جاء القرآن الكريم بدين الفطرة في كل شيء، فطابقت قواعد أحكامه وأصول آدابه وشرائعه، مقتضيات الفطرة البشرية، ومن الأسس والأصول الثابتة التي بنيت عليها مبادئ الشريعة الإسلامية مراعاة الفطرة الإنسانية.
أولاً: الفطرة في اللغة والاصطلاح:
الفطرة لغة:
من مادة فطَر، وهي: الشق فطر الشيء يفطره فطرا فأنفطر: شقه، وتفطر الشيء. تشقق، والجمع فطور، وتأتي بمعنى الخلق، يقال: فطر الله الخلق؛ أيّ خلقهم وأنشأهم. فالفطرة: الابتداء والاختراع وهي ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به، وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
قال الراغب الأصفهاني(ت502هـ): "وفطر الله الخلق: هو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال، فقوله: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاـ فأشار فيه تعالى إلى ما فطر. أي: أبدعَ وركز في الناس من معرفته تعالى".
2- الفطرة اصطلاحاً:
من تعريفات الفطرة في الاصطلاح هي: "الجبلة التي خلق الله الناس عليها، وجبلهم على فعلها".
فقوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، "تعني تلك الهيئة التي خلق بها الإنسان، أي أن الله قد خلق الإنسان بهيئة خاصة، بما فيها تلك الخصائص التي أودعها فيه عند خلقه، وهي فطرته".
فهي الأفعال التي تنبع من جبلة الإنسان وفطرته وغريزته، كالتنفس، والدفاع عن النفس عند مواجهة الخطر والميل إلى الغريزة الجنسية والميل إلى حب المال والجاه والمكانة الاجتماعية، فهذه الغرائز جبل عليها الإنسان، وهي لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان والمكان، كما لا تخضع لأي عامل خارج الذات.
وهذه الأفعال تحتاج إلى من يوجهها إلى الخير ويسعى بها نحو الصلاح، ولا يكون ذلك إلاَّ في منهج الإسلام، الذي "يعرف طريقه إلى النفس البشرية منذ اللمسة الأولى، يعرف دروبها ومنحنياتها فيتدسس إليها بلطف، ويعرف مداخلها ومخارجها فيسلك إليها على استقامة، ويعرف قوامها ومقدراتها فلا يتجاوزها أبداً ويعرف حاجاتها وأشواقها فيلبيها تماماً، ويعرف طاقاتها الأصيلة البانية فيطلقها للعمل والبناء".
ثانيًا:موقف الشريعة الإسلامية من الفطرة وأثرها في مبادئ الشريعة:
إنَّ الشريعة الإسلامية جاءت موافقة للفطرة الإنسانية بما تحمله من مبادئ وقيم، ومن المستحيل أن يكون في شرع الله عز وجل امر يخالف الفطرة ويعارضها، فجاءت التشريعات موافقة للفطرة الإنسانية، قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فوجه الإجمال في الآية المباركة يدل على الموافقة وإن أكثر المفسرين، على أن المقصود بالفطرة هنا هي الإسلام.
فالإنسان الذي فطرته سليمة هو صاحب الدين السليم، وهو الإسلام، وقد ورد في الحديث الشريف: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه)).
واستعملت هنا بمعنى الدين، فالمولود يولد على فطرة التوحيد والإسلام. فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق() في قول الله عز وجل: فِطْرَت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، قال: "فطرهم على التوحيد".
فالإسلام هو دين الفطرة وهو النظام الذي يلبي كل الحاجات الحقيقية للإنسان، ويؤمن كل حاجات الإنسان الواقعية، ولا يحدَّد الإنسان إلاّ من ناحية ميوله الشريرة غير الراجعة إلى الحاجات الحقيقية كالحسد وحب الإيذاء وغيرها.
والذي يبدو أن مبادئ الشريعة الإسلامية جاءت لتحافظ على الفطرة السليمة للإنسان؛ لذلك فقد أكدت الشريعة الإسلامية من خلال مبادئها العامة في الحفاظ ومراعاة طبيعة النفس البشرية وفطرتها. والذي يدقق النظر في مبادئ الشريعة يجد أن كل مبدأ من مبادئها يرجع إلى معالجة أمر فطري في الإنسان ويوجهه نحو عمل الخير والابتعاد عن كل عمل فيه شر.
وإنَّ الدين الإسلامي جاء مع الفطرة التي خلق الإنسان عليها وهي فطرة التوحيد وأمر الناس باتباع هذا الدين، لذلك فالمحافظة على هذه الفطرة وعدم مصادمتها مع مبادئ الشريعة اكسبهما خصائص مهمة منها الثبات، وإن فطرة الله السليمة لا تتغير ولا تبدل "لأنّ الفطرة غير قابلة للتغيير، فإن الأصول الكلية للدين غير قابلة للتغيير، وهي ليست غير قابلة للتغيير في المستقبل فحسب، بل إنها طوت ماضٍ طويل وراءها، فما دامت هذه الإنسانية، موجودة ومستمرة فإن هذا الدين ومجموعة المعارف والأحكام المسماة بالإسلام، سيكون موجودًا ومستمراً".
ويقول سيد قطب (ت1386هـ): وهو يتحدث عن رسالة السماء الخاتمة، وكيفية انسجام مبادئها مع فطرة الإنسان، إذ يقول أنّها: "رسالة تخاطب الإنسان من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنّها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير: فِطْرَت اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان، وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة الإنسان منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو وتتطور، وتتجدد؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار".
وعليه فإن الشريعة الإسلامية الغرّاء هي شريعة دائمة وذات مبادئ ثابتة مبنية ومنسجمة وموافقة بالكامل مع مبدأ الفطرة التي فطر عليها الناس، وهذه الفطرة قائمة في كل زمان ومكان؛ لأنَّ الله تعالى أراد القرآن للبشر كافة "في كل زمان ومكان بما يحمله من وظائف لعلَّ أولها الوظيفة التشريعية الخالدة، إذن ثمة علاقة بين القصدية القرآنية والأسلوب القرآني"، وهكذا تأخذ فطرة الإنسان مكانتها بعد أن تتقوى غاياتها برؤى القرآن الكريم؛ لأنَّ هناك: "محاورة النص القرآني للعقل دوماً في كل زمان ومكان، وتأكيد الجانب العلمي بكل جوانبه، وعجز الإنسان مهما بلغ في علمه عن معرفة الجانب الغيبي وأمور أخرى...؛ لأنَّ القرآن الكريم رسالة ربانية تحاور العقل مهما بلغ من العلم في أي عصر"، وتبقى الفطرة علاقة مهمة في نشأته.