الظاهرة الفرعونية والعوامل النفسية

الظاهرة الفرعونية والعوامل النفسية

آية الله السيد فاضل الجابري

حينما نتأمل الخطابات الفرعونية ودلالاتها على المستوى النفسي والاجتماعي والديني نجدها اتصفت بكونها تعبر عن نفس متعالية طاغية تعيش داء العظمة و التكبر على الآخرين تغالط نفسها وتعتقد ان فيها ما ليس موجودا عند غيرها .

انظر إلى قوله : (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى )النازعات 24) فهو يثبت لنفسه الربوبية وانه المدير و المدبر لشؤون الناس بل كل الموجودات التي كانت تحت ملكه ، وهذا ما يحكي عنه القرآن على لسانه : (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي  أَفَلَا تُبْصِرُونَ )_ الزخرف 51) فنجد فرعون قد أوصلته نفسه إلى هذا التصور البعيد عن الحقيقة بشكل كامل ،لأنه يعلم في قرارة نفسه بأنه ليس كذلك وإنما هو بشر لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. 

بل وصل بفرعون ذلك الوهم فراح يعتقد بأنه إلاه يجب أن يعبد ويطاع  . قال عز وجل يصف حاله :(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي )_ القصص 38) . 

وفي صورة اخرى نجد هذا الطاغية يستخف بقومه ويصادر عقولهم وآرائهم فيعدم شخصياتهم ويذيبها من خلال قوله : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ )_ غافر 29) ‏.

ثم نجده يستعمل المكر والخداع في اضلال قومه من خلال تشويه دعوة موسى عليه السلام متخلياً عن جبروته وخطابة الطغياني محاولاً إظهار حرصه على المجتمع وعلى دين الناس كما يحكي لنا القرآن ذلك بقوله : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ  إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ _ غافر 26) .

وبعد أن فشل أيضا بهذه المحاولة راح يظل الناس بان إلاه موسى عليه السلام موجود في السماء وهو قادر على قتله والتخلص منه بشكل نهائي مصوراً لهم بأن المعركة سوف تكون بين الإلهة وأنتم لا شأن لكم في ذلك فقال : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا )_ غافر 37)                                                                                                                                               وبعد الفضيحة التي مني بها من خلال انتصار موسى عليه السلام على السحرة وإيمان السحرة بان موسى نبي الله ورسوله حاول التحايل على الناس مصورا لهم بأن السحرة قد خانوه وتأمروا مع موسى عليه السلام للإطاحة به و بشعبه لغرض اخراج شعب مصر من أرضهم وممتلكاتهم لصالح موسى وبني إسرائيل . وهنا نجده يستعمل التضليل الإعلامي وإظهار الحرص على المجتمع المصري الفرعوني .انظر إلى قوله (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )_ الأعراف 123) ثم قال لهم ( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )_ الشعراء 49) .

وبعد ان يأس من كل هذه المحاولات نجده يلتجاً إلى الطريق الأسهل وهو التصفيات الجسدية والقتل الجماعي لكل شخص أمن بموسى عليه السلام حيث يبدأ بالسحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام بعد أن رأوا المعجزة الحقيقية من تحول العصا إلى ثعبان حقيقي لا وهمي خيالي فقال مخاطبا لهم : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ )_ الشعراء 49) ثم عرج في الخطاب على موسى عليه السلام وقومه من بني إسرائيل حيث وجه خطابه اليهم بقوله : (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ )_ الأعراف 127) ثم راح يؤجج الرأي العام عليهم مستبيحاً دماءهم  لمن يريد قتلهم فقال : (إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ  )_ الشعراء 54-56) .

وامام تلك الموجة من التحريض و التوعد بالإبادة الجماعية لبني اسرائيل وكل من آمن بالدعوة الموسوية اضطر موسى عليه السلام أن يخرج قومه وكل من آمن به من مصر لأجل الحفاظ على ارواحهم واعراضهم ، ولكن فرعون لم يكتف بكل ذلك وإنما راح يطاردهم ليستأصل شأفتهم ويبيدهم على آخرهم .

وبعده ان وصل موسى عليه السلام ومن معه إلى البحر الأحمر وفلق الله البحر لموسى عليه السلام ومر بنو إسرائيل من ذلك المكان الذي تحول من بحر إلى طريق سالك كمعجزة أخرى أمام نواظر فرعون الذي منعه تكبره من الإيمان بكل هذه المعاجز التي رءاها من موسى وبدلا من الرضوخ  للحق والإيمان بالله تعالى نجده قد تبعهم إلى قاع البحر متلاطم  وهناك حدث مالم يكن يتوقعه حيث أطبق الله تعالى البحر عليه وعلى جنوده وتم هلاكهم بالغرق كلهم . قال عز وجل حاكياً عن ذلك : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا  حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ _ يونس 90)                          

وحينما أدركه الغرق تغير خطاب فرعون من الخطاب الطاغوتي الجبروتي التكبري الغاشم إلى خطاب الإيمان والتذلل والأقرار بالعبودية والضعف أمام قوة الله تعالى وإرادته ، فلا يوجد الاه في هذه الكون سواه ولا رب غيره ولا قوي ومهيمن دونه ، ولكن هل ينفع فرعون بعد كل الذي عمله في الناس وطغيانه في البلاد واكثاره فيها الفساد وقتله للأبرياء وهتكه للأعراض وغير ذلك هل ينفع ايمانه في اللحظات الأخيرة شيئا؟                                            

هنا نجد القرآن واضحاً حيث يقول مخاطباً  هذا الطاغية : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً  )_ يونس 91-92)                                                                           

فقد كانت عاقبة هذا الطغيان وهذا الطاغوت هو الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وهكذا تكون عاقبة  كل الطغاة الظالمين قال تعالى حاكياً عن مصير فرعون الأخروي : (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )_ غافر 45-46) .

وانت ترى أن السلوك الفرعوني كان نتيجة وهم العظمة والطغيان والتكبر والتجبر الذي كان يعيشه حيث نجده يرى الحق ظاهراً ومتجلياً امام عينيه من خلال دعوة موسى عليه السلام ‏والمعاجز التي قدمها بين يدي تلك الدعوة ، وكانت دعوة ايمان وخير وبركة للجميع ومنهم فرعون نفسه لو كان يسمع نداء الحق وصوت العقل فلم  يكن يضر فرعون لو كان آمن بدعوة موسى فإنه سوف يبقى ملكاً وحاكماً ويتمتع بكل المزايا التي عاش فيها من غير أن ينقص منها شيئاً ، ولضمن نفس النعيم واكثر في الآخرة لأن الملك المؤمن العادل له من الأجر والثواب أضعاف مالغيره لانه سوف يكون عوناً وناصراً للحق والإيمان بدلاً من كونه عدواً للحق والرحمن الا أن المرض النفسي الذي يتمثل بالتكبر والطغيان كان هو المانع من ذلك كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ  إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ )_ غافر 56) .

ولذا نجد ان مشكلة ابليس الكبرى التي كانت سبباً في خروجه عن حكومة الله تعالى  هي سجية التكبر والاعتقاد بالأفضلية ،فإن الذي منعه من السجود لآدم  اعتقاده  بأنه أفضل من آدم لانه مخلوق من النار في حين أن آدم مخلوق من الطين والنار أفضل من الطين . وقد حكى الله لنا ذلك بقوله : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ) الحجر 32-33) .وقال : (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ  قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ )_ الأعراف 12)                                                                                                 اذن المشكلة الكبرى في انحراف الإنسان عن الحق وابتعاده عن الله تعالى وظلمه وتجبره إنما هو الغرور والتكبر وتصور انه أعظم وأكبر من الجميع، أي حالة الاستكبار في الأرض قال عز وجل : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ )_ الجاثية 31) .

وعلى هذا الأساس ينبغي لمن يريد تهذيب نفسه أن يبدأ بهدم الصرح الطاغوتي التكبري في داخل نفسه من خلال توطين النفس على التواضع وعدم تصور انه شخص عظيم وكبير وباقي الناس دونه او ليسوا بمستواه فيأبى قبول الحق من الغير فيكون بذلك فرعوناً صغيراً ويقول بلسان حاله : (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ  الأعلى ) _ النازعات 24) . وغير ذلك من الخطابات الفرعونية.

أسأل من الله تعالى أن يجعلنا من أهل التواضع وأن لا نرى في انفسنا فضلاً على غيرنا في أي شيء فإن المعطي هو الله تعالى ونحن الفقراء إليه وان شاء سلبنا ما اعطانا  سواء اكان ذلك علماً او مالاً او جمالاً او قوة أو غير ذلك .

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

السيد فاضل الموسوي الجابري 

ليلة ١٣ رجب 1445هـ  كربلاء المقدسة

تعليقات