المبحث الأوّل : تنبيهات الاستصحاب الأخرى
وفيها مطالب ثمانية :
الأوّل : اعتبار فعليّة اليقين والشكّ في الاستصحاب .
الثاني : جريان الاستصحاب في مؤدّى الطرق والأمارات .
الثالث : جريان الاستصحاب في الأمور التدريجيّة .
الرابع : استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى الشرائع السابقة .
الخامس: كفاية وجود الأثر بقاءً .
السادس : استصحاب الأمور الاعتقاديّة .
السابع : استصحاب حكم المخصَّص .
الثامن : المراد من الشكّ في أخبار الاستصحاب .
الغرض من هذا المطلب بيان اعتبار فعليّة اليقين والشكِّ اللذين هما ركنا الاستصحاب، وعدم كفاية وجودهما التقديريّ فيه، فهذا المطلب متكفّلٌٌ لأصلٍ وهو اعتبار فعليّة اليقين والشكِّ .
ولا إشكال في أنَّ مقتضى أدلّة الاستصحاب هو اعتبار اليقين والشكِّ الفعليّ؛ لأنَّ كلَّ عنوان يؤخذ في موضوع الحكم يكون ظاهراً في أنّه مأخوذٌ بوجوده الفعليّ لا التقديريّ، فلو دلَّ دليلٌ على أنَّ الخمر حرامٌ كان مفاده أنَّ الحرمة ثابتةٌ للخمر الفعليّ، ولا يكون مفاده حرمة شيءٍ لا يكون خمراً بالفعل، وإنْ كان خمراً على تقدير الغليان، وكذا لو دلَّ دليلٌ على وجوب تقليد المجتهد – مثلاً – فمعناه وجوب تقليد المجتهد بالفعل لا تقليد مَنْ يكون له استعدادٌ للاجتهاد بحيث لو تعلّم صار مجتهداً.
وعليه فلابدَّ في جريان الاستصحاب من اليقين والشكِّ الفعليّ ولا ينفع التقديريّ؛ إذ لو أُجري الاستصحاب مع الشكِّ التقديريّ لكان جارياً مع عدم الشكِّ وهو خلفٌ؛ لكون الشكّ موضوعاً للاستصحاب ولا يجري بدونه؛ لأنَّ الشكَّ متقوّمٌ بالالتفات ولا وجود له مع الغفلة .
فالنتيجة: أنَّ الاستصحاب وظيفة الشاكِّ، والشكُّ المقدّر لا وجود له.
وبعبارة أخرى: إنَّ الشكَّ على نحوين:
الأوّل: الشكّ الفعليّ: ومعناه فعليّ التردّد في ارتفاع الحدث وتبدّل استقرار النفس ووضوح الرؤية إلى التزلزل وتشوّش الرؤية، بحيث يكون التردّد والشكُّ حاضراً في نفسه.
الثاني: الشكّ التقديريّ: وهو الشكّ الذي يجتمع مع الغفلة والذهول عن مرتبة رؤيته للحدث، ولو قُدّر له أنْ يلتفت لشكّ في بقاء الحدث ولكن لذهوله وعدم التفاته لا يحضر الشكُّ في نفسه.
أمّا النحو الأوّل – أي الشكّ الفعليّ – فهو القدر المتيقّن من موضوع الاستصحاب؛ إذ أنّه الفرد الجليّ والواضح من أفراد الشكِّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب؛ وذلك لظهور الشكِّ في الفعليّة.
وأمّا النحو الثاني – أي الشكّ التقديريّ – فوقع الكلام في موضوعيّته للاستصحاب أو أنَّ موضوع الاستصحاب هو خصوص الشكِّ الفعليّ .
وبكلمة: اتّفقت كلمات الأصوليّين على اعتبار اليقين والشكِّ الفعليّين في موضوع الاستصحاب، ووقع الكلام والنقاش في أنَّ موضوع الاستصحاب هل يشمل اليقين والشكّ التقديريّين مضافاً إلى الفعليّين أو أنّه مختصٌّ باليقين والشكِّ الفعليّين دون التقديريّين ؟.
والمعروف بين الأصوليّين اعتبار كونهما فعليّين؛ فإنَّ متعلّق اليقين هو الحدوث ومتعلّق الشكِّ هو البقاء، ولابدَّ من كونهما فعليّين ليصدق قوله (): ((... لا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) ، وهذا شأنْ القضايا الحقيقيّة المأخوذة في أحكام الشارع، فهي لا تصدق إلاَّ بعد تحقّق موضوعها خارجاً، فإنَّ قولنا: (العصير العنبيّ إذا غلا ينجس)، و (الخمر مسكر)، و (العالم يجب تقليده)، لا يترتّب أحكام هذه القضايا إلاَّ بعد فرض الغليان والإسكار وثبوت العالميّة، وأمّا قبل تحقّق مواضيع تلك الأحكام فلا يصحّ ترتّبها، فلا يقال: المشتغل بدرسه يُقلَّد؛ لأنّه يؤول إلى العالميّة، وهكذا بالنسبة للاستصحاب؛ فإنَّ قوله (): ((... لا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) يتوقّف على أنْ يكون كلٌّ من اليقين والشكِّ متحقّقين (فعليّين) في الخارج حتّى تنطبق عليه ما قاله ()؛ إذ ذلك حكمٌ منه قد أنشأه بنحو القضيّة الحقيقيّة، فلو كان اليقين أو الشكُّ تقديريّين لم يصحّ جريان الاستصحاب؛ لعدم تحقّق شرطه .
الأثر الفقهيّ المترتّب على اعتبار اليقين والشكّ الفعليّ في جريان الاستصحاب
يتفرّع على اعتبار اليقين والشكِّ الفعليّ في جريان الاستصحاب موردان:
الأوّل: أنّه لو تيقّن بالحدث ثمَّ غفل عن الحدث وصلّى، وبعد الصلاة شكَّ أنّه تطهّر قبل الصلاة أو لا ؟ حكم المشهور بصحّة صلاته؛ لأنّه كان غافلاً قبل الصلاة ولم يكن له شكٌّ فعليّ حتّى تكون صلاته واقعةً مع الحدث الاستصحابيّ فيحكم بصحّتها؛ لقاعدة الفراغ التي يكون موردها الشكّ الفعليّ الحادث بعد الفراغ من العمل كما في المقام؛ إذ أنَّ الشكَّ الفعليّ قد حدث بعد الفراغ من الصلاة.
فالنتيجة: أنّه لولا تقدّم قاعدة الفراغ – التي هي أمارة – المقتضية لصحّة الصلاة على استصحاب الحدث المقتضي لوقوع الصلاة مع الحدث لاستلزم ذلك الحكم بفساد الصلاة ووقوعها مع الحدث.
الثاني: ما لو التفت قبل الصلاة وشكَّ ثمَّ عرضت له الغفلة وصلّى غافلاً بطلت صلاته؛ لأنّه حينما التفت قبل الصلاة وشكَّ جرى استصحاب الحدث المتيقّن سابقاً وصار محكوماً شرعاً بمقتضى الاستصحاب، فلا تنفعه قاعدة الفراغ؛ لأنَّ موردها الشكّ الحادث بعد الصلاة، والمفروض أنّه موجودٌ قبلها فعلاً .
وبعبارة أخرى: يترتّب على أنَّ موضوع الاستصحاب هو مطلق الشكِّ ولو كان تقديريّاً أنَّ المكلّف مسؤولٌ عن ترتيب الآثار الشرعيّة للاستصحاب الذي كان جارياً حين ذهوله وغفلته. فلو فرضنا أنَّ المكلّف صلّى غافلاً عن شكّه في إيقاع الطهارة وبعد أنْ فرغ من الصلاة علم أنّه لو كان ملتفتاً أثناء الصلاة أو قبلها لشكّ في إيقاع الطهارة، ونتيجة ذلك وجوب إعادة الصلاة؛ لجريان الاستصحاب في حقّه أثناء الصلاة أو قبل الدخول فيها.
وأمّا بناءً على الرأي المعروف بين الأصوليّين من أنَّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ الفعليّ ففيه تفصيل:
أ – ما إذا كان المكلّف متوجّهاً إلى شكّه. ففي هذه الحالة لزمه ترتيب آثار الشكِّ، ومع عدم ترتيبها يحكم على عمله العباديّ المشروط بالطهارة – كصلاة الظهر مثلاً – بالفساد.
ب – ما إذا كان ذاهلاً أثناء عمله عن شكّه في إتيان الطهارة، وبعد فراغه من العمل توجّه إلى أنّه لو كان ملتفتاً لشكّ في إتيان الطهارة. وفي هذه الحالة حكم المشهور بجريان قاعدة الفراغ لنفي الفساد عن العمل (صلاة الظهر)؛ إذ أنَّ موضوع الاستصحاب غير متحقّق حين إتيان العمل. نعم موضوع الاستصحاب – وهو الشكّ الفعليّ – قد تحقّق بعد انتهاء العمل وبعد تحقّق موضوع قاعدة الفراغ، فيجري استصحاب عدم الطهارة بالنسبة للأعمال القادمة المشروطة بالطهارة – كصلاة العصر مثلاً –، ويلزمه التطهير لها .
إنكار السيّد الخوئيّ للموردين
إنَّ السيّد الخوئي وإنْ سلّم اعتبار اليقين والشكِّ الفعلي في جريان الاستصحاب إلاَّ أنّه أنكر ترتّب هذين الموردين.
بتقريب: إَّن قاعدة الفراغ لا تخلو من أحد أمرين:
الأوّل: إمّا أنْ تكون من الأصول التعبّدية الشرعيّة.
الثاني: أو تكون من الأمارات العقلائيّة كما هو الظاهر؛ فإنَّ مقتضى طبيعة الإنسان هو الذكر في حال العمل، لا السهو والنسيان كما في الأمور العاديّة، فالفراغ عن العمل أمارةٌ كاشفةٌ نوعاً عن عدم وقوع الغفلة والسهو.
ويؤيّد هذا المعنى قوله (): ((... هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)) ، وكذا قوله () في صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في الشكِّ في عدد ركعات الصلاة بعد الفراغ: ((... وكان حين انصرف أقرب إلى الحقِّ منه بعد ذلك)) .
فعلى القول بكون قاعدة الفراغ أمارةً نوعيّةً على عدم وقوع الغفلة والسهو، لا مجال للأخذ بها مع العلم بالغفلة كما هو المفروض في المقام، فعدم جريان الاستصحاب في حال الغفلة مسلّمٌ؛ لعدم الشك الفعليّ، إلاَّ أنّه لا مانع من جريانه بعد الصلاة حتّى بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها؛ لاختصاص قاعدة الفراغ بصورة عدم العلم بالغفلة، فلا تجري في المقام حتّى تكون حاكمةً على الاستصحاب – كما هو رأي الأنصاريّ – أو مخصصّة له – كما هو رأي الآخوند –.
ومن اختصاص قاعدة الفراغ بموارد عدم العلم بالغفلة، لا تجري فيما لو شكَّ في صحّة العمل بعد الفراغ عنه مع العلم بكيفيّة وقوع العمل والشكّ في انطباقه على الواقع، كما إذا شكَّ بعد الوضوء في أنّه توضّأ بالماء أو بمائع آخر مع علمه بأنّه توضّأ بهذا المائع الموجود، لكنّه لا يدري أنّه ماءٌ أو مائعٌ آخر، فلا مجال للحكم بصحّة الوضوء لقاعدة الفراغ؛ لعدم كون احتمال البطلان مستنداً إلى الغفلة بل إلى عدم المصادفة الاتّفاقيّة للماء.
وأمّا على القول بكون قاعدة الفراغ من الأصول التعبّدية الشرعيّة وعدم اختصاصها بموارد احتمال الغفلة؛ لإطلاق بعض النصوص الدالّة على أنَّ ما مضى فأمضه كما هو، فتكون قاعدة الفراغ حاكمةً على الاستصحاب.
فتحصّل ممّا تقّدم أنَّ اعتبار اليقين والشكّ الفعليّ وإنْ كان مسلّماً، إلاّ أنّه لا يتفرّع عليه الفرعان المذكوران، بل الحكم بالصحّة أو البطلان في المثالين تابعٌ لجريان قاعدة الفراغ وعدمه. ففي الفرع الأوّل على القول بأنَّ القاعدة من الأمارات وعدم جريانها في المقام؛ لاختصاصها بموارد احتمال الغفلة، يحكم ببطلان الصلاة.
وفي الفرع الثاني:
أ – إنْ كانت قاعدة الفراغ جاريةٌ، كما إذا كان الشكُّ الحادث بعد الفراغ غير الشكِّ الذي كان قبل الصلاة، كانت الصلاة صحيحةً حتّى مع جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة.
ب – ولو لم تكن القاعدة جاريةً، كما إذا كان الشكُّ الحادث بعد الصلاة هو الشكّ الذي كان قبلها، كانت الصلاة باطلة ولو لم يكن الاستصحاب قبل الصلاة جاريا، لاعتبار الشكّ حدوثاً وبقاءً .
والظاهر أنَّ ما ذكره السيّد الخوئيّ هو الأحرى بالقبول، وأنَّ الحكم بالصحّة دائرٌ مدار جريان قاعدة الفراغ في كلا الفرعين أم عدمه، لا أنّه دائرٌ مدار اعتبار اليقين والشكّ الفعليّ .
المطلب الثاني: جريان الاستصحاب في مؤدّى الطرق والأمارات ()
المعروف أنَّ اليقين بالحدوث ركنٌ في الاستصحاب، ومعناه أنَّ الاستصحاب لا يجري إلاَّ في حالة كون المكلّف قاطعاً بحدوث المستصحب ( )، فما لم يكن قاطعاً لا يجري الاستصحاب. ومعنى ذلك أنَّ الشكَّ وحده لا يسوّغ جريان الاستصحاب، فلو كان المكلّف يشكّ في وجوب شيءٍ ولم يكن على علم بوجوبه سابقاً فإنَّ ذلك مجرى لأصالة البراءة لا الاستصحاب.
كما أنَّ أخذ اليقين بالحدوث في موضوع الاستصحاب يعني أنَّ الحدوث في نفس الأمر والواقع لا يكون مبرّراً لإجراء الاستصحاب، بل لابدَّ أنْ يكون الحدث والأمر المراد استصحابه متيقّناً من قِبْل المكلّف.
واُستدلّ على ركنيّة اليقين بالحدوث بروايات أهمّها قول الإمام () في صحيحة (مضمرة) زرارة الأولى: ((... ولا ينقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) ؛ فإنّه ظاهرٌ في أخذ اليقين بالحدوث في موضوع الاستصحاب.
ومن هنا نشأت مشكلة وإشكال وحاصلها:
أنّه إذا لم يحصل العلم الوجدانيّ بالحدوث، وحـصل الـشكّ فـي الـبـقاء، كـمـا لـو اتّفـق ثـبـوت الحـدث والأمـر المـراد استصحابه بواسطة الأمارات والطرق؛ إذ لا يحصل اليقين بالحدوث، كما إذا دلَّ خبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور وشكّ في بقاء هذا الوجوب في زمن الغَيبة، فإنَّ الأمارة – وهي خبر الواحد – لا توجب اليقين بحدوث الحكم بوجوب الجمعة في زمن الحضور بل توجب احتمال الحدوث، فلا يقين بالحدوث، ومع انتفاء اليقين ينتفي الشكّ أيضاً؛ لأنَّ الشكَّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو الشكّ في بقاء المتيقّن لا مطلق الشكِّ، وليس في المقام شكٌّ في بقاء المتيقّن بل الشكّ في بقاء شيءٍ على تقدير حدوثه، فهل يجري الاستصحاب مع انتفاء كلٍّ من اليقين والشكِّ المأخوذين في موضوع الاستصحاب أو لا ؟
فيه إشكالٌ منشأه انهدام كلا ركني الاستصحاب .
وقبل الإجابة عن هذا الإشكال لابدَّ من ذكر مقدّمتين مفادهما:
الأولى: إنَّ هذا الإشكال مبنيٌّ على القول بأنَّ حجّيّة الأمارات بنحو الطريقيّة، والتي لا تقتضي إلاّ تنجّز الواقع عند الإصابة والمعذّريّة بدونها؛ إذ بناءً على هذا المسلك لا تقتضي أدّلة اعتبار الأمارة جعل حكم مماثل للمؤدّى كي يُستصحب؛ لدلالتها على كون المؤدّى نفس الواقع فيتنجّز بوصوله بالطريق، وكونه حكماً صوريّاً عند عدم إصابة الواقع، فيوجب العمل به صحّة الاعتذار من المولى، وإذ لا سبيل لإحراز مطابقة المؤدّى للواقع، فركن الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث مفقودٌ، وأمّا بناءً على الالتزام بجعل الحكم الظاهريّ في مورد الأمارات كما هو مبنى مشهور الأعلام قبل الآخوند الخراسانيّ فلا يرد هذا الإشكال .
الثانية: إنَّ من المتسالم عليه عند الأصوليّين هو جريان الاستصحاب في حالات قيام الأمارات والطرق على ثبوت شيءٍ ثمَّ عروض الشكِّ في بقاء مؤدّاه، فالمتسالم عليه جريان الاستصحاب في مثل هذه الحالة رغم عدم وجود اليقين بالحدوث، ومن هنا تصدّى الأصوليّون لمعالجة هذه المشكلة بحسب الصناعة وإلاَّ فهي مسلّمة عندهم عمليّاً .
وبعد ذكر هاتين المقدّمتين نقول: إنَّ الأصوليّين قد أجابوا عن هذا الإشكال بعدّة أجوبة منها:
الجواب الأوّل: ما ذكره الآخوند الخراسانيّ وحاصله:
إنَّ المستفاد من أدلّة الاستصحاب أنّها متكفّلةٌ للتعبّد بالبقاء لا التعبّد بالحدوث، فتنزّل مشكوك البقاء منزلة الباقي تعبّداً .
بتقريب: إنَّ دليل الاستصحاب يتكفّل جعل الملازمة الظاهريّة بين مجرّد الحدوث والبقاء من دون نظر إلى تيقّن حدوثه، فكلُّ ما هو حادثٌ باقٍ تعبّداً. فيكفي في جريان الاستصحاب الشكّ في البقاء على تقدير الثبوت والحدوث، وإنْ لم يكن فعلاً حادثاً وثابتاً؛ لأنَّ صدق القضيّة الشرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها كجعل الملازمة بين وجوب الحجِّ والاستطاعة، وإنْ لم يكن فعلاً مستطيعٌ .
فالدليل الدالّ على الثبوت يكون دليلاً أيضاً على ملازمه وهو البقاء؛ لفرض ثبوت الملازمة بين الثبوت والبقاء بدليل الاستصحاب، نظير ما إذا قام الدليل على طلوع الشمس فيكون بنفسه دليلاً على وجود النهار أيضاً بعد ما ثبتت الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار، فيكفي الشكّ في البقاء على تقدير الثبوت في جريان الاستصحاب، فيتعبّد بالبقاء على هذا التقدير ويترتّب عليه الأثر فعلاً فيما لو كان هناك أثرٌ .
وبعبارة أخرى: أنّنا نلغي ركنيّة اليقين من رأس، وأنَّ موضوع الاستصحاب هو نفس الحدوث، وأنَّ المبرّر لذكر اليقين بالحدوث في الأخبار هو لكون اليقين وسيلةً من وسائل انكشاف وقوع الحدث وإلاّ فليس لليقين موضوعيّةٌ في الاستصحاب، فيجري الاستصحاب متى ما تحقّق الحدوث غايته أنَّ التعرّف على وقوع الحدث لا يكون إلاّ بواسطة ووسيلة من وسائل الكشف فيثبت بواسطته الاستصحاب ، ويكون اليقين كاشفاً عن الشيء وطريقاً إليه ليكون التعبّد في مرحلة البقاء فقط دون مرحلة الثبوت؛ لفرض أنَّ الحجّة – وهي الأمارة – قد قامت على ثبوته فلابدَّ أنْ يكون التعبّد في مرحلة بقائه .
فاليقين المأخوذ في الأخبار ليس موضوعاً للاستصحاب بل طريق إلى الثبوت، بمعنى أنَّ الثبوت قد أخذ موضوعاً للتعبّد بالبقاء، واليقين لوحظ طريقاً لإحراز الموضوع وهو الثبوت، فيكون التعبّد بالبقاء مبنيّاً على مجرّد الثبوت، فإذا قامت الأمارة على ثبوت شيءٍ:
أ – فيُتعبّد بالثبوت؛ للأمارة.
ب – ويتعبّد بالبقاء؛ لأدلّة الاستصحاب الدالّة على الملازمة بين الثبوت والبقاء .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ هذا الجواب قابلٌ للمناقشة؛ إذ أنَّ اليقين المأخوذ في الرواية هو الموضوعيّ لا الطريقيّ، فإنّه وإنْ كان بالنسبة إلى الواقع طريقاً إلاَّ أنّه أُخذ موضوعاً لحكم الاستصحاب، فقد اعتبر الشارع في جريانه وجود اليقين الذي يكون في غير قاعدة الاستصحاب كاشفاً عن الواقع؛ لأنَّ في نفس اليقين إبراماً واستحكاماً، وقد نهى الشارع عن نفض ذلك المبرم بأمر غير مبرم، وهو الشكّ، ولهذا قال الإمام (): ((... ولا ينقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) ، وبالتالي يكون اليقين في المقام موضوعاً لا طريقاً.
الجواب الثاني: ما تبنّاه المحقّق النائينيّ ومفاده:
إنَّ المراد من اليقين المعتبر في الاستصحاب ليس هو اليقين الوجدانيّ، بل كلّ ما يكون محِرزاً للمستصحب بأحد وجوه الإحراز من:
أ – اليقين الوجدانيّ.
ب – ما هو بمنزلة اليقين الوجدانيّ كالأمارات والأصول المحِرزة – بناءً على قيامهما مقام القطع الطريقيّ –.
وعليه فلو قام طريقٌ أو أمارة على ثبوت حكم أو موضوع ذي حكم ثمَّ شُكَّ في بقاء الحكم أو الموضوع الذي أدّى إليه الطريق أو الأمارة فلا مانع من استصحاب بقاء مؤدّى الطريق والأمارة؛ لأنَّ المستصحب قد أُحرز بقيام الأمارة عليه .
الجواب الثالث: ما تعرّض له المحقّق العراقيّ وحاصله:
إنَّ مفاد أدلّة الطرق والأمارات ناظرٌ إلى تتميم الكشف وإثبات الإحراز التعبّدي للواقع، وحينئذٍ فأدلّة الطرق والأمارات بعناية تكفّلها لإثبات العلم والإحراز يوسّع دائرة اليقين المنقوض والناقض في الاستصحاب بما يعمّ:
أ – اليقين الوجدانيّ.
ب – اليقين التعبّديّ.
وبذلك يكون المستصحب عند قيام الأمارة أو الطريق عليه محَرزاً بـ (اليقين التعبّديّ)، ومع الشكِّ في بقائه في الزمان المتأخّر يجري فيه الاستصحاب؛ لتماميّة أركانه من إحراز:
1 – اليقين السابق.
2 – الشكّ اللاحق.
فالنتيجة: أنّنا لا نحتاج إلى جعل اليقين في أخبار الاستصحاب كنايةً عن مطلق الإحراز – كما تبنّاه المحقّق النائينيّ – كي يلزم تقدّم الأمارة على الاستصحاب بمناط الورود لا الحكومة .
الجواب الرابع: ما ذكره السيّد الخوئيّ وتقريبه:
إنَّ معنى جعل حجّيّة الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار، فيكون لليقين فردان:
1 – اليقين الوجدانيّ.
2 – اليقين الجعليّ الاعتباريّ.
فكما لو علمنا – علماً وجدانيّاً – بحكم من الأحكام أو موضوع ذي حكم ثمَّ شككنا في بقائه نرجع إلى الاستصحاب، كذلك إذا قامت الأمارة على حكم أو موضوع ذي حكم ثمَّ شككنا في بقائه .
الجواب الخامس: ما أجاب عنه السيّد الخمينيّ – بعد أنْ بنى على كون اليقين معتبراً في موضوع الاستصحاب – بما حاصله:
إنَّ العرف لأجل مناسبة الحكم والموضوع يلغي خصوصيّة كون اليقين وجدانيّاً، ويحكم بأنَّ الظاهر من الأدلّة أنَّ الموضوع في الاستصحاب هو الحجّة في الواقع في مقابل اللاحجّة، وهي جهةٌ جامعةٌ بين:
1 – اليقين.
2 – غير اليقين من الحجج العقلائيّة والشرعيّة.
فالنتيجة: أنَّ الظنّ المعتبر – كالظنّ الحاصل من الأمارات والطرق – ملحقٌ باليقين، ويجري الاستصحاب في مؤدّاه، كما يجري في اليقين الوجدانيّ بلا فرق بينهما .
ويبدو أنَّ ما ذكره المحقّق العراقيّ هو الأحرى بالقبول؛ إذ أنَّ أدلّة الطرق والأمارات بعناية تكفّلها لإثبات العلم والإحراز يوسّع دائرة اليقين المنقوض والناقض في الاستصحاب بما يعمّ اليقين الوجدانيّ واليقين التعبّديّ المستفاد من الطرق والأمارات.
المطلب الثالث: جريان الاستصحاب في الأمور التدريجيّة ()
إنَّ الموجودات على نحوين:
الأوّل: الموجودات القارّة: وهي التي تتحقّق بجميع أجزائها في آن واحد، وتجتمع أجزائها في الوجود زماناً، ككثير من الأشياء الخارجيّة، مثل زيد وعمرو والعدالة والحياة ونحو ذلك.
الثاني: الموجودات التدريجيّة: وهي التي لا يكون لأجزائها تحقّقٌ دفعيٌّ في آن واحد، بل يكون وجودها تدريجيّاً بحيث يوجد كلّ جزء في ظرف انعدام الجزء الذي قبله، كالمشي والكلام والليل والنهار والشهر وغيرها من الأمر السيّالة.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارّة؛ لتحقّق أركانه فيها، وإنّما وقع الكلام والإشكال في جريانه في الأمور التدريجيّة .
منشأ الإشكال : من جهة الإشكال في تحقّق أركان الاستصحاب؛ وذلك بعد أنْ كان وجود الأمر التدريجيّ بنحو التدرّج بحيث يوجد كلّ جزء منه وينعدم ثمَّ يوجد جزءٌ آخر منه وهكذا لم يتحقّق الشكّ في البقاء بالنسبة إليه؛ لأنَّ ما تعلّق به اليقين وهو الجزء السابق ممّا انعدم وتصرّم قطعاً، والجزء اللاحق مشكوك الحدوث؛ لأنَّ الجزء في كلٍّ آن وظرف غير الجزء في ظرف آخر، ومثل ذلك لا يكون مشمولاً لدليل الاستصحاب .
وقبل الإجابة عن الإشكال لابدَّ من ذكر مقدّمة، وحاصلها:
إنَّ الشكَّ في الأمر التدريجيّة على صورتين:
الصورة الأولى: أنْ يكون الشكُّ في نفس الزمان كالشكِّ في بقاء الليل والنهار ونحوهما، وكذا الشكّ في سائر التدريجيّات كالمشي والكلام ونحوهما.
الصورة الثانية: إنَّ يكون الشكَّ في الفعل المقيّد بالزمان كالصوم المقيّد بيوم معيّن مثلاً، أو الجلوس في المسجد في خصوص يوم الجمعة ونحو ذلك.
وبعد هذه المقدّمة نقول في دفع الإشكال المتقدّم: إنَّ جريان الاستصحاب في المورد يختلف من صورة إلى أخرى، وتفصيل الكلام فيهما:
الصورة الأولى: الشكُّ في نفس الزمان وسائر التدريجيّات
المعروف بين الأصوليّين جريان الاستصحاب فيها، وأنّه لا فرق في المتيقّن بين أنْ يكون من الأمور القارّة أو التدريجيّة غير القارّة.
بتقريب: إنَّ الأمور غير القارّة (التدريجيّة) وإنْ كان وجودها ينصرم وينعدم ولا يتحقّق منه جزء إلاّ بعد انعدام جزء آخر منه، إلاّ أنّه ما لم يتخلّل العدم بينها كالزمان من الليل والنهار، فإنّه لا يتخلّل العدم بين أجزائه، بل وإنْ تخلّل العدم بمقدار لا يخلّ بوحدتها عرفاً، كتخلّل التنفّس في أثناء الكلام؛ فإنَّ العدم يتخلّل بين أجزاء الكلام لأجل التنفّس – مثلاً –، إلاّ أنَّ تخلّل هذا المقدار من العدم لا يخلّ عرفاً بالاتّصال والوحدة.
فالنتيجة: أنَّ هذا العدم المزبور لا يخلّ بالوحدة والاتّصال عرفاً وإنْ حصل الانفصال عقلاً، فتكون تلك الأمور غير القارّة باقيةً مطلقاً عقلاً وعرفاً، ويكون رفع اليد عن الأمور غير القارّة مع الشكِّ في استمرارها نقضاً لليقين بحدوثها ووجودها المنهي عنه، ومن الواضح أنّه لا يعتبر في الاستصحاب – بحسب تعريفه وأخبار الباب – غيرُ صدق النقض والبقاء عرفاً، والمفروض تحقّق البقاء وصدق النقض.
وبعبارة أخرى: إنَّ في الأمور غير القارّة فروضاً ثلاثة:
الأوّل: أنْ لا يتخلّل بين أجزائها العدم.
الثاني: أنْ يتخلّل بين أجزائها العدم ولكنّه بنحوٍ لم يخلّ بالاتّصال عرفاً.
الثالث: أنْ يتخلّل بين أجزائها العدم بنحوٍ يخلّ بالاتّصال عرفاً.
أمّا في الفرض الأوّل فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه؛ إذ لا مانع من ذلك أصلاً.
وأمّا الفرض الثالث فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه بعد تخلّل العدم بين أجزائه عرفاً.
وأمّا في الفرض الثاني (وهو محلّ كلامنا في هذه الصورة) فالمعروف فيه جريان الاستصحاب بعد أنْ افترضنا أنَّ العرف يراه شيئاً واحداً مستمرّاً بحيث إذا شكَّ في بقائه صدق الشكُّ في بقاء ما كان، وإذا رُفع اليد عن اليقين عند الشكِّ فيه صَدَقَ نقض اليقين بالشكِّ، ومن الواضح أنّه لا يعتبر في الاستصحاب بحسب تعريفه وأخبار الباب غير هذين الأمرين:
1 – صدق الشكِّ في البقاء عرفاً.
2 – صدق نقض اليقين بالشكِّ كذلك (أي عرفاً) . هذا هو الجواب الأوّل للإشكال المتقدّم
الجواب الثاني للإشكال: إنَّ الانصرام والتدرّج في الوجود شيئاً فشيئاً المانع عن جريان الاستصحاب إنّما هو في الحركة القطعيّة، وأمّا الحركة التوسّطيّة () فلا تصرّم فيها ولا تدرّج؛ فإنّها بهذا المعنى قارّةٌ ومستقرّةٌ، فلا موضوع للإشكال أصلاًَ، ولا قصور في جريان الاستصحاب فيها .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ الجواب الثاني قابلٌ للمناقشة؛ فإنَّ الحركة ليست على قسمين، أحدهما الحركة القطعيّة والأخرى التوسّطيّة؛ لأنَّ هذا التقسيم إنّما هو بلحاظ عالم التصّور والذهن لا بحسب الخارج، وإلاَّ فهي حقيقة واحدة عقلاً وعرفاً، وعلى كلا التقديرين لا مانع من جريان الاستصحاب فيها إذا شكَّ في بقائها. فتقسيم الفلاسفة الحركة إلى قطعيّة وتوسّطيّة إنّما يكون بلحاظ تصوّرها الذهنيّ الذي لا واقع موضوعيّ له لا بلحاظ واقعها الخارجيّ، فلا فرق بين الأمور التدريجيّة والدفعيّة من هذه الناحية .
وبعد الجواب عن هذا الإشكال، وأنَّ الوحدة والاتّصال عرفاً متحقّقةٌ في الأمور التدريجيّة اتّضح أنّه لا مجال للإشكال في استصحاب الزمان كالليل والنهار وترتيب مالهما من الآثار، كما إذا نذر التصدّق بدرهم إذا كان النهار باقياً وشكَّ في بقاء النهار، جرى استصحاب النهار وترتّب عليه أثره وهو وجوب الوفاء بالنذر. فإذا حصل الشكُّ في بقاء الليل أو النهار جرى استصحابهما.
بل ادّعى بعض الإخباريّين أنَّ استصحاب الليل والنهار من الضروريّات .
وكذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان الشكُّ في الأمر التدريجيّ الحصول من جهة الشكِّ في انتهاء حركته ووصوله (أي وصول المتحرّك – زيد) إلى المنتهى (الكوفة) أو أنّه بعْدُ لم يصل إلى منتهاه، فيستصحب عدم وصوله إليه وأنّه بعْدُ في البين. ففي مثال خروج زيد ماشياً من البصرة إلى الكوفة إذا شكَّ في بقاء مشيه من جهة الشكِّ في انتهاء حركته التوسّطيّة ووصوله إلى الكوفة فيستصحب عدم وصوله إليها وأنّه بعْدُ في البين .
استدراك على هذه الصورة (الأولى)
نعم وقع الإشكال والكلام في حالة واحدة في هذه الصورة وهي: ما إذا كان الشكُّ في الأمر التدريجيّ من جهة الشكِّ في كميّته ومقداره، كما إذا شكَّ في نبع الماء من العين وجريانه أو شكَّ في خروج الدم من الرحم وسيلانه فيما إذا كان سبب الشكِّ في جريان الماء وسيلان الدم من جهة الشكِّ في بقاء شيءٍ من الماء في المنبع ومن الدم في الرحم غير ما جرى وسال منهما.
وقد وقع الكلام والإشكال في هذه الحالة من جهة أنَّ كلّيّ الحيض في ضمن الفرد الخارج والذي سال قد قُطع بارتفاعه، والفرد الآخر الموجود في ضمن الموجود في الرحم فردٌ مشكوك الحدوث، ويكون ذلك من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، وقد تقدّم – في الفصل السابق – أنّه لا يكون حجّةً عند المشهور.
وفي هذه الحالة قولان:
الأوّل: ما اختاره الآخوند الخراسانيّ من جريان الاستصحاب فيها، وأنَّ هذا الإشكال وجيه لو كان لكلّيّ حدث الحيض فردان: أحدهما الدم الخارج والآخر الدم الموجود في الرحم، حاله حال كلّيّ الإنسان الموجود في ضمن زيد تارةً وعمرو أخرى، وهما فردان متغايران ومتباينان، وأمّا في هذه الحالة (أي كلّيّ الحدث الناشئ من دم الحيض) فليس عندنا فردان حسب الفرض أحدهما الدم الخارج والآخر الموجود في الرحم، بل دمٌ واحدٌ متعدّد الأوصاف والحالات، فهو:
أ – تارة يكون خارجاً، أي دم بوصف الخروج.
ب – وأخرى الدم الموجود في الرحم.
فالكلّيّ حسب الفرد كلّيٌّ ذي فردٍ واحد لا كلّيٌّ ذي أفراد متعدّدة حتّى يجري الإشكال فيه.
الثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ ، وقريبٌ منه ما ذكره المحقّق العراقيّ ، من منع جريان الاستصحاب فيها، وأنّها ترجع إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام الكلّيّ، وأنَّ القضيّة المتيقّنة غير القضيّة المشكوكة.
ويبدو أنَّ رأي المحقَّقين النائينيّ والعراقيّ هو الأحرى بالقبول؛ فإنَّ المورد من مصاديق الوجه الثاني من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، وقد تقدّم في الفصل الثالث أنّه لا يكون حجّة.
الصورة الثانية: الشكُّ في الفعل المقيّد بالزمان
ومثاله – كما تقدّم – كالصوم المقيّد بيوم معيّن مثلاً ونحوه.
والكلام في هذه الصورة يقع في جهتين:
الجهة الأولى: أنْ يكون الشكُّ في حكم الفعل المقيّد بالزمان من جهة الشكِّ في بقاء قيده، كما إذا شكَّ في بقاء النهار في بقاء النهار الموجب للشكِّ في وجوب الإمساك المقيّد بالنهار، فالفعل هاهنا هو الإمساك، وقيده هو النهار، وحكمه هو الوجوب، فالشكُّ في بقاء حكمه – وهو وجوب الإمساك – ناشٍ من الشكِّ في بقاء القيد وهو النهار؛ إذ لو كان النهار معلوماً كان وجوب الإمساك أيضاً معلوماً لا مشكوكاً.
وقد يشكل في جريان الاستصحاب في هذه الجهة: من جهة أنَّ استصحاب النهار لا يتكفّل أكثر من إثبات وجود النهار، ولا يثبت به وقوع الإمساك في النهار إلاَّ على القول بالأصل المثبت؛ لأنَّ وقوع الإمساك في النهار لازمٌ عقليٌّ لبقاء النهار.
وقد تصدّى الأصوليّون لدفع هذا الإشكال بوجوه، منها:
الوجه الأوّل للآخوند الخراسانيّ وحاصله: أنّه لا بأس باستصحاب الزمان المأخوذ قيداً للحكم، فنستصحب بقاء النهار عند الشكِّ فيه من جهة ظلمةٍ ونحوها، فيترتّب على استصحاب النهار وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يحصل عندنا قطعٌ بزوال النهار.
كما لا بأس باستصحاب نفس الفعل المقيّد، فيقال: إنَّ الإمساك المقيّد بالنهار كان قبل هذا آن الشكِّ في النهار موجوداً ومتيقّناً، والآن – أي في زمان الشكِّ – كما كان في النهار، فيجب الإمساك .
الوجه الثاني للمحقّق النائينيّ ومفاده: إنَّ استصحاب الزمان لا يتكفّل إثبات وقوع الإمساك في النهار إلاَّ على القول بحجّيّة الأصل المثبت؛ فإنَّ وقوع الإمساك في النهار من آثار بقاء الزمان عقلاً لا شرعاً، بخلاف استصحاب الحكم – وهو وجوب الإمساك الواقع في النهار – فإنَّ معنى استصحاب الحكم هو التعبّد ببقاء الوجوب فعلاً، وهو يرجع إلى التعبّد به بجميع خصوصيّاته التي كان عليها، والمفروض أنَّ الوجوب السابق كان متعلّقاً بما إذا أتى به واقعاً في النهار، فيستصحب ذلك الوجوب على النحو الذي كان سابقاً، وبه يثبت وجوب الإمساك الواقع في النهار ().
الوجه الثالث للمحقّق العراقيّ، ويمكن إرجاعه إلى أمرين، وكما يأتي:
الأمر الأوّل: إنَّ الزمان لم يؤخذ في المتعلّق قيداً للفعل، بل أُخذ فيه بنحو المعيّة في الوجود، وحينئذٍ فيمكن:
أ – إثبات أحد الجزئين المتقارنين (وهو الزمان الخاص أي النهار) بالاستصحاب.
ب – إثبات الجزء الآخر (وهو الفعل أي الإمساك) بالوجدان ().
الأمر الثاني: أنّنا لو سلّمنا أنَّ الزمان قد أُخذ في المتعلّق قيداً للفعل فيمكن تصحيح الاستصحاب وذلك باستصحاب نهاريّة الموجود؛ فإنَّ وصف النهاريّة من الأوصاف التدريجيّة، كذات الموصوف، فيكون حادثاً بحدوث الآنات وباقياً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات بالنهاريّة وشكَّ في اتّصاف الزمان الحاضر بها اُستصحب بقاء النهاريّة الثابتة للزمان السابق؛ لفرض وحدة الموصوف عرفاً، فيترتّب عليه الامتثال والخروج عن عهدة التكليف ( ).
الوجه الرابع للمحقّق الأصفهانيّ وحاصله: أنّه إذا كان متعلّق الحكم هو الإمساك في النهار، لا الإمساك النهاريّ كان جريان الاستصحاب في النهار مجدياً، ولو لم يحرز أنَّ هذا الآن نهارٌ؛ لأنَّ:
أ – ثبوت القيد (وهو النهار) تعبّديٌّ.
ب – وثبوت التقيّد (وهو الإمساك) وجدانيٌّ.
فيثبت أنَّ هذا إمساكٌ وجدانيٌّ في النهار التعبّديّ .
الجهة الثانية: أنْ يكون الشكُّ في بقاء حكمه مع القطع والجزم واليقين بانقضاء وانقطاع وانتفاء الزمان (القيد) من جهة أخرى غير الشكِّ في بقاء القيد، كما إذا احتمل كون الزمان قيداً للحكم:
1 – إمّا بنحو وحدة المطلوب، بمعنى كون القيد قيداً لأصل المطلوب بحيث لو انتفى هذا القيد – وهو الزمان – لانتفى الحكم – وهو وجوب الإمساك – أيضاً.
ومثاله: كما إذا فرض وجوب الجلوس في المسجد في النهار، وشكَّ في وجوبه في الليل.
2 – أو يكون بنحو تعدّد المطلوب، بأنْ يكون ذات الفعل – وهو الإمساك – مطلوباً، ووقوعه قي زمان خاصّ – وهو النهار – مطلوباً آخر.
ومثاله: كما إذا فرض كون ذات الجلوس مطلوباً، وإيقاعه في النهار مطلوباً آخر.
وفي كلا الموردين يقع الشكُّ في كون الزمان قيداً للحكم بنحو وحدة المطلوب حتّى ينتفي الحكم بانقضاء الزمان، أو أنّه قيدٌ للحكم بنحو تعدّد المطلوب حتّى لا ينتفي الحكم بانقضاء الزمان، بل ينتفي وقوعه في هذا الزمان – أي بعد دخول الليل – وأمّا أصل المطلوب – وهو الجلوس – فهو باقٍ.
وعلى كلِّ حال فهاهنا حالتان:
الحالة الأولى: أنْ يكون الزمان الذي انقضى قد أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم لا قيداً لموضوعه، كما إذا وجب الجلوس في المسجد يوم الجمعة ولم يُؤخذ يوم الجمعة قيداً بل ظرفاً وشُكَّ في وجوب الجلوس يوم السبت أيضاً.
حكم هذه الحالة: اختلفت أنظار الأصوليّين في جريان الاستصحاب في هذه الحالة على قولين:
الأوّل: ما اختاره الشيخ الأنصاريّ ، ووافقه عليه أكثر مَنْ تأخّر عنه كالآخوند الخراسانيّ ، والمحقّق العراقيّ ، والسيّد الخوئيّ ، من أنّه لا مانع من استصحاب وجوب الجلوس في يوم السبت أيضاً.
واستدلّوا عليه: بأنَّ الموضوع – وهو الجلوس – واحدٌ لم يتعدّد؛ إذ لم يؤخذ يوم الجمعة فيه حتّى يتبدّل في يوم السبت، بل كان الزمان ظرفاً لثبوت الحكم فيه .
الثاني: ما تبنّاه المحقّق النائينيّ من عدم جريان استصحاب الحكم، وأنّه لابدَّ من الرجوع في هذه الحالة إلى البراءة – إنْ كان الشكُّ في أصل التكليف –، أو الاشتغال – إنْ كان الشكُّ في المكلّف به – .
الحالة الثانية: أنْ يكون الزمان الذي انقضى قد أُخذ قيداً مقوّماً لموضوع الحكم، كتقييد الصوم بشهر رمضان فإذا شككنا في وجوب الصوم بعد شهر رمضان نشكّ في بقاء الوجوب.
حكم هذه الحالة: اختلفت أنظار الأصوليّين في جريان الاستصحاب في هذه الحالة على قولين:
الأوّل: ما اختاره الشيخ الأنصاريّ ، ووافقه عليه أكثر مَنْ تأخّر عنه كالآخوند الخراسانيّ ، والمحقّق العراقيّ ، والسيّد الخوئيّ ، من أنّه لا مجال لاستصحاب الوجوب فيها.
واستدلّوا عليه: بأنَّ الموضوع في المقام متعدّدٌ؛ فإنَّ موضوع وجوب الصوم هو الصوم في شهر رمضان، فيكون الصوم في غيره مغايراً له.
فالنتيجة: يكون الشكُّ في ثبوت الوجوب للصوم في غير شهر رمضان شكّاً في أصل ثبوته، والأصل الجاري فيه هو استصحاب عدم الوجوب .
الثاني: ما تبنّاه المحقّق النائينيّ من عدم جريان استصحاب عدم الحكم، وأنّه لابدَّ من الرجوع في هذه الحالة إلى البراءة – إنْ كان الشكُّ في أصل التكليف –، أو الاشتغال – إنْ كان الشكُّ في المكلّف به – .
والظاهر أنَّ ما ذكره الشيخ الأنصاريّ وتبعه في ذلك أكثر مًنْ تأخّر عنه من جريان الاستصحاب في الحالة الأولى، وعدم جريانه في الثانية هو الأحرى بالقبول.
المطلب الرابع: استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى الشرائع السابقة
إنَّ حقيقة النسخ لمّا كانت تقييد الحكم زماناً وكان دليل النسخ كاشفاً عن انتهاء أمده، فلا يُرجع إلى استصحاب عدم النسخ إلاَّ بعد فرض أمرين معاً:
أحدهما: فقدان الإطلاق الأزمانيّ لدليل الحكم؛ لأنّه لو كان لدليل الحكم إطلاقٌ أزمانيٌّ كان هو المرجع عند الشكِّ في النسخ لا الاستصحاب.
ثانيهما: ثبوت الحكم في الشريعة السابقة بنحو القضيّة الحقيقيّة لعامّة المكلّفين لا لخصوص تلك الملّة؛ لأنّه مع ثبوته للمكلّفين بنحو القضيّة الخارجيّة لا يجري فيه الاستصحاب إذا شُكَّ في بقائه لأشخاص آخرين؛ لاختلاف الموضوع حينئذٍ، وكونه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر، ومن المعلوم أنّه أجنبيٌّ عن الاستصحاب، فلا تعمّه أدلّته .
والبحث ها هنا في مقامين:
الأوّل: تارة عن أصل جريان استصحاب عدم النسخ.
الثاني: وأخرى عن استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشريعة السابقة.
فالبحث في المقام الأول – أي في جريان استصحاب عدم النسخ – يتصوّر على احتمالين:
1 – أنْ يراد منه النسخ بمعناه الحقيقيّ.
وحكمه: أنّه لا إشكال في أنّه مستحيلٌ بالنسبة إلى مبادئ الحكم من الإرادة – في الوجوب والاستحباب –، والكراهة – في الحرمة والمكروه –؛ لاستلزامه البِداء المستحيل على الله سبحانه وتعالى، نعم النسخ بمعناه المجازيّ ممكنٌ، بمعنى أنْ يفترض أنَّ سبحانه وتعالى يعلم منذ البداية بأنَّ المصلحة ثابتةٌ إلى الحكم إلى أمد معيّن، فإذا انتهى الأمد انتهت المصلحة، وكان نسخاً لها إلاَّ أنّه نسخٌ لها بنحو المجاز لا الحقيقة .
2 – أنْ يراد منه النسخ بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل والاعتبار، بأَنْ يعتبر الوجوب أو الحرمة ويكون لنفس هذا الاعتبار بقاءٌ واستمرارٌ ما لم يقرّر خلافه ويلغى.
وهو على قسمين:
الأوّل: النسخ الحقيقيّ، والمقصود منه أنْ يجعل الله سبحانه الحكم إلى الأبد بحسب لسان الدليل، فلسان الدليل مطلقٌ ولا يقيّد بفترة محدّدة – ولكنّه سبحانه يعلم أنَّ المصلحة تقتضي جعله لفترة محدّدة – ثمَّ في الأثناء يأتي الناسخ ويرفعه.
الثاني: النسخ المجازيّ، بأنْ يجعل الحكم من الأوّل محدّداً بمدّة معيّنة ثمَّ ينتهي الأمد فيرتفع الحكم.
وإنّما كان هذا نسخاً بنحو المجاز؛ لأنّه لم يجعل مستمرّاً منذ البداية ليكون رفعه نسخاً .
وحكمه: أنّه معقولٌ وممكنٌ في كلا القسمين .
وأمّا الكلام في المقام الثاني – أي استصحاب عدم النسخ حكم الشريعة السابقة – :
فوقع النزاع في جريان الاستصحاب في المورد من جهتين :
الأولى: جهة مشتركة الورود في شريعتنا وفي الشريعة السابقة.
الثانية: جهة مختصّة في الشريعة السابقة .
وعلى كلِّ حال فقد وقع النزاع والإشكال في جريان الاستصحاب في هذا المقام، وفيه قولان:
الأوّل: جريان استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة.
واختاره كلٌّ من الشيخ الوحيد البهبهانيّ ، والشيخ الأنصاريّ ، والآخوند الخراسانيّ ، والمحقّق العراقيّ ، وآخرين. بل عدّه الشيخ محمّد أمين الاستر آباديّ من الضروريّات .
الدليل على هذا القول: عموم أدلّة الاستصحاب؛ لأنَّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكِّ اللاحق موجودةٌ في استصحاب الشرائع السابقة، فتكون أدلّة الاستصحاب شاملةً له ، فالمقتضي لجريان الاستصحاب موجودٌ والمانع مفقودٌ .
الثاني: عدم جريان استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة.
واختاره كلٌّ من المحقّق القمّيّ ، والشيخ محمّد حسين بن عبد الرحيم الأصفهانيّ ، والمحقّق النائينيّ ، والسيّدين الخوئيّ والخمينيّ ، وظاهر كلٍّ من السيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد محمّد سعيد الحكيم .
وقد أنكر أصحاب هذا الرأي جريان الاستصحاب في المقام، وذُكر عدّة وجوه على عدم جريانه، منها:
الوجه (الدليل) الأوّل: إنَّ استصحاب عدم النسخ لا يجري؛ لاختلال أركانه فيما إذا كان المتيقّن الذي يراد استصحابه من أحكام الشرائع السابقة؛ وذلك لإحدى جهتين:
الأولى: إمّا لعدم اليقين بثبوت تلك الأحكام في حقّنا، وإنْ علم ثبوتها لأهل الشرائع السابقة؛ وذلك لكون الموضوع للحكم هو أهل تلك الشرائع السابقة، فإنَّ الناس الذين عاشوا زمن تلك الشرائع غير الناس المعاصرين لهذه الشريعة فلا يجري الاستصحاب لعدم وحدة الموضوع؛ لأنَّ تعدّد الموضوع ينفي اليقين بثبوت أحكام تلك الشرائع بالنسبة إلينا، وينفي الشكّ في بقائها أيضاً؛ لأنَّ الشكَّ في بقاء شيءٍ فرع اليقين بثبوته وحدوثه، فالشكُّ لا يكون في بقاء تلك الأحكام في حقّنا، بل الشكُّ يكون في ثبوت مثلها في حقّنا، ومثل هذا الشكِّ لا يكون مورداً للاستصحاب .
وبعبارة أخرى: إنَّ في المقام احتمالاً وهو كون الحكم مجعولاً فيها على نهج القضايا الخارجيّة المحدودة بتلك الفترة والأمّة والشريعة؛ لأنَّ تلك الشرائع كانت مرحليّة ولم تكن كشريعتنا خاتمة ودائمة، ومع هذا الاحتمال لا يحرز وحدة الموضوع للحكم المستصحب .
الثانية: أو لليقين بارتفاع أحكام الشرائع السابقة بعد حدوث هذه الشريعة (الإسلاميّة)؛ إذ أنّها ناسخةٌ لتلك الشرائع، ومع اليقين بارتفاعها يرتفع الشكُّ في بقائها، فلا مجال للشكِّ في بقائها، ولا مجال لجريان الاستصحاب؛ لانتفاء الشكّ في البقاء، ولو سلّم اليقين بالثبوت والحدوث؛ إذ لو حصل لنا يقينٌ بثبوت تلك الأحكام بالنسبة إلينا فنحن نقطع أيضاً بارتفاعها بسبب نسخ شريعتنا لها، ومع القطع بارتفاعها يرتفع الشكُّ في بقائها أيضاً، فلا يجري الاستصحاب.
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ كلا الجهتين قابلٌ للمناقشة.
أمّا مناقشة الجهة الأولى: فإنَّ الحكم الثابت في الشرائع السابقة لم يكن ثابتاً لخصوص الأفراد الموجودين في ذلك الزمان وبنحو القضيّة الخارجيّة () كي يقال بأنَّ تلك الأفراد الموجودة في الزمان السابق تغاير الأفراد الموجودة في هذا الزمان فيتغاير الموضوع، بل إنَّ الحكم كان ثابتاً لعامّة الأفراد الموجودة والمقدّرة وبنحو القضيّة الحقيقيّة ( )، كما في قوله تعالى: [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ] ، أي كلّما وجد في الخارج وكان إنساناً فهو في خسر.
وعلى هذا فلا إشكال في المقام في استصحاب الحكم في الشريعة السابقة من ناحية تغاير الموضوع إذا كان ثبوت الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة؛ فإنَّ الحكم من الأوّل كان ثابتاً للأفراد الموجودين والمقدّرين، فإذا شُكَّ في بقاء الحكم لاحتمال نسخه في هذه الشريعة فيستصحب. وإلاَّ لو كانت الأحكام الشرعيّة مجعولةً بنحو القضيّة الخارجيّة لم يصحّ استصحاب الأحكام حتّى في شرعنا هذا بالنسبة إلى الأشخاص الذين لم يدركوا صدر الإسلام نظراً لتغاير الموضوع؛ فإنَّ الأشخاص الذين عاشوا في صدر الإسلام وزمن صدور الحكم غير الأشخاص الذين عاشوا في هذا الزمان – أي زمان الغَيبة – .
بل ولم يصحّ نسخ الحكم بالنسبة إلى غير الموجودين في صدر الإسلام؛ فإنّهم لم يكلّفوا بذلك الحكم فكيف يصحّ نسخه في حقّهم ؟! ومن الواضح أنَّ عدم صحّة استصحاب الأحكام في شرعنا، وعدم صحّة النسخ باطلٌ بالضرورة، وبطلانه يكشف كون الأحكام مجعولةً بنحو القضيّة الحقيقيّة لا الخارجيّة .
وأمّا مناقشة الجهة الثانية: فإنّ الشريعة السابقة وإنْ كانت منسوخةً بهذه الشريعة يقيناً، إلاَّ أنَّ اليقين بالنسخ لا يوجب اليقين بارتفاع أحكام الشريعة السابقة بتمامها؛ ضرورة أنَّ مقتضى نسخ الشريعة ليس ارتفاعها بتمامها، بل مقتضاه عدم بقاء الشريعة المنسوخة بتمامها، فيصدق نسخ الشريعة على نسخ جملة من أحكامها وبقاء بعضها، ففي الحكم الذي يُعلم نسخه يجري فيه استصحاب عدم النسخ .
وبعبارة أخرى: لا توجد ملازمة تفيد أنَّ اليقين بارتفاع شريعة سابقة يلازمه يقينٌ بارتفاع أحكامها بالجملة. نعم، الملازمة ثابتةٌ في الجملة، أي ارتفاع بعض أحكامها لا تمامها.
الوجه (الدليل) الثاني: أنّه بناءً على كون النسخ هو رفع جملة من أحكام الشريعة السابقة وعدم بقائها بتمامها يتولّد عندنا علمٌ إجماليٌّ بنسخ بعض الأحكام، وبما أنَّ ذلك البعض المنسوخ غير معلوم لنا تفصيلاً فهو مانعٌ عن جريان الاستصحاب في كلِّ حكم شُكَّ في نسخه؛ لأنَّ الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الإجماليّ .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ هذا الدليل قابلٌ للمناقشة أيضاً؛ وذلك لأنَّ العلم الإجماليّ بنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة إنّما يمنع عن استصحاب ما شُكَّ في بقائه من الأحكام إذا كان الحكم المشكوك من أطراف ما علم إجمالاً بارتفاعه، لا فيما إذا لم يكن من أطرافه أصلاً، كما إذا علم تفصيلاً بمقدار ما علم نسخه وارتفاعه إجمالاً فينحلّ العلم الإجماليّ بالنسخ والارتفاع:
1 – إلى علم تفصيليّ بارتفاع ونسخ بعض الأحكام.
2 – وخروج البعض الآخر من أطراف العلم الإجماليّ، ويصير مشكوكاً في نسخه بالشكِّ البدويّ.
ولا مانع حينئذٍ من استصحاب بقائه؛ لأنَّ العلم الإجماليّ لا يكون مانعاً من الاستصحاب بعد أنْ انحلّ وخرجت المشكوكات عن أطرافه.
أو يكون العلم الإجماليّ بالارتفاع والنسخ في غير المشكوكات من أوّل الأمر، كما إذا كان المعلوم ارتفاعه إجمالاً هو أحكام العبادات فقط دون المعاملات، فتكون العبادات من أطراف العلم الإجماليّ، ويكون مانعاً عن استصحاب عدم نسخ حكم من أحكام العبادات عند الشكِّ فيه. وأمّا إذا كان الحكم الذي شُكَّ في نسخه من أحكام المعاملات فلا مانع من استصحاب عدم نسخه؛ لكونه خارجاً عن أطراف العلم الإجماليّ، ففي المقام كذلك؛ لأنَّ العلم الإجماليّ بالارتفاع إنّما هو في موارد خاصّة وهي موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة المعلومة عندنا بالدليل، ففي هذه الموارد نعلم إجمالاً بارتفاع بعض أحكام الشريعة السابقة، وأمّا في غير الموارد التي تثبت فيها الأحكام بالدليل فلا علم لنا بالنسخ بل يكون الشكُّ في نسخها بدويّاً، فيجري فيها استصحاب عدم النسخ، وأمّا موارد الأحكام الثابتة في شرعنا – أي موارد العلم الإجماليّ – فلا يجري الاستصحاب –؛ لكون المورد طرفاً للعلم الإجماليّ .
ويبدو أنَّ القول الأوّل (أي جريان الاستصحاب في المقام) هو الأحرى بالقبول بعد تماميّة الدليل، وعدم ما يمنع من الأخذ به .
الفرق بين هذا التنبيه واستصحاب الأمور الاعتقاديّة في المطلب السادس القادم
إنَّ الفرق بين هذا البحث وما سيأتي في المطلب السادس من استصحاب الأمور الاعتقاديّة هو: أنَّ المقصود بالبحث في هذا التنبيه استصحاب بعض أحكام الشريعة السابقة بعد اليقين بورود شريعة أخرى؛ للشكِّ في أنَّ المنسوخ جميع الأحكام أو بعضها، بخلافه في المطلب السادس؛ إذ المقصود بالبحث عن الاستصحاب فيه إثبات عدم منسوخيّة الشريعة السابقة، وإنكار تشريع دين آخر، كإنكار اليهودي بعثة نبيّنا () اعتماداً على استصحاب نبوّة موسى ()، على تقدير إرادة الأحكام الفرعيّة من النبوّة، لا نفس الصفة الملكوتيّة القائمة بنفس النبيّ () .
الأثر الفقهيّ المترتّب على إبقاء الشرع السابق في مورد الشكّ (استصحاب عدم النسخ)
إنَّ الآثار الفقهيّة لاستصحاب عدم النسخ بالنسبة للشرائع السابقة عديدة:
منها: إثبات وجوب نيّة الإخلاص في العبادة بقوله تعالى – حكايةً عن تكليف أهل الكتاب –:
[ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ] .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ ما ذُكر من أثر لهذا التنبيه وكونه ثمرة لا يتمّ، فإنّه بعد الإغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الإخلاص بمعنى القربة في كلَّ واجب، وإنّما تدلّ على وجوب عبادة الله خالصة عن الشرك.
وبعبارة أخرى: إنَّ الآية إنّما تدلّ على اعتبار الإخلاص في واجباتهم، لا أنّها تدلّ على وجوب الإخلاص عليهم في كلِّ واجب، وفرقٌ بين وجوب كلِّ شيء عليهم لغاية الإخلاص، وبين وجوب قصد الإخلاص عليهم في كلِّ واجب. وظاهر الآية هو الأوّل. هذا أوّلاً
وثانياً: أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى: [ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ] ، بناء على تفسيرها بـ (الثابتة التي لا تُنسخ) .
ومنها: قوله تعالى – حكايةً عن مؤذّن يوسف () –: [ َلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ] .
بتقريب: أنَّ الآية تدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة، وعلى جواز ضمان ما لم يجب .
تعقيب ومناقشة
يمكن الجواب عّما ذكر بجوابين:
الأوّل: إنَّ حمل البعير الوارد في الآية الكريمة لعلّه كان معلوم المقدار عندهم، مع احتمال كونه مجرّد وعد لا جعالة.
الثاني: مع أنّه لا يثبت الشرع بمجرّد فعل المؤذّن؛ لأنّه غير حجّة، ولم يثبت إذن النبيّ يوسف – على نبيّنا وآله وعليه السلام – في ذلك ولا تقريره.
ومنه يظهر عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور، خصوصاً مع كون كلٌّ من الجعالة والضمان صوريّاً قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف ()، ولا بأس بذكر معاملة فاسدة يحصل به الغرض، مع احتمال إرادة أنَّ الحمل في ماله وأنّه الملتزم به.
ومنها: قوله تعالى – حكاية عن أحوال يحيى () –: [ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ ] .
بتقريب: أنَّ الآية ظاهرةٌ في مدح يحيى () بكونه حصوراً ممتنعاً عن مباشرة النساء، وأنّه يحبس نفسه عن النساء، أو المبالغ في حصر النفس عن الشهوات والملاهي ، فيمكن أنْ يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج ، ويكون استحباب النكاح نفسيّاً لخصوص مَنْ تاقت نفسه إليه في شريعة يحيى () .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ الآية لا تدلّ إلاَّ على حسن هذه الصفة لما فيها من المصالح والتخلّص عمّا يترتّب عليه، ولا دليل فيها على رجحان هذه الصفة على صفة أخرى، أي المباشرة لبعض المصالح الأخرويّة؛ فإنَّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّداً لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الإفطار في النهار وترك التهجد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما.
ومنها: قوله تعالى في قصّة نبيّه أيوب (): [ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ... ] .
بتقريب: أنَّ الآية دالّةٌ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة بالضرب بالضغث .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ الآية لا دلالة لها على جواز ذلك في شرعنا، مع ورود خلاف ذلك فيه.
ومنها: قوله تعالى: [ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ... ] .
وقد استدلّ بها المحقّق الحلّيّ في حكم مَنْ قلع عين ذي العين الواحدة .
ومنها: قوله تعالى – حكايةً عن شعيب () –:
[ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ] .
وقد اُستدلّ بالآية المباركة على جواز الترديد في إنشاء الزوجية لإحدى المرأتين حكاية عن قول شعيب في مخاطبته لموسى () بناءً على كونه في مقام إنشاء الزوجيّة، لا الإخبار عن رغبته في أصل التزويج .
تعقيب ومناقشة
إنَّ حكم المسألة قد عُلم من العمومات والخصوصات الواردة فيها ، فلا ثمرة في الاستصحاب. نعم في بعض تلك الأخبار إشعارٌ بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق، لولا المنع عنه.
ومنها: إنّ من أحكام الشريعة السابقة أنْ يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير – وعلى ذلك – فالنبيّ الأكرم () ذكّى نيابة عن الغير، ولأجله ولم يذكّ لنفسه .
المطلب الخامس: كفاية وجود الأثر بقاءً ()
المعروف بين الأصوليّين لزوم أنْ يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم شرعيّ، ولكنّه لا يخفى أنّه لابدَّ أنْ يكون كذلك بقاءً أي عند الشكِّ فيه، ولو لم يكن كذلك ثبوتاً (حدوثاً) أي عند اليقين به، فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكماً ولا موضوعاً ذا حكم وكان كذلك بقاءً جرى فيه الاستصحاب، كما في استصحاب عدم التكليف، فإنّه وإنْ يكن حكماً مجعولاً (أي غير قابل للتعبّد به) في الأزل، ولا موضوعاً ذا حكم؛ وذلك لعدم وجود المكلّف في الأزل، إلاَّ أنّه مجعولٌ فيما لا يزال أي في المستقبل الذي هو زمان الشكِّ؛ فإنَّ نفي التكليف كثبوته بيد الشارع بمعنى أنَّ الشارع له أنْ يُبقي عدم التكليف على حاله، وله أنْ ينقضه بالوجود، فعدم التكليف الأزليّ في زمان الشكِّ مجعولٌ بهذا النحو من الجعل .
وكذا لا مانع من جريان الاستصحاب في موضوع لم يكن له أثرٌ في مرحلة الثبوت مع كونه ذا أثر في مرحلة البقاء، كما إذا علمنا بموت الوالد وشككنا في حياة الولد فلا مانع من استصحاب حياة الولد، وإنْ لم يكن لحياته أثرٌ حال حياة الوالد؛ لكون الأثر مترتّباً على تقدير حياة الولد بعد موت الوالد، وهو انتقال أموال الوالد (أي المورّث) إلى الولد (الوارث) بالإرث .
الدليل (الوجه) على ذلك: صدق نقض اليقين بالشكِّ على رفع اليد عمّا تيقّن به بقاءً لا حدوثاً؛ فإنَّ أدلّة الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشكِّ ناظرةٌ إلى البقاء، فلو لم يكن المستصحب قابلاً للتعبّد به بقاءً لم يجرِ فيه الاستصحاب، ولو كان قابلاً للتعبّد حدوثاً .
فالنتيجة: أنَّ في المقام صوراً أربع:
الأولى: أنْ يكون للمستصحب – حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم شرعيّ – أثرٌ شرعيٌّ حدوثاً وبقاءً.
حكم هذه الصورة: جريان (حجّيّة) الاستصحاب.
الثانية: أنْ لا يكون للمستصحب أثرٌ شرعيٌّ حدوثاً ولا بقاءً.
حكم هذه الصورة: عدم جريان (حجّيّة) الاستصحاب.
الثالثة: أنْ يكون للمستصحب أثرٌ شرعيٌّ حدوثاً لا بقاءً.
حكم هذه الصورة: عدم جريان (حجّيّة) الاستصحاب.
الرابعة: أنْ يكون للمستصحب أثرٌ شرعيٌّ بقاءً لا حدوثاً.
حكم هذه الصورة: جريان (حجّيّة) الاستصحاب.
المطلب السادس: استصحاب الأمور الاعتقاديّة
تقدّم في المطلب السابق أنَّ مورد الاستصحاب لابدَّ أنْ يكون:
أ – إمّا حكماً شرعيّاً، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في زمن الغَيبة.
ب – أو موضوعاً لحكم شرعيّ، كاستصحاب خمريّة المائع الخارجيّ. هذا
وفي جريان الاستصحاب صورتان:
الأولى: أنْ يكون المستصحب حكماً من الأحكام الفرعيّة كالوجوب والحرمة ونحوهما، أو يكون المستصحب من الموضوعات الصرفة الخارجيّة إذا كان ذا حكم شرعيّ كاستصحاب عدالة شخص ممّا يترتّب عليها حكم شرعيّ وهو قبول شهادته وجواز الائتمام به ونحوهما، أو يكون المستصحب موضوعاً لغويّاً كما إذا علمنا أنَّ لفظ الصعيد – وهو موضوع جواز التيمّم – حقيقةٌ لغةً في مطلق وجه الأرض ثمَّ حصل الشكُّ في نقله إلى معنى آخر عند نزول الآية الآمرة بالتيمّم فيستصحب بقائه على المعنى السابق – وهو كونه موضوعاً في مطلق الأرض – ويحكم بجواز التيمّم بمطلق وجه الأرض .
حكم هذه الصورة: أنَّ الاستصحاب جارٍ في هذه الصورة، فيستصحب الحكم الشرعيّ أو الموضوع ذي الحكم الشرعيّ، خارجيّاً صرفاً كان الموضوع أم لغويّاً .
الثانية: أنْ يكون المستصحب من الأمور الاعتقاديّة، وقد عُقد هذا المطلب لبيان أنَّ الاستصحاب هل يجري في الأمور الاعتقاديّة أو لا ؟
وتفصيل الكلام فيه، أنَّ الأمور الاعتقاديّة على قسمين:
القسم الأوّل: ما يجب فيها شرعاً مجرّد الالتزام بها والاعتقاد بها وعقد القلب عليها من دون لزوم تحصيل اليقين بها، كخصوصيّات عالم البرزخ والبعث والحساب والجنّة والنار؛ فإنَّ المطلوب فيها شرعاً هو التسليم لها والاعتقاد بها على ما هي عليها. وهذا القسم على نحوين:
النحو الأوّل: الشبهات الحكميّة، كما إذا شُكَّ في بقاء وجوب الاعتقاد بوحشة القبر؛ لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام.
حكم هذا النحو: لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه، فيستصحب وجوبه في المثال المذكور؛ وذلك:
أ – لوجود المقتضي لجريان الاستصحاب؛ إذ يصحّ تنزيل المشكوك من هذا النحو منزلة اليقين بلا مانع.
ب – عموم قوله (): ((... لا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) ، فإنّه شاملٌ للمورد.
النحو الثاني: الشبهات الموضوعيّة، كما إذا شككنا في بقاء وحشة القبر وضغطته في بقعة من بقاع الأرض؛ كرامة لِمَنْ دفن فيها من نبيّ أو وصيّ.
حكم هذا النحو: لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه، فيستصحب الموضوع ويترتّب عليه حكمه الشرعيّ من وجوب الاعتقاد وعقد القلب عليه؛ لنفس الدليل المذكور في النحو الأوّل .
القسم الثاني: ما يجب فيها شرعاً وعقلاً القطع بها ومعرفتها، كالتوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد؛ إذ أنَّ موضوع وجوب الاعتقاد بها هو معرفتها واليقين بها، لا مجرّد الالتزام بها كما في القسم الأوّل.
وفي هذا القسم نحوان:
النحو الأوّل: الشبهات الحكميّة، كما إذا شكَّ في وجوب تحصيل القطع بشيءٍ كتفاصيل يوم القيامة بعد أنْ كان في زمان قاطعٌ بوجوبه.
حكم هذا النحو: لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه، فنستصحب وجوبه ويترتّب عليه وجوب تحصيل اليقين بتلك التفاصيل.
النحو الثاني: الشبهات الموضوعيّة، كما إذا شكَّ في حياة إمام زمان – مثلاً – الذي هو موضوع يترتّب عليه معرفة إمام الزمان.
حكم هذا النحو: عدم جريان الاستصحاب فيه؛ لأنَّ موضوع وجوب الاعتقاد في هذا القسم المعرفة والقطع بتلك الأمور، ومن الواضح أنَّ المعرفة والقطع لا يثبت بالاستصحاب؛ إذ الموضوع لوجوب الاعتقاد هو الحياة المعلومة – في المثال – ومن المعلوم أنَّ استصحاب الحياة لا يوجب العلم بها حتّى يترتّب عليها وجوب معرفة إمام زمانه، بل لابدَّ من تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكان اليقين .
وعليه فلا يكاد يجدي الاستصحاب في إثبات المعرفة التي هي موضوع وجوب الاعتقاد إلاَّ إذا كان:
أ – الاستصحاب حجّةً من باب الظنِّ.
ب – الأمر الاعتقاديّ ممّا يُكتفى فيه بالمعرفة الظنيّة أيضاً.
فحينئذٍ يجدي الاستصحاب؛ لأنّه يثبت المعرفة الظنيّة التي هي كالمعرفة العلميّة حسب الفرض .
والمفروض أنَّ كلا الأمرين غير موجود في هذا القسم.
استصحاب النبوّة
إنَّ في استصحاب النبوّة تفسيرات ثلاثة:
الأوّل: أنْ تكون النبوّة ناشئةً من كمال النفس بمثابة يوحى إليها، وكانت النبوّة لازمةً لبعض مراتب النفس. وفي هذه الحالة لا يجري استصحاب نفس النبوّة؛ وذلك:
أ – إمّا لعدم الشكِّ في بقاء النبوّة؛ لكونها ممّا لا تزول بعد اتّصاف النفس بها.
ب – أو لعدم كونها من المجعولات الشرعيّة بل من الصفات الخارجيّة التكوينيّة اللازمة لبعض مراتب الكمال حتّى لو فرضنا الشكّ في بقائها؛ لاحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة، وعدم بقائها بتلك المثابة، كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات .
فالنتيجة: أنَّ النبوّة لا يمكن استصحابها؛ إمّا لعدم الشكِّ في بقائها، أو لعدم كونها من المجعولات الشرعيّة، ولا كونها ممّا يترتّب عليه أثرٌ شرعيٌّ مهمٌّ، ومن المعلوم توقّف جريان الاستصحاب على أحدها.
الثاني: أنْ تكون النبوّة من المناصب المجعولة، كالولايّة والقضاوة ونحوهما من الأحكام الوضعيّة المجعولة.
وفي هذه الحالة لا مانع من جريان الاستصحاب فيها، وتكون مورداً للاستصحاب بنفسها؛ إذ المفروض كون النبوّة بنفسها مجعولاً شرعيّاً لا صفة تكوينيّة غير قابلة للاستصحاب كما هو الحال في التفسير الأوّل، فيترتّب عليها بعد استصحابها جميع آثارها، ولو كانت عقليّة.
ولكن الاستصحاب حينئذٍ يحتاج إلى دليلٍ غير منوط بتلك النبوّة وإلاَّ لزم الدور؛ فإنَّ بقاء النبوّة السابقة يتوقّف على الاستصحاب، فلو توقّف الاستصحاب على النبوّة لدار وهو محال.
الثالث: أنْ يكون المراد من النبوّة بعض أحكام شريعة مَنْ اتّصف بها.
وفي هذه الحالة لا إشكال في جريان الاستصحاب في النبوّة؛ لكون المستصحب حينئذٍ – وهو النبوّة – حكماً شرعيّاً .
فالنتيجة من هذه التفسيرات الثلاثة: أنَّ الاستصحاب لا يجري في النبوّة بتفسيرها (بمعناها) الأوّل؛ لكونها من الصفات التكوينيّة الخارجيّة، وكذا لا يجري بمعناها الثاني؛ لاستلزامه الدور، وأمّا بمعناها الثالث فيجري الاستصحاب في النبوّة بلا إشكال.
المطلب السابع: استصحاب حكم المخصَّص
لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقامٍ مع دلالة مثل العام؛ لكونه دليلاً اجتهاديّاً حاكماً على الأصول العمليّة التي منها الاستصحاب، ولا تجري الأصول مع وجود الدليل اللفظيّ الاجتهاديّ قطعاً.
ولكنّه وقع الكلام بين الأصوليّين فيما إذا ورد عامٌّ مطلقٌ من جهة الزمان، بأنْ دلَّ على استمرار الحكم في جميع الأزمنة وإلى الأبد، ثمَّ خُصّص بعض أفراد العامّ في زمانٍ معيّن وشُكَّ بعد انقضاء زمان الخاصّ في حكم الفرد الخاصّ في أنّه محكومٌ بحكم الخاصّ أو لا، وأنَّ المورد بعد هذا الزمان الذي وقع التخصيص فيه هل يكون مورداً لاستصحاب الخاصّ أو مورداً للتمسّك بالعموم ؟ .
مثاله: ما إذا ورد: " أكرم كلَّ عالم "، وقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم في يوم الجمعة، ووقع الخلاف في حرمة إكرامه في يوم السبت، فصار يوم الجمعة متيقّناً ويوم السبت مشكوكاً، فهل يُرجع في يوم السبت إلى عموم العامّ من وجوب الإكرام أو إلى استصحاب حكم الخاصّ من حرمة الإكرام ؟.
وقبل الجواب عن هذا التساؤل لابدَّ من تمهيد مقدّمة، وحاصلها:
إنَّ العموم الأزمانيّ:
أ – تارةً بنحو العموم المجموعيّ بحيث يكون الزمان ظرفاً له، ويكون هناك حكمٌ واحدٌ على نحو الدوام والاستمرار، كوجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى المغرب؛ فإنّه لا يكون وجوب الإمساك تكليفاً متعدّداً بتعدّد آنات هذا اليوم.
ب – وأخرى يكون بنحو العموم الاستغراقيّ بحيث يكون الزمان قيداً له، ويكون الحكم متعدّداً بتعدّد الأفراد الطوليّة – كوجوب الصوم ثلاثين يوماً –، والعرضيّة – كوجوب أكرام العلماء –، ويكون امتثال ومخالفة كلّ حكم غير مرتبط بامتثال ومخالفة الحكم الآخر، فإذا قال المولى: " أكرم العلماء " مثلاً يكون الحكم متعدّداً بتعدّد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد، ولكلِّ حكم إطاعة ومعصية وامتثال ومخالفة.
وكذلك الحال بالنسبة إلى المخصّص:
أ – فتارةً يكون الزمان مأخوذاً فيه بنحو الظرفيّة.
ب – وأخرى يكون الزمان مأخوذاً فيه بنحو القيديّة.
فتحصّل ممّا تقدّم أنَّ في المقام صوراً أربع حاصلها من ضرب 2 × 2 (احتمالين × احتمالين)، والصور هي:
الأولى: أنْ يكون العامّ بنحو العموم المجموعيّ (أي يكون الزمان ظرفاً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو الظرفيّة أيضاً. أي يكون الزمان ظرفاً لكلٍّ من العامّ ومخصِّصه.
الثانية: أنْ يكون العامّ بنحو العموم الاستغراقيّ (أي يكون الزمان قيدً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو القيديّة أيضاً. أي يكون الزمان قيداً لكلٍّ من العامّ ومخصِّصه.
الثالثة: أنْ يكون العامّ بنحو العموم المجموعيّ (أي يكون الزمان ظرفاً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو القيديّة. أي يكون الزمان ظرفاً للعامّ، وقيداً لمخصِّصه.
الرابعة: أنْ يكون العامّ بنحو العموم الاستغراقيّ (أي يكون الزمان قيدً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو الظرفيّة. أي يكون الزمان قيداً للعام، وظرفاً لمخصّصه.
حكم الصور الأربع
وبعد هذه المقدّمة نقول:
حكم الصورة الأولى: وهي كون الزمان في كلٍّ من العامّ والخاصّ مأخوذاً ظرفاً لاستمرار الحكم ودوامه، بحيث لا مدخليّة للزمان في موضوعه أصلاً.
وفي هذه الصورة حالتان:
الحالة الأولى: أنْ يكون الخاصّ قاطعاً لحكم العامّ، فلا محيص عن استصحاب حكم الخاصّ في غير مورد دلالة الخاصّ، أي في غير يوم الجمعة (وهو يوم السبت)، فإذا خرج وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة عن وجوب إكرام العلماء وشُكَّ بعد يوم الجمعة (أي في يوم السبت) في وجوب إكرام زيد وعدمه يستصحب حكم الخاصّ، وهو عدم وجوب الإكرام ولا يتمسّك بالعامّ .
ودليليه: لعدم دلالة العامّ على حكمه – وهو وجوب الإكرام – بعد زمان الخاصّ؛ لأنَّ الخاصّ ليس فرداً للعامّ () بعد زمان التخصيص حتّى يشمله حكم العامّ؛ لأنَّ العامّ يدلّ على حكم واحد مستمرّ حسب الفرض وقد انقطع بالتخصيص يقيناً، وإثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل، فلو أردنا إثبات حكم العامّ للفرد بعد زمان التخصيص كان هذا الحكم غير الحكم الذي قبل زمان التخصيص، كما أنّه منفصلٌ عنه بزمان التخصيص.
وعليه فالعامّ لا يتكفّل إثبات الحكم للفرد بعد زمان التخصيص؛ لأنَّ العامّ إنّما يدلّ على ثبوت حكم واحد مستمرّ، لا حكمين منفصلين، فالحكم الواحد المستمرّ قد انقطع استمراره بواسطة حكم الخاصّ الدالّ على ثبوت الحكم للخاصّ في الزمان السابق – أي زمان الخاصّ وهو يوم الجمعة – من دون دلالته على ثبوت حكم الخاصّ في الزمان اللاحق – وهو زمان الشكِّ أي يوم السبت –، وإلاَّ لو دلَّ الخاصّ على ثبوت حكمه في الزمان اللاحق لكان الدليل الخاصّ هو المرجع في زمان الشكِّ لا الاستصحاب .
فالنتيجة: أنّه بعد زمان الخاصّ – أي في زمان الشكِّ – لا يوجد دليلٌ لفظيٌّ على الحكم:
أ – لا من العامّ.
ب – ولا من الخاصّ.
فيكون المرجع هو الاستصحاب، وبما أنَّ حكم الخاصّ كان متيقّناً سابقاً ومشكوكاً في بقائه لاحقاً فلا مجال إلاَّ لاستصحابه .
الحالة الثانية: أنْ لا يكون الخاصّ قاطعاً لحكم العامّ، وفي هذه الحالة أقوال:
الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ من جريان الاستصحاب في المورد، وأنَّ حكمه نفس حكم ما ذكر في الحالة الأولى المتقدّمة .
الثاني: ما اختاره الآخوند الخراسانيّ من التفصيل:
أ – بين ما لو كان التخصيص موجباً لارتفاع حكم العامّ في أوّل الأزمنة كما في خيار المجلس؛ لعموم قوله تعالى: [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ، فإنّه مخصِّصٌ للعامّ من أوّل أزمنة وقوع البيع إلى أنْ ينتهي المجلس، فبعد انقضاء زمان حكم الخاصّ () يكون المرجع هو عموم [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]، ولا يكون حكم العامّ مرتفعاً إلاَّ في خصوص مورد دلالة الخاصّ ، وهو زمان حكم الخاصّ، وعليه فيتمسّك بالعامّ في هذا المورد .
والسبب في ذلك: أنَّ الخاصّ على هذا الفرض لا يكون قاطعاً لاستمرار حكم العامّ؛ لأنَّ العامّ بعد تخصيصه في أوّل الأزمنة يكون ابتداء زمان استمرار العامّ بعد انقضاء زمان الخاصّ، فلا شبهة في كونه هو المرجع بعد انقضاء زمان الخاصّ، كما هو الحال في خيار المجلس بالنسبة إلى عموم [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]؛ فإنَّ خيار المجلس يرفع حكم لزوم العقد من أوّل زمان انعقاد البيع إلى انقضاء زمان المجلس، فابتداء دلالة [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] على وجوب الوفاء بالعقد هو ما بعد انقضاء زمان خيار المجلس، ولمّا لم يكن هذا الخيار موجباً لانقطاع استمرار حكم العامّ؛ لفرض كون ابتدائه بعد انقضاء زمان الخاصّ، فلا محالة يكون العامّ هو المرجع بعد انقضاء زمان الخاصّ.
ب – وبين ما إذا خُصّص بخيار واقع في أثنائه، فلا يصحّ التمسّك بعموم مثل [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]، كما لو خُصّص بخيار التأخير المتحقّق فيما إذا باع شيئاً ولم يقبض الثمن ولم يسّلم المبيع، فإنّه يلزم البيع ثلاثة أيّام، فإذا جاء المشتري بالثمن فهو أحقّ بالسلعة، وإلاَّ فللبائع الخيار في فسخ البيع، وبعد انقطاع حكم اللزوم لا يصحّ التمسّك بعد الثلاثة بعموم [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] بسبب انقطاع حكمه.
الثالث: ما اختاره المحقّق النائينيّ من التفصيل:
أ – بين ما لو كان مصبّ العموم الزمانيّ متعلّق الحكم.
فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه عند الشكِّ في التخصيص الزمانيّ أو عند الشكِّ في مقداره، بل لابدَّ فيه:
من الرجوع إلى عموم العامّ لو كان.
وإلاَّ لو لم يكن هناك عموم العامّ فيرجع إلى البراءة أو الاشتغال.
ب – وبين ما إذا كان مصبّ العموم الزمانيّ نفس الحكم، فلا مجال للتمسّك فيه بالعامّ الزمانيّ عند الشكِّ في التخصيص أو عند الشكِّ في مقداره، بل لابدَّ فيه:
من الرجوع إلى الاستصحاب لو تمّت أركانه.
وإلاَّ لو لم تتمّ أركانه فيرجع إلى البراءة أو الاشتغال .
الرابع: ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ من التفصيل:
أ – بين ما إذا أُخذ العامّ على نحو القيديّة والمفرّديّة، فيكون المرجع هو العموم الزمانيّ مطلقاً، من دون فرق بين أنْ يكون الزمان في دليل الخاصّ مأخوذاً على نحو:
القيديّة.
أو الظرفيّة.
ومن دون فرق بين أنْ يكون الخروج:
من وسط الأزمنة.
أو من أوّلها.
ب – وبين إذا أُخذ العامّ على نحو الاستمرار والدوام، وكان العامّ ناظراً إلى إثبات حكم سنخيّ لذات موضوع المستمرّ في أجزاء الزمان على نحوٍ يكون قابلاً للتكثّر تحليلاً.
فيكون المرجع عند الشكِّ هو عموم هذا العامّ دون الاستصحاب.
ج – وبين ما إذا كان العامّ ناظراً إلى وحدة الحكم وشخصيّته بنحوٍ قابل للتكثّر ولو تحليلاً.
فلا محيص من الرجوع إلى استصحاب حكم المخصَّص .
الخامس: ما يظهر من المحقّق الأصفهانيّ ، وصرّح به كلٌّ من المحقّق حسين البروجرديّ ، والسيّدين الخوئيّ والخمينيّ ، من أنَّ المرجع هو عموم العامّ مطلقاً، من دون فرق في الصور الأربع، وأنّه لا مجال للتمسّك بالاستصحاب على كلِّ حال.
حكم الصورة الثانية: وهي كون العامّ بنحو العموم الاستغراقيّ (أي يكون الزمان قيدً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو القيديّة أيضاً. أي يكون الزمان قيداً لكلٍّ من العامّ ومخصِّصه.
فلابدَّ من التمسّك بالعامّ في غير مورد دلالة الخاصّ عليه. ففي مثال " أكرم كلَّ عالم " المتقدّم يدلّ العامّ بعمومه الأزمانيّ على وجوب إكرام زيد في يوم السبت؛ لفرض أنَّ العموم في المقام بنحو العموم الاستغراقيّ؛ لكون الزمان قيداً له، فيكون حكم العامّ متعدّداً بتعدّد الأفراد، وكلُّ حكم غير مرتبط بالآخر امتثالاً ومخالفةً. فإذا قال المولى: " أكرم العلماء " يكون الحكم متعدّداً بتعدّد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد، ولكلِّ حكم إطاعة ومعصية وامتثال ومخالفة، فلم يكن خروج فرد من العامّ في زمان مخصوص موجباً لعدم ظهور العامّ بالنسبة إلى الأفراد الباقية .
حكم الصورة الثالثة: وهي كون العامّ بنحو العموم المجموعيّ (أي يكون الزمان ظرفاً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو القيديّة. أي يكون الزمان ظرفاً للعامّ، وقيداً لمخصِّصه.
وفي هذه الصورة أقوال:
الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ من جريان الاستصحاب في المورد، وأنَّ حكمه نفس حكم ما ذكر في الصورة الأولى المتقدّمة .
الثاني: ما اختاره الآخوند الخراسانيّ من عدم الرجوع إلى:
أ – العامّ بعد زمان الخاصّ.
ب – استصحاب حكم الخاصّ.
أمّا عدم الرجوع إلى العامّ؛ فلفرض انقطاع استمرار حكم العامّ بالتخصيص.
وأمّا عدم جريان الاستصحاب؛ فلتعدّد الموضوع لأنَّ المفروض أنَّ الزمان قيدٌ لموضوع الخاصّ، فالحرمة متعلّقة بزيد المقيّد بيوم الجمعة فكيف يمكن تسرية الحرمة إلى موضوع آخر وهو زيد المقيّد بيوم السبت ؟!
وعليه فلابدَّ من الرجوع إلى سائر الأصول، وهو في المقام أصالة البراءة؛ إذ أنّه يُشكُّ بعد يوم الجمعة في وجوب الإكرام، والمرجع عند الشكِّ في التكليف هو أصل البراءة.
الثالث: ما اختاره المحقّق النائينيّ من التفصيل:
أ – بين ما لو كان مصبّ العموم الزمانيّ متعلّق الحكم، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه عند الشكِّ في التخصيص الزمانيّ أو عند الشكِّ في مقداره، بل لابدَّ فيه:
من الرجوع إلى عموم العامّ لو كان.
وإلاَّ لو لم يكن هناك عموم العامّ فيرجع إلى البراءة أو الاشتغال.
ب – وبين ما إذا كان مصبّ العموم الزمانيّ نفس الحكم، فلا مجال للتمسّك فيه بالعامّ الزمانيّ عند الشكِّ في التخصيص أو عند الشكِّ في مقداره، بل لابدَّ فيه:
من الرجوع إلى الاستصحاب لو تمّت أركانه.
وإلاَّ لو لم تتمّ أركانه فيرجع إلى البراءة أو الاشتغال .
الرابع: ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ من التفصيل:
أ – بين ما إذا أُخذ العامّ على نحو القيديّة والمفرّديّة، فيكون المرجع هو العموم الزمانيّ مطلقاً، من دون فرق بين أنْ يكون الزمان في دليل الخاصّ مأخوذاً على نحو:
القيديّة.
أو الظرفيّة.
ومن دون فرق بين أنْ يكون الخروج:
من وسط الأزمنة.
أو من أوّلها.
ب – وبين إذا أُخذ العامّ على نحو الاستمرار والدوام، وكان العامّ ناظراً إلى إثبات حكم سنخيّ لذات موضوع المستمرّ في أجزاء الزمان على نحوٍ يكون قابلاً للتكثّر تحليلاً. فيكون المرجع عند الشكِّ هو عموم هذا العامّ دون الاستصحاب.
ج – وبين ما إذا كان العامّ ناظراً إلى وحدة الحكم وشخصيّته بنحوٍ قابل للتكثّر ولو تحليلاً. فلا محيص من الرجوع إلى استصحاب حكم المخصَّص .
الخامس: ما يظهر من المحقّق الأصفهانيّ ، وصرّح به كلٌّ من المحقّق البروجرديّ ، والسيّدين الخوئيّ والخمينيّ ، من أنَّ المرجع هو عموم العامّ مطلقاً، من دون فرق في الصور الأربع، وأنّه لا مجال للتمسّك بالاستصحاب على كلِّ حال.
حكم الصورة الرابعة: وهي كون العامّ بنحو العموم الاستغراقيّ (أي يكون الزمان قيدً له)، ويكون الزمان في مخصِّصه مأخوذاً بنحو الظرفيّة. أي يكون الزمان قيداً للعام، وظرفاً لمخصّصه.
وفي هذه الصورة يكون المرجع بعد انقضاء زمان الخاصّ هو العامّ؛ لما تقدّم من أنَّ الزمان إذا كان مأخوذاً في العامّ بنحو القيديّة فيكون العامّ منحلاًّ إلى أفراد متعدّدة بتعدّد آنات الزمان، فإذا خرج منه فرد في زمان الخاصّ بسبب التخصيص لم يكن هذا الخروج موجباً لانثلام ظهور العامّ بالنسبة إلى باقي الأفراد ومنها الفرد الواقع بعد انقضاء الزمان الخاصّ، فما بعد زمان الخاصّ فردٌ من أفراد العامّ ويُشكّ في تخصيصه زائداً على التخصيص المعلوم، ومع الشكِّ في التخصيص الزائد يكون المرجع إلى العامّ، ولا يُرجع:
أ – لا إلى الخاصّ.
ب – ولا إلى الاستصحاب.
أمّا عدم الرجوع إلى الخاصّ؛ فلفرض انقضاء زمانه.
وأمّا عدم الرجوع إلى الاستصحاب؛ فلوجود الدليل اللفظيّ وهو العامّ، ومن الواضح عدم جريان الأصل العمليّ مع وجود الدليل (الأصل) اللفظيّ.
وعليه فلولا دلالة العامّ على حكم ما بعد زمان الخاصِّ لكان الاستصحاب مرجعاً عند الشكِّ؛ إذ المفروض أنَّ الزمان قد أُخذ في الخاصّ بنحو الظرفيّة، وهذا يستلزم وحدة الموضوع وعدم انثلامه، فيجري الاستصحاب بعد زمان الخاصّ. بخلاف ما إذا كان الزمان مأخوذاً بنحو القيديّة فإنَّ الموضوع يتعدّد كما تقدّم؛ فإنَّ الحرمة المتعلّقة بزيد المقيّد بيوم الجمعة تختلف عن الحرمة المتعلّقة بزيد المقيّد بيوم السبت، ومع اختلاف الموضوع لا يجري الاستصحاب قطعاً .
المطلب الثامن : المراد من الشكّ في أخبار الاستصحاب ()
الظاهر أنَّ المراد من الشكِّ في أخبار باب الاستصحاب وكلمات الأعلام هو خلاف اليقين، فيعمّ:
أ – الشكّ المنطقيّ، بمعنى تساوي احتمال الطرفين (أي نسبة 50 ).
ب – الظنّ، بمعنى كون طرف أرجح من الآخر (أي نسبة 51 – 97 ).
ج – الوهم، بمعنى كون الطرف مرجوحاً ومتوهّماً (أي نسبة 3 – 49 ).
فمع الظنّ بالخلاف فضلاً عن الظنّ بالوفاق ( ) يجري الاستصحاب، فيستصحب اليقين السابق، وإنْ حصل الظنّ بخلافه ؛ لأنَّ المراد من الشكِّ في أخبار الاستصحاب الأعمّ من الظنِّ والشكِّ والوهم.
الدليل على ذلك
ويدلّ على كون الشكّ في المقام هو خلاف اليقين أمور منها:
الأوّل: إنَّ معنى الشكِّ في اللغة هو خلاف اليقين، لا خصوص تساوي احتمال الطرفين، كما صرّح بذلك غير واحد من اللغويّين، بل في أكثر كتب اللغة .
الثاني: تعارف استعمال لفظ الشكِّ في خلاف اليقين في الأخبار في أبواب متعدّدة، كأخبار الشكِّ في عدد الركعات، وأخبار قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرها .
الثالث: ورد في خصوص أخبار الاستصحاب قرائنٌ (شواهدٌ) تدلّ على أنَّ المراد من لفظ الشكِّ في تلك الأخبار هو خلاف اليقين، ومن هذه القرائن:
1 – قوله () في صحيحة زرارة الأولى: ((... ولكن تنقضه بيقين آخر...)) .
وجه الاستدلال: إنَّ ظاهر كلام الإمام () أنّه في مقام بيان تحديد ما يُنقض به اليقين، وأنّه ليس إلاَّ اليقين، فحصر الناقض باليقين، وأنَّ كلَّ ما هو خلاف اليقين من:
أ – الشكِّ الاصطلاحيّ – أي المنطقيّ –.
ب – الظنّ.
ج – الوهم.
لا يكون ناقضاً، فيستفاد من حصر الناقض باليقين أنَّ الشكَّ خلاف اليقين .
2 – قوله () في صحيحة زرارة الأولى أيضاً: ((... لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام...)) .
وجه الاستدلال: إنَّ هذا القول قد ورد جواباً لسؤال زرارة عمّا إذا حُرّك في جنبه شيءٌ وهو لا يعلم فهل يكون ذلك – أي تحريك شيءٍ في جنبه وهو لا يعلم به – أمارة على حصول النوم الناقض للوضوء أو لا ؟ فقال () في جوابه: ((... لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام...))، فالسائل ذكر في سؤاله ما يمكن أنْ يكون أمارة على حصول الناقض، والمفهوم من جواب الإمام () أنَّ المدار فيما ينقض اليقين بالوضوء هو حصول اليقين بالنوم الذي هو الناقض، ولم يعتنِ بهذه الأمارة، ولم يفصّل بين كون عدم إحساسه بتحريك شيءٍ في جنبه ممّا يوجب الظنّ بالخلاف – أي الظنّ بالنوم – أو لا، بل جعل () المدار على حصول اليقين. فدلّ جوابه () بإطلاقه على عموم النفي – أي نفي وجوب الوضوء – سواء أفادت الأمارة الظنّ بالنوم أم لم تفده؛ لأنَّ ترك التفصيل في كلام الإمام () يفيد الإطلاق .
3 – قوله () في صحيحة زرارة الأولى أيضاً: ((... ولا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ...)) .
وجه الاستدلال: إنَّ الحكم في المغيّى وهو قوله (): ((... لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام...)) مطلقٌ، وإنْ كان الظنّ بالخلاف وهو عدم نقض اليقين بالشكِّ، أي وإنْ حصل الظنّ على خلافه. فلابدَّ من البناء على الوضوء المعلوم سابقاً حتّى مع الظنّ بالخلاف – أي الظنّ بالنوم – حتّى يستيقن أنّه قد نام .
إضافة الشيخ الأنصاريّ دليلين آخرين
وقد استدلّ الشيخ الأنصاريّ بدليلين آخرين على كون الشكّ في باب الاستصحاب خلاف اليقين غير ما تقدّم آنفاً، وهما:
الدليل الأوّل: قيام الإجماع القطعيّ على اعتبار الاستصحاب حتّى مع الظنّ بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الأخبار لا من باب حكم العقل .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنّه لا وجه لدعوى الإجماع القطعيّ، ولو سلّم اتّفاق الأصحاب على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف؛ لجواز استنادهم في هذا الاتّفاق إلى ظهور دلالة الأخبار عليه لا إلى رأي الإمام () الواصل إليهم طبقة بعد طبقة، فيكون هذا الإجماع محتمل المدرك، ولا يكون تعبّديّاً كاشفاً عن قول المعصوم ().
فالنتيجة: إنْ كان المقصود من الاتّفاق هو اتّفاق الكلِّ فهو غير حاصل، وعلى تقدير حصوله فهو مدركيٌّ، ولا يكون حجّة .
الدليل الثاني: إنَّ الظنّ بارتفاع الحالة السابقة:
1 – إنْ علم بعدم اعتباره بالدليل، بأنْ يقوم الدليل المعتبر على إلغائه كالظنّ الحاصل من القياس، فمعناه أنَّ وجود هذا الظنّ كعدمه عند الشارع، ولازم ذلك أنَّ كلّما يترتّب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده، وحيث كان المترتّب على تقدير عدمه هو حجّيّة الاستصحاب؛ لأنَّ الاستصحاب يجري في حالة عدم الظنّ بالخلاف، فلابدَّ وأنْ يكون المترتّب على تقدير وجوده هو حجيّة الاستصحاب أيضاً؛ لما تقدّم من أنَّ معنى قيام الدليل على عدم اعتبار الظنّ هو أنَّ وجوده كعدمه.
2 – وأمّا إذا كان الظنّ بارتفاع الحالة السابقة ممّا لم يقم على اعتباره دليلٌ، بأنْ كان مشكوك الاعتبار كالظنّ الحاصل من الشهرة مثلاً؛ إذ أنَّ اعتباره مشكوكٌ فيه، فيكون رفع اليد عن اليقين السابق به من نقض اليقين بالشكِّ .
تعقيب ومناقشة
يبدو أنَّ ما ذكره الشيخ الأنصاريّ قابلٌ للمناقشة؛ فإنَّ مقتضى عدم اعتبار الظنّ إمّا للدليل على عدم اعتباره كالقياس، أو لعدم الدليل على اعتباره كالشهرة، أنّه لا يثبت به مؤدّاه – أي ما ظُنّ به –، فالدليل على عدم اعتبار الظنّ غاية دلالته هو التعبّد بإلغاء هذا الظنّ، وعدم الأخذ بما أدّى إليه هذا الظنّ، لا ترتيب آثار الشكِّ؛ إذ المفروض أنّه لا وجود للشكِّ بل الموجود هو الظنّ، فلابدَّ عند افتراض عدم دلالة الأخبار على اعتبار الاستصحاب مع تحقّق الظنّ بالخلاف من الرجوع إلى سائر الأصول العمليّة غير الاستصحاب؛ إذ كما لا يجوز الرجوع للظنّ؛ لفرض عدم اعتباره، كذلك لا يجوز الرجوع للاستصحاب؛ لفرض أنَّ موضوعه الشكّ، وهو غير موجود، بل الموجود هو الظنّ.
المبحث الثاني: أثر تنبيهات الاستصحاب في الاستنباط الفقهيّ المعاصر
وفيه مسائل :
الأولى : طهارة اللحم المشكوك التذكية .
الثانية : الذبح بسكين مشكوكة أنّها من الحديد أو الاستيل .
الثالثة : نقل النطفة المخصّبة إلى رحم الزوجة بعد موت زوجها .
الرابعة : اللزوم في عقد التوريد .
الخامسة : الشكُّ في حصول الاستحالة بالنسبة للجيلاتين الحيوانيّ .
السادسة : الكحول الموجود في بعض المواد الغذائيّة والدوائيّة .
السابعة : مياه الصرف الصحّي المعالجة .
الثامنة : إهداء ( التبرّع بـ ) كلية واحدة .
التاسعة : التيمّم على سطح القمر ونحوه .
المسألة الأولى: طهارة اللحم المشكوك التذكية
أفتى المشهور في موارد الشكِّ في ذكاة الحيوان بـ:
حرمة أكل الحيوان المشكوك التذكية.
نجاسته .
وذلك لأنَّ أصالة البراءة – التي هي أصالة الحلِّ عند مشهور الأصوليّين – تقتضي حلّيّة الذبيحة المشكوكة التذكيّة، إلاَّ أنَّ أصالة عدم التذكية تقتضي البناء على عدم الحلّيّة، وفي هذه الحالة أفتى الفقهاء بتقدّم أصالة عدم التذكية على أصالة البراءة (الحلِّ) لأسباب ذُكرت في الفصل الأوّل.
والسيّد الخوئيّ وبعض تلامذته كالسيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد محمّد الحسينيّ الروحانيّ ، والسيّد السيستانيّ ، والسيّد الخامنئيّ ، والشيخ الفيّاض ، والسيّد محمّد صادق الروحانيّ ، والشيخ بشير حسين النجفيّ ، وآخرين كالشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ ، والسيّد محمود الهاشميّ ، قد وافقوا المشهور بالحكم بعدم حلّيّة الحيوان المشكوك التذكية إلاَّ أنّهم خالفوه في مسألة نجاسته، وحَكَمَوا بطهارة اللحم ظاهراً.
وسبب الحكم بطهارة اللحم ظاهراً من الحيوان المشكوك التذكية أنَّ النجس هو خصوص الميتة، وهي عنوانٌ وجوديٌّ، فإذا احتمل التذكية – ولو احتمالاً ضعيفاً – جرى استصحاب عدم التذكية، وهو لا يثبت عنوان الميتة إلاَّ على القول بحجّيّة الأصل المثبت، وقد تقدّم في الفصل الثالث أنّه لا يكون حجّة.
فالمرجع حينئذٍ أصالة الطهارة ، ولا تنافي بين الحكم بحرمة أكل لحمه وبين الحكم بطهارته .
وبعبارة أخرى: إنَّ موضوع النجاسة عنوان الميتة الذي هو وجوديّ؛ لأنّها عبارةٌ عمّا زُهقت روحه بسبب غير شرعيّ، بخلاف حرمة الأكل والصلاة فإنَّ موضوعها عدم التذكية، فبأصالة عدم التذكية تثبت الحرمة دون النجاسة؛ إذ باستصحاب الأمر العدميّ (عدم التذكية) لا يثبت الأمر الوجوديّ إلاَّ بناءً على حجّيّة الأصل المثبت، والمعروف بين الأصوليّين عدم حجّيّته وثبوته، فتجري قاعد الطهارة بلا معارض ؛ فإنَّ النجس هو الميتة، ولم يثبت كون هذه اللحوم والشحوم والجلود مأخوذةً من الحيوان الميتة .
وعليه فيكون موضوع الطهارة أوسع من موضوع الحلّيّة؛ فلتحقّق الحلّيّة لابدَّ من إحراز التذكية بشرائطها المتحقّقة، ومع الشكِّ في تحقّق ذلك فلا يثبت عنوان التذكية، ولا يصحّ استعماله فيما يتوقّف على التذكية.
وأمّا موضوع الطهارة فلم يُؤخذ فيه إلاَّ عدم إحراز أنّه ميتةٌ، والميتة عنوانٌ وجوديٌّ لابدَّ لتحقّقه من شرائط معيّنة، فما لم يُحرز أنّه ميتةٌ يجري عليه الحكم بالطهارة. فالفرق يتّضح في مورد الشكِّ، فإنَّ أصالة عدم التذكية تمنع من الحكم بالحلّيّة، إلاَّ أنّها لا تثبت موضوع النجاسة، وبالتالي يحكم بالطهارة حينئذٍ .
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه المسألة هي من المسائل المهمّة في هذا العصر، وخصوصاً للمغتربين في البلدان غير الإسلاميّة الذين يتعاملون باللحوم المشكوكة، وكذلك في البلدان الإسلاميّة التي تستورد تلك اللحوم من البلدان الأجنبيّة كالبرازيل أو الهند ونحوهما خصوصاً في هذه الأيّام، فقد أفتى غير واحد – كما تقدّم – بطهارة هذه اللحوم، ولا يجب الغسل عند مسّها، وخصوصاً عند الباعة الذين كثيراً ما يباشرون هذه اللحوم بأيديهم.
والسيّد الخوئي قد اُستفتي أبان الحرب العراقيّة – الإيرانيّة عن حكم المرق الذي يوضع فيه تلك اللحوم المشكوكة التذكية المستوردة من البلدان غير الإسلاميّة. فأجاب: بجواز شرب المرق دون أكل اللحم؛ لأنّه حَكَمَ بطهارة هذا المرق حتّى بعد ملامسته للحم المشكوك التذكية. وقريب منه ما ذكره كلٌّ من الشيخ مكارم الشيرازيّ، والشيخ الفيّاض ؛ إذ حَكَمَا بحلّيّة مرقه، فإذا أمكن عزل اللحم تماماً عن المرق بحيث لا يحتوي على عصارة اللحم فلا بأس به.
ويشمل هذا الحكم – أي الجواز والحكم بالطهارة – استعمال الحقائب والأحذية وأغلفة الدفاتر المشتملة على جلود الحيوانات المستوردة من البلدان غير الإسلاميّة، والتي تكون المشكوكة التذكية .
نعم إذا أحرز (علم) أنّه من حيوان:
غير مذكّى (مذبوح بغير الطريقة الإسلاميّة).
أو مات حتف أنفه.
فيُحكم على لحمه وشحمه وجلده بـ:
1 – النجاسة. 2 – حرمة أكله .
وأمّا ما يصنع في البلاد الإسلاميّة من اللحوم المعلّبة والمصنوعات الجلديّة فلا بأس بها إلاَّ إذا علم بعدم كونه مذكّى .
المسألة الثانية: الذبح بسكين مشكوكة أنها من الحديد أو الاستيل
المعروف بين الفقهاء لزوم أنْ يكون الذبح بسكين من الحديد (+)، وجعلوا ذلك شرطاً للحكم بحلّيّة الذبيحة، وقد دلّت روايات غير قليلة على الاشتراط منها:
صحيحة محمّد بن مسلم قال سألت أبا جعفر ]الباقر[ () عن الذبيحة بالليطة وبالمروة ؟ فقال: ((لا ذكاة إلاَّ بحديدة، والحجر والقصبة ؟ فقال: قال عليّ (): لا يصلح إلاَّ بالحديدة)) ، وغيرها.
ويتفرّع على ذلك الحكم بعدم حلّيّة الذبيحة المذكّاة بغير الحديد في صورة العلم والعمد. هذا
إذا أُحرز أنَّ السكين من الحديد أم من غيره، والصورة الأكثر شيوعاً – خصوصاً في هذا الزمان – ما إذا شُكَّ في كون السكين من الحديد حتّى يصحّ الذبح بها أم من غيره فيلزم تركها.
وسبب شيوع وكثرة هذه الحالة أنَّ كثيراً من المكلّفين ليست عنده القدرة على تشخيص نوع السكين، وأنّها حديدٌ أو لا، وخصوصاً مع الاختلاف الحاصل – حتّى بين الفقهاء ( +) – في أنَّ إضافة مقدار من مادّة الكروم – والتي تعدّ الأساس في كون السكين من الاستيل – هل يخرج السكين الحديد عن كونها حديداً أو لا ؟.
مع الإشارة إلى أنَّ نسبة الخليط (الكروم) إذا كانت مستهلكة (قليلة جدّاً) فلا إشكال في عدم كونها مخرجةً للسكين عن اسم الحديد.
وعليه فما هو تكليف الشخص تجاه الذبح بسكين مشكوكة في أنّها من الحديد أم الاستيل ؟
والمعروف أنَّ الأعلام أفتوا بحلّيّة الذبيحة إذا اُستعمل في ذبحها تلك السكين، مستدلّين (بالاستصحاب وتقريب التمسّك به هو أنَّ مرجع الشكِّ في أنَّ الآلة المستخدمة في الذبح هل كانت من جنس الاستيل أم من جنس الحديد إلى الشكِّ في أنَّ الحديد المستخدم في صناعة الآلة هل أُضيفت إليه كمية من الكروم ونحوه من المعادن بعد صهره وقبل جعله سبيكة على شكل سكين أو شفرة أو نحوهما أو لا ؟ وفي مثله لا مانع من استصحاب بقائه على ما كان، أي حديداً غير مخلوط بشيءٍ، فيحكم بحلّيّة المذبوح به) .
وفي مقابل هذا القول ذهب الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض إلى عدم جواز الذبح في السكين المشكوكة كونها من الحديد المخلوط بها مادّة الكروم بنسبة ضئيلة لا تمنع من صدق الذبح بالحديد أم أنَّ نسبة الكروم لم تكن كذلك (أي ضئيلة) .
المسألة الثالثة: نقل النطفة المخصّبة إلى رحم الزوجة بعد موت زوجها
إنَّ عمليّة نقل نطفة الزوجين إلى الزوجة بعد وفاة زوجها يمكن إجرائها بأنْ تؤخذ بويضة أو أكثر مع حيوان منَوي من الزوج، ويستعان باثنتين في الشهر الأوّل ويوضع الباقي في ثلاجة يجمّد إلى فترة بعد سنة أو سنتين أو يمكن حتّى بعد وفاة الزوج، ويمكن أن توضع هذه الأجنة مرّة أخرى في الرحم.
والمعروف بطلان الزوجيّة أو انتهائها بموت أحد الزوجين؛ فإنَّ المفهوم حسب المتفاهم العرفي قيامها بالأحياء دون الأموات، ولا بين الأحياء والأموات، فالميّت كان زوجاً لا أنّه بالفعل زوج للحيّ أو الحيّة.
وعليه فلا مجال لاستصحاب بقاء الزوجية؛ لعدم بقاء الموضوع.
وأمّا ما ورد في الأخبار من جواز غسل كلّ منهما للأخر إذا مات والنظر إليه – فمع الغض عن تعارضه بغيره – لا يستفاد منه بقاء الزوجيّة؛ فإنّه حكمٌ تعبّديٌّ نلتزم به كما نلتزم بولاية الزوج على زوجته الميّتة لأجل النصّ.
والذي يؤكّد أو يدلّ على ما ذلك استنكار المتشرّعة وطئ الزوج زوجته الميّتة، بل أرسل بعض الفقهاء حرمته إرسال المسلّمات.
ويدلّ على بطلان الزوجية بموت إحداهما جواز نكاح الخامسة فور موتها، وكذلك تزويج أختها .
وعليه فبناءً على بطلان الزوجية لا يجوز نقل تلك النطفة المخصّبة إلى رحم الزوجة بعد موت زوجها إلا بناءً على حجّيّة الاستصحاب التعليقيّ، وتقدّم في الفصل الثالث أنَّ بعض الأعلام كالسيّد الخوئيّ لا يقول بحجّيّته.
وأمّا مَنْ يقول بجريانه كالسيّد محمّد باقر الصدر وآخرين فلا مانع من نقل النطفة المخصّبة حينئذٍ، فالمسألة تعدّ من تطبيقات الاستصحاب بناءً على القول بحجّيّة الاستصحاب التعليقيّ.
ويلحق بموت الزوج في الحكم طلاق الزوجة بل الحكم فيه أظهر .
المسألة الرابعة: اللزوم في عقد التوريد
وقع الاختلاف بين الأعلام في أنَّ عقد التوريد هل يكون لازماً أو ليس بلازم ؟
وقد ذكر علماء الإماميّة للزوم العقد أدلّة يمكن جريانها في عقد التوريد منها:
التمسّك بالأصل العمليّ، ومقصودهم بالأصل العمليّ قاعدة الاستصحاب التي تقتضي لزوم العقد؛ فإنَّ الأصل اللزوم (في كلِّ عقد شُكَّ في لزومه شرعاً، وكذا لو شُكَّ في أنَّ الواقع في الخارج عقدٌ لازمٌ أو جائزٌ) .
وتوضيح ذلك: إنَّ عقد التوريد بعد انعقاده وحصول الاتّفاق بين الطرفين (البائع والمشتري) على مضمونه يقتضي ملكيّة كلّ طرف لما في ذمّة الآخر شيئاً معيّناً يستحقّ قبضه في مدّة معيّنة، فإذا شُكَّ في زوال هذا العقد (التمليك) بمجرّد رجوع أحد الطرفين مع عدم رضا صاحبه (الطرف الآخر)، يجري حينئذٍ استصحاب بقاء العقد (الملك)، وهذا معناه لزوم العقد وعدم فسخ العقد إذا حصل الفسخ من أحد الطرفين مع عدم رضا الطرف الآخر .
المسألة الخامسة: الشكُّ في حصول الاستحالة بالنسبة للجيلاتين الحيوانيّ
من المعلوم أنَّ مادّة الجيلاتين تدخل في صناعة كثير من المواد الغذائيّة، ويكون أكثرها مصنوعاً في البلدان غير الإسلاميّة، وهي على أقسام ثلاثة:
1 – فبعضها مصنوعة من الحيوانات المشكوكة التذكية، ويدخل في تركيبتها مواد حيوانيّة.
وحكمها: الطهارة إلاَّ أنه لا يجوز تناولها، من غير فرق بين كونها مأخوذةً من أجزاء الذبيحة التي تحلّها الحياة كالغضروف، أم من غيره على الأحوط، إلاَّ في موردين:
أنْ يكون المقدار المضاف إلى الأطعمة مستهلك فيها عرفاً.
إحراز استحالة (تبّدل الصورة النوعيّة) الجيلاتين إلى مادّة أخرى.
2 – وأخرى مصنوعة من بعض المواد الصناعيّة أو النباتيّة.
وحكمها جواز تناولها بلا إشكال.
3 – وأخرى يُشكّ في أنّها من القسم الأوّل أم الثاني – وهي الحالة الغالبة –.
وهنا تجري أصالة الحلّيّة والبراءة عن حرمتها. وهذا لا إشكال فيه.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا القسم (الثالث) – أي الشكُّ في كون الجيلاتين حيوانيّ أو لا – يمكن عدّه من تطبيقات أصالة البراءة، والتي تقّدم الكلام عنها في الفصل الأوّل .
ويتفرّع على الشقّ الثاني في القسم الأوّل (جواز أكل الجيلاتين في صورة إحراز استحالته) ما إذا شُكَّ في حصول الاستحالة نظراً للشكِّ في سعة مفهومها وضيقه (الشبهة المفهوميّة)، فهل يجري استصحاب النجاسة السابقة أو لا ؟
والجواب: إنَّ الاستصحاب وإنْ كان لا يجري في موارد الشبهات المفهوميّة، لا في ذات الموضوع، ولا فيه بوصف كونه موضوعاً ولا في الحكم، ولكن بما أنَّ الموضوع للنجاسة هو الصور النوعيّة العرفيّة، وبقاؤها إنّما هو ببقاء المهمّ من خواصها عند العقلاء، فالشكُّ في تحقّق الاستحالة – من جهة الشكِّ في سعة مفهومها وضيقه – مرجعه إلى الشكِّ في بقاء الصورة النوعيّة ببقاء الخواص المقوّمة لها، وهي من الأمور الخارجيّة، فلا مانع من إجراء الاستصحاب في مورده .
المسألة السادسة: الكحول الموجود في بعض المواد الغذائيّة والدوائيّة
هناك مادّة تسمّى بـ (كفير) وهي تستعمل في مجال صناعة الأغذية والأدوية، وفي أثناء التخمير يحصل بحدود 5 – 8 % من الكحول في المادّة المُنْتَجة، وهذا المقدار القليل من الكحول لا يوجب أيّ نوع من السُكر عند المستهلك عادة، فوقع التساؤل عن حكم استعمال المواد الغذائيّة والدوائيّة المشتملة على هذه المادّة ؟
وفيها صورتان:
الأولى: ما إذا علمنا أنَّ الكحول في المادّة المُنْتَجة مسكراً في نفسه.
حكمها: أنّه نجسٌ وحرام على الأحوط وجوباً.
الثانية: ما إذا علمنا أنَّ الكحول في المادّة المُنْتَجة ليس مسكراً في نفسه.
حكمها: لا بأس بتناوله، ولا يحكم بنجاسته على رأي أكثر المعاصرين ، فيجوز استعمال السوائل الحاوية على مركّبات كيماويّة تسمّى بـ (كحول أثيليّ) يوجد في الفانيلاّ؛ لعمل الكيك والمعجّنات ، وكذلك الأدوية المشتملة على الكحول المستهلك فيها. والكحول محكومٌ بالطهارة على كلِّ حال مستهلكاً كان أم لا .
خلافاً للسيّد محمّد سعيد الحكيم القائل بأنَّ (انعدام الكحول ] إذا كان [بسبب تحويلها إلى مادّة غير مسكرة بطريق التفاعلات الكيمياويّة فهي طاهرة يجوز شربه، وإذا كان بطريق سحب الكحول بعد وجوده فيها بنحو من التصفية فهي نجسة لا يجوز شربه) .
الثالثة: ما إذا لم نعلم (تردّد) حال الكحول في المادّة المُنْتَجة وأنّه مسكر في نفسه أم لا.
حكمها: الظاهر جريان استصحاب عدم كونه مسكراً، ويكون حكمها حكم الصورة الثانية .
المسألة السابعة: مياه الصرف الصحي المعالجة
وقع الكلام في طهارة وحلّيّة استعمال المياه المعالجة رباعيّاً، وهي مياه الصرف الصحّيّ (المجاري) التي:
1 – يتمّ تنقيتها أوّلاً.
2 – ثمَّ معالجتها في أحواض مكشوفة للشمس.
3 – وبعد ذلك يتمّ إدخالها إلى فلاتر عالية الدقّة بحيث تزيل جميع العوالق الميكروسكوبيّة والأملاح.
4 – وبعد ذلك يتمّ معالجة هذه المياه بـ (التناضح العكسيّ)، وهي العمليّة التي تحوّل هذا الماء إلى ماء عذب لا طعم ولا رائحة ولا لون له.
والمعروف أنَّ الفقهاء يحكمون على هذا الماء:
بالنجاسة.
وعدم جواز شربه.
وعدم التوضّؤ به.
وذلك لاستصحاب بقائه على النجاسة.
نعم، يمكن تطهير هذا الماء من خلال اتّصاله بـ:
أ – الماء المطلق.
ب – الجاري.
في أثناء العمليّة أو بعدها .
ومن هذا القبيل قيام بعض الشركات بتصفية مياه المجاري الناتجة عن خطّ إنتاج المشروبات الغازيّة – المشتمل على مياه الغسيل وغسل أرضيّة القاعات والأجهزة –، مع مياه المجاري الصحّيّة – ومصدرها الحمّامات والمرافقات الصحّيّة – .
وفي محلّ التصفية يقطع خليط مياه المجاري الصناعيّة والبشريّة مراحل مختلفة، يتحوّل في مرحلتها الأولى إلى شكل مختلف تماماً عنه قبل التصفية ويستحيل إلى سائل له هيأة الماء المضاف.
وفي المرحلة التالية للتصفية يتحلّل هذا السائل إلى قسمين أحدهما زلال شبيه بالماء العاديّ، وله مواصفات الماء فهو عديم اللون والرائحة مضافاً إلى نقائه من آثار التلوّث.
وحكمه:
النجاسة.
وعدم جواز شربه.
وعدم التوضّؤ به.
وذلك لاستصحاب بقائه على النجاسة.
نعم، يمكن تطهير هذا الماء من خلال اتّصاله بـ:
أ – الماء الكثير (الكرّ).
ب – الجاري.
ج – ماء المطر.
في أثناء العمليّة أو بعدها .
كما يحكم على الماء بالطهارة أيضاً، ويمكن استعماله في صورتين:
حصول التبخير.
الاستحالة النوعيّة .
تفريع: تطهير الشيء المتنجّس ببخار الماء
في شعبة التعقيم ( C. S. R ) تُعقّم الملابس والأدوات المستعملة في صالة العمليّات، والتي أصحبت نجسةً بواسطة أمرين معاً:
1 – الضغط.
2 – بخار الماء.
وتجري هذه العمليّة تحت ظروف خاصّة، فيقع التساؤل عن حكم طهارة هذه الأشياء المتنجّسة، وهل يحكم بطهارته باستعمال هذه الطريقة، مع حصول الاطمئنان بكونها معقّمةً أو لا ؟
والجواب: إنَّ الشيء المتنجّس لا يطهر بهذه العمليّة ، وإنْ أصبح معقّماً؛ وذلك لاستصحاب بقاء النجاسة الحادثة سابقاً؛ إذ أنّنا كنّا على يقين بحصول النجاسة في هذه الأشياء، ونشكّ بالطهارة عند استعمال هذه العمليّة، فنستصحب بقاء النجاسة المتيقّنة سابقاً.
المسألة الثامنة: إهداء (التبرّع بـ) كلية واحدة
نظراً لأهمّيّة ترقيع الكلية في إنقاذ حياة المريض، فإنَّ الأطباء يفكّرون في إنشاء بنك للكلى، وهذا يعني أنَّ الكثير من الأشخاص سيبادرون اختياراً إلى إهداء أو بيع الكلى، فوقع التساؤل عن حكم بيع أو إهداء الكلية.
وفي المسألة قولان:
الأوّل: إنَّ إهداء كلية واحدة برعاية الطبيب الماهر وإنْ لم يستلزم ضرراً لصاحبها بالفعل لكنّه يخاف على نفسه إذا اُبتليت كليته الأخرى بالنقص والمرض في المستقبل، فلم تقدر على دفع سموم الدم إلى المثانة، ولم يجد مَنْ يعطيه الكلية بلا عوض، ولم يقدر هو على عوضها.
ويمكن الاعتماد على:
1 – استصحاب سلامة الكلية الباقية من الأمراض.
2 – أو استصحاب عدم حدوث المرض على الكلية الباقية في المستقبل.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الاستصحاب المذكور لا يدفع احتمال الضرر والخوف منه، فلا يجوز للمتبرّع إهدائها دفعاً للضرر حتّى إذا كان هذا الغير ابنه، وكان مرضه حرجيّاً للوالد؛ فإنَّ قاعدة لا حرج معارضة أو مزاحمة بقاعدة حرمة الإضرار بالنفس.
وبعبارة أخرى: يشكل إجراء قاعدة لا حرج في مثل المقام. إلاَّ أنْ يُدّعى أنَّ احتمال مثل هذا الضرر في المستقبل ضعيف، ولا يوجب العقلاء دفعه .
فالنتيجة: أنَّ الأحوط وجوباً عدم جواز بيع الأعضاء خصوصاً ما كان منها معرضاً لأنْ يتوقّف عليه حياة الإنسان كالكلية ونحوها، بل إذا خُشي من قلع العضو ضرراً تتعرّض معه الحياة للخطر فهو حرام بلا إشكال ؛ إذ أنَّ الله تعالى قد أنعم على الإنسان بهذه الأعضاء لينتفع بها، فيشكل التخلّي عنها والحرمان منها، سواء كان ذلك:
تبرّعاً.
أو من أجل النفع الماليّ.
نعم، إذا توقّف على ذلك إنقاذ حياة مؤمن فلا بأس بقلعها ودفعها له – تبرّعاً أو بثمن – مع عدم تعرّض صاحبها للخطر؛ لمزاحمة الداعي المذكور – وهو إنقاذ حياة المؤمن – للحرمة المحتملة .
الثاني: ما اختاره السيّد عليّ الخامنئيّ من التفصيل، وحاصله: إنَّ انتزاع الأعضاء (كالقلب والكلية ونحوهما) من بدن الإنسان المشرف على الموت فيما إذا عجز الأطباء عن معالجته:
إنْ كان يؤدّي إلى موته فحكمه حكم القتل ويحرم أخذه بلا إشكال.
وإلاَّ فلا مانع منه إذا كان بإذنه؛ ولعلّه للبراءة من حرمة ذلك (+).
وكذا الحال (أي الجواز) في مبادرة المكلّف حين الحياة إلى بيع أو إهداء كليته، أو أي عضو من بدنه؛ لاستفادة المرضى منه، بل قد يجب ذلك فيما إذا توقّف عليه إنقاذ النفس المحترمة، إذا لم يترتّب عليه أيّ حرج أو ضرر على نفس الشخص ، نعم جواز الإهداء والتبرّع مشروطٌ بعدم تعرّض المتبرّع للخطر .
وأفتى السيّد عليّ الخامنئيّ أيضاً بجواز أخذ العين أو القرنية ونحوهما وإنْ كانت من بدن الميّت المسلم إذا كان ذلك برضى وإذن الميّت، ولا مانع من الوصيّة بذلك، ما لم يوجب قطعها منه هتك حرمة الميّت عرفاً، ويتأكّد الجواز في صورة توقّف حفظ النفس المحترمة عليه، بل قد يجب كما تقدّم .
وذكر السيّد السيستانيّ تفصيلاً حاصله أنّه (لا يجوز قطع جزء من إنسان حيّ لإلحاقه بجسم غيره إذا كان قطعُه يُلحق به ضرراً بليغاً كما في قلع العين وقطع اليد وما شاكلها.
وأمّا إذا لم يُلحق به الضرر البليغ – كما في قطع:
]1[ قطعة من الجلد.
]2[ أو جزء من النخاع.
]3 [أو إحدى الكليتين لِمَنْ لديه كلية سليمة.
فلا بأس به مع رضا صاحبه إذا لم يكن قاصراً لصغرٍ أو جنونٍ وإلاَّ لم يجز مطلقاً، وكما يجوز القطع في الصورة ] الأولى والثانية والثالثة [ المذكورة يجوز أخذ المال بإزاء الجزء المقطوع) ، وإنّما يجوز قطع عضو من أعضاء إنسان حيّ للترقيع – حسب التفصيل المتقدّم – فيما إذا كان ذلك برضاه ، ولم يتعرّض المأخوذ منه للخطر، ويجوز أخذ الاموال بعنوان الهبة والهدية من الناس الذين يتاجرون ببيع وشراء بعض أجزاء جسم الإنسان مثل الكلية وغيرها .
وعليه فالتبرّع بالأعضاء جائزٌ بشروط ثلاثة:
1 – أنْ لا يؤدّي تصرّفه فيها إلى هلاكه، كالتبرّع بالقلب والرأس ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليها حياته.
2 – أنْ لا يؤدّي إلى الضرر المعتدّ به.
3 – أنْ لا يؤدّي إلى التشوّه في هندامه، كالتبرّع بالعين واليد والرجل وما شاكل ذلك.
فإنْ تمّت هذه الشروط جاز التبرّع (+)، وإلاَّ فلا يجوز؛ فإنَّ الإنسان لا يملك أعضاءه فيما إذا لم تتمّ الشروط المتقدّمة .
تفريع: التبرّع بالدم
لا يشمل الحكم بالمنع عن التبرّع بالكلية (وفق الرأي الأوّل) التبرّع بالدم؛ إذ لا إشكال فيه، والأصل البراءة (+ +)، وخصوصاً في صورة الحاجة إليه، وتحديداً للفصائل النادرة، بل قد يجب التبرّع بالدم في صورة توقّف حياة نفس محترمة عليه ، وحاجة المرضى له ، ما دام يقوم عليه منافع محلّلة تتمثّل بإنقاذ أرواح المرضى ، كما يجوز أخذ العوض عليه .
ويجوز أيضاً التبرّع بالدم لإنقاذ حياة الإنسان الكافر ؛ لعدم الدليل على الحرمة، والأصل البراءة.
المسألة التاسعة: التيمّم على سطح القمر ونحوه
لا إشكال في أنَّ التيمّم إنّما يكون بصعيد الأرض، كما دلّت عليه الأدلّة العديدة من الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، فمن الكتاب الكريم قوله تعالى [ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ، ونحوه من النصوص الشرعيّة.
والمعروف بين الأعلام إحراز أنَّ ما يتمّم به أرضاً، فمع الشكِّ في ذلك لا يجوز التيمّم فيه ما لم يحرز أنّها أرضٌ، وإنْ كان أصله منها كرماد غير الأرض، وبعض المعادن كالذهب والفضة ونحوهما ممّا لا يسمّى أرضاً . هذا في سطح كوكب الأرض.
وإنّما الكلام فيما كان المكلّف على سطح القمر، وكذا بقيّة الكواكب، وفَقَدَ الماء وأراد التيمّم وشكَّ في صدق الصعيد على سطحه، خصوصاً من جهة الاحتمال المعتدّ به أنَّ سطحه من قبيل المعدن أو الحديد المتقطّع ونحوهما، لم يجز استعماله في التيمّم، ويكون فاقداً للطهورين ، ويجري استصحاب العدم الأزليّ – بناءً على مَنْ يقول بحجّيّته كالآخوند الخراسانيّ ، والسيّد الخوئيّ –؛ فإنّا كنّا على يقين سابقاً بعدم وجود أرض وأنّه لا يجوز التيمّم بها، ونشكّ الآن بأنّها أرضٌ يجوز التيمّم بها أم لا، فنستصحب العدم (+).