أسلوب التعبئة النفسية في القرآن الكريم - دراسة تفسيرية

رسالة تقدم بها الطالب قاسم مهدي محمد فاضل المسلماوي إلى مجلس كلية الفقه/جامعة الكوفة وهي جزء من متطلبات نيل شهادة الماجستير في الشريعة والعلوم الإسلامية – بإشراف أ.د. عبد الإله نعمة شبيب / 1442هـ  - 2020 م

   المقدمة:                                    

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وأشرف الخلق أجمعين محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد:

إنّ الدراسة الأكاديمية قد اعتادت أن تُقسِّم الإطار النظرية للبحث تقسيماً منهجيا مبوّبًا على فقرات معنونة بعنوانات مختلفة لغرض أن يركّز الباحث ذهنه في حدود كلّ عنوانٍ، ولا يتجاوزه إلى سواه حتى تستوفي كلّ فقرة أفكارها التي تكشف عنها بطريقة علمية واضحة لا زيادة فيها ولا نقصان، وعلى هذا الأساس سأُقسِّم هذه المقدمة على ما اعتادت البحوث الأكاديمية أن تُقسِّمها على ما يأتي:

    

1- مشكلة البحث: 

اعتادت الدراسات السابقة لظاهرة التعبئة النفسية على استعمال منهجية الوعظ والإرشاد الديني المؤثر في عاطفة المتلقي من دون إعمال عقله، فضلا عن اقتصارها على موضوع العبادات والأخلاق أو التعبئة في حالة الحرب، ومن هنا تظهر مشكلة البحث لمعرفة إمكانية شمول هذا الموضوع لجميع مناحي الحياة المختلفة: النفسية والاجتماعية والعلمية الطبيعية والفنية سواء في الفنون البشرية أم في القرآن الكريم، في حالة السلم، لغرض تنمية ملكات النفس الإدراكية بمشاركة العقل للعاطفة، إذ تتحد أفكار الإنسان بالشعور بأهمية تطبيقها.

وتكمن مشكلة البحث في الجواب عن السؤال الآتي:

ما أسلوب القرآن الكريم في التعبئة النفسية ؟


2- أهمية الموضوع:

ترجع أهمية موضوع هذه الرسالة الموسومة بـ(أسلوب التعبئة النفسية في القرآن الكريم، دراسة تفسيرية) إلى محاولة تقديم رؤية منهجية واضحة تكشف عن المعاني النفسية الخفيّة في الأساليب التي اتبعها القرآن الكريم لتحقيق هدفه الأسمى وهو هداية الناس إلى ما يُحقق سعادتهم الدنيوية والأخروية، لتنظيم العلاقة بين العبد وربّه من جهة، وتنظيم العلاقة بين الناس أنفسهم من جهة أخرى عن طريق نوع خاص من التواصل يُسمّى بـ(المعاملاتي) كما ان كل شيء مرهون بهذه النفس الإنسانية فاذا تمكن الانسان من تعبئتها تعبئة إيجابية يعيش في امان في هذه الدنيا وان لم يتمكن يعيش في عناء في هذه الدنيا وفي الاخرة شقاء.


3-هدف البحث:

يهدف هذا البحث إلى معرفة أسلوب التعبئة النفسية في القرآن الكريم.


4- منهجية البحث: 

سيعتمد البحث المنهج الوصفي التحليلي لتحقيق هدف البحث.


5- الدراسات السابقة:

يعدّ هذا الموضوع من الدراسات التفسيرية الحديثة، وكلّ موضوع حديث لا تتطور دراسته إلاّ عن طريق النقد، على الرغم من أنّ عنوان الدراسة لم يبحث بدراسة أكاديمية متكاملة إلاّ ما تناثر من بحوث منشورة في المجلات العلمية التي تناول بعضها التعبئة النفسية في مجالات الحياة غير المتصلة بالدين، فضلا عن وجود رسالة ماجستير بعنوان: (التعبئة المعنوية في القرآن الكريم) للباحث الفلسطيني علام عبد القادر نعنع، وقد ركّز الباحث في التعبئة النفسية في مجالات محددة تتطلّب شحنة كبيرة من التعبئة وذلك في مجال الحرب العسكرية والنفسية، والدعائية والاستقلال الوطني والأخلاق باستعمال الأدلة المنطقية والتاريخية للاستدلال, وهذا يعني أنّ الموضوعات التي ستطرقها هذهِ الرسالة مختلفة فضلاً عن اختلاف المنهج المتبع.


6-خطة البحث:

اقتضت طبيعة الموضوع أن يقسم على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول، تنتهي بخاتمة درجت فيها أهم نتائج البحث، وتليها قائمة بأسماء المصادر والمراجع، وقد جاء التمهيد بعنوان (الإطار النظري والمنهجي)، وفيه أربعة مباحث خُصص أولها لدراسة الأسلوب لغة واصطلاحا، وخُصص ثانيها لدراسة مفهوم التعبئة والنفس والروح ، والروح وخُصص ثالثها لدراسة الدين لغة واصطلاحا، وخُصص المبحث الأخير لدراسة علاقة التعبئة النفسية الدينية بأخلاق المكلفين ومصالحهم. وأما فصول الرسالة، فهي كالآتي:

الفصل الأول: أساليب التعبئة النفسية في آيات أصول الدين، وضمّ هذا الفصل ثلاثة مباحث، خُصص الأول منها لدراسة أساليب التعبئة النفسية في آيات التوحيد، وخصص الثاني لدراسة التعبئة النفسية في آيات العدل الإلهي، أما المبحث الثالث فخُصص لدراسة أساليب التعبئة النفسية في آيات المعاد.

الفصل الثاني: أساليب التعنية النفسية في آيات جهاد النفس بالمعرفة النفسية والآفاقية.

وضم ثلاثة مباحث أولهما خُصص لدراسة مفهوم جهاد النفس وأهميته ومنهجيته الإعجازية، وخُصصت الثاني لدراسة أساليب التعبئة النفسية في الآيات الانفسية ، أما المبحث الثالث فخُصص لدراسة أساليب التعبئة النفسية في الآيات الآفاقية.

الفصل الثالث: أساليب التعبئة النفسية في القصص القرآنية، وضمّ مبحثان، خُصص الأول منها لدراسة أساليب التعبئة النفسية في قصص الانبياء، أما المبحث الثاني فخُصص لدراسة أساليب التعبئة النفسية في قصص المؤمنين.

أمّا الخاتمة: فمن أهمِّ النتائجِ التي توصّلنا إليها

1- تنوعت أساليب التعبئة النفسية في القران الكريم ومن اهما اسلوب القصة والحكمة والموعظة والقدوة الحسنة و الترغيب والترهيب والمجادلة والقول اللين وضرب الامثال وغيرها من الاساليب والتي يمكن تطبيقها في مجالات اخرى من الحياة.

 2- إن القرآن الكريم اهتم بجهاد النفس واهتم بثقافة المجتمع لتعبئة النفس تعبئة إيجابية.

3- إن القرآن الكريم احد الثقلين انتهى في كل اساليبه الى شقين من التعبئة النفسية هما الإيجابية والسلبية فهو يقرب القضايا الإيجابية ويبعد القضايا السلبية.

4- إن علماء الغرب أو كتاب الغرب انما التقوا مع القرآن في اساليبه والقران كان سابقا لهم. 

وأخيراً أود أن أشير إلى أنّني لا أدعِي الكمال، فالكمالُ لله وحده، وحسبي أنني درست واجتهدت بمساعدة أستاذي المشرف الأستاذ الدكتور عبدالاله نعمة شبيب، الذي لم يدّخر جهداً إلا بذله ليخرج هذا الجهد ناضجاً من حيث استيفاء أركانه العلمية، وما توفيقي إلاّ بالله العلي القدير، عليه توكلت وإليه أنيب وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين.





التمهيد

الإطار النظري والمنهجي للبحث


المبحث الأول: الأسلوب لغة واصطلاحا.

أولا: الأسلوب لغة.

ثانيا: الأسلوب واصطلاحا.

ثالثا: اهم أساليب التعبئة النفسية في القرآن الكريم.

المبحث الثاني: مفهوم التعبئة والنفس والروح.

أولا: التعبئة لغة.

 ثانيا: التعبئة اصطلاحا.

ثالثا: مفهوم النفس والروح.

رابعا:الفرق بين النفس والروح.

المبحث الثالث: الدين لغة واصطلاحا.

المبحث الرابع: علاقة التعبئة النفسية الدينية بأخلاق المكلفين ومصالحهم.




 توطئة: في مفهوم أسلوب التعبئة النفسية

إن في داخل كل انسان نفس وهذه النفس هي من خلق الله تعالى وعندما خلقها الله تعالى جعل فيها طبيعة مزدوجة من حيث الاستعدادات هما الخير والشر وجعل الله للانسان العقل للتميز بين الخير والشر ومن هنا كانت الاستعدادات بمثابة قدرة كامنة معبأة في نفسه...وإن الرسالات السماوية والتوجيهات إنما وظيفتها أن توقظ هذه الاستعدادات وتشجذبها وتوجهها من هنا وهناك.

والإنسان المؤمن يخاف الله تعالى لمجرد الذكر لله ، أكان في نفسه شعور بالتقصير والذنب ، أو ندم على ما فعل مضى.

إن الله سبحانه وتعالى جعل الانسان مختارا في سلوك أي  طريق يختارمن طريقي الخير أو الشر ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ  ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱠ.

فإن أمر عقله على شهوته وغضبه وجعاهما منقادتين له  ترقى في درجات الكمال حتى يصل إلى مقامات لاتصل إليها حتى الملائكة المقربة ، قال تعالى واصفا موقع الرسول الأكرم ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ  ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ.

وما ذلك إلا لان الانسان يترقى في درجات الكمال ويصل الى تلك المقامات مع وجود المنازع والمزاحم له في مسيرته وعدم وجوده في عالم الملائكة. أما اذا انقاد عقله لشهواته أو لغضبه كان كالحيوان بل هو أضل سبيلا ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ  ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱠ....

المبحث الأول

الأسلوب لغةً واصطلاحا 

سندرس في هذا المبحث الأسلوب لغةً والأسلوب أصطلاحا وندرس أهم أساليب التعبئة النفسية في القران الكريم ، وذلك على النحو الآتي:

أولا:  الأسلوب لغةً: 

قال ابن منظور "يقال للسَّطْر من النخيل أُسْلوبٌ وكلُّ طريقٍ ممتدٍّ فهو أُسلوبٌ قال والأُسْلوبُ الطريق والوجهُ والمَذْهَبُ يقال أَنتم في أُسْلُوبِ سُوءٍ ويُجمَعُ أَسالِيبَ والأُسْلُوبُ الطريقُ تأْخذ فيه والأُسْلوبُ بالضم الفَنُّ يقال أَخَذ فلانٌ في أَسالِيبَ من القول أَي أَفانِينَ منه وإِنَّ أَنْفَه لفي أُسْلُوبٍ إِذا كان مُتكبِّراً " .

"الأُسْلُوبُ : عُنُقُ الأَسَد ؛ لأَنَّها لا تُثْنَى . ومن المجاز : الأُسْلُوبُ : الشُّمُوخُ في الأَنْفِ"  .

ثانيا : الأسلوب أصطلاحا:  "الطريق و يقال سلكت أسلوب فلان في كذا طريقته و مذهبه وطريقة الكاتب في كتابته و الفن يقال أخذنا في أساليب من القول فنون متنوعة و الصف من النخل و نحوه " .


ثالثا : أهم أساليب التعبئة النفسية في القرآن الكريم:

إنّ استعمال الأساليب في موضوع التعبئة النفسية في القرآن الكريم مختلف عن الاستعمال البشري للغة، الذي يتوخّى فيه المبدعون -في الأعم الأغلب- عنصر الجمال في التعبير الشعري، أو إفحام الخصم أو إثبات الحجّة في المجادلة والخطابة، في حين يتوخّى القرآن الكريم بوصفه خطاباً إلهيا إعجازياً هدف هداية الإنسان، عن طريق استعمال أسلوب الحكمة، أي الفلسفة العملية والموعظة الحسنة والمجادلة او الترهيب والترغيب او القول اللين اوالبرهان أو  بالتي هي أحسن، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ  ﲛ ﲜﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ  ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﱠ .

يمثل هذا الأسلوب القاعدة الذهبية في الخطاب القرآني وتتفرَّع منها أهم الاساليب الآتية:

1- تنمية الثقافية العلمية: للكشف عن جوهر السلوك الصحيح، الذي يُعنى بثقافة "تكوين الشيء أكثر من استهلاكه"، وهي ثقافة العلم القلبي الواعي بإخراج الاكتشاف إلى الوجود بألفاظ واضحة جميلة؛ لأنّ (القلوب أوعية وخيرها أوعاها)، أما العلم القلبي فإنّ الإمام علي () يقارنه بالتنمية الثقافية التي تزيد عند الإنفاق بخلاف المال الذي ينقص عند الإنفاق بقوله: "العلمُ يحرسُكَ وأنت تحرسُ المالَ، والمالُ تنقصهُ النفقة والعلم يزكو على الإنفاق".

2- تنمية الحكمة العملية: وهي بلاغة قيام الحجّة بإظهار الحقّ المُزيل للشبهة، بهذا تكون الحكمة العملية وظيفة (القلب والحسّ) لكلّ من الثقافة الجمالية والتاريخية المختلفة عن الحكمة النظرية العقلية (الفلسفة)؛ لأنّ الشخص الذي "يملك حِسّاً جماليا يعرف كيف يميّز بين الجميل والقبيح، والسامي والمنحطّ. ومَن يملك حِسّاً تاريخيا يعرف ما هو ممكن في عصر ما، وما هو غير ممكن فيه. كما أنّه يمتلك حسّا بآخرية الماضي من جهة علاقته بالحاضر".

3- الموعظة الحسنة: وهي التي تكشف للآخرين بأنّك "تناصحهم بها وتقصد منفعتهم"، فمبدأ المنفعة العامة يُمثل شراكة لا يقدر أن ينهض بها أي فريق بمفرده، ما لم يتعاون الجميع على تحقيقها ثم يتقاسموا الخير فيما بينهم.

أما الإنسان الغاضب في تعامله مع الآخرين، فإنّه "يتيح للغضب أن يعميه من دون اعتدال أو إحساس بالنظام... فإنّ مثل هذا الإنسان تعوزه قوة التجريد" التي تساعده على تكوين صورة تربط الجزئي بالكلي، الذي يجعل مجموع الأجزاء أكبر من تلك الأجزاء، وهي منفصلة، وهو ما يميّز العلوم الإنسانية الاجتماعية والأخلاقية من العلوم الطبيعية الفيزيائية البحتة غير حرّة الإرادة.

4- أسلوب القصة: "إن أسلوب القصة في القرآن الكريم جاء متميزا عن الاسلوب المعروف للقصة في التراث الادبي والانساني ، حيث يكتفي القرآن الكريم بذكر الاحداث بشكل إجمالي أحيانا وبدون ترتيبها الزماني أحيانا أخرى ، أو الانتقال فيها من حدث إلى آخر باقتطاع جانب من الاحداث ثالثة ، مضافا في التعرض إلى المفاهيم والحقائق والموضوعات العقائدية أو الاخلاقية أو الكونية أو الشرعية، وغير ذلك من الامتيازات والخصوصيات التي قد تثير ملاحظة كبيرة حول أسلوب القصة في القران الكريم ، بحيث تخرج من كونها عملا فنيا مستقلا له أهدافه الخاصة ، وتفقد بذلك القصة في القرآن الكريم هويتها الخاصة".

5- " القول الليّنُ : الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال ، بأن يظهر المتكلّم للمخاطب أنّ له من سداد الرأي ما يتقبّل به الحق ويميّز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله .

فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء الليّنِ" . .

6- الترغيب: كل ما يشوق المدعو للاستجابة وقبول الحق والثبات عليه.

7-الترهيب:كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله. 

8-القدوة الحسنة: "من الوسائل المهمة في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الإسلام، السيرة الطيبة للداعي وافعاله الحميدة وصفاته العالية وأخلاقه الزاكية مما يجعله قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره ، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه معاني الاسلام فيقبلون عليها وينجذبون اليها ،لان التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ من واكثر من التأثر بالكلام فقط".

9- الحِكمةُ: "مَرْجِعُها إلى العَدْل والعِلْم والحِلْم. ويقال: أحْكَمَتْه التَجارِبُ إذا كانَ حكيماً. وأَحْكَمَ فلانٌ عنّي كذا، أي: مَنَعَه" .

10- المجادلة: "من جدل والجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من: جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله". 

11- البرهان:" هو القياس المؤلف من اليقينيات، سواء كانت ابتداءً، وهي الضروريات أو بواسطة، وهي النظريات. والحد الأوسط فيه لا بد أن يكون علَّةً لنسبة الأكبر إلى الأصغر".  

12- ضرب الامثال: "الضَّرْبُ يقَع على جميع الأعمال، ضَرْب في التجارةِ، وفي الأرض، وفي سبيل اللهِ، يصِفُ ذَهابَهم وأَخْذَهم فيه. 

وضَرَبَ يَدَه الى كذا، وضَرَبَ فلانٌ على يَدِ فلانٍ: حَبَسَ عليه أمراً أَخَذَ فيه وأراده، ومعناه: حَجَرَ عليه".

وعلى هذا الأساس يستطيع الخطاب القرآني أن ينفذ إلى عوالم النفس البشرية ويكشف عن أسرارها التي تتوق إلى معرفة عالم ما وراء الطبيعة أو الغيب الذي يتحقّق فيما وراء الموت والانبعاث من جديد لإقامة العدل الإلهي في الثواب والعقاب.

يعمل تخصيص الأسلوب بالوصف بعبارة (التعبئة النفسية) على جعل هذا الموضوع ينتمي إلى ما يُسمّى بـ(التفسير الموضوعي)، الذي يُعرِّفه عبد الجليل عبد الرحيم بأنّه: "المنهج الذي يتخذه المفسِّر سبيلاً للكشف عن مراد الله  من خلال المواضيع التي يطرحها والقضايا التي يعالجها، توضيحاً لهدايات القرآن، وتجلية لوجوه إعجازه", ويمكن إعادة صياغته على النحو الآتي: هو محاولة الكشف الكلّيّ عن مراد الله -عز وجل- في قضية قرآنية بحسب الطاقة البشرية، وبهذا فإن ّمفهوم التفسير الموضوعي للقرآن يقوم على عنصرين رئيسين هما: الأول: (الكلية) والثاني: (القضية) أو الموضوع.

ويُسمّى هذا النمط من التفسير أيضا بـ( التفسير التوحيدي) عند السيد الصدر؛ لأنّه يحلل: "اصطلاح الموضوعية هنا..بمعنى أنّه يبدأ من الموضوع من الواقع الخارجي من الشيء الخارجي ويعود إلى القرآن الكريم,..وتوحيدي باعتبار أنّه يوحِّد بين التجربة البشرية والقرآن الكريم، لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشرية على القرآن...، بل بمعنى أنّه يوحِّد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحَّد من البحث، فيستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكرية التي ادخلها في سياق بحثه".

ومن الذين أسسوا نظرية التفسير الموضوعي الأستاذ أمين الخولي بقوله: "أنْ يُفسَّر القرآن موضوعاً موضوعاً وأنْ تُجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعاً إحصائيا مستفيضاً، ويعرف بترتيبها الزمني, ومناسباتها وملابساتها الحافّة بها, ثم يُنظر فيما بعد لتُفسَّر وتُفهم, فيكون بذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تحديده"  

وأكّد الدكتور الصغير رأي أمين الخولي في مفهومه للتفسير الموضوعي، وذلك قوله: "إنّ التفسير الموضوعي يتحقق بأن يقوم جملة من المتخصصين على دراسة شذرات ونجوم من القرآن كلٌّ بحسب تخصصه, فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن، ويستقصيها أحصاءً لتكون هيكلاً مترابطاً يشكل وحدة موضوعية متكاملة, ثم يقوم بتفسيرها بحسب منهجه, فالمتخصص بالأحكام يبحث آيات الأحكام والمتخصص بالعقائد يُحصي آيات العقائد وهكذا". 

ويُسمّى هذا التفسير أيضا بـ (التفسير الكشفي)، وهو قسم من منهج التدبر الموضوعي يستهدف "إشادة موضوع من سورة قرآنية بما يحتاجه من معرفة الوحدة الموضوعية بين الآيات فيها، وقد يسعى لدراسة موضوع واحد من موضوعات تناولتها سورة معينة، أو دراسة موضوع تناولته آية جامعة، أو مجموعة من الآيات، ومن ثَمّ فهو ليس منهجا تجميعيا يسعى لجمع الآيات على طول المسرح القرآني، وإنّما يأخذ مقطعا جاهزا ومجموعا في مكان واحد، يمثل سورة أو بعض سورة، وهذا يستدعي الوقوف أمام المنهج الذي قد يمكننا التعامل مع هذا النوع من التدبر.

أما فوائد هذا التفسير فهي كالآتي:

1- الحصول حول الرأي النهائي للقران حول موضوع معين، مثل التعبئة النفسية.

2- الإجابة على الأسئلة الجديدة للبشر بالاستفادة من آيات القران.

3- رفع الابهام الابتدائي في آيات القرآن وتوضيح الآيات المتشابهة

الاطلاع على شرائط وأسباب ونتائج الموضوعات والمسائل المختلفة المطروحة    في القران.  

4- الحصول على الاسرار والمعاني الجديدة للقران عن طريق ضم الآيات بعضها الى البعض الاخر.

5- الحصول على تفسير جامع حول الموضوعات المختلفة مثل ، وجود الله، التوحيد المعاد،  الأخلاق، المجتمع، المصالح والمفاسد، والأسرة. 

    









المبحث الثاني

مفهوم التعبئة والنفس والروح 

سنقسِّم هذا المبحث على اربعة مطالب ندرس في أولهما مفهوم التعبئة النفسية في اللغة و، وفي ثانيهما ندرس مفهومها في اصطلاح علم النفس،وفي ثالثهما مفهوم النفس والروح، وفي رابعهما الفرق بين النفس والروح  وذلك على النحو الآتي:

أولا: التعبئة لغة:

تدلّ التعبئة على "اجتماع في ثقل... من ذلك العِبء، وهو كلّ حِمل، من غُرمٍ أو حَمالة. والجمع أعباء، قال[الشاعر]:

وحِملُ العبءِ عن أعناق قومي

وفعلي في الخطوبِ بما عناني


ومن الباب: ما عَبَأتُ به شيئاً، إذا لم تبالهِ، كأنّك لم تجد له ثُقلا. ومن الباب: عبّأتُ الطيب. وفرّقوا بين ذلك وبين الجيش، فقالوا: عبّيتُ الكتيبةَ أعبِّيها تعبيةً، إذا هيّأتُها...".

والملحوظ في قول الشاعر أنّ ناتج البعد النفسي لحمل العبء عن الجماعة ذات المصالح المشتركة، ممّا يبعث بالشعور بالسعادة جزاءً لحمل العبء عنها، ما يجعل معنى التعبئة يُعبّر عن وعي الدفاع عن المصالح المشتركة للجماعة المنظّمة.

وعالج الراغب الأصفهاني(ت502هـ) المعنى اللغوي لهذه المادة بالرجوع إلى المعنى المنفيّ، أي نفي الثقل عن الخصم كناية عن الاستهانة به، قال: "ما عبَأتُ به، أي: لم أُبالِ به، واصله من العبء، أي: الثقل، كأنّه قال: ما أرى له وزنا وقدراً. ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ  ﲷ ﲸﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﱠ

كأنّه قال: ما يُبقيكم لولا دعاؤكم، وقيل عَبَأتُ الجيش، وعبّأتُه: هيّأتُه [وكأنّه مسؤولية من يشعر بمهمّة الدفاع عن القيم والمصالح المشتركة]. وعبأةُ الجاهلية: ما هي مُدّخرةٌ في أنفسهم من حميّتِهم المذكورة في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ  ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ... ﱠ ...". 

 وفي حديث عبد الرحمن بن عوف قال: "عَبَأنا النبيّ() ببدر ليلاً. يُقال عَبَأتُ الجيش عَبْئاً وعَبَّأتُهم تعبئةً، وقد يُترك الهمز، فيُقال: عبيتُهم تعبيةً أي: رتّبتُهم في مواضعهم وهيّأتُهم للحرب، وعَبَأ الطيبَ والأمرَ يعبوهُ عَبْياً: صنعه وخلطه"، دلالة على مهارة مسؤول سياسي أو اقتصادي متمرّس في أداء مهمّة عامّة.

نستنتج ممّا تقدّم أنّ التعبئة –مهموزة ومسهّلة الهمز- تشير من ناحية اجتماعية إلى التهيّئة والاستعداد للنهوض بأمر ثقيل ومهمّ بالنسبة إلى الفرد والجماعة، وهيأ يعني إنّ المعنى الحسيّ الخارجي يُمهِّد معنى المفردة في اللغة أن يدخل في مجال علم النفس الاجتماعي، وبه فسَّر أبو جعفر الباقر() قوله تعالى: ﭐﭐﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ  ﲷ ﲸﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﱠ ، إذ سأله يزيد بن معاوية العِجلي قال: "قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام) كثرةُ القراءة أفضل أم كثرةُ الدعاء أفضل؟، قال: كثرة الدعاء أفضل وقرأ هذه الآية...".

ثانيا: التعبئة اصطلاحا:

تتعلق التعبئة مرة بالنفس ومرة بالبدن، والأولى يُعنى بها علم النفس، وتُعرَّف بأنها موقف للكائن الحيّ يظهر في التهيّؤ والاستعداد -بالوراثة أو بالتعليم- للاستجابة بطريقة معيّنة. والتعبئة النفسية وصف منسوب بالياء المشدّدة إلى (النفس) أو الذهن Mind، فتكون وهي "مجموع السلوك الذكي بما في ذلك التذكر والتفكير والإدراك، وكثيراً ما يُستعمل مرادفاً للخبرة الشعورية".

فالتعبئة نوع من التدريب الذي يقوم به خبراء يجعل النفس ذات ميل ونزوع إلى عمل الخير، والنزوع في اللغة وهو "الاشتياق الشديد، وذلك هو المعبّر عنه بإمحال النفس مع الحبيب، ونازعتني نفسي إلى كذا، وأنزع القوم: نزعت إبلهم إلى مواطنهم، أي: حنّت...".

أما النزعة في الاصطلاح النفساني فهي "الوجه الفعّال للإرادة أو الرغبة أو الإثارة الشعورية أو هي الحالة العقلية التي تصاحب الإثارة والاندفاع أو الرغبة أو الفعل الإرادي...".

وتتضمّن التعبئة النفسية بوصفها فعلا اجتماعيا معنيين معنى سلبي وآخر إيجابي ، فأما السلبي فيظهر في وصف الراغب لتعبئة الأقوام الجاهلية التي سمّاها بـ: "عبأةُ الجاهلية: ما هي مُدّخرةٌ في أنفسهم من حميّتِهم المذكورة في قوله: ﴿ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ  ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ... ﴾..."، وأما المعنى الإيجابي المتحضِّر فيظهر في الوصف المقابل للمعنى السلبي، كأن نقول: التعبئة الدينية التي تجعل الأخوّة في الدين هي الطاقة النفسية الموحِّدة للمجتمع المتدين بدلا الأخوة القَبَلية. وهناك تعبئة أخرى لها أثرٌ إيجابي أيضا، وهي التعبئة الإنسانية، وقد ورد كلاهما في قول الإمام علي () في عهده لمالك بن الأشتر: "وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ...".

أما التعبئة البدنية فأول من عني بها أصحاب الاهتمامات العسكرية، فهي في هذا المجال: "فن إدارة القتال في المعركة" 

عن طريق دعوة الرجال لحمل السلاح في حالة دخول دولة ما في حرب مع أخرى، وتكون الدعوة جزئية إذا دُعيت طبقات معينة، وتكون عامة إذا دُعيت رجالها جميعاً.

والملاحظ –هنا- أنّ معنى التعبئة العسكرية يُركز فيما هو بدنيّ ماديّ، نحو التدريب على حمل السلاح وإتقان الفنون القتالية، أكثر من الإعداد النفسي أو المعنوي الذي يزيد عزيمة الرجال للتضحية بالتوعية والتوجيه الذي يستند إلى بيان مصالح المجتمع العامة، والتوعية بتهديد العدو للقيم والمصالح الاجتماعية وبيان أهمية الحفاظ عليها.

وعلى هذا الأساس تكون التعبئة النفسية أعمّ وأعمق من التعبئة العسكرية، لأنّ النفسية تستمر في وقت السلم والحرب، وتشرف عليها الدولة أو الجماعات ذات المصالح المشتركة لإعداد الروح العالية لدى الأفراج على جميع الأصعدة والمحاور وعلى مدار الأزمنة والدهور لإبقاء الأمّة في أعلى درجات التأهّب فيما إذا حصل طارئ يهدد مصالحها، أو لمجرد تفكير عدوها بذلك.

نستنتج ممّا تقدّم أنّ التعبئة النفسية الفردية أخصّ من التعبئة النفسية الاجتماعية، والتعبئة النفسية الاجتماعية أعمّ من التعبئة النفسية العسكرية؛ لأنّها محددة في وقت الحرب فحسب، في حين تكون الاولى ضرورية وقت السلم والحرب، فهي جزء من الثقافة التوعوية الواجبة؛ لتدريب أفراد المجتمع عليها باستمرار نظرا لأهمية الحفاظ على الاستعداد النفسي لمواجهة المخاطر الناتجة من انتهاك القيم الأخلاقية والمصالح والأعراف والدين إلى غير ذلك ممّا يهمّ المجتمع بأسره.

ثالثا: مفهوم النفس والروح

     قال السيد الطباطبائي "لفظ النفس - على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشيء معناه الشيء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و نفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، و على هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد.

و بهذا المعنى يطلق على كل شيء حتى عليه تعالى كما قال: ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱠ"، و قال: ﭐﱡﭐ ﳂ ﳃ ﳄﱠ"، و قال: ﭐﱡﭐ ﲎ ﲏ ﲐ  ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖﱠ" ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة و العلم و القدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى: ﱡﭐ ﲭ ﲮﲯ ﲰ  ﲱ ﲲ ﲳ ﱠ"... 

     قال الجرجاني النفس "هي الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الارادية ، وسماها الحكيم الروح الحيوانية ، فهو جوهر مشرق للبدن فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه، وإما في وقت النوم فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه ، فثبت ان النوم والموت من جنس واحد، لان الموت هو الانقطاع الكلي ، والنوم هو الانقطاع الناقص".

  ووردت في تعريف اخر  ان  النفس هي " مركز العواطف والميول والشهوات لدى الانسان والقرآن يطلق عليها تارة عنوان النفس ، ويطلق عليها تارة اخرى اسم القلب".

إما الروح هو اللطيفة العالمة المدركة من الامسان الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الامر تعجز العقول عن إدراك كنهه .وتلك الروح قد تكون مجردة وقد تكون منطبقة في البدن".

اما الروح هي" تلك القوة التي تبعث الحياة في الانسان وتنبع منها الحياة والتي بمفارقتها للجسم تنتهي حياة الانسان في هذه الدار الدنيا".

رابعا: الفرق بين النفس والروح 

"النفس هي غير الروح ويخلط كثيرون بينهما عن كلامهم عن التكوين البشري .. فالروح سر إلهي أودعه الله سبحانه في الكائن الحي. والانسان ، مهما بلغ من علم ومعرفة ،لا يقدر على كشف هذا السر. ولو أراد الله أن يعلم الانسان شيئا عن الروح لكان هداه الطريق إلى  هذا العلم في قرآنه المبين . ولكنه سبحانه شاء أن يبقيه سرا مغلقا على الانسان ، ولذك كان الناس يسألون رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) عن أمر الروح وما هيتها ، نزل قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ  ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﱠ..."" قال عكرمة ابن عباس: قالت قريش لليهود:أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح فنزلت هذه الاية". وجل ما يمكن أن نعرف عن الروح أنها هي باعث الحركة في الكائن الحي ، وكيف أما ما هي ؟  وهل لها شكل معين ؟ وأين تكمن في الكائن الحي ، وكيف تدخل وتخرج منه ؟ فتلك امور تدخل في السر الالهي ولايمكن لاحد أن يصل إلى عملها بشيء..ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱂ ﱃ ﱄﱅ وأما النفس فهي التي تكون  منها العقل والتمييز والاحساس ،والغرائز ، وما الى ذلك من تكوينات غير عضوية . ولذلك فأننا نرى الآيات القرآنية ، هي تتحدث عن النفس ، فإنما تعين خصائصها وصفاتها من قبيل قول الله تعالى : ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ  ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱠ. 

وقوله تعالى ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﳎ  ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﱠ. 

وقوله تعالى ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ  ﳅ ﳆ ﱠ. 

ولايمكن أن نجد مثل هذه الاوصاف للروح ولايمكن بالتالي إيجاد مقارنة أو تبيان فوارق بينهما". .

ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱠ. 


   


 

المبحث الثالث                                                

                                      الدين لغة واصطلاحا 

للدين معانٍ كثيرة في مجال اللغة وفي مجال العلوم الاجتماعية والأخلاقية، وفي الفلسفة واللاهوت وغيرها من مجالات، فضلا عن وجود تعريفات قديمة تتصل بالمحرّم والمقدس في الشرائع السماوية التي هي نتاج ظاهرة الوحي الإلهي، وأخرى بشرية تُسمّى بـ(الأديان الوضعية)، وكذلك في مجال التطبيق يوجد جانب من الدين يركز فيما هو دنيوي وآخر يركّز فيما هو غيبي وأُخروي إلى غير ذلك.

الدين لغة واصطلاحا:

"الدين لغة: الطاعة والجزاء ، وقد جاء هذان المعنيان في القران الكريم كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱠ  أي يوم الجزاء .

وكذلك جاءت لفظة الدين متضمنة لمعنى الطاعة والانقياد، كما في قوله تعالى في حكاية يوسف وأخيه: ﱡﭐ ﲐ ﲑ ﲒﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ  ﲘ ﲙ ... ﱠ.أي في طاعة الملك وشريعته، وقوله:ﭐﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ  ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ... ﱠ أي الشريعة والطاعة والانقياد.

أما الدين اصطلاحا: فهو عبارة عن الشرائع السماوية التي جاء بها الرسل والانبياء لإيصال الانسان إلى سعادته في الدارين". 


  

 ,ونذهب الى ما ذهب اليه أنّ الدين لا يمكن اختزاله بالتصور العقلي البسيط كمفهوم محدّد في ذاته له حدوده الجوهرية التي تفصله عن غيره بما يُسمّى بـ(التعريف الجامع المانع)؛ لأنّه يمثل منظومة علائقية تربط بين ثلاثة تصورات على الأقلّ، لا يمكن تصوّر أحد عناصرها من دون تصوّر العنصرين الآخرين، فالدين –سواءُ كان وضعياً أم سماوياً- يُعبّر عن مجموعة من القيم العليا التي يدين لها المرء بالولاء، إنّه نظام من التشريعات والقوانين الواجب اتباعها على الفرد والجماعة لغرض الوصول إلى الأهداف الجزائية المتمثلة في السعادة الدنيوية بالنسبة إلى الدين الوضعي والسعادة الدنيوية/ الأُخروية بالنسبة إلى الدين السماوي، الذي ينفتح على أُفق زماني ميتافزيقي يقع فيما وراء الطبيعة، يتمّ فيه إقامة العدل الإلهي جزاءً للعمل الصالح في الدنيا، وعلى هذا الأساس يوجد ترابط اجتماعي/أخلاقي في الخطاب الديني يظهر في المخطط الآتي:






تشكّل هذه المنظومة من العناصر مقترحات ايديولوجية معيارية تُسمّى –في الأعمّ ألأغلب- قيماً يُؤمن بها الفرد والجماعة المتدينة، ومعنى المعيارية أنّها تمثل تصوراً ليس لما هو موجود فعلا، بل لما ينبغي أن يُوجد، لذلك تكون عناصر الدين المقترحة إما غير قابلة للبرهنة وإما يُسلَّم بصحتها من دون برهان إلاّ اعتمادا على نتائجها، وربّما تكون مغلوطة بالنسبة إلى مَن لا يُؤمن بها بسبب ترابطها الاجتماعي الغامض، فهي تتحدّث عن رؤية العالم من منظور فلسفي قيمي معتقدي يُعالج التنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمعات ومستقبلها، وتتحدّث عن رؤية للعالم من منظور لاهوتي يتضمّن المقدس والسامي، الذي يوضع على رأس المنظومة بوصفها نسقاً ثقافيا مُوجِّها للسوك الحسن عن طريق اتباع الأحكام الشرعية التي تتعلّق بجلب المصالح ودرء المفاسد، والحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم التكليفي؛ مثل الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، والثاني الحكم الوضعي. 



                               

                                        





                                    




                                            المبحث الرابع

علاقة التعبئة النفسية الدينية بأخلاق المكلَّفين ومصالحهم

الأخلاق والخُلُق بتسكين اللام وبضمّها في اللغة هو: "السجيّة والطبع، والمروءة والدِّين...والخِلقة بالكسر الفطرة كالخَلْق...". أما الأخلاق في الاصطلاح فهي: "هيأة راسخة في النفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإنْ كانت الهيأة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سُمّيت خُلُقا حسناً، وإنْ كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سُمّيت الهيأة التي هي المصدر خُلُقا سيئاً".

وهذا يعني أنّ مفهوم الأخلاق يرادف مفهوم السِّمة وهي: نمط سلوكي عام وثابت ودائم نسبياُ يصدر عن الفرد في مواقف كثيرة، لذلك تمثل استعدادا نفسيا أو قوة أو دافعاً داخل الفرد يدفع سلوكه يُوجِّهه نحو الخير أو الشر، فالشخصية التي تتصف بالكرم مثلا تكون دائما مستعدة لأداء هذا السلوك في جميع الظروف والمواقف.

 ويمكن القول أنّ الدين يمثل الأخلاق الإنسانية؛ لأنّه جزءٌ من النظام الاجتماعي المميِّز لكلّ المجتمعات الإنسانية القديمة،والحالية واللاحقة؛ أنّ الدين -في الدراسات الاجتماعية الحديثة- يطرح نفسه بديلاً جوهرياً لبناء حضارة والمحافظة عليها عن طريق التعبئة النفسية التي تمثل موجِّهات للسلوك المأمور بهِ إلهياً أو وضعياً، فهو تنظيم يُديره –في الدين السماوي- المقدَّس القائم على المعتقدات والطقوس، ووظيفته الارتقاء الروحي بالإنسان، ويفيد أيضا في تماسك المجتمع وتوحيد مواقفه النفسية تجاه القضايا الخاصة بالقيم العليا للمجتمعات؛ لذلك قيل: "كلّ تخلٍّ عن المعرفة (العقلانية/ التجريبية) يقود البشر إلى الموت جوعاً، وكلّ تخلٍّ من اعتقادهم (القلبية) الأساسية يؤدي إلى تفكيك المجتمع".

ولم يحقّق زوال الأديان في القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين إلا بشكل ناقص، إذ لم يأخذ الأشكال المعلنة، على الرغم من تراجع الممارسة الدينية، التي انبعث الآن بتجدّد العقائد والممارسات والولاءات في الأديان العالمية العليا، نحو: اليهودية والمسيحية، والإسلام، وقد أدّى علم الاجتماع والانثروبولوجيا* إلى اضفاء النسبية على الظاهرة الدينية، لأنّها تنطلق من مبدأ عاطفي قلبي ذاتي، ولكنّه شامل في أهدافه وغاياته. فكانت النتيجة الصافية لعمل هؤلاء العلماء هو خصوصية وصحّة الظاهرة الدينية، من دون التمكّن من إعطائها وصفاً محدداً وملائماً، إلا بثلاثة أشكال مختلفة هي:

1. خلط الدين بالسحر الذي كان ظاهرة قديمة انتقدها الإسلام، وتعمل لجلب المصالح للصديق والإضرار بالخصم عن طريق المخادعة والتخيل والعزائم والعُقَد التي تؤثر في الأبدان والقلوب، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ  ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ  ﱨ ﱠ. فيمرض الخصم ويفرّق بينه وبين من يحبّه إلى غير ذلك من شرور، وهذه الممارسات تقلّل من شأن الدين بخلطه مع نفعية الممارسات الشعبية.


  2- توجّه بخلط الدين بالأخلاق التي تُعرَّف بأنّها: (طاعة لقانون غير شخصي)، وبهذا الشأن يقول عمانويل كنت Kant(1724ـ1804)، الدين يقوم على "معرفة كلّ واجباتنا على أنّها أوامر إلهية، أو هو الإيمان الذي يجعل الجوهري في عبادة الله يقوم في أخلاقية الإنسان".

وهذا الخلط يصطدم بوجود الشّرّ الذي يزعزع علاقة المؤمن المغلوب على أمره بربّه كلّيّ القدرة، الذي لا يتدخّل لانتشال المؤمنين من وطأة الشرّ، إلا إذا تجاوز المؤمن مآسيه بالصبر بوصفها من الابتلاء والامتحان، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ  ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙﱚ ﱛ ﱜ  ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ  ﱠ. 

قال الطبرسي(ت548هـ) مُفسِّراً الآيتين الكريمتين: "إنّما قال (مِن) الخوف على وجه التبعيض؛ لأنّه لم يكن مؤبّداً، وإنّما عرّفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في نصرة النبي() لما لهم فيها من المصلحة، فأمّا الخوف فكان قصد المشرعين لهم بالعداوة، وسبب الجوع تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش واحتياجهم إلى الانفاق فيه...ونقص الأنفس بالقتل في الحروب مع رسول الله ()".

وتظهر التعبئة النفسية بين طرفي الاتصال (الخالق والمخلوق)، في اتجاهين:

أولهما: إنّ مَن جاء بعد الصحابة من الأجيال التالية، إذا أصابتهم مثل هذه الأمور علموا أنّه لا يصيبهم النقصان درجة وحطّ مرتبة، فإنّه قد أصاب ذلك من هو أعلى درجة منهم وهم أصحاب النبي().

ثانيهماً: إنّ الكفّار إذا شاهدوا المؤمنين يتحمّلون المشاقّ في نصرة الرسول() وموافقتهم له وتناولهم هذهِ المكاره فلا يتغيّرون في قوة البصيرة ونقاء السريرة، علموا أنّهم إنّما فعلوا ذلك لعلمهم بصحّة هذا الدين ، وكونهم من معرفة صدقه على اليقين فيكون ذلك داعياً لهم إلى قبول الإسلام.

3- التوجّه الذي يقوم على علاقة وثيقة بين الدين والحياة الاجتماعية التي تُعدّ سمة أخلاقية للإنسان، إذ يقدر أن يعيش منفرداً. وتقوم العلاقة بين الخالق والمخلوق، أو المحيي والمميت بوصفها شيئا واحدا، فالله يشرّع المصالح للبشر الذين يثبتون وجوده بعبادتهم إيّاه، إذ يُستدل على وجود المعبود بوجود العابد الذي يستفيد من العبادة وممارسة الطقوس بالوظائف الكامنة فيها، إذ يشعر المؤمن بأنَّ الموتَ حقّ وأنّ المرض سعادة حتى لو لم يتماثل المؤمن للشفاء، وذلك ينفي أن تُعامل مجموعة الطقوس والمعتقدات المنظمّة تنظيماً رمزياً بأنّ لها غاية نفعية، بل غاية معنوية هي سعادة الجماعة المؤمنة عن طريق اكتشافها معنى لهذا العالم مندفعة نحو عمل الخير لنيل السعادة الأُخروية، ويظهر ذلك في قوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﱋ ﱌ  ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱠ.  

تظهر التعبئة النفسية لبني البشر في قول رسول الله () وعليه قال القرطبي مفسرا الآية السابقة: "إنَّ الله تعالى أذلّ بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء، ثمّ دار بقاء"، ليُكثر الإنسان ذكره للموت ، ويكون أحسنَ استعداداً نفسياً لتقبله وأشدّ خوفاً وحذراً منه، فهو الذي يجعل الإنسان "أورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله. وقيل معنى قوله تعالى: ﱡﱏ ﱐ ﱑ ﱒﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱠ "أي ليعاملكم معاملة المُختبِر، أي ليبلوَ العبد بموتِ مَن يعزّ عليه ليبيّن صبره، وبالحياة ليبين شكره...". 

إنّ أصعب ما يواجِه غير المؤمن هو إيجاد معنى لقضية الموت، إذ لا يصل هؤلاء إلا لمعنى عبثية الوجود ولا عقلانيتها؛ لذلك وجّه بعض المفسرين معنى قوله تعالى: ﴿ ﱐ ﱑ ﱒﱓ ﴾  توجيهاً معنوياً نفسياً بأنّه يعني: "أيّكم أتمّ عقلاً عن الله وفهماً لأغراضه، والمراد: أنّه أعطاكم الحياة التي تقرّون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلّط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح؛ لأنّ وراءه البعث والجزاء الذي لابدّ منه، وقدّم الموت على الحياة؛ لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نَصَبَ موته بين عينيه...".

إنّ العلوم الاجتماعية الحديثة تريد بلوغ المعرفة الدقيقة بالتعريفات الحدّية الجامعة المانعة، ولا تسوّغ الخوض بقضايا النفس وعقائدها الغيبية غير الخاضعة للتجريب؛ لأنّ القضايا الذاتية لا يمكن إعمام نتائجها عن طريق فحص عينة معيّنة كما يحصل في عينات العلوم الطبيعية؛ لذلك بُحثتْ هذه القضايا بمنهجية علوم التفسير والتأويل. 

ويمثل الدعاء بوصفه تعبئة نفسية رحمانية تتّصل بالنوازع النفسية السامية، وبهذا الشأن ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲙ ﲚ ﲛ  ﲜﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﱠ.

قال الزمخشري (ت238هـ): "التضرّع (تفعّل) من الضراعة، وهو الذلّ، أي تذللاً وتملقاً، وعن الحسن(): إنّ الله يعلم القلب النقيّ والدعاء الخفيّ، إنْ كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر بهِ جاره، وإنْ كان الرجل قد تفقّه الفقه الكثير ولا يشعر الناس بهِ، وإن كان الرجل ليصلّي الصلاة الطويلة وعنده الزوار وما يشعرون به...".

ويذكر القرآن الكريم أهمية الدوافع النفسية الموجِّهة للسلوك الحسن؛ لذلك جعل الثواب والعقاب، وأمرنا الله تعالى أن ندعوه بدوافع الخوف والطمع؛ لأنّهما من موجّهات التعبئة النفسية لأكثر الناس؛ لذلك ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫﱠ.

قال الطبرسي "في تفسير قوله تعالى: ﴿ ﲩ ﲪ ﲫ ﴾، أي "خوفاً من عقابه وطمعاً من ثوابه، وقيل خوفاً من الردّ وطمعاً في الإجابة، وقيل خوفاً من عدله وطمعاً في فضله...وهو النفع الذي يستحقُّ به الحمد، والإساءة هي الضرر الذي يستحقّ بهِ الذم...".

كذلك جعل الدين السلوك الأخلاقي مضمونا للتديّن الصحيح؛ لأنّ الأخلاق الحميدة تتضمّن الدوافع النفسية التي تدفع نحو فعل الخير وتجازي عليه بالثواب، وتحرِّم ارتكاب الشر والفساد في الأرض وتعاقب عليه في الدنيا والآخرة، ولكنّ مبدأ العقاب كثيراً ما يؤجَّل دنيوياً لفسح المجال للإنسان بالتوبة ولاسيما إذا لم يؤدِّ إلى أضرار اجتماعية تعتدي على حقوق الآخرين، وقد يُؤجَّل العقاب إلى الآخرة للحفاظ على كرامة الإنسان وإفساح المجال له للرجوع عن الشرّ بالتوبة حتى آخر لحظة في الحياة، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂ  ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ  ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ...﴾ ، كذلك أخّر الله تعالى عقاب المكذبين في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲳ ﲴ ﲵ  ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ  ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ  ﱁ ﱂ... ﱠ.إنّ نفي تهمة السحر عن آيات الله تعالى يسلّط الضوء على الحقائق النفسية المَرَضِية المعتملة في نفوس الذين يخوضون في الباطل والكذب، وفي الآية الكريمة، تقريعٌ وتهكُّم من أُولي السلوك الشرير وأصحاب الدوافع المريضة غير السوية.

وكذلك جُعل الويل عقاباً للمطففين وللمكذبين بيوم القيامة، الذين صنّفهم القرآن بأنّهم ناقصوا عقلٍ كما سبق في تفسير بعض المفسرين، وهم العدوانيون والظالمون، الذين ماتت قلوبهم من القسوة، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ  ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ  ﱰ ﱱ ﱠ.                    

  وهؤلاء هم من "يصرّ على الكبائر ويسوّفُ التوبة حتى يُطبعَ على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه...".

فالخوف والطمع أو الرهبة والرغبة من موجِّهات السلوك في التعبئة النفسية القرآنية الإيجابية؛ لأنّ أغلب الناس تتساوى مع باقي الحيوانات في الدوافع الفطرية نحو دافع الجوع والعطش ما يدفع الإنسان لتعلّم شراء الأكل والشرب وإعداده لإشباع هاتين الحاجتين، وكذلك حاجة الإنسان إلى الدين فهي فطرية أيضا، إذ وُجدت قديماً مدن بلا حصون ولا مدارس ولا قصور، ولكن لم تُوجد مدن بلا معابد؛ لأنّ المعابد توضِّح علاقة الإنسان بربّه على مسار التاريخ لحلّ المشاكل الثابتة التي تواجه الإنسان في وجوده ومصيره؛ لذلك وصف الله تعالى تلك الحاجة بأنّها فطرية بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲣ ﲤ ﲥ  ﲦﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭﲮ ﲯ ﲰ ﲱ  ﲲﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ  ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ. 

تعني الفطرة: "الابتداء والاختراع، وتمثل قابلية الحق والتهيُّؤ لإدراكه، وقالوا: معنى لزومها: الجريان على موجبها وعدم الإخلال بهِ باتباع الهوى وتسويل شياطين للإنس والجن، ووصفها بقوله: ﴿ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭﲮ ﴾ لتأكيد وجوب امتثال الأمر. وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام...".

ولا تمنع الدوافع النفسية الغريزية التي توجِّه السلوك عند معظم الناس أن تُوجد فئة من الناس تندفع بتعبئة نفسية إيجابية مكتسبة بهاد النفس لتصبح متحررة التعبد بإطاعة أوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه من دون الشعور بدافعي اللذة بالثواب والألم من تصوّر العقاب، فتُصبح التعبئة النفسية مقسَّمة على ثلاثة أقسام، وذلك ما ورد في قول الإمام علي ()"إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنَّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار".

وأخيرا لابدّ من الإشارة إلى الرأي الفلسفي المعاصر الذي يرى أنّ العقل نفسه هو أساس قبول أيّة رسالة دينية على أنّها وحيٌّ إلهي، وهذا يعني وجوب انسجام الرسالة في جزئيها المُتعلقين بـ(الخَلق والأخلاق) مع بديهية الإنسان أو فطرته أو منطقه السليم ومع تطلّعاته السامية نحو المُثُل العليا من محبّة وسلام واحترام لكرامة الإنسان فـ"الرسالة 


تُفصح عن إلهيّتها بمقدار جمالها وجلالها وكمالها، ومقياس إلهية الكلام عظمته ونبله، والحقّ أنّ هناك جانبين كبيرين لكلّ كتاب يُسمّى إلهياً أو مُقدّساً أو مُنزلاً أو مُوحىً، هما: الخَلق ، والأخلاق مع ما يستتبعه كلٌّ منهما".

 




 الفصل الأول

                      أساليب التعبئة النفسية في آيات أصول الدين


المبحث الأول: أساليب التعبئة النفسية في آيات التوحيد.

المبحث الثاني: أساليب التعبئة النفسية في آيات العدل الإلهي.

المبحث الثالث: أساليب التعبئة النفسية في آيات المعاد.



 

توطئة: في مفهوم أصول الدين:                                                                  

 الأصل في اللغة يعني القاعدة، يُقال: "أصل الشيء: قاعدته التي لو تُوهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعه سائره، لذلك ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ  ﱠ .

، وقد تأصَّل كذا، وأصّله، ومجدٌ أصيل، وفلانٌ لا أصلَ له ولا فصلٌ"، اي: لا قاعدة له يستند إليها؛ لأنّ الأصل: "أسفل كلّ شيء، ويُقال: إنّ النخل بأرضنا أصيل، أي هو بها لا يفنى ولا يزول، وفلانٌ أصيل الرأي، وقد أصُلَ رأيهُ أصالةً، وإنّه لأصيل الرأي والعقل..."، بمعنى أنّه صاحب رأي وعقل لا يفتقر إلى غيره.

أما الأصل في الشرع فهو: "ما يُبنى عليه غيره، أو هو ما ثبت حُكمه بنفسه، وبُني عليه غيره، والابتناء إما أن يكون حسيّا، وإما أن يكون عقليا، فالابتناء الحسيّ مثل ابتناء السقف على الجدار، والابتناء العقلي مثل: ابتناء الأفعال على المصادر، والمجاز على الحقيقة، والأحكام الجزئية على القواعد الكلية، والمعلولات على العلل، وما يشبه ذلك...".

أما أصول الدين فهي العقائد الأساسية أو القواعد الأساسية التي يُبنى عليها جزئيات التدين العملي، ومسائله النظرية المختلفة، وهذه الأصول من موضوعات علم الكلام، الذي يختلف عن الفقه بمستويين منطقيين:

أولهما: هو أنّ تأسيس الفقه يتوقّف على القضايا الأصولية المحررة في علم الكلام، إذ يعدّ علم الكلام كالجذر لشجرة الفقه.

ثانيهما: ما يُبنى على المستوى المنطقي الأول، وهو أن يكون علم الكلام موجِّها ومؤثرا في علم الفقه، ومثال ذلك قضايا التحسين والتقبيح العقليين فإنّها تسند القاعدة الفقهية: (قبح العقاب بلا دليل).

وتضطلع الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي إلى جانب علم الكلام في توجيه الفهم التدبري لأصول الدين وآياته؛ لأنّ المدخل المنهجي العقلي المحض – وإنْ بدأ بمسلمات مختلفة عن مسلمات علم الكلام والتصوف- إلا أنّه يُعدّ أحد الروافد التي تصبّ في مصبّ واحد، إذا تناولت موضوعا واحداً وهو (أصول الدين)، مادامت كلّ ديانة في جوهرها تتألف من وحي Revelation من جهة، وتفسير لذلك الوحي من جهة أخرى، فإنّ عناية هذه الدراسة لا تتصل بالوحي الثابت الذي لا يتغيّر، لأنّه يمثل التعبير عن الإرادة الإلهية ذات الحقائق الخالدة، وإنّما ستنصبّ هذه الدراسة –إن شاء الله تعالى- على ما يثيره الوحي من ردّ فعل في النفس الإنسانية؛ لأنّ النفس مقيّدة بالزمان والمكان وتتعرّض على مرور العصور لضغوط القوى الداخلية والخارجية، التي تُعطي الجماعة الإسلامية شخصيتها في مرحلة من مراحل التاريخ، فيما يتصل بفهم آيات أصول الدين وما تتضمّن من تعبئة نفسية بأسلوبها المتميز المعجز، الذي يتطوّر فهمه بتطور العلوم المساعدة وتطوّر مدركات الإنسان وطريقة تصوره للعالم بمرور الزمن، وذلك في المباحث الثلاثة الآتية.


 

المبحث الأول                                                   

أساليب التعبئة النفسية في آيات التوحيد 

التوحيد لغةً هو جعل الشيء واحدا، يُقال: "الرجل الوحيد ذو الوَحدة، وهو المنفرِّد ولا أنيس معه، وقد وَحُدَ يَوْحُد وحادةً ووحدةً ووَحْداً. والتوحيد الإيمان بالله وحده لا شريك له، والله الواحد الأحد، ذو التوحيد والوحدانية...". 

فالتوحيد في اللغة هو الحُكم بأنّ الشيءَ واحدٌ، ويتضمّن العلم بأنّه واحد، وفي اصطلاح أهل الحقيقة: "تجريد الذات الإلهية عن كلّ ما يتصوّر في الإفهام، ويُتخيّل في الأوهام والأذهان، وهو ثلاثة: معرفة الله تعالى بالربوبية، والإقرار بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة...".

وهذا يعني إنّ المُراد باصطلاح التوحيد هو العقيدة المخصوصة، ولها عدة معانٍ مختلفة، منها: أنّها صفة يُراد بها إثبات وجوب وجود الله وحده لا شريك له بما يُتصوّر في الإفهام أو الأوهام أو الأذهان، ويُراد بها (الوحدانية) وهي: "مصدر مأخوذ من الوحدة أيضا بزيادة الألف والنون للمبالغة، ويُراد بها امتناع مشاركة الله تعالى في وجوب ذاته وصفاته وأفعاله".

وتجتمع معاني التوحيد كلها في سورة الاخلاص، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ  ﱠ 

  إذ بُنيت أساليب التعبئة النفسية في هذه السورة الكريمة القصيرة على ثنائية الإثبات والنفي، وهي ثنائية لا تقوم على التعارض في دلالتها النهائية، بل تقوم على التعاضد لإثبات معنى (الإخلاص) ممّا يؤدّي إلى تكوين الأشكال القوية، فالإثبات يتجّه إلى توكيد الوحدانية نفسها، أما النفي فيسير بالاتجاه نفسه ولكن بأسلوب نفي الشرك لها، كالآتي:

1- أسلوب إثبات الوحدانية: وذلك قوله تعالى: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱠ. 

2- أسلوب نفي الشرك: وذلك قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱠ.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة موجّهة لخطاب المشركين، تبيّن التعبئة النفسية السلبية لهم في هذا المجال العقائدي الحيوي وتوجّه النقد الصريح والخفي لها، منها قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ  ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﱠ 

 ، وقوله ﭐﭨﭐﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ  ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ  ﱠ .

والاستفهام في الآية الكريمة الأخيرة "إنكار وتعجيب، وذلك أنّ النبي() أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع الله، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، فتعجّبوا من ذلك وقالوا: كيف جعل لنا إلهاً واحدا بعدما كنّا نعبدُ آلهة؟: (إنّ هذا) الذي يقوله محمد من أنّ الإله واحد ﱡﱬ ﱭﱠ ، أي: لأمر عجيب مفرط في العجب".

ولمّا كانت عقيدة الشرك التي تعوّد عليها المجتمع الجاهلي إرثا عزيزا على قلوب ذلك المجتمع المشرك، جاء الخطاب في سورة الإخلاص بالصيغ الفعلية، لأنّ الأفعال يراد بها تجديد العقائد الفاسدة؛ لأنّها قبيحة عقليا، فكان هدف الخطاب التجدد والتحويل من حال التعبئة النفسية السلبية إلى حال التعبئة النفسية الايجابية؛ لذلك وردت الأفعال المحددة الزمن المنفية الآتية: (يلد، يولد، يكن...).

أما أسلوب الإثبات في الآيتين الأوليين فإنّه موجّه لخطاب المؤمن الموحِّد ذي العقيدة السليمة، لذلك استعمل القرآن الكريم الجمل الإسمية: (اللهُ أحد، الله الصمد)، لزيادة التعبئة النفسية الايجابية في نفوس المؤمنين ودفعها إلى أقصى حدٍّ لترسيخ الثابت على الثبات بأشدّ وقعاً وأثراً؛ لأنّ موضوع الخبر إذا جاء بهيأة الاسم غير المقترن بزمن محدد "ثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا بعد شيء، وأما الفعل [المحدد الزمن] فموضوعه على أنّه يقتضي تجدد المعنى به شيئا بعد شيء"، وقد خصّ الله تعالى به المشركين كما تقدّم.

وقد اُستعملت دقائق العربية في زيادة التعبئة النفسية الايجابية لدى الموحّدين، ومن ذلك استعمال لفظ: (أحد) بدلا من (واحد)؛ لأنّ "الواحد: أول عدد من الحساب، تقول: ابتداءً العدد: واحد، اثنان ثلاثة إلى عشرة..."، بمعنى أنّ الواحد يُوحي بورود ثانٍ له، أما (أحد) فلا يوحي بذلك المعنى، فكأنّه قيل: الواحد الأحد، لا الواحد الذي يليه الاثنان والثلاثة إلى غير ذلك.

أما التوكيد بالضمير (هو) في قوله تعالى: (هو الله أحد)، فهو توكيد قوي؛ لأنّ هذا الضمير نكرة تفسِّره الجملة بعده، ويُسمّى ضمير الشأن، ويُسمّيه الكوفيون ضمير المجهول أو العماد، ويُستعمل في مواضع التفخيم والتعظيم ومثاله قوله ﭐﭨﭐﱡﭐ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﱠ، قال الزمخشري"﴿إنّه﴾ يجوز أن يكون ضمير الشأن، ﴿ انا اللهُ﴾ مبتدأ وخبر..." .ويقولون: "هو زيد منطلق، ومعنى هو: (زيد منطلق)، أي: معنى الضمير هو معنى الجملة، فيكون المعنى هكذا: الشأن زيدٌ منطلق، أو الأمر: زيدٌ منطلق، ويعني بالأمر ما بعده".

ومن النصوص النوعية التي تحدد التوحيد بإقامة حوارية تواصلية مع المتلقي بوصفه أحد أهم عناصر السياق الخارجي؛ لأنّه يمثل الجمهور المستهدف من الرسالة الإلهية ذات التأثير الايحائي الايجابي في مجال موضوع التوحيد، قوله تعالى:ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ  ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱐ ﱑ ﱒﱓ ﱔ  ﱕ ﱖ ﱗ ﱠ،  إذ ورد النفي –هنا- بطريقة أسلوبية متميزة، وذلك بنفي المماثلة نفيا مضاعفا، أي: (نفي مثل المثل)، قال الزجاج(ت311هـ): "ليس كمثله شيء، هذه الكاف مؤكِّدة، والمعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يُقال المعنى: مثل مثله شيء؛ لأنّ مَن قال هذا فقد أثبت المثل لله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً".

ونقل الطوسي(ت460هـ) رأي المرتضى واستحسنه وهو: "أنّ لا تكون الكاف زائدة، ويكون المعنى أنّه نفى أن يكون لمثله مثل، وإذا ثبت أنّه لا مثلَ لمثله، فلا مثل له أيضا؛ لأنّه لو كان له مثل لكان له أمثال، لأنّ الموجودات على ضربين، أحدهما: لا مثل لها، كالقدرة فلا أمثال لها أيضا، والثاني: له مثل كالسواد والبياض وأكثر الأجناس فله أمثال أيضا، وليس في الموجودات ما له مثل واحد فحسب، نعلم بذلك أنّ المراد أنّه لا مثل له أصلا من حيث لا مثل لمثله".

ونقل محيي الدين الدرويش عن بعض المحققين بأنّ الكاف: "ليست بزائدة، وإنّما هي على بابها، ومعنى الكلام –والله اعلم- نفي مثل المثل، ويلزم من ذلك نفي المثل ضرورة وجوده سبحانه، فإنْ قيل: لِمَ توصّل إلى نفي المثل بنفي مثل المثل؟ وهلاّ نفى المثل من أول وهلة؟ فالجواب: إنّ نفي المثل بنفي مثل المثل أبلغ وأفخم، فقولنا: مثلُكَ لا يفعل هذا، أبلغ من قولنا: أنت لا تفعلُ هذا؛ لأنّه نفي الشيء بذكر دليله، فهو أبلغ من نفي الشيء بغير دليله".

ويرى الباحث أنّ القول بعدم زيادة الكاف للتوكيد وأنّها على بابها للتشبيه، يجعل النفي نوعا من التعمية في الكلام وشبيها بالألغاز، والصحيح ما ذهب اليه محيي الدين الدرويش، وأكّد بعض المفسرين بأنّ قولهم: "مثلك لا يفعل كذا، على قصد المبالغة في نفيه عنه، فإنّه إذا نُفيَ عمّن يناسبه ويسدُّ مسدّه، كان نفيه عنه أولى...".

أما قوله تعالى: ﱡﭐ ﱔ  ﱕ ﱖﱠ فمعناه أنّه: "على صفة يجب أن يسمعَ المسموعات إذا وُجدت، ويبصر المبصرات إذا وُجدت، وذلك يرجع إلى كونه حيّا لا آفة به، وفائدة ذكره –هنا- هو أنّه لمّا نفى أن يكون له شبهٌ على وجه الحقيقة والمجاز، وعلى وجه من الوجوه بيّنَ أنّه مع ذلك سميع بصير، لئلا يتوهّم نفي هاتين الصفتين له على الحقيقة فقط، فإنّه لا مدحة في كونه ممّا لا مثل له على الانفراد؛ لأنّ القدرة لا مثل لها، وإنّما المدحة في أنّه لا مثل له مع كونه سميعا بصيرا، وذلك يدلّ على التفرّد الحقيقي".

وقد نقل بعض الصوفية حالة أعجب في فهم التوحيد الأمثل، قال: "فإنّ العقل مادام يلتفت إلى الوحدة فهو بعدُ لم يصل إلى عالم الوحدة، فإذا ترك الوحدة فقد وصل الوحدة، وهل يمكن التعبير عن ذلك؟ فالحقّ أنّه لا يمكن؛ لأنّكَ متى عبّرتَ عنه أخبرتَ عنه بأمر آخر، والمُخبَر عنه غير المُخبِر به، فليس هناك توحيد، ولو أخبرتَ عنه فهناك ذات مع السلب الخاص، فلا يكون توحيد هناك، فأما إذا نظرتَ اليه من أنّه هو من غير أن تُخبِر عنه لا بالنفي ولا بالإثبات، فهناكَ تحقق الوصول إلى مبادئ عالم التوحيد، ثمّ الالتفات المذكور لا يمكن التعبير عنه إلاّ بقوله (هو)، فلذلك عظُمَ وقعُ هذه الكلمة عند الخائضين في بحار التوحيد".

يمثل هذا الفهم أقصى درجات التعبئة النفسية الايجابية أو المثالية للتوحيد، التي يجب أن تنعكس على سلوك المُكلَّف أو الموحِّد، إذ ذكر المحققون من الباحثين المعاصرين في علم الكلام والفلسفة أنّ الله -سبحانه وتعالى- يجب أن يُوحَّد في المعاني أو المراتب الآتية:

1- التوحيد في الذات.

2- التوحيد في الصفات والاسماء.

3- التوحيد في الخالقية. والالوهية.

4- التوحيد في الربوبية.

5- التوحيد في الحاكمية.

6- التوحيد في الطاعة.

7- التوحيد في التشريع.

8- التوحيد في العبادة.

9- التوحيد في الشفاعة والمغفرة.

والإشكال يقع أكثر في توحيد الذات والصفات، بتوهّم أنّ الصفات ليست عين الذات؛ لذلك فرّق علماء الكلام بين صفات الذات التي هي اللامتناهية، لأنّها عين ذاته، فضلاً عن أنّها أزلية قديمة قِدَم الذات الإلهية من جهة، وصفات الفعل الحادثة بحدوث الأفعال الإلهية المحدودة؛ لأنّها زائدة على الذات؛ لهذا يمكن أن يُقال: إنّ الله يمكن أن يخلق أو لا يخلق، أو يرزق ولا يرزق، فلّما أحدث الأشياء وكان المعلوم، "وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المبصر، والقدرة على المقدور، قال: قلتُ: فلم يزل الله متكلماً؟! قال: إنَّ الكلام صفة مُحدَثة ليست بأزلية، كان الله -عز وجلّ- ولا متكلم".

 إنّ التوحيد المطلق لله تعالى يمثل أقصى تعبئة نفسية إيجابية توصّل إليها الرقي الروحي البشري والفكري، خارج التفكير المادي عن طريق البراهين العقلية والذوقية القلبية فضلا عن الأدلة الحسية التي يراها الإنسان في جمال وكمال المخلوقات، لمواجهة التوحيد الجزئيHenotheism  من جهة، ومواجهة التعدد من جهة أخرى، لأنّ هذين التصورين يقضيان بتعدد الإرادات الخالقة والمدبّرة للكون،ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ  ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ 

 ، إذ يرى بعض المفسرين أنّ أدلة التوحيد قوية في: "اتصال التدبير وتمام الصنع... ﴿ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ  ﲺ ﲻ﴾: المحيط بجميع الأجسام، الذي هو محلّ التدابير ومنشأ المقادير...".

 ويتضمّن قول الفلاسفة بـ(واجب الوجود لذاته) "البرهان على أنّه واحد؛ لأنّه لو كان هناك موجودان كلّ منهما واجب الوجود بذاته لكانا متفقين من وجه ومتباينين من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كلّ منهما واحداً بالذات. والواجب الوجود بذاته في غاية الكمال والجمال والبهاء، وهو عقل محض، وعاقل محض، ومعقول محض...".

 

المبحث الثاني                                                 

أساليب التعبئة النفسية في آيات العدل الإلهي 

العدل لغة:" المرضي من الناس قوله حكمته هذا عدل وهم عدل فإذا قلت فهم عدول على لعدة"  وهو خلاف الظلم والجور، وهو "القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنّه مستقيم، مِن عَدَلَ عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله"؟، أما العدل اصطلاحا فهو "الاستقامة على طريق الحقّ باجتناب ما هو محظور ديناً". 

والعدل مفهوم واسع يشمل "جميع الأعمال الصالحة؛ لأنّ طبيعة العدل هي استخدام كلّ شيء في مجاله، ووضع كلّ شيء في محلّهِ، قال الجاحظ(ت255هـ) العدل هو "استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها ووجوهها، ومقاديرها، من غير صرف ولا تقصير وتأخير".

ويرى الراغب الأصفهاني(ت502هـ) أنّ العدل لفظ "يقتصر معناه على المساواة ... ويُستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، وعلى ذلك قوله ﭐﭨﭐﱡﭐ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ... ﱠ

 ، والعِدل بكسر السين والعديل فيما يُدرك بالحاسة، كالموزون والمعدود والمكيلات...".

لكن الباحث يرى أن ّالعدل يختلف عن المساواة؛ لأنّ العدل يعني: "وضع الشيء في موضعه الصحيح"، في حين تشتق المساواة المعادلة والمماثلة في الشيء، فعندما تقول فلان ساوى بين شخصين بمعنى: أعطى لكلّ واحدٍ مثل الآخر، والعدل ليس كذلك، لهذا لم يساوِ القرآن الكريم بين الذكر والأنثى في الميراث ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲃ ﲄ  ﲅ ﲆﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﱠ، أي ليس من العدل المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ بين العدل والمساواة علاقة عموم وخصوص، فكلّ عدل فيه مساواة في الحقوق، وليس لعكس، فالمساواة في بعض الأحيان تقتضي الظلم، و لو ساوى القانون بين ميراث الرجل والمرأة

أما العدل بوصفه أصلا من أصول الدين فـ"هو تنزيه البارئ تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، قالوا: هو يفعل لغرضٍ واستلزم نفي الغرض العبث، وهو قبيح وهو منزّه عنه، عليه اللطف ويجب عليه عوض الآلام الصادرة عنه، وعدم الوجوب يستلزم القبيح..."، لقوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﱛ  ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ.

، أي: أوجب الله تعالى على نفسه الرحمة.

وهناك تقارب في الدلالة بين العدل والقسط والحَسَن والمساواة وغيرهما، لكنّ الذين أقرّوا بوجود الترادف في اللغة ولم يقرّوه في الاستعمال البلاغي للغة، تلمسوا فروقا بين المترادفات، ومن ذلك الفرق بين القسط والعدل، قال أبو هلال العسكري(ت395هـ): "إنّ القسط هو العدل البيّن الظاهر، ومنه سُميَ المكيال قسطاً والميزان قسطاً، لأنّه يصوّر لكَ العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا، وقد يكون من العدل ما يخفى، ولهذا قلنا: إنّ القسط هو النصيب... وتقسَّطَ القوم الشيء: تقاسموه بالقسط".

ونقل الشيرازي  أنّ بين العدل والقسط فرقا دقيقاً "إذ تُطلق العدالة ويُراد منها إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، ويقابلها الظلم، وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم، في حين يعني القسط ألاّ تُعطي حقّ أحدٍ لغيره، وبعبارة أخرى القسط لا يُرضى بالتبعيض، ويقابله أن يُعطى حقُّ أحدٍ لغيره"، وهو ما أشار اليه أبو هلال العسكري بأنّ العدل أخفى من القسط.

أما الفرق بين العدل والحَسَن فهو: "أنّ الحَسَن ما كان القادر عليه فعله، ولا يتعلّق بنفع واحد أو ضرّه، والعدل حَسَنٌ يتعلّق بنفع زيدٍ أو ضرّ عمرو، ألا ترى أنّه يُقال: إنّ كلّ الحلال حَسَنٌ، وشرب المباح حَسَنٌ، وليس ذلك بعدل".

ويتجلّى العدل الإلهي بوصفه علاقة اجتماعية بين السلطة القضائية الحاكمة والمحكومة، انطلاقا من مبدأ (الرحمة)، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﱕ  ﱖ ﱗ ﱘﱠ 

 ، تلك الرحمة التي لا تفرِّق بين الناس الذين هم جميعا خلق الله يحكمُ بينهم بالعدل ويشملهم برحمته الواسعة، التي أقصى ما فيها من تعبئة نفسية أنّها تزرع الأمل في توبة العبد بما يُردّ عليها بإمكان غفران الذنوب جميعا نظرا لسعة تلك الرحمة، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ  ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ  ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ  ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﱠ. 

قال الطوسي(ت460هـ) في تفسيره لقوله تعالى: ﱡﲚ ﲛ ﲜ  ﲝ ﲞﲟ ﱠ: "في ذلك دلالة واضحة على أنّه يجوز أنْ يغفرَ الله بلا توبة، تفضّلاً منه وبشفاعة النبي()، لأنّه لم يشرط التوبة، بل أطلقها. وروي عن علي() وابن عباس: أنّهما قالا: إنّ لأرجى آية في كتاب الله قولهﭐﭨﭐﱡﭐ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ...ﱠ...". 

وقال الزمخشري(ت538هـ): "وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: (يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء)، والمراد بـ(من يشاء): من تابَ؛ لأنّ مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته، وقيل: في قراءة فاطمة (عليها السلام): (يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي). ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله تعالى: ﱡ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ  ﱠ .

  وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أنّ من عبدَ الأوثان وقتلَ النفسَ التي حرّم الله لم يُغفر له، فكيفَ ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفسَ التي حرّم الله، فنزلت...".

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي() أنّه قال: "ما في القرآن أوسع من:ﱡﲕ ﲖ ﲗ...ﱠالآية، ... وقيل إنّ الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يُسلم وخافَ أن لا تُقبلَ توبته، فلمّا نزلت الآية أسلم، فقيل: يا رسولَ اللهِ هذه له خاصة أم للمسلمين عامة، فقال (): بل للمسلمين عامة...".

وسواء كانت المغفرة الواسعة المعتمدة على الرحمة الواسعة غير مشروطة بتوبة تفضّلاً منه تعالى أم بشفاعة النبي()، أم كانت مشروطة بتوبة، فإنّ المغفرة غير المشروطة تؤكِّد فكرة التعبئة النفسية القصوى، أما المشروطة فلا تختلف عن الأولى إلاّ بتحبيب قطع التعبئة النفسية السلبية ليتوجّه السلوك نحو عمل الخير، بما يؤكّد أهمية العدل الإلهي بوصفه قيمة عليا دافعة للسلوك الإنساني النزيه نحو تخطّي المواقف السلبية إلى المواقف الايجابية والثبوت عليها، إذ تعادل فكرة تطبيق العدل الإلهي القائم على مبدأ الرحمة ضرباً من السعادة البشرية لاندحار الشرّ والفساد وسيادة المُثُل الأخلاقية للسلوك الإنساني الايجابي.

وقد وردت كلمة (العدل) في القرآن الكريم أكثر من أربعة عشر موضعا، فضلا عن مرادفاتها نحو: (القسط) التي وردت في أكثر من ستة عشر موضعا، وكذلك لفظة (الحق) بمعنى (العدل)، وهناك عدد من الآيات التي تنهى عمّا يضاد العدل، أي تنهى عن الظلم، وتتضمّن بالضرورة الدعوة إلى العدل.

 وهكذا جاء العدل الإلهي بشكل صريح مفهوما مباشرةً من الدلالة اللغوية وذلك ما ورد في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ  ﱯ... ﱠ ،أو بأسلوب الألفاظ المرادفة، نحو قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ  ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱠ. 


ويقتضي العدل الإلهي السماوي أن يأمر به الله تعالى أنبيائه أن يقيموه في الأرض؛ لذلك

تكتمل النظرية وتطبيقاتها من قبل المسؤولين عن التطبيق الأمثل القائم على أسس الشريعة الإلهية، إذ لحظ صاحب تفسير الأمثل التعبئة النفسية الايجابية بهذا الأمر ونبذ السلبية في إقامة العدل الأرضي، بأنّ موضوع البحث في هذه الآية الكريمة يمثل: "مبدأً أساسياً وقانوناً كليّاً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد من دون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة... ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (قوّامين) هي جمع لكلمة: (قوّام) ، وهي صيغة مبالغة من (قائم) وتعني: كثير القيام، أي إنّ على المؤمنين أن يقوموا بالعدل في كلّ الأحوال والأعمال وفي كلّ العصور والدهور، لكي يُصبح العدل جزءا من طبعهم وأخلاقهم، ويُصبح الانحراف عن العدل مخالفا ومناقضا لطبعهم وروحهم".

   وقد يأتي الأمربـ(القسط) في سياق النهي عن الفاحشة التي يفصِّل الله تعالى في وصف تعبئتها النفسية السلبية حين يسوّغها مرتكبوها بأنّها تمثل إرثاً ثقافيا ورثوه عن الآباء والأجداد، وهذا يجعل المتلقي يفكّر في أصول العقائد الفاسدة الموروثة لنقدها والتشكيك فيها والرغبة عنها لبدء الاتجاه الصحيح نحو الرغبة في العدل، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲛ ﲜ  ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ  ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ  ﲵ ﲶ ﲷﱠ.

 

والفاحشة مفهوم يشمل: "كلّ أنواع الفعل القبيح، وتأكّد أنّ الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقا، لهذا أُشير في هذه الآية إلى أصول ومبادئ التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية، أي: المبدأ والمعاد بصورة مختصرة موجزة...".

أما قوله تعالى:ﭐﱡﭐﱬ ﱭ ﱮ ﱯﱰﱱﱲ ﱳﱴﱵ ﱶﱷﱸ ﱹ ﱠ. فإنّ كلمة (الحق) من مرادفات العدل، قال الزمخشري: "الحقّ: العدل الذي لا يحكم إلاّ بالحق. (ألا له الحكم) يومئذٍ لا حكمَ فيه لغيره. (وهو أسرع الحاسبين)، لا يشغله حساب عن حساب، وقُرئ: (الحقَّ) بالنصب على المديح كقولك: الحمدُ للهِ الحقَّ...".

أما التعبئة النفسية العالية في العدل الإلهي في هذه الآية الكريمة فتظهر بسبب اقترانها بسرعة حساب الخلائق جميعا بلمح البصر، حتى لا تطولَ معاناة المتأخرين فيما لو تأخّر حسابهم مدة طويلة بالقياس إلى الذين تقدّموا كما يحصل في المحاكم البشرية، وقد قارب الشيرازي سرعة الحساب بافتراض آلات حاسبة تسجل كلّ صغيرة وكبيرة وتجري حسابات سريعة بلمح البصر، قال: "...أي أنّ كلّ عضو من أعضاء الجسم فيه –بالإضافة إلى روحه- جهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة. وإذا جاء في بعض الروايات أنّ محاسبة المسؤولين والاغنياء تطول يوم القيامة، فإنّ هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب، بل هو طول زمن المحاسبة عليهم... أي ثقل مسؤولياتهم ولزوم إجاباتهم على الأسئلة لإتمام الحجّة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم".

وقد رصد بعض الباحثين عدد الآيات التي تعبِّئ النفس البشرية تعبئة إيجابية وتحبب العدل، فوجدها تربو على الثلاثمائة آية كريمة، وهو يقارب العدد نفسه في آيات تندد بالتعبئة النفسية السلبية التي تدفع بسلوك الإنسان نحو ارتكاب الظلم، محذّرة منه، والعدل يأخذ أشكالا كثيرة ومجالا كبيرا، لذلك قال الشيرازي: "والقرآن لا يُحدد مجالاً واحدا معينا للظلم، فيمكن أن يكون في مجال الاقتصاد فيأخذ شكل الاستغلال، أو في مجال السياسة فيأخذ شكل الطغيان، ويمكن أن يكون في المجال الاجتماعي والعلاقات على مستوى الأسرة أو المجتمع، فكلّ صورة من صور الحيف والظلم تؤثّر في حياة واستقرار المجتمع فهي تنتمي إلى جنس الظلم".

وقد أكَّدت السُّنة النبويّة أهمية التعبئة النفسية الإيجابية باتباع العدل عن طريق استعمال أسلوب مقارنته مع العبادة لغرض تعظيم شأن العدل؛ لأنّه عبادة عملية يعمّ خيرها المجتمع، مقابل العبادة الشخصية التي يخصّ خيرها الفرد، وذلك قول رسول الله():"لعملُ الإمام العادل في رعيته يومًا واحدا، أفضل من عمل العابد في أهله مئة عام، أو خمسين عاما، وقال أيضا: عدلُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنة".

 

المبحث الثالث                                               

أساليب التعبئة النفسية في آيات المعاد

المعاد لغة مشتق من مادة (العود) وهو: "تثنية الأمر عوداً على بدء، بدأَ ثمّ عادَ، والعودة المرة الواحدة، كما يقول ملك الموت لأهل الميت: إنّ لي فيكم عودة ثمّ عودة حتى لا يبقى منكم أحدٌ... والحجّ معاد الحاج يقولون في الدعاء: اللهمّ ارزقنا إلى البيتِ معادا أو عوداً. وقوله: ﭐﭨﭐﱡﭐ ﱆ ﱇ ﱈ...ﱠ 

 ، يعني عِدَةً للنبي()، أنْ يفتحها ويعودَ إليها". 

أما المعاد في اصطلاح أهل الكلام فهو يرادف الحشر وهو البعث أيضا، وقد عرَّفه السيوري(ت826هـ) بأنّه: "الوجود الثاني للأشخاص الإنسانية بعد موتها لأخذ الحقّ منها أو إيفائه".

 والمعاد هو أصل ثابت في الشرائع السماوية كلّها، إذ يرى علماء الكلام وجوبه وكونه شاملا وثابتا لديهم؛ لأنّه يستند إلى كلية القدرة الإلهية التي أوجدت وتُوجد ومازالت تُوجد الأشياء من العدم بكلمة (كن) فيكون. أما بشأن يوم القيامة فإنّ المعاد يعني بعث الموجودات من القبور إلى الحياة من جديد، كما هو نصّ الآية الكريمة: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ  ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ  ﱚ ﱛ ﱠ .

فالقدرة الإلهية التي تُوجد من العدم هي نفسها التي تبعث مَن في القبور، وليس غيرها؛ لأنّ قدرة الله تعالى لا تتجزأ ولا تقوى مرّة وتكون أقلّ قوة ثانية، روى صاحب كنز الدقائق عن أبي عبد الله() قال: "قال رسول الله () لجبرئيل: يا جبرئيل! أرني كيف يبعث الله تبارك وتعالى العباد يوم القيامة؟ قال: نعم، فخرج إلى مقبرة بني ساعدة، فأتي قبرا فقال له: اخرج بإذن الله. فخرج رجلٌ ينفض رأسه من التراب وهو يقول: والهفاه! -واللهف هو الثبور-، ثم قال: ادخل فدخل. ثم قصد به إلى آخر فقال: اخرج بإذن الله، فخرج شابٌ ينفض رأسه من التراب، وهو يقول: أشهد أنّ لا إله إلاّ الله ...".

وهذا يعني إنّ المعاد يعتمد على السمعيات التي تُؤسس للتجربة الدينية أكثر من اعتماده على التجربة الحسية والفلسفية؛ لذلك يميّز بعض فلاسفة الدين التجربة الدينية المختلف فيها من التجربة الحسية المتّفق على نتائجها بين بني البشر، وذلك قوله بأنّ التجربة الدينية: "ليست عامّة بين البشر، أما التجربة الحسية فعامّة والجميع مزود باعتقاد حول العالم الطبيعي، ولا أحدَ يستطيع أن يعيش من دونه، ولكن ليس لدى الجميع –أو يبدو أنّهم- لا يحتاجون لاعتقادات تتعلّق بالمقدس المتعالي..."، إلاّ أنّ اعتقاد المعاد ضروري من ناحية أخلاقية ونفسية فضلا عن أنّه لا يبحث عن صحة وجوده من عدمه الآن، بمقدار ما يُبحث عن وظيفته الاجتماعية؛ لذلك جمع بعض الفلاسفة بين التجربتين على الرغم من تمييز العقل المجرد الواضح جدّا بينهما لتكوين مركّب تكاملي في نسيج معقّد من دون أن يُنقص أو يَتْلِفَ أحدهما الآخر؛ لأنّ "كلّ تخلٍّ عن المعرفة (العقلانية/ التجريبية)، يقود البشر إلى الموت جوعا، وكلّ تخلٍّ عن اعتقاداتهم [القلبية] الأساسية يؤدّي إلى تفكيك المجتمع".

وهذا يعني إنّ لا اختلاف بين التجربة الدينية والحسّيّة من منظور وظيفي، فضلا عن المنظور المعرفي على الرغم من الفوارق الأساسية بين موضوعيهما، لأنّ هذه الفوارق تشكّل سببا وجيهاً لجعل التجربة الدينية ممثلة لاستجابة معرفية لحقيقة قدسية متعالية كلية القدرة تحتّم وجود المعاد بإحياء الموتى وإقامة العدل.

أما التعبئة النفسية في آيات المعاد فإنّها تتضمّن القول بأنّ الإنسان في هذه الحياة الدنيا ما هو إلاّ عابر سبيل، وأنّ مصيره إلى المستقر الثابت وهو عالم الآخرة، وأنّ الموت بيد الله تعالى وهو آتٍ لا محالة على كلّ نفس، فالنفس خُلقت لأجلٍ مُسمّىً، أما الجسد فإنّه سيبلى ويرجع إلى التراب الذي خُلق منه آدم() أبو البشر، ثمّ خُلقت ذريته منه، ولكنّهم سيبعثون أحياءَ في يوم معلوم لمحاسبتهم، إذ ينتهي الحساب بتقسيم المبعوثين على قسمين، أولهما: في الجنة، وثانيهما: إلى عذاب جهنم وبئس المصير.

فأما الآيات التي تؤكِّد على زوال الحياة الدنيا وتسمّيها أيضا بـ(المتاع)، أو (الفانية) إلى غير ذلك من تسميات تحقِّرها فكثيرة، وهي تقابل بين الدنيا والآخرة الباقية أو دار القرار، ومنها قوله تعالى:ﱡﭐ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ  ﲲ ﲳ ﲴ ﱠ 

 ، إذ يُلفت هذا النداء الواعي تنبّه المخاطبين للتفكّر بحقيقة الحياة الزائلة المدرَكة بطريقة حسية ملموسة واضحة، ومقارنتها مع الحياة الإيمانية الباقية، وهي حياة الآخرة المدركة بطريقة خفيّة، والقائل هو مؤمن آل فرعون أو موسى() "لغرض تحويل التعبئة النفسية السلبية إلى إيجابية؛ لأنّ هذه الحياة الدنيا متاع، أي انتفاع قليل ثمّ يزول وينقطع ويبقى وزره وآثامه وأنّ: (الآخرة هي دار القرار) أي: دار الإقامة التي يستقرّ الخلائق فيها، فلا تغتروا بالدنيا الفانية ولا تؤثروها على الدار الباقية...".

تمثل هذه الدعوة منطق الاعتقاد الديني ذي التعبئة النفسية الايجابية، والإيمان بهذه العقيدة المهمة التي تُزعزع عروش السلاطين المستبدين؛ لأنّهم يفضلون الحياة الدنيا؛ لذلك قال محمد جواد مغنية: "ما من شكٍّ أنّه لولا فرعون وعتاته المترفون لوجد من الناس من يسمع ويطيع، وقصة هذا الرجل المؤمن –كما نعته القرآن الكريم- هي حجّة كافية على كلّ من يدّعي الإيمان بالله ثمّ يسكت عن كلمة الحقّ غير مرتاع ولا هيّاب وهو لا يملك إلاّ نفسه وعقيدته، وكلّ نبيّ من أنبياء الله ناضل أمّته وحيدا فريدا...".

إنّ تبنّي الأنبياء() والمصلحين والشهداء لاعتقاد المعاد لابدّ أن يقوم على منطق مجازفة التجربة الدينية كما يقول بعض فلاسفة الدين بأنّ المؤمنين بالمعاد "يمارسون حقّهم المعرفي على أكمل وجه، غير أنّهم يقومون بمجازفة معرفية عميقة لا مفرّ منها، مجازفة لا نقول إنّها غير منطقية، إنّما يلزم الحذر عند القيام بها".

ولكي لا يُفهم ذمّ الدنيا والإشادة بالحياة الأخرى، أنّه يمثل دعوة للرهبنة أو الزهد أو التصوف، الذي يُعد من منظور الإسلامي عصيانا أو تعبئة نفسية سلبية وازنت بعض الآيات القرآنية بين الحياتين على أنّهما كلاهما يمثل الخير ولكن الأفضل والأخير والأبقى هو الحياة الأخرى، وهو ما يخالف التعبئة النفسية للطبيعة البشرية إذ تفضّل العكس؛ لذلك ينبغي تعديل هذه الرؤية ليحيا الإنسان بتوازن نفسي مفضٍّلا منطق الثابت على منطق المتغيّر الزائل، أو مفضٍّلا الكثير المؤجَّل على القليل المقدّم، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ  ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ  ﱠ. 

و(بل) –هنا- للاستدراك "تستدرك بها الثاني بعد ما نفيت الأول، وتقول في الايجاب: قام زيدٌ بل عمرو، فتكون للرجوع عن الأول..."، والأول هو:قوله ﭐﭨﭐﱡﭐ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱠ 

 ، وهذا يعني إنّ هناك رؤيتين، أولاهما: ايجابية وهي الرؤية الإلهية التي سار على نهجها الأنبياء وهما: (إبراهيم وموسى) () والمؤمنون بعقيدتهما، وثانيتهما: الرؤية ذات التعبئة النفسية السلبية، وهي رؤية عموم الناس، وكلاهما خَيْرٌ لكن الأخير والأفضل هو تقديم الآخرة على الدنيا، وليس العكس، إذ ورد عن ابن عباس أنّه قال: "ذكر معاده وموقفه بين يدي ربّه فصلّى له. ﱡﭐﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱠ ، فلا تفعلون ما تفلحون به... وقرأ ابن مسعود: ﱡﭐﱚ ﱛ ﱠ. ﱡﭐﱠ ﱡ ﱠ بمعنى أفضل في نفسها وأنعم وأدوم...".

أما تحقير الدنيا والزهد فيها فهو رهبنة منهيٌّ عنها إذا كانت تقليدا أعمى للذين زهدوا بدافع الحفاظ على الدين، إذ هُدِّدَ الرهبان الأوائل بين خيارين إما خيار الآخرة أو النفي في الجبال القاحلة، فآثروا النفي والزهد بالحياة وقلوبهم عاقدة على الإيمان؛ لأنهّ يمثل لهم حرية اختاروها بمحض إرادتهم كخيار صعب مبنيّ على اساس إيماني، وهذه الحرية يُثابون عليها، ولكنّ المقلدين لهم كانوا عبيدا للتقليد الأعمى، لعدم وجود تحدٍّ يسوّغ لهم الزهد في الحياة؛ لذلك يمثل التقليد عبودية عقل وعاطفة المخلوق للمخلوق لا للخالق، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ  ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﱠ.

وقد نقل الطبرسي معنيين في تفسير(الرهبانية) التي أبتدعوها فما رعوها: "أحدهما: أن يكونوا قصّروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر: –وهو الأجود- أن يكونوا حين بُعث النبي() فلم يؤمنوا به، وكانوا تاركين لطاعة الله، فما رعوا تلك الرهبانية حقّ رعايتها، ودليل ذلك قوله: ﴿ﲓﲔﲕﲖﲗﲘ﴾،يعني:الذين آمنوا بالنبي()...".

ومن آيات التعبئة النفسية الايجابية التي تتصل بالمعاد الآيات التي تصوّر حتمية الموت على كلّ كائن حيّ، ولولا المعاد لكانت الحياة ضربا من العبث، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﲫ  ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ....ﱠ

 ، وقد وردت هذه الآية الكريمة في سياق الحضّ على الشجاعة في قتال الكفار لنيل ثواب الشهادة ونبذ الجبن والخوف، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ  ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝﲞ ﲟ ﲠ ﲡ  ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩﲪﱠ

 ، قال محمد جواد مغنية: "تقاعسوا عنه حين أمروا بهِ، خوفا من الموت، لا شكّاً في دينهم وعقيدتهم... وإنْ كان الجبن هو الباعث والدافع...".

ومهما يكن من أمرٍ فإنّ الخوف من الموت والفناء حتى عند المؤمنين يمثل تعبئة نفسية سلبية، أراد الله تعالى تحويلها إلى إيجابية فوازن بين متاع الدنيا القليل ومتاع الآخرة الكثير الدائم، فيما لو تدبّر الإنسان في مصيره فإنّه لابدّ أن يرى أنه آيل إلى الموت، بمعنى "لا ينجو من الموت من خافه، ولا يُعطى البقاء من أحبّه".

ويعزز التعبئة النفسية الايجابية في الإقبال على الموت جهاداً في سبيل الله قوله: ﱡﲧ ﲨ ﲩ ﱠ ، أي: "ولا تُنقصون شيئا ممّا كُتب من آجالكم، أينما تكونوا في ملاحم الحروب أو غيرها..."، بمعنى لا القتال يقلل من أعماركم ولا اعتزال الحرب يُطيلها، ويمكن إعمام نفي الظلم فيكون "للدنيا والآخرة"، والإعمام أفخم وآكد في تعزيز التعبئة النفسية؛ لأنه يُفعِّل المنهج الفرضي في عملية الاستدلال، أي لا يُوجِدُ نقصاً ولا زيادةً في الآجال، ولو افترضنا حصول النقص القليل فثوابه كثير وعظيم لا يُقارن بالنقصان أبدا.

وتُوجد آيات تعزِّز التعبئة النفسية الايجابية للاعتقاد بالمعاد وردت بأسلوب المقارنة بين ما يُفنى حتما والخالد الأبدي، إذ يرسِّخ هذا الأسلوب صحّة الاعتقاد بالمعاد والبعث بأنّه ممكن وأنّه يحصل بقدرة الله القادر على كلّ شيء، وذلك يظهر في قوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ  ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱠوقوله تعالى: ﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ  ﱠ.

 ، يلاحظان تقديم الخبر على المبتدأ في قوله تعالى ﱡﲌ ﲍ ﱠ اشاره انه لاحكم لاحدعلى احد الا لله وحده ،وهذا التفديم يعزز التعبئة النفسية الايجابية للاعتقاد بالمعاد فهو اسلوب يعرف عند اهل اللغة بالتقديم والتأخير.  

     

لقد وردت الآية الأخيرة في سياق (المعاد) بلفظه الصريح، وذلك قوله تعالى مخاطبا رسوله محمد(): ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈﱠ، أي سيردّه إلى معاد، وهو يوم القيامة، فيسأله عمّا استرعاه من أعباء النّبوّة. وعن ابن عباس: ﱡﱆ ﱇ ﱈﱠ يعني: إلى الموت، أو يُحيك يوم القيامة، أو أنّ له لمعاد يبعثه الله  يوم القيامة ثمّ يُدخله الجنة.

والمعاد: "اسم مكان العَوْد، أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء (إلى)، والتنكير في (معاد) للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة وموقعهما بعد قوله:ﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃﱠ.، أي: إلى معاد أيَّ معاد!...".

أما (وجهه سبحانه وتعالى) في الآيتين السابقتين، فهو لفظٌ يُعبّر عن (الذات الإلهية)؛ لأنه "الأول بلا أول كان قبله، والآخِر بلا آخر يكون بعده"، فالوجه يُعبّر به عن "الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أينَ وجه عربيّ كريم ينقذني من الهوان؟ وﱡﱭ ﱮ ﱯﱠ صفة الوجه..."، وبقاء الذات الإلهية بعد موت جميع المخلوقات الحيّة يعزز قدرته على خلقها من لا شيء وبعثها ثانية، والبعث أهون وأسهل من البدء على غير سابق مثال، بحسب ما تقدّم في المبحث السابق.

أما الضمير في قوله تعالى: ﱡﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱠ فـ "مراد به الأرض، بقرينة المقام، مثل:قوله ﭐﭨﭐﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ  ﱠ 

 ، ويعني الشمس... ومعنى (فان): صائر إلى الفناء، فهذا من استعمال اسم الفاعل لزمان الاستقبال بالقرينة، مثل: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ  ﳔ ﱠ...". 

فالمعاد إذن من العقائد الأساسية التي تكتشفها ملكة التدبر القلبية في تجربتها الدينية في مجال المصير الإنساني الفاني الآيل للزوال في الحياة الدنيا، كما هو مشهود حسّيًّا في تحلل الجسد، بخلاف الروح أو النفس الجوهر البسيط الخالد، الذي لا يفنى. ولا يُنْكِرُ هذا المعنى التدبري الديني إلاّ الدهريون، وهم "فرقة من الكفار ذهبوا إلى قدَمِ الدهر واسناد الحوادث إلى الدهر، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﱡﭐ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ  ﱥ ﱦ...ﱠ... وذهبوا إلى ترك العبادات رأساً؛ لأنّها لا تفيد، وإنّما الدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو الواقع فيه. فما ثَمَّ إلاّ أرحام تدفع وأرض تبلع ... ويُسمّون بالملاحدة أيضا. فهم عبدوا الله من حيث الهواية...".

وقولهم: ﱡﱡ ﱢ ﱠ ، أي "نموتُ نحنُ ويحيا أولادنا، أو يموتُ بعضٌ ويحيا بعضٌ، أو نكون مواتا نُطفا في الأصلاب، ونحيا بعد ذلك، أو يُصيبنا الأمران: الموت والحياة. يريدون: الحياة في الدنيا والموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة...".

أما زيادة: ﱡﱣ ﱤ  ﱥ ﱦ ﱠ ، فـ"قصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المُعبَّر عنه بالدهر، فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر، فكيف يُرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيًّا؟ والدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره..."، وهذا يعني أنّ إنكار المعاد يستلزم إنكار وجود الله، أو الشرك به باعتراف وجود قوتين متعارضتين تنفي الأولى مقدرة الثانية فلا تكون القدرة الإلهية كليّة، وهو ما يستلزم إنكار العدل الإلهي، ما يجعل لعقيدة المعاد أهمية كبيرة في الحياة الروحية للإنسان.

إنّ نفي حجج الدهريين قد جاءت قويّة في القرآن الكريم، ومفحمة ومسكتة لهم، وذلك ما ورد في قوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ  ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ  ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞﱟ ﱠ ﱡ ﱢ  ﱣ ﱤ ﱥ ﱠ، والمعنى: "قل يا محمد لهم: ﱡﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱠ ، أي: اجهدوا في أن لا تُعادوا وكونوا إن استطعتم حجارة في القوة أو حديدا في الشدّة ﱡ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍ ﱠ ، أي: خلقًا هو أعظم من ذلك عندكم وأصعب، فإنّكم لا تفوتون الله تعالى وسيُحييكم بعد الموت ويُنشركم إلاّ أنّ الكلام خرج مخرج الأمر؛ لأنّه أبلغ في الإلزام...".

وقد ناظر أبو عبد الله() أحد الدهريين الذي قدِمَ من مصر إلى مكة للحج، فقال له: "يا أخا أهل مصر! إنّ الذي تذهبون اليه وتظنون أنّ الدهر كان يذهب بهم لِمَ لا يردّهم؟! وإنْ كان يردُّهم لِمَ لا يذهب بهم؟! القوم مضطرون".

وهذا يعني أنّ المعاد بوصفه قضية دينية يقينية عند  المؤمنين يمثل أهمّ العقائد الأساسية للتجربة الدينية للإنسان وأغمضها، بسبب موضوعها غير القابل للإدراك الحسيّ، فهو يخضع لمنطق الاستدلال التأويلي المسمّى بـ(المناسبة= النتيجة الجهد)، إذ "لا يكفي أن يكون عمل التواصل الإشاري الاستدلالي مناسبا للحصول على النتائج بمقدار ما تعادل هذه النتائج التي تمّ التوصل إليها الجهود المبذولة..." في إفحام الخصوم وإقامة الحجّة عليهم.

وهذا يعني أنّ التعبئة النفسية الايجابية في قضية المعاد قد نجحت في الحوار مع الدهريين، نظرا لرؤية الدهريين الساذجة التي ترى صدق الحقيقة بالمطابقة مع الواقع الحسي، متجاهلة أنّ هناك واقعا نفسيا عميقا يشدّ الإنسان إلى الميتافيزيقا في المجال الأخلاقي للبحث لا فيما هو كائن أو موجود، بل للبحث فيما ينبغي أن يكون، وهو عالم حرية الإرادة عند إمانويل كانت، وذلك قوله: "جميع بني الإنسان يتصورون أنفسهم أحراراً في إرادتهم، من هنا تأتي جميع الأحكام على الأفعال كما كان ينبغي لها أن تحدث، حتى لو لم تحدث على هذا النحو، ومع ذلك فليست هذه الحرية تصوّراً مستمداً من التجربة. ولا يمكنها أن تكون كذلك؛ لأنّ هذا التصوّر يبقى دائما على ما هو عليه، في حين أنّ التجربة تُبيّن خلاف تلك المطالب التي تتمثل في افتراض الحرّيّة على أنّها مطالب ضرورية...".

أما الجدل حول نوع المعاد أهو جسماني أم روحاني أم مشترك منهما، فهو ما يعزز التعبئة النفسية الايجابية لصحّة هذا الاعتقاد المهم في الحياة الروحية البشرية، وقد حصل ترجيح المعاد المشترك عند الإمامية، فقد سُئل الإمام الصادق() عن الميت يُبلى جسده؟ فقال: "نعم حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلاّ طينته التي خُلق منها، فإنّها لا تبلى، تبقى في القبر مستديرة حتى يُخلق منها كما خُلق أول مرة". 

وهناك معنى تأويليّ عميق يدلّ على أنّ البعث يحصل بالأجساد والأرواح، متضمّنا في تأويل بعض الآيات التي تشبّه إحياء الموتى بإحياء الأرض الهامدة لجعل الأمر ممكنا عقلا وتجربةً،ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ  ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙﱚﱛﱠ .

 ، قال الطبرسيّ(ت548هـ): "أي: ليعلموا أنّه الذي يحقّ له العبادة دون غيره، وقيل: هو الذي يستحقّ صفات التعظيم ﴿ ﱆ ﱇ ﱈ ﴾؛ لأنّ من قدر على إنشاء الخلق فإنّه يقدر على إعادته ﴿ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ﴾، فأمّا المعدومات فيقدر على إيجادها، وأما الموجودات فيقدر على إفنائها وإعادتها ويقدر على جميع الأجناس ومن كلّ جنس إلى ما لا نهاية له".

وهذا يعني إنّ الخلاف في أنواع المعاد يشير إلى صحة الاعتقاد وشموله؛ لأنّه بحث في تفصيلاته الممكنة، التي جاء الاختلاف فيها من اختلاف الموارد الفلسفية التي بحثت في أحوال النفس البشرية، أهي النفس الناطقة أم لا؟ فإذا كانت ليست هي الناطقة فالمعاد جسماني، وهو قول أكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة، والثاني: هو القول بالمعاد الروحاني فقط، لدى الفلاسفة الإلهيين، والثالث: القول بالمعاد الجسماني والروحاني معا، وهو قول كثير من المحققين من قدماء المعتزلة وجمهور متأخري الإمامية وكثير من المتصوفة، فإنّهم قالوا: الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة، وهو المكلّف والمطيع والعاصي والمُثاب والمعاقب، والنفس تجري منه مجرى الآلة، وهي باقية بعد فساد البدن، فإذا أراد الله تعالى حشر الخلائق خلق لكلّ واحد من الأرواح بدناً يتعلّق به، ويتصرّف فيه كما كان في الدنيا، وليس هذا تناسخا لكونه عوداً إلى أجزاء أصلية للبدن.

إنّ مسالة التحقق من وجود المعاد في فلسفة الدين المعاصرة، تتمثل في إزالة الشك العقلي عنها فحسب؛ لأنّ هذا الموضوع ينتمي إلى الافتراضات الممكنة التي يمكن تحققها، فهي ليست من الأمور المستحيلة، فهي إنْ كانت صادقة فالتحقق منها من لوازم صدقها، وإنْ كانت من القضايا الكاذبة فلا يمكن التحقق من كذبها، ذلك أنّ قضية المعاد فرضية تنبؤية تفترض أنّ الإنسان يخضع لتجربة واعية تشمل تجربة ذلك الموت بنفسه، وهذا تنبؤ سوف يمكن التحقق منه عن طريق الفرد نفسه فيما لو كانت القضية صادقة، أما لو كانت كاذبة فإنّ الإنسان لا يمارس حقيقة هذه التجربة، وإذا لم يمارسها أساسا فلا يخطر بباله ولا يستطيع أن يخبر الأحياء بكذب هذه القضية. 

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ  ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ  ﱔ ﱕ ﱖﱗ ﱘ ﱙ ﱚﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ  ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱠ. 

تتحدث الآيات عن قصة أصحاب الكهف قال الطباطبائي "المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث إن وعد الله بالبعث حق.

وأما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة إن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل و تعطيل شعورهم و ركود حواسهم عن أعمالها و سقوط آثار القوى البدنية كالنشو والنماء ونبات الشعر والظفر وتغير الشكل وظهور الشيب وغير ذلك وسلامة ظاهر أبدانهم وثيابهم عن الدثور والبلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، وهما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل.

و قد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث و مشرك يرى مغايرة الروح البدن و مفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث و ربما رأى التناسخ.

فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لأولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل و رفع الاستبعاد بالوقوع.

و يقوى هذا الحدس منهم و يشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم و اجتماعهم عليهم و استخبارهم عن قصتهم و إخبارهم بها ".

وقال الشيرزي "حيث أنَّ هذا النوم الطويل الذي استمرَّ لمئات السنين كان يشبه الموت، وأن إِيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول: إِنَّ هذه الإِنامة والإِيقاظ هي أكثر إِثارة للعجب مِن الموت والحياة في بعض جوانبها، فمن جهة قد مرَّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفنَ أو تتأثَّر، وقد بقوا طوال هذه المدَّة بدون طعام أو شراب، إِذن كيف بقوا أحياءً طيلةَ هذه المدَّة؟

اليسَ هذا دليلا قاطعاً على قدرة الله على كل شيء، فالحياة بعد الموت، بعد مُشاهدة هذه القضية ممكنة حتما "ً. .

وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة التعبئة النفسية الإيجابية في قضية المعاد من خلال هذه القصة تبرهن وتثبت قضية المعاد، وبما أنّ الدين كان متوافرا على جميع الأدلة العقلية والمنطقية والأخلاقية على صدقها فإنّ قضية التعبئة النفسية في قضية المعاد تقف معها أدلتها التي تأخذ بها نحو الإيجاب الذي لا ريبَ فيه، بعيداً عن كلّ تسويغات السلب ووسوسته وشكوكه.

اما في قصة عزيز ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ  ﲙ ﲚﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ  ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ  ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸﲹ ﲺ ﲻ  ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ  ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈﳉ ﳊ  ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ  ﱠ.

"الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النخرة. وإذ رأى هذا المشهد المروع قال : كيف يقدر الله على إحياء هؤلاء الأموات ؟

لم يكن تسأوله بالطبع من باب الشكّ والإنكار، بل كان من باب التعجّب، إذ أنّ القرائن الأُخرى في الآية تدلّ على أنّه كان أحد الأنبياء، وقد تحدّث إليه الله، عند ذلك أماته الله مدة مائة سنة، ثمّ أحياه مرّة اُخرى وسأله : كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء ؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سويعات : يوماً أو أقل، فخاطبه الله بقوله : بل بقيت هنا مائة سنة، أنظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدّة لم يصبه أي تغيّر بإذن الله. ولكن لكي تؤمن بأنك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شيء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثمّ انظر كيف إنّنا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اُخرى. فعندما رأى كلّ هذه الأُمور أمامه قال : ﱡﭐﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔﱠ ، أي : إنني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسّمة أمامي".

      قال الطباطبائي  "أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات و هو أن يفقد الموجود الحي الحس و الشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياما أو شهورا أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف و رقودهم ثلاثمائة و تسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة".

وهذه الادلة  تولد تعبئة نفسية وتهيئة للايمان بقضية المعاد اليوم الاخر ليكون الانسان مستعد للمحاسبة من خلال النظر في اعماله في الدنيا.













الفصل الثاني

أساليب التعبئة النفسية في آيات جهاد النفس

بالمعرفة النفسية والآفاقية

المبحث الأول: مفهوم جهاد النفس وأهميته ومنهجيته الإعجازية.

المبحث الثاني: أساليب التعبئة النفسية في الآيات الانفسية.

أولا النفس المطمئنة.

ثانيا: النفس اللوامة.

ثالثا: النفس الأمارة بالسوء.

المبحث الثالث: أساليب التعبئة النفسية في الآيات الآفاقية .

أولا: أساليب التعبئة النفسية في آيات انعكاس عظمة المخلوق على الخالق.

ثانيا: أساليب التعبئة النفسية في آيات التفكير بالمصير من الآثار.

ثالثا: أساليب التعبئة النفسية في آيات تعقّل الخوارق.





توطئة: في مفهوم جهاد النفس                                                         

 سنقسِّم هذا الفصل على مباحث تتفق مع الأساليب التي اتبعها القرآن الكريم التي تصّب في موضوع جهاد النفس، على ثلاثة مباحث ندرس في أولها مفهوم جهاد النفس وأهميته ومنهجيته الإعجازية، أما المبحثان الآخران فسندرس في أولهما: أساليب التعبئة النفسية في الآيات الانفسية، وندرس في ثانيهما: أساليب التعبئة النفسية في الآيات  الآفاقية؛ لأنّ موضوع التعبئة النفسية يحتاج إلى معرفة الموضوع المدروس أولا، ثمّ يليها موضوع كيفية تغيير سلوك هذا الموضوع، على وفق قاعدة إنّنا إذا عرفنا العالَم نعرف كيف نغيّره، من دون أن ننسى الغاية من البحث في هذا المجال القرآني الحيوي وهو المتفق عليه عند جميع العقلاء وهو بلوغ السعادة التي تتحقق ببلوغ كمال المعرفة النفسانية، فتكون السعادة تامّة بتمام ذلك الكمال، وناقصة بمقدار ما يلحق الكمال من نقص.

ويُعنى العلم الذي يتولّى دراسة النفس بسلوك الإنسان من حيث كونه عملية نفسانية ويتكفّل بمعرفة مصادر العمليات النفسية ومحاولة التحكّم بها، أي ضبطها وتعديلها، وفي ضوء هاتين المهمتين يقدّم الإسلام رؤيته مقابل الرؤية البشرية، إذ تفترق الرؤية الإسلامية بالنظر إلى الإنسان بوصفه كائنا أبدع نفسه الخالق وأناط بها مهمّة عبادة الله وخلافته على الأرض،ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﱣ  ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱠ

 ، و ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱠ. 

إنّ المراحل التي واجهت الإنسان في حلّ مشكلاته النفسية وأهمها تجربته الدينية تضمّنت أساليب وعمليات إدراكية مختلفة، مازالت تعمل مجتمعة حتى الوقت الحاضر، فالخبرة الذاتية وكفايتها والاستنباط والاستقراء لها فوائدها في حلّ تلك المشكلات في حدود معينة، وقد يستعمل الإنسان أسلوب التأمل أو الاستبطان أو الحجاج في تفسير وتوضيح النتائج التي تظهرها تجربة ما، فضلا عن الإفادة من أحكام القيمة التي تفسِّر الحقائق العملية أو التطبيقية التي تحتاج إلى مجموعة من القيم والمعايير ليقيّم على أساسها الحقائق التي يُسفر عنها البحث ويُصدر حكمه عن مدى فائدتها العلمية.

إنّ أولوية المعرفة بوصفها تعبئة نفسية إيجابية تتضح في قوله تعالى:ﱡﭐ  ﲽ  ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ....ﱠ 

 ، توضّح الآية الكريمة أنّ المعرفة على نوعين أولاهما: معرفة الإنسان بنفسه، وثانيتهما معرفته بغيره، ومن يمتلك هاتين المعرفتين يتنوّر عقله وتُرهف حواسه التجريبية بتوسِّع علمه، ثم يتحصّن قلبه من ضلالة الجهل بتدبر آيات الله تعالى في المواقف العملية، قال صاحب مجمع السلوك: "أوحى الله تعالى لداود () يا داود: أتدري ما معرفتي؟ قال: لا، قال: حياة القلب في مشاهدتي".

إذن هناك نوعان من المعرفة يهديان القلب إلى أن يجاهد نفسه ويمنعها من الانحراف باتجاه النزوع نحو الأهواء من دون منطق تدبري سليم. على هذا الأساس سيكون تقسيم هذا الفصل على المباحث المفصلة سابقا.

 

المبحث الأول                                                 

مفهوم جهاد النفس وأهميته ومنهجيته الإعجازية

عندما نتكلّم عن (جهاد النفس) فإنّنا نتكلم عن تركيب نحوي يتكوّن من مضاف (جهاد) ومضاف إليه (النفس)، والإضافة –هنا- إضافة محضة، وتعني أنّها تُخصِّص المضاف إذا كان المضاف اليه نكرة، نحو قولنا: (كتاب تاريخٍ)، أو تعرّف المضاف إذا كان المضاف إليه معرفة، كقولنا: (كتابُ زيدٍ).

والسؤال هل المضاف اليه (النفس) معرفة؟، الجواب إنّ النفس بوصفها موضوعا مجرداً من المادة غير معروفة بالتعريف الحدّي الجامع المانع، كما تُعرّف الموضوعات الحسية نحو موضوعات علم الحيوان والنبات وموضوعات الهندسة التي تقع تحت طائلة الحواس، وهذا يتطلّب أن نقارب معرفة النفس بنتائجها عن طريق ردود أفعالها، أمّا النفس في ذاتها فتعدّ (آية)، أي علامة طبيعية كونية عجيبة، يكمن وراءها خالق ومدبّر عظيم، يرى حتى خلق الظواهر الحسية آيات عجيبة، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱹ ﱺ  ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ  ﲂ ﲃ ﲄ ﱠ.

 ، فكيف بخلق النفس التي هي أعظم وألطف وأدّق من الخلق المادي؛ لأنّها مخلوق غير مادي؛ حتى عظّمها الله تعالى بأنْ أقسم بها قبل قَسَمِهِ بنفسه عزّ وجلّ، وذلك قوله تعالى:ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ  ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱠ .

تشير هذه الآيات الكريمات إلى عظمة خلق النفس التي تميّز بين أعمال الخير وأعمال الشر وتميل إلى تفضيل الأعمال الأولى إذا أرادت أن تقوّم الأعمال من منظور أخلاقي، على الرغم من ميلها الطبيعي إلى الأعمال من النوع الثاني، وذلك يُفهم من معنى التسوية بمعنى تعديل خلق النفس بالعقل الذي يتميّز به الإنسان من "سائر الحيوان، ثمّ قالوا: يُريد جميع ما خلق من الجنّ والإنس عن عطاء، وقيل: يُريد بالنفس آدم، ومِنْ سَوّاها: الله تعالى، وفي قوله تعالى: ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱠ ، أي: عرّفها طريق الفجور والتقوى وزهّدها في الفجور، ورغبّها في التقوى..."، بمعنى إنّ الله تعالى أنشأ النفس "وأبدعها مستعدةً لكمالها، وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة والباطنة. والتنكير للتكثير، وقيل للتعظيم...".

ومن هذا المنطلق سيكون البحث في هذا الموضوع (جهاد النفس) بمنهجية المعجزات التي تُعرّف بأنّها "خرق أو امتداد للنظام الطبيعي، أو بعبارات دينية بقولنا: إنّها حدث غير اعتيادي ومذهل يستحضر فينا الإدراك بوجود الله؛ لأنّ المبدأ الذي يقول إنّه لا شيء يحصل بخلاف القانون الطبيعي لا يعني عدم وجود أحداث غير عادية ومذهلة تستحضر الإدراك بوجود الله، فالقوانين الطبيعية تشمل على تعميمات قانونية مصوغة بحيث تغطّي أيَّ شيء حصل سابقا بالفعل، وعندما تحصل أحداث غير مغطاة بالتعميمات المقبولة إلى حدّ ما، فإنّ الردّ العلمي المناسب لا يكون بنفي حصولها، بل بالسعي لمراجعة وتوسيع الفهم الحالي للطبيعة بهدف استيعابها... بسبب محدودية المعرفة الإنسانية الحالية.

قال الامام علي()"(من عرف نفسه عرف ربّه)" . ويمكن أنْ نُبيّن الفرق بين الاعتقاد والمعرفة بوساطة الاستدلال المنطقي، فالاعتقاد يمكن أن يُستنبط من المعرفة .، بانتقال من المعروف إلى المجهول، أما العكس فليس صحيحا، وهذا يعني إنّ اعتقادنا بتغطية المعارف النفسية في الآيات الكريمة السابقة لجميع مراحل النفس بما نشعر بصحة استبطانه، أو بما نتصوره ونعتقد بصحة وجوده قبل الدنيا أي في عالم الذر، ومرحلة الحياة الدنيا ومرحلة ما بعد الموت والنشور، كنشاط للنفس البشرية العجيبة مفيد في نتائجه التي تعمل على تعبئة النفس تعبئة ايجابية، بحسب الإيمان الديني بأنّ الله تعالى خلق هذا النظام بنيّة أن يعيش فيه البشر بوصفهم كائنات حرّة ومسؤولة في علاقتها بالله، وكلّ ما يمكن أنْ يقال عن موقف المعرفة العلمية من هذا الاعتقاد الديني إنّه لا يندرج في أيِّ مجال من مجالات العلوم التجريبية التي لا تستطيع تأكيده أو نفيه.

وتُعرف منهجية هذا التواصل بالتأويل عن طريق (نسبة الأفكار إلى الآخرين) حتى لو كان الآخر جمادا، وهو نشاط قلبي يؤول الجمل إلى إدراك المقاصد التي يريد المتكلم التعبير عنها نحو الحديث عن "مُثبّتات الحرارة، وموازين الحرارة وغيرها، فنقول: ميزان الحرارة يقول إنّ الطفل يشكو من الحمى، ويرفض مثبّت الحراة، أو يقبل أن يتجاوز الحرارة درجة معينة...الخ".

أما المعنى اللغوي للجهاد فهو مشتق من مادة (جهد) وأصله: "المشقّة، ثمّ حُمل عليه ما يقاربه، يُقال: جهدتُ نفسي، وأجهدتُها، والجُهدُ: الطاقة... وممّا يقارب الباب الجهاد، وهي الأرض الصلبة...".

والجهاد في الاصطلاح الشرعي العام هو "الدعاء إلى الدين الحق"، وفي الدفاع عن الدين ضدّ أعدائه؛ لذلك يُعرّف الجهاد والمجاهدة بأنّها: "استفراغ الوسع في مدافعة العدو. والجهاد ثلاثة أضرب:

1- مجاهدة العدو الظاهر.

2- مجاهدة الشيطان.

3- مجاهدة النفس".

وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ....ﱠ.

 ، قال الطبرسي(ت548هـ): "أكثر المفسرين حملوا الجهاد –هاهنا- على جميع أعمال الطاعة، وقالوا: حق الجهاد أنْ يكون بنيّة خالصة لله تعالى...".

والذي يهمنا ّ-هنا- النوع الأخير من الجهاد، وهو مجاهدة النفس الذي يتضح في قول الرسول(): "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عزّ وجلّ".

ويمكن تعريف جهاد النفس بمعرفة الضدّ، لذلك يُعرّف بأنّه حمل النفس على غير هواها؛ لأنّ الهوى شبيه الشرك بالله، قال ابن عباس: "الهوى إله معبود، وتلا قوله تعالى:ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ.... ﱠ  "...، أي: "تركه عن الهداية واللطف وخذله على علم، عالماً بأنّ ذلك لا يجدي عليه، وأنّه من لا لطفَ له. أو ومع علمه بوجود الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة فمن يهديه بعد إضلال الله له؟...".

والمهمّ هو أنّ الهوى يمثل التعبئة النفسية السلبية، ومقاومة هذه التعبئة يعدّ إنجازاً في مجال التعبئة النفسية الايجابية، وذلك عن طريق تفضيل النفس لسيطرة المنطق والعقل والنظام الأخلاقي الممّيز للإنسان من الحيوان الذي يتّبع هواه اتباعا غريزيا تحكمه الشهوات بقوة دافعة عمياء غير مستنيرة بنور العقل، بخلاف الإنسان العاقل الذي يشع نور عقله عن طريق المعرفية بنوعيها: المعرفة بالنفس والمعرفة بالعالم المحيط بها، عن طريق فهم النصوص القرآنية التي تسمّى باللسانيات الحديثة بـ(النصوص المعرفية) التي تركز في فكرة القراءة التي تتعمّق في الكشف عن الحقائق المخبّأة في تلك النصوص ، وتدبرها تدبرا إبداعيا في الحوار الذي ينشأ بين منشئ النص والنص والقاريء والسياق لبناء عالم النصّ Text world الثقافي المخالف للعالم المادي باعتماد مبادئ السلوك اللغوي والتأويل انطلاقا من زاوية المبادئ العامة للمعرفة مع عناية خاصة بالتلقي وكيفية اشتغال الدماغ.

إنّ جهاد النفس أشمل من جهاد العدو ومن جهاد الشيطان؛ لأنّه يشمل جميع أفعال النفس وجميع التكاليف المتّصلة بهذه الأفعال الخفيّة المغزى التي تعتمل في الصدور على شكل صراع يشبه الصراع الأبدي بين قوى الخير وقوى الشر، أمّا جهاد العدو وجهاد الشيطان فإنّهما تكليفان من التكاليف الشرعية، فالعدو ظاهر مدرك بالحواس ومستقل عنّا، وكذلك الشيطان معروف بوسواسه، بخلاف جهاد النفس الخفيّ الذي لم ينتصر فيه إلاّ عباد الله المخلصين؛ لذلك قال فيه أمير المؤمنين() إنهّ: "مهر الجنة... فمن جاهدها ملكها، وهي أكرم ثواب الله لمن عرفها، لا عدوّ أعدى على المرء من نفسه، ولا عاجز أعجز ممّن أهمل نفسه فأهلكها".

وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبدالله ()أن النبي( )بعث بسرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الاصغر وبقي الجهاد الاكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الاكبر؟ قال: جهاد النفس".

وخلاصة القول إنّ جهاد النفس يعدّ أصعب من جهاد العدو وأصعب من جهاد الشيطان؛ لأنّ جهاد النفس يمثل إلزاما بحمل النفس على الدعاء إلى الدين الحقّ بنيّة خالصة لله تعالى مطيعاً أوامره ومنتهياً عن نواهيه التي تمثل الوجه السلبي للطاعة، الذي تكمن تعبئته النفسية الايجابية بحمل النفس على غير هواها، ذلك أنّ الهوى شرك بالله، بحسب ما تقدّم.

 

المبحث الثاني                                                 

أساليب التعبئة النفسية في الآيات الانفسية

يمثل تقسيم النفس على أساس ديني أفضل المعارف التي تنوّر العقل، ذلك أنّ العقل عندما ينتقل من النظر في التصورات المنفصلة عن الواقع إلى البحث في الأشياء الواقعية يُصنّف تلك الأشياء على فئات ثمّ يرتُّبها بنسق ابتداء من أفضلها إلى ما هو أدنى على الاطلاق، أو بالعكس ،وقد رتّب الإمام علي () المعرفة بالنفس وجعلها أفضل من المعرفة بالعالم المحيط بها، قال: "المعرفة بالنفس أفضل المعرفتين".

وبناءً على صحّة هذا الترتيب فإنّ معرفة العالم المحيط بنا حتى لو أوصلت صاحبها إلى معرفة الحقّ فإنّ طريقها طويل ومعقّد؛ لأنّه يخوض في جزئيات كثيرة تتولّى دراستها علوم مختلفة بحاجة إلى عدد كبير من التخصصات الدقيقة، بخلاف معرفة النفس فإنّها "وإنْ كانت –على رأي بعضهم- معرفة للآثار أيضا، إلاّ أنّ معرفة الحق تلازمها أو تنتهي اليها، فضلا عن أنّها كثيراً ما تستغني عن المعرفة بالعالم، إذ روي أنّه دخل على رسول الله () رجل فقال: "يا رسول الله () كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال (): معرفة النفس".

وعلى هذا الأساس يكون معرفة النفس من منظور خالقها من أهم المعارف، ولاسيما بعد تقسيمها إلى فئات ثلاث وترتيبها، حتى يستضئ العقل بنور هذه المعرفة فننفر من النوع السيء ونحاول أن نكون إما طبيعيين في سلوكنا وإما نطمح في الوصول إلى جعل نفوسنا من النوع السامي، أو نؤنب أنفسنا على ما فرّطنا به ونتوجّه إلى التوبة وإصلاح النفس، وكلّ هذه العوامل تصبّ في تعبئة النفس باتجاه إيجابي، وذلك عندما نحصل على التقسيم الآتي:

أولا: النفس المطمئنة:

النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبدا لا يملك لنفسه شيئا من خير أو شر أو نفع أو ضر و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع و ضر ابتلاء و امتحانا إلهيا فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد والعلو والاستكبار، ولا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط. قال تعالى:ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ  ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ  ﱠ. 

فالنفس المطمئنة هي التي "لا يستفزّها خوفٌ ولا حزنٌ، وهي النفس المؤمنة، أو المطمئنة إلى الحقّ، التي سكنها ثلج اليقين، فلا يخالجها شكّ، ويشهد للتفسير الأول قراءة أُبي بن كعب: ﱜ ﱝ ﱞ...".

وقيل إنّ النفس المطمئنة هي "العارفة التي لا تصبر طرفة عين عن ذكر الله تعالى، وبيانه: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳖ ﳗ ﳘ  ﳙ ﳚ ﳛﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ  ﱠ ، وقيل: المطمئنة بالإيمان المصدِّقة بالبعث والثواب، وقال أبو زيد: المطمئنة لأنّها بُشِّرت بالجنّة عند الموت، وعند البعث ويوم الجمع...".

والملحوظ هنا أنّنا نميل إلى أن تكون نفوسنا مطمئنة عامرة بذكر الله تعالى، عن طريق الإيمان بوحدانية الله تعالى وعدله في جزائه على الأعمال الخيرة التي فعلناها، وهذا الميل يمثل التعبئة النفسية الايجابية لنيل الثواب الأخروي والسعادة الأبدية الخالدة في الجنّة.

وخلاصة القول إنّ صفة اطمئنان النفس التي تأتي من تعبئتها تعبئة إيجابية لا تتحقق بالإيمان الصوري المتحقق بالألفاظ؛ لأنّ الإيمان يظهر إلى الوجود بالقول والفعل بحسب تعريفه المنطقي الجامع له بأنّه "التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان"، فالإيمان بهذا المعنى يمثل التعبئة النفسية الإيجابية المثلى، التي يكون من نتائجه اطمئنان القلب بحبّ الحقيقة الإلهية، وقد وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﭐﭨﭐﱡﭐ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ  ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ  ﱧ ﱨ ﱠ ، اي: الذين يحبون الله تعالى ويرضون به ربّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمد() نبيّاً ورسول، وبالقضاء والقدر، ويعتقدون بصحة الغيب والبعث والعدل الإلهي، ويعمل هذا الإيمان بشُعبِهِ الكثيرة على تعبئة النفس المطمئنة تعبئة ايجابية، إذ "تتنوّر النفس بنور القلب [العقل العملي] حتى تنخلع عن صفاتها الذميمة، وتتخلّق بالأخلاق الحميدة".

وتظهر التعبئة النفسية الايجابية لهذه الفئة من النفوس التي تظهر بوضوح أكثر في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ  ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ  ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱠ ، والمعنى: "يُثبّتهم في كرامة وثواب بالقول الثابت الذي وُجِدَ منهم، وهو كلمة الإيمان؛ لأنّه ثابت بالحجج والأدلة. وقيل معناه: يُثبّت الله المؤمنين بسبب كلمة التوحيد وحُرمتها في الحياة الدنيا حتى لا يزلّوا ولا يضلّوا عن طريق الحق، ويُثبّتهم بها حتى لا يزلّوا ولا يضلّوا عن طريق الجنّة، وقيل معناه: يُثبّتهم بالتمكين في الأرض والنصرة والفتح في الدنيا وبإسكانهم الجنة في الآخرة...".

والأقوال السابقة يُكمل بعضها بعضا، فهي ليست متناقضة، وقد رويت روايات عن أنّ سبب نزول هذه الآية الكريمة محدد في مرحلة مفصلية من حياة الإنسان، وهي عند انتهاء آخر يوم له في الدنيا واستقباله لأول يوم له في الحياة الأخرى، وذلك ما رواه ابن كثير(ت774هـ) في تفسيره عن البراء بن عازب قال: "خرجنا مع رسول الله() في جنازة رجل من الأنصار... ثمّ قال: إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأنّ وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنّة حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثمّ يجيء ملك الموت () حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من اهم السقاء فيأخذها فإذا أخدها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض...".

نلحظ كيف كمّلت السنة النبوية التعبئة النفسية الايجابية لآيات القرآن الكريم، بقلب صورة الموت الكريهة للنفس الإنسانية بما يرافقها من تصوّر للتفسخ الملحوظ تجريبا، فضلا عن التصورات المهولة المنفِّرة للنفس، إلى صورة من أروع الصور التي تُحبب للنفس المؤمنة أن تثبّت نفسها على الإيمان بالله تعالى، ويتمنّاها غير المؤمن مادامت تحوّلت إلى ثقافة، فيستمر المؤمن على العمل الصالح مهما كان شاقّاً أو متعارضا مع أهواء النفس البشرية الأكثر انتشارا بالقياس إلى نسبة هذه الفئة من النفوس.

لقد اشار جون هيك *Heck صاحب كتاب (فلسفة الدين) إلى ظهور تجارب عودة بعض الأموات للحياة لأناس ماتوا بين بضع ثواني وأكثر من عشرين دقيقة بأنّهم شعروا بالمرور "عبر نفق مظلم شبيه بالنفق، ثمّ دخلوا إلى عالم من النور والجمال، والتقوا بالأقارب والأصدقاء الذين ماتوا، ولقيهم كائن من نور على خلق عظيم أو روحية مؤثرة... وقد تغيّر موقفهم تجاه الموت بشكل مميّز، والآن يفكرون في موتهم المستقبلي من دون خوف أو حتى بتوقعات إيجابية".

ثانيا: النفس اللوّامة: 

المراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانية أعم من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة أما الكافرة فإنها تلومه على كفره و فجوره، و أما المؤمنة فإنها تلومه على قلة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

وهي التي "تنوّرت بنور القلب قدر ما تنبّهت به عن بيّنة الغفلة، كلّما صدرت عنها سيئة، بحكم جبلّتها الظلمائية، أخذت تلوم نفسها وتتوب عنه"، بمعنى إنّها التي تتعبّأ بالمعرفة العملية عن طريق تجارب الصح والخطأ،

 ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ .

قال الزمخشري: "إنّ المؤمن لا تراه إلاّ لائماً نفسه، وإنّ الكافر يمضي قُدُما لا يعاتب نفسه، وقيل: هي التي تتلوّم يومئذٍ على ترك الازدياد، إنْ كانت مُحسنة، وعلى ترك التفريط إنْ كانت مسيئة، وقيل هي: نفس (آدم) لم تزل تتلوّم على فعلها الذي خرجت به من الجنّة...".

وقد جاءت عبارة (النفس اللوامة) في سياق القَسَمِ المنفي بـ(لا) المؤكِّدة تعظيماً لهذه النفس، واللوامة صيغة مبالغة من اسم الفاعل (اللائمة)، وهو "صفة مدح، وعلى هذا يجئ القَسَمُ بها سائغا حسناً... وقيل: اللوامة بمعنى: الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا، فهي صفة ذمّ، وهو قول من نفى أن يكون قَسَماً، إذ ليس للعاصي خَطَرٌ يُقسم به، فهي كثيرة اللوم...، وقال الفراء: ليس من نفسٍ مُحسنة أو مُسيئة إلاّ وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أنْ لو كان ازداد إحساناً، والمسيء يلوم نفسه أنْ لا يكون ارعوى عن إساءته...".

الذي يرجّحه البحث هو رأي الفراء؛ لأنّه يمثل طبيعة النفس البشرية، ذلك المخلوق العجيب الذي دائما تنبثق منه طاقة تعبوية تقوّم الأفعال الماضية، فإذا كانت خيرة لامت النفس نفسها على عدم الاستزادة من الخير، وإذا كان شرّا أو أدّى إلى نتائج يُذمّ عليها الإنسان لامت النفس نفسها على عدم ترك الأعمال الشريرة، أو على الأقلّ التقليل من ارتكاب الأخطاء اعتمادا على الميل الوجداني الفطري نحو الخير وتفضيله على الشرّ بسبب نتائجه الكارثية على الفرد والمجتمع، واعتمادا على معرفة الأسباب الموجبة لتكرار الأعمال الشريرة، التي تفيد في تجنب تكرارها وعدم استغلال الفرص المؤدية إلى الإصلاح، وهو ما يحوّل التعبئة النفسية السلبية إلى إيجابية.

والملاحظ إنّ النفس اللوامة تمثل أكثر النفوس انتشارا في الواقع، لأنّها تعتمد المعايير الأساسية للحوار المبنيّ على المنفعة بوصفها فرضية عملية تطوّر الكفاية الاتصالية بين النفس وأفعالها على أساس نقدي، وهذا الافتراض العملي يهدف إلى إنتاج نوع من الصلات الاجتماعية التي يصبح بمقتضاها موقف الحوار المثالي حقيقة واقعة لا مجرد مسلّمة، وتحصل الحقيقة كتعبئة في النفس اللوامة في قلق الشكّ في المعاد؛ لذلك جاء جواب القَسَمِ في آيتي سورة القيامة موجّهاً بوصفه حجّة تقدّم حقيقة الشكّ في أكثر النفوس البشرية بالبعث، مشفوعاً ببرهان صحة معجزة البعث، لأنّها منسوبة عقليا إلى أفعال الله تعالى القادر على كلّ شيء، ويشهد على ذلك تجريبيا الإعجاز العلمي لجواب القسم: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﲄ  ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﱠ ، وهو "أنّ البنان تحتوي على البصمات التي في غاية الدقة، إذ لا يتشابه اثنان في خريطة البصمات، فأقسَمَ الله تعالى بالقيامة أنّه قادر على أن يردّ هذا البنان يوم القيامة كما كانت وبالخريطة نفسها والدقة، وذلك في معرض الردّ على المشركين الذين ينكرون المعاد...".

أما المفسرون القدامى، فإنّهم ذكروا أنّ البنان التي تحتوي على العظام الصغيرة والأظافر إذا كان الله سيُعيدها كما كانت، ويؤلِّف بينها حتى تستوي، فمن باب أولى أنْ يعيد ما هو أكبر منها، قال بعض المفسرين والهمزة "للاستفهام الإنكاري"، ومعناه "الإنكار على منكري البعث، ومعناه: أيحسبُ الكافر بالبعث والنشور؟ يعني جنس الكفار. ﴿أنْ لن يجمعَ عظامَه﴾: أنّه لن نُعيده إلى ما كان أولاً، خَلقاً جديداً بعد أن صار رُفاتاً، فكنّى بجمع العظام، ثمّ قال سبحانه: (بلى) فجمعها... على ما كانت وإنْ قلّت عظامه وصغرت فنردّها كما كانت ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان، ومن قدر على جمع صغارها فهو قادر على أن يُعيد ما هو أكبر...".

نلحظ تطابق الفلسفة العملية أو الحكمة في تعبئة النفس تعبئة إيجابية، مع الفلسفة الحديثة للغة، التي تؤكّد إمكانية المعرفة عن طريق استبدال مفهوم (الحجّة) في مواضع مهمة بمفهوم (المعرفة)، وذلك ما يولِّد انطباعا بأنّ المحاجّة هي الخلف الحديث للمعرفة، تجاوبا مع تقدّم فلسفة اللغة، ففي سياق "اتصال المجتمع، تُعرض المعرفة على هيأة محاجّة... والحجج هي وحدها التي تفي بالطلب من أجل إعطاء سبب، منذ أنْ اخترع سقراط الحوار الفلسفي بوصفه وسيلة مشتركة بين الذوات لبلوغ المعرفة، ومن ثَمّ تُستخدم الحجج عندما يكون التسويغ العقلاني مطلوبا، لا الدليل القاطع...".

وهذا يعني إنّ منطق المعنى اللغوي في المحاججة لا يُحكم بمعيار العقل المجرد الثنائي القيمة الصارم: (إما حق أو باطل) ولا ثالث بينهما، وإنّما هو منطق الحق والباطل من هذه الزاوية أو تلك، بمعنى أنّ النفس البشرية التي تؤمن بالبعث تكون أكثر نشاطاً في تعبئة نفسها تعبئة ايجابية، لكي تتخلّق بأخلاق الضمير وتنظر في عواقب الأمور وغاياتها الاصلاحية البعيدة المثمرة على صعيد الفرد والمجتمع، فتؤمن بأنّ النفس مخلوق حرّ ولكنّه مزوّد بتمييز الخير من الشرّ، لذلك تشعر بمسؤولياتها وأهمية دورها في إعمار الأرض.

وهذا يعني إنّ الدراسات العلمية يجب أن لا تنفصل عن الدراسات الإنسانية، لأنّ أحدهما يكمّل الآخر، فالتقدّم العلمي وحده لا يخلق حضارة راقية، ما لم تستند إلى أساس أخلاقي أو ديني، أو رؤية إنسانية شاملة تجعل من الإنسان وحريته وكرامته من القيم العليا التي لا يجب التفريط بها تحت أي ذريعة كانت.

ثالثا: النفس الأمّارة بالسوء: 

وهي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب وتجرّه إلى كلّ جانب، ولذا سمّوها «أمّارة» وفي هذه المرحلة لا يكون العقل والإيمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الأمّارة، وإذا تصارعت النفس الأمّارة مع العقل في هذه المرحلة فإنّها ستهزمه وتطرحه أرضاً.

وهي التي "تميل إلى الطبيعة ، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة"، قال تعالى على لسان نبيّه يوسف(): ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱠ ، قال الآلوسي(ت1270هـ): "إنّ النفس البشرية التي من جملتها نفسي في حدّ ذاتها لأمّارة، أي الكثيرة الأمر بالسوء، أي بجنسه. والمراد أنّها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعمِلة في تحصيلها القوى والآلات... وهو إنْ صحّ يحمل الهمّ فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد...".

إنّ هذا النوع من النفوس المعبّأ تعبئة نفسية سلبية يميل إلى الشهوات والأهواء والبدع، وقد وضع الله تعالى أفضل الطرق لتعبئة هذه النفس تعبئة إيجابية، تناط بما توصل اليه من الحقائق التي تُوصل إلى أفضل الغايات، وهي كمال سعادة السالك، باكتشاف محفِّزات تلك المعرفة المأمونة من الخطأ والمضمونة الوصول إلى الهدف الأسمى، وذلك عن طريق معرفة أنّ (أل) في كلمة (النفس) بأنّها جنسية بمعنى (كلّ)، فكأنّه قال: "كلّ نفسٍ أمارة بالسوء، إلاّ النفس التي رحمها ربّي، فلا تأمر بالسوء، فيكون استثناءً من الضمير المستكن في أمّارة، ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف، إذ التقدير: لأمارة بالسوء صاحبها إلاّ الذي رحمه ربّي، فلا تأمره بالسوء...[أو] لأمارة بالسوء مدّة بقائها إلاّ وقت رحمة الله العبد، وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي...". 

وقد قدّر البحث نسبة النفس اللوامة بأنّها تمثل أكثرية النفس البشرية، وهذا يتعارض مع القول بأكثرية النفس الأمارة بالسوء، ولحلّ هذا الإشكال أو التناقض، يمكّن أن يُقال: إنّ النفس الأمارة بالسوء تمثل مرحلة من مراحل النضج الجنسي، وتقلّ هذه النسبة عندما تزداد تجارب الخطأ والصواب وتضعف الغرائز بالكبر أو بكثر العقوبات التي تفرض على النفوس الأمارة بالسوء؛ لأنّها منبوذة اجتماعيا ودينيا، ما يحمل الإنسان على التفكير بمصيره ويتدبر عواقب الأمور، فتصبح نفسه لوامة فيما بعد تعبئ نفسها بنفسها باللوم، أما في مرحلة المراهقة فإنّ النفس البشرية تعبئ نفسها سلبيا باتجاه الميل إلى إشباع الغرائز والشهوات، ولكنّ الله تعالى أعطانا مفتاحا يحوّل التعبئة النفسية السلبية في هذه المرحلة إلى ايجابية عن طريق الرحمة والغفران: فكلّ نفسٍ تبدأ أمارة وتنتهي لوامة، ولا مشكلة بين الله وعبده، إذ يظهر مفتاح الحل بتذييل الآية السابقة ﴿ ﱊ ﱋ ﱌ  ﱍﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﴾، أي" عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك، والإظهار في مقام الإضمار مع التعرّض لعنوان الربوبية لتربية مبادئ المغفرة والرحمة...".

لقد صوّر الذين يجهلون شروط التعبئة النفسية الايجابية أنّ الله تعالى شديد العقاب غاضب جبار ذو انتقام، بتقديم الترهيب على الترغيب، بخلاف أسلوب التعبئة النفسية الإلهية الصحيحة التي تنجح في إصلاح النفس عن طريق تقديم الترغيب على الترهيب، وتبيان سعة الرحمة والغفران مهما أسرف العبد في المعصيات، وذلك قوله تعالى: ﱡﭐ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩﱪ ﱫ ﱬﱭ  ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ  ﱷ ﱸ ﱹﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ  ﲁ ﱠ ، قال الطبرسي في تفسير ﱡ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱲ ﱠ: "اي: أوجب على نفسه الإنعام على خلقه، وقيل معناه: أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه، وقيل: أوجب على نفسه الرحمة بإنظاره عباده وإمهالهم إيّاهم، ليتداركوا ما فرّطوا فيه ويتوبوا عن معاصيهم...".

نلحظ محفّزات التعبئة النفسية الايجابية أنّها متشعبة ومحيطة بما ترغب فيه النفس البشرية، لأنّ كلّ الأقوال السابقة يُكمل بعضها بعضا، فهي ليست متناقضة كما يأتي:

1- الإنعام على خلقه كافرهم ومؤمنهم في الدنيا بتسوية خَلقهم بأحسن تقويم من كمال البنية الجسمانية والعقلية بنسب متساوية ابتداءً من الفطرة على التوحيد، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲝ  ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲧﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﱠ .

2- الإنعام على المطيعين بثواب الجنة، تحفيزا على الإكثار من الطاعة.

3- عدم إنزال العقوبات الفورية على كلّ خطأ فور وقوعه على الرغم من علم الله تعالى بتفصيلاته وعدم إمكان إخفائه، وذلك يُعطي للإنسان فرصة للتوبة فضلا عن المحافظة على كرامة الإنسان التي تكمن في حرية الاختيار من دون إكراه على عمل الخير أو الشر؛ لذلك أجّل الله تعالى العقوبات غير الضارة بالمجتمع ضررا كبيرا إلى يوم القيامة، حتى مع الذين يصرّون على عدم التوبة إلى ما قبل الموت بقليل.

وهذه تفصيلات معنى ﱡ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱﱲ ﱠ ، التي يُجملها الحديث الشريف وذلك قوله(): "إنّ الله لمّا خلق الخَلق كتب كتاباً عنده فوق العرش: إنّ رحمتي تغلب غضبي"، وهو ما نلحظه في الحياة الدنيا، فتزداد الطاقة النفسية الايجابية متمثلة بالندم على ما فرّط به الإنسان، مع طول الإمهال الذي لا يمكن أن يصبر عليه إلاّ الله تعالى.

وعندما انتقل الخطاب إلى المستقبل الأخروي غير القابل للملاحظة استعمل القرآن الكريم أسلوب الحجاج في إثبات يوم القيامة بوصفه ضرورة عقلية يقتضيها العدل الإلهي، ووصف هذا اليوم بأنّه: ﱷ ﱸ ﱹﱺ بوصفه حجةّ لمن آمن، وحجّة على من لم يؤمن به أيضا، والسؤال كيف يخاطب وهؤلاء بعدم الشك بيوم القيامة وهم لا يؤمنون به أصلا؟ بمعنى كيف السبيل لإقناعهم عندما نتحاور معهم على شيء لا يسلِّمون بمقدماته؟ الجواب "إنّ الحقّ وإنْ ارتاب فيه المُبطل، فإنّ الدلائل تزيل الشكّ والريب، فإنّ نعيم الدنيا يعمّ المحسن والمسيء، فلابدّ من دار يتميّز فيه المحسن من المسيء، وأيضا فقد صحّ أنّ التكليف للثواب، ... وهو لا يعرى من المشقّة فلابدّ من دار أخرى، وأيضا فإنّ التمكين من الظلم من غير انتصاف في العاجل وإنزال الأمراض من غير استحقاق ولا إيفاء عوض في العاجل توجب القضية العقل في ذلك أن يكون دار أخرى توفّى فيها الأعواض وينتصف المظلوم للظالم...".

ويذهب التحفيز الايجابي في القرآن الكريم إلى أبعد من هذه التعبئة، إذ يجعل الله تعالى الرحمة والمغفرة شاملة حتى لمن أسرف في إطاعة التعبئة النفسية السلبية للنفس الأمارة بالسوء، وذلك في قوله تعالى:ﱡﭐﲔ ﲕﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ  ﲝ ﲞﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩﲪﱠ .

قال الطبرسي: "ورد عن أمير المؤمنين () أنّه قال: ما في القرآن آية أوسع من ﱡﲕ ﲖ ﲗ ﱠ "  ."قال ابن عباس: نزلت في اهل مكة قالوا: يزعم محمد ان من عبد الاوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله اله آخر وقتلنا النفس التي حرم الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية " 

تمثل هذه الآية الكريمة أقصى درجات التعبئة النفسية الايجابية للعصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب ورجع عنها، وإنْ كانت ومهما كانت، وإنْ كثُرت وكانت مثل زبد البحر، ما يؤدي إلى تعبئة نفوس هؤلاء تعبئة إيجابية وتجعلهم يرجعون إلى المعيار الفطري الذي يميّز الخير من الشرّ مُلقين عن عاتقهم تبعات الإسراف في أعمال الشرّ، الذي كان يمنعهم حتى من التفكير بالتوبة، وذلك ما أدّى إلى إصلاح نفوس هذه الفئة زمن النبي () برواية ابن عباس قال: "إنّ ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد() فقالوا: أنّ الذي تقول وتدعو إليه لحسنٌ، لو تخبرنا أنّ لِمَا عملنا كفّارة، فنزل: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ...ﱠ ، ونزل:﴿ ﲔ ﲕ....﴾...".

وفيما بأتي نذكر بعض الآيات الواردة في النفس:-


1-   ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ  ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ. 

2- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗ ...  ﱠ. 

3- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ  ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ  ﱠ.

4- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ  ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ... ﱠ.

5-ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﱮ  ﱯ ﱰ ﱱ ﱲﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ  ﱠ. 

6- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ  ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ  ﱠ. 

7- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ  ﲜ ﲝﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ  ﲥ ﲦﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ  ...ﱠ.

8- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ  ﱥ ﱦ ... ﱠ. 

9- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﱠ. 

10- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ  ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ  ﲊ ﲋ ﲌ... ﱠ. 

11- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲧ ﲨ ﲩ  ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ  ﲵ ﱠ. 

12-ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲀ ﲁ  ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ... ﱠ. 

13- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ... ﱠ.  

14- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﱠ. 

15- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ  ﲻ ﱠ. 

16- ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ  ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱠ.  


                                   

                                     

                                  

                                     

                                              

                                                  المبحث الثالث

أساليب التعبئة النفسية في الآيات الآفاقية

"(أفق) الهمزة والفاء والقاف أصل واحد، يدلّ على تباعُد ما بين أطراف الشيء واتساعِه، وعلى بلوغ النهاية. ومن ذلك الآفاق: النواحي والأطراف ، وآفاق البيت من بيوت الأعراب: نواحيه دون سَمْكِهِ".

الآفاق جمع أفق وهي "النواحي من الأرض، وكذلك آفاق السماء: نواحيها.......قال الأعشى*:

ولا المَلِكُ النعمانُ يومَ لقيتهُ

بأَمّتِهِ يُعطي القطوطَ ويأفقُ


أي: يأخذ من الآفاق".

ومن ذلك قوله تعالى:ﭐﱡﭐ  ﲽ  ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇﱠ، أي: "النواحي، والواحد: أُفْق وأُفُق، ويقال في النسبة إليه: أُفقيٌّ، وقد أفَقَ فلانٌ: إذا ذهب في الآفاق، وقيل: الآفق للذي يبلغُ النهاية في الكرم تشبيها بالأفق الذاهب في الآفاق"

وفي التعريفات أنّ الأفق الأعلى هو: "نهاية مقام الروح، وهو الحضرة الواحدية، وحضرة الألوهية، والأفق المبين: نهاية مقام القلب"، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ  ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ .

قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: (وهو بالأفق الأعلى)،  "أي أن جبريل حين ظهر للنبي على صورته امتد مرتفعا في الجو". وقبل: "الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله: الناحية، وما ذكره أهل الهيأة هو المعنى الاصطلاحي، وينقسم عندهم على: حقيقي وغيره... وأخرج ابن أبي المنذر عن ابن عباس أنّ المراد به –هنا- مطلع الشمس، وفي معناه قول الحسن: هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل (استوى)، وقال الفراء والطبري: إنّ (هو) عطف على الضمير المستتر في (استوى)، وهو عائد إلى النبي()، كما أنّ ذلك عائد لجبريل (عليه السلام)، وجُوِّز العكس، والجار متعلّق بـ(استوى)، وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أنّ المعنى ليس عليه عند الأكثرين".

وما يهمنا هنا ليس فهم الأفق، أو الآفاق،  بل مصاديقهما المختلفة، التي وردت بأساليب مختلفة في آيات معينة، وكلّها تصبّ في الهدف الرئيس للقرآن الكريم، وهو هداية البشر، بأي طريقة مؤثرة في النفس تعمل على الضغط على النفس بأسلوب يحملها على التفكّر والتدبّر، والتوقّف عند محطات الحياة المهمة، وعلى هذا الأساس عُرِّفَ الأسلوب بأنّه: "قوة ضاغطة مسلّطة على المتلقي بحيث لا يُلقى الخطاب عليه إلاّ وقد تهيّأ فيه من العناصر الضاغطة على ما يزيل عن المتلقي حرّيّة ردود الفعل، فالأسلوب بهذا التقدير هو: حَكَمُ القيادة في مركب الإبلاغ، لأنّه تجسيد لعزيمة المتكلم في أن يكسو السامع ثوبَ رسالته في محتواه من صياغتها".

أما مصاديق التعبئة النفسية في آيات الآفاق فإنّها تمثل في ثلاثة اتجاهات، سندرسها في ثلاثة مطالب على النحو الآتي:

أولا: أساليب التعبئة النفسية في آيات انعكاس عظمة المخلوق على الخالق:

في هذا الشأن وردت آيات كثيرة،  ومن ذلك قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ  ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖﲗ ﲘ  ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ  ﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ  ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ  ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ  ﲻ ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ  ﱠ .

تشير هذه الآيات الكريمات إلى آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكّانها، فَخَلْقُ السماوات والأرض آيةٌ عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محلُّ العبر من أحوالهما المتلازمة، كالليل والنهار واختلاف الفصول، والمتضادة كالعلو والانخفاض، وإذا كان أشرف ما على الأرض هو نوع الإنسان فقد قارن بعض أحواله بخلق الأرض في آيات، وخُصّ من أحواله المختلفة لأنّها أشدّ عبرة لاختلاف أسباب تلك الأحوال المتحدة في الماهية؛ ولأنّ تنوّع النوع الواحد إلى ما لا يُحصى من التنوّعات الداخلية لها أسباب ترجع لآثار خلق السماوات والأرض، نحو اختلاف الألسنة سببه القرار بأماكن مختلفة متباعدة، كذلك اختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض أو اختلاف تعرّضه لأشعة الشمس إلى غير ذلك.

وهناك آيات كثيرة صرّحت باسلوب او طريقة التأمل بالتدبر والتفكّر مما يعطي تعبئة نفسية ايجابية مؤثرة كآيات الخلق الطبيعية، ابتداءﱡ من السور الأولى النازلة في مكة المكرمة، وذلك ما ورد في سورة الشعراء، التي عُدّت من عتاق السور، لاشتمالها على قوله تعالى: ﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱠ ، وفيها تصريح واضح يعبئ النفس نحو النظر والتدقيق بمعجزة ما تنبته الأرض الواحدة من نباتات مختلفة لا حدود لتنوّعها ومنافعها، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ  ﱺ ﱻ ﱠ ، قال الالوسي: "والمعنى أولم ينظروا إلى نفس الأرض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتاً من وجه لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع؟... حيث يدلّ على النعمة الزاجرة لهم عمّا هم عليه أيضا، والوجه الثاني التنبيه على أنّه تعالى ما أنبت شيئا إلاّ وفيه فائدة...".

وهذان الوجهان من المعنى يتضمنان تعبئة نفسية تلفت نظر المتأمل إلى التنوّع اللانهائي المدهش من النباتات التي خُلقت بشكل أزواج، أي أضداد، قال الراغب(ت502هـ): "يقال لكلّ من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج، ولكلّ القرينين منها في غير زوج... وذلك قوله: ﭐﱡﭐ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ  ﳏ ﳐ ﳑ ﱠ ، فتنبيه أنّ الأشياء كلّها مركبة من جوهر وعرض، ومادة وصورة، وأنّ لا شيءَ يتعرّى من تركيب يقتضي كونه مصنوعا، وأنّه لابدّ من صانع، تنبيهاً أنّه تعالى هو الفرد...".

فـ(التنوّع) اللانهائي من تراكيب الصنف الواحد، هو الأمر المدهش الذي يتضمّن معنى التعبئة النفسية، أو الإثارة فيما نألفه من دون أن نلتفت اليه، وهذا المعنى القلبي العميق أكثر وضوحا في قوله تعالى الذي يصوّر تنوّع الثمار التي تُسقى بماء واحد: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲎ ﲏ  ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ  ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ  ﲡ ﲢﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ  ﱠ .

قال الزمخشري(ت538هـ): "ﱡ ﲐ ﲑ ﱠ: بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة: من طيبة إلى سبخة، ومن كريمة إلى زهيدة، ومن صلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى عكسها، مع انتظامها جميعا في جنس الأرضية، وذلك دليل على قادر مريد، موقع لأفعاله على وجه دون وجهٍ، وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع مختلفة الأجناس والأنواع، وهي تسقى بماء واحد، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلة فيها".

وهناك إشارة عميقة إلى اختلاف إنبات بعض الاشجار وتفرعها من أصل واحد، ولاسيما في النخل، إذ نلحظ بعضها صنوان جمع صنو، وبعضها مفردا، قال الخليل(ت175هـ): "الصنو من النخل: نخلتان أو ثلاثة أو أكثر أصلهنّ واحد، كلّ واحدة على حيالها صنو، وجمعه صِنوان...".

وهذه الظاهرة هي الأعجب، ذلك أنّ التنوّع العجيب في التفرّع والثمر المختلف يرجع إلى نبات واحد وأرض واحدة وماء واحد، ما يدلّ على عظمة المخلوق التي تشير إلى عظمة الخالق.

وهناك إشارة عجيبة إلى (خلق الإبل) في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﱠ ، والسؤال بـ(كيف) من أهم أسئلة العلم بعد السؤال بـ(لماذا) عن السببية، أما (كيف) فإنّها تسأل عن الحال والتفاصيل التجريبية المحسوسة، لما تعلّقت به الفعل: (ينظرون) بوصفها مفعولا، وقد وردت في سياق التعجيب من إنكار الكفار للبعث، أي: أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله -عزّ وجل- فلا ينظرون إلى الإبل التي هي "نصب أعينهم يستعملونها كلّ حين كيف خُلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر الحيوانات في عظم جثتها وشدّة قوتها، وعجيب هيآتها اللائقة بتّأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إنّ إضماءها ليبلغ العِشْر –بكسر فسكون- وهو ثمانية أيام بين الوردين... ورعيها لكلّ ما تيسّر من شوك وشجر وغير ذلك ممّا لا يكاد يرعاه سائر البهائم، وفي انقيادها للإنسان...".

وقد دوّن العلم الحديث أوصافا عجيبة للإبل إذ رصد القَدَمَ التي تنتهي بالخُف الذي يساعد على السير على الرمال، فضلا عن الوسائد القوية السبع التي تسندها على الأرض حينما تبرك، وهي وسائد خشنة لا ينبت فيها الشعر وتتكوّن من مادة قوية قليلة الحس، وفي معدتها الأولى والثانية جيوب صغيرة كثيرة تستطيع أن تسدّها وتفتحها بتقلّص ألياف عضلية ولاسيما تدّخر الماء.

وقد اتسع السؤال بـ(كيف) إلى النظر في بدء الخلق في سياق التوبيخ للكفار الذين لم يؤمنوا بالبعث، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ  ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗ ﲘ ﲙ ﲚﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ  ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﱠ ، وفي هاتين الآيتين الكريمتين معنى نفسي تعبوي كبير، لتضمّنه معنى الدعوة الصريحة إلى النظر في الآفاق المتحوّلة بين الموت والحياة، وجوّز العطف بـ(ثمّ) لتأويل "الإعادة بإنشائه تعالى كلّ سنة مثل ما أنشأه –سبحانه- في السنة السابقة من النباتات والثمار وغيرهما، فإنّ ذلك ممّا يُستدل بهِ على صحّة البعث ووقوعه على ما قبل من غير ريب...".

والرؤية يجوز أن تكون "بصرية والاستدلال بما هو مشاهد من تجدد المخلوقات في كلّ حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكلّ ذي بصر،ـ وإبداء الخلق بدؤه وإيجاده بعد أن لم يكن موجودا.. والمبدئ من أسماء الله دون البادئ".

وهناك مخلوقات لفت القرآن الكريم النظر إليها بطريقة أسلوبية غير مباشرة، وذلك باستعمال القَسَم بها من أجل تأكيد حالة معينة حصلت من دون أن يكون عليها شهود؛ لذلك قيل: "ما جُعل القسم إلاّ للتفريق بين الحقّ والباطل".

القَسَمُ بالمخلوقات دلالة على عظمتها عند خالقها وهو الله سبحانه ولبيان منافعها وفضائلها، وليعتبر الناس بها. قال أبو القاسـم القشيري: "القَسَمُ لا يخرج عن وجهين إمّا لفضيلة أو لمنفعـة، فالفضيلـة، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱠ ، والمنفعـة كقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ".أما مفردة القسم وتعظيم المقسم به، فقد وردت بفارق كبير بينها وبين الحِلف وهو أنّ القَسَمَ "يتبع الشيء في قلبك فتظنّه ثم يقوّى ذلك الظنّ فيصير حقيقة".

هذا مع مبنى عدم وجود ترادف في القرآن الكريم، الذي أقرّ بوجوده التهانوي (ق12هـ) في اللغة بوصفه يوفَّر إمكانات للمتكلم البليغ، ولكنّه غير موجود في الكلام البليغ، وأعلاه رتبة وشرفا هو القرآن الكريم، وذلك قوله: "قيل والحق أنّ المجوّز إنْ أراد أنه يصحّ في القرآن فباطل قطعا".

وقد يكون المُقسم به شيئاً علوياً عظيماً نجهله نحن البشر، ومن ذلك القَسَمُ بالشمس والقمر والنجوم ومظاهر كونية أخرى، ويفيد هذا القسم بدفع الإنسان إلى التقصّي والتنقيب والبحث عنها؛ أي: إنّ القسم بها هو المثير الأبرز في تقصّي طريق العلم بها، ومنها قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ  ﱽﱠ ، وقوله تعالى: ﴿ ﭐﱡﭐ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ  ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ... ﱠ .

ومن صور التعظيم لمخلوقات الآفاق أسلوب القسم بصيغة النفي، نحو قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ  ﱠ ، وقوله تعالى: ﴿ ﭐﱡﭐ ﳊ ﳋ ﳌ  ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ  ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ  ﲆ ﲇ ﲈ ﱠ .، وقوله تعالى:ﱡﭐ ﲣ ﲤ  ﲥ ﲦ ﱠ 

ولعل معظم المفسرين قد أشاروا إلى أنّ القسم المنفي أبلغ من المثبت وأعظم وأجلّ لزيادة (لا) للتوكيد، قال الطبرسي: " إنّ المعنى "لا أُقسم" على هذه الأشياء فإنّ أمرها أظهر وآكد من أن يحتاج فيه إلى اليمين"، ما يعني انها أعظم من غيرها، نظرا لزيادة (لا) ,وهي لتوكيد القسم وتأكيد وجوب العلم 

وهناك رأي آخر ذكر أن (لا) لنفي ما ينبئ عنه القسم من اعظام المقسم به وتفخيمه، فأن معنى لا اقسم بكذا, أي: لا اعظمه حق اعظامه.

أنّ كل ما وجده الباحثون من عظمة هذه الأشياء المُقسَم بها خرّوا له ساجدين ممتثلين لقوله تعالى:ﱡ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ  ﱠ .

وبهذا يكون المقسم به سواء كان أرضيا أم سماويا، فإنّه يشكّل دافعاً كبيراً للبحث العلمي لاكتشاف ماهية الأشياء المقسم بها فوصل بفضل الله  الإنسان إلى القمر واستطلعه وعرف النجوم واماكنها، الأمر الذي دفع بالإنسان إلى الإيمان بعظمة الله  ودقة خلقه لهذه الاجرام التي اقسم بها، وهذا هو السبب -على ما يبدو- من القسم المعظم بهذه الأشياء بمعنى: إنها حركت العقل البشري للبحث والتقصي عنها, وكلما عرفها ازداد ايماناً بخالقها وهو الله جلّ في علاه.

إنّ أسلوب آيات النظر إلى الآفاق قد تضمنت معاني قلبية خفيّة تندرج تحت مفهوم التعبئة النفسية الايجابية نحو: هداية الإنسان عموما، بفئاته المختلفة الملكات الإدراكية العالمة والساذجة الإدراك التي لا تدرك مكامن الأسرار في الظواهر إلاّ باستعمال الحواس، وأهمها الرؤية البصرية لعجائب المخلوقات التي يألفها الإنسان، ولم يلتفت إلى ما تتضمّن من معانٍ عميقة تعظ الإنسان أن يهتدي ويوّحد ربَّه وفيها معنى الحثّ على طلب العلم التجريبي بأبسط التكاليف وأرخصها لكثرة ما هو موجود على الأرض منها عن طريق الرؤية المجردة والنفعية، وذلك ما يُنشِّط الكفاية التأويلية للمتلقي، إذ يستعمل استراتيجية تأويل تعتمد على نسبة الحالات الذهنية إلى الأشياء غير العاقلة؛ لأنّها تمثل علامات طبيعية عجيبة مخبّأة فيها بقصد يكشف عن علاقة الخالق بالمخلوق.

ثانيا: أساليب التعبئة النفسية في آيات التفكّر بالمصير من الآثار:

تنطلق التعبئة النفسية في آيات التفكّر بالمصير الإنساني من تكامل معارف ملكات الإدراك البشري الثلاث: (العقل، والحس، والتدبر القلبي)، وبتعبير آخر من المعارف الحسية والعقلية البرهانية، فضلا عن الاستعانة بالمكاشفات الذوقية القلبية، لغرض الوصول إلى نتائج إيجابية عند التفكير في مجال مصير الإنسان بعد الموت، إذ تستقل النفس المجردة محتفظة بسموها الروحي إذا كانت سامية، وتحتفظ بانحطاطها إذا كانت منحطة، وكلا النفسين تستقل عن الجسد المادي المركب المخلوق من تراب وهو العنصر المادي الذي يمكن رصد آثاره حسّيًّا في الحضارات العظيمة البائدة مع ما خلفته من آثار عمرانية وقبور فخمة للملوك إلى غير ذلك من مظاهر نجدها الآن خاوية على عروشها، وقد حثّ الله تعالى على النظر إليها وتفسير خرابها بالتفسير التدبري الديني، إذ يساعد ما لحق من خراب مادي بهذه الآثار الخراب المعنوي على أخذ العبر الكبرى بما يقوي الإيمان بالله تعالى، بسبب تكذيب هذه الأمم البائدة للأنبياء() وعدم إيمانهم بالله وبالغيب، وبسبب ارتكابهم للظلم، فأصبحت نفوسهم غير مصونة من التلف، وذلك ما ورد في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ  ﱢ ﱣ ﱠ .

العاقبة: "نهاية الأمر، والمراد بها الجنس، وهو متعدد الأفراد بتعدد الذين من قبل، ولكلّ قوم عاقبة"، وقد وردت الآية الكريمة بأسلوب: ﱡﱚ ﱛ ﱜ ﱠ بدلا من: (سيروا فانظروا)، اي بالعطف بالأداة (ثمّ) الدالة على "التراخي والمهلة..."، وفي الآية الكريمة يظهر الأمر بالنظر وكأنّه متراخٍ عن الأمر بالسير، والفرق بين الأمر المتراخي وغير المتراخي كأنّه قيل: "سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله: (سيروا في الأرض ثمّ انظروا)، فمعناه: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبّه على ذلك بـ(ثمّ) لتباعد ما بين الواجب والمباح".

وهذا يعني أنّ البحث في مصير الأقوام الكافرة مصحوب بجلب المنافع، وليس مقصودا لذاته، والربط بين الفعلين، ربّما أُريد به توجيه المنافع التجارية بدوافع السلوك الإيجابي الصحيح، الذي يضمن شمول المنافع للمجتمع، فضلا عن ضمان رضا الله تعالى بالبيع والشراء المباح الحلال من دون المراباة والسرقة الخفية وذلك ما يركز في الجوهر الأخلاقي للإنسان بدلا من التماس الأعراض الزائلة، ما يجعل هذا المعنى يمثل المغزى التعبوي النفسي للأمر الإلهي الذي "حضَّ على الاعتبار بآثار مَن مضى ممّن فعلَ مثل فعلهم".

وقد وردت آية الحضّ على الاعتبار من آثار الأقوام الماضية معطوفة بالفاء، قال تعالى: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ  ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ  ﲓ ﱠ ، وقوله تعالى: ﱡﭐ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ  ﲘ ﱠ ، وفي هاتين الآيتين الكريمتين جاء الأمر بالسير في الأرض مقصودا لأجل النظر في عاقبة المكذبين بالأنبياء في الآية الأولى، فيما "دعوهم إليه من الإيمان بالله –عزّ وجلّ- وباليوم الآخر الذي ينكرونه، فإنّ في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأُولي الأبصار، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين –الأعم منه بحسب المفهوم- لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيها من إرشادهم إلى أنّ الجرم مطلقا مبغوض لله عزّ وجلّ". 

   وفي كلتا الآيتين يظهر أسلوب الأمر المسوق للحضّ على التفكير والسير في الأرض للتأمل في مغاب الأمم السابقة ومصائرها باستعمال بلاغة المجاز المرسل* في قوله: ﱡﭐ ﲑ ﲒ ﱠ ، و ﱡﭐ ﲖ ﲗ ﱠ و"العلاقة هي المصير والمآل الذي ينتهي إليه كلّ من الفئتين الضالتين".

أما التعبئة النفسية في المعنى فيظهر من الاستدلال الذي يحرّك العمليات العقلية بعد الأثر البلاغي الذي يستوقف المتلقي لغرض التأمل والتدبر، اللذين يأتيان بعد توجيه السلوك نحو المشاهدات التي يرى منها المُشاهِد "كثيراً من ِأشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها، فإذا شاهد ذلك جالَ نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولاناً لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه، لأنّه لما نشأ فيها في زمن الطفولة فما بعده قبلَ حدوث التفكير في عقله، اعتاد أن يمرَّ عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثال ممّا كان غائبا عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال...".

أما الحضّ على معرفة بدء الخلق عن طريق السير في الأرض، فقد ورد في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ  ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ  ﲗ ﲘ ﲙ ﲚﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ  ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﱠ ، إذ نلحظ في الآيتين الكريمتين معاني قلبية كثيرة، أهمها الاستدلال من المدركات الحسية للخلق الأول المفترض أن يكون صعبا، فيصبح إعادة الخلق الثاني سهلا، لأنّ الذي أحيا وأمات يهون عليه أن يُحيي الأموات بحكم البداهة؛ لذلك يكون الاستدلال متضمّنًا معنىً نفسيا يتمثل بـ"ما لا يسعهم إلاّ الاعتراف به، وهو بدء الخلق، إذ لا ينازعون في أنّ الله وحده هو خالق الخلق، ...أما قوله: (ثمّ يُعيده) فهو إدماج، لأنّه إذا سُلِّمَ له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر... وإذ كان ذلك مثالاً لإعادة الاشخاص بعد فنائها، وذكرُ عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة ناسب في مقام الاعتبار أنْ يُقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الاقناع".

أما المعنى النفسي الآخر في الدعوة إلى التأمل في الخلق الأول ففيه عمق أيضا؛ لأنّه خلق من لا شيء مادي، بكلمة (كن)، وإلا لما وُجد شيء على الإطلاق، ثم يُنشئ النشأة الآخرة إذ تُجزى كلّ نفسٍ الجزاء الأوفى على ما قدّمت.

وثمة آية كريمة أخرى تحضّ على النظر في الآفاق لترصد التطور نحو الأخير والأحسن، وهو ما يطمئن النفس على الصبر وتحمّل العقبات التي تواجهها في الحياة، إذ تلمح هذه الآية بأنّ أكثرية الناس في الماضي كانوا كافرين، فيا أيّها المعتبر عليه تكثير المؤمنين بالإيمان ، قال تعالى: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋﱌ  ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱠ .

والمقصود بـ(من قبل) هم: "الملوك العاتية والقرون العاصية كيف أهلكهم الله؟ وكيف صارت قصورهم قبورهم، ومحاضرهم مقابرهم، فهم عين ولا أثر، ثمّ بيّن أنّه فعل ذلك بهم لسوء صنيعهم، فقال: ﱡﭐ ﱍ ﱎ ﱏ ﱠ...".

والتعبئة النفسية هنا مضاعفة تمثل الترغيب بالأحسن والأخير، والترهيب ممّا سبق وفات ولا يمكن إرجاعه، وعلى هذا الأساس حمل بعض المفسرين معنى (السير) بأنّه يمثل القراءة التدبرية، وليس السير الفعلي، قال: "أو اقرأوا التاريخ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ الطغاة ومصير الجبابرة العتاة...".

وتمثل التعبئة النفسية في الآيات التي تركّز في النظر إلى الماضي أساسا للمنهج التاريخي الذي يدرس الظواهر الإنسانية القديمة بالرجوع إلى أصلها وتسجيل تطورها وتفسير اندثارها بربط النتائج بالأسباب من منظور ديني أخلاقي يتّصل بذاكرة الشعوب والأمم، فضلا عن الإفادة منها في فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل لتحقيق هدف الإنسان والإنسانية في تطوير الحياة الروحية وأساليبها برؤية علمية واضحة تؤكِّد أهمية التطور لاستشراف المستقبل، ومنه التخطيط للمستقبل الديني البعيد وهو يوم الدين، أو يوم الحساب، ما يجعل الإنسان كائنا متطورا ذهنيا وأخلاقيا، يقارن بين ماضيه العلمي والأسطوري والثقافي من جهة، ومستقبله المتنوّر بالثقافة الدينية الخاتمة التي تمثل أرقى ما توصّلت إليه الإنسانية من أخلاق موجّهة للسلوك الايجابي، وهذا يعني إنّ التعبئة النفسية لآيات الآفاق تمثل كشفاً للعلاقة بين ما هو متطور للأمام وما هو متراجع إلى الوراء يجب النظر إليه بأنّه غير مستحسن عقليا وقلبيا بعد أن تذوق الإنسان لذّة الإيمان وكمال مكارم الأخلاق.

وخلاصة القول إنّ النظر في مصير الأقوام الغابرة يمكن أن يكون نظرا حسيا، ويمكن أن يكون نظرا عقليا، والثاني يعتمد الأول، وآثار هؤلاء المجرمين والمكذبين للرسل()، تمثل علامات طبيعية أو لغوية مشفّرة تشفيرا عاليا، فهي بحاجة إلى فكّ رموزها عن طريق استنطاقها وجعلها هي التي تتكلم اعتمادا على عمليات استدلالية توظّف القدرات البشرية العامة لتمكّن من التأويل التام.

ثالثا: أساليب التعبئة النفسية في آيات تعقّل الخوارق:

 من اهم الخوارق التي يعرضها القرآن الكريم هو إحياء الموتى وتظهر التعبئة النفسية قوية في مثل هذا العرض، لتزيد المؤمن إيمانا، وتلقي الحجّة على الكافر وذلك ما ورد على لسان إبراهيم(عليه السلام) ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈﱉ ﱊ ﱋ  ﱌﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ  ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ  ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱠ .

وتظهر بعض معاني التعبئة النفسية الأخرى للآية في طريقة الردّ على سؤال إبراهيم()، الذي طلب من الله تعالى أن يُريه كيفية إحياء الإنسان الميت، لكنّ الإجابة اقترحت أن يجرِّب السائل بنفسه تجربة الإحياء، من دون تدخّل الإرادة الإلهية المطلقة مباشرة في الإحياء، وكأنّ القضية تمثل سبقا علميا لا يتضمّن خرقا لقوانين الطبيعة ولا خرقا لحسابات العقل المجرد، بدليل أنّ النبي () طلب معرفة كيفية إحياء موتى الإنسان، فأمره الله تعالى أن يجري التجربة على الطير، ليُبقي للعقل المجرد مساحة للاشتغال بمنطقه الصوري والرياضي 

وبمثل ذلك جاء وصف إحياء من سأل مستغربا عن إحياء الموتى فأماته الله تعالى هو وحماره، قال تعالى: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ  ﲙ ﲚﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥﲦ  ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ  ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸﲹ ﲺ ﲻ  ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ  ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈﳉ ﳊ  ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ  ﱠ .

قال القاسمي: " ﱡﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﱠ: خالية ساقطة حيطانها على سقوفها، قال: ﱡﲕ ﲖ ﲗ ﲘ  ﲙ ﲚﲛ ﱠ ، أي: كيف يعمّر الله هذه القرية بعد خربها؟! فأراه الدليل على الإحياء الحقيقي في نفسه مبالغة في قلع الشبهة...".

أما المعاني التعبوية الأخرى في هذه الآية، فمنها ما يظهر في أسلوب حذف اسم القرية ومكانها واسم المار بها، ما يجعل الآية الكريمة مركِّزة في موضع العبرة، وما به تقوم الحجة ولم تعنَ بما فوق ذلك حتى لا تشغل القارئ أو السامع. والإماتة يراها بعض المفسرين "فقدان الحسّ والحركة والإدراك كما حدث لأهل الكهف، وعبّر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنّه عاد كما كان أولا حيًّا عاقلا مستعدًّا للنظر والاستدلال... والذي يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر على أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة، فهذه من الممكنات لا من المستحيلات، وقد تواتر بالنصّ فيجب التسليم به، والتجارب التي عملت تقرّب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مُستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته".

وفي قضية نقل عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين بطرفة عين، قال تعالى: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷﱸ ﱹ  ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ  ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ... ﱠ ، قال ابن عاشور: "الظاهر أنّ قوله: (قبل أن تقومَ من مقامك)، وقوله: (قبل أن يرتدَّ إليك طرفُك)، مثلان في السرعة والإسراعية، والضمير العائدة في (رآهُ) يعود إلى العرش..." .

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ  ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳﲴﱠ .

 قال بعض المفسرين: "التنكير التغيير للحالة.... أراد: تنكرت حالة معاشرتها بسبب تغيير الواشين، بأنّ يُغيّرَ بعض أوصافه، قالوا: أراد من مفاجأتها واختبار مظنتها. والمأمور بالتنكير أخل المقدرة على ذلك من ملئه..." .

وعلى هذا الأساس فلا تعارض بين الخوارق أو المعجزات الدينية من جهة ومعطيات العلم الذي يرى أنْ لا شيء يحصل بخلاف القانون الطبيعي من جهة أخرى، من منظور  فلسفة الدين والعلم المعاصرتين؛ لأنّ "الرّدّ العلمي المناسب لا يكون بنفي حصول المعجزات، بل بالسعي لمراجعة وتوسيع الفهم الحالي للطبيعة بهدف استيعابها لتشمل الأحداث ذات الطابع الديني التي تثير وتؤدّي إلى الشعور الحيّ بوجود نشاط لله ضمن السياق العام للطبيعة، ولكنّه غير ملحوظ بسبب محدودية المعرفة الإنسانية حاليا.




                                          الفصل الثالث

                أساليب التعبئة النفسية في القصص القرآنية

    المبحث الأول: أساليب التعبئة النفسية في قصص الانبياء.

          أولا: نبي الاسلام محمد().

         ثانيا: النبي شعيب ().

         ثالثا: النبي موسى وهارون  ().

   المبحث الثاني: أساليب التعبئة النفسية في قصص المؤمنين

       أولا: مؤمن آل فرعون.

       ثانيا: مؤمن آل يس.


 

 توطئة: في مفهوم القصص القرآنية

    قال الليث: "القص أخذ الشعر بالمقص لان أصل القصِّ القطع". 

وقال ايضا: القصُّ على القص، إذا قص القصص والقصة معروفة، ويقال في رأسه قصة يعني الجُملة من الكلام، ونحوه قول الله ﭐﭨﭐﱡﭐ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ  ...ﱠ قوله: ﱡﲣ ﲤ ﱠ: أي أحسن البيان، والقاص الذي يأتي بالقصة من قصها يقال قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء. ومنه قولهﭐﭨﭐﱡﭐ  ﲝ  ﲞ ﲟﱠ أي إتبعي أثره.

"يمتاز القصص القرآني عن غيره في نقطة مركزية ، هي: قضية الهدف والغرض الذي جاء من أجله القصص في القرآن فالقرآن لم يتناول القصة باعتبار أنها عمل فني مستقل في موضوعه وطريقة التعبير فيها. كما أنه لم يأت بها من اجل الحديث عن اخبار الماضين وتسجيل حياتهم وشؤونهم ، أو من أجل التسلية و المتعة كما بفعل المؤرخون والقصاصون وإنما كان الغرض من القصة في القرآن الكريم هو: المساهمة مع جملة الأساليب العديدة الأخرى التي أستخدمها القرآن الكريم؛ لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينية التي جاء من أجلها ، وكانت القصة القرآنية من أهم هذه الأساليب"  . 

"يهدف القرآن القرآن الكريم من إيراد القصص والحكايات تأهيل الانسان لاجتياز المنعطفات الضيقة والدهاليز المظلمة وتمكينه من الوصول الى مواطن النور والهداية".

"يتخذ القرآن الكريم من حياة الأمم السابقة وحركة أنبيائهم()محورا لدراسته، وهذا يفترق عن منهج جل المؤرخين الذين يتناولون حياة الملوك وأصحاب السلطة موضوعا للبحث والدراسة ، وربما يغالون في شاطاتهم وعطاءاتهم ، بل يغالون في إضفاء الطابع الأخلاقي على تصرفاتهم على نحو لا يصدقه العقل ولا تؤيده الشواهد. ولذك عاد التاريخ عند الشرقيين تاريخ الملوك والحكام ، مع أنه كان يفترض بهم – بعد أن أشرقت الأرض بنور القرآن  لكريم- التوافر على دراسة حياة الأمم والتاريخ الإنساني على ضوء حياة الأنبياء وحياة أقواهم منذ أن نزلت الهداية الالهية على لإنسان ، وهذا ما نتمناه ، ولعل الله يقيض بعض الغيارى للقيام بهذا العبء الجليل.

إن القرآن الكريم لم يذكر إلا قليل من الأنبياء إذ بلغ عدد من تعرض لذكر حياتهم ودوهم في أممهم  التي بعثوا لهدايتها نحو(25) نبيا ،وإلى هذه الحقيقة أشار سبحانه بقوله: ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ  ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎﱠ.          

ومع ذلك فإن فيما ورد في قصصهم غنى وكفاية لما فيها من عبر وعظات ودروس تستجلى من مواقفهم ، وأهم محطات حياتهم مآل اقوامهم وما أصابها من بأساء وضراء ، جزاء لما اقترفوا من أعمال. ولم يقتصر القرآن الكريم على بيان الأحداث لتي جاد بها الزمان في بيئات محدودة ، بل تعرض للأحداث التي جرت في العواصم الكبيرة والمدن البعيدة ، ولذك عبر عنها بـ ((أنباء القرى)) ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ  ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱠ.ومما يحسن ذكرة أن القرية في مصطلح القرآن لكريم هي النقطة المعمورة ، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة حتى أنه عبر عن مصر الفراعنة بالقرية، ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ... ﱠ.وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على امتداد دائرة التبليغ السماوية للأنبياء لكافة أرجاء المعمورة قال سبحانه: ﱡﭐ ﱮ ﱯ  ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱠ.وكان الأنبياء يتخذون من أم القرى – التي هي العاصمة – مركزا لتبليغهم حتى تتم الحجة على أهل لقرى  المحيطة بها من مختلف المدائن

، والامصار  يقول سبحانه: ﭐﱡﭐ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ  ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﱠ.، لوجود الصلة بين أم القرى ، وفروعها". 

فأتخاذ الانبياء التبليغ من المركز ((القرية)) هنا تولد تعبئة نفسية إيجابية في نفوسهم وانتشارها الى باقي المناطق الاخرى بالإضافة الى أسلوبهم. 

 سنقسم هذا الفصل على مبحثين ندرس في أولهما:أساليب التعبئة النفسية في قصص الانبياء وفي ثانيهما: أساليب التعبئة النفسية في قصص المؤمنين 


  









المبحث الاول

أساليب التعبئة النفسية في قصص الانبياء

اولا/ نبي الاسلام محمد()

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ  ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ  ﱠ.

تشير الآية الكريمة بالحديث عن النّبي الأكرم ()، حيث كان الامام والقدوه الحسنة لكم، فإنّ النّبي () خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاًّ من معنوياته العالية، وصبره وإستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين. إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربّان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والإطمئنان الروحي لركابها.

إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائماً نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة. يحذّرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والإستعداد اللازم. .كلّ هذه السمات المتفردة للنبي محمد() تمثل أقصى حالات التعبئة النفسية الإجابية التي تجعل المسلمين قوة متماسكة واستنهاض الهمم في جميع مناحي الحياة.  

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ  ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ  ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ. 

يأمره الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم محمد()  أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته ، ولا شكَّ أنّه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع، لابدّ من الإبتداء من الحلقات الأدنى والأصغر، فما أحسن أنِ يبدأ النّبي دعوته من أقربائه وأرحامه، لأنّهم يعرفون سوابقه النزيهة أكثر من سواهم كما أن علائق القربى والمودّة تستدعي الاصغاء إلى كلامه أكثر من غيرهم، وأن يكونوا أبعد من سواهم من حيثُ الحسدُ والحقدُ والمخاصمة! أي النبي() ابتدأ في هذه المرحلة بتعبئة أقاربة تعبئة نفسية إيجابية هيئهم ليكونوا في أتم استعداد في قبول الدعوة باستخدام الترهيب والترغيب في هذه المرحلة، إضافة إلى ذلك فإنّ هذا الأمر يدلّ على إن النّبي() ليس لديه أية مداهنة ولا مساومة مع أحد، ليستثني أقرباءه المشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل!...

أمّا المرحلة الاخرى، فإنّ الله يوصي النّبي في دائرة أوسع فيقول: عليك أن تعامل أتباعك باللطف والمحبة: ﱡﭐ ﱳ  ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱠ.

وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أن الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبّة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانةً من الحوادث المحتملة، ولتحفظها من التشتت والتفرّق! فكذلك الأمر بالنسبة للنّبي إذ أُمرَ أن يخفض جناحه للمؤمنين الصادقين. أي إن النبي أستخدم آسلوب اللين واللطف والمحبة مع المؤمنين المخلصين حتى يعبئهم نفسيا.

وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملا، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة، ولعل المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى، لأنّها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة.

وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبيّن دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين، ويمكن إدراكها بأدنى التفاتة!...

وذكر هذه الجملة ـ ضمناً ـ بعد مسألة الإنذار يكشف عن هذه الحقيقة، وهي إذا كان التعويل على الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات التربوية، فإنّه وبلا فاصلة يأتي التعويل على المحبّة والعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب بمعنى أسلوب أو طريقة مناسبة...

ثمّ تأتي المرحلة الرّابعة وهي أن الاعداء لم يقبلوا دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: ﱡﱺ ﱻ ﱼ ﱽ  ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﱠ... ليعرفوا موقفك منهم!. . 

وقصة إنذار الأقربين «حديث يوم الدار» فهي:

وفقاً لما ورد في التواريخ الإسلامية، أُمر النّبي في السنة الثّالثة بدعوته الأقربين من عشيرته، لأنّ دعوته حتى ذلك الحين كانت مخفية «سريّة»، وكان الذين دخلوا في الإِسلام عدداً قليلا، لذلك حين نزلت الآية: ﭐﱡﭐ ﱯ ﱰ ﱱ ﱠ .  والآية ﭐ

ﱡﭐ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ  ﱒ ﱓ ﱔ ﱠ...  .   

أمر النّبي أن يجعل دعوته علنية، وبدأ ذلك بدعوة أهله وأقربائه.

وأمّا كيفية إبلاغه وإنذاره إيّاهم، فهو بإجمال أنّه دعا النبيّ «عشيرته» إلى بيت عمّه أبي طالب، وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجلا، وكان ممن حضر هذه الدعوة بعض أعمام النّبي() كأبي طالب والحمزة وأبو لهب والعباس، وبعد أن تناولوا الطعام، وأراد النّبي أن يؤدي ما عليه، تكلم أبو لهب كلمات أحبط بها خطة النّبي()، لذا فقد دعاهم النّبي في اليوم التالي أيضاً.

وبعد أن تناولوا الطعام، قال(): «يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم بخير الدنيا والآخرة... وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم (سناً)، فقال: «يا نبيّ الله، أنا أكون وزيرك عليه»، فأخذ رسول الله برقبته، وقال: «إنّ هذا وصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع..

وهذا فيه تعبئة نفسية انطلقت من اقارب النبي() في تعبئتهم للإسلام والتي لها الاثر في المجتمع.

وقد وردت في القران الكريم آيات توجه انذار النبي محمد() إلى قومه نذكر أهمها :

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﱠ                

في تفسير القمي جاء في تفسير هذه الاية " قال أنذر الرسول() ،

فالمدثر يعني المتدثر بثوبه ، ﲝ ﲞ قال هو قيامه في الرجعة ينذر فيها" .

وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ  ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ...ﱠ.

"ولكن كان الوحي اليك(ﱪ ﱫ ﱬ) خاصة راصة (ﱭ ﱮ  ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ) في الفترة الثانية وهي بينك وبينن المسيح".

وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ  ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ...ﱠ.

" بل هو الحق منزل من عندالله عليك يا محمد ﱡﭐﱕ ﱖ  ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱠ

أي في عصر الفترة وهو مابين عصر عيسى وخاتم الانبياء".

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱈ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ  ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛﱜ ....ﱠ .

"وقوله :  ﱈ ﱉ ﱊ   "الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب" .

أي أكان ايحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجباً لأهل مكة يتعجبون منه؟ والموحى به هو :  ﱐ ﱑ ﱒ ، أي خوفهم أسلوب الترهيب  عاقبة الشرك والكفر والعصيان  ﱓ ﱔ ﱕالبشارة اسلوب الترغيب أي بأن لهم قدم صدق عند ربهم وهو الجزاء الحسن لما قدموا من الإِيمان وصالح الأعمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الآخرة فلما أنذر وبشر () قال الكفرون هذا سحر مبين ومرة قالوا : ساحر مبين وقولهم هذا لمجرد دفع الحق وعدم قبوله لا أن ما أنذر به وبشر هو سحر ، ولا المنذر المبشر هو ساحر وإنما هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد . .

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱍ ﱠ.

" أي أخوّفكم وأحذركم بالقرآن ، وذلك شأني وما أمرني الله به ، وقوله : ﱡ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉﱠ إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي(  )أن يقوله لهم ، أو من جهة الله تعالى . والمعنى : أن من أصمّ الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء".

"ثم أمره تعالى أن يقول ﱡ ﱂ ﱃ ﱄﱅ ﱠ أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي ، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها ، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه . ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسباً و { الصم } هم المنذرون" .  

الملاحظ  إن آيات الإنذار تتضمن أسلوب الترهيب والترغيب في الخطاب مع الناس الذي يتضمن تعبئة نفسية إيجابية لغرض هدايتهم ومعرفة طريق الحق والتي استخدمها النبي محمد () كما استخدمها الأنبياء السابقين.

). ثانيا: النبي شعيب ( 

"هو رسول الله إلى  أهل مدين ، الذين سماهم التنزيل الحكيم أصحاب الأيكة  في قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲰ ﲱ  ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﱠ.

وكان من  الطبيعي أن يأتي التوحيد على رأس رسالته ، وهو ما نجده في قوله تعالىﱡﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ  ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ...ﱠ...." 

لقد كانت لشعيب عشيرة قوية يحسب لها حساب جعلت أسلوب خطابه قويا لا يبتعد عن الجو الرسالي الوديع الذي يحاول أن يجرهم إلى دعوته بالأسلوب اللين وهو من الاساليب المهمة في التعبئة النفسية الايجابية ليعبئهم مع الحق ضد الباطل كما أنه استطاع أن يجلب إلى دعوته بأسلوبه هذا الجماعات المضطهدة والمستضعفة من قومه ليواجه الجماعات الغنية المستكبرة وربما يكون هذا منطلقا من طبيعة الدعوة التي دعا اليها والمفاهيم التي بشر بها. 

الرسالة الالهية رسالة واقعية تنطلق في أهدافها وأساليبها من نظرتها إلى الإنسان وما يعتمل في نفسه من أحاسيس ومشاعر وما ينتابه من خوف أو رجاء. ومن هنا اعتمد أسلوب التبشير (الترغيب ) والتحذير ( الترهيب) في دعوته إلى الحق والخير وتجنب الباطل والشر،  مما يولد تعبئة نفسية إيجابية نحو الحق ضد الباطل لان التبشير وحده يفتح النفس رغباتها ومشتهياتها ويدفعها إلى التجرؤ والانسياق وراء المحرمات ، والتحذير وحده يغلق على النفس مطالبها الإساسية، ويبعثها على القنوط والشعور بالحرمان. وفي إطار هذين الاسلوبين ، يأتي حديث النبي شعيب مع قومه فتارة يأمرهم بالاستغفار ويقول: ﭐﱡﭐ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ  ﱡ ﱢ ﱣ ﱠ .... .

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ  ﱜﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ  ﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ ﱯ  ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ  ﱸ ﱹ ﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ  ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ  ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍﲎ ﲏ ﲐ ﲑ  ﲒ ﲓ ﱠ 

قال الطباطبائي " تذكر الآيات قصة شعيب () و قومه و هم أهل مدين، و كانوا يعبدون الأصنام، و كان قد شاع التطفيف في الكيل و الوزن عندهم و اشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا () إليهم فدعاهم إلى التوحيد و توفية الميزان و المكيال بالقسط و ترك الفساد في الأرض، و بشرهم و أنذرهم و بالغ في عظتهم و قد روي عن النبي () أنه قال: كان شعيب خطيب الإنبياء.

فلم يجبه القوم إلا بالرد و العصيان، هددوه بالرجم و الطرد من بينهم و بالغوا في إيذائه و إيذاء شرذمة من الناس آمنوا به و صدهم عن سبيل الله و داموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه و بينهم فأهلكهم الله تعالى".

يقول ابن عاشور "أمرهم بثلاثة أمور :

أحدها : إصلاح الاعتقاد ، وهو من إصلاح العقول والفكر .

وثالثها : صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض .

ووسط بينهما الثاني: وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأنّ إقدامهم عليه كان فاشياً فيهم حتّى نسوا ما فيه من قبح وفساد ، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان".

وهذا يعني ان النبي شعيب() أستخدم أسلوب اللين بالترغيب للدعوة ليعبئهم تعبئة نفسية ايجابية وكذلك أسلوب الترهيب اي حذرهم من عقاب الله الا إن طغيانهم أدى بهم إلى الهلاك.

ثالثا: النبي موسى وهارون ()

لقد كانت قصة النبي موسى()، في القرآن الكريم، من اكثر القصص القرآنية تكرارﴽ، فقد ذكرت في اكثر من ثلاثين موضعا.ولعل قيمتها غي هذه الحياة المتحركة ابدﴽ، في شخصية موسى القوية التي دخلت إلى الحياة في ظروف صعبة، منذ ولادته، وفي المجتمع المقهور المستعبد في ذلك الوقت.

كلف موسى() في جانب الطور بإبلاغ رسالة الله سبحانه إلى القبطيين عامة وفرعون خاصة، وجعل أخوه هارون عضدﴽ ووزيرﴽ له.فلما التقى أخاه وأبلغه الأمر الالهي ، عزما على أن يتوجهها إلى بلاط فرعون بلا خوف ولاتردد.

النبي موسى ()يخاطب العقل والوجدان في بداية الامر ، ثم يعمل بعد ذلك على كسر الحواجز النفسية والروحية التي تمنع العقل والوجدان من الادارك والفهم كما نجد موسى في هذه المخاطبة يتبع الأساليب المختلفة التي كانت تتصف باللين والرفق الأسلوب اللين تنفيذﴽ لامر ربه ، فكان يتوسل إلى فرعون أحيانا ويتحدث إليه بالقول اللين ويذكره بآيات الله أحيانا اخرى ، كما قد يشير إلى عذاب الاخرة وعاقبة الإصرار على الكفر والطغيان ثالثة أسلوب الترهيب، كل ذلك من أجل أن يحقق النبي غاياته التي يرمي إليها ، وهي: هداية الناس إلى الله سبحانه وسعادتهم في الدنيا والاخرة .    

نلاحظ إن النبي موسى ( عليه السلام) أستخدم أسلوب اللين والرفق للتعبئة الإيجابية في مخاطة فرعون وقومه .

 ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ  ﲏ ﲐ ﲑ ﭐ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ  ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ  ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ  ﲴ ﱠ.

« اذهب أنت و أخوك بآياتي » أي بحججي و دلالاتي و قيل بالآيات التسع عن ابن عباس « و لا تنيا في ذكري » أي و لا تضعفا في رسالتي عن ابن عباس و قيل و لا تفترا في أمري عن السدي و قيل و لا تقصرا عن محمد بن كعب أي لا يحملنكما خوف فرعون على أن تقصرا في أمري  ﲒ ﲓ ﲔ . 

 يبيّن الهدف الأصل لهذه الحركة، والنقطة التي يجب أن تكون هدفاً لتشخيص المسار، فيقول: ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ فإنّه سبب كلّ الشقاء والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة، وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أي عمل، لأنّ عامل تقدّم الاُمّة أو تخلّفها، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكّامها، ولذلك يجب أن يكونوا هدفكما قبل الجميع.

صحيح أنّ هارون لم يكن في ذلك الحين حاضراً في تلك الصحراء، ولكن الله أطلعه على هذه الحوادث كما ذكر المفسّرون، وقد خرج من مصر لإستقبال أخيه موسى لأداء هذه المهمّة، إلاّ أنّه لا مانع مطلقاً من أن يخاطبا معاً، وتوجّه إليهما مأمورية تبليغ الرسالة، في الوقت الذي لم يحضر غير أحدهما.

ثمّ بيّنت الآية طريقة التعامل المؤثّرة مع فرعون، فمن أجل أن تنفذا إليه وتؤثرا فيه ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ  ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ والفرق بين «يتذكّر» و «يخشى» هنا هو أنّكما إذا واجهتماه بكلام لطيف، رقيق، ملائم أي أسلوب الرفق واللين وهنا يستخدم تعبئة نفسية إيجابية مؤثرة، وتبيّنان في الوقت ذاته المطالب بصراحة وحزم، فيحصل أحد الإحتمالين: أن يقبل من صميم قلبه أدلتكما المنطقيّة ويؤمن، والإحتمال الآخر هو أن يخاف على الأقل من العقاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة، ومن زوال ملكه وقدرته، فيذعن ويسلم ولا يخالفكما.

ويوجد إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّه لا يتذكّر ولا يخشى، بل سيستمر في طريق المخالفة والمجابهة، وقد اُشير إلى ذلك بكلمة «لعلّ» وفي هذه الصورة فإنّ الحجّة قد تمّت عليه، وعلى كلّ حال فإنّ القيام بهذا العمل لا يخلو من فائدة.. 

"يلاحظ إن النبي موسى() يبدي تخوفه من فرعون بالرغم من السماء تطالبه بألا يني في مهمته ولكن مثل هذا التخوف يبدو وكأنه دافع غريزي مادام الامر متصلا ببداية الاضطلاع بالمسؤولية ، وبخاصة إن النص القصصي نفسه أضفى على الموقف ما يحسس الشخصية مناخ الخوف ، من نحو تكراره أن فرعون قد طغى مثلا.

بل إن اشارة النص إلى مخاطبة فرعون باللغة اللينة يحسس موسى بأنه حيال مهمه محفوفة بالأخطار، حيث سيواجه طاغية من الصعب أن يخضع لليونة القول وفعلا فان الاحداث اللاحقة ستكشف عن إن فرعون لن يتبع الهدى الذي رسم له وبأنه سوف يطغى اشد فأشد ..

على اية حال يظل عنصر التخوف في هذا الموقف، هو سمة ملحوظه يرسمها النص في القصة".

وقد وردت آيات تتحدث عن اللين نذكر منها:

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱉ ﱊ ﱋ  ﱌ ﱍ ﱎﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗﱘ  ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱡ ﱢ  ﱣ ﱤ ﱥﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ .

بين سبحانه مساهلة النبي محمد() إياهم وتجاوزه عنهم من رحمته سبحانه حيث جعله لين القلب حسن الخلق ومعناه: إن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين. وهذا ما يولد تعبئة نفسية إيجابية لهم لأنك تأتيهم مع سماحة اخلاقك بالحجج والبراهين. ولو كنت يا – محمد-جافيا، لتفرق أصحابك عنك. ﱡ ﱙ ﱠ ما بينك وبينهم ﱡﱛ ﱠ ما بينهم وبيني وقيل: معناه: فاعف عنهم فرارهم بأحد واستغفر لهم مم ذلك الذنب ﱡﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱠ ؛ أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم واختلفوا في مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي على اقوال . أحدها: إن ذلك على وجه التطيب لنفوسهم والتالف لهم والرفع منن أقدارهم أي تعبئتهم نفسيا ليظهر انهم ممن يوثق باقوالهم ويرجع الى اراءهم .وثانيها: إن ذلك ليقتدي به أمته في المشاورة ولايروها نقيضة كما مدحوا  بان أمرهم شورى بينهم وثالثها: إن ذلك ليمتحنهم بالمشاورة فيتميز الناصح من الغاش ورابعها: إن ذلك في مكايد الحرب وأمور الدنيا ولقاء العدو. وفي مثل ذلك يجوز إن يستعين بآرائهم ﱡﱡ ﱢ  ﱠ أي: اذا عزمت لك وأرشدتك ،فاعتمد على الله ﱡﱪ ﱠ:الواثقين به.

وﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ  ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ  ﱩ ﱪ ﱫﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱴ ﱵ  ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱠ.

جاء في تفسير هذه الآية ﱡﱚ ﱛ ﱠ الذي هو القرآن الكريم وهو يشبه بعضه بعض في البلاغة وحسن النظم أي أسلوبه الجميل وﱡﱞﱠ ثني وكرر فيه الاحكام والمواعظ أو لإنه يثني على الله وﱡﱟ ﱠﱠ ترتعد خوفا من وعيده ﱡﱦ ﱧ ﱨﱠ تطمئن وتسكن إلى ذكر الله.أي إن أسلوب الترهيب والترغيب يدفع إلى لين القلوب ويعبئهم تعبئة نفسية إيجابية.

وأخرى يحذرهم من عذاب الله سبحانه في الاخرة بقوله: ﱡﭐ ﱭ ﱮ ﱯ  ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱠ . ... .



             

                                             

                                             المبحث الثاني

أساليب التعبئة النفسية في قصص المؤمنين

اولا/ مؤمن آل فرعون

    أبرز القرآن الكريم دور هذا الرجل الرسالي في الدفاع عن النبي موسى() من خلال حواره الذي أداره مع قومه بكل هدوء ومحبة وحكمة ونصيحة من أجل توعيتهم وتبصيرهم بحقيقية الرسول والرسالة وتحذيرهم من مغبة التمادي في موقفهم المتعنت منهما. وإن هذا المؤمن كان يبطن الإيمان ويظهر الكفر عملاً بالتقية* لأنه لو أظهر الإيمان لقتل.

"أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى()، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه().

لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه السياق ـ ذكياً و لبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى() وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته".

  إن مؤمن آل فرعون يمثل ظاهرة مشرقة جديرة بتأمل والدرس وباعثة على إنبثاق الامل في ظلمات اليأس، عندما يجد الداعية الاجواء مكفهرة أمامه، فأنه سيلتقي بالآمال الخضراء في وجه جديد غير منتظر، يجمل الرسالة معه، ويجاهد من أجلها دون إعتبار للامتيازات أو الإغراءات المطروحة أمامه، أو الموجودة لديه.

ولعل القيمة الكبيرة لهذا المؤمن تتمثل في هذه الانطلاقة الإيمانية التي عاشت في نفسه ، فعبأت داخله بكل معاني الحياة الكبيرة التي تمثل التعبئة النفسية الإيجابية.

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ  ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ  ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱷ ﱸ ﱹ  ﱺ ﱻﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ  ﲃﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ  ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ  ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ  ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ.

قال السيد الطباطبائي "ظاهر السياق "أن من آل فرعون" صفة رجل و "يكتم إيمانه" صفة أخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون و هم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية".

تشير الايات الكريمات إن مؤمن آل فرعون أوضح لقومه أنّ عمل موسى() لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه..

وذكر الشيخ الطوسي "إن المؤمن قال لفرعون إن يك موسى كاذبا في ما يدعوكم إليه فوبال ذلك عليه وإن يك صادقا في ما يدعيه يصيبكم بعض الذي يعدكم " .

وقال الشيرازي أيضا" الموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة،  إذ إن مؤمن آل فرعون استخدم أسلوب اللين والحكمة ودورها في تعبئة القوم الذين يخاطبهم لتحويل تعبئتهم السلبية الى إبجابية ، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها و نعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي أسلوب الترهيب ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ  ﲎ  ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ  ﲘ ﲙ ﲚ ﲛﱠ.

ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة، وتستطيعون إتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى ()، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور. أي خوفهم أسلوب التحذيير (الترهيب)

ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: ﱡﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﱠ وهو إنّي أرى من المصلحة قتل موسى و لا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثمّ إنني : ﱡﲤ  ﲥ ﲦ ﲧ ﲨﱠ.

و هذه هو حال كافة الطواغيت و الجبّارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره، و لا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا...وهذا هو منتهى الجهل والحماقة 

وقال ابن عاشور" تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومَه فقاطعه كلامَه وبيَّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعاً إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد ، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلاً إلى نفوس مَلَئِه خيفة أن يتأثرُوا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى: .

"إن مؤمن آل فرعون اتسم بنضج الشخصية، وبالحكمة، وبالذكاء الاجتماعي، وبالموقف الفقهي السليم، لم يتدخل بشكل عاطفي أو ساذج، بل بنحو ذكي قائم على المحاجة التي تقطع على الاخرين حججهم، بغض النظر عن النتائج النهائية التي ترددت النصوص المفسرة في تحديدها ، الذاهب الى ان البطل قد نجا مع  موسى في عبور البحر، أو نجا من محاولة قتل خططت له... والمهم إن أسلوب تدخله قد اتسم بالنضج وبالحكمة وبالضرب على رغباتهم ذاتها".

اذا اتبع أسلوب اللين و الحكمة ذات التعبئة النفسية الايجابية في محاولة لتغير تعبئتهم السلبية الى ايجابية وأسلوبه الذي يتحدث به مع فرعون بطريقه غير مباشره.


ثانيا/ مؤمن آل يس

  هذا المؤمن انفصل عن الخط المنحرف الذي سار عليه قومه في طريق الكفر والضلال ومحاربة الانبياء والمرسلين (التعبئة النفسية السلبية) فالتزم جانب الإيمان والهدى، وساند الرسالات بالكلمة والموقف، ومتابعة الأساليب المتنوعة مع قومه لإقناعهم بالاستجابة إلى نداء الرسل وتعبئتهم تعيئة نفسية إيجابية.

وقد ورد الحديث عنه في القرآن الكريم في قصة الرسل الثلاثة، الذين انطلقوا إلى( أصحاب القرية) يدعونهم إلى الله وإلى رسالاته، فقابلوهم بالإنكار والتهديد والوعيد، حتى لم يبق لهم أي أمل في هداية أي شخص من أهل القرية وكانت المفاجئة بانتظارهم من حيث لايدرون ، فقد جاء هذا الرجل المؤمن يسعى من أقصى المدينة، ليرفع الصوت من جديد، ويدعوا قومه إلى الرسالة التي ينادي بها هؤلاء الرسل الثلاثة.

ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ  ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ  ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ  ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ  ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ  ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ  ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ ﳉ  ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ  ﱠ. 

     تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة .. وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه «حبيب النجّار» هو من الأشخاص الذين قُيّض لهم الإستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم، وكان مؤمناً ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الرسل، أسرع ـ كما يستشفّ من كلمة يسعى  أي إنه كان معبأ نفسيـاً بالإيمان وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما إستطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

إن قلب هذا الرجل المؤمن كان ينبض بالإيمان ، والحرص على هداية قومه، وقد تحمل تلك المسؤولية الخطيرة، غير عابئ بما يلحقه من أذى، وهو يجهر بكلمة الحق.

"ووصفُ الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعاً وأنه بلغه همُّ أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم ، فأراد أن ينصحهم خشيةً عليهم وعلى الرسل ، وهذا ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يُقتدَى به في الإِسراع إلى تغيير المنكر"

التعبير بـ «رجل» بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، وسلك طريقة فرداً وحيداً. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعاً عن الحقّ التعبير بـ «أقصى المدينة» يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان،المعبأة تعبئة نفسية إيجابية ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادةً تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول الحقّ والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة ﱡﲗ ﲘ  ﲙ ﲚ ﲛ ﱠ. فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر.

ثمّ يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: ﱡﲜ ﲝ ﱠ

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل، فيقول: ﱡﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ  ﲤ ﱠ.

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب، وليس الأصنام التي لاتضرّ ولا تنفع، الفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة. وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول: ﱡﲥ ﲦ ﱠ. وفي ثالث إستدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلا: ﱡﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ  ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ  ﲶ ﱠ. ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد: ﱡﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﱠ فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الإستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين ﱡﲾ ﲿ  ﳀ ﳁ ﱠ. لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه. .

قال الطبرسي "فأدخله الله الجنة و هوحي فيها يرزق وهو قولهﱡﳃ ﳄ ﳅﱠ ". 

    ان هذا الرجل إنتهض في هذا الموقف لتأييد الرسل () و نصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص أي معبأ بالايمان يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة و لذلك كان من المكرمين و لم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين و عباده المخلصين، و قد خاصم القوم فخصمهم و أبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه و وجوب عبادة آلهتهم و أثبت وجوب عبادته وحده و صدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم.

وخلاصة القول إن التعبئة النفسية الإيجابية لهذا الرجل تظهر واضحة عليه حيث جاء مسرعا لتغيير التعبئة النفسية السلبية لقومه إلى تعبئة نفسية إيجابية باستخدام الاستدلال على صدق الرسل وتوحيد الله ونبذ عبادة الاصنام والتضحية بالنفس لنيل أعلى الدرجات.

















الخاتمة:

بعد أن تمّ البحث في التعبئة النفسية في القرآن الكريم وفصوله الثلاثة ومباحثها، لابدّ من أن نشير الى اهم النتائج التي توصل اليها البحث:-

 تنوعت أساليب التعبئة النفسية في القران الكريم والتي يمكن تطبيقها في مجالات أخرى ومن اهم هذه الاساليب هي:

 1- أسلوب القصة: ان اسلوب القصة في القرآن الكريم جاء متميزا عن الاسلوب المعروف للقصة في التراث الادبي والانساني ، حيث يكتفي القران الكريم بذكر الاحداث بشكل إجمالي أحيانا وبدون ترتيبها الزماني أحيانا اخرى ، أو الانتقال فيها من حدث إلى آخر باقتطاع جانب من الاحداث ثالثة ،مضافا في التعرض إلى المفاهيم والحقائق والموضوعات العقائدية أو الاخلاقية أو الكونية أو الشرعية، وغير ذلك من الامتيازات والخصوصيات التي قد تثير ملاحظة كبيرة حول أسلوب القصة في القران الكريم ، بحيث تخرج من كونها عملا فنيا مستقلا له اهدافه الخاصة ، وتفقد بذلك القصة في القران الكريم هويتها الخاص

2- " القول الليّنُ : الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال ، بأن يظهر المتكلّم للمخاطب أنّ له من سداد الرأي ما يتقبّل به الحق ويميّز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله .

فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء الليّنِ . 

3- الموعظة: هو النهي الممتزج بالترغيب والتهديد، والموعظة: عبارة عن التذكير بنعم الله والطيبات ، والخيرات ، والبركات، والنصح والارشاد الى طريق الحق والرشاد، وكذلك التذكير بأهوال يوم الحساب وعقا المذنبين، والتخويف من عقاب الله للعاصين والمخالفين وانه تعالى رؤوف رحيم وشديد العقاب.

4- الترغيب: كل ما يشوق المدعو للاستجابة وقبول الحق والثبات عليه.

5-الترهيب: كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة او رفض الحق او عدم الثبات عليه بعد قبوله.  

6--القدوة الحسنة: من الوسائل المهمة في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الإسلام، السيرة الطيبة للداعي وافعاله الحميدة وصفاته العالية وأخلاقه الزاكية مما يجعله قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره ، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه معاني الاسلام فيقبلون عليها وينجذبون اليها ،لان التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ من واكثر من التأثر بالكلام فقط.

7- الحِكمةُ: مَرْجِعُها إلى العَدْل والعِلْم والحِلْم. ويقال: أحْكَمَتْه التَجارِبُ إذا كانَ حكيماً. وأَحْكَمَ فلانٌ عنّي كذا، أي: مَنَعَه.

8- المجادلة: من جدل والجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من: جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله. 

9- البرهان هو القياس المؤلف من اليقينيات، سواء كانت ابتداءً، وهي الضروريات أو بواسطة، وهي النظريات. والحد الأوسط فيه لا بد أن يكون علَّةً لنسبة الأكبر إلى الأصغر.  

10- ضرب الامثال: الضَّرْبُ يقَع على جميع الأعمال، ضَرْب في التجارةِ، وفي الأرض، وفي سبيل اللهِ، يصِفُ ذَهابَهم وأَخْذَهم فيه. 

وضَرَبَ يَدَه الى كذا، وضَرَبَ فلانٌ على يَدِ فلانٍ: حَبَسَ عليه أمراً أَخَذَ فيه وأراده، ومعناه: حَجَرَ عليه. بالإضافة الى السؤال والتأمل والتفكر وغيرها.

11-إن القرآن الكريم اهتم بجهاد النفس واهتم بثقافة المجتمع لتعبئة النفس تعبئة إيجابية.

12- إن القرآن الكريم احد الثقلين انتهى في كل أساليبه الى شقين من التعبئة النفسية هما الإيجابية والسلبية فهو يقرب القضايا الإيجابية ويبعد القضايا السلبية.

13-إن علماء الغرب او كتاب الغرب انما التقوا مع القران في اساليبه والقران كان سابقا لهم.

 

                                     المصادر والمراجع


القرآن الكريم.

أولا: الكتب.         

1.إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي(ت505هـ)، تحقيق سيد عمران، دار الحديث، القاهرة، 2004م.

2.إرشاد الاذهان في تفسير القران، السيد محمد السبزواري،دار التعارف للمطبوعات،د.ت.

3. إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلي، تحقيق السيد مهدي الرباني والسيد محمود المرعشي، منشورات السيد المرعشي، إيران، (د.ت).

4.إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي(ت982هـ)، وضع حواشيه عبد اللطيف عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط1، (1419هـ/1999م).

5.الأزهية في علم الحروف، علي بن محمد النحوي الهروي(ت415هـ)، تحقيق عبد الغني الملوحي، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، (1391هـ/1971م).

6.الإسلام وعلم النفس، د. محمود البستاني، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، ايران، ط1، 1409هـ.

7.أسباب النزول،أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري،تخريج وتنقيح عصام بن عبد المحسن الحميدان ،دار الاصلاح،ط2،الدمام ،1412ه-1992م

8.اصول الدعوة ،عبدالكريم زيدان،ط3 ، (1396 ه – 1976م).

9.الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، دراسة قرآنية لغوية وبيانية، د. عائشة عبد الرحمن(بنت الشاطئ)، دار المعارف، مصر، ط3(د.ت).

10.إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار اليمامة ودار ابن كثير، دمشق، بيروت، دار الإرشاد للشؤون الجامعية، سوريا،ط1، (1424هـ/2003م).

11. الإلهيات، جعفر السبحاني، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2016م.

12.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، (1423هـ/2002م).

13.الإيمان أركانه وشعبه، خليل مخيف الربيعي، مطبعة دار السلام، بغداد، 1987م.

14.ايسر التفاسيرلكلام العلي القدير،ابي بكرجابر الجزائري،ط3،1410ه -1990م.

15.البحر المحيط في التفسير، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان   الاندلسي،دار الفكر للطباعة والنشر،1432ه.

16.البلاغ في تفسير القرآن بالقران،محمد الصادقي الطهراني،مؤسسة اسماعليان بقم المشرفة،الناشر: مكتبة سماحة المؤلف،ط1،1419ه.

17.بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر(د.ت).

18.البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ(ت255هـ)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،(د.ت).

19.تأسيس ميتافيزيقيا الاخلاق،امانويل كانت،ترجمة عبدالغفار مكاوي، راجع الترجمة عبدالرحمن بدوي،منشورات الجمل،ط1،المانبا،2002م.

20.تاج العروس من جواهر القاموس،محمد بن محمد بن عبد الرزاق المرتضى الزبيدي،ط2، مطبعة الكويت ،دت.

21. تاريخ الفلسفة العربية، د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1970.

 22.التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(ت460هـ)، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، دار إحياء التراث العربي، (د.ت).

23.تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، ابن أبي الأصبع زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد المصري(ت654هـ)، تقديم وتحقيق د.حفني محمد شرف، لجنة إحياء التراث الإسلامي، الجمهورية العربية  المتحدة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، (1383هـ/1963م).

24.التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور،  دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997م.

25.التداولية اليوم، آن روبول وجاك موشلار، ترجمة د. سيف الدين دغفوس وزميله، المنظمة العربية للترجمة، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، لبنان، ط1، 2003م.

26.التدبر الموضوعي في القرآن الكريم، قراءة في المنهجين التجميعي والكشفي، دروس ألقاها الشيخ على آل موسى، كتبها عبد العزيز حسن آل زايد وآخرون، دار كميل للطباعة والنشر،ط1، (1430هـ/ 2009م).

27.تراث الإسلام، شاخت وبوزورث، ترجمة د. حسين مؤنس، وإحسان صدقي العمد، عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية شهرية، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط2، (ذو الحجة1398-محرم1399هـ/كانون أول1978م).

28-التربية الروحية ، كمال الحيدري،مراجعة عبدالرضا الافتخاري ،مؤسسة الامام الجواد للفكر والثقاغة ، 1433ه-2013م.

29.تصحيح اعتقادات الإمامية، محمد بن محمد بن النعمان بن المعلم، أبو عبد الله العكبري، البغدادي المعروف بالشيخ المفيد(ت413هـ)، تحقيق حسين دركاهي، نشر المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، مطبعة مهر، (1371ش.هـ/ 1413هـ.ق).

30. التعريفات، أبو الحسن علي بن محمد الجرجاني المعروف بالسيد الشريف(ت816هـ)، تقديم د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العراق،(1406هـ/1986م).

31.تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي (ت774هـ)، راجعه وخرج أحاديثه أيمن محمد نصر الدين، والدكتور عبد الرحمن الهاشمي، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، (1427هـ/2006م).

32.تفسير القمي، لأبي الحسن علي بن ابراهيم القمي،المصحح السيد طيب الجزائري،مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر،ط3،قم1404ه.

33.التفسير المعين للواعظين والمتعظين ، محمدهويدي

34.التفسير المبين، محمد جواد مغنية، دار التيار الجديد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط3، (1428هـ/ 2007م).

35.تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط1، (1365ه/ 1946م).

36.تهذيب الأخلاق، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ(ت255هـ)، قرأه وعلّق عليه أبو حذيفة إبراهيم بن محمد، دار الصحابة للتراث، للنشر والتحقيق والتوزيع، ط1، (1410هـ/ 1989م).

37.التوحيد، محمد بن علي بن الحسين بن باوبه الصودق(ت381هـ)، تحقيق السيد هاشم الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، إيران، ط1، 1430ه.ق.

38.الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي(ت671هـ)، تحقيق سالم البدري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط2، (1424هـ/2004م).

39.جهود السيد محمد باقر الصدر العقدية في مواجهة الأفكار والآراء الوافدة على الإسلام، جاسم القره غولي، مركز الإمام الصادق للدراسات والبحوث الإسلامية، ط1، (1439هـ/ 2018م).

40.الجواهر الحسان في تفسير القران تفسير الثعالبي،عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي المالكي،حققه علي محمدعوض عادل احمد عبدالموجود،دار احياء التراث العربي ، بيروت،ط،141ه-1997م.

41.الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين، السيد عبد الله شبر، تحقيق وتعليق أسامة الساعدي، ذوي القربى، قم، 1388ش.ه.

42.الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، هانز جورج غادامير، ترجمة د. حسن ناظم دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، ط1، 2007م.

43.الحوار في القرآن ، محمد حسين فضل الله، دار الملاك ، ط5 ، بيروت 1415هـ.

44.دائرة المعارف الاسلامية, مادة تفسير، أمين الخولي، دار صادر، لبنان، 1997م.

45.دراسات نقدية في فلسفة الدين، أديب صعب، دار النهار، بيروت، لبنان، 2005م.

46.دروس في العقيدة الإسلامية، محمد تقي مصباح الزيد، دار الرسول الأكرم(ص) للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط8، (1428هـ/ 2008م).

47.دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقران، محمد علي الرضائي الاصفهاني ، تعريب قاسم البيضاني،مركز المصطفى(ص) العالمي، للترجمة والنشر،ط2 ، قم ، 1431ه.

48.دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني(ت471هـ)، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، دار المدني، جدة، ط3، (1413هـ/ 1992م).

49.ديوان الاعشى الكبير، ميمون بن قيس، شرح وتعليق د.محمد محمدحسين، المكتب الشرقي للنشر والتوزيع ، بيروت. 

50.ديوان حميد بن ثور الهلالي، تحقيق عبد العزيز الميمني، الدار القومية للطباعة والنشر، (1384ه/ 1965م).

51.روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل محمد الآلوسي البغدادي(ت1270هـ)، تحقيق محمد أحمد أمين، وعمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1(1420هـ/1999م).

52.سنن الترمذي، محمد بن عيسى السلمي الترمذي (ت279هـ)، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ط2، (1403هـ/1983م).

53.شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري، ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق ابن عقيل، تأليف محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الغدير للطباعة والنشر والتجليد، قم، ط1، 1429هـ.

54.الصحاح المسمى تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري(توفي حدود 400هـ)، حققه وضبطه شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1418هـ/1998م.

55.عقود المرجان في تفسير القران ، السيد نعمة الله الجزائري، مؤسسة احياء الكتب الاسلامية،قم ،د.ت.

56- علم النفس معرفة النفس في الكتاب والسنة ،سميح عاطف الزين، دار الكتب المصرية، 1411ه-1991م.

57. علم النفس التعليمي، أسسه النظرية والتجريبية، سيد خير الله، مكتبة الفلاح، الكويت، 1982م.

58.العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175هـ)، تحقيق د.مهدي المخزومي، د.إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، إيران، ط2، 1409هـ.

59-غرر الحكم ودرر الكلم المفهرس،القاضي ناصح الدين ابي الفتح عبدالواحد بن محمد التميمي الامدي ،ترتيب وتدقيق عبد الحسن ذهبي المؤسسة الفكرية للمطبوعات ، ط1، 14138-1992م.

60.الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري(ت395هـ)،علق عليه ووضع حواشيه محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية،بيروت،ط4 (1427هـ/2006م).

61.فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، راجعه يوسف الغوش، دار المعرفة،ط4، بيروت 

،(1428ه/2007)م.

62.الفكر المقاصدي، قواعده وفوائده، أحمد الريسوني، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، (1424هـ/ 2003م).

63.الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر، ترجمة فؤاد كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987م.

64.فلسفة الدين، جون هيك، ترجمة طارق عسيلي، دار المعارف الحكمية، 2010م.

65.فلسفة الدين مدخل لدراسة منشأ الحاجة إلى الدين وتكامل الشرائع،السيد كمال الحيدري ،بقلم الشيخ علي حمود العبادي،مشورات دار فراقد، ط 1، (1429ه-2008م).

66.فلسفة الدين والتربية عند كنت، د.عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980م.

67.في سبيل منطق للمعنى، روبير مارتان، ترجمة وتقديم الطيب البكوش وزميله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ط1، 2006م.

68.القاموس السياسي، أحمد عطية عبد الله، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1941م.

69.القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي(ت817هـ)، رتبه ووثقه خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط2،(1428هـ/2007م).

70.القصص القراني، السيد محمد باقر الحكيم، الناشر:مؤسسة تراث الشهيد الحكيم ،مطبعة العتبة، النجف2 (2008م).

71.القصص القرآني قراءة معاصرة ،محمد شحرور،دار الساقي،ط1 بيروت،2012م. 

72. القصص القرآنية درسة ومعطيات وأهداف ، جعفر السبحاني، مؤسسة لامام الصادق()،ط1 ، 1427ه. 

73.قصص القران مقتبس من تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي ا ،اعداد وتنظيم حسين الحسيني ، د.ت.

74.قصص القران دلاليا وجماليا ، محمود البستاني،مؤسسة السبطين العالمية ،  ط2، قم ، 1428م.

75.القصص القرآنية وتاريخ الانبياء في تفسير الميزان،محمد حسين الطباطبائي، اعداد وتنظيم حسين فعال،دار الرسول الاكرم،ط2،بيروت، (1428هـ-2002م).

76.الكافي، الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحق(ت329هـ)، تحقيق علي أكبر غفاري، مطبعة حيدري، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1397هـ.

77.كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، الشيخ محمد علي بن علي بن محمد التهانوي الحنفي(ت بعد 1158هـ)، وضع حواشيه أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1(1418هـ/1998م).

78.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي(ت538هـ)، حققها على نسخة خطية: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، (1421هـ/2001م).

79. كنز الدقائق وبحر الفرائد، محمد بن محمد رضا القمي المشهدي(من أعلام ق12ه)، تحقيق حسين دركاهي، منشورات مؤسسة شمس الضحى، طهران، 1387ش.ه.

80. لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت711هـ)، اعتنى بتصحيحها أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، ط3، (د.ت).

81-ما الفرق بين النفس والروح، فيصل غازي محمد، بغداد ،1433ه-2012م .

82. المبادئ العامة في تفسير القرآن، محمد حسين الصغير، دار المؤرخ العربي، ط1، (1420هـ/ 2000م).

83.مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي(من أعلام ق6هـ)، حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الاختصاصيين، قدم له محسن الأمين العاملي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان،ط1، (1415هـ/1995م).

84.محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (د.م)، ط1، (1376هـ/1957م).

85.مدخل إلى علم النص ومجالاته التطبيقية، محمد الأخضر الصبيحي، الدار العربية للعلوم، الجزائر العاصمة، الجزائر،ط1(1429هـ/2008م).

86. المدرسة القرآنية، السيد محمد باقر الصدر(ت1401هـ)، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم المقدسة، ط4(د.ت).

87.المستطرف في كل فن مستظرف: شهاب الدين محمد بن أحمد الابشيهي(ت852هـ)، قدم له وضبط حواشيه، د.صلاح الدين الهواري، دار ومكتبة الهلال، بيروت ـ لبنان، ط1، (2000م).

88.مسند ابن أبي حاتم ، عبد الرحمن بن محمد بن حاتم بن إدريس الرازي(ت327هـ)، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، (1417هـ/ 1997م).

89.معاني الحروف، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني(ت384هـ)، حققه وخرج شواهده، وعلق عليه، د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، جدة، السعودية، ط3(1401هـ/1984م).

90.معاني القرآن وإعرابه، المسمّى المختصر في إعراب القرآن ومعانيه، أبو اسحق إبراهيم محمد بن السري الزجاج(ت311هـ)،علق عليه ووضع حواشيه أحمد فتحي عبد الرحمن حجازي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط1(1428هـ/2007م).

91.معاني النحو، د. فاضل السامرائي، مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان،ط1،(1428هـ/2007م).

92.معجم الأسلوبيات، كاتي وايلز، ترجمة خالد الاشهب، بيروت ، لبنان، ط1، 2014م.

93.المعجم الفلسفي،د.جميل صليبا،مطبعة سليمان زاده، قم، ط1، 1385هـ.

94.المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ،  مكتبة الشروق الدولية،ط4، مصر، 2004م.

95.معجم حياة الحيوان المصور، تأليف وتعريب محمد كاظم المليكي، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع/ النجف، لصاحبها الحاج مسلم حميد الدجيلي، ط1 (1988-1989م).

96.معجم علم النفس، د. فاخر عاقل، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1977م.

97.المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ر.بودون وف. بوريكو، ترجمة د. سليم حداد، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2(1428هـ/2007م).

98.مفاتيح الغيب، محمد بن فخر الدين بن ضياء الدين الرازي(ت604هـ)، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط3، (1405هـ/1985م).

99.مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني (ت502)، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، مطبعة أميران، قم، ط3، (د.ت).

100.مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا (ت395هـ)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (د.ت).

101.من هدي النبي والعترة في تهذيب النفس وآداب العترة، أحمد كاظم البهادلي، (د.م)، 1994م.

102.مناهج البحث في التربية وعلم النفس، د. جابر عبد الحميد جبار، ود. أحمد خيري كاظم، دار النهضة العربية، القاهرة، 1973م.

103.مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني، د. ستار جبر حمود الأعرجي، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها بيت الحكمة، العدد(8)، بغداد، 2008م.

104.المنهج، معرفة المعرفة، إدغار موران، ترجمة د. يوسف تيبس، أفريقيا الشرق، المغرب، 2013م.

105.منهجية البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، زياد خليل محمد الدماغين، دار الكتب العلمية، بيروت (د.ت).

106.منهجية البحث، تقنيات ومناهج، د. يوسف عبد الأمير طباجة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، (1428هـ/ 2007م).

107.الموسوعة العسكرية، فراس البيطار، دار أُسامة، عمّان، الأردن، 2003م.

108.الموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العلماء والاكاديميين السوفياتيين، بأشراف م. روزنتال، وي. يودين، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، ط5، 1985م.

109.الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي(ت1402هـ)، منشورات مؤسسة دار المجتبى للمطبوعات، قم، إيران، ط1، (1425هـ/2004م).

110.نظرية المعرفة العلمية، روبير بلانشيه، ترجمة د. حسن عبد الحميد، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، (1429هـ/ 2014م).

111.نظرية العدل في الفكر الأوربي والفكر الإسلامي، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، (د.ت).

112.نهج البلاغة، ضبط نصه وأبتكر فهارسه العلمية د.صبحي الصالح، مطبعة رسول، قم، ايران، ط1، 1426هـ.

ثانيا: الرسائل الجامعية:

1.التعبئة المعنوية في القرآن الكريم، علام عبد القادر محمود نعنع، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا-جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين، 2007م.

2.التفكير الأخلاقي وعلاقته بالمسؤولية الاجتماعية وبعض المتغيرات لدى طلبة الجامعة الإسلامية-غزة، ميسون محمد عبد القادر مشرف، رسالة ماجستير، كلية التربية علم النفس –إرشاد نفسي، الجامعة الإسلامية غزة (1430هـ/ 2009م).

3.المثل الأخلاقية في شعر العصر العباسي الأول، عدنان كريم رجب، رسالة ماجستير، كلية الآداب- جامعة بغداد، 1988م.


ثالثا: البحوث المنشورة في المجلات العلمية:

1.التريبة الخلقية والبناء المتكامل للشخصية، محمد عوض محمد، بحث منشور في مجلة التواصل-جامعة عدن، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، عدن، 2044م.

2. مدرسة الحكمة المتعالية، المنهج والخصائص والمقارنات، د. يحيى كبير، بحث منشور في مجلة نصوص معاصرة، مجلة فصلية تعنى بالفكر الديني المعاصر، العدد(11) السنة الثالثة، (1428هــ/2007م).



رابعا: المقالات المنشورة على المواقع الالكترونية:

1.الإعجاز العلمي في قوله تعالى: ﴿نسوّي بنانه﴾، بحث متاح على الموقع الالكتروني إسلام ويب: www.islamweb.net/ar/fatwa/39959

2. لماذا يحتاج الإنسان والمجتمع الى التدين؟، السيد علي الحائري، مقال منشور على الموقع الالكتروني (الحقائق الإسلامية).

www.Research.rafed.net


Comments