المبحث الأول
المبادئ العامة في القرآن والسنة
الأدلة النقلية هي الأدلة النصية والمتمثلة بكتاب الله عز وجل والسنة المطهرة، وهذه الأدلة تقوم على التسليم المسبق بالنص كسلطة إلهية، ولا يمكن نقدها أو رفضها، فهي أدلة إيمانية صرفة.
وكان ذلك من خلال نشر مبادئ الإسلام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية المقدسة، وأن هذه المبادئ تلائم فطرة الإنسان السليمة.
وأمّا الركيزة الثانية فهي السنة المطهرة، ومن اغفل النظر في السنة الشريفة فقد أغفل جزءًا من الشريعة لم يتعرف على مبادئه السامية لأنّه لا يستطيع معرفة المبادئ العامة للشريعة المقدسة والقواعد الكلية إلاَّ بعد النظر في الشريعة كاملة قرآناً وسنة، فهناك تعاون وانسجام تام بينهما، وقد ورد عن النبي الأكرم(k) قوله: ((ألا إني أُوتيت الكتاب ومثلّه معه))، فالسنة لها من الأهمية الكبيرة في بيان ومعرفة مبادئ الشريعة، فهي أما مؤكدة أو مبينة أو مكملة.
المطلب الأول: التعريف بالقرآن الكريم في اللغة والاصطلاح:
أولاً: معنى القرآن لغةً:
اختلف العلماء في تحديد المعنى اللغوي لكلمة (القرآن) على أقوال، ويرجع هذا الاختلاف إلى اتجاهين واعتبارين رئيسيين وهما: الجمود والاشتقاق، والأقوال، كالآتي:
1-منهم من قال إن القرآن اسم جامد غير مشتق من جذر لغوي وغير مهموز، أي أنه اسم علم غير منقول وضع من أول الأمر علماً على الكلام المنزل على نبينا محمد(k)، كما في أسماء الكتب الأخرى مثل التوراة والانجيل.
وذهب إلى هذا القول الشافعي(ت204هـ)، أو ابن كثير (ت774هـ)، والسيوطي(ت911هـ)، وبعض المحدثين يرون أن اطلاق لفظ القرآن على كتاب الله أمر توقيفي؛ لأنّ الله سماه بذلك.
2-من العلماء من ذهب إلى القول: إن القرآن اسم مشتق من (القرائن)؛ لأنَّ الآيات يصدق بعضها بعضاً، ويُشابه بعضه بعضاً كالقرينات، أي: المتشابهات، فكل واحدة قرينة على الأخرى، وهذا قول الفرّاء(ت207هـ).
3-قيل أنه لفظ مهموز، أي (قرآن)، وهو مشتق من (قرأ) ومصدرٌ له، وهذا ما ذهب إليه اللحياني(ت215هـ)، إذ قال هو: "مصدر لقرأت كالرجحان والغفران سمي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر".
4-ذهب الزجاج(ت311هـ) وغيره إلى القول بأن القرآن وصف: "مشتق من القَرءِ بمعنى الجمع، ومنه قَرأتُ الماء في الحوض، أي جمعته".
وسمي القرآن بذلك لأنّه قد جمع السور والآيات بعضها إلى بعض، أو لأنّه جمع ثمرات الكتب المنزلة السابقة، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم.
5-مشتقة من (قَرَنَ)، وقرنت الشيء أقرنه قرناً، أي: شددته إلى شيء وسمي به لِقران السور والآيات والحروف فيه، وهذا منقول عن أبي الحسن الأشعري(ت324هـ).
ثانياً: القرآن اصطلاحاً:
القرآن الكريم هو أجلّ وأشهر من أن يعرف، وذلك لعظم كينونته وسعة اعجازه، ومع هذا اعتنى الأصوليون بتعريفه وذكروا له تعاريف شتى حرصاً منهم بان يكون تعريفه جامعاً مانعاً، وكذلك قصدوا أيضاً ما يصلح دليلاً تبتني عليه الأحكام الشرعية وليتميز عن غيره من الأحاديث ونحوها من سائر كلام الناس، ومن هذه التعريفات:
1-عرف البزدوي(ت482هـ) القرآن الكريم بأنه: "هو الكتاب المنزل على رسول الله محمد (k) المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلاً متواترًا بلا شبهة".
2-أما بالنسبة إلى السيد الشهيد محمد باقر الصدر(ت1400هـ) فقد ذكر بأن القرآن الكريم: "هو الكلام المعجز المنزّل وحياً على النبي (k) المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته".
3-وأما ما ذكره السيد محمد تقي الحكيم(ت1423هـ) بأنه: "كتاب الله عز وجل الذي أنزل على نبيه محمد(k) ألفاظاً ومعاني وأسلوباً، واعتبره قرآناً دون أن يكون للنبي(k) دخل في انتقاء ألفاظه أو صياغته".
المطلب الثاني: السُنّة في اللغة والاصطلاح:
أولاً: السنة لغة:
الطريقة والعادة والسيرة -حميدة كانت أم ذميمة- والجمع سنن، قال صاحب اللسان(ت711هـ): "السُّنة في الأصل سنة الطريق، وهو طريق سُنة أوائل الناس فصار مسلكا لمن بعدهم"، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، أي سنن الذين من قبلكم من أهل الحق والباطل لتكونوا على بصيرة فيما تفعلون وتجتنبون من طرائقهم.
وجاء في مختار الصحاح أنّ السُّنة هي الطريقة والسيرة سواء كانت محمودة أم مذمومة، قال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾.
وورد في كشاف اصطلاحات الفنون بأنّها: "الطريقة حسنةً كانت أو سيئة"، وجاء في الحديث الشريف: (من سنّ سُنّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها). ثمّ استعملت في الطريقة المحمودة المستقيمة، فسنّة الله تعالى أحكامه وأمره ونهيه وقد تُقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾، وقال عزّ وجلّ: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾.
وتأتي بمعنى البيان، يُقال سنّ الأمر بينه، وسنّ الله أحكامه للناس بيّنها، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾، وسُنّة الرسول(k) طريقته التي أجراها بامر الله سبحانه وتعالى فأُضيفت إليه.
وأيضا تأتي بمعنى الشريعة، وكذلك تُطلق على الأمر الجديد، أي كلّ من ابتدأ أمرا عمل به من بعده فهو الذي سنّهُ.
والذي يبدو أنّ أكثر المعاني وضوحا وأغلبها استخداما هي الطريقة والسيرة سواء كانت حسنة أم سيئة، لذلك قال صاحب النهاية: "الأصل فيها الطريقة والسيرة".
ثانياً: السنّة عند المحدثين:
علماء الحديث ينظرون إلى كلّ ما يصدر عن النبي(k) باعتباره الاسوة الحسنة والقدوة لنا فلذلك نقلوا كلّ ما صدر عنه من أمور يؤخذ منها حُكم شرعي أو لا يُؤخذ.
فالسنة عند المحدثين هي كلّ ما أثر عن الرسول(k) من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية، أو سيرة سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها، وهي بهذا المعنى ترادف الحديث عند بعضهم؛ لذلك فإنّ علماء الحديث نقلوا كلّ ما يتصل بالنبي(k) من سيرة وخلق وأخبار وأقوال وأفعال سواء أثبت ذلك حُكما شرعيا أم لا.
ثالثاً: السنة في عرف الفقهاء:
تطلق السنة في الفقه ويراد بها عدة معانٍ منها:
1- ما هو مشروع ومنصوص عليه شرعا من الأفعال والتروك، أي: "كلّ حكم يستند إلى أصول الشريعة".
2- فعل داوم عليه الرسول(k) من النوافل وأكد الأمر على غيره بالدوام عليه.
3- ويرى بعضهم بأنّها الفعل إذا واظب عليه النبي(k) ولم يدل دليل على وجوبه.
4- أو ما فعله النبي(k) مع ترك ما بلا عذر.
5- أو هي ما يستحق الثواب بفعلها ولا يعاقب بتركها.
6- ويرى بعضهم بأنّها المطلوب فعله طلبا مؤكدا غير جازم.
7- ويستعملونها فيما إذا كان من الأفعال مندوبا عبادة كان أم غيرها، فيقولون مثلا سنن الوضوء، ويقصدون ما يستحب من الفعال.
رابعاً: السنة في اصطلاح الأصوليين:
الأصوليون أرادوا بالسنة أحد الأدلة الشرعية على الأحكام، أي هي مصدر للتشريع تستمد منها الأحكام الكلية التي تُبنى عليها الفروع الفقهية فهم يعتبرونها دليلا من أدلة الفقه في قبال القرآن الكريم والإجماع والعقل. لذلك عرّفها الإمامية بأنّها: قول المعصوم () أو فعله أو تقريره، فقد ثبت لديهم أنّ المعصوم من آل البيت() يجري قوله وفعله وتقريره مجرى قول النبي(k) وفعله وتقريره من كونه حجة على العباد واجب الاتباع، وبلا فرق بينهم فيما يصدر عنهم في شؤون الدين أو الدنيا.
أما عند المذاهب الأخرى فهي ما صدر عن الرسول(k) من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو، ويدخل في ذلك أقوال النبي(k) وأفعاله وتقاريره.
ويرى بعضهم أنّ السنة كما تصدق على ما صدر من النبي(k) من قول أو فعل أو تقرير كذلك تصدق على ما صدر من الصحابة وذهب إلى هذا الرأي متأخرو الأحناف، ووافقهم الشاطبي المالكي.
فالسنة القولية هي ما صدر عمّن تنسب إليه من الألفاظ مختلف باختلاف المناسبات والأغراض المتعددة، فسنة النبي(k) القولية هي ألفاظه الكريمة المعبّر عنها بالحديث الشريف مثل قوله (k): (البيعان بالخيار ما لم يفترقا)، وقوله (k): (لا ضرر ولا ضرار).
والسنة الفعلية هي التصرفات العملية لمن نسبت إليه السنة، فالسنة الفعلية للنبي(k) هي جميع أفعاله من عبادات ومعاملات شرعية تُبيّن الدين، وكذلك أفعاله الصادرة عنه بمقتضى كونه إنسانا أو مكلفا، وسواء أكانت تصرفاته مع نفسه أم مع الآخرين، مثل الصلاة والحج فقد بيّن أفعال الصلاة وكيفيتها بيانا تاما بعد ورود الأمر بها مجملا في القرآن الكريم، فقال (k): (صلوا كما رأيتموني أصلي). كذلك الحج عندما حجّ النبي(k) فأراهم بفعله كيف يحجون، ثمّ قال لهم: (خذوا عني مناسككم).
والسنة التقريرية: هي سكوت من تنسب إليه السنة عن الإنكار أو المدح على قول أو فعل صدر عن الغير وهو يعلم بصدوره ويتمكن من الإنكار عليه أو مدحه ومن أمثلة السنة التقريرية العمل بظاهر الكلام أو طرق الناس في بناء منازلهم وغير ذلك.
المطلب الثالث: بيان القرآن والسنة للأحكام:
أحكام الشريعة تكون على قسمين، الأول: يكون على شكل أحكام تفصيلية، وأما الثاني: يكون على شكل مبادئ عامة، وكلا القسمين جاء على نحو يوافق كل مكان وزمان، ويتفق مع عموم الشريعة وبقائها، وبيان ذلك كالآتي:
أولاً: الأحكام التي اشتمل عليها القرآن:
1-الأحكام الاعتقادية: وهي الأحكام التي تتعلق بما يجب على المكلفين اعتقاده في الله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعني القرآن الكريم بقضايا العقيدة وطرق إثباتها، قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ...﴾.
وقد أقام ألأدلة والبراهين على وجود الله تعالى ووحدانيته، وتفرده بالخلق والتدبير، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾، وكذلك اصطفى الله سبحانه وتعالى من البشر رسلا وأنزل عليهم كتبا وبعثهم لهداية الخلق، ويبدو أنّ هذه العناية بهذه القضايا الاعتقادية كانت واضحة في السور المكية، التي ركزت في الجوانب الاعتقادية ومسائلها وطرق تأسيسها، وهذا لا يعني أنّ السور المدنية لم تركّز في العقائد؛ لأنّ العقائد ترتكز عليها حياة الإنسان، فكان التركيز في مكة في بداية الأمر لأنّها كانت معقل الوثنية آنذاك وحامية الشرك، فأراد القرآن الكريم اقتلاع جذور الوثنية، وغلق منافذ الشرك وتأسيس العقيدة الصحيحة في نفوس الناس حتى تُبنى عليها مبادئ وقواعد الدين ونظمه.
2-الأحكام الأخلاقية: وهي الأحكام التي تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل وأن يتخلى عنه من الرذائل، والتي تتعلق بتهذيب النفس وتقويمها، وقد حارب القرآن الكريم الفوارق بين الناس إلاّ في طاعة الله سبحانه وتعالى وحسن الخلق، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، وقال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾، وقال النبي محمد(k): ((لا فضلَ للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى))، وكذلك روّض النفوس على حبّ الخير والتواضع وأرشد إلى آداب التزاور والمجالسة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾،وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ﴾، وقد كلّف الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية بحمل الرسالة الخلقية ونشرها بين الناس والدعوة إلى الخير والخلق القويم، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ﴾، وكذلك حارب الله عزّ وجلّ الرق والاستعباد ونفّر الناس منه فجعل عنوان شكر الله عزّ وجلّ على نعمائه فك رقبة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، وهكذا تناول كثيرا من المبادئ الإسلامية الخلقية العظيمة التي تدعو إلى الخلق القويم والعمل المجدي لبناء المجتمع الإسلامي، بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء والنهي عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم.
3- الأحكام العملية: وهي الأحكام المتعلقة بأقوال وأفعال المكلفين، التكليفية منها والوضعية وتناول دراستها علم الفقه كما تناول حجية دلالة آياتها علم الأصول وتُسمى الآيات هذه بآيات الأحكام وبلغ عددها خمسمائة آية.
وهذه الأحكام تكون على نوعين:
النوع الأول: العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج والغرض منها تنظيم علاقة الفرد بربه تعالى وقد أمر القرآن الكريم بالفرائض كلها، فأمر بالصلاة والزكاة، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وأمر بالصيام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وأمر بالحج قال عزّ وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، وأمر بالصدقات المرسلة بكافة أنواعها، قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾.
ويلحظ أنّ بيان القرآن الكريم للعبادات إجماليا فأمر بالصلاة ولم يُبيّن أوقاتها تفصيلا ولا أركانها وترك بيانها للنبي(k) الذي بيّنها كاملا بالعمل فقد قال(k): (صلوا كما رأيتموني أصلي"، وكذلك الزكاة ورد بها ألأمر إجمالا وإن بيّن القرآن الكريم مواضع صرفها غير أنّ التفصيل جاءت به السنة، وكذلك الحج ذُكر مجملا وبيّنه النبي بيانا كاملا في مكة، وقال: (خذوا عني مناسككم)، أما الصيام وإنْ بيّن القرآن الكريم مدته فقد ترك للسنة بيان الإمساك والشروط وبقية أحكامه.
وتمثل العبادات لبّ هذا الدين ومرتكزه عموده الذي تقوم عليه أخلاق الناس وتعاون المجتمع؛ لذلك تعاضدت السنة والقرآن الكريم لبيان هذه العبادات ليقل فيها القياس والتفسير المنفرد لذلك كان بيان القرآن الكريم لها إجماليا.
النوع الثاني: المعاملات: ويقصد بها تنظيم علافة الفرد بالفرد أو الفرد بالجماعة أو الجماعة بالجماعة، ومنها:
1- أحكام الأحوال الشخصية: التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، من زواج وطلاق ونسب ونفقة ووصايا وميراث وغيرها.
2- الأحكام المتعلقة بنشاط الناس الاكتسابي أو ما تسمى بالأحكام المدنية، وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم مع بعضهم البعض في الأموال والحقوق وتصرفهم في التعاقد وغيره وتشمل البيع والاجارة والرهن والكفالة والمداينة والوفاء بالالتزام وغيرها، والتي تحفظ حقوق الناس، وتسمى هذه الأحكام وأحكام الأحوال الشخصية في الاصطلاح القانوني الحديث بـ(القانون المدني).
3- الأحكام الجنائية: وهي التي تهدف إلى حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وكذلك ضبط النظام الداخلي بين الناس، فهي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة.
4- أحكام المرافعات التي تتعلق بالقضاء الشهادة واليمين والتي يقصد بها تنظيم الاجراءات لتحقيق العدل والمساواة بين الناس.
5- الأحكام الدستورية: التي تتعلق بنظام الحكم وتحديد علاقة الحاكم بالمحكوم وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق.
6- الأحكام الدولية: التي تنظم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى، وكذلك معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية ويقصد بها تحديد علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وتسمى في الاصطلاح القانوني بـ(الحقوق الدولية العامة).
7- الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي يقصد بها تنظيم الموارد المصارف، أي تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وبين الدولة والأفراد.
ويتضح عن طريق عرض هذه الأحكام التي اشتمل عليها القرآن الكريم بأنّه يريد بناء نظام روحي ومدني، منظما لأمور الدين والدنيا، قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾، ويعتبر بعض الفقهاء هذه الأحكام الضرورية الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها والمتفق عليها هي بمثابة مبادئ عامة في الشريعة الإسلامية.
ثانياً: بيان السنة المطهرة للأحكام:
نص القرآن الكريم على وجوب الأخذ بقول الرسول (k)، واتباع أوامره ونواهيه، قال عز من قائل: مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وقال سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً، وجاء أيضاً: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وغير ذلك من الآيات المباركات التي تدل على أن أقوال الرسول(k) وما يخبر به عن الله (جل جلاله) في التشريع وغيره كنصوص الكتاب بلا فرق بينهما في اثبات الأحكام، فالسنة المطهرة في بيانها الأحكام تكون كالآتي:
1-السنة التأكيدية: وهي ما تؤكد مضمون ما جاء به الكتاب الكريم من أحكام عامة وتكون موافقة للقرآن الكريم، من غير زيادة أو نقصان، مثل: السنة الآمرة، بالصلاة والصوم، والزكاة والحج والآمر بالمعروف والناهية عن الخمر والميسر والربا وأكل الميتة، ومن الأمثلة أيضاً قوله (k): ((المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب نفس منه)).
وهو موافق لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ.
فالسنة المطهرة تؤكد على احترام مال المسلم، وجعلت مال المسلم وحرمته بمثابة دمه فكما يحرم انتهاك دم المسلم، يحرم انتهاك ماله، كما قال (k): ((مال المسلم ودمه حرام)).
2-السنة البيانية:
وهو الدور الأهم الذي تلعبه السنة فهو يمثل المهمة التشريعية الرئيسية لها.
فهي التي تخصص عمومه، وتقيد اطلاقه، وتبيّن مجمله، وتوضح مشكله، فهي السنة التي تبين المراد القرآني من الصلاة والصيام والزكاة والحج ونحوها من حيث اجزاء العبادة وشرائطها وموانعها كبيانها للصلوات على اختلافها في أنواع مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها، وكذلك بيان أحكام الصوم والحج، وكذلك فصلت هذه السنة في أحكام الطهارة والذبائح والصيد وما يؤكل وما لا يؤكل، وكذلك الانكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان، وأيضاً البيوع واحكامها، والجنايات والقصاص وغير ذلك، فهي تفصل وتبين وتخصص وتقيد وتوضح ما ورد في القرآن الكريم وهذا ما يظهر دخوله تحت قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، ومن الأمثلة على ذلك:
أ-تخصيص العام:
العام في اللغة مشتقة من العموم وهو الشمول والاستيعاب.
وفي الاصطلاح هو :"لفظ شامل لجميع الأفراد التي تحته"، أو هو: "شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله"، وأما التخصيص هو:" اخراج بعض ما يتناول اللفظ العام بدليل".
قال تعالى: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ.
فالآية المباركة قررت حق الأولاد في الإرث من آبائهم، وامهاتهم، لكن السنة منعت الولد القاتل من الميراث، قال النبي محمد (k): ((لا ميراث للقاتل)).
ب-تقييد المطلق:
المطلق في اللغة هو: "التخلية والإرسال"، والمقيد هو: "الإمساك والحبس".
وأما المطلق في الاصطلاح هو: "ما دل على شايع في جنسه، والمقيد خلافه فهو ما يدل لا على شايع في جنسه".
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ.
فلفظ الوصية الوارد في الآية المباركة مطلق غير مقيد بمقدار ميعن. والسنة قيدت مقدار الوصي بالثلث فلا يجوز اخراج الوصية بأكثر من الثلث.
لقوله(k): ((الثلث، والثلث كثير)).
ج-توضيح المشكل:
المشكل في اللغة هو: "التباس الأمور، واشكل الأمر التبس، وأمورٌ أشكال بمعنى: ملتبسة.
وفي الاصطلاح: هو "اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لابد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه".
قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ.
وإن الخيط الأبيض والخيط الأسود من المشكل الذي لا يفهم المراد منه إلا بقرينة، فجاءت السنة المطهرة بتوضيح وتفسير المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود في وقت الامساك في الصوم، وهو:(بياض النهار وسواد الليل)، روي أن عدي بن حاتم(رض) قال للنبي(k): أني وضعت خيطين من شعر، ابيض واسود فكنت انظر فيهما، فلا يتبين لي؟ فضحك رسول الله حتى رؤيت نواجذه، وقال: يابن حاتم! إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل، فابتداء الصوم من هذا الوقت".
د-تفصيل المجمل:
المجمل في اللغة هو: "لا يحدُّ في نفس الخطاب"، أو "مالم تتضح دلالته"، فهو من إجمال الشيء إجمالاً، أي: جمعته من غير تفصيل.
وفي الاصطلاح هو: "الخطاب الذي لا يدل على المراد بنفسه من غير بيان".
قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
1-ظاهر الآية المباركة يقتضي قطع سارق القليل والكثير، والفعل لا يهتدي إلى الفصل فيه لحد تقف المعرفة عنده، فجاءت السنة المباركة بتحديده بربع دينار بقوله(k): ((لا قطع إلاّ في ربع دينار)).
2-ظاهر الآية يقتضي القطع في كل مال لا يسرع إليه الفساد أو يسرع كالخضار والفاكهة، وجاءت السنة مفصلة أن من سرق ثمرًا ونحوه لا تقطع يده، فقد روي عن النبي محمد (k) أنه قال: ((لا قطع في ثمر معلق)).
3-لم تبين الآية اشتراط الحرز الذي يجب قطع يد السارق له، وجاءت السنة مبنية له.
4-وبينت السنة أن حد السرقة وغيره من الحدود لا يقام في المساجد لقوله (k): ((لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد)).
5-وفصلت السنة المباركة أنه لا يقام الحد مع وجود الشبهة لقوله (k): ((ادرأوا الحدود بالشبهات، ولا شفاعة ولا كفالة ولا يمين في حد)).
3-السنة التأسيسية:
وهي السُنّة التي تكون مشتملة على حكم جديد غير مؤكد لما في القرآن ولا مبين له، أي: تثبت أحكاماً شرعية لم يتعرض لها الكتاب المجيد بمعنى أن تكون موجبه لحكم القرآن عن ايجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه، مثل السنة المثبتة لمانعيه قتل الوارث مورثه من ميراثه، أو لسببية الشركة للشفعة، أو استحباب الآذان للصلاة، أو كراهة الدخول في سوم المؤمن أو تحريم ليس الحرير والذهب للرجال، أو وجوب نفقة الوالدين على ولدهما، ونحو ذلك.
ويبدو أن السنة التأسيسية راجعة إلى الكتاب العزيز؛ لأنَّ كل حكم في السنة المطهرة له أصل في الكتاب في الجملة، إذ القرآن الكريم تبيان لكل شيء، وهناك تلازم بين القرآن والسنة وأن أحدهما يكمل الآخر ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما خصوصاً في بيان الأحكام واستنباطها.
لذلك قيل: "السنة راجعة إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله وبسط مختصره، على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها".
المطلب الرابع: بيان القرآن والسُنّة للمبادئ العامة في الشريعة الإسلامية:
إنّ الشريعة الإسلامية هي من أعظم واتم واكمل الشرائع الإلهية، فهذه الشريعة تلبي كل ما تحتاجه المجتمعات البشرية لأنها خاتمة الشرائع الإلهية، وهذه الشريعة المتكاملة تمتاز بأنها صالحة لكل زمان ومكان، فهي شريعة عامة لكل الناس وعلى اختلاف اصنافهم واجناسهم وألوانهم، قال سبحانه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
وقال (k): (بعثت إلى الناس كافة).
وتقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ عظيمة ودعائم ترتكز عليها ومنها:
أولاً: مبدأ العدل والإحسان:
أبرز معاني العدل في اللغة هي: المساواة والمثيل والاستقامة والتوسط والحكم بالحق والتسوية وهو ضد الجور.
وأما في الاصطلاح: فهو "عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور ديناً".
وكذلك هو: "الارادة الراسخة والدائمة لاحترام كل الحقوق، وأداء كل الواجبات".
والعدل هو نظام الوجود لا يستقيم بدونه حال فرد أو جماعة، وسماه بعض الحكماء ركن الوجود الأقوى، كما أطلق عليه بعضهم المحور الذي يدور عليه الكون.
وعملت الشريعة الإسلامية في أحكامها على احقاق العدل والانصاف واعتبرت الشريعة اقرار العدل هدفاً لبعث الرسل وتنزيل الاديان وهددت باللجوء إلى القسر والعنف لإقرارها عند الاقتضاء، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، ودعت إلى السلوك الاجتماعي في علاقات المسلمين مع بعضهم أو حتى مع غير المسلمين في دولة الإسلام أو في معاملاتهم لأعدائهم على أسس من العدالة.
أمّا الإحسان في أصل اللغة بمعنى الإجادة والنفع والاتقان، والاحسان ضد الاساءة.
وفي القرآن الكريم:هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ .
ويأتي الإحسان بمعنى الاستقامة والاخلاص وفي الفلسفة فعل ما هو خير للآخرين فضلاً ومحبة، وللإحسان معنيان روحي وهو مراقبة الله تعالى في السر والعلن والمعنى الاجتماعي المعاملة الحسنة بالقول والفعل ومقابلة السيئة مع الآخرين بالحسنة، قال تعالى:ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وعليه فالإحسان: (إسلام ظاهر يقيمه إيمان باطن يكمله إحسان شهودي).
والعدل والإحسان من الركائز الإسلامية لصلاح المجتمع الإنساني، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل ونهى عن الظلم، قال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ويرى ابن مسعود أن هذه الآية اجمع آية بالقرآن الكريم بخير وشر.
وكون الأمر بالعدل تقديمه على غيره من أجمع الأوامر الربانية فهو المبدأ الأعلى والأسمى الذي تدور حوله وفي فلكه باقي تعاليم الرسالة الخاتمة.
وهذه الآية تعد مصدرًا تشريعياً لا تنحصر في جانب من الجوانب، وإنّما هي شاملة لجميع أنشطة البشر.
وفد نهى سبحانه وتعالى أن يكون البغض والشقاق داعيين لعدم العدل فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ، وقوله سبحانه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا.
وركز الإسلام في أحكامه على تحقيق العدل ويقول الشيخ المفيد: "أن الإسلام بني على توحيد الله في ذاته وصفاته وتوحيده في عنايته وعبادته فهل هذا إلا الفطرة، وأسس شرعه على العدل والإحسان والفضيلة والمحبة...".
ثانياً: مبدأ العدالة والمساواة:
العدالة في اللغة تدل على الاستواء وايضاً الاستقامة، والمساواة مصدر ساوى بضم الميم بمعنى أن يكون اللفظ المعبر عن المعنى المراد مساوياً له لا ينقص ولا يزيد وتأتي المساواة بمعنى المماثلة والمعادلة من حيث القدر أو القيمة وهي مأخوذة من السواء، والفرق بينهما: "أن المساواة تكون في المقدارين اللذين لا يزيد أحدهما على الآخر ولا ينقص عنه والتساوي التكافئ في المقدار، والمماثلة هي أن يسد احد الشيئين مسد الآخر كالسوادين".
واكدت الشريعة الإسلامية على مبدأ العدالة والمساواة المطلقة بين الناس أمام الأحكام الشرعية، فالناس سواء أمام الأحكام الشرعية لا يفضل أحدهم على غيره إلا بقدر تشبعه بالمبادئ الإنسانية التي تزخر بها الشريعة الإسلامية وتمسكه بتعاليمها الرامية إلى تحقيق مصالح العباد، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، ومبدأ العدالة والمساواة مبدأ عظيم يضمن مصالح الناس في كل زمان ومكان ويتسع لكل تنظيم يحقق العدالة، والشريعة الإسلامية بتركيزها على هذا المبدأ هو من أجل القضاء على روح التميز والتفاضل بين الأفراد دون وجه حق، وتستأصل روح البغضاء والنقمة والتحلل والاستهتار بالنظام ومصلحة الجماعة، وبعث في نفوس المجتمع الثقة والاطمئنان.
وشدد الإسلام في أحكامه على عدم التفرقة بين الأفراد وإعطاء كل ذي حق حقه وهذا ما عمل به الإمام علي بن أبي طالب () في ظل حكمه، اقتداء بسنة النبي محمد(k) فقد ساوى في العطاء بين السيد والعبد وتمثل باقل فرد في المجتمع ولم يميز أي فرد على الآخر وسياسته العادلة هذه تمثل الرؤية الإسلامية الممثلة لخط رسالة الإسلام العظيمة.
ثالثاً: مبدأ الرحمة:
الرحمة في اللغة وهي مشتقة من الفعل (رَحِمَ)، قال ابن فارس(ت395هـ): "الراء والحاء والميم، أصل واحد يدل على الرقة والعطف والرأفه، يقال: من ذلك: رَحِمَهُ يرحمه، إذا رقَّ له وتعطف عليه"، فهي تتضمن معاني الرقة والمغفرة والتعطف.
والرحمة في الاصطلاح هي: (رفع العذاب واشكال النقمة عن الكائن الحي من خلال تخليصه من الآفات المهلكة وإيصال الخيرات لأصحاب الحاجات)، والرحمة فضيلة تعتبر في أعلى سلم الفضائل وهي من المبادئ العظيمة التي أقرها الإسلام بين المسلمين بعضهم البعض وبين غيرهم من الناس اجمعين وحتى بينهم وبين ما في هذه الحياة من كائنات ومخلوقات حية.
قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، أي: انك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم، سواء الكافر منهم والمؤمن فهم مشمولون لرحمتك؛ لأنّك تكفلت بنشر الدين الذي ينقذ الجميع، وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
ويؤكد الرسول الأكرم (k) على هذا المبدأ العظيم، فيقول (k): ((الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
وقال (k): ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)).
وقال (k): ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي)).
وجسد الرسول محمد (k) الرحمة بكل معانيها ومضامينها عند دخل مكة فاتحاً حتى اصغى التاريخ إلى أعظم موقف نبيل لم يشهده لدى أي من الفاتحين، فهتف النبي(k) وقال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن اخ كريم، قال: فاني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، أذهبوا فأنتم الطلقاء.
فالرسالة المحمدية كانت رحمة للبشرية جمعاء، وتأثر حتى علماء الغرب بهذه المبادئ العظيمة للإسلام، كما قال المستشرق ديلسترا: "الاسلام علمنا الرحمة والشفقة والتسامح".
رابعاً: مبدأ الأخوة الإسلامية:
وهو من المبادئ المهمة وبنى الإسلام الأخوة على أسس عميقة وجعلت من هذه الأخوة قوام الشريعة الإسلامية وركيزة المجتمع واصبحت الأخوة الدينية التعبير الصادق عن الوحدة التي تربط المسلمين بعضهم البعض والمصدر الذي تنبع منه جميع المبادئ التي تحكم المجتمع في نظامه وروابط أفراده من محبة وإيثار وتضحية وتعاون وإحسان.
ونلاحظ من الأعمال التي قام بها الرسول الأكرم في المدينة المنورة هو تأسيس الأخوة الإسلامية بين المسلمين، فآخى بين الأوس والخزرج وبين المهاجرين والانصار آخى بينه وبين وصيه وباب مدينة علمه الإمام علي بن أبي طالب() وجعل الأخوة الإسلامية كالأخوة النسبية في قوتها ومكانتها، وهذه الرابطة الأخوية أكدها القرآن الكريم بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وكذلك الأحاديث الشريفة التي أكدت على هذه الأخوة فقال رسول الله (k): ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))، وقال (k): _(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
وإن الأخوة الإسلامية ليست مجرد عاطفة وإنما هي ظاهرة فذة تمتد إلى اعماق القلوب وذخائر النفوس وان يكون المسلم أخا المسلم في السراء والضراء، وجسد الرسول(k) هذا المبدأ العظيم في حجة الوداع سنة (10هـ) قائلاً: (أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه...).
وورد عن الإمام الصادق قوله: "المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه".
ومبدأ الأخوة الإسلامية تأثر به حتى غير المسلمين؛ فيقول جواهر لال نهرو(*):"....إن نظرية الإخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ويعيشون فيها، أثرت في اذهان الهندوس تأثيرًا عميقاً، وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية".
خامساً: مبدأ التسامح:
التسامح لغة: من: سمح، السين والميم والحاء أصل يدل على السلاسة والسهولة، فلفظ التسامح يحمل معاني الموافقة والقبول والتساهل واللين والسعة بعيداً عن الضيق والشدة، ويقال سامحه في الأمر أي سهله ووافقه على المفهوم، والمسامحة ترك ما يجب تنزهاً أي ترك المرء شيء الا يجب تركه عليه تكرماً وترفعاً.
وإن التسامح الديني فطرة انسانية جبل عليها الإنسان وفطر عليها، وهو مبدأ عظيم اشارت له معظم الديانات، والدين الإسلامي الحنيف هو في طليعة الأديان التي أقرت التسامح باعتبار أن المبدأ الأساس الذي يقوم عليه هو أن: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وهذا من اظهر الأدلة على تسامح وسماحة الاسلام. وقال تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، فترك الله سبحانه وتعالى حرية الاختيار للإنسان في أن يدخل في الدين الإسلامي أو لا فهذه الآية تعكس مدى التسامح الذي جاء به الدين الإسلامي. فمبدأ التسامح حاجة اجتماعية وضرورة فطرية تسير حياة الإنسان، وهي من أبرز سمات الإنسان وخصاله، وتعد وثيقة المدينة بعد القرآن الكريم من أهم الوثائق التي ارست وأسست مبادئ وقيم التسامح والاعتراف بالآخر، والتعامل حتى مع غير المسلم وفق الحكمة واللين المعروف سواء في الخطاب أم في مطلق التصرف وفق الضوابط الشرعية، ودعا الإسلام إلى التسامح حتى مع المخالفين في الدين قال تعالى:لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، كما منعت الشريعة الاعتداء على المدنيين المسالمين ولو لم يكونوا مسلمين، ودعا الإسلام إلى الدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة فقال سبحانه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فالصورة المثلى للتعايش هي صورة دولة المدينة التي كان اليهودي والنصراني يعيشان فيها بأمان إلى جنب المسلم في كنف الدولة الإسلامية وكل هؤلاء يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة كالعربي تماماً.
وتعد مدرسة أهل بيت النبوة من أهم المدارس التي سارت وطبقت مبدأ التسامح لأنه مبدأ عظيم وثابت وهو ليس حالة طارئة ولا قضية دخيلة، وانما هو من الأصول والمبادئ التي أكد عليها الأئمة ().
سادساً: مبدأ حفظ الضرورات الخمس:
أكدت الشريعة الإسلامية على مبدأ حفظ الضرورات الخمس وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، التي لم تأتِ شريعة إلا بحفظها، بل هي مطبقة على حفظها، وتمثل هذه الضرورات المبدأ الأساس الذي ترسو عليه أكثر الأحكام وتبنى عليها الشرائع، والأديان، وإن: "جميع الأحكام الشرعية الضرورية الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية وقام عليها اجماع العلماء، ناظرة إلى حفظ أحد هذه الأمور الضرورية".
وقد شرّع الإسلام كل ما يقوم أركان هذه الضروريات ويحفظ وجودها وكيانها ويدفع كل ما يؤدي إلى اختلالها ويمكن أن يؤثر في زوالها، ويتجلى ذلك في ضوء الوقوف على ما شرعه الاسلام لإيجاد وحفظ كل مبدأ من هذه المبادئ الخمسة:
1-مبدأ حفظ الدين:
الدين في اللغة: هو الطاعة والانقياد، ثم استعير للشريعة، وقيل هو الحساب والجزاء، ومنه قوله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، أي يوم الحساب والجزاء.
وأمّا في الاصطلاح:
إنَّ الدين: "وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول(k)"، فهو "يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات"، وبالتالي فإنه: "عبارة عن مجموعة قوانين وأحكام سماوية، أنزلها الله على الأنبياء لإصلاح معاشر البشر ومعادهم، ليصل كل فرد منهم حسب استعداده إلى حد الكمال البشري".
والإيمان بالدين والعمل بالأحكام من المبادئ العليا في الإسلام وقد أكدت الشريعة المقدسة على حفظه وحمايته عن التحريف، والحفاظ على أحكامه وشعائره، وإحيائها ، والدفاع عنها، وقد شرّع الله تعالى لأجل ذلك الإيمان بالله تعالى وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكذلك الحث على تعلم الدين والتفقه به والدعوة إليه؛ لأنّ هذا الدين هو الدين الكامل والشامل المنزل على النبي محمد (k) وهو الإسلام، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ.
ولحفظ الدين أمر الشارع المقدس بدفع الفساد إذا كان موجباً لوهن الحق وإحياء الباطل، ولأهمية حفظ الدين فقد رجّح حفظه على حفظ النفس، ومن أعظم وسائل حفظ الدين الإسلامي الجهاد في سبيل الله، والجهاد قد يجب على جميع أهل الإسلام إن لم يحصل من يقوم به، وأيضاً من وسائل حفظ الدين الإسلامي تشريع المرابطة، وهي الاقامة عند الثغر لحفظ بيضة الاسلام، وهي من أظهر مصاديق حفظ بيضة الإسلام، وتجب إذا توقف عليها حفظ الدين الإسلامي.
2-مبدأ حفظ النفس:
لقد عنيت الشريعة الإسلامية بهذا المبدأ عناية فائقة، فشرعت الكثير من الأحكام بما يضمن جلب المصالح لها ودفع المفاسد عنها؛ لأن حفظ النفس يتعلق بحفظ الحياة البشرية في الإسلام.
وللنفس معانٍ متعددة في اللغة: منها الروح، يقال: خرجت نفس فلان، أي روحه، ويقال أيضاً: قتل فلان نفسه وأهلك نفسه، أي: وقع الاهلاك بذاته كلها وحقيقته.
وقد وضعت الشريعة الإسلامية الوسائل الكفيلة بحفظ النفس، وتكفل حق الحياة لها وتحرم الانتحار والاعتداء على النفس، وعدت ذلك من كبائر الذنوب، ومن النصوص التي ورد فيها تحريم الاعتداء على النفس قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وقال عز وجل تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً، وأيضا: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً، ومن وسائل حفظ النفس إباحة المحظورات في حالة الضرورة، وتناول المحرم لإنقاذ النفس كأكل الميتة للمضطر. قال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقال عز وجل: فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقال تبارك اسمه: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وكذلك من وسائل حفظ النفس تشريع القصاص لحفظ وصيانة النفس، وزجر من أراد سفك الدم الحرام بغير حقه، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وقد تشدد الشارع في حفظ الدماء والفروج بما لم يحصل في غيرهما.
وأيضاً حفظ النفس في الدين الإسلامي يتعلق بحفظ اشكال الحياة المختلفة كأمم الحيوان والنبات وكل مكونات البيئة الأخرى، فالتعدي على الحياة بشتى صورها مخالف لمبادئ الشريعة الإسلامية.
3-مبدأ حفظ العقل:
من النعم التي منحها الله عز وجل للإنسان نعمة العقل وقد ميّزه بهذه النعمة عن جميع المخلوقات، وإنّ الله سبحانه وتعالى جعل العقل مناط التكليف.
وأمّا حفظه فربطه الفقهاء قديماً بقضية تحريم الخمر في الشريعة الإسلامية، وإن الله عز وجل شرع لحفظه تحريم الخمر وكل مسكر، كما حرّم تناول أي مخدر.
والحرمة ثابتة بالكتاب والسنة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ.
قال القرطبي(ت671هـ): "ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل".
وأما السنة الشريفة ما رواه حسين بن زيد عن الإمام الصادق()، عن آبائه عن النبي (k) في حديث المناهي أنه قال: ((ونهى من بيع النرد، وان يشرى الخمر وان يسقى الخمر، وقال : لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه)).
وفي موثقة إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله () عن رجل شرب حسوة خمر، قال: "يجلد ثمانين جلدة، قليلها وكثيرها حرام" .
وصرح الفقهاء بحرمة شرب الخمر بجميع اقسامه وأنواعه، فهو موضع وفاق بين المسلمين، بل الاجماع بقسميه عليه، بل هو من ضروريات الدين، ومن وسائل المحافظة على العقل شرع حدّ شرب الخمر، وذهب الفقهاء بان شارب الخمر يجب عليه الحدّ ثمانين جلدة إذا كان مكلفاً، مختارًا، عالماً بالتحريم، قليلاً كان الذي شرب أو كثيرًا،بلا خلاف فيه، بل ادعي عليه الاجماع، مستفيضاً.
4-مبدأ حفظ النسب والنسل:
حفظ النسب والنسل من الركائز الأساسية في الحياة ومن أسباب عمارة الأرض والإسلام قد عني بحماية النسب والنسل.
والنسب هو القراية، وهي اعم من الأبوة والبنوة وغيرهما، أو هو الاتصال بالولادة شرعاً بانتهاء أحدهما إلى الآخر أو بانتهائهما إلى ثالث كالأخوة.
وقد اهتم الاسلام بالانساب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً، وقال النبي (k): ((تعلموا من انسابكم ما تصلون به أرحامكم))، ولابد من معرفة الأنساب لترتب الأحكام الشرعية عليها، كمعرفة المحرمات من النساء بالنسب، وأولوية بعض الأرحام على بعض في الميراث، أو حجب بعضهم عن بعض، وغيرها الكثير من الأحكام، لذلك يجب على المكلف حفظ نسبه، بل يجب حفظ الأنساب ولو كان نسب كافر، ومن هنا حرم الإسلام الزنى وذلك لأنّه موجب لاختلاط المياه وذهاب الأنساب، لذلك عدَّ الإمام علي بن موسى الرضا() من علل تحريم الزنى ذهاب الأنساب.
وقد شرّع الإسلام العدة للمطلقة والمتوفى عنها زوجها حفظاً للأنساب، وحرم زوجين على امرأة واحدة، وشرع الحد والرجم للزاني لئلا تختلط الأنساب، وأما حفظ النسل وديمومته، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً، فقد شرّع له النكاح؛ لأنّه من وسائل تكثير النسل وقد رغبت الشريعة إليه، قال تعالى:فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وقال رسول الله (k): ((ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله تعالى من التزويج))، وغيرها الكثير من النصوص التي تحث على الزواج وترغب فيه وتؤكد على حفظ النسل، وحفظ الأسرة التي هي الأساس في الحفاظ على الأمة وفي تنشئة الأولاد وتربيتهم.
5-مبدأ حفظ المال:
المال هو كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، من متاع أو تجارة أو عقار أو نقود أو حيوان، ويطلق الآن على النقد من الذهب والفضة أو الورق، ويعد المال عصب الحياة، وقوامها وضرورة من ضرورات الوجود البشري، إذ بدونه لا تستقيم مصالح الدنيا، وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالمال وتنميته وحفظه، وقد "شرع لتحصيله وكسبه السعي للرزق وإباحة المعاملات، كما شرع لحفظه: تحريم السرقة والغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير إلى غير ذلك من الأحكام التي بها تصان أموال الناس".
وقد حثَّ الإسلام على التكسب بالوسائل والطرق المشروعة ومنها البيع، قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
فالبيع أحد مسالك الكسب المشروعة، لذا قال النبي الأكرم محمد(k) عندما سُئل عن أطيب الكسب قال: ((عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور)).
ومن وسائل حفظ المال المنع من تمكين السفيه من ماله وكذلك الصغير حتى يبلغ. قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا.
وقد شرّع الإسلام عقوبة قطع اليد في السرقة وتعتبر من الوسائل المهمة في حفظ وصيانة المال، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
المبحث الثاني
دور العقل في بيان المبادئ العامة
شرف الله سبحانه وتعالى ال ذ عقل، وأعلى مكانته، ودعا إلى تعظيمه وإجلاله، وأمر بالرجوع إليه، قال تعالى: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ، وقال النبي(k): ((ما قسّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل))، وقد ورد عن أبي عبد الله(): (أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء إلاَّ به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورًا لهم).
فالعقل هو: "حجة الله الواجب امتثاله، والحاكم العدل الذي تطابق أحكامه الواقع ونفس الأمر، فلا يرد حكمه، ولولاه لما عرف الشرع)، ولذا ورد عن النبي(k): ((ما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل)) .
فالعقل له قابلية الإدراك والعلم والكشف عن مبادئ الشريعة العامة من خلال أن العقل يجزم بحسن العدل والإحسان والصدق وغيرها من المبادئ، وكذلك يقبح الظلم والكذب والضرر وفي ذلك قال المحقق الطوسي(ت672هـ): "العقل المتصف بالزائد، ام حسن أو قبيح وهما عقليان، للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع".
وذكر العلامة الحلي(ت726هـ): "إنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع، فإن كل عقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه، ويقبح الإساءة والظلم ويذم عليه، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادًا من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة من غير اعتراف منهم بالشرائع.
فمسالة التحسين والتقبيح العقليين لهما دور كبير في بيان مبادئ الشريعة الإسلامية.
المطلب الأول: العقل في اللغة والاصطلاح:
أولاً: العقل لغة:
يطلق ويراد به معانٍ متعددة:
الحجا واللّب، فهو غريزة يتهيأ بها الإنسان إلى فهم الخطاب.
التثبت في الأمور، لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك.
الفهم والعلم، ويقال: عقل الشيء، أي: فهمه وتدبره.
وهناك معانٍ أخرى مثل: "المنع"، و"الحجر والنهي"، و"الحفظ"، و"الحصن والملجأ"، و"الامساك"، و"الجمع"، و"القلب"، و"الدية" وغيرها من المعاني الأخرى.
ثانياً: العقل اصطلاحاً:
اختلفت التعريفات الاصطلاحية من علم إلى آخر، وقد تنوعت التعاريف المصطلحة للعقل، فاختلفت أقوال العلماء من فلاسفة، ومتكلمين وأصوليين في تعريف العقل وحدّه في صفته اختلافاً شديداً، ووصل اختلافهم إلى حد التناقض والاضطراب؛ وذلك لأن العقل سر من أسرار الله سبحانه وتعالى، قال عبد الحسين المظفر(ت1416هـ): "وحقيقته فلم يهتد البحث إلى معرفتها منذ أن نظر الإنسان إلى ظواهر الكون، وحاول بتفكيره الوقوف على حقائق الأشياء فعصمت عليه كثير منها مثل العقل والروح"، والفلاسفة المسلمون تأثروا في تعريفهم للعقل بفلاسفة اليونان فهو عندهم: "قوة مودعه في النفس معدة لقبول العلم والإدراك، ولذا قيل: انه روحاني تدرك النفس به العلوم الضرورية والنظرية"، أما الشيخ الرئيس ابن سينا (ت427هـ) فذكر أن العقل: "قوة بها يوجد التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة ويقال: عقل لما يكسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية فيكون حده انه معانٍ مجتمعة في الذهن تكون مقدمات يستنبط بها المصالح والاغراض"، وعرفه القاضي عبد الجبار الأسدآبادي(ت415هـ) بأنه: "عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال، والقيام بأداء ما كلّف".
أما الحكماء والمتكلمون فاختلفت تعريفاتهم بحسب قوة العقل في إدراكاته، فالعقل: "غريزةُ يلزمها العلم بالضرورات عند سلامة الالات"، كذلك هو: "الجوهر المجرد في ذاته وفعله"، أي: أن العقل ليس مادياً في ذاته ولا يحتاج إلى المادة في فعله، وعرفه الأصوليين بانه: "صفة يميز بها بين الحسن والقبيح". فهو: آلة التمييز"، وكذلك هو "قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق المعلومات"، أي: ارادوا وظيفة العقل في الإدراك والتمييز بما أنيط به من تكليف بفعل واجب أو ترك محرم، لذا قيل في تعريفه أيضاً: "العلم بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، وجواز الجائزات".
ويقسم العقل إلى نظري وعملي:
تطرق الحكماء إلى هذا التقسيم وتبعهم الأصوليون في ذلك
إذ ذكر قطب الدين الرازي(ت766هـ) أن للنفس قوتان: مبدأ إدراك ومبدأ فعل، فالقوة التي تدرك بها النفس والأشياء تسمى بـ(العقل النظري) والقوة التي بها صارت مصدراً للأفعال تسمى (عقلاً عملياً) ، فالعقل النظري هو العقل الذي يدرك المعارف والعلوم التي لا علاقة لها بالعمل، أي: إدراك الأمور التي لها واقع مثل قولهم (الكل أعظم من الجزء"، والعقل النظري المدرك للواقعيات التي ليس لها تأثير في مقام العمل الا بتوسط مقدمة أخرى، مثل إدراك وجود الله تعالى المستتبع للأثر بتوسط حق المولوية، وأما العقل العملي: ما تكون مدركاته مستتبعه لموقف عملي ابتداءً دون الحاجة لتوسط مقدمة أخرى.
وعليه أن العقل النظري بحسب الدقة هو إدراك ما هو واقع؛ لأنّه يدرك الامكان والاستحالة وهما ثابتان في الواقع قبل إدراكه لهما لا أنه يوجدهما بإدراكه لهما فهو ينصب على الإدراك والمعرفة.
والعقل العملي هو إدراك ما هو واقع لأنّ العقل يدرك حسن الاشياء وقبحها، وهي من الأمور الواقعية وليس من جعل الإنسان واعتباره بإدراكه لهما.
المطلب الثاني: الدليل العقلي في أقوال الفقهاء:
رغم أن العقل يعد المصدر التشريعي الرابع بعد الكتاب والسنة والاجماع إلا أنه لم يوضح في الكثير من المصادر الأصولية خصوصاً عند العلماء المتقدمين، ولم يتحدد المراد منه، وكانت كلماتهم في ذلك مختلفة، وفي بعضها خلط بين العقل كمصدر للحجية في كثير من الأصول المنتجة للحكم الشرعي الفرعي الكلي أو الوظيفة، وبين كونه أصلاً بنفسه يصلح أن يقع كبرى قياس استنباط الأحكام الفرعية الكلية، كالكتاب والسنة على حد سواء، لذلك لم يتبلور مفهوم العقل في إطاره الحاضر إلا بعد مروره بمراحل عدة من التطور، على أيدي العلماء على مدى تاريخ علم أصول الفقه الإمامي، ويعتقد البعض أن محمد بن الجنيد الاسكافي(ت381هـ) كان أول فقيه استخدم العقل في مباحث الاستنباط الفقهي وطرح مباحث جديدة في الفقه، وأول نص وصل إلينا بشأن دليل العقل، هو ما ذكره الشيخ المفيد (ت413هـ): إذ قال: "أن أصول أحكام الشريعة ثلاثة: كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه (k) وأقوال الأئمة المعصومين من بعده، وان الطرق الموصلة إلى ما في هذه الأصول ثلاثة: أحدهما: العقل، والثاني: اللسان والثالث: الاخبار، وقال: عن العقل هو سبيل إلى معرفة حجية القرآن الكريم ودلائل الأخبار".
والشيخ المفيد لم يعتبر العقل ضمن الأصول المنتجة للحكم الشرعي بصفته أصلاً مستقلاً للفقه في مقابل الكتاب والسنة وإنما جعله سبيلاً إلى المعرفة وطريقاً لاستنباط الأحكام منها.
وبعد الشيخ المفيد (ت413هـ)، تحدث السيد المرتضى(ت436هـ) مراراً عن العقل القطعي في كتابه (الذريعة)، ومن جملة ما ذكره حول الدلالة على جواز التعبد بخبر الواحد رغم مخالفته لحجية الخبر الواحد، فهو تصدى لمن ذهب إلى أن خبر الواحد لا يجوز العمل به من جهة العقل، وقال: "والصحيح أن ذلك جائز عقلاً" ، وقال الشيخ الأنصاري(ت1281هـ): "وأما السيدان فقد صرحا باستقلال العقل بإباحة مالا طريق إلى كونه مفسدة"، لكن رغم تحدث السيد المرتضى عن العقل لكنه لم يجعله مصدرًا تشريعياً مستقلاً بحد ذاته يمكن وصفه إلى جانب المصادر الأخرى كالكتاب والسنة، أي بصفته أصلاً مستقلاً للفقه، ثم جاء بعده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي(ت460هـ)، والذي يعرف بالفقيه العقلي، وتحدث عن العقل في العديد من المواقع، طارحاً العقل ضمن دائرة الأفكار الكلامية، والأمور العقائية والقضايا الأولية، وهو دليل على اصالة البراءة من التكليف مالم يثبت، قال: "وأما الكلام في الحظر والإباحة، فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقة العقل".
ولعل الشيخ الطوسي هو أول من مهد الفكرة الاستدلال بالعقل على الحكم الشرعي الفرعي، وذلك بتقسيمه الافعال إلى حسنة وقبيحة، وجعله طريق معرفة ذلك الشرع أو العقل، وتمثيله للقبائح الشرعية بشرب الخمر والربا، وللقبائح العقلية بالقتل والظلم، ولما يحسُن شرعاً بالجهاد ولما يحسُن عقلاً بالإحسان.
ويظهر من استقراء كلمات قدامى العلماء أن اول من صرح بدليل العقل وطرحه كأحد الادلة الأربعة ومنتجاً للحكم الشرعي هو العلامة محمد بن إدريس الحلي(ت598هـ)، إذ قال: "فان الحق لا يعدو أربع طرق: إما بآي الله سبحانه، وسنة رسوله(k) المتواترة المتفق عليها، أو الاجماع، أو دليل العقل، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية عند المحققين الباحثين عن مآخذ الشريعة، التمسك بدليل العقل فيها".
وأخذ دليل العقل بعد ابن إدريس(ت598هـ) الموقع النهائي بين أصول الفقه المنتجة مباشرة للحكم الشرعي في كتابات العلماء، فجاء المحقق الحلي (ت672هـ)، وتحدث عن العقل كدليل مستقل فقال: "مستند الأحكام عندنا: الكتاب، السنة، الاجماع، العقل، الاستصحاب).
وحاول المحقق الحلي اكمال ما بدأه ابن ادريس وشرح دليل العقل وقسمه إلى قسمين، قال: "واما دليل العقل فقسمان: احدهما ما يتوقف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، والقسم الثاني: ما ينفرد العقل بالدلالة عليه – وهو وجود الحسن والقبح العقليين- وهو أما وجوب، كرد الوديعة، أو قبيح، كالظلم والكذب، أو حسن كالانصاف والصدق".
وجاء الشهيد الأول (ت786هـ) وجرى على ما جرى عليه المحقق، وقال: "مدارك الأحكام عندنا أربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، ودليل العقل".
وقسم دليل العقل إلى قسمين، وزاد عليها بعض الأشياء:
القسم الأول: قسم لا يتقوف على الخطاب، وهو خمسة: الحسن والقبح العقليين، التمسك بأصل البراءة عند عدم الدليل، مالا دليل عليه وايضاً مرجعه إلى البراءة ، والاخذ بالأقل عند الترديد بينه وبين الأكثر، اصالة بقاء ما كان وهو الاستصحاب.
والقسم الثاني: ما يتوقف العقل فيه على الخطاب وهو ستة: مقدمة الواجب المطلق، مسألة الضد، فحوى الخطاب، لحن الخطاب، دليل الخطاب، أن الأصل في المنافع الاباحة وفي المضار الحرمة.
وبعد الشهيد الأول جاء المحقق الثاني الكركي (ت940هـ) وتحدث عن أدلة العقل فقال: "واما ادلة العقل فأقول: أما أدلة المنطوق ثم تتبعها دلالة مفهوم الموافقة، وبعدها مفهوم المخالفة على القول بالعمل بدليل الخطاب"، بعد هذه المرحلة جاءت مرحلة المتأخرين والمعاصرين، فأخذ مفهوم العقل يأخذ طريقه في البيان والوضوح، ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى ثلاثة اتجاهات وهي:
الاتجاه الأول: لم يذكر دليل العقل ضمن أدلة الأحكام ولم يفرد لدليل العقل فصلاً خاصاً إلى جانب الفصول الخاصة بالأدلة الثلاثة الأخرى للفقه وإنما ذكروا له اشارات عابرة في مناسبات شتى ومنهم من بحث في مصاديقه فقط، ومن هؤلاء الأعلام، العلامة الشيخ حسن زين الدين(ت1011هـ)، في كتابه معالم الأصول، ومنهم الشيخ الأعظم الأنصاري(ت1281هـ) في كتابه فرائد الأصول والمعروف بالرسائل، ومنهم العلامة الآخوند محمد كاظم الخراساني(ت1329هـ) في كتابه كفاية الأصول.
ومنهم العلامة السيد محسن الحكيم (ت1390هـ) في كتابه حقائق الأصول, وكذلك العلامة السيد الخوئي(ت1413هـ) في مؤلفاته وتقريراته الكثيرة.
الاتجاه الثاني: ذكروا العقل ضمن أدلة الأحكام، لكنهم تأثروا بالمتقدمين ففسروه فيما لا يصلح للدلالة في مقابل الكتاب والسنة والإجماع، ومنهم الشيخ العلامة يوسف البحراني(ت1186هـ) وذكر في كتابه (الحدائق الناضرة) تفاسير المتقدمين والمتأخرين المعاصرين لدليل العقل وعبارته صريحة في افادة عدم وضوح دليلية العقل، إذ قال: "المقام الثالث: في دليل العقل، وفسره بعض بالبراءة الأصلية والاستصحاب، وآخرون قصروه على الثاني، والثالث: فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب، ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص والدلالة الالتزامية".
ومنهم أيضاً السيد علي نقي الحيدري(ت1401هـ) في كتابه (أصول الاستنباط) وبحث في الجزء الثاني الادلة العقلية، ولكن المبحوث عنه لا ينتج حكماً شرعياً واقعياً بل غاية ما يقرره وظائف عملية كالبراءة والتخيير والاستصحاب في حين عده ضمن الأدلة الاجتهادية في استخراج الأحكام الشرعية وهي الكتاب والسنة والاجماع، ودليل العقل.
الاتجاه الثالث: وهم الذين سلكوا طريقاً قويماً في رسم معالم العقل وبحثوه –بحثاً موضوعياً دقيقاً، وبينوا حدوده، وازالوا الغموض عنه، وإن وجد أثر لمسلك العلماء المتقدمين في كثير من الأحيان، لاسيما من جهة إدخال ما خرج عن موضوع دليل العقل فيه، وأهم رواد هذا الاتجاه:
السيد محسن الأعرجي (ت1227هـ)، وهو أول من بحث دليل العقل بحثاً موضوعياً دقيقاً في كتابه (المحصول في علم الأصول)، والذي أخذ عليه انه ادخل في دليل العقل ماليس منه، كأصالة البراءة التي هي من مباحث الأصول العملية.
وجاء بعده تلميذه العلامة محمد تقي الاصفهاني(ت1248هـ) الذي اقتفى درب استاذه فزاد البحث عمقاً وموضوعية ودقة ووضوح في (حاشيته على معالم الدين)، وان وقع فيما وقع فيه استاذه من ادخاله اصالة البراءة في الدليل العقلي، وقد عرف دليل العقل بانه: "كل حكم عقلي يستنبط منه حكم شرعي".
ومن رواد هذا الاتجاه العلامة المحقق أبو القاسم القمي(ت1231هـ) ويعتبر كتابه (قوانين الأصول) من الكتب المهمة في البحث الأصولي وبحث دليل العقل بحثاً شاملاً، لكنه أدخل بعض المفاهيم في دليل العقل والتي ترجع في الحقيقة إلى مباحث الألفاظ وقد عرف دليل العقل بأنه: "حكم عقلي يتوصل به إلى الحكم الشرعي، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي".
وممن أسهب وأجاد في بحث الدليل العقلي الشيخ محمد حسين الاصفهاني (ت1255هـ) في كتابه (الفصول الغروية).
وقد عرف الدليل العقلي بقوله: "المراد بالدليل العقلي كل حكم عقلي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي".
ويعدّ العلامة محمد رضا المظفر (ت1383هـ) افضل من كتب وبحث في موضوع دليل العقل، ويمتاز بحثه بدقة العبارة، جمال العرض، وحسن التنسيق، وقد بحثه بموضوعية ودقة واضحة، وافرد له باب كامل في كتابه (أصول الفقه)، ووجه فيه حصر القضايا العقلية وتعينها وما المراد من الدليل العقلي، وعرفه: "كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي، وبعبارة ثانية هو: كل قضية عقلية يتوصل بها العلم القطعي بالحكم الشرعي".
وأخذت الدقة والوضوح طريقها إلى تجلية العقل في الشكل والمضمون في الفكر الأصولي الامامي إلى مراحل متقدمة، وظهرت في كتابات السيد الشهيد محمد باقر الصدر(ت1400هـ) في مؤلفاته في أصول الفقه، وقد عرف الدليل العقلي بأنه: "كل قضية يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي".
المطلب الثالث: التحسين والتقبيح العقليين ودورهما في بيان المبادئ:
أولاً: التحسين والتقبيح لغة واصطلاحاً:
1- التحسين لغة:
التحسين في اللغة: من الحُسن مصدر حَسُنَ، وحَسَنَ من باب كَرُم ونَصَر، فهو حاسِنٌ وحَسَنُ وحُسَينُ، وجمعه محاسن، وقال الجوهري (ت393هـ): "وان شئت خففت الضمة، فقلت: حَسْنَ الشيء"، والتحسين هو الحكم بالحُسن، وقد ذكر أهل اللغة جملة لمعنى (الحُسن) منها:
أ.الجمال، فجعلوا الحسن يرادف الجمال والحسن هو الجميل، والتحسن التجمل، وحسنت الشيء تحسيناً: زينته.
ب.خلاف السيء، ومنه: الحسنة خلاف السيئة، والمحاسن خلاف المساوئ، والاحسان خلاف الاساءة.
ج.المرغوب، وقد فسر الراغب الاصفهاني (ت502هـ)، الحُسن بانه: "عبارة عن كل مبهجٍ مرغوب فيه، وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى، ومستحسن من جهة الحس".
د.ومن معاني الحُسن، المعرفة والاتقان: يقال: احسنت الشيء إذا عرفته واتقنته.
والذي يبدو أن أقربها لمعنى الحسن هو المعنى الثاني وذلك لعمومه وشموله لجميع أفراد الحُسن.
2- التقبيح لغة: هو من القبح وهو ضد الحُسن، وخلافه، ونفيضه، وهو نعت من القبح، والقبيح: ما ينبو عنه البصر من الاعيان، وما تنبو عنه النفس من الاعمال والاحوال، والتقبيح هو الحكم بالقبح، ومع اشتهار معنى القبح بانه ضد الحُسن، ذكر اللغويين له عدة معانٍ منها:
الابعاد والاقصاء والتنحية، ومنه قولهم: قبحه الله قبحاً وقُبوحاً، أي: اقصاه ونحاه وباعده عن كل خيرٍ، ومنه قوله :﴿...وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ﴾، أي: من الموسومين بحالة منكرةٍ.
الكسر، ومنه قولهم: قبح البيضة، أي: كسرها، وكل شيء كسرته فقد قبحته.
انكار العمل المذموم، ومنه قولهم قُبح له وجهه، أي: انكر عليه ما عمل.
الشتم، ومنه المقابحة، أي المشاتمه، من قابحه إذا شاتمه.
3- التحسين والتقبيح اصطلاحاً:
فإن معناهما لا يختلف عن معناهما اللغوي في كونه الحكم على الشيء أما بالحسن أو القبح، لكن المعنى اللغوي يكون أكثر عمومية. وقال التفتازاني (ت791هـ): "الافعال بالحسن والقبح في العرف والاصطلاح يكون بأحد هذه المعاني، أما بحسب اللغة فأعم"، وذكر المتكلمون والأصوليون أن للحسن والقبح عدة معانٍ واطلاقات منها:
أ. الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقص. وهما بهذا المعنى يعدان وصفاً للأفعال الاختيارية والصفات مثل (العلم حسن)، و(الجهل قبيح) ويراد بالعلم الذي يعتبر كمالاً للنفس الانسانية وكل فعل يعد نقصاً في النفس وتأخر وجودها فهو قبيح مثل الجهل وكثير من الصفات الانسانية مثل الشجاعة والكرم والعدالة فهي أمور حسنة لأنها كمال وأضدادها قبيحة لأنها نقص، وهذا مما يحكم العقل بهما عند
الكل، فالحسن والقبح بهذا المعنى من الأمور اليقينية التي تملك تطابقاً واقعاً خارجياً وراء تطابق العقلاء عليها. فلا يتوقف وجودها على وجود مدرك لها فلا نزاع في الحسن والقبح بهذا المعنى.
قال محمد أمين بادشاه(ت861هـ): "ولا نزاع في دركه للفعل بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل".
وقال الحسين بن المنصور بالله (ت1050هـ): "لا نزاع في أن هذا المعنى أمر ثابت للصفات في انفسها يدركها العقل".
ب.الحسن ملائمة الطبع والقبح منافرته، وهما ثابتان بهذا المعنى للأفعال والصفات أيضاً، فيقال في المتعلقات في هذا المنظر حسن وجميل، وهذا الصوت حسن هادئ، وهكذا وبضد ذلك يقال: المنظر قبيح، والصوت قبيح، ومن الواضح أن حكم العقل بالحسن والقبح بهذا المعنى هو ميل النفس ونفورها وهو ربما يختلف بين انسان وآخر ومجتمع وآخر فالحسن والقبح بهذا المعنى لا يملكان واقعاً خارجياً بل ادراكهما يتوقف على وجود المدرك وذوقه ويختلف باختلاف الانظار والأذواق، والحسن والقبح بهذا المعنى لا نزاع فيهما أيضاً، فهو عقلي يدركه العقل من غير توقف على حكم الشرع.
ج.الحسن والقبح بمعنى موافقة الغرض والمصلحة الشخصية والنوعية ومخالفتهما، وهذا المعنى ذكره الشيخ جعفر السبحاني، كما لو قتل إنسان آخر لعدائه، فهو حسن لكونه موافقاً للغرض الشخصي للقاتل دون أهل المقتول فإنه قبيح عندهم وإن كان القتل في الشريعة محرماً أشد التحريم، وهذا في الغرض الشخصي، أما الغرض والمصلحة النوعية، فالعدل بما انه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع يعد حسناً وكون الظلم هادماً للمجتمع مخالفاً لمصلحة النوع فهو قبيح.
د.الحسن بمعنى استحقاق المدح، والقبح بمعنى استحقاق الذم عند العقلاء، أي: كون الفعل على وجه يكون متعلق المدح والذم عاجلاً والثواب والعقاب آجلاً.
وإنّ الحسن ما يدرك العقل انه ينبغي فعله كالصدق والطاعة، والقبيح ما يدرك العقل انه ينبغي تركه أو لا ينبغي فعله، كالكذب والمعصية، وهذا الإدراك هو معنى حكم العقل بالحسن والقبح. فأعطوا للعقل هذا الحق من الإدراك، وهذا يختص به العقل العملي دون العقل النظري.
وهذا هو محل النزاع بين جمهور الاشاعرة من جهة والعدلية من جهة أخرى، فقد انكرت الاشاعرة قابلية إدراك العقل هذا المعنى للحسن والقبح دون إرشاد الشرع، بينما اثبتته العدلية.
ثانياً: الأقوال في التحسين والتقبيح:
القول الأول: ما ذهب إليه الأشاعرة من انكار الحسن والقبح الذاتيين للأفعال، بل الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه، فمعيار الحسن عندهم هو اذن الشارع في الفعل أو نهية عنه، وان العقل عاجز عن إدراك حسن الأفعال وقبحها، قال: أبو الحسن الأشعري (ت324هـ): "والدليل على أن كل ما فعله فله فعله، انه المالك القاهر الذي ليس مملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر، ولا حاجز ولا من رسم له الرسوم وحد له الحدود، فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء".
وقال أيضاً: "لا يجوز عليه تعالى الكذب ليس لقبح ولكن يستحيل عليه الكذب"، واستدل الفخر الرازي(ت606هـ) للانكار والنفي: "دخول القبائح في الوجود أما على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق، وعلى التقديرين فالقول بالقبيح العقلي باطل".
واستدل النافون للحسن والقبح العقليين بالأدلة العقلية والنقلية ومنها:
1.لو كان الحسن والقبح ذاتيين أو لصفة حقيقة لكان ذلك مضطرداً في الفعل ولما تخلف عنه باختلاف الأحوال والمتعلقات والازمان ولاستحال ورود النسخ على الفعل؛ لأن ما ثبت للذات فهو باقٍ ببقائها لا يزول وهي باقية ومعلوم أن الكذب يكون حسناً إذا تضمن عصمة نبي أو مسلم ولو كان قبحه ذاتياً له لكان قبيحاً اين وجد، وبعبارة أخرى لو كان الكذب قبيحاً لكان المفضي إلى تخليص النبي من يد الظالم قبيحاً أيضاً، والتالي باطل لأنه يحسن تخليص النبي من يد اعدائه فالمقدم مثله.
والاستدلال غير تام من ناحيتين:
الأولى: إن (الحُسن) في الكذب المؤدي إلى انقاذ بريء-مثلاً- ليس هو في ذات الكذب وإنما في انقاذ البريء، والأمر الذي حسن ارتكاب الفعل المتمثل بالكذب، هو التزاحم بين الأمرين، وارتكاب أقل المحذورين، فالحسن باقي على حسنه والقبح على قبحه.
الثانية: إن ذاتية (الحُسن) لا تمنع من عروض القبح له، وذاتية القبح لا تمنع من عروض الحسن له، بالنظر إلى انه لا مانع من أن يكون حسناً لذاته قبيحاً لغيره وبالعكس، فالصدق حسن لذاته وقد يعرض له القبح إذا كان سبباً لهلاك بريء، والكذب قبيح لذاته وقد يعرض له الحسن إذا كان سبباً لإنقاذ بريء.
2.إن الحسن والقبح لو كانا عقليين لكانا بديهيين وعندئذٍ لم يختلف فيهما احد، ومن الضروري المشاهد انه وقع الخلاف فيهما، وهذا دليل على أنهما ليسا بديهيين فلا يكونا عقليين، ونوقش فيه: بانه مبني على عدم وقوع الخلاف في البديهيات، والحال انه يمكن افتراض الخلاف في البديهيات، حيث أن القضايا اليقينية تتمتع بالتفاوت والاختلاف بين اقسامها، ومن ذلك يظهر أن وجود الخلاف بين القضايا البديهية لا يضر ببداهتها.
3.لو كان الحسن والقبح عقليين للّزم أن يكون الشارع الحكيم مقيدًا غير مختار في تشريع الأحكام، وفقاً لحكم العقل، والتقييد بحقه باطل فلازمه باطل، وهو كون الحسن والقبح عقليين.
ورد عليه: بان جريان أحكام الشريعة على مقتضى المعقول، لا يعني سلب الاختيار من الشارع الحكيم في اختيار احكامه، لأن اختياره للأحكام بتقديمه الراجح على المرجوح، وامره بالحسن ونهيه عن القبح عقلاً لا مانع منه بل هو المتعين في المقام.
قال الشيخ المفيد (ت413هـ): "أن الله – جل جلاله- قادر على خلاف العدل كما انه قادر على العدل إلا انه لا يفعل جوراً ولا ظلماً ولا قبيحاً".
وقال السيد محمد تقي الحكيم(1424هـ): "فالالتزام بتقييده في تشريعاته على وفق العقل إن أُريد به التقيد السالب للاختيار فليس بصحيح وهو –تعالى- مما ينزه عنه، وإن أُريد نتيجة التقيد وهو ما يقتضيه عمل العاقل المختار، فليس فيه أي محذور".
4.لو حسن العقل أو قبح لغير الأمر النهي من الوجوه والاعتبارات، لم يكن تعلق الطلب بالفعل لذاته لتوقفه حينئذٍ على ما يُعرف له من الوجوه والامتيازات، والتالي باطل؛ لأنّ ما هو للشيء بالذات لا يتوقف على أمر زائد.
ونوقش فيه وأجيب عنه: بالمنع من بطلان التالي؛ لأنّ الطلب إنما يتوجه على الفعل لأجل ما فيه من حسن أو قبح، وبعبارة أخرى أنّ وجود الطلب يتوقف على الصفة – الحسن أو القبح- لا أنّه يوجد أولا ثم يتعلق بالمطلوب بواسطة الصنعة.
5. استدل النافون للحسن والقبح العقليين أيضا بأدلة نقلية منها:
أ- لو كان العقل كافيا للتحسين والتقبيح ومن ثَمّ في التثويب والتعذيب للزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد في الشرع أم لا، بناءً على أصلهم من وجوب تعذيب من استحق إذا مات غير تائب واللازم باطل، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، وقال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، ولم يقل العقل.
ونوقش فيه: بأنّه مبني على إحاطة العقل بجميع جوانب القضايا وله قابلية تحديد كل الواجبات والمحرمات بجميع شرائطها وخصوصياتها، في حين نجد ليس للعقل قابلية استكشاف جميع جوانب المصالح والمفاسد حتى يقال: إنّه يكتفي في الأحكام والتشريعات بذلك، وإنما العقل مرجع وحجة فيما استقل به من الواجبات والمحرمات كما في وجوب شكر المُنعم ولزوم النظر في معجزة مدعي النبوة ونحو ذلك، وأما ما وراء ذلك فالمرجع في ذلك هو الشرع.
ب- استدل النافون للحسن والقبح العقليين بقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾، بمعنى: "أنّ الله رتّب الجزاء على بعثة الرسل لا على الإدراك بالعقل فدلّ ذلك على أنّ العقل لا مجال له في إدراك حُسن الأفعال وقبحها".
ونُوقش فيه: بأنّ الآية أجنبية عن المقام لأنّها تنفي العذاب والعقوبة قبل بلوغ الشرع وبعثة الرسل، كذلك أنّها لا تنفي اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة، التي تقضي المدح والذم، وأيضا إثبات الحسن والقبح العقليين لا يلزم التعذيب وإنما الذي يستلزمه مخالفة الرسل بعد البلوغ وبعثة الرسل.
كذلك أنّ صدق الرسل والاعتقاد بهم لا يكون إلاّ عن طريق العقل، يتوقف على قاعدة عقلية وهي قبح إعطاء المعجزة التي هي حجة الرسل بيد الكاذب ولولا هذه المقدمة لم يكن هناك حجة لاتباع الرسل، إذ لا يقبح أن يبعث الفاسق والكاذب عند عدم القول بالحسن والقبح العقليين.
قال الإمام أبو عبد الله الصادق (): "إنّ حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل". وقال الإمام موسى الكاظم(): "إنّ لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة--، وأما الباطنة فالعقول".
القول الثاني: إثبات الحسن والقبح العقليين:
ذهب إليه المعتزلة والإمامية واستدلوا عليه بعدة أدلة أهمها ما يأتي:
1- الوجدان وبداهة العقل: إنّ حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان معلوم بالضرورة عند كلّ عاقل من غير نظر إلى شرع، فهي تدخل في دائرة المسلمات عند العقلاء، فلا منكر فيها حتى من أنكر الشرائع الإلهية من رأس. واشار المحقق الطوسي(ت672هـ) إلى هذا بقوله: "وهما عقليان للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع".
وقال العلامة الحلي(ت726هـ): "لو كان الحسن والقبح شرعيين لما حكم بهما من ينكر الشرع، وبالتالي باطل؛ فإنّ البراهمة ينكرون الشرايع والأديان كلها، ويحكمون بالحسن والقبح، مستندين إلى ضرورة العقل في ذلك". وهذا دليل على أنّ هذه الأحكام عقلية قبل ورود
الشرع فيها.
وأُجيب عن هذا الدليل بما يأتي:
إذا أُريد بحسن هذه الأمور وقبحها، بمعنى الملائم أو الكمال للنفس والمنفرة والنقص لها، فلا نسلم جزم العقلاء به، وإنّ اتفاق العقلاء على هذا المعنى يحتمل أن يكون عن السماع من الشرائع أو عن تقليد مفهوم عن الآخرين من الشرع أو العرف العام.
قال الغزالي(ت505هـ): "وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه والضروري لا ينازع فيه خلق كثير من العقلاء"، ودفع المثبتون ذلك بقولهم: إنّ من يُسلِّم عقلا بحسن العدل وقبح الظلم وإنّ العدل ملائم للنفس ومصلحة للمجتمع، والظلم نقيضه، فلابد أن يُسلم ضرورة، بمدح فاعل العدل وذم فاعل الظلم، وهذا أمر متواتر بين الناس، ومنكره مكابر. وكذلك لو عرضنا قضية التحسين والتقبيح بين الناس على العقل الخالي من المؤثرات الأخرى كالعرف والعادة والشرائع لحكم بهما أيضا.
2- لو لم يكن الحسن والقبح عقليين، أي: إذا كانا شرعيين فإنّ الكذب على الله سبحانه وتعالى ورسوله(k)، سيكون جائزا عقلا؛ لأنّ الكذب ليس قبيحا في ذاته، وإنما ثبتت صفة القبح له بالشرع، وهذا يترتب عليه بطلان الشرائع وهي نتيجة باطلة، ولا قائل بها، أي: بطلان مقدمتها، ومن ثَمّ لزوم اعتبار أنّ الحسن والقبح عقليان قبل أن يكونا شرعيين.
وأُجيب عن هذا الدليل بجوابين:
أ- إنّه لا ملازمة بين كون الحسن والقبح عقليين، وبين كون الكذب ممتنعا على الله ورسوله؛ لأنّ الكذب من الأمور المسلَّم بقبحها عند الجميع، ثم إنّ الكذب نقص، وإنّ الله سبحانه وتعالى منزّه عن كلّ نقص والكذب منه ممتنع لذاته.
ب- إنّ حكم العقل بجواز صدور هذ الفعل وعدمه، يمكن أن يصحّ بالنسبة إلى الإنسان، أما بالنسبة إلى الله سبحانه، فهو غير صحيح؛ لأنّه تعدية وقياس لما ينبغي للإنسان فعله إلى ما ينبغي لله، وهذا واضح البطلان.
قال الغزالي(ت505هـ): "نحن لا ننكر أنّ أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب، وإنما الكلام الحسن والقبح بالإضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد، وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه، وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش، وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه، وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده ولم يقبح منه".
ورد ذلك: بأنّ الكلام في الفعل من حيث هو فعل نسب إلى الله سبحانه أم للإنسان، ولاشكّ أنّ العقل يحكم بقبح ما يراه قبيحا كالظلم، وحُسن ما يراه حسنا كالعدل، سواء أضيف ذلك إلى الله تعالى أم إلى عباده، فلو أنّ الله تعالى أثاب العاصي وعاقب المطيع، فيكون ذلك منه قبيحا تماما- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- كما لو صدر ذلك من الإنسان تجاه سطوته لكان ذلك مستقبحا عند العقل.
قال الشيخ الأصفهاني(ت1255هـ): "لا يلزم من قبح شيء في حق العباد، وعدم قبحه في حقّه تعالى أن لا يحكم العقل على بعض الأفعال بوقوعه منه تعالى لحسنه، وعلى بعض بامتناع وقوعه منه تعالى لقبحه منه، والسرّ في عدم قبح تمكينه تعالى للعبد من المنكر إنّه تعالى لو لم يمكِّن من المعاصي لا تنفى فائدة التكليف وهي من أعظم المصالح الداعية إلى خلق المكلفين".
3- لو كان الحسن والقبح لا يثبان إلاّ بالشرع، لما ثبتا مطلقا ويجعل وجوب التزام أوامر الشريعة ونواهيها شرعيا، وهذا الوجوب يحتاج إلى دليل يثبته فإذا كان شرعيا احتاج أيضا إلى دليل وهكذا يتسلسل من دون نهاية، فلابد من دليل خارج الشرع يوقف هذا التسلسل أو الدور وما ذاك إلاّ إدراك العقل لوجوب الطاعة فلو لم يثبت الحسن والقبح عقلا لما ثبتا مطلقا، للزوم الدور، والدور لا يثبت شيئا.
وردّ عليه: بأنّ الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأمر والمدح، والقبح عبارة عن كون الفعل متعلق النهي والذم، وليس حكم الشارع، أي: أمره ونهيه دليل الحسن والقبح حتى يستلزم الدور.
وأُجيب عنه: بأنّ مفادهما واحد، وهو أنّ الحسن والقبح لا يثبان إلاّ عن طريق الشرع، إذ العاقل لا يجد فرقا بين الكلاميين.
4- لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لما اختار العاقل لو خيّر بينه وبين الكذب مع تساويهما من كل جهة.
وأُجيب عنه بأنّ منع كونهما عقليين فهو إنما آثر الصدق لأنّ أهل العلم اتفقا على حسن الصدق وقبح الظلم لما فيهما من مصلحة أو مفسدة نوعيتان والإنسان ترجح لديه الصدق على الكذب.
وكذلك نسلِّم إيثاره الصدق لكن لا بمعنى المتنازع فيه لأنّ الصدق صفة كمال فيكون من مصاديق المعنى الأول وهو محل اتفاق، وكذلك نمنع استواءهما؛ لأنّ التساوي لا يوجبه.
ودفع هذا الجواب: بأنّ الحكم بحسن الصدق وقبح الكذب ضروري لأنّه إذا عرضناه على العقل لحكم به بقطع النظر من جميع المؤثرات، وإنّ الحسن والقبح من المشهورات والعقل المجرد يتوقف في الحكم عليها لأنّها ليست أولية ولا فطرية، وأيضا كون الصدق والكذب من مصاديق المعنى الأول، لا يمنع من أن يكون محل نزاع باعتبار أنّه من مدركات العقل العملي، أي: مما ينبغي فعله أو تركه ويترتب عليه مدح فاعله أو ذمه، وأيضا أنّ المفروض استواؤهما في المصالح والمفاسد وسائر الجهات الموافقة للغرض والمخالفة لا في مطلق الصفات.
5- لو كان الحسن والقبح شرعيين ولم يكن ذلك وصفا في الفعل لكانت الصلاة والصوم والزكاة والسرقة ونحوها أمورا متساوية قبل ورود الشرع فورود الأمر من الشارع ببعضها وورود النهي بالبعض الآخر ترجح لأحد المتساويين بدون مرجح.
وأُجيب عنه بأنّ المرجح لا ينحصر في الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه، لأنّه قد يكون الترجيح يجلب مصلحة أو دفع مفسدة.
ويمكن دفعه: إذا جعل أحد المعنيين مرجحا يدخله ضمن متعلقات العقل العملي، أي: ينتقل من القوة المدركة التي هي العقل النظري إلى القوة المحركة وهي العقل النظري.
6- وأما الحجج النقلية على ذلك فهناك آيات قرآنية وأحاديث من السُّنة تدلّ بظاهرها على استقلال العقل بالتحسين والتقبيح خارج إطار الوحي ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبح، ومن أهمها ما يأتي:
أ- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾. ومفاد الآية أنّ سياقها فيه كمال الظهور في الدلالة على أنّه تعالى يأمر بالأمور الحسنة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الأمور القبيحة من الفحشاء والمنكر والبغي.
ب- قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾. الظاهر من الآية أنّ الكفار كانوا يفعلون بعض القبائح، وكانوا عارفين بقبح افعالهم وأنّها من الفحشاء ولكنهم حاولوا توجيه تلك الأفعال الشنيعة إما بكونها إبقاء لسيرة آبائهم وهم كانوا يحسون ذلك، وإما بكونها مما أمر الله سبحانه ولكن الله سبحانه وتعالى يخطئهم في ذلك ويقول: تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ ، كما يخطئهم في اتباع سيرة آبائهم بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، أي: إنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرم إلاّ الأمور المستنكرة عند العقول مما يحكم صريح العقل بقبحه وذم
فاعله، قال محمد رشيد رضا(ت1354هـ): "والفاحشة هي الفعلة أو الخصلة التي فحش قبحها في الفطر السليمة والعقول الراجحة التي تميّز بين الحسن والقبح والضار والنافع".
د- ومنه قوله تعالى بعد النهي عن الغيبة: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾، فإنّه صريح في قبح الفعل المذكور في نفسه.
هـ- قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾.
و- قوله تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾.
ز- قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾، وغيرها من الآيات الكريمة التي تدل على أنّه سبحانه وتعالى اتخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقل به عقليته، فالإنسان يجد من تلقاء نفسه قبح التسوية عند الجزاء بين المحسن والمسيء والمفسد والمصلح والمطيع والعاصي، والفاجر والمؤمن وغيرها، كما أنّه يدرك حسن جزاء الإحسان بالإحسان، وهذا الإدراك الفطري هو السند في حكم العقل بوجود يوم البعث والحساب، كي يفصل بين الفريقين ويجزي لكل منهما بما يقتضيه العدل والإحسان الإلهي.
ج- وأما السنة الشريفة الدالة على أنّ العقل بذاته قادر على إدراك حسن الأفعال وقبحها فهي كثيرة، كما يظهر من ملاحظة الأحاديث الواردة في المواعظ وبيان علل الأحكام وغيرها مما لا يخفى على من له أدنى اطلاع على الروايات، ومنها ما روي عن أبي الحسن() حين سئل عن الحجة على الخلق اليوم، فقال: "العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه".
الفصل الثاني
آثار المبادئ العامة في الاستنباط
المبحث الأول: المبادئ العامة وأثرها في فهم النصوص.
المبحث الثاني: المبادئ العامة وأثرها في فهم الأحكام.
المبحث الثالث: المبادئ العامة وأثرها في توجيه الفتوى.
المبحث الرابع: المبادئ العامة وأثرها في تغطية منطقة الفراغ التشريعي.
الفصل الثاني
آثار المبادئ العامة في الاستنباط
توطئة:
تُعدّ مبادئ الشريعة الإسلامية من الأسس والمباحث الهامة التي يجب على المجتهد أن يحيط بها وكذلك الالتزام بها، ويطلق عليها بمجموعة من التسميات منها: "أدلة التشريع العليا، المؤشرات الإسلامية العامة، أو العناصر الثابتة في التشريع، والمقاصد العامة للشريعة، والخطوط التشريعية العامة للأحكام الولائية".
ويجب أن يكون فهم النصوص والأحكام في ضوء هذه المبادئ السامية للشريعة الغرّاء، لانّ هذه المبادئ هي جوهر الإسلام، وإن الله تبارك اسمه شرع أحكامه كلّها في مصلحة العباد بل أن الشريعة مبناها وأساسها مرتكز على الحكم ومصالح العباد بجلب النفع لهم ودفع الأذى والضرر والحرج عنهم.
فهناك كثير من الفقهاء المعاصرين أخذت المبادئ العامة حيزاً في اجتهاداتهم وقراءاتهم للنصوص واصدارهم للفتاوى، فمثلاً يرى العلامة شمس الدين(ت1421هـ) أن الشريعة بنيت على نوعين من النصوص وهما نصوص أحكام ونصوص مبادئ تشريعية وكليات دستورية فمن النصوص المبادئية عند النص القرآني الآمر بالعدل والإحسان وهذا يعني أن العدل يمكن أن يكون أصلاً فنحاكم، وفقه الفتاوى والنصوص والدلالات وهو يعتبر أن العدل مبدأ يمكن التعويل عليه في فهم الدين، فهو يرى أن مبادئ الشريعة سنخ نصوص لا تقبل التقييد ولا التخصيص بل لها قدرة الحكومة والهيمنة على نصوص الأحكام التفصيلية، وهي تقع في كليتها التشريعية فوق كلية القواعد الفقهية، فالمبادئ غير قابلة للتخصيص في أصل الشريعة.
وكان كثيرًا ما يعول على المبادئ العامة ومنها مبدأ الأخوة الإسلامية، ومبدأ نفي العسر والحرج والذي هو من مبادئ التشريع العليا والتي تمثل أصل السهولة والسماحة في الإسلام.
وكذلك السيد السيستاني كثيرًا ما يعول في فتاواه على مبادئ الشريعة العامة فهو ينطلق من الأصول القرآنية التي تحكم قواعد العلاقات الكلية البشرية، مثل قوله تعالى:إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ومبدأ الحكم بالقسط في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً، وكذلك الآيات الأخرى المتضمنة مبادئ الشريعة العامة والتي منها نفي العسر والحرج ومبدأ المساواة ومبدأ الكرامة الإنسانية ومبدأ التعايش ومبدأ حفظ الضرورات الخمس فهذه المبادئ تجعل الإسلام مبيناً لدين فطري والذي يعبر عنه اليوم بالقانون الطبيعي وعبر هذا القانون الكلي تنبثق التشريعات الجزئية.
ومن المعاصرين أيضاً الشيخ الصانعي الذي تأثرت آراؤه بمبادئ الشريعة العامة، وكثيرٌ غيرهم نظروا إلى الأحكام انطلاقاً من بعض المبادئ، ومنها مثلاً اصراره على مبدأ السماحة والسهولة ونفي العسر والحرج في التشريعات، وكذلك أخذ بمبدأ العدالة وايضاً يعتقد بمبدأ الكرامة الإنسانية ويرتب عليه آثارًا فهو يرى أن هذا المبدأ المستفاد من العقل والنقل يمثل أصلاً أولياً يثبت للإنسان حقوقاً طبيعية ومساواة في هذه الحقوق ومن ثم ينبغي أن نفهم الدين وفقاً لهذا المبدأ ونحدد المواقف الشرعية تبعاً له. وأيضاً من المعاصرين الذين اهتموا بقضية العدالة محمد رضا الحكيمي، ويعتبر الحكيمي أن العدالة لها جوانب ثلاثة: العدالة السياسية والاقتصادية والقضائية وتحقيق العدل يحتاج إلى هذه العناصر الثلاثة، وأنّه لا يمكن بناء الفرد السليم والصالح من دون بناء المجتمع العادل، وتحقيق العدالة في الأرض، فهو كثيرًا ما يعول ويستعين بكثير من المبادئ والأصول كالإحسان والمساواة بين الابناء وكذلك مبدأ الأخوة الإسلامية، وأن هذه المبادئ هي التي تساهم في تكوين الصورة الحقيقية وتمنع التمايز في الإسلام.
المبحث الأول
المبادئ العامة وأثرها في فهم النصوص
تعد الشريعة الإسلامية هي الشريعة التي ختم الله بها شرائع السماء، وجعلها خالدة لأنّها سليمة الأساس، قوية البناء، وافية، بحاجة الأفراد والجماعات لما تحويه من مبادئ وقيم سامية هدفها اصلاح الإنسان وتحقيق السعادة له في الدارين، والمشرع عند تشريع الاحكام يريد ما أمكنه أن يحافظ على المبادئ العامة للشريعة الإسلامية لما لها من تأثير وثمرات كبيرة لا يمكن غض النظر عنها، والمبادئ تهدي الفقيه وتوجه المفتي والمقنن. كما وتشكل مرجعاً فقهياً، ولا يمكن فهم النصوص الدينية فهما صحيحاً بمعزل عن هذه المبادئ لما لها من الأثر الواضح في عميلة الاستنباط بل يرى البعض بأن: "لا يصح فهم القرآن بمعزل عن هذه المعطيات البديهية الأمر الذي يجعل فهم الكتاب العزيز خاضعاً لمعطيات العقل الأولية أو الواضحة جداً للجميع".
والمراد من النصوص هو الخطاب الشرعي المدون المتمثل بالقرآن الكريم وسنة المعصوم()، والذي تدور عليه رحى الشريعة الإسلامية المقدسة لكون هذه النصوص المرجع الأساس والمصدر الرئيسي للفقيه والأصولي في استنباط الحكم الشرعي.
المطلب الأول: التعريف بمفهوم النص في اللغة والاصطلاح:
أولاً: النص في اللغة:
هو منتهى الأشياء ومبلغ اقصاها- ونصصت الشيء رفعته، ومنه منصة العروس، من باب طلب يقال للماشطه- تنص العروس فتقعدها على المنصة بفتح الميم وهي كرسيها لِتُرى من بين النساء.
ونص كل شيء منتهاه، وفي حديث الإمام علي (): "إذا بَلَغَ النساءُ نصَّ الحِقاقِ"، يعني منتهى بلوغ العقل.
ومنه نص الحديث إلى فلان، أي رفعه إليه، وكذلك قول الفقهاء: نص القرآن، ونص السنة، أي: ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام، وخلاصة ما تقدم يبدو أن المعنى الحقيقي للنص هو الرفع والظهور.
ثانياً: النص اصطلاحاً:
المراد من النصوص هي نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة باعتبارهما المصدرين الأصليين، للهداية واستنباط الأحكام الشرعية، وهي من جهة الدلالة أما نصية او ظاهرة أو مجملة، فالنص كما عرفه الشيخ الطوسي(ت460هـ) هو: "كل خطاب يمكن أن يعرف المراد به"، واستدل على اختياره بان النص إنّما يسمى نصًا لأنّه يظهر المراد ويكشف عن الغرض تشبيهاً بالنص المأخوذ من الرفع نحو قولهم (منصة العروس) إذا ظهرت، ونحو ما روي عن النبي(k) أنه كان حين أفاض من عرفات إلى جمع يسير على هِينَتِهِ فإذا وجد فجوة نصّ يعني بلغ فيه الغاية.
وعرفه الجرجاني(ت816هـ)بأنه: "مالا يحتمل إلا معنى واحدًا، وقيل: ما لا يحتمل التأويل" وكذلك: "ما ازداد وضوحاً على الظاهر لمعنى في المتكلم، وهو سوق الكلام لأجل ذلك المعنى".
وقد ورد عن الفضلي(ت1432هـ)بأنه: "اللفظ الذي يدل على معنى معين مع دفع احتمال إرادة غيره ومستوى الدلالة هنا بدرجة اليقين".
ومشهور فقهاء واصولي الإمامية يعدّون (النص) أحد قسمي (المبين) والذي يقسمونه إلى قسمين (نص) و(ظاهر) ويعرف النص بأنّه: "الظاهر البالغ في ظهور دلالته إلى حيث لا يقبل التأويل عند أهل العرف بل يعدون التأويل له قبيحاً خارجاً عن رسوم المحاورة"، ويعرف الظاهر بأنه: "اللفظ الذي له ظهور قابل للتأويل بسبب القرائن، كالعام والخاص والمطلق ونحوهما".
والنص الدلالي لابد من توفره في مصدري التشريع الإسلامي المتمثل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.
المطلب الثاني: المبادئ العامة وأثرها في قضايا المرأة:
الإسلام دين الوسطية في كل شيء، فكل مقومات الحياة تقوم على أساس مبدأ الوسطية، وجاء الإسلام ليحقق المساواة بين الرجل والمرأة في المبدأ والمعاش والمعاد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى، وقال سبحانه وتعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. والإسلام كرم المرأة وساواها بالرجل في التكريم والقيم الإنسانية قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وكذلك في التكاليف الشرعية، قال عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وقال جلَّ جلاله: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
ومن مبادئ التشريع المساواة:
أولاً: تولي المرأة للسلطة والقضاء:
إنَّ الفقهاء متسالمون في الجملة على مشروعية قيام المرأة بمهمات اجتماعية واقتصادية في مجال الزراعة والطب والتعليم وغيرها بشرط أن لا يؤثر على مهمتها الأساسية في المجال العائلي، أمّا في المجال السياسي يختلف الفقهاء في مشروعية وعدم مشروعية المرأة وأهليتها لذلك فبعض الفقهاء والظاهر هو الأغلب يذهب إلى عدم أهلية المرأة في تولي أمور الدولة والحكم وأكدوا على توفر الذكورة لذلك، يقول السيد الصدر (ت1400هـ): "المجتهد المطلق إذا توافرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد –منها الذكورة- جاز للمكلف أن يقلده كما تقدم وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفؤاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً".
وذكر البعض أن أغلب الفقهاء عندما يذكر شرط الذكورة في باب القضاء فيكون من باب أولى اشتراطها في الولاية والسلطة فذكروا: "فإذا كان تولي القضاء محضورًا على المرأة وهو ليس إلا شعبة محدودة من شعب الزعامة، كان حظر تولي الرئاسة العليا للبلاد، والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الأمة، بطريق أولى".
وهذا لا يعني أن الإسلام ينظر إلى المرأة نظرة ازدراء وتحقير أو سحقه لبعض حقوقها، وإنّما يصدر ذلك عن مبدأ تقسيم العمل واسناد كل شيء إلى من هو الأنسب بحاله.
ومن الفقهاء الذين اشترطوا الذكورة في القضاء الشيخ الطوسي(ت460هـ)، إذ قال: "لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شيء من الأحكام".
وذهب المحقق الحلي(ت676هـ)، بعد أن يذكر شروط القاضي ومنها الذكورة بقوله: "ولا ينعقد القضاء للمرأة، وان استكملت الشرائط".
وفي قبال هذه القراءة هناك من يرى أن هذه الأحكام تشكل ظلماً واجحافاً بحق المرأة وسلباً لحريتها، وهذا ما يتنافى مع مبدأ عظيم من مبادئ الشريعة الإسلامية ألا وهو مبدأ الحرية، لذلك هناك جملة من الفقهاء يرون من خلال مبادئ الإسلام أهلية المرأة للسلطة معتبرين أن القول بعدم أهلية المرأة مخالفاً لمبدأ العدل والذي نصت عليه النصوص الشرعية. ومخالف أيضاً لمبدأ الكرامة الإنسانية والذي يثبت للإنسان حقوقاً ومساواة بين الرجل والمرأة وهو مبدأ أولي ينبغي أن لا يفهم الدين فهماً يقع في قبال هذا المبدأ، بل لابد من فهم الدين ضمن أطر هذا المبدأ، وإلا سوف يقع الظلم والتعسف وآثار خطيرة، وقد تجعل من الفهم الديني صيداً سهلاً للمتربصين بالدين، وبالنظريات والاطروحات التي تصدر من أصحابه، ويرى بعض الفقهاء أن السبب في النظرة الذكورية عند الفقهاء المتقدمين تكمن في ثقافتهم السائدة آنذاك إذ يقول: "أن اجتهاد القدماء، كان مرتكزًا على ثقافاتهم، ونحن نعرف أن القدماء اختلفوا فيما بينهم حسب اختلاف ثقافتهم، لذلك يمكن لنا أن نختلف مثلهم، بأن ندرس النصوص، دراسة جديدة، كما لم يدرسها أحد من قبلنا، مع ملاحظة الفهم السابق عندما نريد أن نؤكد فهمنا".
وكذلك الأدلة التي استدل بها المانعين لتولي المرأة القضاء لا تخلو من المناقشة، وقد تكون كثرتها سبب في شهرة هذا القول؛ ليكون دليلاً مستقلاً.
ومن الفقهاء الذين ذهبوا إلى جواز تولي المرأة منصب السلطة العليا والقضاء وغيرها مخالفاً ما تسالم عليه الفقهاء، العلامة شمس الدين(ت1421هـ)إذ يقول: "إن ما تسالم عليه الفقهاء من عدم مشروعية تصديها وتوليتها للسلطة دعوى ليس عليها دليل معتبر".
ويؤكد الشيخ محمد مهدي شمس الدين في هذا الجانب على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، إذ يقول: "لقد ساوى الإسلام بينها وبين الرجل في كل شيء، سوى بعض الموارد التي اختلف فيها وضعها الحقوقي عن الرجل لأسباب موضوعية ناشئة من نفس مجال الاختلاف، ولا علاقة لها بكرامتها ولا بأهليتها العامة وهذه الموارد هي: الشهادة، والميراث، والدية، وحق الطلاق".
وأيضاً يذهب الشيخ الفياض إلى جواز تولي المرأة للسلطة والقضاء انطلاقاُ من الأصل العام في الإسلام وهو مبدأ المساواة بين الأفراد ومنها المساواة: بين الذكر والأنثى، إذ يقول: "إن تصدي المرأة في الدولة القائمة على أساس مبدأ حاكمية الدين للسلطة الحاكمة ومنصب القضاء والافتاء فقط مورد اشكال عند الفقهاء وإن كان الأظهر جوازه عندنا إذا توافرت شروط هذا المنصب فيها"، ويرى أيضاً: "يجوز للمرأة أن ترشح نفسها للدخول في البرلمان، أو في سائر المجالس النيابية، شريطة أن تحافظ على كيانها الإسلامي وكرامتها كامرأة مسلمة".
والذي يبدوا للباحث ان مساعي إعادة النظر والتجديد الفقهي إنما يمكن المصير إليه في إطار الدلالة الظاهرة، أما لو افترض وجود نصوص شرعية ذات دلالة نصية غير محتملة، فإن الأمر يصبح معقدًا على أصحاب المدارس التجديدية المعاصرة.
ثانياً: مساواة الرجل والمرأة في الشهادة والقصاص والدية:
تطرق الشيخ الصانعي(ت1442هـ) إلى كثير من مسائل المرأة وأعطى مساحة واسعة لمبادئ الشريعة الإسلامية وجعلها أساساً في إصداره للحكم الشرعي كمبدأ العدل والانصاف والكرامة والمساواة، ومن جملة آرائه في المرأة:
1-تساوي الرجل والمرأة في الشهادة:
وأصل الشهادة هي الحضور، والاخبار بما شاهده.
وفي الاصطلاح هي: "إخبار عن علم المخبر بثبوت أمرٍ أو نفيه، يلزم غيره لغيره، لإثباته عند الحاكم".، أو هي: "إخبار جازم عن حق لازم لغيره، واقع من غير حاكم".
وذهب المشهور، إلى أن شهادة المرأة لا تساوي شهادة الرجل بل شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد، واستدلوا بقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى.
وأيضاً استدلوا بجملة من الروايات منها على سبيل المثال:
أ-ورد عن زرارة أنه قال: سألت أبا جعفر() عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: نعم، ولا تجوز في الطلاق، قال: وقال علي (): تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان أربع نسوة ورجلان فلا يجوز الرجم، قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال: لا"..
ب-وقد ورد عن محمد بن فضيل عن ابي الحسن() قال: سألته عن شهادة النساء، هل تجوز في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه، وتجوز في النكاح، إذا كان معهن رجل ولا تجوز في الطلاق ولا في الدم، وتجوز في حد الزنا، إذا كان ثلاثة رجال وامرأتين ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة".
ج-وعن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله() يقول: "لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا تجوز في الرجم شهادة رجلين، وأربع نسوة ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان"، وغيرها الكثير من الروايات في باب ما تجوز شهادة النساء فيه ومالا تجوز.
وأما الشيخ الصانعي فقد ناقش أدلة المشهور ويرى أن الاستدلال بقوله تعالى:وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاء...ِ، نعم هذا ثابت في هذا المورد، أي: مورد الدَّين ولا يمكن أن ينسحب الاستدلال على موارد أخرى فيقول: "أننا نوافق على أن الآية تجعل شهادة المرأتين مساويةً لشهادة رجل واحد بل أن هذا الحكم منحصر بمورد الآية، ذلك أن كل حكم يقع على خلاف الأصل لابد من الاقتصار فيه على مورده، وهو باب الدَّين".
ثم إنَّ قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فهذه الآية: "بينت العلة، وهذه العلة هي النسيان وقلة الحافظة وعدم الدقة والمهارة في الأمور المالية والاقتصادية، وهو ما كان طبع النساء عليه في زمان نزول الآية، أي أن ذاكرتهنّ كانت في المتعارف منها أقلّ من ذاكرة الرجال، ونتيجة ذلك انخفاض معدل الاطمئنان في شهادتهن وهو ما يجعل شهادة أثنين منهما معادلةً لشهادة رجل واحد"، ويصل الشيخ إلى نتيجة مفادها: "لا يعتبر القرآن العلة هنا كون المرأة امرأة، وإنما في وصف عارض سبق بيانه، ولهذا حكم بقبول شهادة امرأتين مكان شهادة الرجل الواحد في الحالات التي يكون فيها هذا الوصف العارض "النسيان العارض" موجودًا، ولا تكون الآية شاملة لتمام حالات شهادة المرأة حتى تلك التي لا وجود لهذه الخصوصية فيها، ذلك أن الملاك هو النسيان العارض لا أنوثة الأنثى".
وأمّا الروايات الشريفة فقد ناقشها الشيخ الصانعي وكون علة عدم المساواة بين شهادة المرأة والرجل عائد إلى إمكان النسيان في المرأة أكثر من الرجل فيقول: "خلاصة الكلام أن مدلول الروايات لا يدل على أكثر مما تفيده الآية الشريفة، وإنّ العلة التي أبدتها الآية الكريمة تعود لتلعب دورًا في التعميم والتخصيص".
ويعتقد الباحث أن تمامية هذا الرأي يتوقف على كشف الملاك بنحو القطع لا الظن، إذ أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، والطريق إلى ذلك غير متيسر.
2-تساوي الرجل والمرأة في القصاص والدية:
أ-القصاص:
شرّع الدين الإسلامي القصاص انطلاقاً من مبادئه السامية في تحقيق مبدأ المساواة، وإن الناس سواسية كأسنان المشط وهذا هو العدل الكامل ما دامت الحقوق والواجبات في الأصل متساوية، وفي القصاص صيانة النفوس البشرية عامة، والحفاظ على الحياة واستمرارها، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وفيه ضبط للنفوس الجامحة كي يسود النظام والأمن والاستقرار في المجتمع.
والقصاص في اللغة: هو من القص وهو تتبع الأثر، وهو أن يفعل في الجاني مثل فعله من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح، أي: بالقود والمقابلة في المثل.
وأما المعنى الاصطلاحي فهو: "أن يُفعل بالفاعل مثل ما فعل"، وكذلك هو: "استيفاء أثر الجناية من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح".
وأيضاً: "تعقيب الجناية الواقعة من قتل أو جرح أو مثلهما بإيراد مثله على الجاني والاتيان بمثل فعله"، والذي يبدو أن المعنى الاصطلاحي منحدر تماماً من المعنى اللغوي.
وذهب مشهور فقهاء الإمامية إلى عدم المساواة في القصاص ما بين الرجل والمرأة، بمعنى لو قتل رجل امرأة فلا يمكن لأولياء المرأة قتله، إلاّ إذا منحوا ورثة الرجل القاتل نصف دية الإنسان الكامل، وقال السيد المرتضى(ت436هـ): "ومما انفردت به الإمامية: أن الرجل إذا قتل المرأة عمدًا، واختار أولياؤها الدية كان على القاتل أن يؤديها إليهم وهي نصف دية الرجل، فإن اختار الأولياء القود وقتل الرجل بها كان لهم ذلك على أن يؤدّوا إلى ورثة الرجل المقتول نصف الدية، ولا يجوز لهم أن يقتلوه إلاّ على هذا الشرط".
أمّا إذا حصل العكس وقتلت المرأة الرجل فتقاد به، وخالف الصانعي رأي المشهور وذهب إلى المساواة ما بين الرجل والمرأة في القصاص وأنه لا تمايز بينهما، فإذا قتل رجل امرأة فأما أن يقتص منه أو يقبل أولياء الدم بالدية، ودية الرجل والمرأة متساوية، وإذا قتلت المرأة الرجل، فعليها القصاص فإن ذهب أولياء الدم إلى الدية فتدفع المرأة الدية.
واستدل لرأيه بالأدلة النقلية من الآيات والروايات، فمن الآيات قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وقوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ، وأيضاً قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً، وبعد أن يستدل الشيخ الصانعي بهذه الآيات يقول: "إننا ندعي أن في هذه الآيات إطلاقاً، وهي تدل –صراحةً- على تساوي الرجل والمرأة، الحر والعبد، المسلم والكافر، تمامًا كما تحتوي على اطلاق بلحاظ اللون والعرق والقومية، ويؤيد هذا الاطلاق وتلك الصراحة في الدلالة بمذاق الشارع والمنحى العام في الكتاب والسنة فيما يتعلق بالمساواة بين الناس، فقد اعتبر القرآن الكريم البشر جميعهم ابناء آدم وحواء، ولم يضع أي فرقٍ أو تمييز بينهم في مبدأ الخلقة، وفي الطاقات الإنسانية الكامنة".
وكذلك يورد الشيخ بعض الروايات لإثبات مدعاه في تساوي الرجل والمرأة في القصاص وكذلك الدية.
1-ما ورد عن النبي(k) في خطبته في حجة الوداع أنه قال:((أيها الناس، إن ربكم واحد وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب)).
2-وفي حديث آخر قال(k): ((الناس سواء كاسنان المشط)).
3-وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب() أنه قال: "الناس إلى آدم شرع سواء".
وينتهي الشيخ الصانعي إلى القول من خلال الاعتماد على دلالة الآيات القرآنية ومبادئ وأصول الشريعة الإسلامية، "توصلنا إلى الدفاع عند مبدأ المساواة في القصاص بين الرجل والمرأة، والمسلم والكافر، والحر والعبد، اعتمادًا على دلالة الآيات القرآنية وأصول الشريعة الإسلامية".
ب. وأما الدية فهي في العموم تعويض عن الضرر المعنوي الذي يصيب الشخص، وهي ترضية بشكل محدود في اطفاء الألم والغيض في نفس المجني عليه وذويه.
وهي في اللغة: مصدر من ودى يدي، أي: اعطاء المال بدل الجناية، فهي: اسم للمال الذي هو بدل النفس أو الطرف، يقال: وَديتُ القتيل: أعطيت ديته، ووداه: اعطى ديته، وقد تسمى عقلاً لمنعها من الجرأة على الدم؛ لأنّ من معاني العقل: المنع.
وأما الدية في الاصطلاح فأنها تستعمل في كلمات الفقهاء بنفس المعنى اللغوي، فهي: المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو ما دونها كاليد والرجل والرأس وغير ذلك من أعضاء البدن سواء كان له مقدر أو لا. أو هي المال المفروض في الجناية المقدرة شرعاً كما وكيفاً على الانفس أو الطرف أو الجرح، أو نحو ذلك.
والمجمع عليه عند فقهاء الامامية أن دية المرأة نصف دية الرجل، وخالف في ذلك الشيخ الصانعي مستندًا إلى مبدأ التساوي بين الرجل والمرأة، إذ يقول: "نحن نعتقد أن دية المرأة والرجل متساوية قضاءً لإطلاق أدلة الدية وعدم وجود دليل على التقييد"، وكذلك يذكر الصانعي مجموعة من الآيات والروايات والتي فيها دلالة على التساوي بين أفراد الإنسان في بناء الشخصية وفي المواهب والقابليات وسائر الخصائص الإنسانية الأخرى وما ذكر من الآيات قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، واستدل أيضاً بنفس الروايات التي تقدم ذكرها في التساوي في القصاص بينهما، ويتوصل الشيخ الصانعي إلى خلاصة قوله: "أن الروايات الدالة على أصل الدية ومقدارها تثبت – مع ضمّها إلى القواعد والأصول الإسلامية العامة المستقاة من الآيات والروايات – تساوي دية الرجل والمرأة، والمسلم وغيره".
ولا يظهر للباحث أن هذه النصوص المساقة في مقام التسوية بين الجنسين ومن جميع الجهات، بل يفهم أنها في مقام اثبات الكرامة للجميع، وليس في مقام الاشتراك بالأحكام بين الرجل والمرأة.
المبحث الثاني
أثر المبادئ العامة في فهم بعض الأحكام
المطلب الأول: الحكم في اللغة والاصطلاح:
أولاً: الحكم لغة:
المنع -وبالضم- القضاء، واحكام الأمر بمعنى اتقانه وتأتي لبيان العلم والعدل في القضاء، والحكمة والتفقه.
وأمّا الشرع: ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده.
ثانياً: الحكم اصطلاحاً:
عرف الفقهاء والأصوليين الحكم الشرعي بعدة تعريفات منها: "خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع".
وعرّفه المحقق العراقي(ت1361هـ): "الارادة التشريعية المبرزة بالخطاب"، وأما المحققّ الاصفهاني(ت1361هـ): "الإنشاء بداعي البعث والتحريك وجعل الداعي"، وعرّفه السيد الصدر(ت1400هـ) بأنه: "التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه، والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه وليست هي الحكم الشرعي نفسه".
وتعريف الحكم بكونه: "خطاب الشارع..." يخرج أحد مراحل الحكم وهي الاقتضاء؛ لذلك عدل بعض الأصوليين المتأخرين عن كلمة (خطاب) إلى كلمة (اعتبار)، فاصبح تعريف الحكم هو "الاعتبار الشرعي المتعلق بافعال المكلفين تعلقاً مباشرًا أو غير مباشرًاً".
ومعنى الاقتضاء، الطلب ويشمل الواجب والمندوب والحرام والمكروه، والتخيير، عدم الطلب فيختص بالمباح.
المطلب الثاني: مبادئ الحكم الشرعي
للحكم الشرعي مرحلتان يمر بها ويعبر عنها بمبادئ الحكم، وهما: مرحلة الثبوت ومرحلة الاثبات.
فمرحلة الثبوت تتكون من عنصرين رئيسيين وهما:
الأول: المصلحة، والثاني: إرادة الفعل، ويكون ذلك في عالم التشريع وتسمى بالمرحلة الثبوتية، ولها عناصر ثلاثة:
الملاك.
الإرادة.
الاعتبار.
فالله سبحانه وتعالى لطيف بعباده وأرسل الأنبياء والرسل لهداية الناس وإرشادهم لما فيه مصلحة ونهيهم عما فيه من المفسدة وشرع القوانين للعباد، وبالتالي كل التشريعات والأحكام تتم عن مصلحة أو مفسدة مؤكدة للعباد، وهذه المصلحة سواء أكانت بصيغة الأمر أو النهي تسمى في الأحكام الملاك، أي: أن الملاك هو المصلحة من الحكم.
وبعد إدراك المصلحة أو المفسدة سوف تتولد الإرادة عن المحبوبية أو المبغوضية اللتين تتناسبان مع المصلحة أو المفسدة فيكون هناك شوق مؤكد قائم بالنفس وهذا الشوق ناشئ من وجود المصلحة أو المفسدة فيكون الطلب والتصدي لتحصيل ما هو مرغوب ومطلوب، وأما العنصر الثالث وهو الاعتبار هو الحكم نفسه، أي: عندما يتحقق الملاك والإرادة يصوغ المولى ارادته صياغة تنظيمية للحكم، والاعتبار ليس عنصرًا لازماً أو أساسياً بل يمكن الاستغناء عنه مثل إذا قال المولى (أريد منكم الجهاد) وبهذه الحالة يكون الحكم مؤلفاً من ملاك وإرادة أو إذا قال المولى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، فقد عبر عن ارادته وملاكه بالابراز والاعتبار.
أما مرحلة الاثبات وتأتي بعد تحقق الملاك والإرادة لتبرز حكم المولى إلى الخارج، فالإثبات يعني ابراز الحكم للمكلفين ويكون ذلك اما بجملة انشائية مثل قوله تعالى:وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وقوله سبحانه وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ، وقوله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.
أو يكون إظهار الحكم بجملة خبرية، كأن يقول أحد الأشخاص للإمام : صلى أحد بلا وضوء، فما حكم صلاته؟ فيجيب الإمام: يعيد صلاته أو أعاد صلاته، فالإظهار أمّا أن يكون بجملة انشائية أو خبرية.
المطلب الثالث: مراتب الحكم الشرعي:
ذكر بعض متأخري الأصوليين أن للحكم أربع مراتب:
أولاً: مرتبة الاقتضاء: وهي أن يكون للحكم شأنية الثبوت بلحاظ وجود المصلحة المقتضية له.
ثانياً: مرتبة الإنشاء: وهي أن ينشأ الحكم ويوجد بوجود انشائي دون أن يصل إلى مرحلة البعث أو الزجر.
ثالثًا: مرتبة الفعلية: وهي أن يصل الحكم إلى مرحلة البعث أو الزجر أو الترخيص الفعلي.
رابعاً: وهي أن يكون الحكم مما يعاقب العبد على مخالفته.
واستشكل المحقق الاصفهاني الكمباني(ت1361هـ) في حاشيته على الكفاية في عدّ مرحلة الاقتضاء، والتنجز من مراحل الحكم ومنع صحة صدق الحكم الاقتضائي وتوسع في بيان ذلك.
ومن الفقهاء السيد الخوئي(ت1413هـ) قال: ليس للحكم إلا مرتبتان: أحدهما: مرتبة الجعل والانشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضية الحقيقية كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، الثانية، مرتبة الفعلية والخروج عن التعليق والتقدير بتحقق موضوعه خارجاً، كما إذا صار المكلف مستطيعاً، وأما الانشاء لغرض الامتحان أو التهديد أو الاستهزاء ونحوها فليس من مراتب الحكم ولا يطلق عليه الحكم أصلاً، وكذا الحال في مرتبة الاقتضاء، إذ مجرد وجود الملاك للحكم مع وجود مانع من انشائه لا يستحق أطلاق الحكم عليه.
ونضرب هذا المثال عن كيفية مرور الحكم الشرعي بمراحله الأربعة:
معلوم أن في الحج مصالح ومنافع يعلمها الله سبحانه وتعالى، وهذا يقتضي أن يأمر الله سبحانه العباد بهذا العمل للحصول على ما فيه من مصالح ومنافع وهذه هي المرحلة التي يكون الحكم اقتضائياً، وإذا صدر وفق هذه المصلحة خطاب بوجوب الفعل، كقوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، صار الحكم إنشائياً لصدور أمر بوجوبه.
فإذا وصل الخطاب إلى المكلف وكان مستطيعاً للحج في اشهر الحج، صار الحكم في حقه فعلياً غير منجز، لعدم استكمال بقية الشروط كالزمان مثلاً، فإذا حل الزمان المخصص لبدء العمل وهو يوم التاسع من شهر ذي الحجة، وكان المكلف مستجمعاً لجميع الشروط اللازمة لهذا العمل، وجب التنفيذ والبدء بالعمل، والحكم حينئذٍ في حقه يكون فعلياً منجزًا.
المطلب الرابع: المبادئ العامة وأثرها في الحكم بعدم سرقة مال الكافر:
إنَّ من أهم ضروريات التعايش الآمن وبناء العمران المطمئن هي صيانة الأموال والمحافظة عليها؛ لذلك فإن من حكمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنه فرض العقوبة الرادعة لكل سارق يفسد على الناس معاشهم، ويخل بأمنهم على أموالهم، ففرض عقوبة قطع يد السارق كما ورد في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وعليه فالسرقة محرمة شرعًا وقبيحة عقلاً.
أولاً: السرقة في اللغة والاصطلاح:
1- السَرِقة لغةً:
هي اسم ، والمصدر: (سَرَق)، وهي: أخذ الشيء من الغير خفية، وأضاف البعض: وحيلةٍ. يقال: سرق منه مالاً، أخذ ماله خفية فهو سارق، ويقال: استرق السمع، أي: سمع مستخفياً ويقال: هو يسارق النظر إليه، إذا اهتبل غفلته لينظر إليه.
2- السرقة اصطلاحاً:
ذكر الفقهاء في تعريف السرقة: بانها: أخذ مال الغير من حرزه مستخفياً، أو أخذ مالٍ محفوظ، وزاد البعض: بغير اذنه صريحاً ولا فحوى ولا شهادة، وبعض الفقهاء عرف السرقة من دون ذكر الحرز، والظاهر هو مراد له أيضاً.
وأمّا تعريف السرقة في القانون فقد عرف المشرع السرقة في المادة (439) عقوبات بقوله: "السرقة اختلاس مال منقول مملوك لغير الجاني عمداً".
والقانون يعبر عن السرقة بالاختلاس، والذي هو نقل حيازة شيء وإدخاله في حيازة أخرى عمدًا، والفرق بين السرقة والاختلاس، هو أن السرقة أخذ في خفاء بحيث يخفي السارق والمسروق عند الآخذ، أما الاختلاس: فالمختلس لا يكون مخفياً، بل يكون ظاهرًا، ولكن يتغفل الآخر، فيأخذ ما يريد من غير مغالبة، ففي عمله استخفاء بلا شك.
ثانياً: أثر المبادئ في القول بعدم سرقة مال الكافر:
الكافر هو: "من لم ينتحل ديناً، أو انتحل ديناً غير الإسلام، أو انتحل الإسلام، وجحد ما يعلم أنه من الدين الإسلامي بحيث رجع جحده إلى انكار الرسالة ولو في الجملة، بأنّ يرجع إلى تكذيب النبي(k) في بعض ما بلغه عن الله تعالى في العقائد –كالمعاد- أو غيرها كالأحكام الفرعية مثل الفرائض ومودة ذي القربى، وأما إذا لم يرجع جحده إلى ذلك بأن كان بسبب بعده عن البيئة الإسلامية وجهله بأحكام هذا الدين فلا يحكم بكفره"، وذهب جملة من الفقهاء إلى جواز أخذ مال الكافر:
ومنهم الشيخ الطوسي (ت460هـ) إذ يقول: "وينتقض الأمان في الحال؛ لأنّه مال كافر، لا أمان بيننا وبينه في نفسه، ولا ماله كساير أهل الحرب؛ وبصير فيئاً للإمام خاصة لأنه لم يؤخذ بالسيف؛ فهو بمنزلة ميراث من لا وارث له".
وذكر ابن البراح الطرابلسي(ت481هـ) بأنه: "الظاهر من النصوص زوال الحرمة عن مال الكافر وإنه إذا حكم في دمه بزوالها بالكفر ففي ماله أولى".
وذهب إلى جواز أخذ مال الكافر السيد عميد الدين الأعرج(ت754هـ) فإن: "الاستيلاء على مال الكافر سبب في الملك".
وذهب إلى ذلك الشيخ الاصفهاني الكمباني (ت1361هـ) بقوله: "وهو أن احترام مال المسلم عدم جواز مزاحمته فيه بالأخذ منه قهرًا عليه كما يجوز بالاضافة إلى مال الكافر الذي لا ذمة له ولا حرمة".
والأغلب يذهبون إلى عدم جواز سرقة مال الكافر؛ لأنّ في ذلك منافاة مع مبادئ الشريعة الإسلامية العامة، وعدم جواز سرقة مال الكافر بالحكم والعناوين الثانوية، لأنه يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام.
فيقول التبريزي: "لا يجوز أخذ مال الكافر بغير رضاه أو أخذ مال الدولة الكافرة بغير القانون لأنّه موجب لتشويه سمعة المسلمين والمؤمنين، والله العالم".
وذهب السيد السيستاني أيضاً إلى عدم جواز سرقة أموال الكافر وذلك عند جوابه على استفتاء موجه إليه جاء فيه: هل يجوز للمسلم أن يسرق من الكفار في بلاد الكفار كأوربا وأمريكا وأمثالهما؟.
وهل يحق له أن يحتال عليهم في أخذ الأموال بالطريقة المتعارفة لديهم؟، كان الجواب: "لا تجوز السرقة من أموالهم الخاصة أو العامة، وكذا إتلافها، إذا كان ذلك يسيء إلى سمعة الإسلام أو المسلمين، بشكل عام، وكذلك لا يجوز إذا لم يكن كذلك، ولكن عدَّ غدرًا ونقضاً للأمان الضمني المعطى لهم حين طلب رخصة الدخول في بلادهم، أو طلب رخصة الاقامة فيها، لحرمة الغدر ونقض الأمان بالنسبة إلى كل أحد".
بل يذهب السيد إلى أبعد من ذلك ويحرم الخيانة حتى مع الكافر بقوله: "يحرم على المسلم خيانة من يأتمنه على مال أو عمل، حتى لو كان كافرًا، ويجب على المسلم المحافظة على الأمانة وأدائها كاملة، فمن يعمل في محل مبيعات أو محاسب، لا يجوز له أن يخون صاحب العمل ويأخذ شيئاً مما تحت يده"، وكذلك: "لا يجوز سرقة أموال غير المسلمين حين دخولهم للبلدان الإسلامية".
ويبدو أن تأثير مبادئ الدين الإسلامي واضحة في قراءة الحكم بالعنوان الثانوي عند فقهاء الإمامية، إذ أنّ القول بالسرقة يؤدي إلى تشويه سمعة الشريعة الإسلامية ومع وجود أدلة تنفي العصمة عن أموالهم ودمائهم، إلاَّ أن جمعاً من الفقهاء ذهبوا إلى عصمة أموالهم حفاظاً على روح الشريعة ومبادئها السامية وقيمها الخالدة، فليس من الأمانة والمروءة أن يستحل إنسان لنفسه مالاً ليس له فيه حق، فمبدأ الأمانة هو رعاية حقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق عباده.
المطلب الخامس: أثر المبادئ العامة في تحريم أسلحة الدمار الشامل:
إنَّ الإسلام يعتبر السلام هو الأصل وإن الحرب حالة استثنائية اضطرارية والأصل الذي يتبناه الشرع الحنيف هو السلم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وقال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
أولاً: التعريف بأسلحة الدمار الشامل:
وأسلحة الدمار الشامل هي التي: "تتضمن أسلحة الانفجارات الذرية، والأسلحة المصنوعة من مادة ذات نشاط اشعاعي واسلحة الفتك الكيميائية والبيولوجية واي نوع من الأسلحة الأخرى التي يتم صنعها في المستقبل والتي تتشابه خصائصها في الأثر التدميري مع القنبلة الذرية أو الأسلحة الأخرى".
وتؤدي هذه الأسلحة باصنافها (الكيمياوية والجرثومية والنووية)، إلى القتل وللإبادة الجماعية دون القدرة من قبل مستخدمها أن يستثني أو يبقي شخص من هذه الابادة، بل تفسد البيئة وتحول دون استثمارها لفترات زمنية طويلة بسبب ما تخلفه هذه الأسلحة من اشعاعات مدمرة للحياة.
ثانياً: حكم استخدام أسلحة الدمار الشامل وأثر المبادئ في تحريمها:
وقد اجمع فقهاء الامامية على حرمة استعمال هذه الأسلحة في الحرب، نعم يجوز دراستها أو استخدامها للأغراض السلمية، واستثنى بعضهم استخدامها للدفاع، عند الضرورة، ولكن على إشكال في هذه الأسلحة، إذ ينبغي تقييم الأمر من قبل الفقهاء والخبراء في كل حالة معينة لمعرفة مدى ضرورة استخدامه وقياسها بمدى الفساد الذي يحدثه استخدام تلك الأسلحة، وأمّا إذا انتفت الضرورة فإن كل سلاح يؤدي إلى قتل الأبرياء وهدم المدن ينبغي تجنبه.
ويمكن الاستدلال على تحريم اسلحة الدمار الشامل، بقوله تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وإن حرمة هذه المقدرات من الحرث والنسل في نظر الإسلام تماماً كحرمة الدماء، ومن اعتدى على شيء منها فقد اعتدى على الانسانية نفسها.
ولأنّه يشمل الافساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري، وأن استخدام مثل هذه الأسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية من مصاديق إهلاك ما تنبته الأرض من زرع واشجار، وكذلك اهلاك ما دب عليها من إنسان وحيوان، وهذا مخالف لما جاءت به الشريعة الإسلامية من المبادئ العامة في الحفاظ على النفوس والأموال والأنسال.
وقد استدلوا أيضاً على الحرمة بما ورد عن أبي عبد الله () قال: قال أمير المؤمنين (): "نهى رسول الله (k) أن يلقى السم في بلاد المشركين".،
فالسم هنا بمثابة إبادة جماعية، وكذلك الاستفادة من السيرة العطرة للنبي (k) وتعاليمه السامية المنبثقة من مبادئ الدين الإسلامي، حتى في الحرب فقد نهى عن جملة أمور، كما ورد في الرواية عن أبي الله () قال: كان رسول الله (k) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: "سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجرًا إلا أن تضطرا إليها، وايما رجل من ادنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وأن أبى فابلغوه مأمنه واستعينوا بالله.
فالإسلام بمبادئه السامية وقيّمه الخالدة حتى مع العدو يحرم مواجهته بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السم في الماء، أو اغراق مخيمات الأعداء أو احراقها بالنار، وهذا يجسد منتهى مبدأي الرحمة والإنسانية التي يتحلى بها الدين الإسلامي، لذلك يذهب كثير من الفقهاء إلى حرمة هذه الأفعال، إذ يقول الشيخ الطوسي(ت460هـ): "ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه إلا السَّم، فإنه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السمّ".
وذهب إليه السيد ابن زهرة (ت585هـ) إذ يقول: "إلا إلقاء السّم، فإنه لا يجوز أن يلقى في ديارهم".
وأما المحقق الحلي(ت676هـ) يقول: "ويكره بالقاء النار، ويحرم بالقاء السّم".
هكذا هو الإسلام حتى في الحرب والقتال فإنه يريدهما أن يكونا ضمن إطار الأخلاق والقواعد الإنسانية، وهذا ما توافق مع مبادئه الرفيعة من الرحمة والشفقه وتكريم النوع الإنساني.
المبحث الثالث
المبادئ العامة وأثرها في توجيه الفتوى
يعد الافتاء من أخطر الأمور وأكثرها أهمية وركزت الشريعة الإسلامية المقدسة على أهمية منصب الافتاء لما له من مساس في حياة الفرد والمجتمع، ومما يبين أهمية وعظمة الفتوى، إن الله سبحانه وتعالى افتى عباده في كثير من القضايا مثل قوله عز وجل: يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، وكذلك النبي الأعظم(k) كان يتولى منصب الافتاء، إذ كلفه الله تعالى بذلك، قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، ومما يبين أهمية وعظمة الفتوى قول النبي الأكرم k: ((إن العلماء ورثة الأنبياء))، فاثبت دور العلماء في التبليغ عن رب العالمين، والتي بينها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ، ومن هنا تأتي أهمية الفتوى في الشريعة المقدسة والتي لا يمكن الاستغناء عنها لمعرفة حكم الله تعالى في الوقائع والمستجدات عن طريق الافتاء الذي جعله الله سبحانه وتعالى والنبي الأكرم(k) والأئمة المعصومين() على يد من ينوب عنهم؛ لأنَّ الفتوى تمثل العنصر الحيوي في الشريعة بل هي بمثابة المحرك الذي تستمد منه نشاطها وحيويتها، وبالتالي فإنه يدل على خلود الشريعة الإسلامية المقدسة وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
المطلب الأول: التعريف بالفتوى لغة واصطلاحا:
أولاً: الفتوى في اللغة:
ذكر ابن فارس(ت395هـ): أصل كلمة الفتوى ومصدرها (فَتَى)، الفاء والتاء والحرف المعتل أصلان: أحدهما يدل على طراوة وجدة، والأصل الثاني: يدل على تبيين الحكم، ويقال: أفتى الفقيه في المسألة، إذا بين حكمها واستفتيت: إذا سألت عن الحكم، قال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، وأفتاه في الأمر ابانه وأوضحه، والفٌتيا والفُتوى والفَتوى ما أفتى به الفقيه، وتأتي الفتوى بمعنى تعبير الرؤيا، يقال: افتيت فلان في رؤيا رآها إذا عَيَرتها له، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، أي: بينوها وعبروها لي.
وكذلك الفتوى تأتي بمعنى التحاكم وفي الحديث: أن قوماً تفانوا إليه، أي: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا، قال الطرماح:
أنخْ بِفِناءِ أشدَقَ مِنْ عَــــــــــدِيٍّ ومِنْ كرَمٍ، وهُمْ أهْلُ التفاتي
أي: أنهم أهل التحاكم وأهل الافتاء بين الناس.
ويبدو أن تفسير ابن فارس للفتوى بقوله: تبيين الحكم، هو ما سار عليه أغلب الفقهاء وأهل العلم.
ثانياً: الفتوى اصطلاحاً:
عرفها العلماء بتعريفات عديدة أغلبها تدور حول بيان حكم الله تعالى فعرفها الشهيد الثاني(ت965هـ): بقوله هي: "حكم شرعي على وجه كلي"، وذكر الجزائري(ت1173هـ) بان الفتيا بضم الفاء: "وهي الحكم بالمسائل الكلية وتطبيقها على الوقائع الجزئية هو القضاء وكل قاض مفت ولا عكس"، اما الشيخ الأنصاري(ت1281هـ) فقد أورد في بيان الفتوى بأنها: "عبارة عن الأخبار بأحكام الله بحسب الاعتقاد، ومنشأ الاعتقاد، إنما يكون الخبر تارةً وغيره تارةً أُخرى".
وقال السيد الصدر(ت1400هـ) أن الفتاوى: "مجرد عرض لأحكام ولنتائج الاجتهاد والاستنباط بدون استدلال أو نقاش".
وذكر الشيخ علي كاشف الغطاء(ت1411هـ) بأن الافتاء هو: "بيان حكم الله تعالى في الواقعة، والفتوى والفتيا هي الكلام الذي يبين به حكم الله تعالى من دون الزام به من قبل غير الله تعالى".
والذي يبدو من التعاريف المتقدمة للفتوى أن أغلبها تصب في معنى بيان الأحكام سواء كان البيان مباشرةً من النص، أو من خلال الاستنباط وأعمال النظر فيما أشكل من الأحكام.
المطلب الثاني: الفرق بين الفتوى والحكم والقضاء والاجتهاد:
أولاً: الفرق بين الفتوى والحكم
هناك عدة فروق بينهما، مع أن الفتوى والحكم كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى ويجب على السامع اعتقادهما وكلاهما يلزم المكلف من حيث الجملة:
1.أن الفتوى مجرد أخبار عن الله تعالى بان حكمه في هذه القضية كذا، والحكم إنشاء اطلاق أو الزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع تقارب المدارك فيها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش، فبالأنشاء خرجت الفتوى، لأنها أخبار، والإطلاق والالزام نوعا الحكم وغالب الأحكام الزام.
2.الفتوى يجوز نقضها من قبل مفتي آخر، فالفتوى لا تمنع مخالفة مقتضاها من مفت ولا مستفت، أما الحكم لا يجوز نقضه ومخالفته بحال.
3.الفتوى تتعدى إلى واقعة أخرى، أما الحكم فمن خواصه عدم التعديه عن الواقعة المخصوصة التي وقع فيها إلى غيرها فهو مخصص بما حكم به.
ثانياً: الفرق بين الفتوى والقضاء:
إن الفتوى أخبار عن الحكم الشرعي، والقضاء انشاء للحكم بين المتخاصمين، وأن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره بل له أن يأخذ بها أن رآها صواب، وله أن يتركها ويأخذ بفتوى مفت آخر، أما الحكم القضائي فهو ملزم.
أن حكم القاضي جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله، وفتوى المفتي شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره، فالقاضي يفتي قضاء معيناً على شخص معين، والمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً.
أن القضاء لا يكون إلا بلفظ منطوق، وتكون الفتوى بالكتابة والفعل والإشارة.
ثالثاً: الفرق بين الفتوى والاجتهاد:
الاجتهاد بذل الفقيه وسعه في تحصيل الحكم الشرعي الظني، والفرق بينه وبين الافتاء، أن الافتاء يكون فيما علم قطعاً أو ظناً، اما الاجتهاد فلا يكون في القطعي، وان الاجتهاد يتم بمجرد تحصيل الفقيه الحكم في نفسه، ولا يتم الافتاء إلا بتبليغ الحكم للسائل.
الافتاء اخص من الاجتهاد، فإن الاجتهاد واستنباط الأحكام، سواء أكان بسؤال في موضوعها أو لم يكن، اما الافتاء فإنه لا يكون إلاّ إذا كانت واقعة وقعت ويتعرف الفقيه على حكمها، فالعلاقة بين الاجتهاد والفتوى هو استنباط فيما يخص الاجتهاد، أما فيما يشكل في المسائل وتبيينها فهو ما يخص الفتوى.
وعليه فالمستدل على الأحكام الشرعية الفرعية يسمى مجتهدًا، وباعتبار الأعلام والأخبار للغير يسمى مفتياً، وباعتبار الحكم والأمر والالتزام بالأحكام يسمى قاضياً.
المطلب الثالث: المبادئ العامة وأثرها في إصدار الفتوى:
إنّ إصدار الفتاوى عبر التاريخ أمر عظيم من ناحية المسؤولية فهي بمثابة مرسوم ديني مستندة للقرآن الكريم والسنة المطهرة، وما جاءت به الشريعة المقدسة من مبادئ عامة تمثل جوهر الإسلام.
وتركت الفتاوى آثاراً واضحة في حياة المسلمين لأنّها تخضع إلى دراسة وقراءة متأنية قبل إصدارها، وإنّها تصدر عن حكمة ودراية في الأوضاع والأحوال والمتغيرات، ولاسيما تلك الفتاوى المتعلقة بالأرواح والقتال. ومن الأمثلة على ذلك:
أولاً: فتوى الجهاد ضد الاحتلال البريطاني عام 1914م، والتي اصدرها السيد محمد كاظم اليزدي(ت1337هـ) وجاء فيها: "...وقد هجموا على الاوطان الإسلامية وسكانها وأعراضهم وأموالهم، لذلك يجب على العشائر التي تقطن الثغور وعامة المسلمين المتمكنين –إذا لم يكن من فيه الكفاية لحفظ الحدود- أن يحفظوا حدودهم، ويدافعوا عن بيضة الإسلام حسب قدرتهم، والله هو الناصر والمعين والمؤيد للمسلمين".
ويبدو من قراءة الفتوى أنها تحتوي على مضامين واضحة في الحفاظ على الدين والعرض والنفس وهذه تمثل مبادئ عليا جاءت الشريعة المقدسة لحفظها وصيانتها.
ثانياً: فتوى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي(ت1338هـ) وقد ورد فيها: "أيها المسلمون: الآن اوشكت مهاجمات أعداء الدين على حرم الله وحرم رسوله، ومشاهد الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) أن تنتهك حرمة الدين، وبلاد المسلمين، والشعائر والمشاعر، ونفوس المؤمنين في خطر...".
وأيضاً هذه الفتوى المباركة ناظرة إلى حفظ جملة من المبادئ والتي جاء الإسلام ليحققها ويشرع ما يكفل لحفظها.
ثالثاً: المبادئ العامة وأثرها في فتاوى وخطابات السيد السيستاني:
1-فتوى الجهاد الكفائي ضد العصابات التكفيرية: وإن هذه الفتوى نابعة ومنبثقة من مبادئ وجوهر الدين الإسلامي في الحفاظ على الدين والنفس والعرض والوطن والمقدسات، وجاء فيها: "إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي... ومن هنا فإن المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية".
وكان لهذه الفتوى المباركة بعد وطني واضح، ممتد على طول مساحة الوطن وديمغرافيته المتنوعة، واظهرت تكاتف الشعب العراقي في مواجهة هذه العصابات التكفيرية من أجل حفظ واستمرار حضارة العراق ووحدة أراضيه، والحفاظ على النسيج الاجتماعي، وتعزيز قيم المحبة والتآلف، بعيدًا عن روح العداء والكراهية والانقسام.
2-بيانات السيد السيستاني في الحفاظ على مبادئ الوحدة والتعايش السلمي:
كثيرًا من بيانات السيد كانت تحمل في طياتها جملة من مبادئ الشريعة الغراء وتؤكد على ثقافة التعايش السلمي في التعامل مع المسلمين وغيرهم، وإنّ هناك بين المسلمين جملة من المشتركات في أصول الدين واركان العقيدة، وإن هذه المشتركات هي أساس الوحدة الإسلامية، في توثيق أواصر المحبة والمودة بين أبناء الشعب، فالمرجعية كانت ولا زالت تدعو إلى التمسك بهذه المشتركات والمبادئ العامة للدين الإسلامي، بان يعيشوا بسلام وأمان، لأنّ دين الاسلام هو دين المحبة والتآلف والمساواة والأخوة، والخلاص من كل ألوان الانحراف والظلم والعدوان، فالمرجعية وفقاً لهذا المنهج القرآني في التعايش السلمي تعتبر الناس متساوين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فهو يحرم دماء الملل الأخرى في المجتمع العراقي والعربي والإسلامي كله، كالمسيحية واليهودية والصابئة واليزيدية، ممن لم يتصد لمحاربة الكيان الإسلامي أو الاعتداء على حرمات المسلمين كما حرم أموالهم ونادى بتوفير جميع حقوقهم الاجتماعية والوطنية مثلهم مثل سائر المسلمين، وقد اعطى في ذلك الصورة المثلى النقية عن الإسلام وأنه غني بالمبادئ الإنسانية التي تحترم جميع أبناء المجتمع البشري، وعليه فإن رؤية السيد في التعايش بين مكونات المجتمع الإنساني تنطلق من مبادئ الشريعة والتي جذورها الدين الإسلامي.
3-توجيهات السيد السيستاني حول النظام السياسي:
إنّ المرجعية الدينية لا يقتصر دورها في التصدي للأمور الدينية والشرعية والحوادث المستجدة فقط، وانما يكون دورها مفصلياً في كل نواحي الحياة، ومن أولوياتها الحث على التعايش الكريم وحقن الدماء وحفظ الإسلام والنظام العام، وهذا يكون من خلال نظام سياسي يحترم الثوابت ويعتمد مبدأ التعددية والعدالة والمساواة، والسيد السيستاني بذل جهوداً كبيرة من أجل وضع أسس النظام السياسي وذلك من خلال تطبيق مبدأين أساسيين وهما:
الأول: مبدأ حق الشعب في اختيار الحكومة وذلك من خلال إجراء الانتخابات العامة.
الثاني: مبدأ حق اشعب في التشريع وذلك من خلال كتابة الدستور وسن القوانين من قبل ممثلين منتخبين من قبل الشعب.
وهذان المبدآن هما حجر أساس النظام الديمقراطي ويدل ذلك على أن السيد يتبنى الديمقراطية وآلياتها، ولا يرفضها، جاعلاً منها امرا مشروعاً لا يتعارض مع مبادئ الإسلام وإن مبدأ الانتخابات العامة ومبدأ حق الشعب في التشريع هما المنطلق لكل المبادئ الأخرى التي يقوم عليها النظام الديمقراطي كمبدأ الحرية لكل الأفراد في كل مظاهرها ومبدأ المساواة وبمبدأ العدالة ومبدأ تداول السلطة والتعددية الحزبية، وعليه فإن وجود المرجعية يعني وجود النظام الديمقراطي والذي يحمي حقوق كل مكونات الشعب العراقي ويحقق كل المبادئ التي جاء بها الدين الإسلامي من الحرية والعدل والتعايش والمساواة والعدالة والوحدة وغيرها، وبالتالي تحقق اهداف الإسلام.
رابعاً: المبادئ العامة وأثرها في طهارة أهل الكتاب:
أشاع الإسلام في نفوس معتنقيه حماية الكرامة الإنسانية والتي اختطتها يد السماء والتي تكفل لهم السلم الاجتماعي، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، والقرآن الكريم بنظرته الاجتماعية الشمولية يدعو إلى التكافل العام بين جميع أفراد المجتمع الإنساني بغض النظر عن اجناسهم وأعراقهم وأديانهم القائمة على مبدأين، وهما: "مبدأ كفالة الأفراد بعضهم البعض، ومبدأ الأخوة الذي يعتبره الإسلام حجر الأساس في بناء العلاقات الاجتماعية النظيفة"، وبهذين المبدأين ينعم المجتمع بالسلام والتعايش، ونتيجة انفتاح المسلمين وحضورهم في الساحة الدولية فهذا يتطلب التعايش مع غير المسلمين ومنهم أهل الكتاب، والتعايش في كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية، وإن الحكم بنجاستهم ينافي مبدأ الكرامة الإنسانية التي وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وحتى العقل يدرك بل يحكم بأن الإنسان حسب الإنسانية خلق طاهرًا، إلاَّ أن يحكم بنجاسته العرضية بملاقاة الأعيان النجسة.
1- التعريف بأهل الكتاب:
أهل الكتاب: وهم اليهود أهل التوراة، والنصارى أهل الانجيل، أي: من كان لهم كتاب حقيقة، ويلحق بهم من له شبهة كتاب وهم المجوس، بلا خلاف إلا من ابن أبي عقيل العماني(ت هـ) فألحقهم بعبدة الأوثان، إلاَّ أنهم ملحوقون بأهل الكتاب بالجملة، وقد ورد في خبر أبي يحيى الواسطي، قال: سُئل أبو عبد الله() عن المجوس، فقال: "كان لهم نبي قتلوه وكتاب احرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في أثني عشر ألف جلد ثور، وكان يقال له جاماسب".
وأمّا الصابئة فعن ابن الجنيد الاسكافي(ت381هـ) وغيره، أنهم من أهل الكتاب واستدل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وهو مبني على عدهم من إحدى الفرق الثلاثة، وخالف في ذلك الأكثر مدعين عدم دخولهم فيهم، وأنهم قوم يعبدون الكواكب والنجوم.
2-آراء الفقهاء وأدلتهم في طهارة أهل الكتاب:
ذهب المشهور إلى نجاسة أهل الكتاب، بل أدعي عليه الإجماع، وقد نقل الاجماع عن السيدين، المرتضى(ت436هـ)، وابن زهرة(ت585هـ)،
والشيخ الطوسي(ت460هـ)، وابن إدريس الحلي(ت598هـ)، والعلامة الحلي(ت726هـ)، والشهيد الثاني(ت965هـ)، والفاضل الهندي(ت1137هـ)، وخالف في ذلك جماعة، فاختاروا طهارتهم، ومال إليه جمع من الفقهاء وان لم يفتوا به، وهو المنسوب إلى جملة من المتقدمين كابن ابي عقيل العماني(ت329هـ)، وابن الجنيد الاسكافي(ت381هـ)، وحكى المحقق في المعتر عن المفيد في الرسالة الغرية القول بالكراهة، وذكر الكلبايكاني بان هناك خلافاً في طهارة أهل الكتاب، فقال:"وفي نجاسة أهل الكتاب خلاف والمشهور بين الأصحاب نجاستهم وذهب المفيد في أحد قوليه وابن الجنيد إلى الطهارة"، وذكر الشيخ الطوسي(ت460هـ):"ويكره أن يدعو الإنسان أحدًا من الكفار إلى طعامه، فيأكل معه. فإن دعاه فليأمُرهُ بغَسِل يَديه، ثم يأكل معه أن شاء".
وقال المحقق الأردبيلي(ت993هـ)لو لم يتحقق الاجماع فالحكم بنجاسة جميع الكتابيين لا تخلو من اشكال، وذهب السيد العاملي(ت1009هـ) بعد أن حكى القول بنجاسة أهل الكتاب وطهارتهم عن جملة من الفقهاء وذكر احتجاج لكل من القائلين بنجاستهم وطهارتهم مال إلى القول بطهارتهم، وصرح المحقق الخراساني(ت1329هـ) في آخر كلامه بعد تقوية أدلة الطهارة: "أن الفتوى على خلافهم جسارة وجرأة والاحتياط طريق النجاة"، ومن القائلين بطهارة أهل الكتاب السيد محسن الحكيم(ت1390هـ) بقوله: "نعم الذي أراه طهارة أهل الكتاب طهارة ذاتية وان كانت أبدانهم تنجس عرضاً بملاقاة النجاسة، كالبول والدم والمني وغيرها من النجاسات فلو طهر بدنه في الماء طهر وجازت مساورته ولا يتنجس".
وكذلك يذكر محمد جواد مغنية(ت1400هـ) قوله: "وقد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد الأول: كان في النجف الأشرف الشيخ محمد رضا آل ياسين، والثاني: في قم السيد صدر الدين الصدر، والثالث: في لبنان محسن الأمين، وقد افتوا جميعاً بالطهارة، وأسروا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوشين، وأنا على يقين بأن كثيرًا من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون أهل الجهل، والله أحق أن يخشوه".
ومن القائلين بالطهارة السيد الشهيد محمد باقر الصدر(ت1400هـ)، إذ قال: "إن ابتلاء المسلمين بالتعايش مع اصناف من الكفار في المدينة وغيرها على عهد النبي (k) كان على نطاق واسع واختلاطهم مع المشركين كان شديداًجدًا خصوصاً بعد صلح الحديبية ووجود العلائق الرحمية وغيرها بينهم فلو كانت نجاستهم مقررة في عصر النبوة لانعكس ذلك وانتشر واصبح من الواضحات ولسمعت من النبي(k) توضيحات كثيرة بهذا الشأن كما هو الحال في كل مسألة تدخل في محل الابتلاء إلى هذه الدرجة ولا توجد في مثل هذه المسألة دواعي الاخفاء، وأي داعٍ إلى ذلك مع ظهور الإسلام".
واحتج القائلون بالنجاسة بأمرين:
الأول: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ
عَامِهِمْ هَذَا.
والمراد بالنجاسة هي النجاسة الشرعية الذاتية، وإن اليهود والنصارى مشركون لقوله تعالى بعد حكايته عنهم أنهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وإنّ الله عز وجل نسب إليهم الشرك في الربوبية، وذمهم على ترك العبودية له، وقد نزه الله تعالى نفسه من الشرك في ذيل الآية، وبما أن الشرك حاصل منهم بدليل الآية حكم الفقهاء بنجاستهم.
والثاني: الأخبار الدالة على ذلك ومنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر() أنه سأله عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان، هل يصلح الصلاة فيه؟ قال: "أن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، وأن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله".
وأورد عليها وأن كان فيها دلالة على نجاسة الكافر إلاَّ أنه يستلزم تخصيص قاعدة الطهارة، وهذا بنفسه مبتلى بالمعارضة بروايات بعضها صحيح السند وفي ضوئها لابد من حمل الجواب المذكور على الاستحباب، ومن هذه الروايات الدالة على جواز الصلاة في الثياب السابرية يعملها المجوس وأهل الكتاب صحيحة معاوية قال سألت أبا عبد الله() عن الثياب التي يعملها المجوس وهم أخباث يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها واصلّي فيها؟ قال: نعم، قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخطته وفتلت له أزرارًا ورداءً من السابريّ، ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة".
ومن الأخبار أيضاً حسنة سعيد الأعرج: أنه سأل أبا عبد الله عن سؤر اليهودي والنصراني، فقال: لا".
واورد عليها أن النهي الوارد غير معلل لسبب النجاسة، فهو لا يكون دليلاً عليها، إذ قد يكون هناك سبب آخر في عدم شرب الماء وذلك من جهة كونهم يستحلون أكل الميتة والخنزير وشرب الخمر وعليه نهى المعصوم عن سؤرهم، وقد تكون النجاسة هنا هي النجاسة المعنوية للكفار لا المادية في المبحوث عنها بالمقام وعليه لابد من حمل النهي الصادر من المعصوم على النهي التنزيهي لا التكليفي".
ومن الأخبار الأخرى الدالة على النجاسة صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر () عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال: "لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون بها الخمر".
ونوقش في ذلك بأن هذه الرواية وإن كانت صحيحة السند إلاَّ أنَها قاصرة الدلالة على نجاستهم، وإلاَّ لزم الاجتناب عن جميع أوانيهم حتى الآنية التي يشربون فيها الماء فلا وجه لتقييدها بما يشربون فيه الخمر.
وأمّا القائلون بالطهارة احتجوا بوجوه منها:
أ-البراءة الأصلية فإن النجاسة إنما تستفاد بتوقيف الشارع ومع انتفائه تكون الطهارة ثابتة بالأصل.
ب-قوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، فإنّه شامل لما باشروه وغير، وتخصيصه بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر، لاندراجها في الطيبات ولأن ما بعده وهو:وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ شامل للجميع قطعاً ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر فإن سائر الكفار كذلك، فقد يقال: أن هذا التخصيص وان كان مخالفاً للظاهر إلاّ أنه يجب المصير إليه، لدلالة الأخبار عليه ومنها ما هو صحيح السند، لكن لا يخفى أن هذا الاختصاص لا ينحصر وجهه في النجاسة لانتفائها في غير الحبوب مما لم يعلم مباشرتهم له قطعاً.
ج-الأخبار: ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم: أنه سأل أبا عبد الله () عن مؤاكلة اليهودي والنصراني، فقال "لا بأس إذا كان من طعامك".
وفي الصحيح عن علي بن جعفر: أنه سأل أخاه موسى ()عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: "لا" إلا أن يضطر إليه"، وغيرها من الأخبار.
ومن خلال ما تقدم يبدو أن الأدلة النقلية المتقدمة غير تامة في الدلالة على نجاسة أهل الكتاب بالنجاسة المادية الذاتية، وإنّ النهي الوارد في الأخبار نهي تنزيهي وجاء من أجل اجتناب الأشياء المتعلقة بهم لأنهم لا يتورعون عن النجاسات وأكل المحرمات وشربها، والذي يبدو أيضاً أن القراءة عند المتأخرين هي قراءة متأثرة بالمبادئ العامة للشريعة الإسلامية وذات أبعاد ولوازم أخلاقية أكثر عمقاً من القراءة القائلة بنجاسة أهل الكتاب، وهي متوافقة مع ما جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة والذوق الفقهي العام في ترسيخ مبادئ التعايش والسلم والأخوة والكرامة الإنسانية والتعاون من أجل صنع مجتمع متحاب متآلف لا مجتمع متناحر يكفر بعضه البعض الآخر، وإنَّ القول بنجاسة غير المسلم يؤدي خلاف ما جاءت به الشرائع من تحقيق مجتمع سليم مبني على أساس العدالة، ومبدأ المساواة بين أفراد النوع الإنساني، فقد جاء في عهد الإمام علي بن أبي طالب() لمالك الاشتر النخعي(ت37هـ): "فانهم: صنفان إما أخ لك في الدين، وأمّا نظير لك في الخلق".
المبحث الرابع
المبادئ العامة وأثرها في تغطية منطقة الفراغ التشريعي
الإسلام هو المنهج الرباني القويم الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده دستورًا كاملاً للحياة، فهو دين ودولة، عبادة وقيادة، روح ومادة، ينسجم مع فطرة الإنسان السليمة ومع العقول الصريحة، وأن الدين الإسلامي هو منظومة حقوقية وسلوك تطبيقي وإن أحكامه دائمية إلى يوم القيامة ولها القدرة على استيعاب كل المسائل المستحدثة، وفي النصوص الإسلامية من الكتاب والسنة ما يبين ويؤكد على المبادئ العامة للشريعة الإسلامية؛ لأنّ هذه المبادئ تشكل أساساً لاستلهام صيغ تشريعية متطورة ومتحركة، وبحسب المستجدات والمتغيرات، وتكفل تحقيق تللك المبادئ والقيم وفقاً لصلاحيات الحاكم الشرعي في تغطية منطقة الفراغ التشريعي، ومن هذه النصوص قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، وغير ذلك من الآيات المباركة التي تشير إلى مبادئ الشريعة الحقه مثل مبدأ نفي العسر والحرج، ومبدأ المساواة والعدل ومبدأ الأخوة والتكافل الاجتماعي، ومبدأ الكرامة الإنسانية، ومبدأ الرحمة والتسامح، وغيرها وأن هذه النصوص الكريمة تنطلق من بعد فلسفي لوجود العالم والمبدأ والمعاد وفلسفة وجود الإنسان وتحكمها قواعد العلاقات الكلية البشرية والتي تجعل من الإسلام مبيناً لدين فطري يعبر عنه اليوم بالقانون الطبيعي وعبر هذا القانون تنبثق التشريعات الجزئية.
وربطاً بين مفهوم روح الشريعة وكلياتها ومبادئها وبين منطقة الفراغ التشريعي فإن سياسة ولي الأمر في منطقة الفراغ هو تحقيق المبادئ العامة للشريعة الإسلامية وان التشريعات القرآنية وتشريعات السنة المطهرة تنطلق من تلك المبادئ ولابد من التمييز بين الشخصية التبليغية للنبي (k) والإمام ()، والشخصية الولائية التي تشرع القوانين في منطقة الفراغ والتي لا تناقض شمول الشريعة.
المطلب الأول: ولاية الفقيه ونفوذ الحكم الولائي:
أولا: ولاية الفقيه:
هي نظرية فقهية للحكم وردت في كلمات الفقهاء الداعين إليها، وتتلخص بأنّه يحقّ للفقيه الجامع للشرائط أن يباشر سلطة الإمام الغائب بصفته نائبا له، انطلاقا من أنّ الإمام المعصوم ()، نصب الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى وليا عاما ولاية تصرّف على المسلمين وثبت للفقيه بمقتضى هذه الولاية جميع ما ثبت للإمام المعصوم() الولاية عليه. فهي بالنتيجة ترجع إلى الشريعة والفقه ومصدرها الأدلة الشرعية، أو الأدلة العقلية الكاشفة عن الحكم الشرعي.
والولاية كلمة مستمدة من النص الديني كثيرا وهو مصطلح قرآني وردت مشتقاته الكثيرة في آيات عدة مثل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾.
وتشترك الولاية في جذورها اللغوية أيضا مع بعض المفردات من قبيل الوليّ، والتولية، والمتولي، والوالي، وتدل على معنى التصدي والتدبير والتصرّف، قال ابن الأثير(ت606هـ): من أسماء الله عزّ وجلّ (الوالي)، وهو مالك الأشياء جميعا، المتصرّف فيها، وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وكذلك هي الإمارة والسلطان.
أما الولاية في المصطلح الفقهي فتعني: "سلطنة على الغير عقلية أو شرعية، نفسا كان أو مالا أو كليهما بالأصل، أو بالعارض"، وأيضا في تعريف مشابه هي "السلطة على الغير بحكم العقل أو بحكم الشرع في البدن، أو المال، أو كليهما بالأصالة أو بالعرض".
ونقل أهل القانون معنى الولاية عن أهل الفقه كما ذكره السنهوري (ت1391هـ): "إنّها كما يقول الفقهاء سلطة على الغير بمقتضاها يلزم الغير بالقرارات الصادرة من صاحب الولاية دون الحاجة إلى الموافقة".
ويجب أن تتوافر في الشخص الذي يتولّى هذه المهمة في عصر الغيبة شروط وصفات تنبع من خصوصيات الأنبياء والأئمة() ومنها:
1- معرفة الشريعة الإلهية، فمن غير الممكن إقامة الأحكام بدون معرفتها.
2- الموهبة الإدارية والقدرة على إقامة الحكومة لتطبيق الأحكام الإسلامية الفردية والاجتماعية.
3- الأمانة والعدالة في تنفيذ الأوامر الإسلامية وحفظ الحقوق الإنسانية والدينية للأفراد والمجتمع.
فلابدّ من توافر هذه الشروط الثلاثة لتولي أمر المسلمين في عصر الغيبة.
ثانيا: الأحكام الولائية (الحكومتية):
1- التعريف بالأحكام الولائية:
الأحكام الولائية: هي الأحكام الصادرة من الحاكم من جهة كونه وليا وحاكما، أي له ولاية الأمر والنهي، فالحاكم الشرعي يمتلك صلاحية سنّ القوانين المتغيرة وفقا لمصالح المجتمع، وأقدم تعريف للحكم الولائي ذكره الشهيد الأول(ت786هـ)، جاء في سياق تمييزه عن الفتوى إذ قال: "والحكم إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع تقارب المدارك فيها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش". والحكم هنا ما يعمّ حكم القاضي وغيره فيشمل الأحكام الحكومتيه.
وتعرض لتعريفه الشيخ النجفي(ت1266هـ) فقال: "وأما الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم، لا منه تعالى، لحكم شرعي، أو وضعي، وموضوعهما في شيء مخصوص".
وأيضا هو "سلسلة من القرارات والأحكام المستنبطة في إطار الأحكام الإسلامية الثابتة، ويعتمد عليها في استيعاب المصالح المتجددة في المجتمع وامتصاص المتغيرات الطارئة"، فالملاك هو مصلحة المجتمع، وهذه الأحكام الصادرة من الولي هي أحكام مؤقتة تدور مدار المصالح والمفاسد التي أوجبت تشريع هذا النوع من الأحكام لأجل حفظ سلامة المجتمع وتنظيم أموره.
وقد ذكر المتمسكون بالأحكام الولائية أدلة من القرآن والسنة لإثبات شرعيتها، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وقوله تعالى:﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.
ومن السنة الأحكام التي أصدرها النبي(k) باعتباره وليا للأمر منها الحكم بقتل كعب بن الأشرف، والحكم بإهدار دماء أربع نفر في فتح مكة، وأصدر الأمر بمنع مجالسة الممتنعين عن الجهاد، والحكم بقطع نخيل بني النضير، والنهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية في خيبر، وأيضا التخلف عن جيش أسامة وغيرها. إذ أنّ "قيادته(k) تمثلت في أوامر حكومية كان يصدرها بشكل مستمر إلى جانب إبلاغ الأوامر الإلهية التي يبلغها الوحي الصادق الأمين". وقال الشهيد محمد باقر الصدر(ت1400هـ): "إنّ النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ يمكن أن يكون تعبيرا عن حكم شرعي عام في كلّ زمان ومكان، كالنهي عن الميسر والخمر، كما يمكن أيضا أن يُعبّر عن إجراء معيّن اتخذه النبي(k) بوصفه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين في حدود ولايته وصلاحيته، فلا يكون حكما شرعيا عاما بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدرها ولي الأمر".
2- خصائص الأحكام الولائية:
تتميز الأحكام الولائية بخصائص ميزتها عن غيرها من الأحكام ومنها:
أ- إنّ ملاك الأحكام الولائية هو المصلحة، والذي يقوم بتشخيص المصلحة هو الحاكم الشرعي أو ولي الأمر بمقتضى صلاحيته الشرعية.
ب- إنّ الأحكام الولائية مؤقتة وقابلة للتغيير، على العكس من الأحكام الأولية، ويمكن القول إنّ الأحكام الولائية نحو قضايا خارجية، في حين أنّ الأحكام الأولية نحو قضايا حقيقية.
ج- تتعلق الأحكام الولائية بالشأن الاجتماعي فتكون ذات موضوعات خارجية ولا تخصّ فردا من المكلفين، بل تعمّ التكاليف الصادرة على مستوى الأمة في حين أنّ الأحكام الأولية تتعلق بالشأن الفردي وكذلك الاجتماعي.
د- الأحكام الولائية تكون نافذة على الجميع ولا يطاع غير الحاكم في هذا النوع من الأحكام.
هـ- قد تتعلق الأحكام الولائية بتنفيذ الأحكام الأولية والثانوية كالأمر بجباية الزكاة وإقامة الحدود وغيرها.
و-عند التعارض بين الأحكام الأولية والولائية تقدّم الأحكام الولائية من باب تقديم الأهمّ على المهم.
ز- إنّ الأحكام الأولية هي أحكام إلهية مباشرة، أما الأحكام الولائية فتنسب إلى الشارع بالواسطة؛ لأنّ الشارع هو الذي فرض طاعة أوامر ولي الأمر، فتكون نسبتها إلى الشارع بوساطة وجوب طاعة ولي الأمر.
ح- حدود الأحكام الولائية مختلفة في نظر الفقهاء القائلين بصلاحية الحاكم الإسلامي، فيذهب الشهيد محمد باقر الصدر(ت1400هـ) إلى أنّ صلاحيات الحاكم الإسلامي محدودة بالمباحات، أما السيد الخمينيّ(ت1409هـ) فيرى أنّ للأحكام الولائية القدرة على التصرّف بالأحكام الأولية؛ لأنّها مقدمة عليها.
3- ومن النماذج التطبيقية الواقعية للأحكام الولائية ما يأتي:
أ- جواز التسعير، وذلك رعاية لمصلحة المجتمع، قال الشيخ المفيد(ت413هـ): "وللسطان أن يُكره المحتكر على إخراج غلته، وبيعها في أسواق المسلمين إذا كانت بالناس حاجة ظاهرة إليها، وله أن يسعّرها على ما يراه من المصلحة، ولا يسعّرها بما يخسر أربابها فيها".
ب- تحريم التنباك والتتن: وذلك من خلال فتوى الميرزا محمد حسين الشيرازي(ت1312هـ)، وتعد هذه الفتوى أقوى نهضة شعبية من حيث التنفيذ والتأييد الجماهيري، وهي أشهر ما صدر من فقهاء الإمامية من الأحكام الولائية، إذ أفتى الميرزا الشيرازي بحرمة استعمال التتن والتنباك بأي شكل من الأشكال، وكان نص الفتوى: "بسم الله الرحمن الرحيم: استعمال التنباك والتتن حرام بأيّ نحو كان، ومن استعمله كمن حارب الإمام()...محمد حسن الحسيني الشيرازي".
ج- تحديد ملكية بعض الأشخاص: افتى بعض الفقهاء بإمكان ذلك، أي "تحديد ملكية بعض الأشخاص إذا رأى الحاكم أنّه من المصلحة بحقّ تحديد تملك هذا الشخص".
ويُعقّب السيد السيستاني على حكم جواز تملك الأرض الموات بإحياء إذ يقول: "هذا إذا لم يطرأ عنوان ثانوي يقتضي المنع من إحيائه ككونه حريماً لملك الآخر أو كون إحيائه على خلاف يعض المصالح العامة فنهى عنه ولي المسلمين ونحو ذلك". وأفتى بعدها بأن يكون إحياؤها بإذن قانوني من الجهات المسؤولة ذات الصلاحية بحسب القانون الوضعي.
المطلب الثاني: منطقة الفراغ التشريعي:
وهو مصطلح من مستحدثات العصور المتأخرة، وربما يُعبّر عنها قديما بمنطقة العفو، أو منطقة السكوت، أو منطقة الترخيص، أو منطقة ما لا نصّ فيه، فقد روي عن النبي(k) أنّه قال: ((إنّ الله تعالى حدّ حدودا فلا تتعدوها، وفرض عليكم فرائض فلا تضعفوها، وسنّ لكم سُننا فاتبعوها، وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها، وعفى لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تكلفوها)) )ـ والنص واضح في وجود مساحة معفو عنها، والتي تمثل ما يصطلح عليه أصولاً بمنطقة الاباحة بالمعنى الخاص بل بالمعنى الأعم.
أولاً: أهمية منطقة الفراغ التشريعي:
إنّ منطقة الفراغ من العناصر المرنة في دائرة التشريع الإسلامي، فهي تغطي مساحة كبيرة مهمة من الأحكام التي تنسجم مع الجانب المتغيّر في حياة الإنسان، لأنّ هناك جوانب متغيّرة خاضعة في تغييرها للزمان والمكان، فكان من الضروري أن تلبّي الشريعة هذا الجانب المتحرك من خلال مجموعة من التشريعات المتحركة؛ لأنّ الهدف والحكمة من منظومة التشريع هو كمال الإنسان، يقول الشهيد مرتضى مطهري(ت1399هـ): "لم يتوجه الإسلام أبدا إلى شكل الحياة وصورها وظاهرها والتعليمات الإسلامية، تتوجه جميعا نحو الروح والمعنى وهو طريق يوصل إلى تلك الأهداف والمعاني والإسلام قد جعل تحت نفذوه الأهداف والمعاني وإعطاء طريقة الوصول إلى تلك الأهداف والمعاني ترك البشر أحرارا في غير ذلك وبهذا منع أي تصادم مع تقدّم الحضارة والثقافة".
ثانياً: التعريف والفكرة من منطقة الفراغ:
عرّف الفقهاء هذا المصطلح كلٌّ بحسب نظره ومنها: هي مساحة لم تُملأ من قبل الشريعة ابتداء بأحكام ثابتة، أو هي مساحة تشمل كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اتخاذ الموقف، وأيضا هي المنطقة الموكولة شرعا إلى الحاكم الشرعي ليطبق فيها المصالح العامة، وكذلك هي الرقعة الخالية من النصوص التشريعية في الكتاب والسنة وهي منطقة المباحات الأصلية، وهي عنصر ثالث في الإسلام، وهو العنصر المتحرك غير الثابت في الشريعة المقدسة، وهي أيضا مساحة في الإسلام ترك الله سبحانه وتعالى تشريعاتها، ليتولى التشريع فيها ولي الأمر والفقهاء بما تقتضي به حاجة الأمة في تطورها، وما يطرأ عليها من تبدلات وتغيرات، ولابدّ من أن تكون الأحكام مشروطة ومتأطرة بعناوين الأحكام الثابتة.
والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ تقوم على أساس أنّ الإسلام لا يقدّم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية والاجتماعية بوصفها علاجا مؤقتا أو تنظيما مرحليا، يجتازه التاريخ بعد مدة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنّما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، فكان لابدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب، من أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك عبر العصور بالقدرة على التكيف وفقا لظروف مختلفة، ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقص في الشريعة أو إهمال منها لبعض الوقائع أو الأحداث، بل إنّها تعبير عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأنّ الشريعة المقدسة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصا أو إهمالا، وإنّما حددت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعية الأصيلة مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية بحسب الظروف.
وذهب الشيخ محمد مهدي شمس الدين(ت1421هـ) إلى أنّ المجالات المتصورة في منطقة الفراغ التشريعي تارة يلحظ في نطاق الموضوعات والأفعال والتروك التي ورد فيها إلزام وجوبي أو تحريمي وأخرى يلحظ في نطاق ما لم يرد فيه من الشارع إلزام كذلك، بل كان من المباحات أو المستحبات أو المكروهات التي تتغير قيودها وظروفها، وثالثة: يلحظ في نطاق ما لم يرد له في الشرع عنوان بخصوصية أو بما يعمه، بل هو من المجهولات التي كشف عنها تطور الإنسان والمجتمع في الحياة فممارسة ولي الأمر تكون في القسم الثالث دون القسمين الأول والثاني.
والدليل التشريعي على إعطاء ولي الأمر صلاحيات ملء منطقة الفراغ هو قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، وحدود منطقة الفراغ التي تتسع بها صلاحيات أولي الأمر تضمّ في ضوء هذا النص الكريم كلّ فعل مباح تشريعيا بطبيعته، ويقول الطباطبائي(ت1402هـ): "فالذي يجب فيه طاعة أولي الأمر إنّما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة".
ويكشف ذلك أنّ هناك منطقة في رتبة سابقة يقوم بملئها أولي الأمر ومن السنة الشريفة نرى أنّ النبي(k) منع كراء الأرض فترة معينة من الزمن في حين أنّ حكمها بالعنوان الأولي هو الجواز، فقال(k): (من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه، ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمّى)، وفي رواية أخرى أنّه قال: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإنّ أبى فليمسك أرضه).
فالنبي (k) استعمل صلاحياته بوصفه ولي الأمر في المنع عنها حفاظا على مبدأ التوازن الاجتماعي وللحيلولة دون نشوء كسب مترف لا يقوم على أساس العمل.
وعن أبي عبد الله الصادق () أنّه قال: (قضى رسول الله(k) بين أهل المدينة في مشارب النخيل: أنّه لا يمنع الشيء، وقضى بين أهل البادية: أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ، وقال: لا ضرر ولا ضرار).
وهذا النهي نهي تحريم مارسه الرسول الأكرم محمد(k) بوصفه ولي الأمر نظرا لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية. واستدلوا لها بحديث التوقيع الشريف وهو: (...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم)، فإنّ التعبير بالحوادث الواقعة هو تعبير وعنوان شامل لكل المستجدات والمستحدثات والنوازل التي قد لا يفهم غالبا حكمها، ولاشك أنّ الفقيه هو من يمتلك المؤهلات لبيان حكم هذه المتغيرات.
واستدل الشيخ الفياض بعوامل خمسة في ضرورة أن تترك الشريعة منطقة فراغ للحاكم وهي:
1- إنّ الشريعة الإسلامية شريعة خالدة أبدية متكاملة تحلّ مشاكل كلّ الإنسانية في كلّ عصر وقرن طول التاريخ وإلى الأبد مهما تطوّر.
2-إنّ الحكومة الإسلامية التي شكلها النبي محمد(k) كانت بسيطة وبدائية وغير معقدة، ولا تغني في الوقت الحاضر الذي تطورت فيه الحكومة وتوسعت بكل مكوناتها واجهزتها وأنظمتها.
3- إنّه من غير الممكن وضع نظام ثابت للحكومة كنظام العبادات طول التاريخ، ضرورة أنّ نظام الحكومة يتغيّر بتغيّر الزمان ويتطور بتطور الحياة العامة بكافة جوانبها.
4- إنّ ولي الأمر مسؤول ومُكلف من قبل الله سبحانه وتعالى بتشكيل الحكومة على أساس مبدأ حاكمية الدين إذا كانت الظروف ملائمة والعوائق والموانع غير موجودة.
5- إنّه لا يسمح لولي الأمر أن يتصرف في الأحكام الشرعية الإلزامية المجهولة في الشريعة المقدسة كالمنع عن فعل الواجب والأمر بفعل الحرام مثلا وهكذا.
الفصل الثالث
تطبيقات فقهية لمبادئ الشريعة الإسلامية
المبحث الأول: مبدأ التيسير
المبحث الثاني: مبدأ حـفظ النـظام
المبحث الأول
مبدأ التيسير
إنّ مبدأ التيسير من المبادئ العظيمة في الشريعة المقدسة وهو من الدعائم والأسس التي يقوم عليها صرح الفقه الإسلامي وأصوله، ويمثل محورًا مهماً في منظومة الأحكام، ويظهر في عدة قواعد كلية لها الدور الأبرز والأكثر فاعلية في عملية الاستنباط، عرفت باسم قواعد التيسير ومنها: لا حرج ولا ضرر وأصالة الاباحة. وسهولة الملة وسماحتها وقاعدة الاضطرار والضرورة وغيرها، ويتخرج على هذا المبدأ جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وكيف كان فإن دور مبدأ التيسير في الفقه يتضح من خلال مجموعة قواعد كبرى تتفرع عليه وتحتل دورًا مهماً ولها الأثر الكبير في عملية الاستنباط وأهمها:
المطلب الأول: قاعدة اليسر ورفع الحرج:
وقد وردت هذه القاعدة بعدة الفاظ منها: نفي الحرج والعسر والمشقة في الدين، وأيضاً لا حرج في الدين، وقاعدة نفي الحرج، وارتفاع اللزوم عند الحرج.
أولاً: التعريف بقاعدة اليسر ورفع الحرج:
اليسر في اللغة ضد العسر، فاليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم والعسر ما يجهد النفس ويثقل الجسم، فاليسر حصول الشيء عفواً بلا كلفة، وفي القرآن الكريم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ...، أي يراد به السهولة في جميع امور الدين ، وان الله سبحانه وتعالى اراد في كل ما شرعه من الأحكام اليسر النوعي ومنه افطار المريض والمسافر، بل هو تعليل لجميع الأحكام، فاليسر هو اللين والانقياد، وياسره أي: سأهله، وفي الحديث الشريف: "إن الدين يسر..."، أي: سهل قليل التشديد.
أما الحرج في اللغة فهو بمعنى الضيق، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، أي: ما ضيقَ، بان يكلفكم مالا طاقة لكم به وما تعجزون عنه، ومكان حَرَجٌ وحِرج أي ضيّق كثير الشجرلا تصل إليه الراعية، ويطلق على الحرام والأثم أيضاً،وقيل الحرج "اضيق الضيق" وأيضاً: "الضيق في الدين مشتق من الحرجه، وهي الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه".
وعلى هذا يكون معنى رفع الحرج هو: "إزالة الضيق أو الاثم والعدوان وزحزحته عن موضعه لكن دلالته على زحزحته الضيق حقيقية وعلى الأثم والحرام مجازية"، والذي يستخلص أن الحرج هو الضيق الشديد لا مطلق الضيق.
فمن المبادئ العامة للشريعة الإسلامية التيسير على المكلفين ورفع الحرج والمشقة عنهم لتكون التكاليف الشرعية في حدود الاستطاعة البشرية المعتادة، وإذا تتبعنا احكام الإسلام نجد أن جميع التكاليف روعي فيها التخفيف واليسر على العباد؛ لأن الله سبحانه وتعالى عليم بأحوال العباد فهو يعلم ما فيهم من صحة أو مرض أو قوة أو ضعف وعليه جاءت تكاليف الإسلام في حدود الاستطاعة والمقدرة البشرية، فمبدأ اليسر ورفع الحرج مبدأ عظيم وهو ما ميّز الله تعالى به هذه الأمة عن الأمم السابقة فروى في قرب الإسناد عن الإمام الصادق() عن آباءه عن النبي (k) قال: ((مما اعطى الله أمتي، فضلهم به على سائر الأمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا نبي: وذلك أن الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبياً قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك، وان الله تبارك وتعالى اعطى ذلك أمتي حيث يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول: من ضيق)).
فكل حكم شرعي يستلزم من ثبوته الحرج أي المشقة الشديدة ولو بدون ضرر على شخص المكلف فهو منفي، ومن أقوى الأدلة الدالة على ذلك، هو قوله تعالى:...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ . أي أن الله سبحانه وتعالى لم يضيق عليكم امر الدين فلن يكلفكم مالا تطيقون، وتشعر بان نفي الحرج إنّما يتعلق في أحكام الدين الإسلامي فتكون قرينة على أن هذه الميزة متأصلة في هذا الدين فلا تختص بأفراد معينين، أي: أن الله سبحانه وتعالى عندما يقرر أن المريض لا يجب عليه الوضوء لأنه لم يرد أن يجعل عليه من حرج وهنا المريض احد موارد نفي الحرج ولا خصوصية بحيث تجعل الحكم يختص به، فمسألة عدم وجوب الوضوء أو عدم وجوب حكم الغسل ليس فيها أية خصوصية معينة وانما هي موارد ومصاديق للموضوع الأساسي، فهذا المبدأ من المبادئ المهمة التي يتّكل الفقهاء كثيرًا عليه في مقام الاستنباط، والفتوى وقد ذكر النراقي في عوائده: "قد شاع وذاع بين الفقهاء: استدلالهم بنفي الحرج، والعسر، والمشقة".
وإن عدم جعله سبحانه وتعالى حكماً يوجب الضيق والشدة على المكلفين لطفاً وكرماً منه على هذه الأمة، وان التكليف بما لا يطاق ممتنع عليه للزوم القبح أو الخروج من العدل، فكذلك التكليف بالحرج فإنّه منافٍ للّطف والرحمة
ثانياً: مستند القاعدة:
استدل على هذه القاعدة العظمى من الكتاب والسنة والإجماع والعقل وقد صرحت الآيات وتواترت الروايات وتسالم الفقهاء وارشد العقل في ذلك الحقل وان هذه القاعدة تعتبر من أرسخ القواعد مدركاً، وارساها مستندًا.
وقال المحقق النراقي(ت1245هـ): "تكاثرت الآيات، واستفاضت الاخبار على نفي العسر والحرج أعني الضيق في الدين والتكاليف، ومقتضى تلك الظواهر انتفاؤهما رأساً".
وقال الشيخ الأنصاري(ت1281هـ): "أن قاعدة نفي الحرج مما ثبت بالأدلة الثلاثة بل الأربعة في مثل المقام، لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب اختلال نظام أمر المكلف".
1- الآيات المباركة:
وهي كثيرة منها قوله تعالى:...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...، أي: "ما كلفكم مالا تطيقون وما الزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً". وهذه الآية من أقوى الأدلة على نفي الحرج.
ومنها قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ....
واستنتج جميع فقهاء الاسلام: " أن هذه الآية قاعدة كلية، واعتبروها رُكناً من أركان الشريعة الإسلامية، ويسميها فقهاء الشيعة: قاعدة نفي الحرج، وفقهاء السنة: قاعدة التيسير، ومعناها: ما شرع الله حكماً لعباده فيه شائبة الضيق والمشقة عليهم فضلاً عن الضرر والإضرار".
وقوله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...، وقوله سبحانه وتعالى:... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ...، وهذه الآية أصل القاعدة التي تقوم عليها تكاليف هذه الشريعة. وأن مجموع هذه الآيات "تدل دلالة واضحة على أن الله تبارك وتعالى لم يجعل في دين الإسلام أحكاماً حرجية، بحيث يكون امتثال أحكامه وإطاعة أوامره ونواهيه شاقاً وحرجاً على المسلمين والمؤمنين بهذا الدين".
2- الروايات:
وهي كثيرة ومع كثرتها البالغة بمستوى التواتر على طوائف منها:
1-ما استدل فيها على الحكم بوجود هذه الكبرى في الشريعة المقدسة والقرآن الكريم، وجعل المورد من تطبيقاتها:
أ-ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام، قال: قلت لابي عبد الله(): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على أصبعي مرارة، فيكف أصنع بالوضوء؟ قال: "يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أمسح عليه".
وهذه الرواية من أوضح أخبار الباب، بل هي من أظهر الروايات دلالة على المطلوب لصراحتها.
ب-ما رواه الفضيل بن يسار، قال: سئل أبو عبد الله () عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الاناء؟ فقال: "لا يٍاس، هذا مما قال الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ".
ج-روي عن أبي بصير عن أبي عبد الله () قال: سألته عن الجنب يجعل الركوة(*) أو التور(**) فيدخل إصبعه فيه؟ قال: "إن كانت يده قذرة فليهرقه، وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا مما قال الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ".
د- ما روي عن سماعة عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (): أنا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية، فتكون فيه العذرة، ويبول فيه الصبي، وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال: "ان عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا –يعني اخرج الماء بيدك- ثم توضأ فإن الدين ليس بمضيق، فإن الله عز وجل يقول: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ".
هـ-ما رواح محمد بن الميسر، قال: سألت أبا عبد الله () عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، ويريد أن يغتسل منه، وليس معه إناء يغرف به، ويداه قذرتان؟ قال: "يضع يده، ثم يتوضأ، ثم يغتسل، هذا مما قال الله عز وجل: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ".
2-الروايات التي تدلنا على الحكم بدون الاستناد إلى الآية المباركة، وتدل على سماحة الدين وسهولته وبنائه على التوسعة لا التضييق.
أ-صحيحة البزنطي عند الإمام الباقر ()، قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء، لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ فقال: "نعم، ليس عليكم المسألة، أن أبا جعفر () كان يقول: أن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك".
ومثلها ما ورد في رواية سليمان بن جعفر الجعفري عن العبد الصالح موسى بن جعفر الكاظم ().
ب-ما روي عن النبي محمد (k) انه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني".
ج-وقال (k): (إن الدين يسر، لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا).
د-وقوله k: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا).
هـ-وسئل علي () أيُتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ مدركو أبيض مخمر؟ قال: "لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة".
3- وأمّا الإجماع: فقد تسالم الفقهاء بالنسبة إلى نفي الحكم الحرجي فالأمر متسالم عليه عندهم ويكون مدلول القاعدة كإرسال مسلم به عند الفقهاء جميعهم وهذا التسالم يرشد إلى ما يقال: أن الحكم هناك يكون من الضروريات الفقهية".
4- وأمّا الدليل العقلي: فغاية ما يمكن أن يقال هو أن التكليف بما يوجب العسر والضيق على الأمة ويكون ذلك التكليف فوق طاقتهم قبيح، والقبيح محال صدوره من الله سبحانه وتعالى.
ثالثاً: تطبيقات نفي العسر والحرج:
هناك عدة تطبيقات لهذه القاعدة الكبرى، نذكر منها:
1- في حال عجز المدين عن اداء دينه يأمر الحاكم الشرعي ببيع ممتلكاته لسداد دينه ويستثنى من ذلك بيع دار سكناه وثيابه المحتاج إليها ولو للتجمل ودابة ركوبه وخادمه وكل ضروريات بيته لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وهو مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج التي هي من أهم القواعد النظامية المقدرة شرعاً.
2- قال المحقق الحلي(ت672هـ) في حرمة إزالة الشعر على المحرم، "وإزالة الشَعرِ: قليلهُ وكثيرُه، ومع الضرورة، لا أثم"، وذكر دليله الشيخ محمد حسن النجفي(ت1266هـ) فقال:"بلا خلاف أجده فيه...وإلى نفي العسر والحرج...".
3- في مسألة المهر: إن الزوجة لها الحق في أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض
مهرها، ولو كان بعد الدخول كما هو المحكي عن الشيخ المفيد(ت413هـ)، والشيخ الطوسي(ت460هـ)، والمحقق الحلي(ت672هـ)، وذلك لعموم العسر والحرج والضرر والظلم.
4- قال السيد اليزدي(ت1337هـ): "وردت الرخصة في إفطار شهر رمضان لأشخاص، بل قد يجب: الأول والثاني: الشيخ والشيخة اذا تعذّر عليهما الصوم، أو كان حرجياً ومشقة، فيجوز لهما الإفطار".
5- ذكر الشيخ محمد حسن النجفي(ت1266هـ) كفارة الظهار المرتبة أن مَن كان له مال يصل إليه بعد مدة بحيث يتمكن من العتق لا يجب عليه الصبر إذا كان الصبر يتضمن مشقة عليه "فيتجه حينئذٍ الانتقال وأن صدق معه اسم الواحد كانتقال المكلف إلى التيمم مع وجدان الماء بالمشقة في استعماله مثلا...".
6- في شرط توفر الراحلة في تحقق الاستطاعة في الحج فالآية المباركة مطلقة من ناحية كون الراحلة المتوفرة تناسب شأن المكلف المعيّن أم لا، واشترط الفقهاء أن تكون الراحلة مناسبة إذ لو توفرت راحلة لا تناسب شأن المكلف لم يجب عليه الحج، وذلك لقاعدة نفي العسر والحرج والمشقة.
قال السيد اليزدي(ت1337هـ): "فإذا كان من شأنه ركوب المحمل أو الكنيسة بحيث يعدّ ما دونها نقصا عليه يشترط في الوجوب القدرة عليه ولا يكفي ما دونه وإنْ كانت الآية والأخبار مطلقة، وذلك لحكومة قاعدة نفي العسر والحرج على الإطلاقات، نعم إذا لم يكن بحدّ الحرج وجب معه الحج".
7- قال السيد الخوئي(ت1413هـ): "وقد يجوز التيمم في حق المكلف لا من أجل عجزه عن الماء وفقدانه، بل من جهة ترخيص الشارع في ترك الطهارة المائية، وهو يستلزم جواز التيمم وذلك في موردين: "أحدهما": في مورد كون الوضوء أو الغسل حرجيا حيث أنّ الإقدام على الأمر العسير سائغ في الشريعة المقدسة إلاّ أنّ الشارع –امتنانا- رخّص للمكلف في تركه. ففي مثله لو ترك المكلف لترخيص الشارع فيه لا مناص من جواز التيمم في حقه لأنّ الصلاة لا تسقط بحال وهي مشروطة بالطهور...".
8- ذكر السيد الخوئي: "يحرم حلق اللحية على الأحوط ويحرم أخذ الأجرة عليه كذلك، إلاّ إذا كان ترك الحلق يوجب سخرية ومهانة شديدة لا تتحمل عند العقلاء فيجوز حينئذٍ". وهذا مفاد قاعدة نفي العسر والحرج.
9- ذكر في الجواهر: أنّ المولى إذا ادعى الإصابة فأنكرت الزوجة ذلك، فالقول قوله مع يمينه "لتعذّر إقامته البينة أو تعسرها، فلو لم يقبل قوله فيه مع إمكان صدقه لزم الحرج...".
10- في سؤال إلى السيد الخوئي: بعض طلبة كلية الفنون يتعلمون الرسم أو الأساتذة يضطرون إلى تعليمهم ويكون الرسم في أغلب الأحيان لذوات الأرواح فما هو حكم هؤلاء الطلبة أو الأساتذة؟.
الجواب: "لا يجوز إلاّ أن يكون في الامتناع عن ذلك حرج شخصي يخاف منه رسوبه وعدم تخرجه من الكلية".
المطلب الثاني: قاعدة رفع الضرر:
وقد وردت هذه القاعدة بعدة ألفاظ، منها: قاعدة نفي الضرر، وقاعدة الضرر والضرار، وكذلك لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
أولا: الضرر في اللغة والاصطلاح:
1- الضرر في اللغة:
الضرر اسم من الضر وقد اطلق على كل نقص يدخل الأعيان، والضر –بفتح الضاد- ضد النفع، وهو أيضاً شدة الحال والأذية.
ويستعمل أيضاً في سوء الحال والنقصان والفقر، وأيضاً في الضيق، يقلا: مكان ذو ضرر أي: ضيق، وكذلك يستعمل في المكروه.
ورفع الضرر من مبادئ الشريعة وقواعدها المشهورة والهامة لقوله (k): (لا ضرر ولا ضرار).
فمعنى قوله لا ضرر: أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه، والضرار فِعال من الضر: أي لا يجازيه بإدخال الضرر عليه.
والضرر: فعل الواحد والضرار: فعل الأثنين.
والضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه، وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع به أنت، والضرار أن تضره من غير أن تنتفع به، وقيل هما بمعنى: وتكرارهما للتأكيد.
وأتى الضرر في القرآن الكريم على عدة اوجه منها: البلاء والشدة، وقحط المطر، الأهوال، المرض، النقص، الجوع، الضر بعينه.
2- الضرر في اصطلاح الفقهاء:
فهو قريب من المعاني اللغوية والقرآنية فهو: "عبارة عن النقص في الأموال أو الأعراض أو الاعضاء والأطراف أو الأنفس".
ويعرف ايضاً بأنه: "الحاق مفسدة بالآخرين، أو هو كل إيذاء يلحق بالشخص سواء كان في ماله أو جسمه أو عرضه أو عاطفته، فيسبب له خسارة مالية سواء بالنقص أو التلف المادي أو بنقص المنافع أو زوال بعض الأوصاف".
ثانياً: توضيح القاعدة:
تعد هذه القاعدة من أشهر القواعد الفقهية التي يستدل بها في جُلّ ابواب الفقه من العبادات والمعاملات وهي مهمة في مقام الاستنباط بناءً على كون المقصود منها هو نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر، أي: نفي الحكم الضرري في الشريعة المقدسة وذلك امتناناً على العباد وعليه كل عبادة أو معاملة مستلزمة للضرر تنتفي امتناناً للمكلف. وبالتالي ثبت لدى الفقيه نفي وجوب الوضوء إذا ترتب عليه الضرر، وكذلك نفي وجوب الصوم إذا ترتب عليه الضرر، وكذلك البيع إذا كان موجباً للضرر. فعندئذٍ ينفسخ البيع لعدم جعل الحكم الضرري في الإسلام.
وهذه القاعدة حاكمة على أكثر أبواب الفقه، قال السيد الخوئي: "والتحقيق في وجه التقديم أن دليل لا ضرر حاكم على الأدلة المثبته للتكاليف، والدليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم بلا ملاحظة بالنسبة بينهما، وبلا ملاحظة الترجيحات الدلالية والسندية".
فهذه القاعدة تكون حاضرة في ذهن الفقيه عند استخراج أي حكم شرعي من أدلته ومصادره فتكون عاصمة له من استخراج أي حكم يؤدي إلى الضرر، وأعتبر البعض أن هذه القاعدة من أركان الشريعة وأنها تمثل سنداً لمبدأ الاستصلاح القائم على جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي عدة الفقهاء وعمدتهم وميزانهم في طريق تقرير الأحكام الشرعية للحوادث.
وقال بعضهم بأن الفقه يدور على خمسة أحاديث أحدها حديث، لا ضرر ولا ضرار.
وأول من ذكرها قاعدةً محمد بن مكي العاملي وعنونها تحت قاعدة الضرر المنفي وذكر أنها ترجع إلى تحصيل المنافع أو تقريرها لدفع المفاسد أو احتمال أخف المفسدتين، وفروعها كثيرة ثم ذكر فروعاً فقهية كثيرة تستند إلى هذه القاعدة.
وبدأ التوسع الأفقي في هذه القاعدة على يد الفاضل التوني صاحب الوافية وبهذا اتخذت القاعدة منحاً أصولياً ثم تلاه بعد ذلك المحقق القمي صاحب القوانين وركز على أهميتها الفقهية ودورها البارز في الفقه واشبعها بحثاً وتفصيلاً ففتح لها آفاق جديدة وتابعة بعد ذلك الكثير من علماؤنا.
ثالثاً: الآراء المستفادة: من حديث "لا ضرر ولا ضرار":
تعددت الأقوال والآراء في المقصود من هذ الحديث الشريف، وأبرز هذه الآراء:
1- معنى نفي الضرر هو نفي الضرر الذي لا يتدارك الذي لازمه أن كل ضرر يحصل فإذا كان غير متدارك فهو منفي، فالشارع نفى أن يضر الإنسان أخاه من دون أن يتدارك ضرره؛ لأنّ الضرر المتدارك بمثابة عدم الضرر وذهب إليه الفاضل التوني: "وفيما يدل على حكم من أتلف مالاً لغيره، إذ نفي الضرر غير محمول على نفي حقيقته، لأنه غير منفي ، بل الظاهر أن المراد به، نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع".
2- رأي القمي بان مفاد الحديث: أن الشارع "لم يرض لعباده بضرر لا من جانبه ولا من جانب بعضهم لبعض".
وهذا المعنى هو ظاهر في أن المقصود نفي الأحكام الضررية وانه ليس في الإسلام مجعول ضرري أي الحمل على نفي ماهية الضرر ووجوده في الإسلام وكل حكم يتضمن ضرراً، وضرراً ليس من أحكام الإسلام كما هو رأي النراقي، وذهب إليه الشيخ الانصاري بقوله المناسب للمعنى الحقيقي هو نفي الماهية سواء كان الضرر ناشئاً من نفس الحكم أو كان ناشئاً من موضوعه. بمعنى أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفياً كان أو وضعياً.
وذهب إلى هذا القول -وهو القول المشهور-، المحقق النائيني ويرى أن هذه القاعدة كما تدل عل نفي الأحكام التكليفية إذا نشأ عنها الضرر، تدل على نفي الأحكام الوضعية إذا كانت مستلزمه له، وتبع المحقق النائيني بهذا الرأي تلميذه السيد الخوئي بقوله: وبالجملة مفاد نفي الضرر في عالم التشريع هو نفي الحكم الضرري، كما أن مفاد نفي الحرج في عالم التشريع هو نفي الحكم الحرجي.
3- المراد والمستفاد من النهي عن الضرر بمعنى أن تكون "لا" النافية هنا بمعنى الناهية أي "لا تضروا" نظير قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. وهذا مختار صاحب الجواهر، وأيضاً ذهب إليه شيخ الشريعة الاصفهاني، وكذلك اختيار السيد المراغي، بمعنى أن مفاد الحديث هو حرمة الضرر، مثل: حرمة الخمر، ونحو ذلك.
4- ما ذهب إليه الأخوند الخراساني، بنفي حقيقة الضرر وماهيته ادعاءً كناية عن نفي الحكم الضرري، أي نفي الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع ورد في الكفاية (كما أن الظاهر أن يكون "لا" لنفي الحقيقة –كما هو الأصل في هذا التركيب- حقيقة أو ادعاءً كناية عن نفي الآثار كما هو الظاهر من مثل: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، و"يا أشباه الرجال ولا رجال"، فإن قضية البلاغة في الكلام هي إرادة نفي الحقيقة ادعاءً لا نفي الحكم أو الصفة كما لا يخفى، ونفي الحقيقة ادعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي احدهما ابتداءً مجازاً في التقدير أو في الكلمة مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة".
5- ما ذهب إليه السيد الخميني من أن المستفاد من معنى لا ضرر ولا ضرار وهو كونه نهياً لا بمعنى النهي الإلهي حتى يكون حكماً إلهياً كحرمة شرب الخمر وحرمة القمار، بل معنى النهي السلطاني الذي صدر عن رسول الله (k) بما أن سلطان الملة وسائس الدولة لا بما انه مبلغ أحكام الشرع.
بمعنى هي من المسائل والقضايا التنظيمية للدولة الإسلامية والتي تنطلق من خلال السلطة والولاية.
رابعاً: التطبيقات:
1- ذكر الفقهاء عدم وجوب الوضوء وعدم صحته مع الضرر، قال في العروة الوثقى في شرائط الوضوء: منها عدم المانع من استعمال الماء من مرض أو خوف عطش على نفسه أو نحو ذلك، وإلا فهو مأمور بالتيمم ولو توضأ والحال هذه بطل.
2- شرعية كثير من الخيارات غير خيار غبن بيع التلقي والعيب، استنادا في ذلك إلى قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
3- عدم وجوب الصوم على الحامل المقرب التي يضرّ بها الصوم أو يضرّ بحملها وعدم وجوبه على المرضعة القليلة اللبن إذا أضرّ بها الصوم أو أضرّ بالولد.
4- لو باع أرضا وفيها زرع كحنطة أو شعير فهو للبائع ويلزم المشتري تبقيته في الأرض إلى وقت حصاده، لقوله(k):(لا ضرر ولا ضرار)، ولا يوجد ضرر على المشتري؛ لأنّه أقدم عليه بنفسه.
5- ذكر الفقهاء عدم صحة الغسل مع الضرر في استعمال الماء، ورد في العروة الوثقى: (إذا تحمل الضرر وتوضأ أو اغتسل فإنْ كان الضرر في المقدمات من تحصيل الماء ونحوه وجب الوضوء والغسل وصحّ وإنْ كان في استعمال الماء في أحدهما بطل).
6- في تقسيم مال الشركة، فإذا طلب أحد الشريكين قسمة المال وجب ذلك، وله رفع أمره إلى الحاكم الشرعي لإجبار الطرف الممتنع، ولكن هناك عدة موارد يمنع فيها إجباره منها: إذا كانت القسمة تسبب: "نقصان العين أو القيمة نقصانا لا يتسامح فيه عادة؛ لأنّ فوات المالية مناط الضرر في الأموال، فيندرج حينئذ في قاعدة لا ضرر ولا ضرار".
7- ذكر الفقهاء في صحة الصوم ووجوبه عدم المرض الذي يتضرر معه الصائم، وإطلاقه وإنْ شمل عموم المرضى، إلاّ أنّ مناسبة الحكم والموضوع مضافا إلى النصوص المستفيضة دلتا على الاختصاص بمريض خاص وهو الذي يضره الصوم.
8- يستثنى من حرمة نظر ولمس غير المحارم ما لو توقف علاجها على ذلك مع انحصار الطبيب بالأجنبي وذلك: "لعموم ما دلّ على الجواز للضرورة، مثل قاعدة لا ضرر ولا ضرار".
9- جواز تأخير إخراج الزكاة عن وقتها لو كان في تعجيل الإخراج ضررا عليه، مثل أن يحول عليه الحول قبل مجيء الساعي، ويخاف إنْ أخرجها بنفسه أخذها الساعي منه مرة أخرى، أو خشي في إخراجها ضررا في نفسه أو مال له سواها، فله تأخيرها، لقوله(k): (لا ضرر ولا ضرار).
10- استدلّ الفقهاء بقاعدة (لا ضرر) على شرعية طلاق الحاكم الشرعي كل امرأة تتضرر ببقائها على الزوجية، كما إذا غاب عنها زوجها أو امتنع عن النفقة عليها لفقر أو عصيان وذلك لمطالبتها وعد صبرها.
11-: خيار الرؤية في عقد الإجارة: "مثل أن يستأجر دارًا أو أرضا على الوصف ولدى التسليم والتسلم يجد المستأجر أنّ الوصف يختلف عن الموصوف فيثبت له الخيار، إنْ شاء فسخ الإجارة، وإنْ شاء أمضاها دون عوض عن الوصف الفائت، وأيضا يثبت هذا الخيار للمؤجر إذا كانت الأجرة عينا خارجية رضي بها المؤجر اعتمادا على الوصف، ثمّ تبيّن العكس، ودليل هذا الخيار قاعدة لا ضرر".
المطلب الثالث: قاعدة أصالة الإباحة أو أصالة الحِلّ:
أولاً: تعريف الإباحة والحِلّ في اللغة واصطلاح:
1-الإباحة في اللغة:
من البوح، قال ابن فارس(ت395هـ): "الباء والوا والحاء أصل واحد، وهو سعة الشيء وبروزه وظهوره"، وأبحتك الشيء: أحللته لك، وأجزت لك تناوله أو فعله أو تملكه، وأباح الشيء: أطلقه، خلاف حظرته، وإنّه ليس بمحظور وإنّ أمره واسع غير مضيّق.
2- الإباحة في الاصطلاح:
"الفعل المباح هو ما للقادر عليه أن يفعله ولا يترجح فعله على تركه، ولا تركه على فعله شرعا"، وأيضا: "أن يفسح الشارع المجال للمكلف لكي يختار الموقف الذي يريده، ونتيجة ذلك أن يتمتع المكلف بالحرية، فله أن يفعل وله أن يترك".
ثانياً: الحِلّ لغة واصطلاحاً:
1-الحل في اللغة: يراد به الحلال، يقال: حلّ الشيء يحلّ حّلاّ، خلاف حرّم، فهو حلال، وأصله رفع العقد والحرمة والممنوعية.
الحل في الاصطلاح: فهو لا يخرج عن المعنى اللغوي، وقد يطلق بمعنى المشروعية، بمعنى كونه مما يترتب عليه الأثر، قال تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾، معناه: رخّص الله في البيع، وهو مستلزم عرفا وعقلا كونه بحيث يترتب عليه الأثر.
ثالثا: مضمون القاعدة:
وهي من القواعد المشهورة عند الأصوليين ومفادها إثبات الإباحة الظاهرية والحلية، ويعبّر عنها بكلّ التعبيرين (الإباحة)، أو (الحل)، ولا مشاحة في الاصطلاح، وقد ثبت من الشريعة نفسها: أنّ الأشياء على الإباحة حتى يرد فيها أمر أو نهي، أو كلّ ما يرد فيه أمر أو نهي، فهو على الإباحة، وقال السيد المرتضى(ت436هـ): "والصحيح قول من ذهب فيما ذكرنا صفته من الفعل إلى أنّه في العقل على الإباحة"، وذكر أيضا ابن إدريس الحلي(ت598هـ) في أول كتاب الأطعمة والأشربة: ".... لأنّ الأشياء على الأظهر عند محققي أصول الفقه على الإباحة".
ويظهر ذلك من المحقق الحلي(ت676هـ)، إذ نقل أدلة القائلين بالإباحة، وقال الفقيه النراقي(ت1245هـ): "الأصل الأولي في كلّ ما يمكن أكله وشربه الحلية، وجواز الأكل والشرب عقلا وشرعا إجماعا وكتابا، وسنة؛ لما ثبت في علم الأصول من أصالة حلية الأعيان، وإباحة الأفعال ما لم تثبت حرمتها بدليل". وأيضا يرى المحقق الأصفهاني(ت1361هـ) أنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يصل إلينا فيه منع.
رابعاً: مستند القاعدة:
استدلوا على قاعدة أصالة الإباحة أو الحل بالكتاب العزيز والسنة الشريفة والعقل والسيرة العملية، وفيما يأتي تفصيل ذلك:
1- الكتاب الكريم، وهناك عدة آيات منها:
1- قال سبحانه تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾.
إذ امتنّ الله سبحانه وتعالى على عباده بأنّه خلق لهم جميع ما في الأرض فلو لم يكن محللاً لما حسُن الامتنان، إذ لا يُحسن الامتنان مع الحظر، ويستثنى من ذلك ما فيه مفسدة من إضرار وعدم منفعة ونحوه.
2- قوله عزّ وجلّ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً﴾.
والآية دالة على الإباحة في الأكل لكلّ أحد حتى الكفار؛ لأنّ الخطاب لجميع أفراد الإنسان، والأمر هنا للإباحة بالمعنى الأعم الشامل للواجب والندب والمكروه والمباح، بمعنى لا يحرم عليكم الأكل من جميع ما تخرجه الأرض من الأرزاق، ولابدّ من تقييدها بما ورد النهي عن أكله بالخصوص أو العموم لما فيه مفسدة أو مضرة فتدلّ على أصالة الإباحة في كلّ ما ينتفع به خاليا عن المفسدة.
3- وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ﴾، وقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ﴾.
وهذه الآيات المباركة قيدت الحلية بكون المورد طيباً.
2-السنة الشريفة، وقد استند لروايات الحلّ لإثبات هذه القاعدة منها:
1- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله() قال: "كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه".
2- موثقة مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق() قال: سمعته يقول: "كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك...".
3- قول الإمام الصادق(): "كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي".
4- رواية عبد الله بن سليمان، قال سألت أبا جعفر() عن الجبن –إلى أن قال-: "سأخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه".
3- العقل:
قال صاحب الجواهر(ت1266هـ): "ومن المعلوم المقرر في الأصول أنّ العقل والشرع تطابقا على أصالة الإباحة والحل في تناول كل ما لم يعلم حرمته من الشرع ولو لاشتماله على ضرر في البدن من المأكول والمشروب".
4- السيرة العملية:
قال كاشف الغطاء(ت1228هـ): "إنّ أصالة الإباحة، والخلو عن الأحكام الأربعة فضلا عن مطلق الجواز فيما لم يترتب عليه ضرر، ولم يشتمل عليه تصرف في حق بشر، مما دلّت عليه الأخبار، وظهر ظهور الشمس في رائعة النهار، وعدّه الصدوق من دين الإمامية... وفي جري سيرة المسلمين، بل جميع المليين، على عدم التوقف في هيئات قيامهم، وقعودهم، وجلوسهم وركوبهم، وملابسهم وفرشهم، وبنائهم وغذائهم، وأكل النباتات والتكلم في المخاطبات على الرجوع إلى أنبيائهم ثمّ إلى علمائهم...".
خامساً: تطبيقات قاعدة اصالة الحل:
ذكر العلماء جملة من تطبيقات هذه القاعدة، نذكر منها:
1- قال السيد المرتضى(ت436هـ): عند الاستدلال على حلية لحوم الحمر الأهلية: "دليلنا: بعد الإجماع المتردد، أنّ الأصل فيما فيه منفعة ولا مضرة فيه الإباحة".
2- في كتاب الأطعمة والأشربة، إذا اشتبهت الأسماك الميتة في شبكة الصياد داخل الماء بالتي ماتت في الخارج، إذ يذكر ابن فهد الحلي(ت841هـ) في هذا المورد: "وإنْ اختلط الحي فيها بالميت، هل يجب اجتناب الجميع، أو يحلّ الجميع؟ قيل فيه قولان: الحل لخمسة أوجه، الأول: الأصل، فإنّ مقتضاه الإباحة.... الخامس: رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله()، قال: "كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه".".
3- قال الشيخ الطوسي(ت460هـ): "لا بأس بالتمندل من نداوة الوضوء وتركه أفضل... دليلنا على جوازه أنّ الأصل الإباحة والحظر يحتاج إلى دليل...".
4- وقال في النهاية :"والرضاع لا يثبت إلاّ ببينة، وإذا ادعت المرأة أنّها أرضعت صبيا، لم يقبل قولها، وكان الأمر على أصل الإباحة".
5- قال المحقق الحلي(ت676هـ): "في استعمال الأواني الغالية غير الذهب والفضة: "لا يحرم غير الذهب والفضة من المعادن غلت أثمانها أو رخصت؛ لأنّ الأصل الإباحة".
6- وقال المحقق الحلي في مسائل الصوم: "لو قطر في إذنه دهنا، أو غيره لم يفطر.... لنا: أنّ الأصل الحل، والمنع موقوف على الدلالة الشرعية...".
7- قال الشيخ الطوسي(ت460هـ): "لا يجوز للجنب والحائض والمحدث أن يمسوا المكتوب من القرآن ولا بأس بأنْ يمسوا أطراف أوراق المصحف والتنزّه عنه أفضل... دليلنا: إنّ الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل...".
8- ذكر العلامة الحلي(ت726هـ): "الأقرب جواز افتراش الحرير المحض، والوقوف عليه، والنوم للرجال، لوجود المقتضى وهو أصالة الإباحة السالم عن معارضة النهي المختص باللبس لانتفاء اللبس هنا".
واستدل الفقهاء بهذه القاعدة النابعة من صلب مبدأ التيسير في أبواب مختلفة من الفقه سواء أكان في العبادات أو المعاملات، وأنْ العمل بها يرفع عن المكلف المشقة المادية في إباحة المنافع جميعا ما لم يرد دليل المنع، وكذلك رفع المشقة المعنوية برفع الحيرة عن المكلف والتردد وبذلك تطمئن نفسه في عدم ارتكاب المحظور.
المطلب الرابع: قاعدة الاضطرار أو الضرورة:
تمثل هذه القاعدة مبدأ من مبادئ الإسلام الكبرى، إذ تمثل مظهر السهولة والسماحة والواقعية والمرونة في التشريع الإسلامي، كما تعبر عن مراعاة الجانب الحقوقي عند المكلفين.
أولاً: تعريف الاضطرار لغة واصطلاحا:
1- الاضطرار لغة: الاحتياج الشديد إلى الشيء، والإلجاء إليه، واضطر إليه بمعنى ألجأه إليه، وليس منه بدٌّ، والاضطرار خلاف الاختيار، والضرورة اسم من الاضطرار ومشتقة من الضرر، وهو النازل مما لا مدفع له.
2- الاضطرار في الاصطلاح: وفيه تفسيران:
أ- ما يخاف فيه من تلف النفس، قال الشيخ الطوسي(ت460هـ): "ولا يجوز أن يأكل الميتة، إلاّ إذا خاف تلف النفس، فإذا خاف ذلك، أكل منها ما أمسك رمقه، ولا يتملّأ منه"، وقال أيضا في جواز شرب الماء النجس: "ويجوز شربه عند الخوف من تلف النفس".
ب- ما يخاف فيه من تلف النفس، أو الطرف لو لم يتناول المحرم، أو خوف المرض، أو زيادته، أو طوله، أو عسر علاجه بالترك، أو خوف الضعف المؤدي إلى التخلف عن الرفقة مع ظهور أمارة العطب، أو ضعف الركوب أو المشي المؤدي إلى خوف التلف، ونحو ذلك.
فالاضطرار: دفع الإنسان إلى ما يضرّه، وحمله عليه أو إلجاؤه إليه.
أما الضرورة في الاصطلاح فهي: "كلّ فعل لا يمكن التخلص منه"، وقال الشيخ محمد حسن النجفي(ت1266هـ): "والأولى تفسير الضرورة بما لا يتمكن معه من الصلاة في الوقت الأول، والعذر ما تضمن جلب نفع أو دفع ضرر سواء تعلق بأمر الدين أو الدنيا".
والذي يبدو بأنّ الضرورة أو الاضطرار: هي إباحة المحظور عند بلوغ الإنسان مرحلة يشارف فيها على الهلاك، إذا لم يتناول الممنوع.
ثانياً: توضيح القاعدة:
كلّ حرام ترتفع حرمته بالاضطرار أو الضرورة إلاّ ما استثني فإذا اضطر الإنسان إلى أكل الميتة أو لحم الخنزير، أو مال الغير للإبقاء على نفسه، ارتفعت حرمته وصار حلالا، بل لو اضطر إلى فعل حرام للحصول على ما يرفع اضطراره كان جائزا، وإجمالا فإنّ هذه القاعدة ترفع التكاليف الشرعية، إذ بها يباح المحرم وترك الواجب.
وقد اشتهر أنّ الضرورات تبيح المحظورات، وإجازة ارتكاب الحرام عند الاضطرار هو أن يكون بالمقدار الذي يدفع به الاضطرار، وأما أكثر من ذلك فلا يجوز، أي: أكل ما يسدّ رمقه ويحفظ حياته وليس له أن يزيد على الشبع؛ ولذلك قيل: الضرورات تقدر بقدرها.
ثالثاً: مستند القاعدة:
وقد استدل على هذه القاعدة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع والعقل:
1- الكتاب الكريم: فقد دلت عدة آيات على رفع التكليف عند الاضطرار منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾،وأيضا: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه﴾.
والآيات المباركة فيها دلالة واضحة على القاعدة واستدل بها جمع من الفقهاء منهم المحقق الحلي(ت672هـ)، والشهيد الثاني(ت965هـ)، والمحقق السبزواري(ت1090هـ)، والفقيه النراقي(ت1245هـ)، والمحقق النجفي(ت1266هـ).
2- السنة الشريفة: فقد دلت روايات كثيرة على رفع التكليف عن المضطر إلى فعل الحرام أو ترك الواجب، نذكر منها:
أ- حديث الرفع، وهو ما روي عن الإمام الصادق() أنّه قال: (قال رسول الله(k): رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه...).
ب- خبر المفضل بن عمر -وهو طويل- وفيه: "... ولكنّه خلق فعلم ما تقوم به أبدانهم، وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه؛ تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه، وحرّمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطر، وأحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلاّ به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك".
ت- خبر سماعة عن أبي جعفر() قال: "....وليس شيء مما حرّم الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إليه).
ث- قول الإمام الصادق(): "من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت، فهو كافر".
والمتتبع لهذه الروايات يجد في موارد عديدة ترخيصا بأمور كثيرة وذلك في حالة الاضطرار وهذا يؤكد أنّ الشريعة المقدسة لاحظت هذه الحالة في التخفيف والتيسير عن المكلفين.
3- الإجماع:
ادعي الإجماع مستفيضا على رفع الحرمة والوجوب عند الاضطرار، فقد ذكر الشهيد الثاني(ت965هـ): "لا خلاف في أنّ المضطر إذا لم يجد الحلال يباح له أكل المحرمات...".
وقال الفقيه النراقي(ت1245هـ): "وأما المضطر فيجوز له –بل يجب- الأكل والشرب من كلّ محرّم بلا خلاف... للإجماع". وادّعى الإجماع أيضا المحقق النجفي(ت1266هـ).
4- العقل:
استدل بعض الفقهاء على القاعدة بالعقل، فإنّه يحكم برفع الحرمة عند الاضطرار خصوصاً عند تلف النفس، قال المقدس الأردبيلي(ت993هـ): "وينبغي الملاحظة في ذلك كله والاحتياط، فإنّ الدليل هو ظاهر العقل وبعض العمومات، فلابد من الاقتصار على المعلوم".
وقد ذكر الشيخ الأنصاري(ت1281هـ) في مسوغات الكذب: "فاعلم أنّه يسوغ الكذب لوجهين، أحدهما: الضرورة إليه فيسوغ معها بالأدلة الأربعة".
رابعاً: تطبيقات قاعدة الاضطرار:
هناك العديد من التطبيقات لهذه القاعدة، نذكر منها:
1- قال الشيخ الطوسي(ت460هـ): "إنّ المضطر يحلّ له الميتة، والمضطر إليها هو الذي يخاف التلف إنْ لم يأكل...".
2- وقال أيضا: "إذا اضطر إلى أكل الميتة يجب عليه أكلها، ولا يجوز له الامتناع منه".
3- ذكر المحقق الحلي(ت672هـ): "وكلّ ما قلناه بالمنع من تناوله، فالبحث فيه مع الاختيار، ومع الضرورة يسوغ التناول...".
4- قال العلامة الحلي(ت726هـ): "ويباح للمضطر –وهو: خائف التلف لو لم يتناول، أو المرض، أو طوله، أو عسر علاجه، أو الضعف عن مصاحبة الرفقة مع خوف العطب عند التخلف، أو عن الركوب المؤدي إلى الهلاك- تناول كلّ المحرمات".
5- أورد الشهيد الأول(ت786هـ): "جميع ما ذكرناه من المحرمات مختص بحال الاختيار، فلو خاف التلف أو المرض، أو الضعف عن متابعة الرفقة مع الضرورة إلى المرافقة أو عن الركوب مع الضرورة إليه، حلّ له تناول جميع ما ذكرناه...".
6- وقال الشهيد الثاني(ت965هـ):"لا خلاف في أنّ المضطر إذا لم يجد الحلال يباح له أكل المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما في معناه".
7- ذكر المقدس الأردبيلي(ت993هـ)، بالنسبة إلى جواز قطع الصلاة عند الضرورة: (ويجوز القطع للضرورة... والدليل الضرورة).
8- ورد عن المحقق الحلي(ت672هـ)، بعد بيان حكم حج القران والإفراد: "فإن عدل هؤلاء إلى التمتع اضطرارا جاز".
9- قال المحقق النجفي(ت1266هـ)، بالنسبة إلى جواز أو وجوب حضور الرجال عند الولادة عند الضرورة –كما إذا لم يكن من يقوم بخدمة المرأة من النساء: "...بل قد يقوى عدم اختصاص الوجوب بالمحارم، لاتحاد الجميع في اقتضاء الدليل الدال على وجوب حفظ النفس المحترمة المرجح على غيره، فتباح حينئذ المحظورات عند الضرورات التي اقتضت جواز لمس الطبيب ونظره حتى إلى العورة".
10-من مسائل الصوم ذكر السيد اليزدي(ت1337هـ): "إذا غلب على الصائم العطش بحيث خاف من الهلاك يجوز له أن يشرب الماء مقتصرا على مقدار الضرورة...".
11- وعلّق على ذلك السيد الخوئي(ت1413هـ) بقوله: "لا إشكال في جواز الشرب حينئذ بمقتضى القاعدة حفظا من التهلكة من غير حاجة إلى نصّ خاص، إذ ما من شيء حرّمه الله إلاّ وأحله عند الضرورة...".
المطلب الخامس: قاعدة الجب:
تعتبر قاعدة الجب من مبادئ الإسلام العظيمة ومظهر من مظاهر التيسير على الكفار، بل هي خطوة حضارية بدورها تبعث الشوق في نفوس الكفار للدخول في الإسلام، بخلاف الخوف من المجازاة والتحذّر من التبعات، فالشارع المقدس وسع عليهم وخفف عنهم، امتنانًا منه ليزيح الحواجز ويفتح لهم الطريق للتشرف في الدخول في الدين الإسلامي العظيم.
أولاً: معنى القاعدة ومضمونها:
الجب في اللغة: هو القطع والمحو، فيكون معنى القاعدة ومضمونها هو أن الإسلام يقطع ما كان قبله عن أن يؤثر فيما بعده، أيّ: إن الإسلام يمحو ما في ذمة الكافر وعهدته من تبعات الذنوب والتكاليف بسبب اسلامه، ويجعلها كالعدم بلا أثر.
ثانياً: مدلول القاعدة:
استدل على هذه القاعدة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة والعقل:
1-الكتاب العزيز: استند جملة من الفقهاء، بقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ.
ويستفاد من الآية الكريمة أن قبول الإسلام يوجب محو كل سابقة، والفقهاء متمسكين بظهور الآية في استلزام الكف عن الكفر والدخول في الإسلام لغفران جميع ما سلف في حال الكفر.
2- وأما السنة المطهرة:
فقد استدلوا بجملة من الروايات، منها:
أ. ما ورد عن النبي(k) قوله: ((الإسلام يجب ما قبله)).
ب. وقوله(k): ((أن الإسلام يهدم ما قبله)).
ج. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (): "هدم الإسلام ما كان قبله".
وواضح من خلال مضمون الروايات على سماحة الإسلام وتيسيره لمن يريد التشرف بالدخول في الدين الخاتم، وشريعة سيد المرسلين(k).
3- وأما السيرة النبوية العملية، أذ لم يكن يحكم عملياً على من أسلم من الكفار بفضاء صلاته أو صيامه الفائت منه أيام كفره، وانما جرت سيرة الرسول(k) على اسلوب (العفو عما سلف)، وكلك لم يأمر (k) بإقامة الحد أو التعزير على عمل ارتكبه من المخالفات الشرعية المستوجبة لذلك في زمان كفره وعدم اسلامه وهذه السيرة والتسالم العملي بين المسلمين والمتشرعة مما لاخلاف فيه ولا يمكن إنكاره.
4- وكذلك استدلوا عليها ببناء العقلاء فهو يؤكدها تأكيداً تاماً وان هذه القاعدة دارجة بين العقلاء وأهل العرف.
وعليه فالشارع المقدس وانطلاقاً من مبدا التيسير والتحفيف يريد أن برفع الحرج بتدارك ما وقع من أي شخص قبل اسلامه ويريد الدخول في الدين الإسلامي، فأوجد مجموعة مخارج كي لا تحصل المشقة على الإنسان، فأوجد هذه القاعدة والتي تعكس صورة الإسلام والشريعة السمحاء.
ثالثاً: بعض تطبيقات هذه القاعدة:
هناك مجموعة من التطبيقات لهذه القاعدة، وكالاتي:
1-قال المحقق الحلي(ت676هـ): "البلوغ، وكمال العقل، والإسلام شرط وجوب القضاء، لما يقضي من الصلوات، وهو اتفاق العلماء، ولقوله (k): ((رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق)). ولقوله (k): ((الإسلام يجب ما قبله)) ".
2-وقال المحقق الحلي أيضاً: "تجب الزكاة على الكافر وان لم يصح منه اداؤها، أما الوجوب فلعموم الأمر وأما عدم صحة الأداء، فلان ذلك مشروط بنية القرية، ولا تصح منه، ولا قضاء عليه لو أسلم، لقوله (k): "الإسلام يجب ما قبله" ".
3-قال الفاضل والمحقق الآبي(ت690هـ): "وإذا أسلم الذمي قبل الحول سقطت الجزية،... والقول بالسقوط للشيخين في النهاية والمقنعة، ويدل عليه قوله (): "الإسلام يجب ما قبله".
4-وقال السيد اليزدي الطباطبائي(ت1337هـ)، بالنسبة إلى الكافر يجب عليه الحج إذا استطاع: "... ولو زالت استطاعته ثم أسلم لم يجب عليه على الأقوى، لأنَّ الإسلام يجب ما قبله كقضاء الصلوات والصيام، إذ أنه واجب عليه حال كفره كالأداء، واذا اسلم سقط عنه".
رابعاً: موارد عدم جريان القاعدة:
ذكر الفقهاء بان للقاعدة استثناءات عديدة والمتفق عليها هي:
1-الحدث والخبث:
المعروف بين الفقهاء هو عدم ارتفاع الحدث بالإسلام، فيجب الغسل على من كان محدثاً بالحدث الأكبر كالجنابة مثلاً، لصدق عنوان الجنب، فيشمله قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا. وكذا في الحدث الاصغر، فيجب على الكافر أن يتوضأ لأول صلاة إذا اسلم، لصدور الحدث منه حال كقره.
2-حقوق الناس:
والمراد بها الحقوق المعترف بها في جميع الأديان والأعراف ومنها الديون وضمان المغصوبات والمتلفات ونحوها، فهي غير مشمولة لقاعدة الجب، لأن نفيها خلاف سياق الامتنان في القاعدة، فلابد من تفريغ الذمة من جميع ذلك.
المبحث الثاني
مبدأ حـفظ النـظام
-توطئة:
عني الإسلام بمبدأ حفظ النظام عناية بالغة، وذلك لبقاء النوع الإنساني واستمرار الحياة البشرية، وحفظ النظام واجب لا محيص عنه، بضرورة العقل، واستقلاله بلزوم القيام بما يحفظ به، إذ أنّ حسن النظام وقبح الإخلال به من مدركات العقلي العملي، فإنّ العقل الذي هو أمّ الحجج يحكم بالبداهة بقبح الفوضى والهرج والمرج، ووجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامة الاجتماعية وغيرها ورفع القبح والظلم والفساد والدفاع عن المجتمع.
ومبدأ حفظ النظام من المبادئ العامة التي لا تقتصر على مجال معيّن من مجالات الشريعة والحياة من قبيل العلاقات الخاصة والعامة في الطبيعة والمجتمع، أو مجال العبادات والمعاملات، بل يشمل جميع المجالات، ومنها ما يختصّ بحالات معيّنة، فلزوم ما يتوقّف عليه حفظ النظام من الأصول الكلية، والقوانين الجامعة التي لها شمول كثير وواسع وله خطوط عريضة تزدهر مع الزمان والمكان.
المطلب الأول: حفظ النظام في اللغة والاصطلاح:
أولاً: حفظ النظام في اللغة:
يعرف حفظ النظام لغة بـ: الحفظ نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة، والحفظ الرعاية، والمحافظة: المواظبة على الأمر والمداومة عليه، وأيضا من معانيه: الحراسة، والاستظهار، وكذلك: الصيانة عن الابتذال.
وعرف النظام في اللغة أيضا: من نَظَمَ، بمعنى الترتيب: ونظم الشيء ينظمه نظماً نظاما، وهو بمعنى التأليف: نظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك، والتنظيم مثله، والنظام: ما نظمت فيه الشيء من خيط وغيره، وهو بمعنى الملاك والطريقة، ونظام كل أمر ملاكه. والجمع أنظمة، وأناظيم، ونظم، ويقال: ليس لأمره نظام: أي لا تستقيم طريقته، وقيل: ليس له هدي ولا استقامة، والانتظام الاتساق، والنظام قوام الشيء وعماده، وانتظم الأمر: إذا تمّ.
ثانياً: حفظ النظام في الاصطلاح:
وردت بعض التعريفات لحفظ النظام عند الفقهاء اصطلاحاً، ومنها: "وحفظ النظام ليس إلاَّ عبارة عن إدارة شؤون المجتمع على نحو يجعل حاجاته المادية والمعنوية ميسرة بقدر الإمكان، وتنظيم علاقاته الداخلية، ويدفع عنه خطر الفوضى فيما يتعلّق بهذا الجانب من جوانب تكوينه".
وهو أيضا: "حالة استقرار أوضاع الناس المختلفة على طبق المصالح الأساسية للأمة ضمن أهدافها الدائمة أو المؤقتة".
وتمثل معاني لفظة نظام في اللغة مثل: (التأليف، الترتيب، التناسق، الطريقة، قوام الشيء وعماده) منطلقات الاستعمال الاصطلاحي لحفظ النظام في مختلف جوانب المعرفة فهو بمعنى حفظ النسق العام الذي يحكم حركة المصالح والأهداف والمكتسبات الحياتية وهو سمة طبيعية لعالم التكوين، إذ يلاحظ أنّ طبيعة الحياة البشرية تتسم بطابع الانتظام يتأتى عن طريق تراكم الخبرة البشرية في تسيير أمورها وجري حياتها، والعقل يستقل بإدراك قبح الإخلال بهذا الانتظام ووجوب حفظه، وكذلك التشريع الإسلامي من خلال طبيعة أحكامه، وهو مصداق لتطابق التشريع مع التكوين.
وإن مبدأ حفظ النظام يمثل عصب الحياة وأساس الحضارات، فقد ورد: "لا تستقيم أي حضارة مالم تتخذ من حفظ النظام ركيزة لها، كما أن حفظ النظام واجباً شرعياً من الناحية العقلية؛ لأنّ العقل والفطرة تشعر أن الظلم قبيح، لذا فهو من الناحية النقلية والعقلية واجب، ويجب الدفاع عنه لما فيه من حفظ النفس والأعراض والأموال في المجتمع".
المطلب الثاني: مبدأ حفظ النظام وأثره في الاستنباط:
يعدّ مبدأ حفظ النظام الأساس في بعض المباحث الأصولية والفقهية.
أولاً: أثر حفظ النظام في المباحث الأصولية:
إنّ حفظ النظام لما كان مبدأ تشريعيا عاما فإنّ أثره يكون شاملا لجميع مفاصل التشريع ومباحثه، ولأهميته فإنّه تضفي على تلك المباحث والمسائل الفقهية والأصولية طابعا واقعيا لما يتضمنه هذا المبدأ من عناصر تمثل روح الواقع المعيش، بل أنّ هناك كثيرا من الأحكام في الإسلام التي ترتبط بالجوانب المختلفة سواء الاجتماعية منها أم الاقتصادية والسياسية وغيرها، والحكمة منها هو حفظ النظام العام.
1- مبحث الاستصحاب:
ذكر الأصوليون إلى أنّ حجية الاستصحاب من متفرعات مبدأ حفظ النظام، فقد أورد الشيخ الكاظمي(ت1365هـ) في الاستدلال على الاستصحاب ما نصه: "دعوى بناء العقلاء... بل لولا ذلك يلزم اختلال النظام".
ويؤكد ذلك السيد محمد تقي الحكيم(ت1423هـ) بقوله: "ولو قدّر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال... ولشلت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم فيها"، فإنّ العمل على طبق الحالة السابقة إنّما هو بإلهام إلهي، وذلك حفظا للنظام، لكي لا تختل أمور معاشهم ومعادهم، وأكّد ذلك السيد الصدر (ت1400هـ) بقوله: "ويشهد على أصل البناء العقلائي ذكر كثير من العلماء لها حتى قال بعضهم إنّه لولاه لاختل نظام المعاش، وهو كذلك إذ كثير من الأمور تمشي ببركة هذه الغفلة، ولولاه لاضطرب نظام المعاش بين الناس لو أُريد إقامته على أساس الاحتياط أو الظن المعتبر".
2- مبحث الاحتياط:
وقد استدل بمبدأ حفظ النظام على مبحث الاحتياط الذي يعدّ أحد الأصول العملية الأربعة، التي امتاز بها الاستنباط الإمامي عن غيره عند الشكّ في الحكم الواقعي وعدم وجدان الدليل المحرز الأعمّ من القطعي والظني، وقد ورد مبدأ حفظ النظام في مبحث الاحتياط، إذ قال الآخوند الخراساني(ت1329هـ): "أما الاحتياط: فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا، بل يحسن على كلّ حال، إلاّ إذا كان موجبا لاختلال النظام".
ويذكر الشيخ الكاظمي(ت1365هـ): "إنّ الاحتياط له مراتب ثلاث، المرتبة الأولى: الاحتياط التام في جميع الوقائع المشتبهة: من مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها، على وجه يقتضي إحراز جميع التكاليف الواقعية على ما هي عليها، وهذه المرتبة من الاحتياط تخلّ بالنظام النوعي والشخصي، لكثرة الوقائع المشتبهة وانتشارها في جميع ما يتوقف عليه النظام من: المعاش والمعاشرة والمحاورة والعقود والايقاعات وغيرها، ولا إشكال أنّ التجنب عن جميع ذلك يخلّ بالنظام.
المرتبة الثانية: الاحتياط الموجب للعسر والحرج من دون أن يستلزم اختلال النظام، بل مجرد الضيق الذي لا يناسب الملة السهلة السمحة، المرتبة الثالثة: الاحتياط الذي لا يوجب العسر والحرج، فإذا كان الحاكم بلزوم الاحتياط في الوقائع المشتبهة هو العقل من جهة اقتضاء العلم الإجمالي، فبطلان كل مرتبة سابقة يوجب تعيّن المرتبة اللاحقة؛ لأنّ الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها، فإذا بطل الاحتياط المخلّ بالنظام ولم يجز العمل به عند العقل تتعين المرتبة الثانية..."، والذي يبدو أنّ هذه المراتب الثلاث للاحتياط منبثقة من روح الشريعة، والمتمثلة بأعظم مبدأين هما: التيسير وحفظ النظام العام وانسجامهما مع رغبات الإنسان الفطرية.
ويقول المحقق العراقيّ(ت1361هـ): "وأما بطلان الاحتياط التامّ في جميع الوقائع المشتبهة، فيدلّ عليه الإجماع القطعي، وقاعدة نفي الحرج والعسر، بل ولزوم اختلال النظام النوعي والشخصي لوضوح كثرة الوقائع المشتبهة وانتشارها في جميع ما يتوقف عليه النظام مما يرجع إلى المعاش والمحاورة والعقود والايقاعات ونحوها".
ويبدو واضحاُ من كلام المحقق العراقي استدل بهذا المبدأ في بطلان الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة، فهذا المبدأ له تأثير واضح في أهمّ مبحث من مباحث الأصول العملية عند الإمامية.
3- حجية ظواهر الكلام:
الظاهر هو خلاف الباطن والظهور في اللغة هو البروز والبيان، ووصف الشيء بالظاهر يعني وصفه بالبارز والبيّن. وهذا المعنى لا يبتعد كثيرا عمّا هو متداول في استعمالات الأصوليين، فهم يقصدون من الظهور تعيّن أحد المعاني المحتملة للكلام، وأنّ مبدأ حفظ النظام له دور في الاستدلال على حجية هذه الظواهر عن طريق السيرة العقلائية المستندة في أحكامها إلى هذا المبدأ العام.
قال السيد حسين البروجردي(ت1380هـ): "حجية البناء ولو لم تكن ذاتية إلاّ أنّها محفوفة بما يكون كالذاتي، فإنّ المفروض أنّه لا طريق إلى إيصال المقاصد التي لابدّ منها ولو كانت أخروية غير الألفاظ الظاهرة، فلو لم تكن حجة لزم اختلال النظام، فيحكم العقل حينئذ بلزوم الحجية"، فإذا كانت الألفاظ غير مفهومة فهذا يؤدي إلى اختلال النظام، وبما أنّ المشرع هو أحد العقلاء ولا يوجد ردع عن ذلك فهذا دليل الإمضاء.
ويؤكد هذا المعنى الميرزا النائيني(ت1355هـ) بقوله: "فإنّه لولا اعتبار الظهور والبناء على أنّ الظاهر هو المراد لاختل النظام ولما قام للعقلاء سوق".
وعليه أنّ اللفظ إذا كان ظاهرًا في معنى فالأصل حمله على ما هو ظاهر فيه، ويمثل مبدأ حفظ النظام مستندا عقليا داعما للأخذ بظواهر الكلام.
4- مباحث بناء العقلاء والعقل:
المعروف أنّ بناء العقلاء هو صدور سلوك معيّن من العقلاء تجاه واقعة ما صدورا تلقائيا مع عدم ملاحظة ارتباطهم بملة أو ثقافة أو دين معيّن فتعمّ جميع الناس العقلاء بفطرتهم، واستمرار عادتهم وتبانيهم العملي على فعل شيء أو تركه.
ويقول الشيخ الأصفهاني(ت1361هـ): "إنّ ملاك البناء العقلائي على مدح فاعل بعض الأفعال، وذمّ فاعل بعضها الآخر كون الأول ذا مصلحة عامة موجبة لانحفاظ النظام وكون الثاني ذا مفسدة مخلة بالنظام، فلذا توافقت آراء العقلاء- الذين على عهدتهم حفظ النظام بإيجاد موجباته وإعدام موانعه- على مدح فاعل ما ينحفظ به النظام وذم فاعل ما يخلّ به"، ويرى الأصفهاني أيضا بأنّ أحكام العقل العملي: "من الأحكام العقلية الداخلة في القضايا المشهورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس، وأمثال هذه القضايا مما تطابقت عليه آراء العقلاء، لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع بها".
فالنظام العام في كلام الشيخ الأصفهاني يأتي مناطا لاختيارات العقلاء بما هي أحكام ويؤكد ذلك الشيخ المظفر(ت1383هـ) عندما يثبت الملازمة بين العقل والشرع إذ يقول: "إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه لما فيه من الإخلال بذلك... فلابدّ أن يحكم الشارع بحكمهم".
ويؤكد السيد محمد سعيد الحكيم(ت1443هـ) المعنى نفسه بقوله: "فإنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه، أي أنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه لما فيه من الإخلال بذلك فإنّ الحكم هذا يكون بادئ رأي الجميع، فلابد أن يحكم الشارع بحكمهم، لأنّه منهم بل رئيسهم، فهو بما هو عاقل بل خالق العقل كسائر العقلاء لابدّ أن يحكم بما يحكمون، ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادئ رأي الجميع، وهذا خلاف الفرض".
ثانياً: أثّر مبدأ حفظ النظام في المباحث الفقهية:
استدل بعض فقهاء الإمامية إلى مبدأ حفظ النظام في جملة من المسائل منها:
1- تعليل الشيخ محمد حسن النجفي(ت1266هـ) عن وجوب وجود المجتهد بقوله: "كما يجب تحصيل المرتبة المزبورة كذلك أيضا على المشهور، لتوقف النظام عليها"، وذلك لأهمية وجود الفقيه المجتهد في المجتمع للرجوع إليه في مستحدثات المسائل لتطور الواقع الحياتي والعقل يرى ذلك أيضا.
2- في جواز قضاء غير المجتهد يستند الشيخ محمد حسن الاشتياني (ت1319هـ) في ذلك إلى مبدأ حفظ النظام بقوله: "إنّ حكم العقل بجواز قضاء المقلّد في الصورة المفروضة وجواز رجوع الناس إليه إنّما كان بملاحظة توقف النظام عليه، والمفروض أنّه لا يختلف الأمر في ذلك بين أن ينصبه المجتهد لذلك أو يقضي من قبيل نفسه، لحصول الغرض، وهو حفظ النظام بكل منهما".
ويبدو من كلام الشيخ إمكان الرجوع إلى غير الضرورة في القضاء، وذلك حفظا للنظام، والعقل داعم لذلك.
3- أورد السيد الخوئي(ت1413هـ) أنّ منصب القضاء يكون للعلماء وغيرهم بكونه واجبا كفائيًا، وذلك لعلاقته بمبدأ بحفظ النظام، إذ يقول: "إنّ إعطاء الإمام عليه السلام منصب القضاء أو لغيرهم لم يثبت بأي دليل لفظي معتبر ليتمسك بإطلاقه. نعم بما أن نقطع بوجوبه الكفائي لتوقف حفظ النظام المادي والمعنوي عليه ولولاه لاختلت نظم الاجتماع لكثرة التنازع والترافع في الأموال وشبهها من الزواج والطلاق والمواريث ونحوها".
4- وقد استدل بمبدأ حفظ النظام في إثبات التعزير على كل ذنب، فذكر الشيخ محمد رضا الكلبايكاني(ت1414هـ): "ثمّ أنّ هنا أمران آخران قد يستدل بهما في إثبات التعزير على كلّ ذنب أحدهما: حفظ النظام، تقريره أنّ الإسلام قد أهتم بحفظ النظام المادي والمعنوي وإجراء الأحكام على مجاريها ومن الطبيعي أنّ هذا يقتضي أن يعزر الحاكم كلّ من خالف النظام".
5- وكذلك استدل السيد كاظم الحائري بالعقل ومبدأ حفظ النظام على وجوب القضاء كواجب كفائي بقوله: "إنّ القضاء واجب كفاية، ادعي عليه الإجماع... وأدلة الوجوب: لعل خير ما يستدل به على ذلك توقف ما نقطع بعدم رضا الشارع بفوته عليه من حفظ النظام، وسدّ أبواب الظلم والمعاصي".
6- ما ذكره السيد الخوئي(ت1413هـ) حول الواجب في الشريعة المقدسة، بل في كافة الشرائع على نوعين وهما: تعبدي وتوصلي وأنّ "الأول ما يتوقف حصول الغرض منه على قصد التقرّب، وذلك كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل كلّ ذلك. والثاني: ما لا يتوقف حصوله على ذلك كما عرفت، ومنه وجوب الوفاء بالدين، وردّ السلام، ونفقة الزوجة، وهذا القسم هو الكثير في الشريعة المقدسة، وجعله الشارع رغم أنّه لا يعتبر فيه قصد التقرب إنّما هو لأجل حفظ النظام وإبقاء النوع، ولولاه لاختلت نظم الحياة المادية والمعنوية".
ثالثاً: أثر مبدأ حفظ النظام في بعض القواعد الفقهية:
وقد أشار إلى ذلك الفقهاء في طيّ بحوثهم عن القواعد الفقهية وأنّ مبدأ حفظ النظام هو أحد مكونات وعناصر انتاج القاعدة الفقهية، ومن هذه القواعد:
1- قاعدة الصحة:
تعتبر قاعدة الصحة من أشهر القواعد والأصول المعتمدة في الأبواب الفقهية، والمجمع عليها فتوى وعملاً بين المسلمين، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد المتفق عليها عند الشك، وقد عنونها الفقهاء بعناوين مختلفة منها: "قاعدة الصحة في فعل المسلم أو حمل فعل المسلم على الصحة الواقعية". وأيضا: "أصالة الصحة في فعل الغير"، أو "أصالة الصحة في فعل المسلم".
والمراد من القاعدة إذا شكّ في أي عقد أو إيقاع بعد وقوعه في أنّه جامع لشرائط الصحة وفاقد لموانعها، أم أنّه لوجود خلل في شروطه، لزم البناء على الصحة طبقا لأصالة الصحة، وترتيب الأثر على ذلك.
واستدل على أصالة الصحة بمبدأ حفظ النظام، قال السيد محمد البجنوردي (ت1395هـ): "والإنصاف أنّ الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار هذه القاعدة أشدّ وأعظم من الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة اليد، فإنّ هذه القاعدة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات"، ويؤكد الشيخ ناصر مكارم الشيرازي على أثر مدخلية مبدأ حفظ النظام في هذه القاعدة بقوله: "توقف حفظ النظام وصلاح المجتمع عليها، نظرا إلى أنّه لو لم يبنَ على الصحة في موارد الشك في الأفعال الصادرة عن الغير لزم العسر الأكيد والحرج الشديد واختل أمر المعاش ونظام أمور الناس".
2- قاعدة الفراغ:
وهي من القواعد المهمة التي اشتهرت في ألسنة الفقهاء المتأخرين اشتهارا تامّا حتى صارت كالمسلمات الدائرة بينهم، ومعتنى القاعدة هو الحكم بصحة العمل المركب الذي شكّ في صحته بعد الفراغ منه، كالشكّ في صحة الصلاة لاحتمال الخلل، فيحكم بصحة الصلاة وتماميتها، ولا يترتب الأثر على الشكّ، أو إذا حصل الشكّ في عدد الأشواط بعد الفراغ من الطواف والانصراف منه وبعد الدخول في الغير كالدخول في صلاة الطواف أو السعي فيحكم بصحة الطواف لقاعدة الفراغ، وكذلك إذا شكّ في إعداد أشواط السعي بعد الفراغ من السعي وبعد التقصير فلا ريب في عدم الاعتناء بالشكّ لقاعدة الفراغ.
وقد استدل بمبدأ حفظ النظام على هذه القاعدة، فقد ذكر السيد محمد سعيد الحكيم(ت1443هـ) بقوله: "بل ظاهرها إرادة عدّ الاعتناء بالشكّ الذي مضى محله من حيث هو، ولذا ورد بعضها في مورد الشكّ في أصل الامتثال لا في كيفيته، كصحيح زرارة والفضيل الوارد في الشكّ بعد خروج وقت الفوت، ومن الظاهر أنّ الأمر المذكور ارتكازي أيضا قد يبتنى على مراعاة مصلحة التسهيل وحفظ النظام، لعدم تيسر حفظ ما مضى وضبط حاله".
3- قاعدة سوق المسلمين:
هي من القواعد المهمة التي ينتفع بها في التعايش بين المسلمين والتوسعة عليهم، والمراد من القاعدة هو أمارية سوق المسلمين للطهارة والذكاة عند الشك فيهما بالنسبة إلى البضائع التي توجد في أسواق المسلمين من اللحوم والجلود وغيرها، فإنّ نفس كونها في سوق المسلمين يكفي للطهارة والحلية، وإنْ كان من يعرضها مجهول الحال ولا مجال لأصالة عدم التذكية لحكومة القاعدة عليها وعلى الاستصحاب، كما قال السيد محسن الحكيم(ت1390هـ): "هذا ولو كانت يد المسلم مسبوقة بيد الكافر – كما في الجلود المجلوبة في هذه الأزمنة من بلاد الكفار- فالظاهر كونها أمارة أيضا- للطهارة- كما يقتضيه إطلاق كلماتهم، وصرح به غير واحد".
ويذكر المازندراني أنّ أمارية وحجية اليد في سوق المسلمين له جذر عقلي وهو حفظ النظام ولزوم اختلاله من عدم بنائهم على ذلك، وكان الأئمة () وأصحابهم يشترون من السوق من دون فحص عن التذكية.
والمراد من السوق هو سوق المسلمين وهي مطلق الأمكنة التي تكون في سيطرة المسلمين، وتكون الغلبة أمارة على من يشكّ في إسلامه، كما ورد في صحيحة إسحاق بن عمار عن العبد الصالح () أنّه قال: "لا بأس في الصلاة في القزّ() اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت له: فإنْ كان فيها غير أهل الإسلام، قال: إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس".
وفي صحيحة الفضلاء الثلاثة: (فضيل وزرارة، ومحمد بن مسلم) أنّهم سألوا الإمام أبا جعفر () عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يدري ما صنع القصابون، فقال: "كل إذا كان في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه".
وإنّ لازم عدم حجية سوق المسلمين اختلال النظام، إذ ورد في رواية حفص بن غياث، عن الإمام الصادق () قوله: "لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق"، ويعقّب السيد محمد حسن البجنوردي(ت1395هـ) على هذه الرواية بقوله: "وظاهر هذه العبارة أنّ الاعتناء بهذه الاحتمالات، أي احتمال عدم التذكية في اللحوم والجلود، واحتمال كونهم أحرارا في العبيد والإماء، واحتمال كونه مال الغير، وأنّه سرق أو غصب في سائر الأموال –يوجب تعطيل الأسواق، واختلال أمر المسلمين في معاملاتهم، وهذا أمر مرغوب عنه عند الشارع، فعدم الاعتناء بأسواق المسلمين وترتيب الأثر على هذه الوساوس منفورٌ عنه".
وفي مدخلية مبدأ حفظ النظام في هذه القاعدة، صرّح المحقق الهمداني(ت1322هـ) بقوله: "بل العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلف أو من غيره على الصحيح إنما هي السيرة القطعية، ولولاه لاختل نظام المعاش والمعاد، ولم يقم للمسلمين سوق".
4- قاعدة اليد:
وهي من القواعد الشرعية الكلية، كون مقتضى اليد الملكية، ما لم تعارضه البينة أو نحوها، وهذه القاعدة ثابتة في الشريعة المقدسة بلا خلاف فيها يوجد، وإثبات الملكية بواسطة وضع اليد والمقصود من اليد هو الاستيلاء والتسلط على المال، والتعبير باليد من باب تسمية العام باسم الخاص، ولا إشكال في بناء المسلمين على ترتيب آثار الملكية ظاهرا باليد، يشترك في ذلك صالحهم وطالحهم، من دون أن يبتني بنظرهم على نحو من التسامح والتساهل، بل لولا ذلك لاختل نظامهم، ولو لم تكن اليد أمارة ودليلاً على الملكية لزم العسر الأكيد والحرج الشديد، واختل النظام في أمور الدين والدنيا، وبلغ الأمر إلى ما لا يكاد يتحمله أحد، ولم يستقر حجر على حجر.
واستدلّ عليها بالسيرة العقلائية التي ادعاها الميرزا النائيني(ت1355هـ) والمحقق العراقي(ت1361هـ)، والسيد الخوئي(ت1413هـ)، وقد استقر بناء العقلاء في العالم على أمارية اليد بالنسبة إلى الملك، وأنّهم لا يتوقفون في ترتيب آثار الملكية على ما في أيدي الناس وكذلك لا يفتشون عن هذا الذي بيده له أم لغيره أو مسروق أم مغصوب مثلا، والشارع المقدس لم يردع عن هذه السيرة والبناء بل أمضاها، واستدل عليها بالإجماع، قال السيد اليزدي(ت1337هـ): "لا إشكال ولا خلاف في أنّ ظاهر اليد ومقتضاها الملكية بل عليه الإجماع".
وأما الأخبار فهي العمدة في الاستدلال على القاعدة، وقد استفاضت النصوص عموما وخصوصا في الموارد الجزئية من غير فرق بين يد المسلم والكافر إلا في اللحوم وما يتعلق بها فإنّه لا عبرة بيد الكافر ولا يحكم له بالملكية. ومن هذه الأخبار، ما رواه العيص بن القاسم عن الإمام الصادق () قال: "سألته عن مملوك ادعى أنّه حرّ ولم يأتِ ببينة على ذلك، أشتريه؟ قال: نعم"، وأيضا: ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله() في باب متاع الرجل والمرأة، قال(): "ومن استولى على شيء منه فهو له"، وغيرها من الروايات.
وقد تحصل أنّ العمدة في قاعدة اليد هو ارتكاز أهل العرف وجميع العقلاء من أرباب الديانات وغيرهم وفي جميع الأعصار والأمصار، مع إمضاء الشارع لها، لا بمجرد عدم الردع عنها، بل التصريح بإمضاء هذه السيرة والارتكاز العرفي في غير مورد وترتيب آثارها عليها، وفي التالي لزوم العسر والحرج بل اختلال نظام المعاش والمعاد أيضا، فهذه السيرة متأصلة في العقل لمنع اختلال النظام.
المطلب الثالث: أثر مبدأ حفظ النظام في الظواهر السلبية في المجتمع:
من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء حماية الفرد والمجتمع، فهي تهدف إلى رعاية المصلحة الخاصة وكذلك المصلحة العامة للمجتمع من خلال مجموعة من الضوابط التي تحمي ذلك، وقررت الشريعة مبدأ المنع من إساءة استعمال الحق لمنع كل ما يورث الاستغلال والظلم والإضرار بالناس والإخلال بنظام المجتمع، ولم تقف مكتوفة الأيدي أمام بعض الظواهر السلبية التي تؤثر في حفظ النظام العام، ومن هذه الظواهر ما يأتي:
أولاً: الاحتكار:
حارب الإسلام ظاهرة الاحتكار، وأنكر على كل محتكر صنيعه الذي يجعل من هذه الظاهرة وسيلة تكسب، لما لهذه الظاهرة من الآثار السلبية والإخلال بنظام المجتمع العام.
1-الاحتكار في اللغة:
مأخوذ من الحكر، والحكرة: اسم مصدر للاحتكار، وهو: الجمع والإمساك، واحتكار الطعام: حبسه إرادة الغلاء، أو جمعه واحتبسه انتظارا لغلائه أو اشتراؤه وحبسه ليقلّ فيغلو، وهذه المعاني تدور حول الاستبداد والظلم في المعاملة، وإساءة المعاشرة والإضرار بالناس.
2- الاحتكار في الاصطلاح:
عرّف الاحتكار المنهي عنه في كلمات الفقهاء بعدّة تعريفات منها: هو "احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق الأمر عليهم فيها"، أو هو: "حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع"، وأيضا: "حبس الأقوات،
وقيل يحرم"، وكذلك هو:"أن يشتري ذو الثروة الطعام في وقت الغلاء ولا يدعه للضعفاء ويحبسه ليبيعه منهم بأكثر ثمن عند اشتداد حاجتهم"، وقيل: هو: "حبس الطعام لانتظار الغلاء".
3- ما يجري فيه الاحتكار: هناك قولان:
أ- إنّ الاحتكار لا يكون إلاّ في القوت خاصة، وهو ما ذهب إليه المشهور من الفقهاء، والمتفق عليه هو: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن، كما في رواية غياث بن إبراهيم عن الإمام الصادق () أنّه قال: "ليس الحكرة إلاّ في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن"، إذ دلّ على حصر الاحتكار في الأطعمة المذكورة، ونفيه في غيرها فيتقيد به إطلاقات الاحتكار، قال الفقيه النراقي(ت1245هـ): "وبها تقيّد إطلاقات الاحتكار أو الاحتكار في الطعام".
وألحق بعضهم الزيت لتصبح ستة أصناف، كما في رواية السكوني عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه، عن علي ()، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحكرة في ستة أشياء في: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت".
وبعضم استبدل الزيت بالملح، منهم الشيخ الطوسي(ت460هـ)،وابن حمزة(ت560هـ)، والعلامة الحلي(ت726هـ)، وذلك للتعليل الوارد في بعض الأخبار من احتياج الناس إلى الملح أشدّ من غيره، لتوقف أغلب المآكل عليه، وفريق ثالث ذهب إلى وقوعه في الأصناف السبعة جميعا، بإضافة الزيت والسمن والملح إلى الغلات الأربعة، ومنهم الشهيد الأول(ت786هـ)، والمحقق الكركي(ت940هـ)، والشهيد الثاني(ت965هـ).
ب- إنّ الاحتكار يجري في كل ما يحتاجه الناس، ويتضررون من حبسه، من قوت وإدام ولباس، وغير ذلك، وذهب إلى هذا القول بعض فقهاء الإمامية، قال كاشف الغطاء(ت1228هـ): "وفي اختلاف الأخبار –فبين عادٍّ ستة، وعادٍّ خمسة، ومقتصر على أربعة- ما يرجح أمر الكراهة، وتنزيلها على المثال في جميع ما يحتاجه الناس، لا على التقيد، قريب، فتعمّ الكراهة غير المذكورات...".
4- حكم الاحتكار:
اتفق الفقهاء على أنّ الشارع المقدس قد نهى عن الاحتكار لما فيه من الجشع والطمع وسوء الخلق، وكذلك التضييق على الناس، ويؤدي إلى الإضرار بهم، وكذلك إخلال نظام المعاش، وذلك لعدم التكافؤ بين الثمن والسلعة، واختلف الفقهاء في الحكم المستفاد من هذا النهي في كون الحكم على نحو الحرمة أم الكراهة.
أ- القول بالحرمة: وهو القول المشهور، وهو ما ذهب إليه جمع من الفقهاء ومنهم الصدوق(ت381هـ)، والطوسي(ت460هـ)، وابن إدريس(ت598هـ)، والعلامة الحلي(ت726هـ)، والشهيد الأول(ت786هـ)، والفاضل المقداد السيوري(ت826هـ)، والمحقق الكركي(ت940هـ)، والشهيد الثاني(ت965هـ)، والمحدث البحراني (ت1186هـ)، والشيخ الأنصاري(ت1381هـ)، والسيد الخميني(ت1409هـ)، والسيد الخوئي(ت1413هـ)، والشيخ محمد مهدي شمس الدين(ت1421هـ).
ب- القول بالكراهة وهو ما ذهب إليه بعض الفقهاء، ومنهم الشيخ المفيد(ت413هـ)، والشيخ الطوسي(ت460هـ), وسلار الديلمي(ت463هـ)،
وابن الصلاح الحلبي(ت447هـ)، والمحقق الحلي(ت672هـ)، والعلامة الحلي(ت726هـ)، والشهيد الأول(ت786هـ)، ويظهر من كلام المحقق الأردبيلي(ت993هـ)، والسيد العاملي(ت1226هـ)، وكاشف الغطاء(ت1228هـ)، والشيخ النجفي(ت1266هـ) بقوله: "أشبه بأصول المذهب وقواعده).
وحاول بض الفقهاء إمكان الجمع بيت القولين فإنّ القائلين في التحريم قيّدوه في لزوم الضرر والحرج والضيق على عامة الناس بحيث ينافي سياسة الناس، وإدارتهم نظام معيشتهم وأما القائلون بالكراهة فلم يقيدوه بشيء، فإذا استلزم محذورا من المحاذير الآنفة الذكر، وخالف النظام العام فهو حرام، وإنْ لم يستلزم فلا، قال المحقق الأردبيلي(ت993هـ): "إنّ الخلاف مع عدم الضرورة مثل المخمصة، وإلا فيحرّم بالإجماع ظاهرا"، وإنْ كان يظهر منه جمع آخر وهو الحرمة حال الضرورة قولا واحدا، والاختلاف في حرمته أو كراهته في غيرها.
وقال الشيخ النجفي(ت1266هـ): "... ويمكن تنزيل القول بالتحريم على بعض ذلك، كما عساه يومئ إليه بعض كلماتهم، فيرتفع الخلاف حينئذ في المسألة وإنما الكلام في حبس الطعام انتظارا به غلو السعر على حسب غيره من أجناس التجارة مع حاجة الناس، وعدم وصولهم إلى حدّ الاضطرار، فدعوى وصول العقل إلى القبح التحريمي في مثل ذلك واضحة المنع".
ويقول المحقق الأصفهاني(ت1361هـ): "الظاهر من الكلمات أنّ الموضوع المحكوم بالحرمة عند جماعة هو المحكوم بالكراهة عند آخرين، والمحكوم بالحرمة هو حبس الطعام مع الناس وعدم الباذل، فهو المحكوم بالكراهة عند من يقول بكراهة الاحتكار".
أما عن أهمّ الروايات المستدل بها على عدم جواز الاحتكار، فهي:
1- قال رسول الله(k): (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون).
2-وقال نبيّنا الأكرم(k): (لا يحتكر إلاّ خاطئ).
3- وقوله(k): ( لا يحتكر الطعام إلاّ خاطئ).
4- وعن رسول الله(k) قال: (من احتكر يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله).
5- جاء في عهد الإمام علي بن أبي طالب() إلى مالك بن الأشتر النخعي(رض): "... فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه، فنكّل وعاقب في غير إسراف....".
6- وفي رواية أبي مريم عن أبي جعفر() قال: قال رسول الله(k): (أيّما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ثمّ باعه فتصدق بثمنه لم يكن كفارةً لما صنع).
وعن طريق مبدأ حفظ النظام يمكن توسيع موارد الاحتكار، إذ يمكن لولي الأمر أن يمنع من احتكار بعض السلع التي لم يرد فيها نص وقد تكون ضرورة عامة وبفقدها يؤدي إلى اختلال النظام العام في المجتمع.
ويظهر من كلام الشيخ النجفي(ت1266هـ): أنّ غالبية الفقهاء متفقون على تحريم الاحتكار في كل شيء يضطر إليه الناس ويؤدي إلى الإخلال بالنظام العام، فيقول: "...مما هو معلوم الحرمة لأمر آخر خارجي، بل هو كذلك في كلّ حبس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة، ويضطرون إليه ولا مندوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها من غير تقييد بزمان دون زمان ولا أعيان دون أعيان...".
فمقتضى حفظ النظام لكونه مبدأ عاما يمثل توسعة موارد الاحتكار إلى غير التي وردت في النصوص الروائية، أي: متى بلغت الحاجة حد الاضطرار إلى شيء حرّم احتكاره مهما كان نوع ذلك الشيء.
ويرى الشيخ هاشم الآملي أنّ المدار الرئيسي في حرمة الاحتكار إخلاله بالنظام، أي: أنّه إذا أوجب اختلال النظام يكون حراما عقلا وشرعا، فهو يشمل كلّ مورد يحصل منه ذلك.
ثانياً: التسعير:
إنّ الأصل في المعاملات في الشريعة الإسلامية السمحة تقوم على أساس حرية التعامل في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، وسائر العقود والتصرفات، والأصل أيضا في البيع والشراء هو عدم التسعير، ولكن يبقى هذا الأصل عندما يتعامل الناس في الحدود التي رسمها الله عزّ وجلّ ورسوله الكريم(k) ولم يتعدوا الحدود، لأنّ ذلك يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام والإضرار بعامة الناس.
1- التسعير في اللغة والاصطلاح:
أ- التسعير في اللغة: هو الذي يقوم عليه الثمن، وهو تقدير السعر، ويقال: سعرت الشيء تسعيرا، أي: جعلت له سعرا معلوما ينتهي إليه، وكذلك يقال: "أسعر أهل السوق إسعارا وسعّروا تسعيرا، إذا اتفقوا على سعر معيّن، والسِّعر –بالكسر- والجمع أسعار، سُمّي السعر تشبيها بأسعار النار، وذلك لأنّ سعر السوق يوصف بالارتفاع".
ب- التسعير في الاصطلاح: "هو تقدير السلطان أو الحاكم أو نائبه للغلة سعرا خاصا للناس، أو يسعرها على ما يراه من المصلحة ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها، وإجبار المتبايعين على التبايع بما قدّره".
2- الحكم التكليفي للتسعير:
ذهب بعض فقهاء الإمامية إلى أنّه لا يجوز للإمام –ولا النائب عنه- أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره، سواء في حال الغلاء أو الرخص، ولا خلاف في ذلك بينهم، وقال بعضهم وهو المشهور بين فقهاء الإمامية، ويدلّ عليه الإجماع والروايات الكثيرة المتواترة عن الأئمة المعصومين()، وكذلك أنّ الأصل براءة الذمة من إلزام هذا المكلف بالتسعير، وأيضا إثبات ذلك هو حكم شرعي يحتاج فيه إلى دليل شرعي.
ومن المعروف أنّ الرسول الأكرم(k) رفض التسعير على السلع والبضائع بصورة عامة، فعن أبي عبد الله(): "فقد الطعام على عهد رسول الله(k)، فأتى المسلمون فقالوا: يا رسول الله قد فقد الطعام، فلم يبقَ منه شيء إلاّ عند فلان، فمره يبيع، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: "يا فلان إنّ المسلمين قد ذكروا أنّ الطعام قد فقد إلاّ شيئا عندك، فاخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه". ففي هذه الحالة فوّض الرسول السعر إلى صاحب الطعام.
وعن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب()، قال: "إنّ رسول الله(k) مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث ينظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله(k) لو قومت عليهم، فغضب رسول الله(k) حتى عُرف الغضب في وجهه، قال: "أنا أقوم عليهم!؟ إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء".
واتفق فقهاء المذاهب الأخرى من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة على أن الأصل في التسعير هو الحرمة، واستدلوا بما روي عن أنس بن مالك قال: "غلا السعر على عهد رسول الله(k) فقالوا: يا رسول الله قد غلا السعر فسعِّر لنا، فقال: "أنّ الله هو المسعر القابظ الباسط الرازق، إنّي لأرجو أن ألقى ربّي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مالٍ".
وقد علّق الشيخ المنتظري(ت1431هـ) على هذه الروايات بأنّ السعر هنا السعر العادي الطبيعي المتعارف، أي: معلول المسألة العرض والطلب والظروف الطبيعية والاجتماعية، وأنّ قول الرسول(k) وأقوال الأئمة() في أمر السعر لا يراد بها إلاّ هذا السعر الطبيعي، فكان القوم أرادوا من النبي(k) التصرف في هذا السعر والتسعير بما دون المتعارف، فغضب (k) عليهم لذلك.
ويمكن تقسيم السعر إلى قسمين: الطبيعي المتعارف والسعر غير الطبيعي أو المجحف، الذي ينشأ من الأوضاع غير الطبيعية، كاحتكار البضائع والسلع وعرضها في الظروف الصعبة وبالتالي تكون الاسعار غير طبيعية وتؤدي إلى الاجحاف بالناس واختلال النظام العام، وفي هذه الحالة صرّح جمع من فقهاء الإمامية بأنّ للسلطان أن يسعر بما يراه من المصلحة، ولا يسعر بما يؤدي إلى خسارة صاحب البضاعة.
وقال بعضهم الآخر أنّ للحاكم أو السلطان يسعر على البائع المحتكر للبضاعة إذا أجحف في الثمن الذي يؤدي إلى الإضرار المنفي، وقال الشهيد الثاني(ت965هـ): "الأقوى أنّه مع الإجحاف حيث يؤمر به لا يسعر عليه أيضا، بل يؤمر بالنزول عن المجحف، وإنْ كان في معنى التسعير، إلاّ أنّه لا يحصر في قدر خاص"، وقال في المسالك: "إلاّ مع الإجحاف، وإلا لانتفت فائدة الإجبار، إذ يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله، أو يضرّ بحال الناس، والفرض دفع الضرر".
وقال الشيخ النجفي(ت1266هـ): "نعم لا يبعد ردّه مع الإجحاف كما عن ابن حمزة والفاضل في المختلف، وثاني الشهيدين وغيرهم لنفي الضرر والضرار، ولأنّه لولا ذلك لانتفت فائدة الإجبار".
ويقول الشيخ محمد جواد مغنية(ت1400هـ): "ونحن لا نشكّ أنّ ولاية الحاكم العادل على حماية المصالح العامة، ورعايتها تشمل التسعير بما فيه مصلحة الجميع البائع والمستهلك، تماما كما تشمل إجبار المحتكر على العرض".
ويتضح المنع من الإجحاف من قبل الحاكم ووضوحه في كلام الإمام علي بن أبي طالب() في كتابه إلى مالك الأشتر، إذ قال: "... وليكن البيع سمحا بموازين عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع".
والذي يبدو أنّ مبدأ حفظ النظام العام في الشريعة المقدسة موجبا لتدخل الحاكم في التسعير عندما يشعر بغلاء المواد لدفع الضرر والحرج عن عامة الناس، ويراعى التسعير العادل الذي يرعى حقّ الطرفين (البائع والمشتري).
ثالثاً: تلقي الركبان:
1- التلقي في اللغة:
هو الاستقبال، وتلقاه أي استقبله، وفلان يتلقى فلاناً أي يستقبله، وكل شيء استقبل شيئاً او صادفه فقد لقيه.
أما الركبان، فهو راكبوا الدابة.
وتلقي الركبان: هو أن يستقبل الحضري البدوي قبل وصوله إلى البلد أو السوق يشتري منه بضاعته، وربما يخبره بكساد ما معه كذبًا، يشتري منه بضاعته بالوكس وأقل من ثمن المثل، أي بقيمة قليلة.
2- تلقي الركبان في الاصطلاح:
وهو مشابه للمعنى اللغوي، فعرّفه الشيخ الطوسي(ت460هـ)، هو: "أن يستقبل الإنسان الأمتعة والمتاجر على اختلاف أجناسها خارج البلد، فيشتريها من أربابها، ولا يعلمون هم بسعر البلد".
أما عن حكم تلقي الركبان، فهناك مرجوحية في هذا الحكم في كونه محرماً أو مكروهاً، فقد ذهب أكثر الفقهاء –بل هو ما عليه المشهور- إلى الكراهة، وادعي عليه الإجماع للأصل.، وهناك جملة من الروايات الناهية عن ذلك، والتي حملوها على الكراهة؛ لأنّ النهي فيها أعم من التحريم، ومنها رواية منهال القصاب، عن أبي عبد الله() قال: "لا تلقَ ولا تشترِ ما تُلقي ولا تأكل منه".
وهذا الرأي عليه باقي جمهور فقهاء المذاهب الأخرى، واستدلوا عليه بروايات عن الرسول الأعظم(k)، منها: قال رسول الله (k): (لا تستقبلوا السوق ولا يتلق بعضكم لبعض)، وعنه (k): (لا تتلقوا الركبان للبيع)، وذهب فريق من علمائنا إلى القول بالتحريم، وذلك حملاً بظاهر الروايات الناهية عن ذلك، وكما في رواية منهال القصاب المتقدمة، وإن النهي في هذه الرواية يدل على الحرمة.
3- شروط تحقق حكم التلقي:
فقد ذكر العلماء في حكم التلقي للركبان عدة شروط، منها:
أ-أن لا تزيد مسافة التلقي عن أربعة فراسخ فما دون (أي: ما يعادل 19 كم2)، وهو المشهور عند علمائنا، فإن زاد على ذلك كان تجارة وجَلَباً ولم يكن تلقياً. وذلك لرواية منهال القصاب، قال: قال أبو عبد الله (): "لا تلقَ، فإن رسول الله (k) نهى عن التلقي"، قلت وما حد التلقي؟، قال: "دون غدوة او روحة"، قلت: وكم الغدوة والروحة؟، قال: "أربعة فراسخ".
ب-الخروج بقصد التلقي، بمعنى أنه لو خرج ولم يقصد التلقي، فاتفق الركب واشترى منهم فإنه يُكره ولم يحرم؛ لأنَّ استقبال وتلقي الركبان ليس بمنهي عنه إجماعاً، مع عدم القصد إلى البيع والشراء، وإن المتبادر عنه الخروج لقصد المعاملة معهم.
ت-تحقق مسمى الخروج من البلد، بمعنى لو تلقى الركب في أول وصوله البلد، لم يثبت الحكم حتى لو لم يعرف السعر، وذلك لعدم صدق التلقي عليه عرفاً.
ث-جهل الركب بسعر البلد فيما يبيعون عليهم ويشترون، منهم، فإنّه لو علم بهما –أو بأحدهما- لم يثبت الحكم فيه، وإليه يشير التعليل في رواية عروة بن عبد الله، عن ابي جعفر()، قال: "قال رسول الله (k): لا يتلقى أحدكم تجارة خارجاً من المصر ولا يبيع حاضر لبادٍ والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض".
ج-ان يكون الخروج بقصد المعاملة معهم، أي: بالشراء منهم أو البيع لهم كي يشمله حكم التلقي، أما إذا خرج لغير ذلك ولو في بعض المعاملات كالإجارة لم يثبت الحكم لعدم صدق التلقي.
رابعاً: الغش والتدليس:
من الظواهر والسلوكيات التي لا يقرها الشرع الإسلامي لما فيها من اختلال النظام العام ظاهرتا الغش والتدليس.
1- الغش في اللغة والاصطلاح:
أ-الغش في اللغة: من غشه يغشه غِشاً –بالكسر- وهو نقيض النصح، والاسم غِشٍّ، واغتشه واستغشه ضد انتصحه واستنصحه، ويقال غشّ صاحبه: إذا زيّن له غير المصلحة، وأظهر له غير ما أضمر، ولبن (مغشوش)، أي: مخلوط بالماء.
ب- الغش في الاصطلاح، ورد عند الفقهاء إنّه لا يخرج عن المعنى اللغوي، وورد الغش بما يخفى، أي أنه:"مزج شيء من غير جنس المبيع ليستر به عيبه".
كذلك هو إخفاء الرديء في الجيد، وأيضاً خلط شيء قليل الثمن بشيء غالي الثمن، وأيضاً خلط الخسيس في النفيس.
2- التدليس في اللغة والاصطلاح:
أ-التدليس في اللغة: فهو الستر والإخفاء والتكتم، وهو مصدر (دَلَسَ)، وهو بالتحريك بمعنى السواد والظلمة، ومن الدَلْس –بتسكين اللام- بمعنى الخيانة والخدعة، ومن الدُلسة –بضم الدال- بمعنى الخدعة والظلمة أيضاً، فالتدليس إخفاء العيب، فيقال دلس في البيع إذا لم يبين عيبه وكتم عيب السلعة عن المشتري وأخفاه.
ب- التدليس في الاصطلاح: لا يخرج عن المعنى اللغوي، ولكنه يُطلق على الأعم من كتمان العيب أو إظهار صفة الكمال.
قال الشهيد الثاني(ت965هـ): "والمراد بالتدليس السكوت عن العيب الخارج عن الخلقة مع العلم به، او دعوى صفة كمال مع عدمها"، وقال الشيخ النجفي(ت1266هـ) بأنه: "...السكوت عن العيب مع العلم به، فضلاً عن الأخبار بضده...".
3- حكم الغش والتدليس:
الغش أعم من التدليس، إذ التدليس خاص بكتمان العيب، وهو من أقسام الغش، فتشمله عموماته، والغش والتدليس محرّمان، وهما موضع اتفاق عند جميع المذاهب الإسلامية، ولا إشكال بينهم في ذلك، واستدلوا لهما بالنصوص والأخبار الكثيرة، ومنها: عن أبي جعفر الباقر() قال: "مرَّ النبي(k) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيباً، وسأله عن سعره، فأوحى الله(سبحانه وتعالى) أن يدس يديه في الطعام، ففعل، فأخرج طعاماً رديئاً، فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشاً للمسلمين".
وكذلك في رواية السكوني، عن أبي عبد الله() قال: "نهى رسول الله (k) عن أن يشاب اللبن بالماء للبيع"، وأيضاً عن أبي عبد الله () قال: "قال رسول الله (k) لرجل يبيع التمر: يا فلان، أما علمت أنه ليس من المسلمين من غشهم؟!"، وعن الإمام الرضا()، عن آبائه() قال: "قال رسول الله (k) ليس منا من غش مسلماً أو ضرّه او ماكره".
وعلى الإنسان المسلم ان يبتعد عن بيع البضاعة او السلعة، والتي فيها عيب او غش او تدليس، وإذا كان فيها شيء من هذه الأشياء فعليه ان يبيّنه للمشتري، فقد روي عن النبي (k) قال: (من باع عيباً لم يبيّنه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه)، وفي رواية أخرى عنه (k): (المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم ان يغيّب ما بسلعته عن أخيه إن علم بها تركها).
وعلى المسلم ان يبتعد عن هذه المظاهر والصفات الذميمة؛ لأنّها تُخرجه عن مبادئ الإسلام الأصيلة، وتؤدي إلى اختلال نظام المعاش وتسود في المجتمع الخديعة والخيانة في المعاملات وبالتالي تؤدي إلى اختلال النظام العام بأسره، وكذلك على الإنسان المسلم ان يبتعد عن البيع في المواقع المظلمة التي لا تظهر بها البضائع والسلع ظهورًا بيّناً وواضحاً، وذلك خوفاً من الغش، وقال هشام بن الحكم: كنت أبيع السابري في الظلال، فمرَّ بي الإمام الكاظم () فقال: "يا هشام إن البيع في الظلال غش، والغش لا يحل".
خامساً: البخس والتطفيف:
إن الإسلام حريص دائماً على تحقيق مصالح العباد جميعهم ودفع الضرر عنهم وينهى عن مثل هذه الظواهر السلبية لما فيها من ضياع حقوق الناس واختلال النظام العام في المجتمع الإسلامي.
1- البخس والتطفيف في اللغة واصطلاح:
أ-البخس والتطفيف في اللغة:
1- البخس: هو النقص على سبيل الظلم، ومنه قوله تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ. وقال سبحانه وتعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وقال عز وجل: وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، والبخس والباخس:الشيء الطفيف الناقص.
2- التطفيف: التقليل من الطفيف، وهو: الشيء القليل النزر، والتطفيف هو البخس او النقص يخون به صاحبه في كيل او وزن، ومنه قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.
والتطفيف والبخس يتقاربان في المعنى، ويفترقان في الاختصاص، فاختصاص التطفيف بنقصان أمثال الكيل والوزن، وأما البخس فهو أعم من ذلك لأن متعلق النجس قد يكون مالاً وقد يكون حقاً، والمال قد يكون مكيلاً، او معدودًا، أو موزوناً.
ب- البخس والتطفيف في الاصطلاح: وقد استعملهما الفقهاء في نفس معناهما اللغوي، إلا أن بعضهم خص التطفيف في الكيل والوزن فقط، قال الفقيه قطب الدين الراوندي(ت573هـ): و"التطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل او الوزن".
والبعض يرى أن ذكر الكيل والوزن في كتب اللغة والآية الكريمة، إنّما هو من جهة الغلبة، او من باب إطلاق اللفظ الموضوع للطبيعة عن صنفٍ منها.
ويقول الشيخ الأنصاري(ت1281هـ) أن البخس: " في العد والذرع يلحق به حكماً، وان خرج عن موضوعه".
أما السيد الخوئي(ت1413هـ) فقال: "ان التطفيف والنجس مطلق التقليل والنقص على سبيل الخيانة، والظلم في إيفاء الحق واستيفائه".
2-حكم البخس والتطفيف:
لا إشكال، في حرمة البخس والتطفيف، عند المسلمين قاطبة، بل عده كثير من الفقهاء أنه من الكبائر، قال السيد الجزائري(ت1173هـ): "البخس في الكيل والوزن: نقصهما وهو التطفيف وقد كرر الله –عز وجل- النهي عنه، والتوعيد الشديد عليه في القرآن، وأهلك به أمة من الأولين، وهو من أمهات المعاصي لاشتماله على الكذب والسرقة والخيانة، وأضرّها بالنظام؛ وذلك لأنّ معايش الخلق لا تنتظم بينهم إلاّ بالمعاملة، والمعاملة لا تنتظم إلا بالقسطاس المستقيم".
لذلك ذكر بعض الفقهاء انه يستحب ان يقبض التاجر لنفسه ناقصًا ويعطي راجحاً حتى لا يقع في البخس والتطفيف.
واستدلوا على حرمتهما بالأدلة الأربعة:
أما الكتاب الكريم فهناك آيات مباركة كثيرة منها: قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وقال عز من قائل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، وهنا أشار القرآن الكريم إلى أبعاد المطففين وطردهم من رحمة الله سبحانه وتعالى، قال العلامة الطباطبائي(ت1402هـ): "الإشارة إلى المطففين، بأولئك الموضوعة للإشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله".
وأما السنة الشريفة فهناك روايات كثيرة ومستفيضة في ذلك منها: معتبرة حمران عن أبي عبد الله() في حديث طويل يذكر فيه جملة من الأمور المحرمة وقال فيه: "...ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان...".
وما جاء في رسالة الإمام الرضا () إلى المأمون وقد عدّ فيه، ومنها: "...البخس في المكيال والميزان...".
وما رواه سعد بن سعد عن أبي الحسن() قال: "سألته عن قوم يصغّرون القفزان(*) يبيعون بها، قال: أُولئك الذين يبخسون الناس أشياءهم".
وأما الإجماع فقد أدّعي قيامه على حرمة البخس والتطفيف وكذلك العقل، فإنَّ تنقيص حق الناس وعدم الوفاء به ظلم، وقد استقل العقل بحرمته.
والذي يبدو أن سلب أموال الناس الناشيء من البخس او التطفيف هو بمثابة سرقة خفية غير واضحة، وشيوع هذه الظاهرة السلبية في المجتمع تؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس بعضهم البعض.
ومن ثمَّ تؤدي إلى اختلال نظام المعاش، وكثرة الحقد والعداوة بين أفراد المجتمع، وقد أشارت بعض الروايات إلى هذه الآثار التي تتولد من البخس والتطفيف، ومنها رواية أبان عن أبي جعفر () قال: "قال رسول الله : خمس أن ادركتموهن فتعوذوا بالله منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في اسلافهم الذي مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان...". وأيضاً رواية أبي حمزة عن أبي جعفر () أنه قال: وجدنا في كتاب رسول الله (k): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طُفّف الميزان والمكيال أخذهم الله بالسنين والنقص...".
سادساً: النجش:
1- النجش في اللغة: النون والجيم والشين أصلٌ صحيح، يدل على الاستثارة والإثارة، والنجش –بسكون الجيم- مصدر، وبفتحها اسم مصدر، وهو ان تزايد في المبيع بثمن كثير، وليس القصد شراؤه، بل ليغرّ غيره فيوقعه فيه، فالناجش يغري المشتري بمدحه حتى يزيد الثمن.
2-النجش في اصطلاح الفقهاء: فإنّه لا يخرج عن المعنى اللغوي، فهو: "ان يُزيد الرجل في ثمن سلعة لا يريد شراءها ليقتدي به المشترون بمواطأة البائع".
3- حكم النجش:
إنَّ حكم النجش: هو الحرمة، والنجش ليس من أخلاق الدين، وهو من الصفات الذميمة، والتي تؤدي بالإنسان إلى الابتعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى، والنجش عمل قبيح ويدل على قبحه من خلال العقل، وذلك لأنّه غش وتلبيس وإضرار، ومن أهم الروايات التي تدل على تحريمه هي:
1-عن أبي عبد الله أنه قال: "قال رسول الله (k): الواشمة والمتوشمة والناجش والمنجوش ملعنون على لسان محمد(k)".
2- وروي عن رسول الله (k): "ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله".
3-وأيضاً عن القاسم بن سلام، بإسناد متصل إلى النبي(k) أنه قال: "لا تناجشوا ولا تدابروا".
وهذه الروايات واضحة الدلالة على حرمة النجش، وإن الشريعة الإسلامية التي تحث أحكامها على تحقيق مصالح العباد، وتريد أن يكون التعامل فيما بين الناس على أساس الصدق والمحبة والتعاون والابتعاد عن الظلم وزرع الاحقاد في النفوس؛ لأن النجش يؤدي إلى اخلال نظام المجتمع، وذلك بالخروج عن قواعد البيع التي رسمتها الشريعة الإسلامية.
المطلب الرابع: الحسبة ودورها في حفظ النظام:
أولاً: مفهوم الحِسبة:
1- الحِسبة في اللغة: - بكسر الحاء: اسم من الاحتساب، مصدر احتسب يحتسب احتساباً وحسبة، بمعنى ادخار الأمر، والاعتدال بالشيء، فيقال فلان حسن الحِسبة في الأمر، أي حَسِن التدبير. وكذلك الحسبة تعني الإنكار، ويقال احتسب فلان على فلان: أنكر عليه قبيح عمله، ومنه المحتسب، يقال: هو محتسب البلد، وهو منصب كان يتلاوه في الدول الإسلامية رئيس يُشرف على الشؤون العامة، من مراقبة الأسعار ورعاية الآداب العامة.
2- الحسبة في الاصطلاح:
هناك عدة تعريفات للحسبة، منها: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهى عن المنكر إذا أظهر فعله"، وهي: "أمر بمعروف، ونهيّ عن منكر، وإصلاح بين الناس"، أو: "وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وكان رسول الله (k) بنفسه الشريفة يتولى أمر الحسبة، ويتجول في الأسواق بين الناس، وينظّم لهم سوقهم وعلاقاتهم وحياتهم، ويُثني ويوجّه ويقوم الأمر، فالحسبة منهج تطبيقي، وفي ذات يوم مرّ النبي(k) على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟)، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ مَن غش فليس مني).
وفي عهد أمير المؤمنين()، أنه كان يتجول يومياً في الأسواق ويرشد الناس بالتمسك بالآداب والأحكام الإسلامية، وكان يقول:"لا يقعدنّ في السوق إلاّ من يعقل الشراء والبيع".
وهذا كله من أجل حفظ المجتمع من النفوس المريضة وأهل الأهواء والشهوات والرغبات المخالفة لتعاليم الإسلام الخالدة، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ...، وقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ، ولا شك في ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موارد الحسبة.
وروي عن الإمام الباقر() في حديث طويل قوله: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وتُرد المظالم وتُعمَر الأرض ويُنتصف من الأعداء ويستقيم الأمر..."، ومن شروط المحتسب أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً، وكذلك العلم بالأحكام الشرعية والعمل بها، وكذلك الحرية والعدالة، وان تكون له القدرة على ذلك.
ثانياً: الأدلة على الحسبة:
واستدل لها بالأدلة الأربعة، ومبدأ حفظ النظام، قال السيد محمد بحر العلوم(ت1326هـ): "وثبوتها في مواردها مدلول عليه بالكتاب عموماً، نحو قوله تعالى:... وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وقوله: ...مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، بعد معلومية كونه إحساناً، والسنة المستفيضة عموماً كقوله (k):(عونك الضعيف من أفضل الصدقة)، ونحوه: وخصوصاً، كما ستعرف، والاجماع بقسميه –محصلاً ومنقولاً- فوق حد الاستفاضة، بل وبضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام"، فالعقل حاكم بلزوم الإحسان إلى من يحتاج إليه فتكون الأمور الحسبيه من مصاديق الإحسان، لأن بها تحقق مصالح المجتمع وتراعى منافعه ويستقيم نظامه، يقول الشيخ الصفار:"وأما العقل فيدل على وجوب التصدي لها؛ لأنّها توجب جعل الأمور في نصابها، فيقوم النظام، ويدفع الهرج والمرج وغيره من المفاسد العظيمة".
فالحسبة يقوم بها نظام المسلمين ومواردها كثيرة ومنها تولي أمور اليتامى والمجانين والافتاء وإجراء الحدود والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ويقول السيد الخميني(ت1409هـ): "إنّ حفظ النظام، وسد ثغور المسلمين، وحفظ شبابهم من الانحراف عن الإسلام، ومنع التبليغ المضاد للإسلام ونحوها من أوضح الحسبيات".
وقال الشيخ محمد مهدي شمس الدين(ت1421هـ) عن وجوب القيام بالأمور الحسبية: "أما في مقامنا فالمراد به –غالباً- الأمور التي يتوقف عليها انتظام حياة الجماعة والمجتمع، بحيث يعم أثرها إذا وجدت، ويعم ضرر فقدانها، ولم يتوجه التكليف بها إلى شخص معين أو جماعة معينة، وإنّما كلف بالقيام بها كل قادر عليها، مؤهل لها من الأمة، ولو فقد القادرون والمؤهلون لوجب أعدادهم، وتأهيلهم، من باب الحسبة، ومن باب وجوب حفظ النظام".
ثالثا: وظائف المحتسب وما يقابلها من وظائف الوزارات في الوقت المعاصر:
1- الإشراف والمراقبة على الأسواق والأبنية والمحلات، والمحافظة على البيئة، واختيار الأماكن الملائمة لقيام السوق، وأن تكون هناك مجانسة بين المحلات، وذلك لعدم حصول الأضرار، وهذا ما تقوم به الآن وزارة البلديات.
2- مراقبة المكاييل والموازين والمقاييس المستعملة في الأسواق، وضبطها وفحصها باستمرار، حمايةً للمستهلك من أصحاب النفوس الضعيفة، وهذا يدخل في الوقت الحاضر من ضمن صلاحيات الأمن الاقتصادي.
3- أخذ الحق للمظلوم الضعيف والتثقيف على الالتزام بالشريعة الإسلامية، فهي قانون متكامل لكل زمان ومكان، ورعاية حقوق العمال وأرباب العمل.
4- الإشراف على المعاملات التجارية لمنع العقود والمعاملات المحرّمة، كالربا والغش والتدليس والتغرير بالمنتجين القادمين من خارج السوق، والإجارة الفاسدة، ومنع تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي، لكي لا تذهب سلعهم وبضائعهم بأسعار زهيدة وقليلة، وحتى يشجعوا على استيراد السلع إلى المسلمين لتحقيق الرفاه والعيش الرغيد لهم.
5- مراقبة الأسعار ومنع ارتفاعها غير المشروع، وإن الأصل عدم التسعير، ولكن إذا وُجد الجشع والطمع والاستغلال الفاحش عن طريق الاحتكار وابتعاد السوق عن المنافسة الشريفة، فهنا المحتسب يسعّر تحقيقاً للعدالة ومحاربة الظلم، وهذا يدخل –اليوم- من ضمن شؤون وزارة التجارة، وأيضاً الأمن الاقتصادي.
6- مراقبة شؤون النقد، وذلك بمنع التحايل والغش والتزييف في العملات، بعد تحديدها وتعيينها، وهذه المهمة تدخل من ضمن شؤون وزارة المالية والبنك المركزي.
7- تأكيد النظافة –بصورة عامة- وخاصة تكون على القصابين والخبازين، وكذلك المراقبة والإشراف على اللحوم وذبح الحيوانات وإعطائهم التعليمات الصحية، وكذلك مراقبة أصحاب الأفران والمطاعم، تحرزاً من إصابة الناس بالأمراض، وهذا يدخل من ضمن شؤون وزارة الصحة والتجارة والبيئة، وأيضاً الأمن الاقتصادي.
8- مراقبة السماسرة والدلالين، وكذلك تجار الغلات من دون احتكارها او التلاعب في الأسعار، وهو من مهام وزارة التجارة.
9- مراقبة أنواع البضائع المستوردة، والتي تدخل البلاد، وأيضاً كيفية خزنها وطرحها في السوق، وهذا يدخل –اليوم- من ضمن شؤون وزارة التجارة.
10- مراقبة المشاغل والمهن وأصحاب الحِرف، كالصاغة والحدادين والنحّاسين والصبّاغين، ومراقبة –أيضاً- البزازين وبائعي الألبسة، وكذا الخياطين وصنّاع الثياب.
وقد ورد أن الإمام علي بن أبي طالب() وقف على خياط، فقال له: "يا خياط ثكلتك الثواكل، صلب الخيوط، ودقّق الدروز، وقارب الغرز، فإني سمعت رسول الله (k) يقول: يحشر الله الخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه، واحذر السقاطات، صاحب الثوب أحق بها، ولا تتخذ بها الأيادي تطلب المكافأة".
وهذا يدل على الرقابة العملية من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب()، فكان () يرشد الضال ويعين الضعيف ويعين الحمالة على الحمولة، ويطوف في أسواق الكوفة جميعها كل يوم بكرة سوقاً سوقاً، ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السببية، فيعظ الناس ويذكّرهم بما يجب عليهم، ويوضّح لهم الضوابط الأخلاقية التي يفرضها الشرع المقدس على المسلم في تعاملات السوق اليومية، فكان يقول: "يا معشر التجار، إتّقوا الله عز وجل"، فإذا سمعوا صوته، ألقوا ما في أيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم وسمعوا بآذانهم، فيقول: "قدّموا الإستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الزنا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشيائهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين...". وفي بعض المصادر: فكانوا إذا نظروا إليه قد أقبل إليهم، أمسكوا أيديهم وأصغوا إليه بآذانهم، ورمقوه بأعينهم، حتى يفرغ() من كلامه، فإذا فرغ قالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين".
الخاتمة والنتائج
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد الوصول إلى نهاية وإنجاز هذه الأطروحة، أُلقي عصا الترحال بهذا القدر من مباحثها وفصولها، وأوجز في هذه الخاتمة الأمور الأساس التي كشفها البحث، وأهم النتائج والحقائق التي توصلتُ إليها في هذه الدراسة، وهي كالآتي:
1-المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية تمثل روح الإسلام وجوهره، وغاية الدين وهدفه، فهي بمثابة الجامع بين أصوله الاعتقادية وقوانينه الأخلاقية وفروعه العملية؛ لذلك فهي تتسم بالثبات، وهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة.
2-المبادئ العامة للشريعة الإسلامية لها أثر واضح في عملية الاستنباط عند فقهاء الإمامية؛ ولابد لمن أراد الوصول إلى الأحكام الإلهية بالرجوع إلى هذه المبادئ؛ لأنها أساس مهم بُني عليه صرح الدين الإسلامي.
3-إن مبادئ الشريعة هي المعاني الحقيقية التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في واقع الحياة؛ فهي تمثل الإطار العام للشريعة والتصور الكامل للإسلام؛ وكذلك الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام.
4- يُعدّ مبدأ الاجتهاد من أوضح معالم الدين الإسلامي؛ فهو الأداة التي تبرز عموم الشريعة ودوامها وشمولها وصلاحها لكل زمان ومكان، ومن ثمَّ لابد من أن يكون من لوازم الاجتهاد الانضباط بمبادئ الشريعة والقدرة على مواكبة تطور الحياة، فضلاً عن الأحاطة بمتطلبات العصر المستجدة.
5- إن للمبادئ أثراً مهماً في عملية الاستنباط وذلك من خلال فهم بعض النصوص وتوجيهها، وفهم الأحكام الشرعية، وكذلك لها أثرٌ كبير في صياغة وتوجيه الفتوى، فضلاً عن مسائل التعارض والترجيح وغيرها.
6-إن أثر المبادئ العامة في تفسير وفهم النصوص، وأيضاً في ترشيد وتوجيه الاجتهاد، وتقويم الفتوى الفقهية والأدلة الشرعية، سوف يجعل من الفقه الإسلامي مواكب لمستجدات العصر المتطورة، ومن ثمَّ الحفاظ على مرونة الشريعة الإسلامية واستيعابها لكل ما يستجد في دنيا الناس.
7- إن مبدأ التيسير في الدين الإسلامي يعدّ من أهم ركائز الشريعة المقدسة؛ وهذا المبدأ متأطر ومرتكز على ثلاثة أنواع من القواعد التي لها الدور الكبير في عملية الاستنباط، وهي تمثل التعبير الحقيقي عن مبدأ التيسير، فالنوع الأول: هي قواعد التيسير الأصلي والمتمثلة بقاعدة لا ضرر وقاعدة أصالة الحل، والفرع الثاني: قواعد التيسير الخاصة بالحالات الطارئة والمتمثلة بقاعدة رفع الحرج والمشقة وقاعدة الاضطرار، وأما النوع الثالث: متمثل بقواعد التيسير المتدارك كما في قاعدة التوبة وقاعدة الجب.
8- يعدّ مبدأ حفظ النظام من المبادئ العظيمة، وقد ظهر هذا المبدأ مع خلق الإنسان؛ وذلك لبقاء النوع الإنساني واستمرار الحياة البشرية. فحفظ النظام أول قضية تبانا عليها العقلاء وتفرعت عليها المبادئ الأخرى، مثل: العدالة، والمساواة، والحقوق.
وأخيرًا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به في الدنيا والآخرة، ويجعله طريقاً إلى مغفرته ومرضاته ورضوانه.
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين"
"والحمد لله رب العالمين"