مفهوم الاستنباط في اللغة والاصطلاح

1- الاستنباط لغةً:

 النون والباء والطاء في لغة العرب كلمة تدل على استخراج الشيء والانتهاء إليه، قال الزجاج في قوله تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، معنى يستنبطونه في اللغة: يستخرجونه، مأخوذ من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر. واستعير الاستخراج لما يخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني أي استخراج لما أفاد العلم.

قال الفيروزآبادي: "واستنبط الفقيه: استخرج الفقه الباطن بفهمه واجتهاده".

2- الاستنباط اصطلاحاً:

هو البحث والتنقيب في الأدلة المعتبرة شرعاً لغرض الوصول إلى الحكم الشرعي وقد عرفه السيد المرتضى(ت436هـ) بأنه: "استخراج الحكم من فحوى النصوص"، وقال الجرجاني بأنه: "استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن وقوة القريحة".

وفي استعمال الفقهاء يكون الاستنباط مرادفاً للاجتهاد أحياناً إذا كان الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس، ولذلك أخذ الاستنباط تعريف الاجتهاد غالباً. 

وذكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر(ت1400هـ) أن الاستنباط هو استخراج للحكم من مطلق الدليل سواء كان نصاً أو غيره كالأصول العملية، ومن ثمَّ فإن الاستنباط والاجتهاد مترادفان تقريباً، وقسم السيد الصدر الاستنباط على قسمين: الاستنباط القائم على أساس الدليل كالاستنباط المستمد من النص دال على الحكم الشرعي، والاستنباط الثاني قائم على أساس الأصل العملي كالاستنباط المستمد من اصالة البراءَة.

3- مراحل الاستنباط عند فقهاء الإمامية:

اعتمد منهج الاستنباط في الفقه الامامي خاصة في العصور المتأخرة على مرحلتين:

المرحلة الأولى: الفحص عن الدليل على الحكم الشرعي والطرق الموصلة إلى الأحكام، هي أربعة:

أ- الكتاب العزيز، فهو المعجزة الخالدة والحجة القاطعة والمصدر الأول، أما سواه فاليه ينتهي ومن منبعه يستقي وهو قطعي الصدور لتواتره، فمنه نص وظاهر وهما معاً دليلان، ويحتاج  في ذلك إلى معرفة دلالات الألفاظ، والمحكم والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والأمر والنهي، والعام والخاص، والظاهر والمؤول، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، ويرجع في معرفة هذه العلوم والعوارض إلى علم أصول الفقه فإنه مستوفى فيه هذه الأمور الكلية، وأما بالنسبة إلى الجزئيات المستنبطة تراجع الآيات المشهورة بالخمسمائة التي هي مدار الفقه وأهم مصادر ذلك في الكتب الثلاثة التي عملت لذلك وهي كتاب (فقه القرآن) لقطب الدين الراوندي(ت573هـ)، وكتاب (منهاج الهداية في بيان خمسمائة آية) لجمال الدين أحمد بن المتوج البحراني(ت820هـ)، وكتاب (كنز العرفان في فقه القرآن) للمقداد السيوري(ت826هـ)، والأخير احسن الثلاثة لاشتماله على المباحث المذكورة لكل آية وما ذكر فيه من اختلاف أقوال المفسرين يحتاج الناظر فيها إلى قوة الترجيح لبعضها.

ب- السنة في مبادئ الاستنباط فيحتاج منها معرفة دلالتها على الأحكام سواء أكانت السنة القولية أو الفعلية أو التقريرية، ودلالتها على الأحكام تشبه دلالة القرآن الكريم، إذ تكون قطعية تارة وغير قطيعة تارة أخرى، فالقطعية مثل ما ورد في بيان نصاب الابل التي تجب فيها الزكاة، عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (): "ليس في الابل شيء حتى تبلغ خمساً، فإذا بلغت خمساً ففيها شاة، ثم كل خمس شاة حتى تبلغ خمساً وعشرين"، فالتحديد بالخمس من الإبل نص في دلالته ولا يحتمل معنى آخر.

أما السنة غير القطعية، فهي مثل الأحاديث النافية لبعض موضوعات الأحكام لاعتبارات معينة، مثل: "لا صلاة إلا بطهور"، و"لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده"، و"لا صلاة إلى بفاتحة الكتاب"، وغيرها مما يلحظ في دلالتها نفي حقيقة العمل أو نفي صحته أو ثوابه، وكماله، وعلى الفقيه أن يستعين بأدلة أخرى لترجيح أحد هذه الاحتمالات.

وكذلك معرفة ما تواتر من السنة وأحوال الاشخاص باختلاف حصول التواتر إليهم وعدمه وأيضاً معرفة آحاد الأخبار لأن فقهاء الامامية انقسموا في الخبر الواحد إلى فريقين، أحدهما ينكر حجيته أو ينكر الدليل على افادته الاطمئنان، ومنهم من يرى حجيته، فقد وجد دليلاً على ما يورثه من قناعة في مجال العمل، وأن الخبر الواحد الصحيح يخصص عموم النص القرآني ويقيد المطلق ويبين المجمل.

والآحاد أما مشهور وهو ما زاد رواته على الثلاثة ويسمى(المستفيض)، وحكمه كالمتواتر في وجوب العمل وتختلف أيضاً حاله كاختلاف المتواتر.

وأمّا غير المشهور فهو يُقسّم باختلاف أحوال سلسلة السند ورواته في الانصاف بالإيمان والعدالة والضبط وعدمها، أيّ ينقسم على أربعة أقسام:

1-الصحيح: وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم() بنقل الامامي العدل عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة، أو هو ما رواه العدل المعلوم العدالة الصحيح المذهب بطريق عدول، وهكذا متصلاً إلى المعصوم().

2-الحسن: وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم () بنقل الامامي الممدوح مدحاً مقبولاً معتدًا به من غير نص على عدالته وان كان غيره من الرواة قد نص على عدالته.

3-الموثق: وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم() بمن نص الاصحاب على وثاقته مع فساد عقيدته –وبهذا فارق الصحيح مع اشتراكهما في الثقة –وان كان غيره من الرواة قد نص على عدالتهم.

4-الضعيف: وهو مالم تجتمع فيه شروط أحد الأقسام السابقة، وهو ما في سنده مذموم أو فاسد العقيدة غير منصوص على وثاقته أو مجهول وان كان باقي رواته ممدوحين بالعدالة؛ لأنَّ الحديث يتبع اعتبار أدنى رجاله.

وباعتبار اتصال السند وانقطاعه ينقسم الخبر إلى المسند وهو ما اتصل سنده مرفوعاً من راويه إلى منتهاه إلى المعصوم()، من دون أن يعرضه قطع بسقوط شيء منه، وأما المرسل ما رواه عن المعصوم ()، من لم يدركه والمراد بالإدراك هنا التلاقي في ذلك الحديث المحدث عنه، وبمعنى آخر هو الذي ترك الراوي فيه ذكر السند أو بعضه أو ذكره مجملاً، وله اطلاقان وهما: المرسل بمعناه العام وهو الذي حُذفت رواته أجمع أو بعضها واحدًا أو أكثر، وأن ذكر الساقط بلفظ مبهم كقوله (عن رجل، أو عن بعض اصحابنا)، والاطلاق الثاني المرسل بمعناه الخاص وهو كل حديث اسنده التابعي إلى النبي (k) من غير ذكر الواسطة كقول سعيد بن المسيب(ت94هـ): قال رسول الله (k) كذا، ولا يعمل الفقهاء من المراسيل إلا بما عرّف أن مرسله لا يُرسل إلا من الثقات كابن ابن عمير، وابي بصير، وابن بزيع، وزرارة بن اعين، واحمد بن أبي نصر البزنطي، ونظرائهم ممن نص عليه علماء الأصحاب، وإذا تعارضت هذه الأخبار قدم الصحيح؛ فإنّ لم يكن فالحسن وبعده الموثق ولا يعمل بالضعيف.

ج- الإجماع فلابد من معرفة شرائطه وأحكامه، وأما معرفة وقوعه على الأحكام أو عدم وقوعه فذلك لابد منه، قال الشهيد الأول (ت786هـ) "يعتبر في الفقيه أمور ثلاثة عشر...العلم بالإجماع والخلاف لكلا يفتي بما يخالفه"، والإجماع عند الإمامية ذلك الدليل الكاشف عن رأي المعصوم() ولم تثبت عند الإمامية عصمة الأمة عن الخطأ فإذا كشف الإجماع عن رأي المعصوم يكون حجة قطعية مثل الخبر المتواتر كونه كاشفاً على نحو القطع من الحكم الشرعي مثل: المسح على الرجلين، والجهر بالبسملة، والفارق أن الخبر دليل لفظي والإجماع دليل على نفس رأي المعصوم لا على لفظ خاص له ويسمى دليل لبي.

د- دليل العقل فهو مصدرٌ رابعٌ للتشريع، بعد الكتاب، والسنة، والإجماع، وإن له القابلية لإدراك الأحكام الكلية الشرعية الفرعية بتوسط نظرية التحسين والتقبيح العقليين ولكن على سبيل الموجبة الجزئية، وعدم قابليته لإدراك جزئياتها وبعض مجالات تطبيقها، لعجزه عن إدراك الجزئيات، وتحكم بعض القوى الأخرى وتأثيرها في مجال التطبيق، وكذلك عدم إدراكه وحده لكثير من الأحكام الكلية كالعبادات وغيرها لعدم ابتناء ملاكاتها على نحو الموجبة الكلية على ما كان ذاتياً من معاني الحسن والقبح.

أما المرحلة الثانية في منهج الاستنباط عند عدم الظفر بالدليل بعد الفحص والنظر هو الانتقال إلى مرحلة الأصول العملية.

وهي الوظائف أو القواعد المقررة شرعاً وعقلاً لبيان وتحديد الوظيفة العملية للمكلف عند الشك في الحكم الواقعي، وعدم وجدان الدليل المحرز الأعم من القطعي والظني المعتبر، وهي تجري في كل من الشبهات الموضوعية والحكمية وتعم بها البلوى وتطرد في جميع أبواب الفقه، وهي مما ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص عن الدليل واليأس من تحصيله فهي مختصة بالمجتهد، والأصول العملية لا يكون فيها نظر ووجهة كشف عن الواقع، وإنما دورها يحضرُ في تحديد وتشخيص الوظيفة العملية عند فقدان الدليل أو ما ينتج نتيجة الفقدان، كإجمال الدليل أو ابتلائه بالمعارض، فهي تحدد الموقف العلمي تجاه الحكم المجهول بدلاً من اكتشاف نفس الحكم، وعليه فإن مرجعية الأصل العملي إنما تكون بعد استفراغ الوسع في البحث عن الأدلة المحرزة؛ فإن عثر على ما يصلح للكشف عن الحكم الشرعي الواقعي فهو المعتمد، وإلاّ فإن المرجع هو الأصل العملي، وقد قسّم مشهور أصوليي الإمامية الأصول العملية على أربعة أقسام، وهي: البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب.


المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية وأثرها في الاستنباط عند فقهاء الإمامية - رافد ياسين جاهل
تعليقات