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم)، نكون بذلك صنميين قد فصلنا آل محمد (عليهم السلام)عن الجنس البشري، وقطعنا الأمل بالوصول الى حقائقهم وشهود معانيهم، هذا مع ايماننا أنهم (عليهم السلام) لا يلحقهم لاحق ولا يسبقهم سابق ولا يطمع في ادراكهم طامع، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد أولياء يصلون الى الحقائق في كل زمان، فما المانع أن تكون معارف هؤلاء الأولياء عونا للفكر البشري لفهم حقائق السماء، تنتشله من ترابيته وتحديداته لتفتح له آفاقا لمعرفة لغةً السماء، ومن ينحي هؤلاء عن فهم لغة السماء كأنه يقول أنه علينا أن نبعد الوعي المطلق للأولياء وأن نبقي على الوعي المقيد للفكر المحدود، فالمدرسة التفكيكية بين أمرين، أمّا أن تنكر كل الكم الهائل من التراث الذي يتحدث عن وجود الأولياء من غير آل محمد (عليهم السلام)، وبذلك يناقضوا منهجهم، وإمّا أن يقولوا إننا لا نميز بين الأولياء وغيرهم، فيكون تفكيكهم صغرويا في المصاديق، وأنهم ارادوا تنقية التراث من تدخل الافكار الدخيلة على المنظومة الاسلامية، وأما اذا ثبت أن احدا من العلماء الأعلام كانت له بصيرة في الدين فما المانع ان يكون هو من مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى لغيره، واذا سقط الاشكال الكبروي، فأمر الاشكال الصغروي سهل، وأن لكل مورد حديثه الخاص.
واذا قيل إن السماح لتدخل أي تأويل لعارف هو فتح الباب لغيره من التأويلات، فهذا ايمان منهم بسد الذرائع، الذي لا تقر به الأمامية مع سائر الأدلة التبعية كالاستحسان والقياس التي تؤمن بها غير المدرسة الأمامية.
وأما الفلسفة فهي نظم المعرفة نظماً فلسفياً فما المانع أن يستخدم العلماء الفلسفة كلغةً يوصلون بها الحقائق تعقلا، فأن ثم حقائق لا يمكن ان تدرك باللغةً المعتادة للناس من دون تدقيق عقلي ، فتارة تكون المباني الفلسفية مستوردة من الامم السابقة ونزجها في المنظومة الدينية محاولين ان نطوع الدين ونصوصه للفلسفات الأخرى، فهذا مرفوض قطعا ونتفق فيه مع المدرسة التفكيكية ، وتارة أخرى يستخدم العلماء اللغةً الفلسفية لبيان المطالب التي يؤمنون بها ، فيصوغون المطالب الدقيقة للآخرين بلغةً قالة للتعقل من خلال اللغةً الفلسفية، وهذا أبعد ما يكون عن الفلسفة التي يتحدث عنها التفكيكيون.
واذا قيل كيف لنا ان نميز بين النحو الأول والثاني، سيعود الاشكال صغروياً كما تقدم في العرفان.
بقي أنه قد يقال أن ما تقدم من حديث الأولياء يخص العقائد والمعارف الالهية، ولكن كيف لنا أن نقر بذلك في منظومة العلوم الشرعية، كالفقه والأصول، فأن الحقائق الالهية لإطلاقها تقبل التنزل لتأويلات مختلفة، واما المعاني الشرعية فليس لها هذه السعة من الوجوه المختلفة فلا اقل من لابدية اجراء المنهج التفكيكي في المنظومة التشريعية.
والجواب عن ذلك : أن نصوص أهل البيت (عليهم السلام) لم تقصر الحديث عن الأولياء العلماء في حديث الحقائق فقط بل صرحوا في مقام الفتوى والتشريع بوجود محدثين بعدهم ، مفهمين بالحقائق، كقول الإمام الصادق (عليه السلام): "لا نعد الفقيه فقيها حتى يكون محدثا، فقيل له : أو يكون المؤمن محدثا ؟ قال : يكون مفهمً، والمفهم محدث" ، وغير ذلك من الأحاديث التي تذكر من يعرف معاريض كلامهم، ومن يفتي بسبعة وجوه، وغير ذلك، واذا قيل وكيف نميز بين من هذه صفته وبين غيره يعود الاشكال صغرويا.
والنتيجة من هذا أنه لا يتوجه الاشكال على مثل السيد السيستاني في أدخاله للمباني الفلسفية في علم الأصول ؛لأنها لغةً علمية يتوسل بها لبيان مقاصده اذا كانت المعاني الدقيقة لا تقبل التبيان باللغةً العرفية المعتادة، وليس ذلك ادخالاً لمباني فلاسفة اليونان وغيرهم في مقدمات علوم الاستنباط .
المباني الأصولية عند السيد علي السيستاني وتطبيقاتها الفقهية - مهدي زيدان الكعبي