مبنى متمم الجعل التطبيقي في الحقيقة الشرعية عند السيد السيستاني

توطئة: قسم السيد السيستاني الأدوار التي مر بها الفكر الأصولي عند الأمامية على ثلاثة أدوار، والمعيار في هذا التقسيم ليس الزمان وأنما هو بروز النظريات التي تدفع بمسيرة الفكر الأصولي للأمام وهي أدوار تنتج من صراع فكري حاد بين أقطاب هذا العلم والذي يفضي الى تطور هذا العلم وبلورة نظريات جديدة تهضم وتتمثل معطيات هذا الصراع ضمنها.

وقد تقدم في الحديث عن المنهج الجديد لعلم الأصول أن الصراع يقود الى التنافس العلمي، ومن طريق محطاته البارزة يتطور العلم وتبرز الحاجة الى تجديد مناهجه والرجوع الى بلورته من الجذور مرة بعد أخرى، قال السيد السيستاني:" فكما أنّ المجتمعات تترقى في سلم الحضارة نتيجة التنافس الاقتصادي والثقافي فيما بينها، فكذلك تطور أيّ فكرٍ كان، يحتاج لنوع من الصراع الحاد بين أقطاب هذا الفكر" ، وقد قسم الأدوار التي مر بها علم الأصول في المدرسة الأمامية على ثلاثة أدوار، ويمثل الدور الثالث الذي هو عبارة عن المرحلة الفعلية التي نعيشها ذروة الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى على مختلف الأصعدة، فلابد أن تتطور نظريات علم الأصول وصياغات مسائله وفقا لإفرازات هذا الصراع وهذا ينعكس بدوره على كل البنية التشريعية للمسلمين، فركز السيد السيستاني في بحثه الأصولي على بعض الشذرات الفكرية التي تلتقي مع حركة التطور لعلم الأصول من خلال الاستفادة من العلوم المختلفة قديمها وحديثها، كالفلسفة وعلم القانون وعلم النفس والاجتماع ومن خلال محاولة التجديد على مستوى المنهجية وعلى مستوى النظريات الكبروية. 

وتقدمت المباني التي اعتمدها السيد السيستاني في الحقل الفلسفي وأما في الحقل القانوني، فمن المفاهيم القانونية التي اعتمدها السيد السيستاني في علم الأصول مفهوم متمم الجعل التطبيقي ومفهوم القدرة وانواعها، وسنخصص هذا المبحث في نموذج من المسائل الأصولية التي اعتمدت على مبنى متمم الجعل التطبيقي وهي مسألة الحقيقة الشرعية، وإنما اخترنا هذا الموضوع دون سائر المواضيع، لأجل أن اصطلاح متمم الجعل من مبتكرات المدرسة الأمامية في العصر الحديث، وتطبيقه في مسألة الحقيقة الشرعية يكفي لبيان معناه، مع أن تطبيقات متمم الجعل التطبيقي تظهر في مسائل أخرى كمسألة الصحيح والأعم، ومسألة التزاحم.

ولأجل بيان جوانب دخالة مباني الحقل القانوني في مسائل علم الأصول نركز على المطالب الآتية:

الحقل القانوني

متمم الجعل التطبيقي

الحقيقة الشرعية

ومما يتفرع على هذا المسألة، مسألة الصحيح والأعم؛ لأن البحث فيها يتفرع على القول بالحقيقة الشرعية، فالحقنا مطلبًا مختصرا لبحث الصحيح والأعم عند السيد السيستاني.

المطلب الأول: الحقل القانوني

تميزت مباحث السيد السيستاني عن مراجع التقليد بمميزات عدة منها الاستفادة من علم القانون الحديث في بعض المواضع الفقهية كمراجعته للقانون العراقي والمصري والفرنسي عند بحثه في كتاب البيع والخيارات، ومن خلال الفكر القانوني يمكن تحليل القواعد الفقهية وتوسعة مداركها وموارد تطبيقها .

وانعكس الاهتمام بالحقل القانوني على مجمل الفكر الأصولي للسيد السيستاني ولذلك لابد من الوقوف عند هذا الحقل وبيان بعض معطياته البارزة، ويمكن اعتبار المنهجية الثانية التي اقترحها السيد السيستاني لعلم الأصول من أهم هذه المعطيات، وهي المنهجية التي تتقوم بالارتكاز على محور الاعتبار والتي تقدم الحديث عنها مفصلاً، فالفقه هو العلم الذي يعنى بالبحث عن تحديد الحكم الشرعي، والحكم الشرعي هو اعتبار من قبل المولى، وسنرى أن السيد السيستاني يصطلح على الحكم الشرعي وعلى الماهيات المخترعة الشرعية بالاعتبار القانوني، ومبادئ علم الفقه لابد أن تبحث في علم آخر، وهو علم الأصول، فحيث أن حقيقة الحكم الشرعي هو الاعتبار، فحقيقة علم الأصول هو العلم الذي محوره البحث عن الاعتبار بصفة عامّة، والاعتبار الشرعي بصفة خاصّة، ومن ثمّ  فأن الاعتبار القانوني وشؤونه وتفصيلاته هي محور البحث في علم الأصول.

وقد تقدم الحديث مفصلا عن المعنى الاعتباري في تناولنا للحقل الفلسفي، والفرق بين الأمر الاعتباري والتكويني بأن الثاني حقيقة واقعية لا تختلف باختلاف الأنظار والتوجهات، وتكون نسبة الذهن البشري لها نسبة العلم الانفعالي لمعلومه، بينما الأمر الاعتباري عمل ذهني إبداعي يقوم به الفرد أو المجتمع وتكون نسبة العقل .

ثم يقسم السيد السيستاني الاعتبار على الاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني، فالأدبي هو اعطاء حد شيء لشيء آخر بهدف التأثير في إحساس المجتمع ومشاعره كإعطاء حد الأسدية للرجل الشجاع، فهذا الاستعمال بهذه العناية اعتبار أدبي فردي غير متأصل لعدم كونه ظاهرة اجتماعية ولا يتطابق فيه المراد الاستعمالي مع المراد الجدي الادعائي كما في المثال وهو لا يرتبط بالحياة العملية للمكلف وانما يرتبط بالجوانب الذوقية والنفسية للإنسان.

وأما الاعتبار القانوني فهو صنع القرار المناسب للمصلحة الفردية أو الاجتماعية، وهو اعتبار متأصل لكونه ظاهرة اجتماعية عامة، فضلا الى تطابق المراد الاستعمالي فيه مع المراد الجدي، فهو قرار مرتبط بالجانب العملي لحياة المكلفين سواء على مستوى الفرد أم المجتمع، بهدف قيادة إرادة الإنسان لتحقيق المصلحة والبعد عن المفسدة.

ومن المباحث المهمة التي بينها السيد السيستاني المرتبطة بالاعتبار القانوني انه بحث عن أصل إنشاء الاعتبار القانوني معتبراً أنه يتولد من الاعتبار الأدبي، فأنه في بداية وجوده يكون اعتبارا أدبيا صرفا، فمثلا اعتبار المال مملوكا لزيد حقيقته اعتبار أدبي بداية وهو اعطاء حد شيء لشيء آخر، فمعنى الملكية هو اعطاء لوازم الأمور الشخصية كأفعال الانسان الجوارحية والجوانحية للأمور الأجنبية عنه، فكما أن فعل الانسان تحت ارادته، فكذلك المال الأجنبي عنه يكون تحت تصرفه وارادته، وهذه هي حقيقة الملكية، وبمرور الوقت وبعد اقرار المجتمع العقلائي لهذا الاعتبار وكثرة استعماله يتحول إلى اعتبار قانوني يرتبط بالجانب العملي للفرد والمجتمع، ويكون أمراً متأصلاً واقعياً، وقد تقدم من السيد السيستاني في مبحث الوضع مثل هذا التحول من الأمر الاعتباري الى الواقعي. 

ثم يتناول السيد السيستاني مقومات الجعل للقانون، بأنه لابد من وجود أربعة عناصر، وهي: 

الأول: الملاك وهو المعروف من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد التي تخص العباد. 

الثاني: المصحح للاعتبار ليكون ذا فاعلية وأثر في المجتمع العقلائي، وهو صدق عنوان الداعي للخير والزاجر عن الشر وهو ملاك الحكم في نفسه، التابع للملاك الموجود في متعقل الحكم وهو فعل المكلف.

الثالث: الإرادة وهي التصميم والعزم على تأسيس القانون. 

الرابع: الصياغة وهي صب القانون بأسلوب مؤثر في قيادة إرادة الفرد أو المجتمع نحو فعل متعلق الأمر.

وأما أساليب صياغة الاعتبار القانوني فهو أسلوب القضايا الحقيقية (*)، لتشمل الفرد الموجود بالفعل الواجد للشرائط وغير الواجد لها وللفرد المقدر الوجود، وأسلوب القضايا الخارجية الراجعة لتوجيه خطاب تكليفي أو وضعي للأفراد الموجودين بالفعل الواجدين لشرائط الخطاب فقط. 

والسيد السيستاني قسم الاعتبار القانوني على ثلاثة أقسام: 

القسم الأول: حكم تكليفي: وهو ما يتقوم بعنصرين: 

١ ـ استبطانه للحكم الجزائي فأن الوجوب والحرمة مستبطنان للوعيد على الترك أو الفعل والاستحباب والكراهة مستبطنان للوعد على الفعل أو الترك.

٢ ـ ارتباطه المباشر بعمل الفرد فهو متوجه ومتعلق بالفعل الخارجي، لذلك ورد تعريفه في كلماتهم بأنه الانشاء بداعي جعل الداعي أو جعل الزاجر في نفس المكلف نحو الفعل.

بقي أن السيد لم يبين الحكم الجزائي في الإباحة مع أنه من الأحكام التكليفية، وهو راجع الى أن الأحكام التكليفية قد حصرت أفعال المكلفين جميعها، وتضمن الحكم التكليفي للجزاء شامل لبيان الجزاء بالوعد والوعيد كما في الأحكام الأربعة أو بيان الجزاء باللاوعد واللاوعيد كما في الإباحة، ويأتي هذا المعنى نفسه في العنصر الثاني في معنى الداعي والزاجر.

القسم الثاني: حكم وضعي: وهو متعلق بالعمل الخارجي لا على نحو المباشرة كالحكم التكليفي ولا على نحو الاستبطان للحكم الجزائي.

القسم الثالث: الماهية المخترعة: وهي قد تكون عبادة كالصلاة والحج وقد تكون موضوعاً كالميتة والمذكى وقد تكون معاملة كالبيع والصلح وسيأتي بحث ذلك في الصحيح والأعم.

وفي مبحث الحقيقية الشرعية ذكر أن ضابط الفرق في التسمية هو أن الأمر الاعتباري المتأصل لو كان يحمل على الأمر الخارجي بحمل هو هو المسمى بحمل المواطأة في المنطق، فيعبر عنه بالماهية الجعلية التي تحمل على الأعمال الخارجية، فالحرمة مثلا تنصب على أكل الميتة التي هي الماهية الجعلية كما سيأتي بيانها في المطلب الثالث.

وأما لو كان حمل ذي هو، وهو المسمى بالحمل الاشتقاقي في المنطق، كالملكية والزوجية، فيعبر عنه بالأحكام الوضعية، فالفرق بين هذه الأحكام اصطلاحي وإلا ففي الواقع كلها من الموضوعات التمهيدية لأحكام أخرى، فبالنسبة للأشياء المتباينة تكوينا والتي تشترك في حكم واحد، فأسهل الأساليب والطرق في التعبير عنها هو افتراض ماهية اعتبارية لها، كتعبير النجاسة مثلا فأن لها أفرادا وأنواعا مختلفة لا اشتراك تكويني بينها ظاهرا، ولكنها تشترك بالحكم كعدم جواز الصلاة فيها، إذ لا يمكن أن يذكر أحكام كل نوع وكل فرد على حدة جعلت لها ماهية اعتبارية واحدة، وموضوعات تمهيدية، والأحكام الوضعية من هذا الباب .

وتعرضنا لبيان الاعتبار القانوني ليس لبيان اهتمام السيد بالحقل القانوني فقط، وأنّما لأن القسم الثالث من الاعتبار القانوني وهو الماهية المخترعة تأتي في صلب الحديث عن الحقيقة الشرعية التي ستكون محل حديثنا لبيان متمم الجعل التطبيقي.

المطلب الثاني: متمم الجعل التطبيقي

من مبتكرات الشيخ النائيني نظرية متمم الجعل والذي طبقه في جملة من المسائل(*)، والمقصود بالجعل هو الإيجاد الاعتباري للحكم الشرعي، ويطلق أيضاً على الإيجاد الاعتباري لموضوعات الأحكام، وتفننت المدرسة الأصولية الأمامية في معاني الجعل وتقسيماته ومراتبه، وهو أمر لا نجده في سائر المدارس الأخرى،  وحين لا يفي الجعل الأولي بإمكان بيان ما يحصل به الملاك بحيث لا يحصل غرض الشارع من حصول المأمور به خارجا من دون القيود أو الشروط التي يتم بها ملاك الحكم، ابتكر الشيخ النائيني مفهوم متمم الجعل، ولأجل توضيح هذا المفهوم، نستعين بما ذكره الشيخ المظفر لتبسيط وتوضيح المطلب بأنه من غير الممكن تعليق الحكم على العلم بنفس هذا الحكم، كما في تعليق وجوب الصلاة على العلم بوجوبها، لاستلزام ذلك الخلف والمحال، إذ لو كان الحكم معلقاً على العلم بوجوبها للزم عدم وجوبها، لتعلق الوجوب بحسب الفرض بالصلاة بما هي معلومة الوجوب، مع أن العلم لم يتعلق إلا بوجوب الصلاة مجردة عن أي قيد، فما فرض تعلقه به لم يتعلق به، فهو من هذه الناحية خلاف الفرض، بل يلزم منه المحال، لعدم إمكان تحصيل العلم بمتعلق الحكم، إذ قبل حصول العلم بالحكم لم يكن هناك علم به، ومع عدمه يستحيل تعلق العلم به، إذ كيف يتعلق بأمر معدوم؟ إلا أنّ استحالة التقييد بالعلم لا يعني إطلاق الحكم و اشتراكه بين العالم والجاهل به، إذ لو استحال التقييد استحال الإطلاق أيضاً، بناءً على أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة وعدمها، فما كان غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق أيضاً، ومع أنه لا خلاف بين الأمامية في أشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بها وعدم اختصاصها بالعالم. 

ولكن هل يكفي إثبات الاشتراك من طريق إطلاق أدلّة الأحكام الأولية؟

ومن هنا جاء المحقق النائيني ليبين عدم إمكان التمسك بإطلاق أدلة الأحكام لإثبات الاشتراك، معتبرا أنّ إثبات ذلك يحتاج إلى دليل آخر يتمّ به الجعل، والنتيجة الحاصلة منه تشبه النتيجة الحاصلة من الإطلاق؛ ولذا سمّاها بنتيجة الإطلاق .

وكما يؤدّي الدليل الآخر المتمم للجعل إلى نتيجة الاطلاق، يؤدّي أيضاً في موارد أخرى إلى نتيجة التقييد، كما في مسألة اشتراط قصد الامتثال في العبادات في مسألة التعبدي والتوصلي، حيث يمتنع أخذ هذا القصد شرطا في الأمر نفسه، لاستلزامه الدور، فلابدّ من جعل ثانٍ يتم من خلاله الجعل الأول ويستكمل، وتكون نتيجته تقييد العبادات بقصد الامتثال .

وإنما سمّيت هذه الفكرة بفكرة متمّم الجعل لأنّ التقييد لم يمكن للمولى أن يتوصّل إليه إلا بهذه الطريقة وهي الخطاب الأول المهمل، وسمّي بالمتمم لأنّ الهدف والتكليف والغرض غرضٌ واحدٌ ولكن هذا الغرض الواحد لا يمكن أن يحصل بخطابٍ وتكليفٍ واحدٍ فيحتاج إلى متمّم جعلٍ .

وقد استعمل الشيخ النائيني نظرية متمم الجعل في مسائل عدة - في مسألتي الاشتراك ومسألة التعبدي والتوصلي- ومنها مسألة المقدمة المفوتة، ومسألة وجوب الاحتياط. 

وأما متمم الجعل التطبيقي فهو وإن كان مأخوذا من معنى متمم الجعل نفسه الذي بيناه تواً، ولكن الفرق أننا لا نتحدث هنا عن جعل آخر لبيان اصل الماهية، وأنما عن تطبيق للشارع متمم يبين انطباق الماهية على مجعولاتها، بيان ذلك أن الشارع حين يجعل ماهية اعتبارية فأنها لا تنطبق على مصاديقها قهرا كما في الماهيات التكوينية، فيتدخل الشارع من خلال الجعل والاعتبار لتطبيق تلك الماهية على مجعولاتها، فالصلاة مثلا وهي مجعول شرعي والتي هي عبارة عن اللين الخضوعي في الشرائع جميعها ولكن قامت كل شريعة بتطبيقها على مصاديق معينة، وكمفهوم الدينار وهو مجعول عقلائي تختلف المؤسسات المالية في مقام تطبيقه على مصادقيه، ومن الأمثلة التي طبق بها السيد السيستاني متمم الجعل التطبيقي قاعدة الاضطرار، وهي "ما من شيء حرمه الله إلا وقد أحله لمن أضطر اليه"  ودار عنوان المضطر إليه بين محرمين على نحو التزاحم فما هو المقدم منهما ليكون مصداقاً لعنوان المضطر إليه، فهنا يأتي دور متمم الجعل التطبيقي ليقدم أحدهما لأهميته عند الشرع أو العقلاء وهي من موارد التزاحم.

وبمتابعة البحوث الفقهية للسيد السيستاني نجده قد طبق هذا المفهوم في جملة من المسائل(*)،  كما طبقها في مسألة الصحيح والأعم وتطبيقها واضح لارتباط وابتناء مسألة الصحيح والأعم على مسألة الحقيقة الشرعية والتي هي محل حديثنا في هذا المبحث.

المطلب الثالث: الحقيقة الشرعية

في هذا المطلب نذكر بدءا أقوال الأعلام في المسألة بصورة مختصرة ثم نفرد الحديث عن رأي السيد السيستاني في الحقيقة الشرعية، فهنا مقصدان: 

الفرع الأول – الحقيقة الشرعية ومباني الأعلام فيها 

لما كانت الشريعة الإسلامية شريعة شاملة لم تترك جانباً من حياة الإنسان دون أن تتدخل فيه تحديداً وتقييداً تبعا للمصالح والمفاسد التي تخص المكلفين، كان لابد لها من جعل ماهيات مخترعة تحمل ألفاظا مبتكرة أو منقولة عن معانيها الأصلية لمناسبة، والماهيات المخترعة هي أحد اقسام الاعتبار القانوني كما تقدم، أو تستعمل ماهيات غير مخترعة ولكن تدخل الشارع في تهذيبها وتقنينها كما لو أنه تمثلها ضمن بنيته التشريعية بما ينسجم مع المنظومة الشرعية كاملة.

ولكن تلك الماهيات صارت محل بحث من قبل الأصوليين، فهل أنّ الشارع وضع الألفاظ الدالة على تلك الماهيات على نحو التعيين بما يسمى بالحقيقة الشرعية، أم أنه استعملها مجازاً ثم اشتهرت حتى تعينت في عهد لاحق عند المتشرعة في معناها الشرعي بما يسمى بالحقيقة المتشرعية، فحين نجد اللفظ الدال على تلك الماهيات قد أُطلق في نص من النصوص الشرعية -من دون قرينة- في الصدر الأول للإسلام، فهل أن ذلك اللفظ أريد به الحقيقة الشرعية بناءً على ثبوتها، أم أريد به المعنى اللغوي السابق بناءً على الحقيقة المتشرعية، مع الاتفاق على أنه يراد به المعنى الشرعي إذا أطلق في وقت لاحق عن الصدر الأول للإسلام . 

وقد عُرفت الحقيقة الشرعية: "الحقيقة الشرعية: هي الكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع شرعي فخرج بقولنا: في معناها الشرعي ما استعمل في غيره ولو بوضع شرعي كإبراهيم، وبقولنا : بوضع شرعي الكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع لغوي، أو عرفي، أو بوضع شرعي لمعنى آخر، فأن المتبادر منه أن يكون بمقتضاه الأول، أو لأنّ الظاهر منه أن يكون الوضع سببا مستقلاً في صحة الاستعمال، وليس الأمر في المجاز كذلك ".  

وعرفوا الحقيقة الشرعية: "هو اللفظ الَّذي وضعه الشارع لمعنى شرعي من حيث إنّه شارع..".

الحقيقة الشرعية: "المعنى الحقيقي للفظ هو المعنى الموضوع له" .

اذن الحقيقة الشرعية هي عبارة عن وضع الشارع للألفاظ المستعملة في الأمم السابقة كالصلاة والحج والصيام والزكاة وغيرها لمعانٍ جديدة غير معانيها اللغوية التي وضعت لها.

وقد اتفق الأصوليون على أن الفاظ المعاملات لم يضع لها الشارع الاقدس معانٍ مستحدثة بل أخذها على معانيها اللغوية والعرفية، غاية الأمر أنه تصرف في كيفيتها وأجزائها وشرائطها، أي اجرى عليها بعض التغييرات من إضافة أو حذف جزء أو شرط أو المنع من بعض تطبيقاتها أو مصاديقها  كالربا بالنسبة للبيع . 

وأمّا ألفاظ العبادات فقد تعددت رؤى العلماء فيها على أقوال:

1-القول الأول: آراء النافين للحقيقة الشرعية وهم على طائفتين:

أ-القائلين بالحقيقة اللغوية بمعنى المطابقة الكاملة:

وممن اشتهر نسبة القول إليه  بها في اسماء المعاني الشرعية، وان الدلالة المضافة فيها بقرينة خارجية، أو بشرط خارج عن الوضع: هو القاضي أبو بكر الباقلاني (403هـ)  حسبما نسب إليه ، وذكروا ابن القشيري أيضاً.

وذكر الأسنوي(772 هـ) أنه قال: "إنّ الشارع لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية فالمراد بالصلاة المأمور بها هو الدعاء ولكن أقام الشارع أدلة أخرى على أن الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليه" .

ب-القول بالحقيقة اللغوية الوضع (للقدر المشترك) بمعنى أن: القائلين بهذا الرأي يرون: أن المعاني الشرعية أو كثيرا منها موجودة وثابتة في الشرائع السابقة، وهذا يعني: أن العرب وضعوا لها أسماء، أو نقلوا أسماءها من لغتها الأصيلة الى لغتهم وعربوها.

وهذه الأسماء هي التي استعملها الشارع الإسلامي بعدئذ لكن – لا كما هي في الرأي السابق – في أنها موضوعة لمعنى هو الذي استعملها الشارع فيه - إذ لا يتسع لمعنى زائد في المسمى إلا كشرط خارج عن دلالة الأسم.. الخ، بل هي في نظر هؤلاء موضوعة لمعنى كلي وقدر مشترك يتسع للماهيات المختلفة التي تصبح بمنزلة المصاديق، وقد قوى هذا الرأي العلامة الأصولي الشيخ محمد حسين الغروي صاحب الفصول من علماء القرن 13هـ .

وذكره الشيخ صاحب الكفاية ت1323هـ  والشيخ محمد حسين الأصفهاني ت 1361هـ ،  وذهب الى هذا الرأي أيضاً العلامة السيد عبد الأعلى السبزواري.

ج- المجاز في المجاز المشهور

أكثر علماء أصول الفقه- من المذاهب المختلفة- ممن وقفنا على آرائهم قالوا في: أن استعمال الشارع -أسماء المعاني الشرعية- كان على سبيل المجاز الذي أصبح مجازاً مشهوراً ثم بعد ذلك اصبح حقيقة شرعية عند بعضهم  ومتشرعية عند بعضهم  الآخر وقد نسبه الأسنوي (ت772هـ) في شرحه على منهاج الأصول للقاضي البيضاوي (ت685 هـ) لأمام الحرمين القاضي البيضاوي، وابن الحاجب .

وذهب الى ذلك البزدوي (ت730 هـ) ، ونسبه ابن عبد الشكور فضلا على ذلك: الى الدبوسي وشمس الأئمة و صدر الإسلام من الأحناف.

ومن الأمامية ذهب الى ذلك العلامة الحلي (ت726هـ) ، والشيخ حسن زين الدين (ت1011)هـ وغيرهما.

2-القول بالحقيقة الشرعية

ذهب الى ذلك الجمهور، والمعتزلة  والخوارج، وطائفة من الفقهاء .

ومن الأمامية السيد حسين يوسف مكي العاملي والسيد الخوئي والشيخ محمد رضا المظفر. 

3-القائلون بالتوقف

منهم الآمدي الشافعي (ت631 هـ) ، والشيخ البهائي (ت1036 هـ) ، والشيخ صاحب الكفاية (ت1323 هـ) .

الفرع الثاني: الحقيقة الشرعية عند السيد السيستاني

وبعد هذا المرور السريع بأقوال الأصوليين في الحقيقة الشرعية، نبين ما ذهب إليه السيد السيستاني، ومن طريق رأيه سيتضح تطبيق المبنى القانوني الذي تقدم بيانه وهو متمم الجعل التطبيقي، ولأجل ذلك لابد من بيان أمور:

الأول: الوضع للمعاني الشرعية تعيني لا تعييني

تقدم في مبحث الوضع والهوهوية الفرق بين الوضع التعيني والتعييني ، وفي محل الحديث لابد أن يفرض أن الوضع للمعاني الشرعية هو التعيني لا التعييني وإلا لاشتهر ولنقل مثل هذا الوضع في الأحاديث الشريفة و تاريخ السيرة النبوية، نعم ذهب صاحب الكفاية الى الوضع التعييني بالاستعمال وهو رأي يبرر عدم وجود حديث شريف أو عدم نقل هذا الوضع في السيرة المطهرة، فأنه جعل الوضع التعييني على قسمين أحدهما المعروف عند من سبقه ومثاله ما لو ولد لرجل مولود فيقول (سميت ابني هذا زيداً)، وثانيهما وهو من إبداعات صاحب الكفاية ومثاله ما لو قال في المثال السابق (ناولوني زيدا) مثلا ويأخذ ولده، فيفهم المستمعون أنه سمى ابنه المولود زيدا، فهو نوع من الوضع التعييني تم من طريق الاستعمال ونصب القرينة وهو تناول ولده في مثالنا،  فلا يبعد أن قول الرسول (صلى الله عليه وآله) "صلّوا كما رأيتموني اُصلّي" من هذا القبيل وأداؤه للصلاة بعد ذلك بصورتها التي نعرفها هو قرينة على هذا الوضع، ولكن لا مجال لتناول رأي صاحب الكفاية هنا ومناقشات الأعلام له، فلنعتبر في هذه المقدمة إننا فارغون من كون الوضع للمعاني الشرعية كان بالوضع التعيني، بأن استعملت في المعاني الشرعية مجازا لوجود المناسبة مع جعل قرينة حالية أو مقالية أولا، ثم بالتكرار والقرن المؤكد بين المعاني الشرعية وتلك الألفاظ اشتهرت وتعينت في معانيها الجديدة .

وهنا ينبه السيد السيستاني الى فارق مهم بين الوضع التعييني والتعيني له دخالة في مسألتنا، فأن الصلاة مثلاً في أصل اللغة موضوعة للخضوع أو للميل أو للعطف، وهي صفات لا تنطبق على الأعمال الجوارحية التي نقوم بها في الصلاة إلا بنوع من العناية، بأن نعدّ العمل الجوارحي خضوعاً أو عطفاً، وهذا هو الفرق المهم بين الوضعين فأنه في التعيني يصير اللفظ ماهية اعتبارية فيما نحن فيه، بخلاف ما في التعييني إذ يصير اللفظ ماهية تكوينية أخرى هي ماهية المنطبق عليه، ولكن الوضع التعيني ليس على نحو واحد وأنما هو على نحوين أيضاً ومن طريق الفرق بين نوعي الوضع التعيني سيقودنا السيد السيستاني الى استيضاح معنى متمم الجعل التطبيقي في مبحثنا. 

الثاني: أنواع الوضع التعيني

تقدم سابقا الحديث عن الفرق بين الاعتبار الأدبي والقانوني  وأن الأدبي هو إعطاء حد شيء لشيء آخر بهدف التأثير في إحساس المجتمع ومشاعره بعناية كإعطاء حد الأسدية للرجل الشجاع، وهو اعتبار أدبي فردي غير متأصل لعدم كونه ظاهرة اجتماعية ولا يتطابق فيه المراد الاستعمالي مع المراد الجدي الادعائي كما في المثال، وهو يرتبط بالجوانب الذوقية والنفسية للإنسان، هذا التأثير في الإحساس له نوعان سيأتي بيانهما، فمثلاً حين نستعمل الأسد في الرجل الشجاع فأننا ناظرون الى أثر شجاعة الأسد في الأحاسيس ونحاول ن نطبق هذا الأثر على الرجل الشجاع، حتى يسري من ادعاءنا لهذا التطبيق الإحساس نفسه لدى السامع، ونتيجة لذلك  فليس المجاز في حقيقته استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فأن هذا التعريف ينظر لآلية المجاز وليس الى حقيقته، وأنما حقيقته ناظرة الى هذا التأثير في الإحساس في مقام الاستعمال بتطبيقه على غير المصداق الأصلي صاحب الأثر، فيسري ذلك التأثير في نفوس المستمعين الى المصداق المستعمل فيه(*).

وفي مقام الوضع التعيني لأجل تكرر الاستعمال المجازي والقرن بين ذلك اللفظ والمعنى الجديد يحصل بينهما الربط اللاشعوري، إذ يتبادر للذهن ذلك المعنى عند سماع هذا اللفظ.

ولكن هذا النوع من الوضع على قسمين:

القسم الأول: إنّ كثرة التطبيق على المعنى الجديد يكون الاهتمام فيه بالتأثير بالإحساس قليلا بحيث يحصل الربط اللاشعوري بين اللفظ والمعنى الجديد بالتكرار ولكن من دون الالتفات الى الوسيط في هذه الاستعمالات وهو التأثير في الإحساس، ويكون الوضع الثاني متوجها للمنطبق عليه فحسب، وهو الماهية الخارجية. 

القسم الثاني: إنّ الاستعمالات في مرحلة التطبيق منظور فيها الاهتمام بصورة رئيسة بالتأثير في الإحساس بحيث تشكل ركن المعنى، وبما أن الجهة التي من خلالها يكون التأثير الإحساسي في المعنى الجديد تشتمل على جهة اعتبارية عنائية في مقام التطبيق فكثرة التطبيق يؤدي الى الربط اللاشعوري بين اللفظ وماهية اعتبارية تتشكل من خلال هذا الوضع إذ يغفل فيها عن المعنى الأصلي، ويكتسب اللفظ عند السامعين ماهية أخرى مع الغفلة عن أصل المعنى وكذلك الغفلة عن الوسيط الذي بسببه تم التطبيق على تلك الماهية، ومثاله الصلاة فأنه بعد أن يتعين الوضع فيها بالصلاة المعهودة عندنا، يصبح الاستعمال فيها بعد الوضع التعيني مغفولا فيه عن أصل الوضع للمعنى الأول اللغوي وكذا مغفولا فيه عن الأثر الإحساسي الذي ببركته انتقلنا الى الاستعمال في المعنى الجديد، فالصلاة في جميع الشرائع مأخوذ فيها معنى اللين الخضوعي، ولكن بعد أن استعملنا ذلك مجازا في الصلاة الإسلامية وتكرر ذلك الاستعمال الى حد التعين، بعدها ارتبط الشعور بالصلاة الإسلامية نتيجة التطبيق من قبل الشارع على تلك الماهية الاعتبارية التي تشكلت من هذا الوضع، ولذا تأخذ الصلاة شروطا وأحكاما وشكلا مختلفا تماما عن أصل الوضع اللغوي.

الثالث: متمم الجعل التطبيقي

بين السيد السيستاني مورد متمم الجعل التطبيقي في مبحث الحقيقة الشرعية وتوسع في بيان الشواهد عليه، فبعد تمييزه بين القسمين المتقدمين من الوضع التعيني، ذكر فرقين رئيسين بينهما، وهما:

الفرق الأول: إذا كان الموضوع له بالتعين نفس المنطبق عليه يكون ماهية تكوينية وتترتب عليها جميع آثار الماهية التكوينية وتنطبق على أفرادها قهراً، من دون تبعية للجعل والمواضعة كانطباق ماهية الإنسان على زيد وعمرو مثلا.

وأما الماهيات الاعتبارية ففي مرحلة انطباقها على أفرادها تقبل الجعل والمواضعة، فتحتاج الى متمم الجعل التطبيقي، فمثلا بعد تحقق مفهوم الميتة ووضوحه، فتعيين فرد من الميتة الذي هو المصطلح الشرعي الغير المذكى، يخضع للجعل والمواضعة وبالعناية والتدرج حتى تتعين ماهية اعتبارية تفيد المحددات الجديدة، فقد يكون الشيء ميتة في قانون ما ولكنه مذكى في قانون آخر، فالمسلمون مثلا يعدّون الحيوان المذبوح بالشروط الشرعية مذكى، بينما يعتبرونه الهنود ميتة قانونية، وهكذا، وذلك لأن تطبيق الماهيات الاعتبارية على مصاديقها قابلة للجعل، وهو الذي اصطلحوا عليه متمم الجعل التطبيقي، الذي نحتاجه في هذه المرحلة.

الفرق الثاني: في القسم الأول من الوضع التعيني يتغير المفهوم تماماً مثل لفظ الأسد فاذا افترضنا كثرة إطلاقه على الرجل الشجاع إذ يتعين فيه فمفهوم ما تعين فيه يختلف تماما عن الموضوع له أولا، وأمّا في القسم الثاني فأن المفهوم الجديد لا يختلف بالكلية عن المفهوم الأول بل يتغاير ويختلف معه في بعض المحددات، فاستعمال الميتة مثلا في الماهية الاعتبارية لا يعني ما مات حتف انفه فقط، بل حتى المذبوح لا على الوجه الشرعي، فأصل المفهوم واحد ولكن المفهوم الاعتباري استبطن تلك المحددات الخاصة في معناه وتلك الجهة القانونية التي هي عدم جواز الأكل منه، والذي نجده خارجا أن الاستعمال في البداية يكون في المفهوم مع التوسعة في المحددات والتقييدات، والاختلاف في مستبطناته ثم الخضوع للتطبيق الشرعي والذي هو المقصود بمتمم الجعل التطبيقي، وبالنسبة للاعتبار فأنه لا يكون له اعتباره في النفوس بلا سبب، بل لابد من سلطة للمعتبِر ليكون للاعتبار أثره، وفي أمثلتنا المعتبر هو الشارع المقدس.

الرابع: مورد الحقيقة الشرعية: 

تطبيق ما تقدم في موضوع الحقيقة الشرعية سيكشف اختلاف السيد السيستاني مع سائر الأصوليين تقريباً في هذه المسألة، فالصلاة مثلاً في أصل اللغة معناها العطف أو التوجه أو اللين، فهل تعينها بالمفهوم الشرعي بالصلاة المعروفة عند المسلمين، هو من قبيل القسم الأول؟ إذ تكون الماهية الموضوع لها بالوضع التعيني ماهية تكوينية، بحيث نفهم أنها مغايرة تماما للمعنى الأول، وهو رأي الأصوليين المتسالم عليه بينهم ويتساءلون بعد ذلك هل الوضع الثاني كان للأركان أو ما يعم الأركان وغيرها؟ أو أن الموضوع له بالوضع الثاني هو من القسم الثاني بحيث إنّ المعنى الأول للصلاة من العطف والتوجه واللين بقي معناه ولكنه أخذ محددات خاصة وشروط وقيود بواسطة متمم الجعل التطبيقي وبتكرر الاستعمال الى أن تشكلت الماهية الاعتبارية للصلاة المعروفة اليوم، أو بعبارة أخرى أن مفهوم الصلاة الأول القائم على العطف واللين اختلف في مرحلة التطبيق باختلاف الملل والنحل، وهو رأي السيد السيستاني.

فالصلاة كمثال على أحد الماهيات الشرعية التي بحثوها مفصلاً في بحث الحقيقة الشرعية تكون على رأي السيد السيستاني من القسم الثاني الذي يعطى فيه حد شيء لشيء آخر، مع العناية ابتداءً، ثم وبالتدريج تشكلت ماهية اعتبارية وارتبطت لا شعوريا عند المتشرعة بهذه الصلاة الخاصة.

وذكر السيد السيستاني للمبنى المتقدم شواهد من الكتاب والسنة، إذ يمكن من طريقها اثبات الماهيات الاعتبارية التي تقدم الحديث عنها قبل الإسلام، نذكر هنا بعضا منها في خصوص الصلاة:

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

قوله تعالى : ﴿وَأوصَاٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ .

قوله تعالى: ﴿واوحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وإقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾ .

قوله تعالى: (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ).

عدة آيات تذكر إقامة الصلاة على لسان الأنبياء عليهم السلام

طائفة من الروايات تذكر صلاة بعض الأنبياء بصورة خاصة بذكر الأنبياء بأسمائهم كل بصلاته، وهي كثيرة 

طائفة من الروايات تشتمل على وجود الصلاة عند الأمم السابقة أو وجودها عند الأنبياء بصورة عامة.

ومن ملاحظة مجموع الآيات والروايات لا يخطر في الذهن احتمال مغايرة حقيقة الصلاة في الشرائع السابقة عن الصلاة الإسلامية بالجوهر والحقيقة وإنما الاختلاف في بعض المحددات والأجزاء والشرائط، خصوصاً مع تصريح بعض الروايات (هذه الصلاة) أو ذكرهم قوله في الرواية (أترغب عن صلاة نوح) مما يدل على مسانختها للصلاة الإسلامية، خصوصاً وأنّ هذه الروايات وردت على لسان الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) وحينها كان إطلاق هذه الألفاظ الشرعية قد تعين بلا إشكال في معانيها الشرعية. 

"فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءاً أو شرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا" ، وما ذكره صاحب الكفاية موافق لما تقدم من السيد السيستاني من هذه الناحية، حيث أن الاختلاف في المصاديق والمحققات الذي ذكره يتوافق مع وجود الماهية الاعتبارية التي ذكرها السيد السيستاني والتي تختلف من جهة متمم الجعل التطبيقي، فتلك الآيات تدل على المبنى المتقدم لوجود هذه الماهيات الشرعية الاعتبارية.

الخامس: إشكالات على المبنى المتقدم 

أوردت على المبنى المتقدم جملة من الإشكالات، بعضها أثارها أعلام سابقون على بعض المشتركات في المبنى التي وردت في كلمات العلماء السابقين وبعضها إشكالات مثارة في بعض الكتب أو يثيرها البحث هنا:

الاشكال الأول: ما ذكره السيد السيستاني من إشكال يمكن أن يورد على الاستشهاد بالآيات والأحاديث المتقدمة، بأنه لم يعلم كون المراد من لفظ الصلاة الوارد فيها هي نفس الحقيقة الموجودة في شريعتنا بل افتراض كونها كذلك يلزم منه ثبوت الحقيقة الشرعية في زمان الصدور، لتخبر الآيات والروايات بوجودها في الشرائع السابقة.

وهذا الإشكال وإنْ جعله السيد السيستاني احتمالا للإشكال على صاحب الكفاية إلا أنّه في الحقيقة هو إشكال قائم عند كثير من الأصوليين باعتبار أنهم لا يتصورون الصلاة الا الأركان أو مجموعة الأعمال المعروفة، فحتى لو تسنى لهم تصور وجود بعض الأركان أو أجزاء الصلاة عند الأمم السابقة إلا أّنّه من البعيد جداً أن تكون الصلاة المعروفة عندنا كانت موجودة عند الأمم السابقة.

وجواب السيد السيستاني على ذلك قد تقدم في بيان مبناه من معنى الماهية الاعتبارية للصلاة وأن الصلاة وإنْ كانت بمعناها الأصلي من العطف لكنها أخذت محددات خاصة وشروط وقيود بواسطة متمم الجعل التطبيقي.

الاشكال الثاني: ما نسبه السيد السيستاني الى بعض الأعاظم (*)من أنه لا يمكن اعتبار الصلاة والصيام والحج وأمثالها ماهيات جعلية، إذ ليست هي ماهيات حتى تصبح مجعولة، حيث فرق بين الماهيات الاعتبارية التي يقول بها السيد السيستاني كالوجوب والحرمة، وكالملكية والزوجية، وغير ذلك، وبين الماهية الواحدة بالوحدة الاعتبارية، كالدار والسيارة مثلا فهذه أمور متكثرة والوحدة فيها اعتبارية، والصلاة من هذا القبيل، واحدة بالوحدة الاعتبارية، ومنشأ الوحدة فيها هي وحدة الأمر، ونتيجة لذلك فليست هي ماهية جعلية وقانونية بل أنها مجموعة من الأمور التكوينية توجه لهذا المجموع أمر واحد فاكتسب المجموع وحدة اعتبارية من الأمر، ثم يترقى ذلك المستشكل، بأن لا يقبل حتى بتلك الوحدة الاعتبارية المكتسبة من الأمر، بأن هذه الأمور المتكثرة لو وجدت في الذهن بنوع من الوحدة فهي وحدة تكوينية، حيث أنها لا تلحظ بلحاظ واحد إلا حين يلاحظها الذهن متعلقة للأمر، ووحدة اللحاظ هذه أمر تكويني لا اعتباري.

وأجاب عنه السيد السيستاني بأننا نلتزم بكونها ماهيات جعلية، لا أن وحدتها جعلية، بل الماهية بنفسها جعلية.

وأما على الترقي في انكار كون الوحدة أيضاً ليست جعلية، فهي وإن كانت لا تؤثر على الرأي الذي اختاره السيد السيستاني، بعد الإجابة على الشق الأول، إلا أنه أجاب عن ذلك بأن الوحدة الناشئة من الأمر الوحداني المتوجه الى أمور متكثرة، هي من شؤون الأمر الاعتباري فهي وحدة اعتبارية وليست تكوينية، فضلا على أنه في المرحلة السابقة على الأمر يمكن اعتبار الوحدة لها كبقية المركبات الاعتبارية، كالسيارة مثلا، فأنه حتى مع قطع النظر عن الأمر بإيجاد السيارة، فالسيارة واحدة بالوحدة الاعتبارية.  

ويمكن الملاحظة على إجابة السيد السيستاني الأخيرة، بأن المستشكل يسلم بأن مثل السيارة مثلا واحدة بالوحدة الاعتبارية، ولكن الترقي الذي ذكره يخص مثل الصلاة وأمثالها، فأنه لا يشك أحد في أنها مجموعة أعمال متكثرة من مقولات مختلفة، فوحدتها السابقة على الأمر في جواب السيد السيستاني غير مسلمة، فأنه قبل الأمر لم يكن هناك ألفة للمسلمين بتلك الصلاة واعتبارها ماهية واحدة، كما لو عرضت على إنسان لا عهد له بمعنى الصلاة لم يقل عنها أنها ماهية واحدة. 

ولا شك أنّ السيد السيستاني لا يسلم بالقول بالوحدة السابقة على الأمر بل أن هذا خلاف مبناه لأنه يرى أن الوحدة جاءت من ناحية تطبيق الماهية الاعتبارية عليها كما تقدم في الحديث عن متمم الجعل، ولكنه أنما قال بذلك رداً على ترقي المستشكل.

الاشكال الثالث: ما أورده المحقق الأصفهاني من التفريق بين الأمر التكويني والأمر الاعتباري، بأن الأمر التكويني لا مجال لدخالة اختلاف الأنظار فيه إلا في مجال تشخيص المصداق، فمثلا الأمور التكوينية التي نجد فيها اختلافا بحسب الأنظار، كالاختلاف في محورية الأرض لسائر الأفلاك، وغير ذلك من الأمور التكوينية التي كانت محل خلاف بين العلماء، لا يرجع الاختلاف الى اعتباريتها، وأنما الى تشخيص المصداق الواقعي منها.

وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية التي تختلف بحسب الأنظار واعتبار المعتبر، فمثلا المالية والملكية لا إشكال في أن بعض الملل تعتبر للشيء مالية في حين لا تعتبره ملة أخرى مالا، كالخمر والخنزير الذي لا يعدّ في الشريعة الإسلامية من الأموال، بخلاف ملل أخرى، والملكية التي لها أسباب تختلف من قانون لآخر، واختلاف الأسباب يؤدي الى الاختلاف في اعتبار الملكية للأشياء.

والصلاة كسائر الأمور التكوينية التي لا يأتي فيها اختلاف الأنظار وانما الاختلاف في مفهوم العطف بين الملل يكون في مجال تشخيص المصداق، والشارع المقدس كشف لنا بأن هذه الأعمال الخاصة التي نقوم بها في الصلاة هي التي تشتمل على العطف من المربوب للرب، بينما الملل الأخرى ذهبت الى أعمال أخرى تمثل العطف، فهذا الاختلاف وإن كان في الأنظار ولكن حقيقته يرجع الى الاختلاف في مجال استكشاف الأمر الواقعي، ومع أن هذه الأعمال الخاصة التي بمجموعها يسمى بالصلاة هي من اعتبارات المولى ولكن وزانها وزان المصالح والمفاسد بالنسبة للاعتباريات، حيث إن منشأ الاعتبار وملاكه هو أمر واقعي، لا أن الصلاة من قبيل الاعتباريات كالمالية والملكية.

وأجاب عنه السيد السيستاني بالتسليم بكبرى هذا الرأي بالتفريق بين التكوينيات والاعتباريات، إلا أن القول بأن للعطف واقعية قد شخصت من قبل الشارع بهذه الأعمال الخاصة (الصلاة) فهو غير مسلم، لأننا نتساءل عن تشخيص الشارع لواقعية العطف، هل هو من خلال خواص وصفات الأجسام، فلا يصدق مثل هذا المعنى على أعمال الصلاة، وأن كان من خلال صفات النفس فكيف يكون من الصفات الواقعية الموجودة واقعا، وتختلف الأنظار في تشخيصها؟ فليس في محل حديثنا واقعية تستكشف، بل أن العمل بمجموعه يعتبر عطفا للرب وخضوعا له، وهو في واقعه أمر اعتباري، غايته أنه تابع للمصالح والمفاسد، فشأنه شأن الأحكام الوضعية، ومن ثمّ فهو ليس أمرا مستكشفا، بل وزانه وزان المالية والملكية والزوجية، لا أنها وزان مصححات وملاكات المالية والزوجية التي هي من الأمور الواقعية، وأما اختلاف الأفراد في هذا المفهوم فهو لا يعني الاختلاف في استكشاف المصداق الواقعي وأنما مرد اختلافهم الى اعتبار جماعة ان هذا العمل صلاة، بينما جماعة أخرى تعتبر عملا آخر صلاة. 

ثم قال السيد السيستاني: (والشاهد على هذه الفكرة أنه كيف نلتزم بوجود ارتباط خاص بين بعض أنواع الصلاة مع البعض  الآخر من أنواعها، مع القول بعدم وجود مثل هذا الارتباط الخاص في أمثال الطواف والإحرام، مثلا: الصلاة التي يأتي بها الانسان إيماءً أو صلاة الغرقى، وكيف يشترك مثل هذا الأنواع من الصلاة مع صلاة المختار في العطف للرب، بينما لا تشترك في الطواف والإحرام في العطف مع صلاة المختار، فكيف تكون جهة الاشتراك وهي العطف في تلك الصلوات الاضطرارية أقوى من جهة الاشتراك فيهما.

فلابد أن نلتزم بأن الشارع المقدس قد اعتبر هذا العمل الخاص خضوعاً للرب بينما العمل الآخر كالطواف مثلا لم يعتبره خضوعا وعطفا للرب، واذا اعتبر عطفا للرب فهو اعتبار أدبي فحسب، مثل: (الطواف في البيت صلاة) هو اعتبار أدبي لا قانوني، مثل: (عون الضعيف صدقة) وغيره من التنزيلات، ولابد من الالتزام بأن الصلاة ماهية اعتبارية تختلف باختلاف الملل وتدور مدار الجعل والمواضعة .

السادس: التطبيقات الفقهية في القول بالحقيقة الشرعية:

العلماء في ثمرات القول بالحقيقة الشرعية بين مثبت ومنكر، وعلى القول بها ثمرات نتعرض لها:

الثمرة الأولى: أنه إذا وردت الفاظ في الآيات الكريمة والروايات الشريفة من دون قرائن فعلى أي المعاني تحمل هذه الألفاظ؟

فأن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية فلابد من حملها على معانيها الشرعية .

وإنْ أنكرنا ذلك فأن هذه الألفاظ لابد تحمل على معانيها اللغوية، أو التوقف في ذلك، لأن الاستعمال في المعنى الشرعي هو من المجاز الاستعمالي وهو من اقسام المجاز المشهور، وعليه يدور الأمر بين حمل اللفظ على المعنى الحقيقي أو على المعنى المجازي المشهور تكون النتيجة التي لابد منها عند ذلك هو التوقف.

ويمكن الاشكال على هذه الثمرة بوجهين:

الوجه الأول: سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية بالمعنى الأخص الذي فسره الأصوليون أو المعنى الأعم الذي تبناه السيد السيستاني وهو استعمال الألفاظ في معانيها نفسها قبل الإسلام، فهي مستعملة في معنى آخر فضلا على استعمالها الأول، ولا تكون من قبل النقل بل لابد من الاشتراك، فالصلاة مثلا تطلق على المعنى اللغوي لها وهو الدعاء، وكذا تطلق على الماهية الاعتبارية التي تنطبق على الأفعال الخارجية، كما في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، فيلاحظ  اطلق لفظ الصلاة على الدعاء، وفي كتاب وسائل الشيعة هناك أبواب كثيرة تتحدث عن كيفية الصلاة على النبي(صلى الله وآله وسلم)، في حين أن بعض الآيات المباركة قد اطلقت لفظ الصلاة على الدعاء كما في قوله تعالى :﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾ .

اذن فعلى القول بالحقيقة الشرعية لا يوجد هناك هجر للمعنى اللغوي حتى بالنسبة لصلاة الميت، بناءً على عدم عدّها صلاة بالمعنى الخاص، بل باعتبارها استغفارا كما دلت على ذلك بعض الشواهد، وفي ضوء ذلك فأن لفظ صلاة الميت الوارد في الآيات الشريفة والروايات المباركة لابد أن يحمل على المعنى اللغوي.

الوجه الثاني: وهي مناقشة في الصغرى، وهي عدم وجود مورد لهذه الألفاظ استعملت فيه بدون قرينة، وبعبارة أخرى: إنّه لابد من وجود قرينة استعمالية يحمل عليها اللفظ أما في المعنى اللغوي، أو المعنى الشرعي المستحدث والماهية الاعتبارية، والمقطوع به عدم وجود أو ندرة مورد في الفقه وجود لفظ مجرد بدون قرينة على الاستعمال في أحد الأمرين أو المعنيين.

الثمرة الثانية: بناءً على الرأي الثاني وهو الذي تبناه السيد السيستاني من أن الألفاظ كانت موجودة قبل الإسلام بمعانيها الخاصة المستحدثة، والماهيات كانوا يأتون بها بداعي التعبد والتقرب والخضوع لله تعالى، على الرغم أنها تسمى بنفس الأسماء التي كانت عليها.

فلو كان هناك أمر بالإتيان بها على ما هي عليه من الماهيات، ولكننا شككنا في دخالة بعض الشرائط التي كانت محددة ومعتبرة في الشرائع السابقة، فيمكن لنا هنا التمسك باعتبارها وذلك ببركة وواسطة الاطلاق المقامي الذي يشملهما معا.

مثال على ذلك الصوم، فبناءً عل الرأي الأول وهو رأي المشهور، من أن الصوم في اللغةً الإمساك، وفي الشرع الصوم المخصوص، وأما اعتبار القصدية أو عنوان التذلل، فأن هذه الأمور تحتاج الى دليل، ولكن ربما يقال بأن مقتضى الدليل اللفظي عدم اعتبار قيود أخرى من القصدية وغيرها، وفي ضوء ذلك نواجه مشكلة وهي كيفية اثبات أن الصوم من العبادات؟

فأما أن نتمسك بالأجماع أو بغيره من الوجوه الضعيفة.

وأما بناءً على الرأي الثاني في تفسير اللفظ المشار اليه وهو الصوم وأنه كان معلوما سابقا، وأنه حقيقة في التعبد يتعبد به ويتقرب به للرب، فهو ليس ترك الاكل فحسب، وأنما ترك الاكل لأجل التقرب لله تعالى، كما في الصوم عند الأمم السابقة، فيصح التمسك بالإطلاق المقامي الشامل لاعتبار العبودية المتقومة بالقصد والعزم.

الثمرة الثالثة: إنّ هذه البحث له دخل في جريان البراءة وعدمه في مباحث الأقل والأكثر الارتباطيين، وتوضيح ذلك موكول الى محله، ولأجل تبيين تأثيره في مبحث الحقيقة الشرعية.

فأنه بناءً على القول باستعمال الصلاة في الماهية الاعتبارية، والأعمال الخارجية محصصات ومحققات ومصاديق لها، فبركة وواسطة متمم الجعل التطبيقي طبقت الماهية الاعتبارية على الأعمال الخارجية، وحينئذ لابد من الالتزام بالاشتغال في دوران الأمر بين الأقل والأكثر   .وعلى ذلك فلا أساس للقول بعدم ترتب ثمرة أو أثر علمي أو عملي على مسألة الحقيقة الشرعية.

المطلب الرابع: الصحيح والأعم 

لا يخفى قد اختلف الإعلام في أن ألفاظ العبادات- كالصلاة والصيام وغيرهما- والمعاملات - كالبيع والاجارة مثلا- هل وضعت لخصوص الصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد، على خلاف في حقيقة المراد بالصحيح والفاسد كما سيأتي بأذنه تعالى:

 وقد استدل كل فريق منهم لمختاره بنفس الأدلة التي استدل بها الطرف الآخر على مختاره أحيانا، وأحيانا بأدلة أخرى.

وقيل بترتب ثمرة أو أكثر على الخلاف المذكور، فالمناسب لذلك كله عقد الكلام في ذلك في ضمن فروع.  

الفرع الأول: اختلاف تعبيرات الاعلام في طرح المسألة 

عبّر بعض الإعلام عن الخلاف المذكور بما يفيد انه مما يرتبط بمرحلة الوضع فيقال: أن الفاظ العبادات هل هي موضوعة للصحيح أو الاعم منها. 

إلا أن التعبير المذكور قد أشكل عليه بأن أدراج كلمة (الوضع) في العنوان يٌخرج الاختصاص في اللفظ بالمعنى على القول بالصحيح أو الاعم إذا كان حاصلا بالتعّين، إذ التعّين ليس بالوضع.

  وعبّر بعض الإعلام الآخرين عن الخلاف المذكور بإبدال كلمة (الاستعمال) بدل (الوضع) وأن الاستعمال في تلك المعاني هل كان في خصوص الصحيح أو الاعم منه. 

و‏قد أشٌكل عليه أيضا بأن الجهة المبحوث عنها إنما هي حول الموضوع له اللفظ من غير نظر إلى الاستعمال وعدمه، وأن المقصود وإن كان لا يحصل إلا بالاستعمال إلا أنه لا يوجب قصر النزاع  فيه.

فلجأ بعض الإعلام تخلّصا من الاشكالين المتقدمين إلى التعبير بأن ألفاظ العبادات أو المعاملات هل هي اسامٍ للصحيح أو للأعم منها ومن الفاسدة. 

وأما السيد السيستاني فطرح المسألة على أساس وأسلوب آخر وهو  أن القانون الكلي هل يقتضي حمل الفاظ التي ذكرها الشارع المقدس على الصحيح أو الأعم ؟ 

ومنشأ هذه القانون الكلي مختلف ومتعدد، فتارة يكون بالوضع، وأخرى بمتمم الجعل التطبيقي، وثالثة بالقرينة العامة بنحو تعدد الدال والمدلول، ورابعة بالقرينة على الاستعمال المجازي، وسيتبين ذلك لاحقا.

‏الفرع الثاني: توقف النزاع المذكور على القول في الحقيقة الشرعية وعدمه

  لا يخفى أنه قد اختلف الإعلام في أن الفاظ العبادات مثلا والتي استعملها الشارع في معانيها الخاصة والتي صارت الفاظها حقيقة في معانيها الخاصة ذلك في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) بحيث يتبادر الذهن إليها بدون قرينة، وقد كان لها في اللغة معانٍ أخرى، كما في الصلاة بمعنى الأفعال مخصوصة ذات الأركان فإنها كانت في أصل اللغة بمعنى الدعاء، وكذا الصيام المخصوص فإنه كان بمعنى الإمساك ومثلهما الحج أو الزكاة إذ كانا في أصل اللغة بمعنى القصد أو النمو مرتبا،  وغير ذلك من الألفاظ، فهل أن تلك الألفاظ في استعمالات الشارع المخصوصة قد بقيت على ما هي عليه من معانيها اللغوية، ولكن الشارع إنما طبقها على المصاديق الشرعية؟ أو أن الشارع المقدس قد نقل تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية وقد حصل ذلك النقل في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) فتكون (حقائق شرعية)؟ أو أن الشارع المقدس كان يستعمل تلك الالفاظ في معانيها الشرعية في زمانه(صلى الله عليه وآله) بنحو المجاز مع القرينة، وأنما وصل الاستعمال لها في معانيها الشرعية الى درجة الحقيقة في زمان المشرعة بعد زمانه(صلى الله عليه وآله) فتكون(حقائق متشرعية)؟

 أو أن هذه الالفاظ كما تدل على معانيها الشرعية في زمن الإسلام فإنها تدل على نفس تلك المعاني قبل الإسلام أيضا، إذ كان هنالك متدينون وكانت لهم عباداتهم أيضا، وأنما  يكمن دور الإسلام في أنه احدث مصاديق جديدة في مرحلة التطبيق لتلك المعاني العبادي المعهودة،  لا أنه قد أستحدث نفس المعنى والمفهوم، وهذا هو المعبر عنه بـ(الحقيقة اللغوية).

ومما تجدر الإشارة إليه أن السيد السيستاني قد اختار في هذا الصدد الرأي الاخير (الحقيقة اللغوية)، ولعل الوجه الأبرز في سبب اختياره له هو توافر الأدلة عليه في بعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة وبعض الشواهد التاريخية في كلام العرب شعرا ونثرا مما تفتقر إليه الأقوال الثلاثة الأخر.

‏وبعد اتضاح ذلك، فإنه قد وقع الكلام بين الإعلام في أن النزاع في الصحيح والأعم هل يتوقف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية أم أنه جارٍ مطلقا ؟. 

وممن اختار توقف النزاع في محل الكلام في الصحيح والأعم على القول بثبوت الحقيقة الشرعية الشيخ صاحب الفصول إذ قال: (هذا النزاع إنما يتفرع على القول بأن هذه الألفاظ الموضوعة بأزاء معانيها الشرعية).

‏وتبعه على ذلك المحقق الخرساني في الكفاية بقوله:(انه لا شبهة في تأتي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانها على القول بالعدم اشكال). 

‏وجريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية بالأعم القول الاخير(الحقيقة اللغوية) واضح، إذ أن القائل بالصحيح في هذه المسألة محل الكلام يدعي بأن الشارع قد وضع ألفاظ العبادات ازاء حصة خاصة وهي الصحيحة، أو أن المعاني لتلك الألفاظ قبل الإسلام إنما كانت ضيقة والاستعمال في خصوص الصحيح منها، وبخلافه القائل بالأعم، إذ يدعي بأن الشارع قد وضع تلك الألفاظ ازاء جامع بين المعاني الصحيحة والفاسدة، أو أنه تلك الألفاظ قبل الإسلام كانت واسعة لتشمل الأعم والصحيح معا.

 إلا أن الخلاف ومحل الاشكال إنما هو في تصوير النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ولا اللغوية، وأن تلك الألفاظ إنما كانت تستعمل في معانيها الخاصة في زمانه (صلى الله عليه وآله) بنحو المجاز والقرينة، ‏وأنها إنما صارت حقائق في معانيها في زمن المتشرعة بعده (صلى الله عليه وآله) أي أنها (حقائق متشرعية)، وكذا يمكن تعميم الاشكال للقول بأنها باقي على معانيها اللغوية وأنما الشارع المقدس استعمل تلك الألفاظ في المعاني المخصوصة لأنها من مصاديق تلك المعاني اللغوية لا غير.

‏ووجه الاشكال في ذلك أجمالا: أنما هو في تصوير النزاع بين القائل بالصحيح والقائل بالأعم يكون مرجعه في الحقيقة إلى تحديد المجاز الأقرب إلى المعنى اللغوي، فالقائل بالصحيح مثلا يدعي بأن الصلاة الصحيحة هي المجاز الأقرب للدعاء، بينما القائل بالأعم يدعي بأن الصلاة الأعم من الصحيحة والفاسدة هي الأقرب للمعنى اللغوي المذكور، ويكون الاستعمال في المعنى الثاني في طول المعنى المجازي الأول بما يسمى بـ(سبك المجاز في المجاز).

‏ولكن تصوير النزاع بين القائل بالصحيح والقائل بالأعم بالنحو المذكور من محاولة كل منهما تحديد المجاز الأقرب إلى المعنى اللغوي بنظرة ثم يكون الاستعمال في المجاز الآخر بنحو (سبك المجاز في المجاز)، وإن كان وجيها في نفسه، إلا أن تطبيق ذلك منوط بأحد افتراضين: 

‏1-أن تكون العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الصحيح أقوى وأكد من العلاقة من علاقته مع المعنى الاعم، وهذا وفق نظر القائل بالصحيح ويكون الأمر بالعكس عند القائل بالأعم.

2-أن تكون علاقة المعنى اللغوي الحقيقي مع أحدهما في طول علاقته مع الآخر.

‏وكلا الافتراضين غير صحيح: أما الأول: فلأن علاقة المعنى اللغوي مع كل من المعنيين الشرعيين الصحيح والأعم إنما هي علاقة المشابهة والمشاكلة، ولا تكون مع أحدهما أقوى منها مع الاخر. 

‏وأما الثاني: فلأنه لا معنى للطولية بين المعنيين بعد أن كانت العلاقة المصححة-المجاز والمشاكلة- محفوظة فيهما بدرجة واحدة. 

‏هذا وقد حاول بعض الإعلام تعميم النزاع في الصحيح والأعم حتى على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية وأن الاستعمالات الشرعية في المعاني المخصوصة إنما كانت مجازات مع القرائن في زمان النبي (صلى الله عليه وآله)، وأنها إنما صارت حقائق في زمن المتشرعين بعده (صلى الله عليه وآله)، وذلك بأن نلحظ المتبادر عندنا نحن المتشرعة هل هو الصحيح أو الأعم، وينزل عليه كلام الشارع ويبنى على أن الأصل في استعمال الشارع هو ما يتبادر عندنا، لأن المتبادر عندنا والحاصل بالوضع التٌعيني عند المتشرعة إنما هو بتبع استعمال الشارع، فنستكشف بذلك الاصل في الاستعمال الشرعي وأن كان مجازا.

‏وقد أورد على ذلك بوجوه أهمها:

1-أنه من الممكن أن يكون المتبادر عندنا نحن المتشرعة معنى معين، ولكن لكثرة الحاجة إليه وقد يكون الأصل عند الشارع غيره.

2- بل يمكن أن يكون المعنى الاصل عند الشارع معنى معين، ولكن كثر الاستعمال من الشارع في المعنى المتبادر عندنا لكثرة حاجة الشارع إليه.

3-إنّ ما ذكر لا يجدي في تحديد الاصل في استعمال الشارع المقدس مالم يقم عليه دليل.

‏ ‏هذا وقد حاول بعض الإعلام تصوير تعميم النزاع في الصحيح والأعم حتى على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ولكن بطريق آخر غير ما تقدم، وذلك بتصوير أن النزاع حينئذ بين القائل بالصحيح والقائل بالأعم يرجع في حقيقته إلى محاولة معرفة مقتضى القرينة العامة التي كان الشارع المقدس يعتمد عليها في استعمال هذه الالفاظ الخاصة في المعاني الشرعية مجازا.

 فهل كان استعماله لها في تلك المعاني بنحو تكون القرينة العامة قرينة على تفهيم المعنى الشرعي الصحيح، ولو أراد يوما الاستعمال في الأعم نصب قرينة جديدة على تغيير عادته وإرادة الأعم كما يدعيه القائل بالصحيح.

‏أو أن الأمر بالعكس بأن تكون عادته قد جرت بمقتضى القرينة العامة على إرادة المعنى الشرعي الأعم، وإذا أراد يوما تغيير عادته واستعمال اللفظ في المعنى الصحيح نصب قرينة أخرى على ذلك. 

‏الفرع الثالث: تحقيق المعنى المراد من الصحة والفساد 

اختلفت الأقوال في تفسير المراد بالصحة مثلا في كلمات العلماء وكما يأتي:

أولا: أن المنسوب الى المتكلمين تفسير الصحة بموافقة العمل للأمر الشرعي المتعلق به.

‏ثانيا: بينما المنسوب إلى الفقهاء تفسيرها بكون العمل مسقطا للأداء والقضاء، فمتى ما كان العمل مسقطا لهما فهو صحيح وإلا فهو فاسد. 

‏ثالثا: وفسرها الآخوند في الكفاية بأن المراد بالصحة تمامية الأجزاء والشرائط وإلا فهو فاسد. 

‏رابعا: فسرت بكون العمل محصّلا للغرض المطلوب منه، فإن كل عمل لابد أن يكون له أثر خاص يترقب منه، فأن كان الأثر مترتبا عليه فهو صحيح وإلا فهو فاسد. 

‏وإلى هذا القول الأخير تم ارجاع الأقوال الثلاثة الأولى، إذ أن ظاهر الأقوال الثلاثة الأولى أن الصحة هي نفس موافقة الأمر،- كما في القول الأول- أو نفس سقوط الإعادة والقضاء- كما في القول الثاني- أو نفس التمامية للأجزاء والشرائط- كما في القول الثالث-.

وهذا لا يصح، فلابد من تأويل كلامهم جميعا بأن يكون مقصودهم من الصحة هو حصول الأثر المطلوب ولكن لما كان الأثر المهم في نظر المتكلمين هو موافقة الأمر فسروها بالموافقة، وهكذا بالنسبة إلى الفقهاء، إذ أن الأثر المهم في نظرهم إنما هو سقوط الإعادة والقضاء، وهكذا فسروا الصحة بذلك، وهكذا بالنسبة إلى باقي التفاسير.

وهنا أشار السيد السيستاني إلى أن المراد من الصحة هو التام من حيث الأجزاء والشرائط المعتبرة في ذلك، وأما  الفاسد فهو الناقص لتلك الأجزاء  والشرائط.

‏الفرع الرابع: أدلة الفريقين والحاجة إلى تصوير الجامع على القولين 

استدل القائل بوضع ألفاظ العبادات للأعم بوجوه منها: 

‏الأول: التبادر: بتقريب أن المتبادر في أسماء العبادات كالصلاة مثلا عند إطلاقها هو المعنى الأعم.

‏الثاني: عدم صحة السلب عن الفاسد: بتقريب انه يصح إطلاق اسم العبادة على الفرد الفاسد كما في قوله (صلى الله عليه وآله):" دعي الصلاة ايام اقرأ اقرائك". فأن صلاة الحائض بما أنها فاقدة للطهارة من الحدث فهي فاسدة ومع ذلك أطلق عليها لفظ الصلاة، وظاهر الإطلاق انه حقيقي، إذ لو كانا مجازيا لكان بحاجة إلى قرينة، فإذا صحّ الحمل على الفاسد وعدم صحة السلب عنه يُعلم عدم الوضع لخصوص الصحيح و يتعين الوضع للأعم .

‏والملاحظ على هذين الدليلين أنهما أيضا كانا دليلي القائل بالصحيح- بمعنى كون المتبادر إنما هو لخصوص الصحيح وصحة السلب عن الفاسد.

 والشاهد عنده الطرفين إنما هو العرف والظهور لا غير، لذا فقد دعت الحاجة إلى التماس أدلة أخرى لكل منهما كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

 ولكن قبل التعرض لبقية الأدلة، يجدر التعرض إلى اشكال للأعلام على دعوى التبادر المذكور من قبل الفريقين، وحاصل الاشكال المذكور انه يتوقف القول بالتبادر على كل القولين على تصوير الجامع لتلك الأفراد الصحيحة أو للأعم منها والفاسدة، إذ مع عدم وجود جامع للأعم-مثلا- الذي ينطبق على المصاديق الصحيحة والفاسدة، يثبت عدم الوضع للأعم، لاستحالة وضع لفظ لمعنى لا وجود له في الذهن فلا تبادر أصلا.

‏وكذا الكلام على القول الصحيح، إذ مع عدم وجود جامع ينطبق على المصاديق الصحيحة خاصة، يثبت عدم الوضع للصحيح أيضا لما تقدم من استحالة الوضع لمعنى لا وجود له ذهنا فلا تبادر كذلك. 

‏‏ومن هنا فقد استشكل في دعوى التبادر هذه بعض الإعلام كصاحب الكفاية .

‏وشاركه في ذلك المحقق النائيني قائلا :" تصوير الجامع في غاية الاشكال على الصحيح فضلا عن الأعم، فإن مراتب الصحة مراتب متعددة، كالصلاة مثلا، فإن أقل مراتبها صلاة الغرقى، وأعلى مراتبها صلاة الحاضر المختار، وبينهما وسائط كثيرة، فتصوير جامع حقيقي يكون متعلق الأمر ويجمع تمام المراتب صعب جدا، وأما الأعم فأشكل، فإن كل صلاة فرضت إذا بُدّل بعض أجزائها إلى أجزاء آخر فالصدق على حاله.

‏هذا وقد ذكرت الإشارة إلى وجه الحاجة إلى تصوير الجامع على كلا القولين، وفي بيان محاولات تصويره عليهما، وما في ذلك من النقض والابرام بين الإعلام لا يهم كثيرا التعرض لها، وتطلب من الكتب الموسعة. 

‏ومن هنا فقد ناسب المقام عطف الكلام على باقي أدلة الفريقين كما تقدم ذكره، ومن جملة أدلة القائل بالأعم الأمور التالية:

 الثالث: صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة، فهو دليل على أن المراد من المقْسَم الصلاة بالمعنى الأعم لا خصوص الصحيحة؛ لأن التقسيم إنما هو باعتبار ما للفظ الصلاة من معنى حقيقي.

‏الرابع: حكمة الوضع وطريقة الواضعين، فإنها تناسب الوضع للأعم، إذ مدار حكمة الوضع هي الحاجة، وكما يحتاج لاستعمال اللفظ يحتاج إليه في الفاسد كما لو أرُيد السؤال عن صحة العمل وفساده لو نقص مثلا. 

‏الخامس: النصوص، إذ أطٌلق لفظ الصلاة مثلا في بعض الروايات على الصلاة الفاسدة كما تقدم في صلاة الحائض، أو أنه قد استٌعمل في أسئلة السائلين وأجوبة الأئمة(عليهم السلام) لفظ الصلاة في الفاسد إذ كان السؤال عن الصلاة الناقصة. 

‏ومن الجدير بالذكر أن السيد السيستاني من القائلين بالوضع للأعم- وإنّ كان المعروف بين الأعلام وضعها لخصوص الصحيح- وهو نفس الطريق الذي سلكه الشيخ الآخوند  . 

‏الفرع الخامس: التطبيقات الفقهية في الصحيح والأعم

‏وقع الخلاف بين الأعلام في وجوث ثمرة أو اثنتين أو ثلاث للنزاع المذكور، وعدم وجود إلا ثمرة واحدة مثلا لتأمل جمعا من المحققين فيما زاد عن الواحدة.

أولا: أما الثمرة التي يمكن دعوى صحتها فقد تٌعرض لها في الكفاية قائلا "أنه يجوز التمسك بالإطلاق أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شيء جزءا أو شرطا، ولا يجوز التمسك به على القول بالصحيح، بل يكون الخطاب مجملا ولا بد فيه من الرجوع إلى الأصول العملية.

‏وتوضيح ذلك: أن التمسك بالإطلاق يتوقف على تمامية ثلاث مقدمات: 

‏الأولى: أن يكون اللفظ المطلق قابلا للانطباق على الفرد المشكوك ويكون شاملا له. 

‏الثانية: المتكلم في مقام البيان. 

‏الثالثة: عدم نصب قرينه على التعيين. 

‏ومع تمامية هذه المقدمات الثلاث يصح التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي اعتبار ما شك في اعتباره في المأمور به جزءا أو شرطا. 

‏أو فقل أن الشك في شرطية شيء أو جزئيته أنما يكون بعد صدق الموضوع وإحرازه، فإذا صدق الموضوع وتم إحرازه، فإن كان المتكلم في مقام البيان وأطلق في كلامه فحينئذ يمكن التمسك بهذا الإطلاق وهو اللفظي والاحتجاج به على عدم شرطية أو جزئية المشكوك  للمأمور به.

 وأما إذا كان الموضوع المذكور مجملا فلا محل للتمسك بالإطلاق المقامي لنفي جزيئة أو شرطية المشكوك للمأمور به؛ وذلك لمحل الشك في تحقق أصل الموضوع وعدم إحرازه .

ولعل من المناسب إيضاح الفرق بين الأطلاق اللفظي والمقامي.

فالأطلاق اللفظي: وهو وجود ماهية ما في موضوع أو متعلقة لحكم في قضية لفظية، وصار الشك في هذه الماهية هل هي تمام الموضوع أو تمام المتعلق في مرحلة الإرادة الجدية، أم لا،  أو أنها مقيدة جدا بقيد وجودي أو عدمي غير مذكور.

وأما الأطلاق المقامي: فهو غير متقوم بوجود ماهية مشتركة بين وجود خصوصية وبين الفاقد منها، بحيث تكون قابلة للتقييد بتلك الخصوصية، ولم تقيد بها.  

والفرق بينهما جوهري واقعي، وهو أن نجعل في القضية اللفظية ماهية ما،  سواء في الموضوع أو المتعلق من غير تقييد بقيد خاص، ومع الإمكان التقييد عقلا أو خارجا به، والتقييد لم يحصل، وهذه الماهية هي تمام الموضوع أو تمام المتعلق في مرحلة الإرادة الجدية، بخلاف الاطلاق المقامي فهو غير متوقف على ذلك.        

وعلى ضوء ذلك : فالقائل بالأعم يمكن التمسك بالإطلاق لنفي جزئية أو شرطية ما شك فيه لتمامية المقدمات الثلاثة المذكورة عنده؛ لأنه مع كون الحكم- وفق نظره- قد تعلق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة، يصح عند بالتمسك بالإطلاق لنفي دخالة ما شك في جزئيته أو شرطيته؛ لأن الشك في ذلك إنما هو شك في مدخلية المشكوك في الصحة لا في صدق نفس الموضوع وإلا إذا رجع الشك الى كون المشكوك مقوما للمسمى وعدمه، فإنه لا يصح التمسك بالإطلاق حينئذ لعدم إحراز المسمى أصلا. 

‏وأما على القول بالصحيح فلا يمكن التمسك بالإطلاق لدفع شرطية شيء- كجلسة الاستراحة- مثلا في الصلاة وأنها شرط في الصحة أم لا؛ لأن الحكم بالصحة أنما يرد على الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فلو شك في جزيئة شيء أو  شرطيته، فلا محال يؤول الشك إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للمشكوك فيه؛ لاحتمال دخله في المسمى.

 وعليه فنحن نشك في صدق لفظ الصلاة على الصلاة الفاقدة لهذا الشرط، فلا يمكن حينئذ التمسك بالإطلاق لما تقدم من شرطية إحراز الموضوع قبل التمسك بالإطلاق.

 هذا وقد اشٌكل على هذه الثمرة بأنها فرضية لا تحقق لها في الخارج، إذ  تحققها فرع كون الإطلاقات في مقام البيان، مع أن الإطلاقات ليست إلا في مقام التشريع والحث والترغيب، وأما تفصيلات الأجزاء والشرائط فلا بد من ثبوتها من أدلة أخرى غير إطلاقات وعمومات الكتاب العزيز، كقوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين﴾.

‏ وقوله عز من قائل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ﴾.

وقوله عز وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾.

‏وأما إذا كانت تلك الخطابات في مقام تعداد الأجزاء والشرائط الواردة كما في صحيحة حماد- الوارد فيها تعليم الإمام الصادق (عليه السلام) لحماد بن عيسى كيفية الصلاة المطلوبة بنفس فعله وقيامه(عليه السلام)؛ لأدائها أمامه- فالقائل بالصحيح بإمكانه التمسك بالإطلاق أيضا كالقائل بالأعم لنفي جزئية المشكوك فيه؛ للسكوت عنه في مقام البيان.

وأجيب عن هذا الاشكال المذكور: بأنه ما ذكر من تمسك القائل بالصحيح بالأطلاق إنما هو من التمسك بالأطلاق المقامي، ومحل الكلام في ترتب الثمرة وأن التمسك بالأطلاق إنما يمكن للقائل بالأعم خاصة إنما هو الأطلاق اللفظي.

والفرق بينهما ظاهر ومعلوم، إذ أن التمسك في الأطلاق المقامي إنما يكون بدلالة السكوت وعدم الإتيان بالفعل في مقام البيان لتٌنفى جزئيته أو شرطيته.

بينما التمسك في الأطلاق اللفظي بإطلاق اللفظ في مقام البيان وعدم الإتيان بما يوجب التقييد .

فبناءٍ على القول بالصحيح لا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي على جميع المسالك الأربعة في الحقيقة الشرعية 

وأما السيد السيستاني بناء على مسلكه بأن الصلاة والزكاة ماهيات اعتبارية فقد استشكل في التمسك بالإطلاق اللفظي من غير فرق بين القول بالصحيح أو الأعم.

واما الإطلاق المقامي فبناء على القول بالأعم فأنه يمكن الأخذ به كما في صحيحة حماد، إذ أنه في مقام العمل، فهو يسأل الامام عن الصلاة اليومية.

فهذه الثمرة لا وجه لها على مسلك السيد السيستاني، وأما على ضوء المسالك الثلاثة فلها وجه .

‏هذا وقد تتعرض الإعلام للكلام في جريان هذه الثمرة وعدمه في المعاملات  وتركت ذكره للاختصار.

ثانيا: وهي عدم إمكان جريان البراءة في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر بناءٍ على القول بالصحيح، بخلاف القول بالأعم فلا محذور من جريان البراءة.

والسر في جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين هو انحلال  التكليف المستتبع لانحلال العلم الإجمالي، وهذا الانحلال موجود بناء على الأعم وأما بناء على الصحيح فغير موجود بناء على بعض المسالك.

وأما مسلك السيد السيستاني فسر جريان البراءة مختلف عنده بخلاف المسالك الأخرى، فالسر عنده أن انحلال  العلم الإجمالي انحلال التكليف- مجرد انحلال التكليف الى تكاليف واحدة- لا حكمي ولا حقيقي. 

ثالثا: إن الفاظ العبادات كما تكون متعلقة للأحكام، فهي أيضا موضوعات لجملة من الاحكام، وتظهر النتيجة في ذلك على اختلاف القولين الصحيح والأعم، فالقائل بالصحيح يذهب الى أن الصلاة هي التامة الأجزاء والشرائط، بخلاف من التزم بالأعم فيكون الموضوع أعمّا.    

‏ومن التطبيقات العملية الفقهية للنزاع المذكور ما قيل في موردين:

أولهما: ما إذا ورد النهي عن المحاذات بين الرجل والمرأة في الصلاة، وعلمنا بفساد صلاة المرأة، فعلى القول بوضع الفاظ العبادات للصحيح، تصح صلاة الرجل ولا يشملها النهي، بخلاف ما إذا قلنا بأنها موضوع للأعم فيشملها النهي.، وقد اختار السيد السيستاني البطلان، أو أنه لا يترتب على صلاته شيء لأجل بطلان صلاة المرأة.   

‏ثانيهما: ما إذا نذر الرجل أن يعطي درهما للمصلي، فعلى القول بوضعها للصحيح لا يجزي ولا تبرأ ذمته إلا بإعطائه لمن صلى صلاة صحيحة، بخلافه على القول بالأعم فيجزي مطلقا، سواء أكانت صلاته صحيحة أم  فاسدة. 


المباني الأصولية عند السيد علي السيستاني وتطبيقاتها الفقهية - مهدي زيدان الكعبي

تعليقات