نظرية الهوهوية في مبحث الوضع عند السيد السيستاني

المبحث الثالث: نظرية الهوهوية في مبحث الوضع

من المباني الفلسفية التي اعتمدها السيد السيستاني في علم الأصول تطبيقه لنظرية الهوهوية في جملة من المسائل الأصولية، ويكفي في بيان أبعاد هذه النظرية  تطبيقه لها في مبحث الوضع، وليس السيد السيستاني أول من طبق تلك النظرية لتفسير حقيقة الوضع، بل هو رأي سابق عليه وبحدود اطلاع البحث فأن أول من تبناه هو السيد البجنوردي ، وبعد أن تتبين أبعاد هذه النظرية في هذا المبحث إن شاء الله، سنذكر في ذيله إن شاء الله المباحث الأصولية الأخرى التي استعمل فيها السيد السيستاني هذه النظرية.

والبحث عن حقيقة الوضع بالأساس من مباحث علوم اللغة، والتدقيق في مباحثه يدخلنا في فقه اللغة، لكنه أدرج في علم الأصول لارتباط بعض المسائل الأصولية به كمسألة استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، وقد تطور على أيدي الأصوليين ليجتاز بنضجه ودقته ما موجود عند اللغويين، وسر هذا التطور هو حاجة الأصوليين الى البحث بدقة عن كل ما يرتبط باستنباط الحكم الشرعي، فتصبح تلك المسائل دينية عندهم فيعملون الوسع في نتائجها فأن المجتهد لا يكون مجتهداً في العلوم الشرعية المباشرة فحسب، بل في كل العلوم الدخيلة في الوصول الى الحكم الشرعي كعلوم اللغةً فيعمل وسعه حتى في هذه العلوم ويجتهد، وإلا لو كان مقلدا في بعض تلك العلوم لكانت النتيجة فيما يتوصل اليه هي التقليد لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات، ويكون بنائهم على الظن، الذي بني علم الأصول في المدرسة الأمامية على عدم العمل به، وقد تفرعت على مبحث الوضع جملة من الثمار المهمة في علم الأصول والتي تختلف وفقا للنظريات العلمية التي يذهب إليها الأصولي في هذا المبحث، ومن المسالك التي تصدت لتفسير حقيقة الوضع والعلاقة بين اللفظ والمعنى هو مسلك الهوهوية الذي اختاره السيد السيستاني، في مقابل مسلك السببية والتلازم الذي تبناه جملة من الأعلام على اختلاف نظرياتهم التي تقود الى هذا المسلك، ولابد هنا من تفصيل بعض المطالب لتتضح أبعاد هذا المسلك من جهة، ولتتضح من جهة أخرى بعض أسباب الخلط والاختلاف الحاصلة في بعض مباحث الوضع، وها هنا مطالبٍ أربعة:

المطلب الأول: الوضع ومراحله.

المطلب الثاني: تصوير الهوهوية في مبحث الوضع.

المطلب الثالث: نقد مسلك الهوهوية.

المطلب الرابع: ثمرات ونتائج القول بنظرية الهوهوية في علم الأصول.


المطلب الأول: الوضع ومراحله:

            من المؤكد أنه لم تتم عملية وضع اللفظ للمعنى دفعة واحدة  وحتى لو فرضنا أن اختيار الألفاظ للمعاني تم دفعة واحدة - وهو أمر في غاية البعد- فأن أهل اللغة حتى يثبت عندهم ارتباط اللفظ بالمعنى لابد من أن يمر ذلك عندهم بمراحل، فإذا كانت عملية الوضع - ويقصد به المعنى المصدري وهو نفس جعل اللفظ بإزاء المعنى والإشارة الى هذا الجعل ليحصل الارتباط بينهما، وهو مطابق للمعنى اللغوي من وضع الشيء في المكان، بمعنى إثباته فيه تتم بمراحل، فأن أحد أسباب الاختلاف الحاصل بين الأصوليين في تعريف الوضع هو تعريفه بتعريف بعض مراحله وفقا لمباني كل واحد منهم، وحتى يتضح هذا المعنى نذكر المراحل الأربعة التي يتم بها الوضع وتحصل بها دلالة الألفاظ التصورية والتفهيمية عند السيد السيستاني(*)، وليتبين من خلالها نظر الأعلام الآخرين للوضع، والمراحل الأربعة هي: 

المرحلة الأولى : مرحلة الانتخاب: سواء كان انتخابا فرديا- كما ينتخب احدهم لابنه اسما- أم جماعيا -كما في الانتخاب الجماعي كظاهرة اللغات-، والانتخاب هو الوضع بالمعنى المصدري اللغوي، وأما الاسباب والعوامل التي تدعو الفرد والجماعة لهذا الانتخاب فلسنا بصددها في هذا المبحث، ولكن السيد السيستاني ذكر أن حقيقة هذا الانتخاب هو اعتبار أدبي(**) ومعنى الاعتبار الأدبي اعطاء حد شيء لشيء آخر لنقل الاحاسيس للشيء الآخر وتوجيهها نحوه فكذلك عملية الوضع لون من ألوان الاعتبار الأدبي، والمصحح لهذا الاعتبار هو التمهيد لحصول العلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى.

المرحلة الثانية : مرحلة الإشارة للمعنى باللفظ: وهي مرحلة كالأولى من حيث أنها ممهدة لحصول العلاقة بين اللفظ والمعنى، ولا شك أن الانتخاب لوحده غير كافٍ لحصول العلاقة المخصوصة بين اللفظ والمعنى فلابد أن تنضم لمرحلة الانتخاب العوامل الكمية التي تكون بتكرار الإشارة للمعنى باللفظ، والعوامل الكيفية كاحتفاف الكلام بالقرائن المشيرة للمعنى، ليحصل إظهار المعنى ووضوحه عبر هذه القرائن، وهذا الأمر أشار اليه من قبل السيد الصدر في حصول الاقتران بين اللفظ والمعنى في نظرية الاقتران المؤكد .

وعملية الانتخاب التي تقدمت في المرحلة الأولى قلنا إنّها اعتبار أدبي غير متأصل، إلا أنه بوصوله لمرحلة الإشارة والتفهيم يتحول الاعتبار لكونه حقيقة متأصلة تكوينية بين اللفظ والمعنى، ومن مؤاخذات السيد السيستاني على الأصوليين في مسالكهم في الوضع، هو دمجهم للمرحلتين الأولى والثانية وصهرهما في صياغة واحدة، مع أن المرحلتين متغايرتان فالأولى مرحلة جعل اعتبارية، والثانية مرحلة إظهار المعنى باللفظ مع القرينة وهي مرحلة واقعية .

وهذا البيان للانتقال من المرحلة الاعتبارية الى المرحلة الواقعية، هو ما دافع به السيد السيستاني عن الاختلاف الواقع في كلمات المحقق العراقي الذي يعبر تارة بأن الوضع ملازمة اعتبارية بين اللفظ والمعنى، وتارة بأنه ملازمة واقعية .

المرحلة الثالثة : مرحلة التلازم والسببية الذهنية: ومعناها أنه بعد تأكد العلاقة بين اللفظ والمعنى وترسخها يستغنى اللفظ في مرحلة اخطاره للمعنى عن القرائن المشيرة ويصبح اللفظ سببا لإخطار المعنى ذهنا، بمعنى أن مجرد تصور اللفظ يستلزم تصور المعنى، فالمرحلة الثالثة هي مرحلة تحقق العلاقة الوضعية في نظر أكثر الأصوليين لحصول سببية اللفظ لتصور المعنى، لذلك يقف كثير من الأصوليين في حقيقة الوضع عند هذه المرحلة معتبرين أن حقيقة الوضع هي هذه السببية ، والذي يراه السيد السيستاني هو أن هذا القدر من التلازم هو مقدمة قريبة ومعد لحصول العلاقة الوضعية والتي تحصل بالمرحلة الرابعة.

إنّ منشأ العلاقة السببية هو قانون تداعي المعاني كما هو مبحوث في علم النفس في مدرستها التحليلية ، ويقصد به  تلازم المعاني واقترانها في الخطور الذهني .

وبعبارة أخرى: صورة تستتبع صورة أخرى، وذكر السيد السيستاني عوامل تؤدي الى تداعي المعاني، وهي كثرة الاقتران بين الشيئين، والتشابه بين الشيئين والتضاد بينهما، وقد فصل بيان كل واحد من هذه العوامل .

المرحلة الرابعة : مرحلة الاندماج والهوهوية بين صورة اللفظ وصورة المعنى: والتي تعني اندكاك صور اللفظ في صورة المعنى ذهنيا وفناء أحدهما في الأخر، فبعد حصول المراحل الثلاث المتقدمة، فالوجدان الذهني لا يرى صورتين صورة للفظ وصورة للمعنى وكون الأولى سببا للثانية كما في المرحلة السابقة التي هي التلازم والسببية، بل يصبح احضار اللفظ هو احضار للمعنى، وسيأتي مزيد بيان لمعنى الهوهوية.

وبعد وضوح المراحل الأربعة يمكن استعراض بعض الأقوال في حقيقة الوضع وملاحظة اسباب الاختلاف فيه، فالسبكي (ت: 756 هـ) يرى أن الوضع :(عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء إذا أطلق الأول فهم منه الثاني)  وهو ناظر بصورة عامة للمرحلة الأولى والثالثة، وعرف بأنه: جعل اللفـظ بإزاء المعنى  وهو تعريف عام للوضع بالمعنى المصدري وهو مقارب للمعنى اللغوي ومن حيث المراحل المتقدمة فهو تنصيص على مرحلة الانتخاب وأما ما عداها فمجمل في هذا التعريف، وأما المتأخرون فالمحقق الخراسـاني (ت: ۱۳۲۹هـ) عرفه بأنه: (نحو اختصاص للفظ بالمعنى ، وارتباط خـاص بينهما ، ناشئ من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه أخرى) ، وهو تعريف أكثر تفصيلاً من التعاريف السابقة حيث يظهر منه أنه يختار علاقة التلازم والسببية بين اللفظ والمعنى، ملاحظا منشأ حصول العلقة بينهما وأنها تارة تكون على نحو التعيين كالأوضاع الشخصية، وتارة تكون على نحو التعيّن واشتهار استعمال اللفظ في معنى حتى يتعين في الأذهان . 

وعرّفه السيد الخوئي بحسب مسلك التعهد المعروف للمحقق النهاوندي وتبعه أيضاً المحقق الحائري وأغا رضا الاصفهاني بأنه: (عبارة عن التعهد بإبراز المعنى الذي تعلق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص) وهو ناظر الى أن حقيقة الوضع لا تتم إلا ببناء ارتكازي عقلائي بالتعهد من قبل الواضع والمستعمل بإبراز المعنى المقصود من خلال لفظ مختص به، وهو في الحقيقية ليس مقابلا للمسلكين المتقدمين، إلا إنه يٌبين سبب التباني بين أهل اللغة وحصول التلازم بين اللفظ والمعنى من خلال هذا التباني العقلائي الذي يراه في حقيقة الوضع، مضافا الى أن نظر الوضع في هذا المسلك هي الدلالة التصديقية.

ولابد من التمييز بين بحثنا عن حقيقة الوضع وأنه من باب السببية والتلازم أو الهوهوية، وبين الطريق الممهد لحصول مرحلة التلازم أو الهوهوية، وهل أن هذا الطريق هو الاختصاص كما هو رأي صاحب الكفاية، أو التعهد كما هو مختار السيد الخوئي، أو القرن المؤكد كما هو رأي السيد الصدر، أو غير ذلك من النظريات وقد نبه السيد السيستاني على الفرق بين محل البحث بين هذين المبحثين بشكل واضح إلا أن بعض الأصوليين جعل نظرية التعهد في مقابل القول بالسببية والهوهوية، فوجب التنبيه على الفرق بين جهتي البحث في المسألتين.

بقي أن من الأعلام القائلين بمسلك السببية والتلازم صريحا هو المحقق العراقي(ت : ١٣٦١هـ)، لكنه يظهر منه القول بالهوهوية في موضع آخر كتعريفه للوضع بأنه: " نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيـه فنـاء المرأة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولاً عنه وبإلقائـه كـأن المعنى هو الملقى بلا توسيط أمر في البين" .

وقد يقال في سبب هذا الاختلاف هو ان من يقول بالهوهوية يرى ان الهوهوية تحصل بعد اللزوم والسببية بين اللفظ والمعنى، فأن عملية الاستعمال اللغوي المتكرر تفضي الى مثل هذا الاندماج بين اللفظ والمعنى في الذهن، ولكن سيأتي في دفع الإشكالات الواردة على مسلك الهوهوية بيان اختلاف النظر بين هاتين المرحلتين، وللأعلام آراء مختلفة في حقيقة مذهب المحقق العراقي في الوضع ولكن لا مجال لإيرادها هنا.

وأما السيد السيستاني فقد جعل حقيقة الوضع هو الهوهوية: أي أن اللفظ هو المعنى من حيث الصورة الذهنية، ومنشأ علاقة الهوهوية – على الرغم من عدم بيان الفلاسفة لها- هي كثرة الحمل؛ لأن كثرة حمل اللفظ على المعنى بجانبه الكمي وهي الكثرة(*)، وبجانبه الكيفي بانضمام المثيرات والأساليب الدعائية والإعلامية المختلفة يوجب تأكيد ورسوخ العلاقة بينهما بحيث يصبح اللفظ وجها للمعنى، فيكون المعنى فأنياً ومندمجاً في اللفظ، بذوبان الفواصل والغيرية بينهما، حتى يكون وجودهم الذهني واحدا، فاللفظ هو المعنى تنزيلا، ولهذا يكون لحاظ المستعمل للفظ لحاظاً آلياً وأمَّا ما يلحظه ابتداءً واستقلالا حين استعمال اللفظ فهو المعنى وهذا هو مقتضى التنزيل، ولهذا يكون إيجاد اللفظ ايجاداً للمعنى لأنَّه هو هو، فاشتقوا المصدر الصناعي (الهوهوية) تعبيرا عن هذا المسلك .

وسيتبين هذا المسلك أكثر في أثناء مباحث هذا الفصل  .

المطلب الثاني: تصوير الهوهوية في مبحث الوضع:

كيف نتصور الهوهوية بين اللفظ والمعنى؟ وكيف يصبح الشيئين المختلفين شيئا واحدا؟ هل المقصود الهوهوية المفهومية؟ وهذا مستحيل لأن المفاهيم جزئية مصداقا ونتيجة لذلك  فلابد أن تكون متباينة، وهل المقصود الهوهوية المصداقية؟ وهذا مستحيل أيضاً؛ لأن عالم اللفظ مغاير لعالم المعنى من حيث المصداق الخارجي، ومع ذلك سنقول بالوحدة المصداقية ولكن بطريقة مختلفة، فكيف نصور تلك الوحدة والهوهوية؟ .

طرح السيد السيستاني لأجل توضيح مذهبه ملامح مميزة لنظرية الهوهوية: 

الأول: أنه يجوز عند الفلاسفة بأن تتعدد الماهية للوجود الواحد، فرغم اتفاقهم على أن الوجود الواحد لا تكون له ماهيتان في عرض واحد، باعتبار أن الماهية منتزعة من الوجود فهي حد الوجود الحاكي لمرتبته الواقعية، ولو كان له ماهيتان لكان الشيء الواحد في ذاته شيئين وهو مستحيل، لكن لا مانع من أن يكون للوجود الواحد ماهيتان طوليتان تتفرع إحداهما على الأخرى، فتكون الماهية الأولى حد للوجود بما هو في ذاته، والماهية الأخرى هي أيضاً حد للوجود ولكن بما هو مقترن بالماهية الأولى، ومثل لذلك بالدينار الذي له وجود واحد ولكن له ماهيتان، ماهيته من حيث  تكوينه وكونه نوعا من أنواع الورق الخاص، وله ماهية  اعتبارية وهو كونه وسيطا في تبادل السلع وميزانا عند الناس لتقييم الأشياء، كذلك في قولنا (حاتم) نشير الى حصول ماهيتين لأمر واحد، وهو ماهية كونه انسانا، وماهية اعتبارية وهي كونه رجلا عربيا من بني طي وهو القدوة في الكرم والجود (*). 

وفي محل حديثنا ما المانع أن يكون للفظ الذي مر بالمراحل المتقدمة ماهيتان طوليتان ماهيته الذاتية بما هو لفظ وهو كونه من مقولة الكيف المسموع وماهيته الثانية الطولية بمعنى المتفرعة على الأولى وهي التي تحصل نتيجة حصول السببية والتلازم بين اللفظ والمعنى أو بتعبير آخر ماهية هي نفس ماهيته الأولى بما هي مقترنة بالمعنى، وهي صورة المعنى المندمجة في صورة اللفظ، فيكون وجود اللفظ وجود الماهية التكوينية الكيفية وحضور لماهيته المعنوية وهي صورة المعنى (*).

وهذا هو الوجود اللفظي للمعنى كما عبر عنه الفلاسفة ، ونفس هذا الاعتبار منهم بأن وجود اللفظ وجوداً للمعنى هو دليل على حصول علاقة الاندماج والهوهوية بين صورة اللفظ وصورة المعنى، من دون وساطة. 

الثاني: ومن الملامح المميزة التي تبين نظرية الهوهوية هو ما ذكره بعض الأصوليين من حصول فناء اللفظ في المعنى بحيث يصبح اللفظ كالمرآة التي يغفل الناظر عنها حين قصده رؤية المنظور فيها، فيكون المنظور هو المعنى من دون التفات اطلاقا الى خصوصيات اللفظ البنائية والاعرابية والصوتية، فهذا الفناء هو معنى الهوهوية والإندماج، واندكاك الصورتين في صورة واحدة، في حين لو كانت العلاقة بين اللفظ والمعنى هي علاقة السببية واللزوم، لم يحصل مثل هذا الفناء والاندماج، فأن السبب لا يغفل عنه حين الانتقال للمسبب. 

الثالث: ومن الملامح المميزة الأخرى للهوهوية والتي توضح هذه النظرية ما طرحه الأصوليون من أن تصور الشيء يكون بلحاظين: اللحاظ الأول تصوره بنفسه،  واللحاظ الثاني تصوره بوجهه، كتصور الكلي فأنه يمكن لحاظ المعنى من وجه الكلي المنطبق عليه، فهو تصور للمعنى بوجهه لا بنفسه، وقد طبقوا هذا المعنى على اللفظ والمعنى، فاللفظ بما هو صوت لغوي تكون ماهيته وتصوره بنفسه بما هو كيف مسموع، ولكن بما أن ماهية المعنى منعكسة في هذا اللفظ فتصور اللفظ في أذهان أبناء اللغة هو تصور المعنى نفسه بوجهه، فتكون بينهما علاقة المرآتية، ومعنى المرآتية هنا وجود صورة واحدة ماهيتها وطبيعتها المرآتية للمعنى الواقعي ، لا كما في مسلك السببية حيث وجود صورتين متلازمتين.

يقول السيد السيستاني: " إذن فما نريد قوله هو: أن الملحوظ وجداناً عندنا أنه بعد الاحساس باللفظ تكون هناك صورة واحدة في الذهن وهي صورة اللفظ وهذه الصورة نفسها مشيرة للمعنى على نحو يكون المفهوم اللفظي مغفولا عنه والتوجه الأساسي للمعنى، وليس هناك صورتان إحداهما مستلزمة لحضور الأخرى، والشواهد التي عرضناها محاولات لتقريب هذه الفكرة عندنا وإلا فالدليل الوحيد في القضايا النفسية والذهنية هو الوجدان".

وسيأتي من خلال النقد المتوجه لمسلك الهوهوية في الوضع، ما يزيد هذا المسلك وضوحاً.

المطلب الثالث: نقد مسلك الهوهوية.

توجهت لنظرية الهوهوية جملة من الانتقادات وفي هذا المبحث سوف نستعرض أهمها.

الأول: ما ذكره السيد الخوئي ومحصله: أن تنزيل شيء مكان شيء آخر يحتاج إلى مصحح، والمصحح للتنزيل ترتيب آثار المنزل عليه على المنزل، ففي الحديث: (الطواف بالبيت صلاة) نوع من التنزيل لم يصح إلا باعتبار ترتيب آثار الصلاة ولوازمها على الطواف، وعندما يقوم الواضع بجعل الهوهوية فهو تنزيل وجود اللفظ منزلة وجود المعنى، مع أنه لا تترتب آثار المعنى من طلبه أو النفور منه على اللفظ بمجرد هذا التنزيل فلا مصحح له .

وأجاب عنه السد السيستاني بعد تسلميه أن اعتبار الهوهوية لون من ألوان التنزيل والاعتبارات الأدبية، بأن المصحح وترتب الآثار المصححة للتنزيل يكفي حصولها ولو بالواسطة ولا وجه لتوقف مصححيته على الترتب المباشر، فتنزيل الشجاع منزلة الأسد من الهيبة والعظمة في النفوس يتم ولو بواسطة كثرة الحمل والاطلاق  في محل كلامنا كذلك يكفي في تنزيل وجود اللفظ منزلة وجود المعنى واعتبار الهوهوية بينهما ترتب لوازم المعنى وآثاره على الوجود الذهني للفظ ولو بواسطة كثرة الحمل والاطلاق بدون حاجة للترتب المباشر.

وأجاب آخرون بأن هنا فرقاً بين تنزيل شيء منزلة شيء آخر بلحاظ ترتيب الآثار، وبين اعتبار شيء مقام شيء آخر .

ويرى البحث أن أصل إشكال مصححية التنزيل وترتب الآثار لا يأتي في المقام؛ لأن الواضع لم يجعل الهوهوية بمعنى الجعل المتعاهد لأن الهوهوية محلها النفس وأذهان أهل اللغة، ولا مجال للجعل فيها، وأنّما الجعل للمقدمات التي تكون معدا لحصول الهوهوية في الذهن، وإذا كان حصول الهوهوية في الذهن ليس بفعل الواضع وجعله مباشرة ، وأنّما بواسطة المقدمات وكثرة الحمل، فلا يأتي الإشكال بالمصحح للتنزيل؛ لأنه لا يقصد هنا التنزيل بفعل فاعل كالاستعارة مثلا في تنزيل الرجل الشجاع مثابة الأسد، أو تنزيل الحكومة كما في مثال (الطواف بالبيت صلاة) كي يحتاج المصحح الذي ذكروه، وأنما هو فناء صورة اللفظ في صورة المعنى ووحدتهما ذهنا بفعل أن النفس لا تحوز الملكة اللغوية إلا بفناء  التمييز بين اللفظ والمعنى كما سيأتي.

الثاني : ما ذكره السيد الخوئي أيضاً: من أن الهدف من الوضع حصول دلالة اللفظ على المعنى، وتلك الدلالة تتوقف على دال ومدلول متغايرين فالدال هو صورة اللفظ والمدلول هو صورة المعنى فاعتبار الهوهوية يخالف أصل الهدف وهو الدلالة .

ويلاحظ السيستاني على هذا الإيراد بأن فيه نوعا من المصادرة على المطلوب؛ لأن تقوم الدلالة بالطرفين المتغايرين أنما هو بناءً على السببية والتلازم وأما بناءً على اعتبار الهوهوية واندماج صورة المعنى في صورة اللفظ، فهو منسجم تماماً مع نتيجة الوضع وهدفه .

ويرى الباحث أن أصل الإشكال غير متوجه على هذه النظرية وكذا رد السيد السيستاني عليه مجمل ويحتاج الى مزيد من التفصيل وإلا بظاهره فيه مقابلة بين الهوهوية وبين القول بالسببية مع أن السببية والتلازم من مقدمات القول بالهوهوية ، فالصحيح في الجواب أن القائل بالهوهوية يسلم المغايرة بين اللفظ والمعنى في مقدمات الوضع، وصولا الى السببية والتلازم، وأما في مرحلة الهوهوية فلا مغايرة، وأما الدلالة وتغاير الدال و المدلول بعد الوضع فهي تمييز عقلي، وإلا فالهوهوية لا ترى هذا التمايز، ولكن العقل إذا توجه الى تعليل حصول العلم بشيء من شيء آخر، يميز بين الدال والمدلول، من صورة واحدة ذهنية غير متميزة في نفس أهل اللغة.  

الثالث : ما عن السيد الخوئي أيضاً بأن تفسير الوضع وفقا لمسلك الهوهوية يحتاج الى عمق في النظر ودقة في التفكير بعيدة عن أذهان غير المتخصصين، وبسطاء الناس الذين تكون عملية الوضع من خلالهم غالبا فأنه يصدر حتى عن الأطفال .

وأجاب عنه السيد السيستاني بأن هذا وارد على المسالك الأخرى فينقض على السيد الخوئي بمسلك التعهد النفساني، مع أن مسلك الهوهوية أمر سهل لا يحتاج لعمق فلسفي لأنه لون من ألوان المجاز وهو الاستعارة وهو ما يقوم به أغلب أبناء اللغة لأن حقيقتها هي اعتبار الهوهوية، كقول الشاعر: 

قامت تظللني ومن عجب --- شمس تظللني من الشمس.

فاعتبار الهوهوية من المرتكزات المستقرة في أذهان المجتمعات فلا مانع من تصوير الوضع وفقا لهذا المسلك .

الرابع: ما ذكره الشيخ اللنكراني: هذا المسلك يرى أن الشخص في مقام الاستعمال يرى المعنى فقط دون اللفظ ، ويعتبر ذلك دليلا على الاتحاد والتنزيل، ولكن هذا لا يصلح دليلا؛ لأن هذا المعنى موجود في كل مسلك يرى أن اللفظ آلة، مضافاً إلى وجود الفرق بين مقام الوضع والاستعمال; فأنه لا شكّ في كون الواضع في مقام الوضع لابدّ أن ، كما يتصوّر المعنى كذلك، بخلاف مقام الاستعمال.

ويرى البحث أن هذا الإشكال غير وارد على هذا المسلك، أما أنّ لحاظ اللفظ لحاظ آلي وهو موجود في كل مسلك، ونتيجة لذلك  فالآلية لا تصلح دليلا لمسلك الهوهوية، فقد أجاب عنه السيد السيستاني فيما تقدم ضمن هذا المبحث من أن الشواهد التي يعرضها مجرد محاولات لتقريب هذا  المسلك وإلا فالدليل الوحيد في القضايا النفسية والذهنية هو الوجدان.

وأمّا وجود الفرق بين مقام الوضع والاستعمال فأن الواضع لابد أن يتصور اللفظ مستقلا فهذا يسلم به صاحب هذا المسلك، ففي مرحلة الانتخاب مثلاً وهي من مراحل الوضع كما تقدم لابد من وجود استقلال لتصور اللفظ واستقلال لتصور المعنى، بل وهذا الاستقلال موجود في مرحلة الإشارة ومرحلة السببية والتلازم أيضاً، فدعوى الاستقلال في مقام الوضع لا تضر بهذا المسلك، فأنه لا يدعي عدم الاستقلال إلا في مرحلة الهوهوية.  

الخامس: ما عن بعض الأعلام: من أن التنزيل يحتاج الى ادعاء وعناية ومن البديهي عدم تحققها حين الوضع فهل الوالد الذي يضع اسما لولده يدعي أن هذا بمنزلة ذاك، أو يدعي مسامحة أن هذا هو ذاك؟ .

وقد تقدم الجواب عما يقارب هذا الإشكال في الإشكال الأول في المصحح للتنزيل من ترتب لوازم المعنى واثاره على الوجود الذهني للفظ، ويرى البحث أن هذا الإشكال 

غير وارد، فالمثال المذكور هنا بوضع الوالد إسم لولده ناظر الى مرحلة الانتخاب، ولا عناية فيها، وانما المراد تنزيل وجود اللفظ منزلة وجود المعنى وحصول الهوهوية بينهما، وهذا يحدث بوحدة صورة المعنى وصورة اللفظ ذهنا، فعند السيد السيستاني أنه بعد أن كان للفظ والمعنى ماهيتين مستقلتين تكون العناية بأن لهذا الوجود ماهية أخرى عرضية بسبب شدة الاقتران بين اللفظ والمعنى إذ يصبح وجودهما الذهني له صورة واحدة، وأمّا البحث فلا يسلم بأصل الإشكال فأن الهوهوية ليست من باب العناية والمسامحة كما في الاستعارات التي تنقل صورة الرجل الشجاع لصورة الأسدية كي يستدل المشكل بتسمية الوالد للولد والتي قد لا تحمل أي نوع مقصود من التشبيه والعناية، بل الهوهوية هي نوع من الوحدة التي تحصل بعد حصول الملكة اللغوية في النفس بحيث يصبح الاستعمال اللغوي له صورة باطنية في النفس لا تحتاج فيها الى التمييز بين اللفظ والمعنى كتمثلها لكل ملكاتها ووحدتها بها.

السادس: ما ورد عن السيد الحائري بما محصله: إنّ العلاقة الوضعيّة إذا كانت عبارة عن حصول الهوهويّة الحقيقيّة أو التوحّد الحقيقيّ بين صورة اللفظ وصورة المعنى،ويتم ما يقال من فناء اللفظ في المعنى أو مرآتيّته له، فالوحدة إما مفهومية وإما مصداقية وكلاهما مستحيلتان أن يتحققا بين اللفظ والمعنى وكيف يمكن ادعاء توحد الصورتين حقيقة على الرغم من تعدد ذي الصورة مع وضوح أن كل ذي صورة أنما يشع صورته دون صورة شيء آخر .

وأجاب السيد الحيدري: بأن هذا الإشكال من السيد الحائري غير وارد، والسبب في ذلك أن السيد السيستاني لا يريد أن يدعي التوحد بين واقع اللفظ وواقع المعنى الخارجيين، فأن بطلان ذلك من أوضح الواضحات، وإنما يقصد التوحد بين صورتيهما الذهنيتين، وبعبارة أخرى ليس مقصوده قطعاً التوحد بينهما بالحمل الشائع، ولا التوحيد بالحمل الأولي، وأنّما يقصد التوحد بين صورتيهما الذهنيتين، بمعنى أنه يكون في مقام الإثبات لا إثنينية بين اللفظ والمعنى، وإن كان في مقام الثبوت توجد إثنينية مفهومية واثنينية مصداقية، ولكن في مقام الالتفات والتوجه تنظر إليهما باثنينية، وإلا في غير هذا المقام لا يشهد صاحب اللغةً تعدداً وإنما يرى شيئاً واحداً، ومثل له بالواقف أمام المرآة ليرى صورته فيها، فأنه لا يلتفت الى المرآة بما هي مرآة، لأن كل توجهه كان إلى صورته في المرآة، أما عندما يذهب إلى السوق لشراء المرآة فليس توجهه الى النظر لصورته بل النظر إلى نفس المرآة وأنها صافية وصقيلة وهكذا . 

وقد تقدم في الرد على الإشكالات السابقة بيان مورد الهوهوية والوحدة ومورد التغاير والتمييز ويأتي توضيحه في النقد والتقويم.

هذه أهم الإشكالات التي أوردت على مسلك الهوهوية، وقد تمت الإجابة عنها جميعا.

نقد وتقويم: بقي أنه يمكن للبحث أن يضع إشكالاً على كلا المسلكين (السببية والهوهوية) وإن كان ليس المقصود نقضهما، وأنمّا بيان رجوع الخلاف أساسا بينهما الى اختلاف نظر المسلكين الى مراتب مختلفة من الوعي الإنساني، فأن نظر مسلك السببية بكل نظرياته المتقدمة الى التمييز العقلي القائم على التعليل فمن يحاكم الوضع من خلال نظر العقل لابد له من هذا التحليل، وأما الهوهوية فمرجعها الى حصول الملكة اللغوية وحصول هيأة باطنية في النفس، ومعنى تحول اللغة الى هيئة باطنية في النفس أن الأفعال المتكررة تتحول بتوجه النفس المستمر إليها الى ملكات في النفس بحيث يضاف للنفس قوة أو ملكة لا تتميز عنها وقد قال الفلاسفة أن النفس في وحدتها كل القوى فليس بين النفس وقواها وملكاتها تمييز إلا بالتحليل العقلي، فالهوهوية والتوحد في الحقيقة  يكون في النفس، وهذا يفضي بنا الى أنه لا تنافي بين مسلك الهوهوية ومسلك السببية في الحقيقة لأنهما ليسا في عرض واحد، بل لكل منهما مُدرِك مختلف، أو بتعبير آخر فأن كل واحد من المسلكين صحيح من حيث الجانب الذي ينظر منه الانسان الى اللفظ والمعنى، فأن بنية العقل قائمة على التحليل والتمييز بين المعاني فالاختصاص والارتباط بين اللفظ والمعنى لابد للعقل أن يعلله بمثل السببية والتلازم؟ ولابد من الاثنينية فيه؛ لأن العقل لا يستطيع أن يوحد بين المعاني، وأن وحدها فمن خلال جامع معنوي، ومثل هذا الجامع اجنبي عن معنى الهوهوية المقصودة، نعم يمكن للإنسان أن يوحد بين المعاني بوجود فلك يحيط بالأمرين، وهو النفس، فاللفظ في نفسه يستحيل أن يتوحد مع المعنى لا مفهوما ولا مصداقا، ولكن صقع النفس فيه قابلية تَمثُل كل المعاني فيمكنه أن يجد معنى الهوهوية حتى فيما يراه العقل متغايرا، وهذا معنى الفناء، فالإنسان حين يمارس الأفعال المتكررة تتحول الى قوة لا يراها متمايزة عنه، بل هي فأنية فيه، فليس بينه وبين صفاته وقواه وافعاله واسطه ولا إثنينية، إلا بتحليل العقل، ومثاله كل المهارات التي يتعلمها الانسان، فسياقة السيارة تحتاج في مقام تعلمها الى انتباه الى كل حركة والتمييز بين دواسة الوقود وبين دواسة الوقوف، وهكذا، فلابد من التمييز ولحاظ السببية، ولكن بعد أن تحصل ملكة السياقة فأن السائق لا يحتاج الى الالتفات الى هذا التمييز، وأنما يقود السيارة كما يقود بدنه، فماذا نقول عن هذا الأمر؟ نقول إنّ مهارة السياقة قد تحولت بالتكرار والممارسة الى هيأة باطنية كأنها قوة من قوى النفس ولا تحتاج النفس بعدها الى التفات وتمييز بينها وبين قواها وملكاتها، فتصدر عنها افعالها بعد ذلك ليس بالتفات عقلي، بل قد يقود السائق السيارة وهو يتكلم بموضوع لا علاقة له بقيادة السيارة بل ومن دون التفات الى القيادة أصلا، فقوى النفس ومهاراتها التي استحالت الى ملكات وهيئات باطنية فأنية فيها، وهكذا الفرق بين من يتعلم العزف على آلة موسيقية وبين من تصبح تلك المهارة عنده هيأة باطنة، فأنه يعزف على الآلة حينها ويتصرف بها كما يستعمل قواه وأعضاء بدنه، وهكذا في محل بحثنا فأن الوضع وأن حصل في مراحله الأولى بالانتخاب والإشارة والسببية والتلازم، وكلها أمور تستدعي التمييز العقلي بين اللفظ والمعنى، ولكن لا تحصل المهارة اللغوية والهيأة الباطنية في النفس إلا بعد الهوهوية بين اللفظ والمعنى، ويرى الباحث أن الفناء ليس بين اللفظ والمعنى بما هما لفظ ومعنى، بل فناء الأمرين معاً في النفس أولا وبالذات وفناء اللفظ بالمعنى ثانياً وبالعرض، فالنفس هي الصقع الذي يحيط بالأمرين معا، ولأجل هذه الإحاطة التي ذكرناها نقول بالهوهوية بين اللفظ والمعنى، وإلا تبقى اللغة كلغة يتعلمها، ومن هنا قال السيد السيستاني ان حقيقة الوضع لا تكون إلا بمرحلة الهوهوية. 

ومن أدل الأدلة على أن حقيقة الوضع اللغوي هو الهوهوية، هو استعمالنا اليومي للغة، فأنه لولا الهوهوية وإيكال الاستعمال الى المهارة الباطنية والتوحد بين النفس وقواها لكان التكلم أمراً أشبه بالمستحيل، فأنك حين تريد أن تتلفظ بالكلمة تستحضر المعنى أولًا في الذهن ثم تستحضر اللفظ الذي يؤدي هذا المعنى، ثم تقوم بترتيب الحروف وتغلق فمك وتفتحه وتغير موضع شفتيك ولسانك لتبرز كل حرف، لتظهر الكلمة مع ما يكتنف ذلك من تغيير في نبرة الصوت حسب المعنى وارتفاعه وانخفاضه ومراعاة شخص المخاطب وغير ذلك، وهذا في الكلمة الواحدة فما بالك بالجملة وبكلام كثير، كل ذلك يفعله الانسان من دون التفات الى كل ذلك، فلولا حصول اللغة كملكة باطنية وحصول الهوهوية لما تمكن الانسان من ذلك، وهذا لا يختص باللغة بل في كل أفعال الانسان الحسية والذهنية.   

والخلاصة من هذا أن الاختلاف بين المسلكين المذكورين يمكن أن يكون هذا مرجعه، فمن قال بالسببية ناظر الى النظر العقلي للوضع وتعليله وهو صحيح، ومن قال بالهوهوية ناظر الى ملكة الانسان على الاستعمال اللغوي، وهو صحيح أيضاً.

المطلب الرابع: التطبيقات الفقهية على القول بالهوهوية:

للقول بالهوهوية ثمراتٍ علمية أصولية وفقهية عدة منها :

1-ذهب الشيخ الأنصاري في مبحث الأحكام الوضعية الى أنها منتزعة من الأحكام التكليفية بل قال بعضهم من العينية ،وأنها عين الأحكام التكليفية ، والسيد السيستاني يرى رجوع القولين لمسلك واحد وهو مسلك الاندماجية والاندكاكية والفنائية بين الحكمين إذ تكون ماهية واحدة، وهذا ناتج من حمل الحكمين بعضهما على بعض بصورة متكررة فيحصل هذا الاندماج .  

ومثال ذلك: استبطان الملكية المجوز للتصرف الحسي والاعتباري وترتيب جميع شؤون السلطنة، وهذا كما قلنا حصل بسبب حمل الأحكام على محور واحد وهو العقد المفيد  للملكية المستبطنة لجميع الآثار والتصرفات .

2-في مبحث الواجب إذ اختار السيد الخوئي أن مقدمة الواجب وجوب عقلي لا شرعي في حين السيد السيستاني اختار أن تكون المقدمة وجوبها شرعي لا عقلي خلاف استاذه السيد الخوئي ،على نحو الاندماج والاندكاك نتيجة كثرة حمل وجوب المقدمة على ذيها، ونتج عن ذلك فناء الوجوب الغيري في النفسي على نحو الوجوب الواحد ذاتاً.

3- في خيار الغبن يلاحظ أن السيد الخوئي أرجع خيار الغبن الى خيار تخلف الشرط لوجود شرط ارتكازي عقلائي ضمني وهو عدم نقصان المثمن في مقابل ما دفع من الثمن(*)، والسيد السيستاني أرجعه الى الشرط الاندماجي والاندكاكي ، إذ إّن المعاوضة بين المبيع والمثمن تستبطن مساواتهما في المالية ، وهذا حصل بسبب كثرة حمل هذا الشرط على كل معاملة وجدت على ذلك النحو .


المباني الأصولية عند السيد علي السيستاني وتطبيقاتها الفقهية - مهدي زيدان الكعبي

تعليقات