الوجود الرابط في المعنى الحرفي عند السيد السيستاني

 المبحث الثاني: الوجود الرابط في المعنى الحرفي

من المسائل الأصولية التي اعتمد فيها السيد السيستاني على المباني الفلسفية في بحثه لها هي مسألة المعنى الحرفي, إذ بنى رأيه فيها على معنى الوجود الرابط في الفلسفة, وحتى يتضح معنى الوجود الرابط قدم البحث بعض المباحث التي توضح معنى الوجود الرابط ليتضح هذا المبنى, وكيف يبتني عليه المعنى الحرفي في علم الأصول, لذلك تضمن هذا المبحث جملة من المطالب, المطلب الأول: الجوهر والعرض, المطلب الثاني: الوجود الرابط والوجود الرابطي, المطلب الثالث : المعنى الحرفي, المطلب الرابع : الثمرات في بحث المعنى الحرفي.

المطلب الأول  : الجوهر والعرض :

إنَّ عدَّ الأشياء الموجودة في المدرسة قد يَكون تارة عدّاً فردياً بأن إحصاء عدد الطلاب والكراسي والصفوف والأشجار والأقلام والدفاتر .... بكل أفرادها وجزئياتها ، وقد يكون تارة  العدَّ  لها عدّاً نوعياً فلا يعني أعدادها الفردية بل المطلوب عند معرفة عناوينها الكلية بأن أقول :

إن مجاميع من الطلاب والكراسي والأشجار والأقلام والدفاتر .... توجد في المدرسة 

وعلى غرار الطريقة الثانية في عدِّ الأشياء ، قام الفلاسفة في عدِّ أنواع الموجودات وأجناسها العامة بعد استقرائها وتسمّى عندهم بالأجناس العالية أو المقولات .

وقد وقع الخلاف في تحديد عددها إلا أنَّ المعروف عنها أنها عشر مقولات على ما اختاره زعيم المشّائين(*) «أرسطو طاليس» واحدٌ منها يُطلق عليه اسم «الجوهر» بأقسامه ، والتسع الباقية منها تسمّى بـ «الأعراض».

وقد عَرَّف الفلاسفة الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع ، وبعبارة أخرى إنه ماهيةٌ إذا وُجِدتْ وجدت لا في موضوع ، كالجسم فأنه في وجوده لا يحتاج إلى موضوع كي يتقوّم ويتحقق به  كالانسان والحيوان والنبات والكتاب على خلاف العرض  والجوهر هو الاسقلالية، فأن العرض هو الموجود في موضوع ،  فاللون مثلاً يحتاج إلى موضوع يُعرض عليه ليتشخّص ويصير موجوداً، له وجود حقيقي في الخارج، ففي الخارج يوجد جسم أبيض وليس بياض وهكذا بقية الأعراض كالحركة والكم والكيف والنسبة وغيرها .. وهو خلاف الجوهر كالإنسان فهو موجود قائم بنفسه من هذه الناحية ، أي أنه لا يحتاج إلى عرض يعرض عليه ليوجد ويتشخص في الخارج, وبعبارة أخرى عرَّفوه بأنه ماهية إِذا وجُدتْ وجُدتْ في موضوع ، كالطول والعرض واللون والحرارة والبرودة ، فاللون مثلاً فأنه لا يوجد بصورة مستقلة عن غيره بل لابد له من موضوع كي يتقوّمَ به ، فاللون لا يتحقق إلا في جسم ، فيكون الجسم موضوعاً لتحقق اللون ووجوده وهكذا الطول والعرض والحرارة والبرودة وغيرها ، والعرض هو الاحتياج  .

والجوهر في اصطلاح المتكلمين يطلق على معنيين : أحدهما : كل متحيز سواء كان منقسما أم غير منقسم والمراد بالحيز هو الفراغ الذي يُشار إليه إشارة حسية . وثانيهما : المتحيز الذي لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه.

فالجوهر ما كان وجوده في نفسه لنفسه ، والعرض ما كان وجوده في نفسه لغيره .

المطلب الثاني: الوجود الرابط والوجود الرابطي. 

ينقسم الوجود بلحاظ التصوّر على قسمين :

القسم الأول : وهو الوجود في نفسه ، وتصوّره بنحو الاستقلال عينا كتصوّر المفاهيم الماهويّة المعبّر عنها في المصطلح الأصولي بالمعاني الاسميّة ، وعندئذ يكون الوجود كأحد المعاني الاسمية القابلة لأن تقع موضوعا أو محمولا في القضايا.

ولأنّ الوجود عادة ما يقع محمولا عبّر عن هذا القسم بالوجود المحمولي ، فالوجود المحمولي هو ما يكون محمولا على احدى الماهيّات ، ويعبّر عن القضايا التي يكون الوجود محمولا فيها على احدى الماهيات بالقضايا الثنائية أو القضايا البسيطة ، كما يعبّر عن حمل الوجود على احدى الماهيات بالحمل البسيط .

ومنشأ التعبير عن هذا القسم بالوجود في نفسه ـ كما يعبّر عن حمل الوجود على احدى الماهيات بالحمل البسيط .

ومنشأ التعبير عن هذا القسم بالوجود في نفسه ـ كما أفاد الشيخ المطهري رحمه ‌الله ـ هو ما ذكره علماء اللغةً في مقام تعريف الاسم بأنّه " ما دلّ على معنى في نفسه " أي ما كان حضوره في الذهن بنحو مستقل فلا يناط تصوّره بتصوّر شيء آخر.

القسم الثاني : هو ما يعبّر عنه بالوجود لا في نفسه ، وهو ما يكون تصوّره منوطا بتصوّر مفهومين استقلالين وتكون وظيفته الربط بينهما ، وهذا هو المعبّر عنه بالوجود الرابط ، فهو ليس موضوع القضيّة الحملية كما انّه ليس محمولا فيها وانّما هو الرابط بين المحمول والموضوع ، فحينما يقال : « زيد عالم » فأن الوجود ليس طرفا في هذه القضيّة وانّما هو الرابط بين زيد والعالم ، إذ إنّ مآل هذه القضيّة هو أنّ « زيدا الموجود عالم » ، ولهذا يعبّر عن هذه القضايا بالقضايا الثلاثيّة أو القضايا المركبة .

وبهذا أتضح منشأ التعبير عن الوجود لا في نفسه بالوجود الرابط ، وأمّا منشأ التعبير عنه بالوجود لا في نفسه فهو ما ذكره علماء اللغةً في مقام التعريف للحرف وانّه " ما دلّ على معنى في غيره " ، فكما أنّ معنى الحرف غير قابل للتصوّر بنحو مستقل عن طرفيه فكذلك الوجود الرابط .

والمتحصل أنّ الوجود إذا كان بنحو المعنى الاسمي فهو وجود محمولي ، واذا كان بنحو المعنى الحرفي فهو وجود رابط  و.

هناك صور كثيرة للوجود الرابط لكن سيقتصر البحث على ثلاث  منها : 

الصورة الأولى : وهو الرأي المعروف والمشهور لدى الفلاسفة إذ ذكروا أن الوجود الرابط هو ما يقابل الوجود المحمولي، والأخير قسموه الى قسمين فأن كان الوجود بنفسه فوجوده وجود الجواهر وهو ما عبر عنه بالوجود النفسي ، وأما اذا كان الوجود متقوم بغيره فوجوده عرضي لا ذاتي وهو ما يعبر عنه بالوجود الرابطي ، وأما اذا كان فقط الوجود لا  في نفسه فهو المعبر بالوجود الرابط، وعلى هذا فالوجود الرابط  مغاير لوجود الجواهر كما هو مغاير لوجود الاعراض؛ لأن الوجود الرابط هو من قبيل  ثبوت شيء لشيء  ، في حين الوجود المحمولي بقسميه من قبيل ثبوت شيء .

الصورة الثانية : وهو رأي المحقق النائيني  ومن تبعه ، وملخصه ومفاده أن  لا واقع للوجود الرابط  بعينه بل هو امر موهوم ، وتقسيم الوجود الى ثلاثة امر غير تام ، وأنما الوجود إما نفسي أو رابطي  والأخير هو حيثية ارتباط العرض بالموضوع .

وهنا الوجود هو وجود العرض فقط لكن يلحظ بلحاظين فمرة يلحظ لوحده غير متقوم بالغير وبموضوع ما وبخلاف ما عليه الواقع كما في قولنا (القيام موجود) ، وهو ما يعبر عنه بالوجود المحمولي ، ومرة  يلحظ بما هو عليه الواقع بما يكون متقوما بالغير وبالموضوع وهنا تكون الحيثية للعرض لأنها تقومت بالغير وهي ما يُعبر عنها بالوجود الرابط .

الصورة الثالثة : وهو رأي المحقق الاصفهاني ومفاده : إنّ الوجود الرابط هو  ليس واقعية من الواقعيات ولا وجود العرض بل يشكل مرحلة من مراحل الفكر البشري في مجال الهلية المركبة الإيجابية وهو أمر ابداعي فطري، إذ أن البشر يبدعون ويبتكرون كلمة يعبر عنها بالوجود الرابط  لكن في غير المجتمع القريب أو المرحلة الفكرية البشرية القريبة التي لم يكن عندهم الوجود الرابط ابدا، إنه ابداع خاص من الابداع الذهني والخلاقية الفكرية ولا يوجد وراءه واقع غير ما في الذهن .

ولذا عندما لم يجدوا في اللغة العربية لفظا يرادف ما في الفلسفة والمنطق من كلمة (است) بالفارسية و(استين)  باليونانية في حالة النقل إليها أعني اللغة العربية استعاروا عنها بكلمة (هو) ، على الرغم من أنه لا مجال للاستعارة والكناية في بحوث المنطق والفلسفة؛ لأن المنطق هو آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ في التفكير، وهو مدخل للفلسفة - كما قالوا - ، والفلسفة هي عبارة عن العلم بحقائق واعيان الموجودات على ماهي عليه من الطاقة البشرية .

ولذا نجد في اللغة الفارسية واليونانية في مجال الهلية المركبة الإيجابية والتي هي عبارة عن ثبوت شيء لشيء  مثل (زيد قائم)، فيلاحظ  ابداعهم في إيجاد الوجود الرابط (است) فهو مرحلة فكرية ونوعاً من التفكير في مجال التعبير الذهني لا في مجال التعبير اللغوي، في حين يلاحظ أن  مثل هذا التفكير في اللغة العربية وكذا اللغات السامية يفتقر إليه، بل المدار والمعيار في اللغة العربية هو حول الهوهوية بمعنى أن الوجود ذو حدين فقوله (زيد قائم)  هو وجود واحد معنون بعنوان زيد وعنوان قائم، وعليه فينكر الوجود الرابط في اللغة العربية.

لقد ذكر علماء النفس أن طريقة التفكير ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة المستخدمة عند التفكير، فأن اللغات العالمية لا تختلف اختلافا لفظيا فقط بل أنّ كل لغة تتضمن بين ثناياها طريقة معينة للتفكير والتحليل، فمثلا كثير من اللغات تختلف عن اللغة العربية في تقديم المسند على المسند إليه بعكس اللغة العربية وهذا له تأثير كبير في طريقة التفكير والتحليل الذهني .

فنرى أن اللغة العربية تصور للذهن أن القضية الحملية من باب الهوهوية بين الموضوع والمحمول نحو زيد قائم، ولذلك عندما يعبرون عن نسبة الربط فيها يذكرون ضمير الشأن وهو - لفظ هو - . 

بينما اللغة الفارسية واليونانية تستلزم تصور القضايا الحملية على أنها من باب ثبوت شيء لشيء، لذلك يذكر فيها الرابط بين الموضوع والمحمول وهو (است أو استين) ، ومما لا شك فيه أن تصور القضية على النحو الأول يختلف عن تصورها على النحو الثاني ، فلو كان ارتباط اللفظ بالمعنى ارتباط السبب بالمسبب لم نجد تلازما بين طبيعة اللغة وطريقة التفكير، إذ شأن اللفظ حينئذ اخطار المعنى فقط  كأخطاره بأي لفظ من لغة أخرى فلا يتغير نوع تصور المعنى لتغير طريقة اللفظ ، بينما تأثر اسلوب التفكير باللغة المستخدمة كاشف عن علاقة الاندماج والهوهوية بين اللفظ والمعنى وانعكاس المعنى في اللفظ نفسه. 

وأشكل على هذا التصوير وهو أن عدم وجود ما يشابه (است) في العربية ، بل أنّ هذه الكلمة تدل على الهوهوية ، فلا يعلم أن (است واستين) تدل على غير الهوهوية بما تدل عليه عليها في الجمل العربية ، فلا فرق بين (زيد ايستاده است)و (زيد قائم) غاية ذلك أن المبرز للهوهوية في اللغة العربية هو هيئة الجملة ، بينما في اللغة الفارسية فتدل كلمة است عليها، وعليه نوع التفكير واحد لا متعدد، اذن المبرز للهوهوية في الكلام  العربي هو هيئة الجمل العربية، وأما المبرز لها في الفارسية فهو كلمة (است).

وهذا الكلام في الجمل غير المؤولة، وإلاّ  في الجمل المؤولة فالأمر فيها واضح أكثر    من ذلك : (زيد على السطح) وهنا (على السطح) متعلق بكائن أو استقر، وكائن والكون الناقص، ومفاده كمفاد است في الفارسية.

وهنا لابد من بيان أمر وهو أن المحقق الاصفهاني شبه المعنى الحرفي بالوجود الرابط من جهة عدم استقلاليته في الوجود؛ لأن هو ثبوت شيء لشيء، لا أنّ الوجود الرابط هو المعنى الحرفي .

وخلاصة القول في تفسير حقيقة الوجود الرابط هو أنه عبارة عن حكم نفسي ولا واقع خارجي له حتى ترد عليه الإشكالات، بل هو موجود حتى في اجتماع النقيضين وفي قولنا الله موجود وكذا الانسان انسان وهو موجود في جميعها فهو أمر ونوع اختراعي ابداعي .

المطلب الثالث : المعنى الحرفي

تنقسم الكلمة في أغلب اللغات على اقسامها الثلاثة المعروفة وهي : اسم وفعل وحرف، في حين أن بعض اللغات غير المتطورة لا توجد فيها الحروف، واللغة العربية فيها العديد من الحروف بأنواعها المختلفة الجر والتشبيه والنداء والتنبيه والتحضيض وغيرها .

والكلام هنا سيكون  في معاني الحروف التي تقابل الأسماء والافعال .

والمراد بالمعنى الحرفي - حسب الاصطلاح الأصولي- هو ما كان شاملاً لحروف المعاني- وهي الحروف المستقلة في تركيبها مثل (من) و(في) و(على) وغيرها- ولحروف المباني- وهي الحروف الداخلة على الأسماء فتفيد هيئات وصيغ خاصة كحرف الالف لإفادة اسم الفاعل وحرف الواو لإفادة اسم المفعول، أو الحروف الداخلة على الافعال كحروف المضارعة- وهذه الحروف بقسميها- حروف المعاني والمباني- انما تفيد معانٍ غير مستقلة بالتصور والمفهومية كالأسماء والافعال، وأنما تفيد معانٍ ربطية ونسب معينة ذات الوان متفاوتة، - وقد أفاد المهري أن الحديث فعلا في حروف المعاني المقابلة للأسماء والافعال لا غير- ، وعلى كل حال فقد وقع البحث عن حقيقة الاختلاف بين ما تفيده تلك الحروف عما تفيده مقابلاتها من الأسماء على أقوالٍ عدة:

توضيح ذلك: إن الحروف بأنواعها، المضارعة والدخيلة في تكوين الأفعال المزيدة والمشتقات، وضعت لمعنى مستقل.

١- وهو الذي نسب الى نجم الائمة  وأختاره المحقق علي الايرواني ، من أن الحروف لا تدل على معانٍ مستقلة وأنما تدل على خصوصيات مدخولاتها، كالحركات الاعرابية مثلاً فأنما تفيد كون مدخولها فاعلاً أو مفعولاً وهكذا ،- وقد نسبه السيد المهري للميرزا الايرواني أيضاً، وعُدّ هذا القول مسلكاً أولا- .

٢- ما أختاره في الكفاية - ونسبه المهري لنجم الائمة أيضاً- من أن الفرق بين الأسماء ومقابلاتها من الحروف أنما هو من حيث اللحاظ في مرحلة الاستعمال وأنه بنحو شرط الواضع، دون أن يؤخذ شرطا في مرحلة الوضع، وأن الأسماء والحروف موضوعة لمعنى كلي واحد، وأن الاختلاف بينهما أنما هو في طبيعة اللحاظ والمدرك لا في الواقع الخارجي حقيقيا كان ام اعتبارياً، وأنه بنحو التبعي والاستقلالي لا الاجمالي والتفصيلي ولا المراتي والاستقلالي- كما أفاده المهري وعدّه مسلكاً ثانيا- .

٣- ما أختاره الميرزا النائيني من أن معاني الحروف ايجادية - إي ليس لها واقع وتقرر سابق إلا من خلال النطق بالجملة التركيبية- بخلاف الأسماء فأن معانيها أخطارية- لها مفهوم وتقرر سابق- .

٤- ما أختاره السيد الخوئي من أن الحروف أنما تفيد التضييق والتخصيص في أفراد وأحوال الأسماء، وأن الحروف موضوعة لواقع تلك الحصص لا لمفاهيمها فأن مفاهيمها معانٍ كلية اسمية .

٥- ما أختاره المحقق العراقي من أن الحروف موضوعة للأعراض النسبية  الاضافية التي يتقوم وجودها بطرفين وموضوعين مثل (الاين ومتى والوضع والجدة والاضافة والفعل والانفعال) لا للأعراض النسبية غير الاضافية المحتاجة لموضوع واحد مثل (الكم والكيف)، ولا للجواهر غير المحتاجة الى موضوع أصلا، وليست الحروف موضوعة للوجود الرابط وأنما وضعت له الهيئات، وأنما الحروف موضوعة العرض النسبي كما تقدم .

٦- ما أختاره المحقق الاصفهاني - بحسب ما أستفاده بعضهم  من ظاهر كلامه - من أنها موضوعة لواقع الوجود الرابط  كالنسبة في القضية التي هي صرف التعلق والربط لا شيء ثبت له الربط، والتحقيق أنه يريد وضع الحروف للنسبة لا للوجود الرابط كما هو صريح كلامه في حاشيته على الكفاية، وأنما شبه النسبة بالوجود الرابط للشبه بينهما- كما أفاده المهري - ، وأختار هذا المسلك السيد الشهيد أيضاً من كون الحروف موضوعة لواقع النسبة لا لمفهومها، إذ لا مفهوم واحد ولا جامع ذاتي فارد للنسب على اختلافها كما في الانسان وأفراده .

٧- ما أختاره السيد السيستاني - خلافا لجميع الأقوال السابقة التي تجعل الوضع في الحروف من أمثلة الامكان، بل وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص- من أن الوضع والموضوع له في الحروف كلاهما عام، وأن فرق الأسماء عن مقابلاتها من الحروف أنما هو في التفصيل والاجمال، وأستشهد عليه بشواهد من الوجدان والاستعمال، وعدّه السيد المهري مسلكاً رابعاً، فهو يلتقي مع المسلك الثاني- مسلك الكفاية من كون الاختلاف بين الأسماء والحروف لحاظي وبحسب المدرك لا ذاتي- إلا أنه يختلف معه في كون الفارق بين الأسماء والحروف انما هو في التفصيل والاجمال، لا في التبعية والاستقلالية كما على ذلك المسلك.

والملفت هنا أن الأقوال من (٣ الى ٦) تنتظم فيما عّده السيد المهري مسلكاً ثالثاً، وهو كون الاختلاف بين الأسماء ومقابلاتها من الحروف اختلافاً ذاتياً، لا باللحاظ فقط كما في المسلك الثاني -كما عليه في الكفاية- ولا الأول من أنها لامعنى لها اصلا- المنسوب لنجم الائمة الرضي-، كما وقد أشار السيد المهري في تقريره الى ما ذكره صاحب الحاشية من تقسيمه الحروف الى انشائية واخطارية وأن الميرزا  النائيني  على أنّ الحروف جميعا من الأول، والمحقق العراقي على أنها جميعا من الثاني، ولم يتعرض لتفصيل قول العلمين (قدس سرهما) كما تعرض له السيد الهاشمي في خلاصته .

وخلاصة  للأقوال: إنّ السيد السيستاني  استطاع الربط بين الفكر الحوزوي والثقافات المعاصرة ففي بحثه حول المعنى الحرفي الذي ذكر آنفاً، سعى في بيان الفارق بينه وبين المعنى الاسمي وهل هو فارق ذاتي أم لحاظي؟            

وقد أختار اتجاه صاحب الكفاية في أن الفرق باللحاظ لكن بناه على النظرية الفلسفية الحديثة وهي نظرية التكثر الادراكي في فعالية الذهن البشري وخلاقيته، "والتي تعني أن الذهن البشري ليس صندوقا أمينا في استقبال المعلومات الخارجية كما كان  يذكر قدماء الفلاسفة بأن الذهن البشري كصفحة المرآة يرتسم فيها صور المحسوسات بلا تغيير ولا تبديل، بل الذهن قد يتلقى بعض الصور بعدة وجوه وأشكال لحكومة العوامل الخارجية والنفسية على الذهن أثناء تصوره كما تتحرك القوة المتخيلة لإدراك الشيء على عدة أنحاء ،فيمكن للذهن تصور مطلب واحد بصورتين: تارة بصورة الاستقلال والوضوح فيعبر عنه بالاسم وتارة بالآلية والانكماش والاندماج  ويعبر عنه بالحرف".

المطلب الرابع : التطبيقات الفقهية في المعنى الحرفي 

تجدر الإشارة الى أن ذكر المعنى الحرفي والمقدمات المذكورة آنفا لأمرين:

الأمر الأول: أن له مساس وجنبة في المباحث الفلسفية لا سيما الوجود الرابط وما يتصل به.

الأمر الثاني: أن له ثمرات علمية في الفقه والأصول وقد مر ذكرها، وثمرات عملية وهي كالاتي:

1 - في الواجب المشروط ، حيث إنه لو قلنا: انه جزئي، أو آلي مغفولا عنه، لا يعقل رجوع القيد إلى الهيئة، إذ كونه مغفولًا عنه، ينافي لحاظه مقيدا وكذلك الجزئية، لا تلائم التقييد، ولأجل ذلك أنكر الشيخ الأعظمالواجب المشروط     .

2 - في مفهوم الشرط، إذ لو كان المعنى الحرفي آليا مغفولًا عنه لا يعقل رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، كما انه لو كان جزئيا، لا بد من إنكار مفهوم الشرط فيما إذا كان الوجوب مستفادا من الهيئة، لأن انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء شرطه عقلي لا ربط له بالمفهوم، بل الدلالة على المفهوم تتوقف على كون المعلق على الشرط سنخ الحكم. 

3- جريان الاستصحاب في الموضوعات المركبة مثال ذلك قوله عليه السلام :" لا صلاة إلا بطهور" ، فأن الهيئة التركيبية من المعاني الحرفية، مثال ذلك افترضنا قضية ما أن أحد جزئيها محرز بالوجدان أو بتعبد ما، فبالإمكان اجراء الاستصحاب في الجزء الاخر، لأنه ينتهي إلى أثر عملي وهو تنجيز الحكم المترتب على الموضوع المركب. 

فالصلاة في الحديث الشريف محرزة بالوجدان، والطهارة بالأصل، وباء الطهور تدل على معنى حرفي، ولا يكون ذلك من الأصل المثبت باعتبار جريان الاستصحاب لا يثبت وقوع الصلاة عن طهارة على أنها لازم فعلي.

4- في مسألة تأخر الحادث ، ففي حالة تأخر موت زيد عن موت والده الذي يرثه ، فأن كان عنوان التأخر هو المدار في  ذلك ، فلا يمكن إثبات هـذا العـنـوان بـواسـطة جريان الأصول في أطرافه بما أن المعنى الاسمي مستقل عن الطرفين، فلا يكفي في إثباته جريان الاستصحاب في الطرفين إلا على القول بالأصل المثبت، وأما لو قلنا بأن التقدم والتأخر والتقارن معانٍ حرفية، فيكفي في إثباتها جريان الاستصحاب في الطرفين، ولا نحتاج إلى استصحاب مستقل يجري فيها، ولا يأتي فيها إشكال الأصل المثبت .


المباني الأصولية عند السيد علي السيستاني وتطبيقاتها الفقهية - مهدي زيدان الكعبي

تعليقات