الاستصحاب التعليقيّ

وفيه مطلبان :

الأوّل : في تحرير محل النزاع ، وبيان الفرق بين الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ .

الثاني : الأقوال في حجّيّة الاستصحاب التعليقي

المطلب الأوّل: في تحرير محلّ النزاع، وبيان الفرق بين الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ

إنَّ الشكَّ في الحكم ينشأ عن أحد مناشئ ثلاثة:

الأوّل: احتمال نسخ الحكم، والشكُّ في مثل هذا المورد يعرض نفس الجعل ولا صلة له بالحكم المجعول.

ومثاله: علمنا أنَّ الله تعالى قد جعل (شرّع) الحرمة على أكل الميتة ثمَّ وقع الشكُّ في بقاء الحكم بالحرمة وعدمه، فالشكُّ هاهنا يكون ناشئاً عن احتمال نسخ الحكم، ولا مبرّر للشكِّ في البقاء إلاَّ ذلك.

حكمه: لا إشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم والجعل، وأنَّ الحرمة باقيةٌ ولم تُنسخ.

الثاني: انتفاء بعض الخصوصيّات بعد أنْ كانت موجودةً، والتي يحتمل دخالتها في بقاء فعليّة الحكم، فانتفاء تلك الخصوصيّة أوجب الشكُّ في بقاء فعليّة الحكم. والشكُّ في هذا المورد لا يكون إلاَّ في بقاء الفعليّة للحكم، ولا صلة له بأصل الجعل، فقد يكون المكلّف على يقين من بقاء الجعل ومع ذلك يشكُّ في بقاء الفعليّة لذلك الحكم.

ومثاله: العلم بحرمة وطئ الحائض المضطربة العادة باعتبار أنَّ الدم الذي تراه المرأة واجد لصفات الحيض، فلو فقد هذا الدم صفات الحيض – كلّها أو بعضها – بعد ذلك فإنَّ انتقاء هذه الخصوصيّة يوجب الشكّ في بقاء فعليّة الحكم بحرمة الوطئ.

حكمه: جريان استصحاب بقاء فعليّة الحكم بالحرمة.

ويسمّى هذا النحو من الاستصحاب بـ (باستصحاب الحكم المجعول)، كما أنَّ الحكم في مثل هذه الموارد – والذي كنّا نعلم بتحقّق فعليّته – يعبّر عنه بـ (الحكم التنجيزيّ) ([1]).

الثالث: انتفاء خصوصيّة للموضوع كانت موجودةً لو قُدّر لها البقاء لكان الحكم فعليّاً باعتبار أنَّ الخصوصيّة التي كانت مفقودةً قد وجدت فعلاً. وهنا يكون الشكُّ – كما في المورد الثاني – أيضاً في فعليّة الحكم لا في أصل الجعل، بل نبقى في مثل هذه الحالة محرزين لبقاء الجعل، وإنْ كنّا نشكّ في فعليّته ([2]).

ومثاله: استصحاب حرمة العصير العنبيّ، فإنَّ الروايات الشريفة قد دلّت على أنَّ العصير العنبيّ المغلي حرامٌ، فلو فُرض أنَّ لدينا عنباً سخناه بالنار حتّى غلا فلا إشكال في حرمته، وأمّا إذا بقي في الهواء إلى أنْ جفّت رطوبته وصار زبيباً ثمَّ سخناه بالنار بعد ذلك فهل يحرم أو لا ([3]) ؟

ومثاله أيضاً: العلم بأصل جعل الحرمة على وطئ الحائض، فلو علمنا أنَّ هذا هو وقت طروء الحيض على هذه المرأة ذات العادة المنتظمة وقتاً إلاَّ أنّه لم يطرقها الحيض بعد. وهنا يقال: إنَّ هذه المرأة لو طرقها الحيض في هذا الوقت لحرم وطئها، فلو تأخّر طروء الحيض عنها إلى ما بعد الوقت المعتاد كأنْ طرقها بعد خمسة أيّام من وقتها المعتاد. فهنا يقع الشكُّ في حرمة وطئ هذه المرأة .

ومنشأ الشكّ هو انتفاء خصوصيّة الوقت الذي نحتمل أنّه جزءٌ لموضوع الحرمة، فهل يجري استصحاب الحرمة في هذه الحالة أو لا ؟

وهذا النحو من الاستصحاب الذي نبحث عن جريانه أو عدم جريانه يسمّى بـ (الاستصحاب التعليقيّ)، كما أنَّ الحكم الذي يراد استصحابه يعبّر عنه بـ (الحكم التعليقيّ).

فالشكُّ في هذا المورد ليس في بقاء أصل الجعل، بل إنَّ الجعل – وهو حرمة وطئ الحائض – لا زال محرزاً، كما أنَّ الشكَّ ليس في بقاء فعليّة الحكم بحرمة وطئ الحائض؛ إذ لم تكن الفعليّة معلومةً حتّى يقع الشكُّ في بقائها، ومورد الشكِّ في مثل هذه الحالة هو الحكم التعليقيّ – الذي لم يكن قد بلغ مرحلة الفعليّة – وهو تلك القضيّة الشرطيّة التي مفادها: " إنَّ هذه المرأة لو طرقها الحيض في هذا الوقت لحرم وطؤها "، فهذا هو مورد الشكِّ في المقام؛ إذ أنّنا نشكّ في أنَّ هذه المرأة التي عُلّق الحكم بحرمة وطئها على طروء الحيض في ذلك الوقت هل لا زال كذلك أو لا ([4]) ؟


وكذلك الحال في المثال الأوّل فالمستصحب ليس الحرمة المنجّزة بل الحرمة المعلّقة على الغليان والمشروطة بـ (إنْ) الشرطيّة، فالحرمة الثابتة للعنب إنْ غلا هي التي يراد استصحابها.


وعند التأمّل في المثال نجد خصوصيّات ثلاث:


1 – العنبيّة.

2 – الغليان.

3 – رطوبة العنب.


أمّا الخصوصيّة الأولى والثانية فيُجزم بدخالتها في الحكم (الحرمة)، فلولا العنبيّة والغليان فلا حرمة يقيناً.

وأمّا الخصوصيّة الثالثة وهي الرطوبة التي زالت وارتفعت بسبب جفاف العنب وصيرورته زبيباً فممّا يُشكّ في مدخليّتها، فلو لم يكن لها مدخليّة فهي – أي الحرمة – باقية إلى حالة الزبيبيّة جزماً.

فمنشأ الشكّ في بقاء الحرمة هو الشكّ في مدخليّة هذه الخصوصيّة ([5]).


ثمَّ إنّه لابدَّ من فرض أنَّ الخصوصيّة الثانية – وهي الغليان – غير متحقّقة؛ إذ لو كانت متحقّقةً بأنْ فُرض غليان العنب، وتقارنت الخصوصيّة الأولى مع الثانية زماناً، فحالة الزبيبيّة لا تكون حاصلةً قطعاً بل لابدَّ من فرض أنَّ العنب بقي ولم يغلِ إلى أنْ صار زبيباً ثمَّ بعد ذلك غلا. فالحرمة التي يراد استصحابها إنّما صارت معلّقةً بسبب عدم تحقّق الخصوصيّة الثانية؛ إذ مع تحقّقها تصير الحرمة منجّزةً لا معلّقة ([6]).


فعلى القول بجريان الاستصحاب في الحكم التعليقيّ فإنّه بالإمكان استصحاب تلك القضيّة المعلومة سابقاً إلى زمان الشكِّ، وبهذا الاستصحاب يصل الحكم إلى مرحلة الفعليّة إذ افترضنا أنَّ المرأة – في المثال الثاني – قد طرقها               الحيض ([7])، ويشار إلى الزبيب – في المثال الأوّل – ويقال: هذا كان يحرم سابقاً – أي عندما كان عنباً – إنْ غلا والآن نشكّ في بقاء تلك الحرمة فنستصحبها ([8]).


فالنتيجة: أنَّ الشكَّ في موارد استصحاب الحكم التعليقيّ لا هو في الجعل ولا في المجعول، بل هو حالة وسطى ما بين الشكّ في الجعل والشكّ في المجعول ([9]). وبرزخيّة هذا الشكّ نشأت عن أنَّ أصل الجعل يبقى محرزاً في مورد هذا الشكِّ، كما أنَّ فعليّة الحكم كانت متيقّنةً العدم فلا شكَّ في بقائها، نعم هناك شكٌّ في حدوثها.


وتبيّن – ممّا تقدّم – أنَّ مجرى الاستصحاب التعليقيّ إنّما هو القضيّة الشرطيّة التي كانت معلومةً.


أو قل: إنَّ مجرى الاستصحاب هو الحكم المعلّق ([10])، فبعد الجفاف وصيرورته زبيباً يقال: هل أنَّ الحكم التعليقيّ الثابت للعنب ثابتٌ للزبيب أو لا ([11]) ؟


وبعبارة أخرى: إنَّ الحالات اللاحقة للموضوع على إنحاء ثلاثة:


الأوّل: أنْ تكون مغيّرةً لحقيقة الموضوع، كما في مثل صيرورة الكلب ملحاً.

الثاني: أنْ تكون موجبةً لارتفاع التسمية عرفاً، كما في مثل العنب إذا صار زبيباً والخشب إذا صار فحماً.

الثالث: أنْ لا تكون موجبةً لتغيير حقيقة الشيء والتسمية، كما في الحنطة إذا صارت دقيقاً مثلاً واللحم صار كباباً.


حكم هذه الأنحاء


أمّا النحو الأوّل: فلا شبهة في عدم لحوق الحكم المجعول لتلك الحقيقة إذا طرأها مثل هذا التغيير، فالكلب إذا صار ملحاً لا تلحقه الأحكام المجعولة للكلب.

وأمّا النحو الثالث: فلا شبهة في سراية الحكم إلى ما تغيّر منها؛ فإنَّ الحلّيّة اللاحقة لها بجميع حالاتها الطارئة عليها، من كونها دقيقاً أو عجيناً أو خبزاً ونحو ذلك من الحالات.

وأمّا النحو الثاني: ففيه تفصيل:

1 – فإنْ فُهم من لسان الدليل ولو بواسطة القرائن الخارجيّة – ومنها مناسبة الحكم والموضوع – كون الحكم معلّقاً على نفس الحقيقة، كان الحكم سارياً إليها.

2 – وإنْ فُهم من لسان الدليل أنَّ الحكم معلّقٌ على الاسم والعنوان لم يكن الحكم سارياً إليها ([12]).

فتحصّل ممّا تقدّم أنَّ الشيء الذي يراد استصحابه على نوعين:

الأوّل: أنْ يكون أمراً منجّزاً لا يشتمل على كلمة (إنْ) الشرطيّة، ويسمّى بـ (الاستصحاب التنجيزيّ).


الثاني: أنْ يكون مشروطاً ومشتملاً على كلمة (إنْ) الشرطيّة، ويسمّى بـ (الاستصحاب التعليقيّ) ([13]).


وتجدر الإشارة إلى أنَّ الكلام والنزاع في الاستصحاب التعليقيّ يقع بعد البناء على أنَّ الاستصحاب جارٍ في الأحكام التنجيزيّة، وإلاَّ لو فرض عدم الجريان في التنجيزيّ (+) لكان عدم الجريان في التعليقيّ أولى ([14]).



اشتباه الاستصحاب التنجيزيّ بالتعليقيّ

هناك حالة يكون الاستصحاب فيها منجّزاً بحسب الصورة والشكل ومعلّقاً بحسب الروح والحقيقة، فالناظر له قد يغفل ويعدّه منجّزاً مع أنّه معلّقٌ واقعاً.

ومثال ذلك: الماء المطلق فيما إذا شكَّ في تحوّله إلى الإضافة فإنّه بسبب الشكِّ المذكور سوف يشكّ في جواز الاغتسال به من الجنابة. وفي هذه الحالة يمكن استصحاب بقاء صفة الإطلاق له، وهذا استصحاب تنجيزيٌّ ولا محذور فيه، بَيْد أنّه لو قطعنا النظر عنه فقد يتخيّل أنَّ بالإمكان استصحاب جواز الاغتسال به فيقال: سابقاً كان يجوز الاغتسال به والآن يشكّ في ذلك فيستصحب بقاء الجواز ويتصوّر أنَّ ذلك من قبيل الاستصحاب التنجيزيّ، والحال أنّه استصحابٌ تعليقيٌّ؛ فإنَّ الشارع لم يجعل جواز الاغتسال ولم يقل: إنَّ الماء المطلق يجوز الاغتسال به من الجنابة كي يستصحب ذلك، وإنّما جعل جواز الدخول في الصلاة منوطاً بالاغتسال بالماء، فالجنب إنْ اغتسل جاز له الدخول في الصلاة، فالحكم المجعول إذن حكمٌ تعليقيٌّ واستصحابه من قبيل الاستصحاب التعليقيّ، وإنْ كان بحسب الشكل والصورة استصحاباً تنجيزيّاً. فلابدَّ من الالتفات إلى أنَّ مثل هذه الاستصحابات التي قد يتخيّل أنّها تنجيزيّة اغتراراً بصورتها هي في روحها استصحابات تعليقيّة ([15]).


المطلب الثاني: الأقوال في حجّيّة الاستصحاب التعليقيّ

اختلفت أنظار الأصوليّين في حجّيّة الاستصحاب التعليقيّ على قولين:

الأوّل: جريان (حجّيّة) الاستصحاب التعليقيّ مطلقاً.

واختاره المشهور قبل زمان المحقّق النائينيّ منهم السيّد محمّد مهدي الطباطبائيّ بحر العلوم (ت 1212 هـ) – على ما حُكي عنه – ([16])، والشيخ الأنصاريّ ([17])، والميرزا محمّد حسن الآشتيانيّ ([18])، والآخوند الخراسانيّ ([19]).

وقوّاه أيضاً المحقّق العراقيّ ([20])، وكلّ من السادة محمّد باقر الصدر ([21]) والخمينيّ ([22]) ومحمّد الشيرازيّ ([23]).

دليل هذا القول: أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون المستصحب حكماً فعليّاً منجّزاً غير مشروط بشرط، وبين كونه مشروطاً بشرط لم يحصل بعد؛ لأنَّ قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكِّ بالبقاء متحقّقٌ في الأمور التعليقيّة، فحرمة ماء العنب وإنْ كانت معلّقةً على الغليان لكنّها معلومةٌ، ومع عروض حالة الزبيبيّة على العنب تصير مشكوكةً؛ لاحتمال ثبوت الحرمة لخصوص ماء العنب، فيجتمع اليقين بالحرمة المشروطة والشكّ في بقائها ([24]).

وبعبارة أخرى: إنَّ أركان الاستصحاب في مورده تامّةٌ؛ إذ أنَّ الحكم المعلّق كان محرزاً ثمَّ وقع الشكّ في بقائه فنستصحب الحالة السابقة إلى ظرف (زمان) الشكِّ في البقاء. وباستصحاب الحكم المعلّق يصل الحكم إلى مرحلة الفعليّة لو افترضنا تحقّق الخصوصيّة المفقودة في ظرف العلم، كما لو أنَّ المرأة في المثال المتقدّم قد طرحها الحيض فالاستصحاب التعليقيّ لا ينتج إلاَّ التعبّد ببقاء القضيّة الشرطيّة، وهي أنّه متى ما طرقها الحيض فإنَّ وطأها يكون محرّماً ([25])، ومقتضى الإطلاق جريانه ([26]).


الثاني: عدم جريان الاستصحاب التعليقيّ.


وتبنّاه كلٌّ من السيّد عليّ – صاحب الرياض – وولده السيّد المجاهد (ت 1242 هـ)([27])، والمحقّق النائينيّ([28])،      والسيّد الخوئيّ ([29]).


دليل هذا القول: أنّه بعد التسليم بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة التنجيزيّة لا مجال للقول بجريانه في الأحكام التعليقيّة بالنسبة إلى ما كان الشكُّ في ناحية الضيق والسعة؛ لأنَّ حقيقة الشكِّ في التعليقيّ :


إمّا من جهة الشكِّ في النسخ الذي لا يحصل بالإضافة إلى عالم الجعل، فلا شكَّ في البقاء، وبالتالي ينخرم الركن الثاني من أركان الاستصحاب.


أو إلى عالم الخارج والفعليّة والتحقّق، فلا يجري الاستصحاب؛ لعدم سبق حالة للحكم حتّى تستصحب ، إذ الحكم بنفسه غير موجود؛ لعدم وجود موضوعه، وبالتالي ينخرم الركن الأوّل ([30]).


وقد سجّل أصحاب هذا الرأي عدّة اعتراضات على جريان الاستصحاب التعليقيّ منها:


الاعتراض الأوّل لصاحب الرياض على ما نسبه إليه ولده السيّد المجاهد وحاصله: إنَّ الحكم التعليقيّ لا وجود له قبل وجود ما عُلّق عليه (وهو الشرط) فلا يقين بحدوثه؛ باعتبار أنَّ الحكم – وهو الحرمة – لا وجود له قبل الغليان (الشرط)، فلا يقين بحدوثه فكيف يستصحب ([31]) ؟


قال السيّد المجاهد: (إنّه يشترط في حجّيّته ثبوت أمر أو حكم وضعيّ أو تكليفيّ في زمان من الأزمنة قطعاً، ثمَّ يحصل الشكُّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات، فالاستصحاب التقديريّ ] التعليقيّ [ باطلٌ، وقد صرّح بذلك الوالد العلاّمة ] صاحب الرياض [ في أثناء الدرس. فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة) ([32]).

تعقيب ومناقشة

يبدو أنَّ ما ذكره السيّد المجاهد قابلٌ للمناقشة؛ لأنَّ الحكم المعلّق لا وجود له فعلاً قبل وجود ما علّق عليه وهو الشرط، لا أنّه لا وجود له أصلاً ولو بنحو التعليق؛ فإنَّ وجوده التعليقيّ نحو وجود يكون متعلّقاً لليقين والشكّ، ولذا كان مورداً للخطابات الشرعيّة من إيجاب وتحريم، فيصحّ للشارع أنْ ينشأ الحكم بالحرمة فعلاً معلّقاً على الغليان فيقول: " العصير العنبيّ حرام إذا غلى "، فلو كان الحكم المعلّق بعد هذا الإنشاء معدوماً وغير موجود لكان الإنشاء لغواً، فلابدَّ من وجوده بنحوٍ من الوجود وهو الوجود المعلّق. فهو كان على يقين من الحكم المعلّق قبل طروء الحالة الزبيبيّة على العنب فيشكّ في ذلك الحكم المعلّق بعد عروض تلك الحالة، ومن الواضح أنّه لا يعتبر في الاستصحاب إلاَّ الشكّ في بقاء شيءٍ كان على تقدير اليقين من ثبوته، وأمّا اختلاف كيفيّة ثبوت الحكم ووجوده من جهة الفعليّة والتعليقيّة فهو ممّا لا يوجب تفاوتاً واختلافاً في أركان الاستصحاب.


الاعتراض الثاني للمحقّق النائينيّ وحاصله:


إنَّ ما يراد استصحابه فيه احتمالات ثلاثة على تقدير جميعها لا يجري الاستصحاب، وهذه الاحتمالات هي:


الأوّل: أنْ يستصحب بقاء الجعل والتشريع فيقال: إنَّ تشريع الحرمة لشرب العنب إذا غلى كان ثابتاً والآن يشكّ في بقائه.


حكم هذا الاحتمال: أنّه باطلٌ؛ لأنَّ التشريع يجزم ببقائه ولا يحتمل نسخه. وعليه فالاستصحاب بناءً على هذا الاحتمال لا يجري من جهة انتفاء الركن الثاني من أركان الاستصحاب وهو الشكّ في البقاء.


الثاني: أنْ تستصحب الحرمة الفعليّة الثابتة للعنب.


حكم هذا الاحتمال: أنّه باطلٌ أيضاً؛ لأنَّ الحرمة الفعليّة لم تكن ثابتة سابقاً لتستصحب؛ إذ المفروض عدم غليان العنب سابقاً لتصير حرمته فعليّة. وعليه فالاستصحاب بناءً على هذا الاحتمال لا يجري من جهة انتفاء الركن الأوّل وهو اليقين بالحدوث؛ إذ المفروض عدم اليقين بحدوث الحرمة، بل هناك يقينٌ بعدمها.


الثالث: أنْ تستصحب الحرمة المعلّقة فيقال: إنَّ العنب كان قد ثبتت له الحرمة إنْ غلى ونحن نستصحب الحرمة المعلّقة المذكورة.


حكم هذا الاحتمال: أنّه باطلٌ أيضاً؛ لأنَّ الحرمة المعلّقة ليست أمراً مجعولاً من قِبَل الشارع ليمكن له – للشارع – أنْ يعبّدنا ببقائها، فإنَّ المجعول للشارع هو الحرمة للعصير العنبيّ المغلي، وأمّا الحرمة المشروطة بالغليان فليست مجعولةً له وإنّما نحن ننتزعها من ذلك المجعول الشرعيّ ([33])، فالحالة البرزخيّة في مورد استصحاب الحكم المعلّق ليس لها معنىً محصّل ([34]).


تعقيب ومناقشة


يبدو أنَّ ما ذكره المحقّق النائينيّ من الاعتراض يمكن الإجابة عليه، فإنَّ هذا الاعتراض يتمّ على تقدير ولا يتمّ على تقدير آخر.

بتقريب: إنَّ الحكم المجعول من قِبَل الشارع على نحوين:

1 – فتارةً يكون بلسان: " العصير العنبيّ المغلي حرام ".

2 – وأخرى يكون بلسان: " العصير إذا غلى حرم ".


فإنْ كان باللسان الأوّل فما ذكره المحقّق النائينيّ من الاعتراض متينٌ وتامّ، إذ لا يمكن استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان؛ لأنّها ليست حكماً مجعولاً للشارع وإنّما هي قضيّة انتزاعيّة تنتزع من قول الشارع: العصير العنبيّ المغلي حرام.

وأمّا إذا كان باللسان الثاني فالحرمة المشروطة يمكن استصحابها؛ إذ هي بنفسها مجعولةٌ للشارع وليست أمراُ انتزاعيّاً حتّى يقال بعدم إمكان جريان استصحابها ([35]).


الاعتراض الثالث وحاصله:

إنَّ الغرض من استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان بل ومن كلِّ استصحاب هو إثبات التنجيز والتعذير؛ إذ بدون ذلك يكون الاستصحاب لغواً وبلا فائدة.

وفي المقام نقول: إنَّ استصحاب بقاء الحرمة المعلّقة لا يترتّب عليه التنجيز فلا يمكن جريانه؛ فإنَّ الحرمة المعلّقة لا تقبل التنجيز بل القابل لذلك هو الحرمة الفعليّة؛ إذ الحرمة الفعليّة حرمةٌ ثابتةٌ بالفعل فيمكن أنْ يستحقّ المكلّف على مخالفتها العقاب (+)، وهذا بخلاف الحرمة المعلّقة فإنّها حرمةٌ غير ثابتة بالفعل لكي يستحقّ المكلّف العقاب على مخالفتها.

وبعبارة أخرى: إنَّ الغرض من الاستصحاب إثبات التنجّز، واستصحاب الحرمة المعلّقة لا يثبت إلاَّ بقاء الحرمة المشروطة بالغليان، وهي غير قابلة للتنجّز ([36]).


تعقيب ومناقشة

يبدو أنَّ هذا الاعتراض يمكن الإجابة عليه؛ وذلك لأنَّ تنجّز الحكم لا يتوقّف على فعليته، بل إنَّ تنجّز الحكم يكفي فيه أمران:

أ – وصول التشريع والجعل والخطاب إلى المكلّف (وهذه هي الكبرى).

ب – علم المكلّف ووصول صغراه إليه.

فمتى ما علم المكلّف بالتشريع، وأنَّ الزبيب يحرم لو غلى وعلم بالصغرى (أي علم أنَّ هذا زبيبٌ وأنّه قد غلى) حكم العقل بتنجّز الحرمة عليه.


وفي مقامنا كلا الأمرين موجودٌ وثابتٌ.

فالتشريع بحرمة الزبيب لو غلى معلومٌ وواصلٌ من طريق الاستصحاب؛ إذ استصحاب الحرمة المشروطة الثابتة حال العنبيّة يثبت أنَّ الحرمة المشروطة ثابتةٌ إلى حالة الزبيبيّة أيضاً.

وأمّا الصغرى فهي ثابتةٌ أيضاً؛ إذ كون الشيء زبيباً قد غلى بالنار ثابتٌ بالوجدان، ومعه تتنجّز الحرمة([37]).

 

الاعتراض الرابع وحاصله:

أنّنا حتّى وإنْ سلّمنا تماميّة أركان الاستصحاب التعليقيّ وأنّه منجّزٌ، ولكن مع ذلك لا مجال لاستصحاب الحكم المعلّق لابتلائه بالمعارض دائماً؛ لأنَّ استصحاب الحكم المعلّق معارضٌ باستصحاب الحكم المطلق الفعليّ الذي هو ضد الحكم المعلّق، ففي مثال الزبيب إذا جرى استصحاب الحكم المعلّق وحكم بحرمته على تقدير الغليان بواسطة هذا الاستصحاب جرى أيضاً استصحاب حلّيّته المطلقة الفعليّة المتيقّنة قبل الغليان، فيكون مقتضى هذا الاستصحاب الفعليّ (التنجيزيّ) الحلّيّة بعد الغليان، بينما مقتضى استصحاب الحكم التعليقيّ هو الحرمة بعد الغليان، فيتعارض الاستصحابان – في مورد وحالة بعد الغليان – ويتساقطان، ويرجع إلى قاعدة الحلِّ التي تقتضي حلّيّة العصير الزبيبيّ بعد غليانه ([38]).


وبعبارة أخرى: إنّه قبل تحقّق الشرط (الغليان) يوجد حكم فعليّ (تنجيزيّ) يجري الاستصحاب لإثبات بقائه بعد تحقّق الشرط، ويكون معارضاً للاستصحاب التعليقيّ ([39]).


تعقيب ومناقشة

يبدو أنَّ هذا الاعتراض يمكن الإجابة عليه؛ فإنَّ الحلّيّة الثابتة لماء العنب ليست حلّيّة مطلقة، بل تكون مغيّاة بالغليان؛ فإنَّ الغليان (الشرط) يكون ذا وجهين:


1 – كونه شرطاً لحرمة ماء العنب.

2 – كونه غايةً للحلّيّة الثابتة له.


فإذا تبدّلت حالة العنب وطرأت عليه حالة الزبيبيّة يستصحب الحلّيّة المغيّاة به، كما يستصحب الحرمة المعلّقة عليه، ولا تعارض بين الاستصحابين؛ لعدم التنافي بين الحكميّن، فإنَّ مقتضى استصحاب الحلّيّة المغيّاة بالغليان هو انتفاء الحلّيّة بعد حصول الغليان، كما أنَّ مقتضى استصحاب الحرمة المعلّقة عليه هو ثبوت الحرمة بعد حصوله، فأحد الحكميّن (وهو الحرمة) مشروطٌ بأمر وجودي وهو الغليان، والآخر مشروطٌ (وهو الحلّيّة) بنقيضه وهو عدم الغليان، وهذا ممّا لا ضير فيه.


وبعبارة أخرى: إنَّ الحكميّن لا تعارض بينهما على تقدير الاستصحاب؛ فإنَّ أحدهما (وهو الحلّيّة) مغيّى بغاية، والآخر (وهو الحرمة) معلّقٌ على حصول الغاية (الغليان)، فعلى تقدير استصحاب الحكم الأوّل (الحليّة) فلا يثبت حكمه إلاَّ في زمن لم تكن الغاية حاصلةً، ولا يعارض الحكم الثاني (الحرمة) الثابت ما بعد حصول الغاية.


وعليه فجريان استصحاب الحكم الأوّل لا يعارض استصحاب الحكم الثاني فيما بعد الغليان ([40]).


والخلاصة بعد ذكر الأقوال وأدلّتها نصل إلى نتيجة حاصلها: أنَّ الاستصحاب التعليقيّ جارٍ في المقام، ولا يوجد ما يمنع منه إلاَّ ما ذُكر من الاعتراضات اتّضح أنّها لا تنهض ولا تصلح لأنْ تكون مانعةً من جريانه .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

) [1]) ظ بحر العلوم، السيّد علاء الدين: مصابيح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئيّ)، 4 / 162.

) [2]) ظ البحرانيّ، الشيخ محمّد صنقور عليّ: شرح الأصول من الحلقة الثانية، 2 / 379 – 381.

) [3]) للتفصيل ينظر: الإيرواني، باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 181. دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والحلقة الثانية في أسلوبها الثاني)، نشر دار البذرة، مطبعة الكلمة الطيّبة، النجف الأشرف، 1436 هـ، ص 291.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ السيّد محمّد باقر الصدر تبعاً لأستاذه السيّد الخوئيّ قد أشكل على المثال المدرسيّ للاستصحاب التعليقيّ وهو العصير العنبيّ؛ إذ أنَّ الشارع قد حرّم العصير العنبيّ المغليّ، وعصير العنب هو ماءٌ اُتّخذ من العنب، بينما العصير الزبيبيّ هو ماءٌ اُضيف إلى الزبيب، وهذا غير العصير المتّخذ من العنب عقلاً وعرفاً. إذن لا مجال للاستصحاب فيه حتّى لو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقيّ. ظ غاية المأمول من علم الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئيّ)، ط الأولى، تحقيق ونشر مجمع الفكر الإسلاميّ، مطبعة ظهور، قم – إيران، 1428 هـ، 2 / 601. ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 181.

) [4]) ظ البحرانيّ، الشيخ محمّد صنقور عليّ: شرح الأصول من الحلقة الثانية، 2 / 380.

) [5]) ظ الصدر، السيّد محمّد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، 3 / 186.

) [6]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 182.

) [7]) ظ البحرانيّ، الشيخ محمّد صنقور عليّ: شرح الأصول من الحلقة الثانية، 2 / 381.

) [8]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 182.

) [9]) ظ الصدر، السيّد محمّد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، 1 / 398.

) [10]) ظ البحرانيّ، الشيخ محمّد صنقور عليّ: شرح الأصول من الحلقة الثانية، 2 / 382.

) [11]) ظ بحر العلوم، السيّد علاء الدين: مصابيح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئيّ)، 4 / 163.

) [12]) ظ الحلّيّ، حسين: أصول الفقه، ط الأولى، الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة، مطبعة ستارة، قم ، 1432 هـ، 10 / 3 – 4.

) [13]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 181.

(+) هو مختار جملة من الأعلام كأكثر الحنفيّة، ونسب إلى جماعة من المتكلّمين كأبي الحسين البصريّ.

ظ الآمدي، سيف الدين بن أبي عليّ: الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1400 هـ، 4 / 172. ظ المطيع، الشيخ محمّد بخيت: سلّم الوصول لشرح نهاية السؤول (المطبوع بذيل نهاية السؤول)، 4 / 360.

) [14]) ظ بحر العلوم، السيّد علاء الدين: مصابيح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئي)، 4 / 162.

) [15]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 183 – 184.

) [16]) ظ بحر الفوائد في شرح الفوائد (الطبعة الحجريّة)، 3 / 120.

) [17]) ظ فرائد الأصول، 3 / 222 – 223.

) [18]) ظ بحر الفوائد في شرح الفوائد، 3 / 120.

) [19]) ظ كفاية الأصول، 3 / 231 – 235.

) [20]) ظ البروجرديّ، الشيخ محمّد تقي: نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق العراقيّ)، 4 / 162.

) [21]) ظ الهاشمي، السيّد محمود: بحوث في علم الأصول (تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر)، 6 / 292.

) [22]) ظ الرسائل، 1 / 166.

) [23]) ظ الأصول (مباحث الحجج والأصول العمليّة)، 2 / 293.

) [24]) ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 231 – 232.

) [25]) ظ البحرانيّ، الشيخ محمّد صنقور عليّ: شرح الأصول من الحلقة الثانية، 2 / 382.

) [26]) ظ الشيرازيّ، السيّد محمّد: الأصول (مباحث الحجج والأصول العمليّة)، 2 / 293.

) [27]) ظ المناهل (الطبعة الحجريّة)، منشورات مؤسسة آل البيت (D)، قم – إيران، ص 652.

) [28]) ظ الكاظميّ، الشيخ محمّد عليّ: فوائد الأصول (تقريرات بحث المحقّق النائينيّ)، 4 / 466.

) [29]) ظ البهسوديّ، السيّد محمّد سرور: مصباح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئيّ)، 3 / 137 – 138.

) [30]) ظ بحر العلوم، السيّد علاء الدين: مصابيح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئي)، 4 / 167.

) [31]) ظ المناهل، 652. ظ الخراسانيّ، الآخوند محمّد كاظم: كفاية الأصول، 3 / 232.

) [32]) المناهل، ص 652.

) [33]) ظ الكاظميّ، الشيخ محمّد عليّ: فوائد الأصول (تقريرات بحث المحقّق النائينيّ)، 4 / 466. ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 185.

) [34]) ظ البحرانيّ، الشيخ محمّد صنقور عليّ: شرح الأصول من الحلقة الثانية، 2 / 383.

) [35]) ظ الصدر، محمّد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، 3 / 188. ظ الإيرواني: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 190.

(+) هذا هو معنى التنجيز؛ إذ معناه استحقاق المكلّف العقوبة على تقدير مخالفة الأحكام المنجّزة عليه.

) [36]) ظ الصدر، السيّد محمّد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، 3 / 188.

) [37]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 192.

) [38]) ظ الصدر، السيّد محمّد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، 3 / 189. ظ بحر العلوم، السيّد علاء الدين: مصابيح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئي)، 4 / 168.

) [39]) ظ الإيرواني، الشيخ باقر: الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني، 4 / 195.

) [40]) ظ بحر العلوم، السيّد علاء الدين: مصابيح الأصول (تقرير بحث السيّد الخوئي)، 4 / 170 – 171.


المصدر: اطروحة الدكتوراه (تنبيهات الاستصحاب) / للباحث: عباس السراج

لطلب الاطروحة راسلنا

تعليقات