نظرية التورية في استعمال اللفظ في أكثر من معنى عند السيد السيستاني

من مسائل علم الأصول، ولها آثارها في الفقه والتفسير واللغة وغيرها من العلوم إلا وهي مسألة (إطلاق  اللفظ وإرادة أكثر من معنى).

ويتضمن البحث عرض المسائل في مطلبين: 

المطلب الأول: في تحرير محل النزاع، وتم التطرق فيه لثلاثة فروع:   

الفرع الأول: حول تاريخ البحث في المسألة المذكورة.

الفرع الثاني: حول تعميم البحث لغير اللفظ المشترك الى موارد أخرى.

الفرع الثالث: في تحديد المراد من (تعدد المعاني) عند إطلاق اللفظ.

وأما المطلب الثاني: في ملحقات اطلاق اللفظ وإرادة أكثر من معنى، فقد وقع البحث فيه في خمسة فروع:  

الفرع الأول: في استعراض شواهد الوقوع.

الفرع الثاني: في مناقشة الاستشهاد ببعض تلك الشواهد.

الفرع الثالث: في بيان القانون العرفي القاضي بصحة هذا الاستعمال الواقع في كلا قسمي الإطلاق -الايجادي والاستعمالي- في مرحلتي الدلالة الاخطارية  والتفهيمية. 

الفرع الرابع: في أن إطلاق اللفظ بنحويه -الايجادي والاستعمالي-  هل هو حقيقة أم مجاز؟

الفرع الخامس: في بيان مقتضى القاعدة المتبعة عند إطلاق اللفظ والمعاني متعددة، مع عدم نصب قرينة على ارادة معنى واحد، أم جميع المعاني أم مجموعها.

الفرع السادس: التطبيقات الفقهية في إطلاق  اللفظ وإرادة أكثر من معنى. 

وهو مقصد أضافه البحث كخاتمة ، تتم الإشارة فيها لما لم يتعرض له السيد السيستاني من ذكر بعض الآثار الفقهية والأصولية والتفسيرية المرتبة على الموقف في هذه المسألة.  


المطلب الأول: في تحرير محل النزاع.

وفيه فروع ثلاثة:

الفرع الأول: الدوران بين الإمكان والوقوع  :

          ذكر السيد  السيستاني إننا لو رجعنا الى تاريخ هذا البحث لوجدنا أن صياغته تدور حول الامكان والاستحالة، ويظهر ذلك من ملاحظة تناول جملة من الأعلام للمسألة منهم  السيد المرتضى في كتاب الذريعة .

وكذلك شرح النهج للشيخ ميثم - الذي نسب الجواز للشافعي والباقلاني والقاضي عبد الجبار - ، وكتاب الشوكاني في الأصول- الذي نسب الجواز لأئمة الزيدية والامتناع لأبي هاشم -، وحذا حذوهم المتأخرون كما يظهر من الكفاية وغيرها ، ولكن السيد السيستاني قد أختار أن الأولى صرف الحديث للوقوع وعدمه، إذ مع توفر الشواهد على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فالوقوع أدل دليل على الامكان.

وإن لم يتحقق الوقوع، فأن البحث عن الامكان حينئذ يكون لغوا، ولا تترتب عليه أية ثمرة عملية في مقام تشخيص الظواهر، فالأصوليون ليس كالمتكلمين الذين يبحثون عن الامكان والاستحالة فحسب.

 ونتيجة لهذا المنهج المقترح فلا نبحث عن الوجوه التي قيلت للاستحالة، وأنما نبحث عن الوقوع وعدمه .

  وفيه أن صياغة البحث عند القدماء وإن كانت تدور بين الإمكان والاستحالة ولكن لا يعني ذلك أنهم لم يطرقوا باب الوقوع، ولكن مقتضى المنهج العلمي أن تقديمهم لبحث الإمكان والاستحالة، قد يفضي بهم الى الاستحالة الأمر الذي يغنيهم عن الدخول في بحث الوقوع، وأما من ينتهي الى الإمكان منهم يدخل منهجيا في بحث الوقوع، ولذلك نجد بعض الأعلام ممن سنورد ذكره هنا ذكر شواهد للوقوع كالزركشي في البحر المحيط و المحقق أبو المجد في كتابه وقاية الاذهان وغيرهما، هذا علة الاجمال ولكن من يتابع بحث السيد السيستاني يدرك مقصوده ببحث الوقوع وعدمه، وأنّ صياغة البحث عنده مختلفة تماماً خصوصاً باستناده الى التورية وبيان أقسامها وتحليل الشواهد الكثيرة التي ساقها.

وتتميما للبحث حول تأريخيه هذا الموضوع، فمن المناسب التعرض للأقوال واصحابها بهذه المسألة عند الفريقين. 

أما عند مدرسة الجمهور:

             فقيل إنه لا يعرف من الناحية التأريخية أول من طرح هذا الموضوع، وإن نشأ في فضاء أصول الفقه الاسلامي حيث التعرض له في مبحث (حمل اللفظ المشترك على كل معانيه)، ووفق مشهور الأصوليين فأن الشافعي (204هـ) يعد أقدم من تعرض له، وذهب الى جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وهنالك من يذهب الى أن أول من تعرض له هو أبو حنيفة النعمان (150هـ) وذهب الى انكار الجواز، ويعد الكتاب الجامع عند مدرسة الجمهور في هذا الموضوع هو الكتاب الأصولي لبدر الدين الزركشي (794هـ) والمعروف بـ (البحر المحيط) وقام فيه مؤلفه شواهد على جواز الاستعمال من القرآن الكريم كما في اية السجود  سوره الحج ايه 18.

والمسألة خلافية عند مدرسة الجمهور، فالمعروف عند أكثر الشافعية القول بالجواز، والمعروف عند أكثر الحنيفة وكذا بعض المالكية مثل ابن عربي المعافري (543هـ) القول بعدم الجواز. 

وذهب بعضهم الى التفصيل كإمام الحرمين الجويني، إذ يرى عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى إلا مع وجود القرينة المتصلة.  

وأما عند الشيعة الأمامية، فيُعدّ السيد المرتضى أول من طرح البحث في كتابه (الذريعة) وذهب الى الجواز سواء أكانت المعاني حقيقية أم مجازية أم ملفقه بينهما، وتابعه الشيخ الطوسي، وكذا المحقق الحلي، وإن اعتقد بعدم وقوعه في اللغة، وربما يعد كتاب (المعالم) للشيخ حسن زين الدين الكتاب الجامع في المسألة عند الشيعة الأمامية، وذهب الى الجواز بقول مطلق.

وأما الأعلام المتأخرون، فقد ذهب صاحب الكفاية  - تبعاً لصاحبي الفصول والقوانين - الى عدم الامكان عقلاً، وتبع الآخوند تلامذته الأعلام الثلاثة، الاصفهاني والنائيني والعراقي .

وخالفهم في ذلك المحقق الحائري والسيد البروجردي وتبعهم تلميذهما السيد الخميني، فذهبوا الى الجواز عقلاً وعرفاً.

بينما ذهب السيد الخوئي الى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً .

وممن استعرض مواقف الأعلام في المسألة العلامة الشعراني بقوله: "هو جائز عند كثير من العلماء كالسيد المرتضى والشيخ ابي جعفر الطوسي والعلامة الحلي  وغيرهم منا، وكذلك يجوز عند الشافعي والباقلاني وعبد الجبار بن احمد المعتزلي والجبائي وابن الحاجب والسكاكي والبيضاوي صاحب التفسير، والقاضي عضد الدين وغيرهم من العامة، ومنعه ابو هاشم وابو الحسين البصري وفخرالدين الرازي والمتأخرون عن صاحب القوانين غالباً، وفصل بعضهم بين المفرد وغيره، واخرون بين النفي والاثبات" .

ولعل خير من استعرض الأقوال في المسألة مع الاحالة الى مصادرها هو السيد  محمد باقر السيستاني .


الفرع الثاني: في تعميم البحث لغير اللفظ المشترك 

               إنّ مقتضى العبارة السائدة عند الباحثين من أنه هل يصح استعمال اللفظ في عدة معاني أم لا؟ اختصاص البحث بالمشترك اللفظي، إذ يكون البحث عن إطلاق اللفظ وارادة أكثر من معنى حقيقي به، وهي المسألة الأصولية المعروفة، والتي وقع الخلاف فيها في وجود المشترك اللفظي وعدمه.

ولكن لما كانت الوجوه التي ذكرت لاستحالة إطلاق اللفظ، واردة أكثر من معنى لا تختص بالمشترك اللفظي - الذي يتعدد المراد الاستعمالي فيه بين عدة معاني حقيقية - بل يعم كون المعاني المرادة حقيقية أم مجازية أم ملفقة منهما، عمم صاحب الكفاية البحث وحرره بما لا تحديد له بالمشترك، وإن كان بعض ما عرضه عن الاخرين - من قول أو حجة - ناظراً إليه، كالتفصيل بين المفرد وبين المثنى والجمع.

وهذه المسألة- إطلاق اللفظ واردة أكثر من معنى به على أن يكون بعضها حقيقياً وبعضها مجازياً - هي أيضاً مسألة معروفة بين الأصوليين، ولكنها حدثت بعد المسألة الأولى المتقدمة، وطرقت منذ القرن الرابع، وحكي المنع فيها عن بعض القائلين بالجواز في المشترك، كالقاضي الباقلاني واختاره المحقق الطهراني وتعرض له ولمناقشته المحقق الاصفهاني  واستشكل في التعميم  الشاهرودي .

وعليه، ففي موارد الإطلاق الاستعمالي - ويراد به إطلاق اللفظ مع القصد لمعناه، ويقابله الإطلاق الايجادي على ما سيأتي بيانه - يلزم تعميم البحث لموارد كون المعنى المستعمل فيه متعدداً سواء كانت تلك المعاني حقيقية أم مجازية أم مختلفة، وهذا هو محط البحث في المقام.

كما ويلزم تعميم البحث أيضاً لنوع اخر من الإطلاق  الاستعمالي، وهو كون المعنى المستعمل فيه واحداً، ولكن المراد الجدي يكون متعدداً، وذلك في المجاز بناءً على كون المجاز عبارة عن عدم تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي ، فإذا قلنا: اسد يرمي فالمراد الاستعمالي - بناءً على هذا المبنى - واحد وهو الحيوان  المفترس، ولكن إذا كان المراد الجدي هو المعنى الحقيقي المذكور-أي الحيوان المفترس- وكذا المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع، يكون المراد الجدي متعدداً.

بل ويلزم تعميم البحث أيضاً لمورد آخر وهو ما يعبر عنه بـ(الإطلاق  الايجادي) ، ويقع قبال الإطلاق الاستعمالي المتقدم- ويراد بهذا الإطلاق ذكر اللفظ بدون قصد لمعناه -كما في الإطلاق الاستعمالي-، بل انما يذكر اللفظ لأمر اسنادي، فإذا قلنا (زيد لفظ) فهنا لا يقصد بزيد أي معنى بل المقصود هو الكلمة نفسها، وأن هذا الكلمة لفظ، وهذا ما يسمى بالإيجاد أي ايجاد موضوع القضية بنفسه في الجملة بدون حاجة لجعل حاك عنه ومشير اليه.

نعم، قد يجمع في إطلاق واحد المعنى الايجادي والمعنى الاستعمالي، كما لو قلنا (زيد من الزيادة) فنكون قد اردنا الإطلاق الايجادي، لأن مقصودنا أن اللفظ (زيد) مأخوذ من مادة الزيادة، ونريد أيضاً الإطلاق الاستعمالي اي استعمال لفظ (زيد) في معناه اللغوي وهو معنى الزيادة.

وعليه، فأن مما يدخل في محل البحث أيضاً امكاناً ووقوعاً، هو البحث عن استعمال اللفظ أو إطلاق اللفظ مع إرادة نفس اللفظ وارادة معناه أيضاً، وهو البحث المعروف من أنه إذا اطلق اللفظ وأريد به شخصه أو نوعه أو جنسه فما هي حقيقته؟

وهذا البحث وأن تمّ تركه لعدم ترتب ثمرة عليه، إلا أنّ فيه رأيين:

الأول: ما ذهب إليه المحقق الآخوند من أن هذا المورد يكون من استعمال اللفظ في المعنى، ولكن التغاير بين الدال والمدلول إنما يكون بالاعتبار .

الثاني: ما ذهب إليه بعض الأعاظم  من أنه حين يطلق اللفظ في المعنى، ويراد به شخصه أو نوعه أو جنسه،  ففي الواقع قد تحقق ايجاد الموضوع نفسه، لا أنه استعمال للفظ في المعنى. 

فعلى كلا الرأيين يدخل هذا المورد في محل البحث، أمّا لأنه من انحاء استعمال للفظ في المعنى، كما هو رأي الآخوند، أو لتأتي الوجوه المذكورة للاستحالة على فرض تماميتها في هذا المورد أيضاً، بناءً على الرأي الاخر.

والمتحصل: لزوم تعميم البحث في موارد الإطلاق الاستعمالي لموارد كون المعاني المتعددة استعمالاً حقيقية أو مجازية أو ملفقة منهما، ولموارد كون المعنى الاستعمالي واحداً كما في المجاز، ولكن المراد الجدي متعدد بناءً على كون حقيقة المجاز عدم تطابق المرادين الاستعمالي والجدي، وكذا يلزم تعميم البحث لموارد الإطلاق الايجادي المذكور.


الفرع الثالث: في تحديد المراد من تعدد المعاني إطلاق اللفظ.

           ذكر أن المراد في مورد البحث من إطلاق اللفظ وإرادة معانٍ عدة،  بأن يكون على نحو يكون فيه هذا الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقات المتعددة بعدد المعاني، لإرادة كل معنى باستقلاله من إطلاق اللفظ، ومتى أريد باللفظ وحدة جامعة بين كثرات                                                                                                       المعاني خرج الإطلاق عن مورد البحث.

وأن الوحدة المتصورة على أربعة أقسام:  

1 -الوحدة الحقيقة: وتعني أرداة  الجامع المنطبق على المعاني انطباق الكلي على أفراده، كما في قوله تعالى:  ﴿إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ ، بأن يُراد استعمال لفظ الصلاة في الجامع بين صلاة الله وصلاة الملائكة وهو (العطف). 

فهنا يخرج عن محل البحث، وأنما يدخل فيه لو كان المستعمل فيه متعدداً بأن يراد من صلاة الله رحمته، ومن صلاة الملائكة استغفارهم، كما هو ظاهر بعض المفسرين.

ومثله قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ   وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ﴾ . 

فالمستعمل فيه لفظ السجود واحد وهو (الخضوع)، وإن كان خضوع كل شيء بحسبه، لا أن المستعمل فيه متعدد باعتبار أن سجود الملائكة هو الخشوع، وسجود البشر وضع الجبهة على الارض، وسجود الشمس انقيادها التكويني لأمر الخالق عز وجل.

2 -الوحدة الانتزاعية: وهو استعمال اللفظ في عنوان (أحد المعاني) فأن هذا الاستعمال، استعمال اللفظ في معنى واحد لا معانٍ متعددة وإن تأمل فيه بعضهم  .

3 -الوحدة الاعتبارية: وهو استعمال اللفظ في مجموع المعاني لا في جميعها، فأن المجموع معنى واحد لا معانٍ متعددة.

وزاد السيد السيستاني إيضاحا: بأن أرادة المعاني على صور ثلاث: 

أحدها خارجة عن محل البحث: وهي أن يُراد بالمعاني صورة واحدة تشكل ائتلافاً لحاظيا، إذ يكون كل معنى جزءاً من هذا الكل، وهذا هو مقصودهم بلفظ المجموع. 

واثنتان داخلتان في محل البحث: 

أولهما: أن يُراد خطور جميع المعاني في لحاظ واحد من دون وحدة اعتبارية بينهما، بحيث يكون إطلاق اللفظ كالإطلاقات المتعددة بعدد المعاني.

ثانيتهما: أن يُراد تصور الذهن للمعاني بلحظات متعددة متتالية مع إطلاق اللفظ وارادة تلك المعاني. 

4- الوحدة العنوانية: وهي الوحدة في عنوان المسمى بأن يُطلق اللفظ ويُراد به المسمى بهذا اللفظ من جميع الأشياء، وهو خارج عن موضوع النزاع لوحدته وعدم تعدده.

وزاد السيد السيستاني في ذلك بياناً في موضع اخر فقال" بأن المراد في مورد البحث أن يكون استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد استعمالاً مستقلاً، بمعنى أن يكون كل واحد من المعنيين ملحوظا بحياله، واستعمل اللفظ فيه بحدّه؛ لأن البحث في تحقيق استعمالين.

وأما إذا لم يكن كذلك بأن نفرض وجود (كل) ونقصد من اللفظ مجموع المعنيين، فتكون نسبة كل واحد بالنسبة للمجموع نسبة الجزء للكل، والدلالة على نحو التضمن، بأن يكون المستعمل فيه مجموع الأمرين، فهذا مما لا مانع منه، وأن كان مجازاً، ولكنه غير داخل في مورد البحث.

وكذا يخرج عن محل البحث لو كان الاستعمال على نحو الكلي بأن يراد من كل واحد المعنيين بما أنه فرد للكلي، كما لو انتزعنا عنوان (أحد المعنيين) أو (المسمى باسم كذا)، أو نلتزم بالجواز في هذا المورد.

فالمتحصل: خروج أربعة اقسام للوحدة المتصورة في المقام:

1- الوحدة الحقيقية: والمعبر عنها بانطباق الكلي على أفراده.

2- الوحدة الانتزاعية: والمعبر عنها بعنوان (أحد المعنيين أو أحد المعاني).

3- الوحدة الاعتبارية: والمعبر عنها بعلاقة الكل واجزائه، والمقصود بلفظ المجموع، دونما لو أريد بإطلاق اللفظ خطور جميع المعاني في لحاظ واحد، من دون وحدة اعتبارية بينهما، إذ يكون كالإطلاقات المتعددة بعدد المعاني، أو أريد تصور الذهن للمعاني بلحاظات متعددة متتالية كما تقدم.

4- الوحدة العنوانية: والمعبر عنها بالوحدة في عنوان المسمى أو (المسمى باسم كذا).

وذلك لكون الاستعمال في هذه الموارد من الاستعمال في المعنى الواحد المتقوم بالكثرة، والمراد في البحث الاستعمال في معاني متعددة .

ذكر بعض الأعلام ما نصه: (أنا نجد أن اللفظ قد يطلق ويراد منه معانٍ متعددة بلا خلاف بينهم في صحته...

كالألفاظ الموضوعة لمعانٍ متقومة بالكثرة، كأسماء الأعداد مثل (عشرة)، واسماء المجموع مثل(قوم)، بل اسماء المركبات مثل - دار - ونحو ذلك، ولا يخفى أن دلالة تلك الألفاظ على المعاني المتعددة ليست دلالة استقلالية، بل ضمنية، فأن (قوم) يدل على مجموع الثلاثة فما زاد، ولا يدل على كل واحد منهم، وهكذا (عشرة)، فأن كل فرد لا ينطبق عليه (عشرة)، بل على المجموع، فكل واحد من المعاني مدلول ضمني للفظ، ومدلوله الاستقلالي هو معنى واحد يتقوم في واقعه بكثير.

ومحل البحث: ما إذا أريد من اللفظ المعاني المتعددة على أن يكون كل منها مدلولا بنفسه وبنحو الاستقلال، فالاستعمال الواحد يكون بمنزلة استعمالين أو أزيد حسب تعدد المعاني، وبذلك يظهر الفرق بين محط البحث وبين تلك الموارد المسلمة الصحة) .

وأفاد علم اخر: "الرابع: إنّ عموم المجاز والعموم والإطلاق خارجه عن حريم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ضرورة أن المعنى فيها واحد، غاية الأمر أن أفرادها كثيرة، وكثرة أفراد المعنى غير تعدد المعنى كما لا يخفى.

 الخامس: إنّ تعدد البطون في القرآن المجيد لا يدل على جواز استعمال اللفظ في أكثر    من معنى، لما عرفت ان ارادة معانٍ عديده من لفظ واحد غير استعماله فيها، والكلام في الاستعمال دون الإرادة، فكون تلك البطون مرادة غير استعمال اللفظ فيها" .                                                                                              

هذه حصيلة الكلام في المطلب الأول في المقاصد الثلاث:

وكان الفرع الأول: في تاريخ البحث وزدنا فيه التعرض للأقوال في المسالة واصحابها. 

وكان الفرع الثاني: في تعميم البحث لغير اللفظ المشترك المراد به المعاني الحقيقية فقط، -لما يشمل ارادة المعاني الحقيقية أو المجازية أو الملفقة منهما - وتقدمت الإشارة في الهامش الى وجود من استشكل في التعميم لغير المعاني الحقيقية، ولما يشمل الإطلاق الايجادي أيضاً كما تقدم بيانه. 

وأمّا الفرع الثالث: فكان في تحديد المراد من تعدد المعاني عند إطلاق اللفظ، وفرز مورد البحث عن المورد مسلّم الصحة وتجدر الإشارة الى أهمية هذا الفرع الثالث بشكل خاص، فسوف يكون المدار في قبول الشواهد المذكورة دليلاً على الوقوع أو رفضها على دخول تلك الشواهد في أحد موارد الوحدة الخارجة عن محل الكلام وعدمه، كما سيتضح في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى.


المطلب الثاني: في  إطلاق  اللفظ وارادة أكثر من معنى، وفيه فروع خمسة: 

الفرع الأول: في استعراض شواهد الوقوع: 

        وقد أشار السيد السيستاني الى الاحتياج لمقدمة خلاصتها، أن التورية على قسمين. 

-1 التورية البديعية: وتعني إطلاق اللفظ مع ارادة عدة معاني متساوية في الظهور ومثل له بقول الشاعر. 

خاط لي عمرو قباءً   ليت عينيه سواءً .

فلم يعرف أن ذلك مدح أم هجاء، بعد تعدد المراد الاستعمالي والجدي معاً.

وتوضيحه: إن الاصمعي قد دل اعرابيا اراد خياطة قطعة قماش له الى خياط يدعى عمرو بردا وكانت له عين سليمة وأخرى معيبة، فلما خاطها سأله الاعرابي بعدما لم تعجبه خياطتها قائلاً: ما هذه الخياطة؟ فقال له الخياط: لقد قمت بخياطتها لك هكذا، لكي تلبسها أن شئت على وجهها، وأن شئت لبستها على بطنها، فقال له الاعرابي: وأنا قد قلت فيك شعراً إن شئت جعلته مدحًا، وأن شئت جعلته هجواً فأنشده البيت المذكور.

والقباء هو الثوب المفتوح من الأمام، وفي الشطر الثاني من البيت يحتمل ارادته عيني الخياط أو وجهي الثوب.

-2التورية العرفية: وتعني طرح اللفظ الذي له معنيان، أحدهما جلي والاخر خفي، والمتبادر للسامع هو المعنى الجلي، ولكن المراد الجدي للمتكلم هو المعنى الخفي، ونقل عن ابن قتيبة في كتابه في اختلاف الحديث (إن خارجياً طلب من أحد الشيعة ان يتبرأ من علي (عليه السلام) وعثمان، فقال أنا من علي ومن عثمان من بريء).

وقد تعرض  السيد السيستاني لقسمي التورية بتفصيل أكثر في تعارض الأدلة.

وقد حصل خلط عند بعض أهل البديع بين القسمين، اذ جعلوها قسماً واحداً وهو التورية العرفية، إلا أن صاحب الوقاية قسمها على  قسمين، عرفية وبديعية، وتعرض لذلك بعض الأعلام فليراجع .

والمناسب لمقام الاستشهاد على الوقوع أنما هي التورية البديعية، كما سيتبين إن شاء الله تعالى.

  وقد اعتمد السيد السيستاني كما ذكره بنفسه في مجال الشواهد على الوقوع كثيرا على كتاب وقاية الاذهان -في رسالته في الوضع والاستعمال  -، وقسم الشواهد على قسمين:   

الأول: ما يتعلق بإطلاق اللفظ مع ارادة معانٍ عدة، أي إطلاق اللفظ وارادة صنفه أو نوعه أو مثله مع ارادة معناه. 

 وهذا هو المراد بالإطلاق الايجادي المتقدم في المقام الأول في النقطة الثانية.

الثاني: ما يتعلق باستعمال اللفظ في معانٍ عدة:

وهذا هو المراد بالإطلاق الاستعمالي المتقدم في ذلك المقام وفي تلك النقطة أيضاً.

وقد ساق السيد السيستاني للقسم الأول ثلاثة شواهد:

أ - ما ذكره الامير محمد المصري رداً على أبيات أبي عبد الله الفيومي التي قالها في ذم كتاب الصحاح للجوهري وثنائه على كتاب القاموس في اللغة: 

لله قاموس بطيب وروده       أغنى الورى من كل معنى أفخر

نبذ الصحاح بلفظه والبحر من   عاداته يلقي صحاح الجوهري

ولكن حين الانشاد قرأ لفظ الصحاح مكسور الصاد، فقال له الامير: الصحاح لا تكسر، وظاهر ذلك أنه أطلق لفظ (الصحاح) وأراد امرين:

1- اللفظ نفسه فأنه مفتوح لا مكسور، إذ المكسور جمع صحيح، وهو لا يريد الجمع بل يريد المصدر. 

2- اللفظ نفسه هو كتاب الصحاح للجوهري: قوله لا تكسر كناية عن قيمة الكتاب، وأنها لا يمكن كسرها.

ب- ما ذكر عن بعضهم أنه قال: (قلب بهرام ما رهب)، وهذا من باب إطلاق اللفظ وإرادة أمرين.

1- مقلوب اللفظ بمعنى أنه لفظه (بهرام) لو قلبت لكانت (ما رهب)، نحو قولهم: سر فلا كبا بك الفرس، ونحو كل في فلك، فأنها لو قلبت مع الابتداء من الخلف لانقلبت نفسها.   

2- إنّ المراد القلب العضوي ل (بهرام) وأنه ما رهب أي ما تخوف من الاعداء لشجاعته.

جـ- ما قاله بعضهم: (كل ساقٍ قلبهُ قاس)، فأنه أطلق اللفظ وأراد امرين.

1- القلب اللفظي لكلمه (ساق) فأنها تنقلب الى (قاس).

2-القلب العضوي المعنوي فأن قلب الساقي بنظره قاس.

فهذا شواهد على إطلاق اللفظ مع أرادة معانٍ عدة في هذا القسم.

وأما القسم الثاني فأستشهد له بالشواهد الأتية، والتي ذكرها المحقق ابو المجد في كتابه وقاية الاذهان:

أ- ما ورد في مدح الرسول (صلى الله عليه وآله) كما في البيتين الآتيين.

المرتمي في دجى والمبتلى بعمى     والمشتكي ظمئاً والمبتغي دينا 

يأتون سدته من كل ناحية              ويستفيدون من نعمائه عينا 

فأطلق لفظ العين واستعمالها في معانٍ أربعة - وقيل بأن معانيها تصل الى سبعين .

1-الشمس وهو المناسب لقوله (المرتمي في دجى).

2-الجارية وهو المناسب لقوله (المشتكي ظمئاً).

3-الباصرة وهو المناسب لقوله (المتبلى بعمى).

4-الفضة وهو المناسب لقوله (المبتغي دينا).

ب- قول بعضهم: 

أي المكان تروم ثم من الذي             تمضي إليه أجبته المعشوقا 

فأطلق لفظ المعشوق واستعمله في معنيين:

1-المعشوق الوصفي، وهو من تعلق به العشق.

2-المعشوق الاسمي، وهو قصر بسامراء مقابل قصر العاشق كما ذكر بعض المؤرخين.  

ج- ما قاله بعضهم: 

وما لليلي لا انقضاء له    وما لدماميلي ما لها فجر.

 فأطلق لفظ (الفجر)، واستعمله في معنيين: 

1- الوقت المعلوم التالي لذهاب الليل.

2-انفجار الدماميل المنتفخة في بدنه.

د- ما ذكر في جواهر البلاغة:

ورب الشعر عندهم بغيض   ولو وافى به لهم حبيب.  

فقد أطلق لفظ (حبيب) واستعمله في معنيين:

1- المعنى الوصفي وهو المحبوب.

2- المعنى الاسمي والمراد به أبو تَمام . 


الفرع الثاني: في مناقشة الاستشهاد ببعض الشواهد المتقدمة:

      وباستذكار ما تقدم في المطلب الأول في الفرع الثالث من خروج أنحاء عدة من الوحدة عن محل النزاع  لعدم كون المعنى المستعمل فيه متعدداً، وأنّما واحداً متقدماً بالكثرة، فأن عمدة الاشكالات المذكورة في هذا الفرع أما تعني بإرجاع تعدد المعاني المذكورة في هذه الشواهد الى أحد معاني تلك الوحدة فتخرج بذلك تلك الشواهد عن محل الكلام.

وتفصيل ذلك: أنه قد ذكر السيد السيستاني إشكالات ثلاثة على مجمل الشواهد المذكورة في القسم الثاني المتقدم الواردة في إطلاق اللفظ وإرادة أكثر من معنى، وكان حاصل تلك الاشكالات:  

أ-امكان وإرادة الجامع الحقيقي والوحدة الحقيقية بانطباق الكلي على أفراده، والمفهوم على مصاديقه، كما في كلمة (الفجر)، بتقريب: أن كتب اللغة وإن فسرت الفجر ببياض النهار الذي يظهر في سواد الليل، كما أن للكلمة معنى آخر،  وهو عبارة من سيلان الماء، كما في لسان العرب، إلا أنه يمكن أن يكون بين المعنيين وجود جامع في البين وهو (الانشقاق)، لما ذكره الراغب في مفرداته بأن (فجر بمعنى شق الشيء شقا وسيعاً) فيستعمل في الفجر الناشئ من الشمس الذي يشق سواد الليل، وكذا في الدماميل علامة لبرئها.

ب- أمكان أرادة الوحدة الاعتبارية المجموعية، فتكون نسبة كل معنى لذلك المركب الاعتباري الذي استعمل فيه اللفظ ولو مجازاً نسبة الجزء الكل، وبعلاقة التضمن لا الاستقلال، وذلك كما في كلمة (المعشوقا) على اعتبار الحال والمحل، فيراد المجموع منهما، أي القصر ومن في القصر، للارتباط بينها، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ والمراد أهلها؛ لأنهم يعتبرون الحال والمحل امراً واحداً. 

جـ - أمكان أرادة الوحدة العنوانية: أي الوحدة بعنوان (المسمى) أو (المسمى بكذا)، وذلك كما في لفظة (المعشوقا) أو لفظة (العين) أيضاً. 

وكان حاصل الأجوبة عن هذه الاشكالات الثلاثة يدور حول الأمور الآتية:

- أنه قد يمكن أرادة أي من معاني الوحدة المذكورة في بعض تلك الشواهد، ولكن لا يمكن أرادة ذلك النحو في جميعها التي من القسم الثاني -الإطلاق الاستعمالي- فضلاً عن التي في القسم الأول -الإطلاق الايجادي- 

- عدم امكان تصور الوحدة الاعتبارية المجموعية-الواردة في الاشكال الثاني- في مثل لفظة عين، لعدم مناسبته مع الذوق، وكذا في الشواهد الأخرى، إذ لا جامع تركيبي بين معانيها، وكذا فأن أرادة الوحدة العنوانية - كما في الاشكال الثالث، في لفظة (عين) لا يتلائم مع المرتكزات، ومخالف للزوم المقابلة بين السؤال والجواب عن المكان ثم المكين كما في كلمة (المعشوقا) . 


الفرع الثالث: في بيان القانون العرفي القاضي في قسمي الإطلاق: الايجادي والاستعمالي في مراحله. 

        وبيان ذلك - اجمالاً- يقضي بلزوم التعرض لما ذكروه من أقسام الدلالة وهي ثلاثة: 

القسم الأول - الدلالة التصورية: أو تسمى بالأنسية، وهي المتفرعة من حصول العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى على كلا المسلكين في حقيقية تلك العلقة الوضعية، أي المسلك المشهور من كونها عبارة عن استلزام تصور اللفظ لتصور المعنى، أو المسلك المختار من السيد السيستاني من كونها عبارة عن الهوهوية والاندماج بين اللفظ والمعنى لا بعلاقة الاستلزام.  

وأما بناءً على مسلك التعهد - الذي اختاره السيد الخوئي، فالدلالة التصورية أنما تكون من باب تداعي المعاني لا من باب الدلالة، وتكون الدلالة التفهيمية الآتية أول اقسام الدلالة عند السيد الخوئي، وهي الدلالة الوضعية على هذا المسلك.

القسم الثاني - الدلالة التفهيمية: وتسمى بالاستعمالية أو التصديقية الأولى أيضاً، فالمراد بها ظهور اللفظ في كون المعنى مقصوداً، لظهور حال المتكلم الملتفت في أرادة تفهيم المعنى من اللفظ، وهي دلالة حالية متفرعة على الدلالة التصورية على مبنيي الاستلزام أو الهوهوية دون مسلك التعهد كما تقدم، فهي أول مراحل الدلالة بناءً على هذا المسلك. 

القسم الثالث -الدلالة التصديقية الثانية: وتسمى مرحلة الارادة الجدية، والمراد بها ظهور مقام المتكلم العارف بأساليب المحاورة العرفية في كون المراد استعمالي مراداً جدياً له وهي متفرعة على الدلالة التفهيمية.

والذي يرتبط بموضوع البحث - استعمال اللفظ أو إطلاقه الايجادي مع أرادة معانٍ عدة - هما القسمان الأولان، سواء كان التعدد مراداً جدياً أيضاً للمتكلم أم لا.

وكذا فأن البيان يقضي بلزوم التعرض لقانوني من قوانين المحاور العرفية يرتبطان بصورتي الإطلاقين، إطلاق اللفظ مع أرادة شخصه ومعناه تقول (الصحاح لا تكسر) والمعبر عنه بالإطلاق الايجادي، واستعمال اللفظ في معانٍ عدة والمعبر عنه بالإطلاق الاستعمالي.

وحاصل القانونين المذكورين:

القانون الأول: ويتلخص في عدم الحاجة في مقام الحكاية لجعل الحاكي إذا كان بالإمكان احضار المحكي بنفسه 

القانون الثاني: وهو قانون الاستعمال، وحاصله: أنه يصح للإنسان استعمال اللفظ إذا كانت هنالك علقة وضعية بينه وبين المعنى.

وبلحاظ الصورة الأول- الإطلاق  الايجادي كما في (الصحاح لا تكسر)، فأنه يلاحظ اندراجها تحت كلا القانونين أما القانون الأول: فإذا قال (الصحاح لا تكسر) وهو يقصد لفظ الصحاح، فالموضوع الواقعي للنسبة حاضر بنفسه، فلا حاجة لجعل لفظ حاك عنه، تماماً كما لو قلنا مثلاً، زيد لفظ، وكذا القانون الثاني اذ يصح استعمال أو إطلاق  لفظ الصحاح لا تكسر، بقصد معنى اللفظ، وهو كتاب الصحاح لوجود العلقة الوضعية بينهما.

وأما بلحاظ  الصورة الثانية -استعمال اللفظ مع أرادة معانٍ عدة -فيلاحظ انطباق القانون الثاني عليها، فمع وجود العلقة الوضعية بين اللفظ والمعاني المتعددة، فلا اشكال في كون اللفظ الواحد مستلزماً لمعانٍ عدة -بناءً على مسلك الاستلزام -أو متحداً بها -بناءً على مسلك الهوهوية والاندماج -وذلك لعدم المانع العقلي في أن يكون للوجود الواحد ماهيات طولية احداهما بالأصالة، والأخرى بالتبع، فيكون للوجود اللفظي ماهية بالأصالة، وهي مقولة الكيف المسموع، أو ماهية بالتبع وهي المعنى أي الصورة الذهنية الحاضرة عند إطلاق  اللفظ . 

ولبيان هذا المعنى مفصلاً: قال السيد السيستاني ما نصه: (اذن فسر صحة هذا الاستعمال في كلا القسمين واضح وأمر طبيعي، اذ أن اللفظ لا يخطر لوحده في الذهن منفكا عن المعنى، بل الذي يخطر هو اللفظ مع المعنى، وفي صورة احتواء اللفظ على معنيين، فهذه العلاقة تقتضي خطور المعنيين كليهما حين خطور اللفظ، اذن ففي مرحلة الدلالة الاخطارية يكون خطور كليهما امراً طبيعيا، بل إنّ التفكيك وإرادة أحدهما مستقلاً ومنفرداً يحتاج الى علة، فكيف يمكن أن يخطر اللفظ وحده دون المعنى مع وجود هذه العلاقة الوضعية والترابط الذهني بينهما، وكيف يمكن أن يخطر المعنى دون اللفظ، وكذلك في صورة علاقة اللفظ بمعنيين، وكيف يمكن أن يخطر احد المعنيين دون الاخر ؟.

اذن فبعد الاعتراف بسّر الترابط والتعرف عليه في المباحث السابقة، فحينئذ يخطر كلاهما بصورة طبيعية.

وأما في مرحلة الدلالة التفهيمية : فيوجد مسلكان حول القانون العرفي المتبع في صورتي الإطلاقين، الايجادي والاستعمالي وجوداً وعدما، وحاصلهما:

 المسلك الأول: وهو المسلك المختار، والمعبر عنه بالسببية وملخصه:

إن الارتكاز العقلائي قائم على أن كل شخص تصدى لإيجاد سبب لمسبب مع التفاته  للسببية فهو قاصد للمسبب،  سواءا في ذلك الأمور التكوينية -كتصويبه  رصاصاً تجاه شخص معين مع التفاته لكونه سبباً للقتل - أو الأمور الاعتبارية - كما إذا أوجد البيع في الخارج مع التفاته لحصول الملكية بعده -، ومحل كلامنا عن مصاديق هذه الكبرى، فالألفاظ عند العقلاء من أي لغة كانت هي وسائل وأسباب لإيجاد المقصود الواقعي واحضاره بنفسه خارجاً، كما إذا قلنا زيد لفظ، أو لإيجاد المعنى في ذهن المخاطب كما إذا قلت (زيد) إشارة للمسمى به، والسببية المذكورة سببية واقعية وأن لم يكن كلا طرفيها خارجيين. 

وكون العلاقة بين اللفظ المعنى في مقام الدلالة التفهيمية، هي علاقة السببية لا ينافي كون العلاقة بينهما هي علاقة الهوهوية على صعيد الدلالة التصورية والعلقة الوضعية.

والنتيجة: إنّ قانون السببية عند العقلاء هو المصحح في الصورتين: صورة إطلاق اللفظ وارادة شخصه مع معناه نحو (الصحاح لا تكسر)، وصورة استعمال اللفظ في معانٍ عدة كلفظ العين في معانيه المختلفة مع التوسل لذلك بالقرينة لا مع عدمها.

المسلك الثاني: وهو ما تبناه السيد الخوئي ويعبر عنه بقانون تطابق العمل مع المعتقد، وهو قانون عقلائي يؤخذ به في أصالة الصحة أيضاً، والوضع -بالمعنى المصدري - لما كان عبارة عن التعهد الشخصي بأن المتكلم إذا ذكر اللفظ الكذائي فهو يريد المعنى الفلاني، كان اطلاع العرف على ذلك منشأ لحصول الارتباط بين ذكر اللفظ والدلالة التفهيمية التي هي الدلالة الوضعية على هذا المبنى.

فالمصحح للاستعمال والتفهيم هو العلاقة الحاصلة من التعهد والالتزام بناءً على قانون تطابق العمل مع المعتقد،  ولكن هذا القانون لا يجري في استعمال اللفظ في معانٍ عدة ؛ لان الارتباط العرفي الحاصل بين اللفظ والمعنى نتيجة التعهد غير واضح في المقام؛ لان التعهد المقوم للدلالة التفهيمية لا يتصور في المقام في استعمال اللفظ في معانٍ عدة إلا في صورة غير ممكنة، أو في صورة لا تصح إلا تجوزاً.

ثم استطرد السيد السيستاني في بيان ثلاث صيغ للتعهد، واختار طريقاً يلتقي مع القوانين العرفية في المحاورة يمكن مراجعته .

وقد أشار السيد الى مختاره من مسلك السببية بقوله ما نصه:

(فإذا كان اللفظ في طبعه في مرحلة الاخطار هو حكم اخطارين، فأي محذور في ارادته لتفهيم كلا الجهتين. فالعلة الغائية لتلفظه تفهيم كلا الجهتين :اللفظ والمعنى، أو هذا المعنى وذاك المعنى، فإذا كان العمل الذي يعمله الانسان في طبعه تترتب عليه مسببات وعناوين متعددة، فلا دليل على كون احد العناوين مقصوداً ومراداً، بينما البقية غير مقصودة،  فأي محذور من كون كلا الأثرين مقصودان، بل أن من الأفضل للإنسان أن يعمل العمل الذي تترتب عليه غايات أكثر، ويكون الأثران علة غائية للاستعمال، ومثل هذا العمل لعله مما يقبله البشر، ومن هنا قالوا (يضرب عصفورين بحجر).

اذن في المرحلة الاخطارية  فحصول كليهما أمر غير اختياري، بل طبيعي.

 وأما المرحلة التفهيمية المرتبطة بإرادة الانسان واختياره،  فالأفضل والأولى أن يريد الانسان تفهيم كليهما إلا أن يعين أرادة أحدهما بالخصوص …) الى آخر ما ذكره.

إذن فالمحتمل في هذا الفرع في البحث عن السّر المصحح لهذا الاستعمال الواقع في صورتي الإطلاق  الايجادي ولإطلاق  الاستعمالي في مرحلتي الدلالة الاخطارية والتفهيمية، هو انطباق كلا قانوني مرحلة الدلالة الاخطارية - قانون عدم الحاجة لجعل الحاكي مع امكان احضار المحكي بنفسه، وقانون الاستعمال-على صورة الإطلاق  الايجادي، وانطباق القانون الثاني -الاستعمال -على صوره الإطلاق  الاستعمالي.

وأما في مرحلة الدلالة  التفهيمية، فلانطباق  مسلك السببية المختار على كلا الصورتين  - الإطلاق  الايجادي والاستعمالي - وعدم انطباق قانون تطابق العمل مع المعتقد وفق مسلك التعهد على الصورة الثانية - الإطلاق  الاستعمالي - إلا مع الاخذ بالصياغة المقترحة من قبل السيد السيستاني  للصيغة الثالثة  للتعهد.


الفرع الرابع: في أن إطلاق  اللفظ بنحو الايجاد أو الاستعمال هل هو حقيقة أو مجاز؟ 

         وهنا قد أشار السيد السيستاني الى المسالك في حقيقة  المجاز، لأبتناء الموقف في هذا الفرع عليها، وذكر أنها ترجع الى اتجاهين:

الاتجاه الأول: وهو القائل بأن المجاز أنما يكون في الحمل وله صياغات ثلاث:

الأولى: ما هو المنقول عن السكاكي في أن التصرف انما هو في أمر عقلي لا لفظي فإذا قيل (زيد اسد) على نحو المجاز المرسل - وهو ما كانت العلاقة فيه ماعدا المشابهة - أو (رأيت أسد يرمي) على نحو الاستعارة – ما كان لعلاقة المشابهة خاصة-  فليس التجوز والتصرف في لفظ الأسد بأن يراد به الرجل الشجاع، وإلا لم يكن فرق بين قولنا (زيد أسد) وقولنا (زيد شجاع) مع أن الفرق بينهما وجداني لا ريب فيه، إذن فلابد أن يكون التصرف في أمر عقلي، وذلك باعتبار زيد فرداً من أفراد الأسد  أدعاءاً مع استعمال لفظ الأسد في نفس مفهومه (الحيوان المفترس)،  فالتجوز إنما هو في حمل لفظ الأسد بما له من المعنى على زيد. 

الثانية: ما طرحه السيد الخوئي بأن المجاز عبارة عن عدم التطابق بين المرادين الاستعمالي والجدي، ففي المثال المذكور (زيد اسد) فأنه يراد الأسد الحيوان المفترس على مستوى الدلالة الاستعمالية، ويراد به الرجل الشجاع على مستوى الدلالة التصديقية - الثانية والارادة الجدية -.

الثالثة: ما هو المختار للسيد السيستاني  من أن المجاز عبارة عن اعطاء حد شيء لشيء آخر بدفع نقل التأثير الاحساسي  من المشبه به للمشبه، ففي المثال المذكور أنما التجوز في اعطاء حدّ الحيوان المفترس وهو الأسد لزيد الانسان بدافع نقل التأثير الاحساسي  لشخصية الأسد في النفوس المولد للهيبة والخوف الى زيد الشجاع.

وبين هذه الصياغات الثلاث فروق تم التعرض لها في بحث الحقيقة والمجاز.

الاتجاه الثاني: وهو المعبر عنه في علم البيان باستعمال اللفظ في غير ما وضع له مع القرينة في مقام التخاطب، وذلك كما في (رأيت أسد يرمي) بإرادة الرجل الشجاع من لفظ الأسد بقرينة (يرمي).

وبعد اتضاح ذلك، يقع الكلام في أن صورتي الإطلاق  الايجادي والاستعمالي هل من الحقيقة أو المجاز ؟ 

ذكر السيد أن الصورة  الأولى - الإطلاق  الايجادي – أي إطلاق  اللفظ مع ارادة شخص وارادة معناه كقول القائل (الصحاح لا تكسر)، فلا ريب في أنها ليست مجاز على جميع المباني.

 أما مع إطلاق  اللفظ وارادة شخص فليس من الاستعمال في شيء، والحقيقة والمجاز انما هما من شؤون الاستعمال لا من شؤون مطلق الإطلاق ، وأما مع ارادة معنى اللفظ – أي كتاب الصحاح- فهو استعمال اللفظ في معناه الموضوع له فهو استعمال حقيقي لا مجازي. 

وأما الصورة الثانية - الإطلاق  الاستعمالي - بإطلاق  اللفظ مع ارادة عدة معاني، فبناءً على الاتجاه الأول المذكور في حقيقة المجاز بصياغاته الثلاث، وجامعه كون المجاز في الحمل -كما تقدم -كان الاستعمال للفظ بها معانٍ عدة استعمال حقيقي، لاستعمال اللفظ في معانيه المتعددة بلا تصرف في الحمل والاسناد أصلاً ليكون مجازاً.  

وأما بناءً على الاتجاه الثاني في حقيقة المجاز وهو كونه في الكلمة لا في الحمل، فكذلك يكون استعمال اللفظ في معانيه المتعددة استعمالاً حقيقيا لا مجازياً، سواء فسرنا الوضع - بالمعنى المصدري - بأنه جعل اللفظ بإزاء المعنى، أو فسرناه على مبنى التعهد كما يراه السيد الخوئي.

أما على الأول فلأن لفظ العين -مثلاً-  لما وضع بإزاء معانيه الأربعة -كما في الشاهد المتقدم - فاستعماله فيها -على نحو الجميع لا المجموع -استعمال فيما وضع له فيكون حقيقياً.

وأما على الثاني -مسلك التعهد -فقد تقدم أن له صياغات متعددة، واحداها ما تم اقتراحه من السيد وحاصلها (ارادة المعنى عند ذكر اللفظ ما لم تكن قرينة على الخلاف، ثم التعهد بإرادة معنى آخر عند ذكر اللفظ ما لم ينصب قرينة على الخلاف)، ومع استعمال اللفظ في الجميع يكون استعمالاً حقيقياً لعدم نصب قرينة على خلاف أحدهما. 

فالمتحصل في هذا الفرع: هو كون الاستعمال في صورتي الإطلاق  الايجادي والاستعمالي حقيقياً على الاتجاهات جميعها  في حقيقة المجاز من كونه في الكلمة أو في الحمل والاسناد، وعلى كلا القولين في حقيقة الوضع بالمعنى المصدري من كونه جعل اللفظ بإزاء المعنى أو كونه بمعنى التعهد، ولكن مع الآخذ بنظر الاعتبار الصياغة المقترحة للتعهد .


الفرع الخامس: في مقتضى القاعدة المتبعة عند إطلاق  اللفظ والمعاني متعددة مع عدم نصب قرينة على ارادة معنى واحد أو جميع المعاني  أو مجموعها.

              بعدما تقدم من وقوع الاستعمال للفظ في أكثر من معنى، وعدم كونه مجازيا، فمع وجود القرينة على ارادة أحد المعاني أو معنيين أو أكثر من معنى - كما في موارد التورية البديعية المتقدمة- يؤخذ بمقتضى تلك القرينة.

وأنّما الكلام في صورة عدم وجود القرينة المعينة لإرادة احد المعنيين أو كلاهما أو الأكثر من معنى فما هو مقتضى القاعدة ؟ فهل تقتضي حمل اللفظ على جميع  المعاني أو لا ؟

ذكر السيد السيستاني أنّ في المقام صورتين:

 الصورة الأولى: إذا دار المقصود بين ارادة معنى خاص، أو إرادة جميع المعاني في اللفظ، حيث ذكر السيد أن هناك رأيين:

١- حمل اللفظ على ارادة جميع المعاني، وذهب له في المعالم والفصول وبعض قدماء العامة والخاصة، واختاره من المتأخرين السيد البروجردي.

٢- الحكم بالإجمال  والرجوع للأصل العملي، و ذهب إليه الأكثر .

ودليل قول الأول يتلخص في أمرين:

أ-بعد كون اللفظ متضمنا للعلقة الوضعية على جميع المعاني، فإذا دار الأمر في المقصود بين ارادة معنى واحد أو ارادة الجميع، فأن مقتضى أصالة الحقيقة الحمل على ارادة الجميع.

وفيه: أن مورد اصالة الحقيقة أنما هو عند دوران الاستعمال بين كونه حقيقياً أو مجازياً.

وأمّا لو دار الأمر بين الاستعمال في معنيين أو أكثر، أو الاستعمال في معنى معين، وكان كلا الاستعمالين حقيقيا كما في مفروض الكلام، فلا مرجح لأحدهما على الاخر فيلزم الحكم  بالإجمال.

وبعبارة أخرى: كما أن الاستعمال في معنى معين يحتاج الى القرينة المعينة، فكذا الاستعمال في الأكثر من معنى.

ب- بعد كون اللفظ ذا علقة وضعية على  جميع المعاني،  فلابد من حمل إطلاق  اللفظ على ارادة تلك المعاني جميعا بحسب القانون العرفي الكاشف عن الارادة التفهيمية سواء أكان هو قانون السببية كما هو المختار، -وقد تقدم بيانه - أم كان قانون تطابق العمل على المعتقد كما هو مسلك التعهد.

    وفيه: 1- أنّ النكتة العرفية التي يبتني عليها قانون السببية أنما هي نكتة الفرار عن اللغوية، ويكفي في دفع محذور اللغوية في المقام حمل اللفظ على ارادة معنى الواحد من بين المعاني-معين ثبوتا وإن لم يعرف اثباتا- وأما انتقال الذهن لجميع المعاني على فرض حصوله فليس لقرينة على ذلك، وأنّما هو من لوازم العلم بالعلقة الوضعية، وبنحو النتيجة اللازمة، وليس مقصدا وغاية وهدفا نظر إليه المتكلم، والفرق بين النتيجة اللازمة والغاية أوضح من أن يخفى.

٢- إنّ المتفاهم العرفي في مقام الاستعمال، أنما هو الاستعمال للفظ في معنى واحد، وأما استعماله في معانٍ عدة فهو خلاف المتبادر عرفا، ولا يصار إليه إلا مع القرينة،  بمعنى أن الظاهر عرفا من الاستعمال أنما هو استعمال اللفظ في معنى واحد، ولعل ذلك هو مقصود المعالم والقوانين بأخذهم قيد الوحدة في الموضوع له، إذ إن المناسب أخذ الوحدة في مقام الظهور لا في مرحلة الوضع؛ لأن جعل الوحدة جزءا من الموضوع له واضح الفساد، إذ لا يجتمع ذلك مع قصد معنى آخر من اللفظ لا حقيقة ولا مجازا.

٣- بناءً على مسلك التعهد سواء على صيغته التي اختارها السيد الخوئي، أو على الصياغة المقترحة من السيد السيستاني فأن مقتضى البناء العقلائي هو الحكم بالإجمال، فأن ارادة الجميع مضافا  لكونه خلاف الاستظهار العرفي، فهو خلاف المتعهد به، ولا يصار إليه إلا مع القرينة  فيتعين الحكم بالإجمال، هذا بناءً على صيغة السيد الخوئي للتعهد، وأما على الصيغة المقترحة  فكذا لا يوجد بناء عقلائي على حمل اللفظ على الجميع مع عدم قرينة دالة عليه، وذلك لأخذ الوحدة في مقام الظهور فيتعين الحكم الاجمال.

ولذلك ترى البناء العقلائي على حمل اللفظ على معنى واحد لا متعدد  في جميع شؤون المحاورة،  فإذا حصل اقرار من شخص اشتغال ذمته بمال لزيد،  وكان زيد مرددا بين أشخاص، أو طلق رجل زوجته فلانة، وكان اسمها مشترك بين زوجتين له أو أكثر، أو اختلف الفقهاء في مشتركات الرواة، فأن العقلاء لا يحكمون بإرادة الجميع في تلك الموارد.

 فهذه شواهد على تبادر الوحدة في مقام الاستعمال، وأن المتكلم يقصد معنى معينا ثبوتا، ولكن لعدم القرينة عليه اجمالا يحكمون بالإجمال، وبعد ذلك أما أن يرجع الى قاعدة القرعة، أو لغيرها من القواعد كما أنه لا أصل في طرف الوحدة،  كما لا يوجد ذلك الاصل العقلائي في طرف التعدد.

والمتحصل أن القول بأن المتكلم قصد التفهيم لا يقتضي التعميم، بل أنّما يدل على أنه اراد التفهيم في الجملة، أما أنه اراد تفهيم كلا المعنيين، أو الأكثر بالجملة فلا، كما أنه لا يوجد بناء عقلائي ولا جري عملي على أن الانسان لو عمل عملاً يشتمل على علل غائية عدة تكون جميع تلك العلل ملحوظة له لا في باب الأعمال ولا في خصوص باب الألفاظ.

لذا قال ما نصه: 

(وسّر عدم وجود هذا البناء العقلائي أن المقدار الذي تقضيه الدلالة الوضعية أنما هو أخطار كلا المعنيين في الذهن، وهذا الأمر لا يرتبط  بمرحلة الاستعمال والتفهيم، بأن يكون كلاهما مقصوداً بالتفهيم، إذ مرحلة التفهيم مرتبطة بمجال تعدد العلة الغائية، وارادة التعدد لم تثبت لا  بالبناء العقلاني ولا بدليل آخر.

 وكذلك القول بأن اصالة الحقيقة تقتضي ارادة جميع المعاني التي ترتبط باللفظ بارتباط العلقة الوضعية. 

ولكن أصالة الحقيقة كبقية الأصول العقلائية منتزعة من أعمال العقلاء، وليس هناك اصل تعبدي يقتضي ذلك . 

الصورة الثانية: فيما لو علم بأن المتكلم قد أراد أكثر من معنى من اللفظ، ولكن هل قصد كثرة على نحو العموم المجموعي (الاجزاء لمركب واحد) أو على نحو العموم الاستغراقي (كثرة عرضية) ؟

ذكر السيد السيستاني أن هناك احتمالين.

1-إنّ أصالة الحقيقة -  والتي هي من صغريات أصالة الظهور - تعين كون المراد العموم الاستغراقي؛ لأن الاستعمال فيه بنحو الحقيقة، وأما الاستعمال في العموم المجموعي فمجاز، فيتعين الأول.

2-الحكم بالإجمال والرجوع للأصل العملي؛ وذلك لأن أصالة الحقيقة لم يقم بناءً من العقلاء على جريانها تعبداً، وأنما يرون جريانها في مورد تكون الاصالة فيه منقحة للظهور لا مخالفة  له.

ودلالة اللفظ على العموم المجموعي خلاف الظاهر عرفاً ؛ إذ لا يتبادر لأذهانهم صورة مركبة من مجموعة معانٍ، وكذا الحمل على العموم الاستغراقي عرفاً، ومع عدم القرينة المعينة لأحدهما يتعين الحكم بالإجمال .

والخلاصة المتحصلة في هذه الجهة: إنه في كلتا الصورتين - صورة الدوران بين ارادة معنى خاص أو ارادة المعاني جميعها، وصورة الدوران بين ارادة العموم المجموعي أو الاستغراقي بعد العلم بإرادة أكثر من معنى- عند فقد القرينة المعينة يتعين الحكم بالإجمال، وذلك لقصور ما يدل على ارادة جميع المعاني في الصورة الأولى، أو ارادة العموم الاستغراقي في الصورة الثانية. 

اللهم إلا أن يقال: بأنه على مبناه من امكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ومع التفات المتكلم الى دلالة اللفظ- كالعين مثلاً - على أكثر من معنى، فإذا تكلم بها مطلقة دون تقييد وقرينة على أحد معانيها فربما يدل على ارادة جميعها - كما ذكر المقرر -. 


الفرع السادس: التطبيقات  الفقهية في القول باستعمال اللفظ في أكثر من معنى:

        لا يخفى أن الاشتراك اللفظي عند القائلين به يكون جارياً في الأسماء والافعال والحروف جميعاً. 

مثال الأول: لفظة (قرء) مثلاً المشتركة بين معنى الطهر ومعنى الحيض. 

والخلاف الفقهي في استظهار أيهما من قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ، واضح ومعلوم.

ومثال الثاني:- الاشتراك في الافعال - هو الفعل (عسعس) بمعنى أقبل وأدبر. 

ولذلك أمثلة كثيرة، ومنها آية السجود كما في سورة  الحج الآية  18.

ومثال الثالث: - الحروف-  جملة من حروف المعاني مثل (اللام) و (على) و (في) و (عن) و(من) وغيرها.

ومن تطبيقات البحث -استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى - في مجال الحروف، قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾ .


فأن في كلمة (من) وجوها:

الأول: أن تكون متعلقة بـ (نسائكم) في قوله تعالى (وأمهات نسائكم)، فيكون المعنى: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن حرام عليكم، ولا تدل على تقيد حرمة الربائب الدخول النساء.

الثاني: أن تكون متعلقة بقوله تعالى: (ربائبكم).

فيكون المعنى ربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن حرام، فتدل على تقيد حرمة الربائب بالدخول بالنساء.

وأما أمهات النساء فحرمتهن مطلقة من حيث الدخول بالنساء وعدمه. 

الثالث: أن تكون متعلقة بهما معًا،  فتكون (من) مستعملة في معنيين:

فأن بني على جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى امكن البناء على تعلقها بهما معاً. 

فيثبت حينئذ أن حرمة أمهات النساء والربائب من النساء مقيدة بالدخول بالنساء. 

وأما إذا بني على  امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى فلا يمكن البناء على تعلقها بهما، بل لابد من حملها أمّا على الوجه الأول، وأمّا على الوجه الثاني .


كما تعرض بعض الأعلام لما يترتب على البحث من ثمرات، فقال ما نصه:

"إنّ هذا المبحث مما تترتب عليها ثمرة عملية في كثير من موارد الفقه الأصول، يلتفت اليها المتتبع، ولنذكر بعض ما قيل بظهور الثمرة فيه..." .

فمنه: ما ورد من أنه (لا صلاة الا بآذان واقامة) فأن ظاهره الأولي نفي الصحة، وقد ورد الدليل على استحباب الآذان وعدم لزومه. 

فأن قيل: بصحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أمكن بقاء الدليل المذكور على ظهور في نفي الصحة بالنسبة الى الإقامة، ويراد منه أيضاً نفي الكمال بالنسبة الى الآذان بواسطة القرينة الخارجية. 

وإن قيل: بعدم صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فلابد من  حمل النفي على نفي الكمال بالنسبة الى كلا الأمرين - الآذان والاقامة - أو على الجامع بين نفي الكمال والصحة، فلا يكون حينئذ للنص دلالة على الزوم الإقامة في الصلاة.

ومنه:  روايات الاستصحاب - إذ  بنى الشيخ الأنصاري استفادة  قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين منها على صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، اذ لا جامع  بين القاعدتين.

ومنه: رواية قاعدة الطهارة – إذ بنى استفادة قاعدة الطهارة وقاعدة الاستصحاب منها على هذه المسألة لعدم الجامع بين القاعدتين .

وقد تعرض بعض الأعلام لبعض ثمرات البحث في الفقه والأصول .

كما أن للبحث صلة بما يرتبط ببعض البحوث القرآنية كبحث المراد بتعدد بطون القرآن الكريم، كما أن البحث يعدّ من المباني المهمة التي اعتمد عليها العرفاء في تفاسيرهم التأويلية.


المصدر: اطروحة الدكتوراه / المباني الأصولية عند السيد علي السيستاني وتطبيقاتها الفقهية / للباحث: مهدي زيدان الكعبي

تعليقات