أصالة تأخّر الحادث - الشيخ عباس السراج

 المبحث الثالث : أصالة تأخّر الحادث

وفيه مطلبان وتمهيد :

المطلب الأوّل : الشكُّ في تقدّم الحادث وتأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان .

المطلب الثاني : الشكُّ في تقدّم الحادث وتأخّره بالنسبة إلى حادث آخر .

تمهيد

إنَّ الشكَّ على نحوين:

الأوّل: أنْ يكون في أصل تحقّق الحكم أو الموضوع.

الثاني: أنْ يكون في تقدّمه وتأخّره مع العلم بحصوله في زمان ما.

فالأوّل لا إشكال – في الجملة – في جريان عدم التحقّق، كالشكِّ في طهارة شيءٍ بعد العلم بنجاسته، فإنّه يجري استصحاب عدم تحقّق الطهارة، وكالشكِّ في موت الغائب بعد العلم بحياته، فإنّه يجري استصحاب عدم تحقّق موته. هذا في الشبهات الموضوعيّة.

وكذا الحال في الشبهات الحكميّة كما لو كنّا على يقين بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ثمَّ شككنا بتحقّق الوجوب بعد ذلك، فلا إشكال في استصحاب عدم تحقّق الوجوب.

وأمّا الثاني فهو مورد الكلام في هذا المطلب.

والغرض من عقد هذا المبحث التعرّض لجريان الأصل المعروف بأصالة تأخّر الحادث في الحادثين المعلوم حدوثهما وعدم جريانه فيهما، وبيان الصور التي يختلف باختلافها حكم الأصل الجاري فيها. 

فالمبحوث عنه في هذا المبحث هو: أنَّ الاستصحاب هل يجري في الوجود والعدم المضافين إلى زمان خاصّ كترتّب الأثر على إسلام زيد مثلاً يوم الجمعة أم المضافين إلى زماني خاصّ كإسلامه قبل القسمة، كما يجري في الوجود والعدم المضافين إلى الماهية كوجود زيد وعدمه أو لا ؟.

ويقع الكلام فيه في مطلبين.


المطلب الأوّل: الشكُّ في تقدّم الحادث وتأخّره بالنسبة إلى أجزاء الزمان 

 إنَّ هذا المورد يمكن تمثيله فيما إذا علمنا بموت زيد في زمان ما وشككنا في مبدأ حدوث موته هل هو يوم الخميس أو يوم الجمعة ؟

ومثاله في الشرعيّات: ما إذا علم يوم الجمعة بأنَّ زوجته قد خرجت عن النشوز، ولكن لم يعلم أنَّ خروجها عن النشوز حدث في يوم الخميس أو حدث في يوم الجمعة، فهل يجري استصحاب عدم خروجها عن النشوز إلى يوم الجمعة فلا تشتغل ذمّته بنفقة يوم الخميس أو لا يجري الاستصحاب في المقام ؟ 

ولا إشكال في جريان استصحاب عدم حدوث موت زيد في يوم الخميس بالنسبة إلى المثال الأوّل؛ لأنّه يشكُّ في حدوث موته في يوم الخميس فالأصل عدمه، وتترتّب آثار عدم حدوث الموت إلى يوم الجمعة، كوجوب الإنفاق على زوجته، وحرمة تقسيم ماله على ورثته.

وأمّا الآثار المترتّبة على تأخّر الحدوث عن يوم الخميس فلا تثبت؛ لأنَّ الثابت بالاستصحاب هو عدم الحدوث يوم الخميس، وأمّا تأخّر الحدوث عن يوم الخميس فهو لازمٌ عقليٌّ لعدم الحدوث يوم الخميس، وقد تقدّم في المبحث الأوّل أنَّ الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقليّة إلاَّ:

1 – بدعوى خفاء الواسطة

بتقريب: إنَّ آثار تأخّر الحادث عن يوم الخميس هي آثار لعدم تحقّق الحادث في يوم الخميس بنظر العرف، فالواسطة بين آثار عدم تحقّق الحادث خفيّة بنظر العرف، وقد تقدّم في المبحث الأوّل أنَّ الواسطة إذا كانت خفيّةً يكون الأصل المثبت حجّةً عند المشهور .

2 – أو دعوى عدم التفكيك بين عدم الحدوث والتأخّر

بتقريب: أنّه لا يمكن التفكيك بين عدم الحدوث في يوم الخميس وبين تأخّر حدوثه عن يوم الخميس، فكما لا تفكيك بينهما واقعاً وحقيقةً كذلك لا تفكيك بينهما تنزيلاً.

 وكذا لا يثبت بهذا الاستصحاب الآثار المترتّبة على الحدوث في الزمان الثاني – أي في يوم الجمعة –؛ لأنَّ الحدوث في يوم الجمعة لازمٌ عقليٌّ لعدم الحدوث في يوم الخميس .

استدراك على ما تقدّم

نعم لا بأس بترتيب آثار الحدوث في الزمان الثاني – أي يوم الجمعة – باستصحاب عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل – أي يوم الخميس – بناءً على أنَّ الحدوث مركّبٌ:

1 – من الوجود في الزمان اللاحق.

2 – عدم الوجود في الزمان السابق.

والجزء الأوّل محرزٌ بالوجدان؛ لعلمنا بالحدوث يوم الجمعة.

والجزء الثاني وهو عدم الوجود (الوجدان) في الزمان السابق محرزٌ بالاستصحاب، أي استصحاب عدم الحدوث في الزمان السابق – أي يوم الخميس –، فيثبت الحدوث حينئذٍ؛ لأنَّ موضوعه يتحقّق، فتترتّب عليه آثاره . 


المطلب الثاني: الشكُّ في تقدّم الحادث وتأخّره بالنسبة إلى حادث آخر

إنَّ هذا المورد يمكن تمثيله فيما إذا علمنا بموت الوالد وإسلام الولد، وشككنا في أنَّ الإسلام هل متقدّمٌ على الموت ليرث الولد من والده أو أنّه متأخّرٌ عنه لكي لا يرث منه ؟ 

فكلٌّ من الموت والإسلام حادثٌ في تقدّمه وتأخّره.

وفي المقام صورتان رئيسيتان هما:

الأولى: أنْ يكون الحادثان مجهولي التأريخ.

الثانية: أنْ يكون أحد الحادثين معلوم التأريخ، والآخر مجهول.

وكلٌّ من الصورتين تشتمل على حالات أربع، فعلى كلا التقديرين: إنَّ الأثر يترتّب تارة على الوجود الخاصّ من السبق واللحوق والتقارن، وأخرى على عدم الوجود الخاصّ.

وعلى كلا التقديرين: إمّا أنْ يكون الأثر مترتّباً على الوجود والعدم بمفاد كان وليس التامّتين، أو على الوجود والعدم بمفاد كان وليس الناقصتين () . 

فهنا صورتان رئيسيتان في المسألة ، وفي كلِّ صورة حالات أربع ، فتتشكّل عندنا ثمان حالات حاصلة من              ضرب 2 × 2 × 2 .


الصورة الأولى: أنْ يكون الحادثان مجهولي التأريخ. وفيها حالات أربع:

الحالة الأولى: وفيها قسمان:

القسم الأوّل: أنْ يكون الأثر مترتّباً على وجود أحد الحادثين بنحو خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن دون الحادث الآخر.

مثاله: تقدّم إسلام الولد على موت والده، فإنَّ أحد الحادثين – وهو إسلام الولد – لا يترتّب عليه الأثر إلاَّ على وجوده بنحو خاصّ وهو التقدّم على الحادث الآخر وهو موت الوالد؛ إذ لو تأخّر إسلام الولد عن موت والده فلا أثر له، وكذا الحال في التأخّر والتقارن، كملاقاة الثوب المتنجّس للماء، فإنَّ أثر الملاقاة – وهي الطهارة – مترتّبٌ على الملاقاة بنحو خاصّ وهو تأخّر الملاقاة عن كرّيّة الماء؛ إذ لا أثر للملاقاة قبل حصول الكرّيّة. وكتقارن عقدي الأختين زماناً لرجل، فإنَّ الأثر المترتّب وهو بطلان العقدين يترتّب على تقارنهما. وكما إذا ماتت الزوجة متقدّماً على الزوج فعليه كفنها، وأمّا إذا ماتت بعد الزوج أو ماتا متقارناً فليس كفنها عليه.

حكم هذا القسم: جريان استصحاب عدم الحادث بلا معارض، فنستصحب عدم تقدّم إسلامه ونحكم بعدم الإرث، كما نستصحب عدم كون موت الزوجة متقدّماً ويحكم بعدم وجوب كفنها على الزوج؛ إذ المفروض أنَّ الحادث الآخر لا أثر له فلا يجري فيه الاستصحاب حتّى يعارض الاستصحاب الجاري في الموضوع ذي الأثر. هذا لو كان الأثر مترتّباً على أحد الحادثين بنحو خاصّ دون الحادث الآخر.

القسم الثاني: ما إذا كان لتقدّم كلٍّ من الحادثين أو تأخّره أو تقارنه أثرٌ، أو كان كلٌّ من الحادثين بجميع أنحائه من التقدّم والتأخّر والتقارن ذا أثر.

حكم هذا القسم: اختلفت أقوال الأصوليّين في هذا القسم على قولين:

الأوّل: ما اختاره الآخوند الخراسانيّ من عدم جريان استصحاب العدم في شيءٍ من الحادثين؛ لمعارضته باستصحاب العدم في الحادث الآخر؛ إذ المفروض أنَّ الأثر يترتّب على كلا الحادثين، فلا يجري استصحاب عدم السبق في أحدهما؛ للمعارضة باستصحاب عدم السبق في الآخر. 

فأركان الاستصحاب في كلٍّ من الحادثين متوفّرةٌ، وهذا يقتضي جريان الاستصحاب في كلٍّ منهما، إلاَّ أنَّ المانع وهو التعارض أوجب سقوطهما عن الحجّيّة .

الثاني: ما تبنّاه السيّد الخوئيّ ، من جريان الاستصحاب في المقام.

بتقريب: إنَّ في المقام موردين:

1 – أنّه إذا كان الأثر الشرعيّ لسبق كلّ منهما على الآخر فيتمسّك بأصالة عدم السبق في كلٍّ منهما.

2 – وكذا إذا كان الأثر لسبق أحدهما على الآخر، وكان لتأخّره عن الآخر أيضاً أثرٌ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في عدم السبق والتأخّر.   ولا معارضة بين الأصلين في كلا الموردين؛ لاحتمال التقارن.

نعم لو كان لنا علم إجماليّ بسبق أحدهما على الآخر فلا تجري أصالة عدم السبق؛ للمعارضة بعدم سبق الآخر في المورد الأوّل، ومعارضتها بأصالة التأخّر في المورد الثاني .

هذا إذا كان الأثر الشرعيّ مترتّباً على الوجود الخاصّ لأحد الحادثين أو كليهما بنحو الوجود المحموليّ الذي هو مفاد كان التامّة.

 الحالة الثانية: أنْ يكون الأثر مترتّباً على وجود أحد الحادثين المتّصف بالتقدّم أو التقارن أو التأخّر بمفاد كان الناقصة.

مثالها: كما إذا فرض أنَّ الإرث مترتّب على كون موت المورّث متّصفاً بالتقدّم على موت الوارث.

حكم هذه الحالة: اختلفت أقوال الأصوليّين في هذه الحالة على قولين:

الأوّل: ما اختاره الآخوند الخراسانيّ من أنّه لا مورد ههنا للاستصحاب؛ وذلك لعدم كون الوجود بمفاد كان الناقصة متعلّقاً لليقين والشكِّ، فإنّه لم يكن لنا علمٌ باتّصاف المورّث أو الوارث بالسبق على الآخر، ولا بعدم اتّصافه به حتّى يكون مورداً للاستصحاب؛ إذ أنَّ اتّصاف موت المورّث بكونه مقدّماً على موت الوارث غير متيقّن سابقاً حتّى يستصحب، فإنّه في حال حياة المورّث لم يكن هناك موت حتّى يتّصف بالتقدّم على موت الوارث؛ فإنَّ الاتّصاف فرع الوجود، أي الاتّصاف بالتقدّم فرع إحراز الموت أوّلاً ثمَّ إنّه يتّصف هذا الموت بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن، والمفروض عدم إحراز الموت . 

الثاني: ما تبنّاه السيّد الخوئيّ ، والسيّد الخمينيّ ، من جريان الاستصحاب في المقام.

بتقريب: أنّه لا يعتبر في استصحاب عدم الاتّصاف بالسبق وجوده في زمانٍ لم يتّصف به، بل يكفي عدم اتّصافه به حين لم يكن موجوداً، فيجري الاستصحاب في المقام أيضاً إلاَّ مع العلم الإجماليّ بسبق أحدهما على الآخر فلا تجري أصالة عدم السبق؛ للمعارضة بعدم سبق الآخر، ومعارضتها بأصالة التأخّر .

الحالة الثالثة: أنْ يكون الأثر مترتّباً على وجود أحد الحادثين متّصفاً بالعدم في زمان حدوث الآخر، أي يكون العدم نعتيّاً بنحو مفاد ليس الناقصة.

مثالها: ملاقاة الثوب المتنجّس للماء؛ إذ لا يعلم أنّه لاقى الماء قبل كرّيّته فبقى على نجاسته، أو لاقاه بعد كرّيّته فصار طاهراً. فتكون طهارة الثوب المتنجّس الملاقي للماء مترتّبةً على كون الملاقاة متّصفة بعدمها آن حدوث كرّيّة الماء؛ لعدم ترتّب طهارته على مطلق الملاقاة، ولو قبل كرّيّته.

حكم هذه الحالة: اختلفت أقوال الأصوليّين في هذه الحالة على أقوال:

الأوّل: ما تبنّاه الآخوند الخراسانيّ من أنّه لا مورد ههنا للاستصحاب؛ وذلك لعدم اليقين السابق؛ إذ لا علم لنا بأنَّ الحادث متّصفٌ بالعدم في زمان حدوث الآخر حتّى يستصحب، بل مقتضى الاستصحاب عدم حدوثه متّصفاً بالعدم في زمان حدوث الآخر؛ لكون عدم الاتّصاف بهذا الوصف معلوماً في السابق فيستصحب .

الثاني: ما اختاره السيّد الخوئيّ، من جريان الاستصحاب في المقام.

بتقريب: إنَّ الاستصحاب وإنْ لم يجرِ في عدم الوصف إلاَّ أنّه جارٍ في عدم الاتّصاف .

الثالث: ما يظهر من السيّد الخمينيّ من القول بجريان الاستصحاب في نفسه، وعدم جريانه إنّما هو بمعارضته عدم الآخر في زمانه .

الحالة الرابعة: أنْ يكون الأثر مترتّباً على عدم أحدهما في زمان الآخر عدماً محموليّاً بنحو مفاد ليس التامّة.

 مثالها: ما إذا علمنا بموت الوالد وإسلام الولد، ولم نعلم تقدّم أحدهما على الآخر، والمفروض إناطة إرث الولد بالإسلام قبل موت الوالد، فيكون الحكم بالإرث مترتّباً على عدم موت الوالد في زمان حدوث إسلام الولد.

حكم هذه الحالة: اختلفت أنظار الأعلام على قولين:

الأوّل: ما ذهب إليه الآخوند الخراسانيّ ، والمحقّق النائينيّ في بعض كتبه ، والمحقّق العراقيّ ، من أنّه                لا مورد ههنا للاستصحاب.

تفصيل كلام الآخوند الخراسانيّ: أنّه لابدَّ في جريان الاستصحاب من اتّصال زمان الشكِّ بزمان اليقين، فلا تشمل أدلّة الاستصحاب موارد :

أ – انفصال زمان الشكِّ عن زمان اليقين.

ب – بل ولا مواد احتمال الانفصال.

وذلك لأنّه بدون إحراز الاتّصال لا يصدق النقض المنهيّ عنه.

فمثلاً لو علمنا بعدالة زيد عند الصباح ثمَّ علمنا بفسقه عند الزوال، ثمَّ شككنا بعدالته بعد الزوال، فالحكم بعدم عدالته بعد الزوال لا يعدّ نقضاً لليقين بعدالته حين الصباح، ولو مسامحةً كي يشمله دليل: ((.. لا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ..)) ؛ لأنَّ المشكوك غير المتيقّن، فالنقض لا يصدق بعد انفصال زمان الشكِّ عن زمان اليقين، بل يصدق في صورة اتّصالهما.

مثال آخر: لو علمنا إجمالاً بموت كلٍّ من زيد وعمرو على التعاقب، وأنّه مات أحدهما في يوم الخميس، والآخر في يوم الجمعة، ولم يعلم أنَّ أيّهما مات في يوم الجمعة وأيّهما مات في يوم الخميس . 

فهنا أزمنة ثلاثة:

1 – زمان العلم بعدم موتهما معاً، وهو يوم الأربعاء.

2 – زمان العلم الإجماليّ بحدوث موت أحدهما، وهو يوم الخميس.

3 – زمان العلم الإجماليّ بحدوث موت الآخر، وهو يوم الجمعة.

فبعد يوم الأربعاء زمانان:

الأوّل: زمان العلم الإجماليّ بحدوث موت أحدهما، وهو يوم الخميس.

الثاني: زمان العلم الإجماليّ بحدوث الحادث الآخر، وهو يوم الجمعة الذي يكون ظرفاً (زماناً) للشكِّ في أنَّ موت زيد هل حدث فيه أم في الزمان الذي قبله وهو يوم الخميس ؟

وبما أنّه حصل الشكُّ في أنَّ أيّهما مقدّمٌ وأيّهما مؤخّرٌ لم يحرز اتّصال زمان الشكِّ بزمان اليقين؛ لأنَّ حدوث موت زيد:

أ – إنْ كان يوم الجمعة فقد اتّصل زمان الشكِّ، وهو يوم الجمعة بزمان اليقين، وهو يوم الأربعاء.

ب – وإنْ كان حدوث موته يوم الخميس فقد انفصل زمان الشكِّ عن زمان اليقين؛ وذلك لتخلّل اليقين بموته في الخميس المتخلّل بين يومي الأربعاء والجمعة. 

وبما أنّه لم يحرز حدوث موته يوم الجمعة لم يحرز الاتّصال.

ومع عدم إحراز الاتّصال لا مجال للاستصحاب؛ إذ أنّه لم يحرز معه موضوع دليل الاستصحاب، وهو نقض اليقين بالشكِّ؛ لاحتمال كون رفع اليد عن اليقين السابق من نقض اليقين باليقين .

فالنتيجة: أنَّ المورد من موارد انفصال زمان الشكِّ عن زمان اليقين، فلا يجري الاستصحاب.

تعقيب ومناقشة 

يبدو أنَّ ما ذكره الآخوند الخراسانيّ قابلٌ للمناقشة؛ إذ لا مجال للتردّد في الاتّصال وعدمه؛ لأنَّ الشكَّ واليقين من الصفات الوجدانيّة التي لا تقبل التردّد، فلابدَّ:

أ – إمّا من إحراز اتّصالهما.                                                         ب – أو إحراز انفصالهما.

ولا معنى لحصول الشبهة المصداقيّة بالنسبة إلى الشكِّ واليقين، نعم لو كان مفاد ((.. لا تنقض اليقين أبداً بالشكِّ..))  هو المنع عن انتقاض المتيقّن بالمشكوك – لا اليقين بالشكِّ – فللتردّد في حصول الاتّصال وعدمه مجالٌ؛ لكون المتيقّن والمشكوك من الصفات الواقعيّة التي تقبل الشكّ.


الثاني: ما تبنّاه المحقّق الأصفهانيّ ، وتبعه تلميذه السيّد الخوئيّ ، من جريان الاستصحاب في المقام.

بتقريب: أنّه لا يعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشكِّ؛ لصحة جريان الاستصحاب مع حدوثهما معاً، وإنّما المعتبر تقدّم زمان المتيقّن على زمان المشكوك فيه، بأنْ يكون المتيقّن هو حدوث الشيء والمشكوك فيه هو بقائه .

فالمعتبر في الاستصحاب إنّما هو اتّصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بزمان المتيقّن بما هو متيقّن، لا أنَّ المعتبر فيه اتّصال زمان المشكوك بزمان المتيقّن؛ لأنَّ تحقّق ركني الاستصحاب لا يتوقّف على ثبوت المتيقّن والمشكوك واقعاً، بل يتوقّف على كون المتيقّن حاصلاً في أفق اليقين، وكون المشكوك حاصلاً في أفق الشكِّ. وعليه فيكون المعتبر هو اتّصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقّن بما هو متيقّن، وهو محرَزٌ في المقام؛ لأنَّ المشكوك هو عدم موت المورّث في زمان إسلام الوارث، وهو حاصلٌ في الزمان الثاني – أي يوم الجمعة –، فالآن الثاني زمان الشكِّ أيضاً .

فالنتيجة: عدم انفصال زمان الشكِّ عن زمان اليقين.

وبذلك يرى السيّد الخوئيّ جريان الاستصحاب في هذه الصورة – بحالاتها الأربع – .

وتبيّن من خلال استعراض الأقوال ومناقشتها أنَّ رأي السيّد الخوئيّ هو الأحرى بالقبول.

الصورة الثانية: أنْ يكون أحد الحادثين معلوم التأريخ، والآخر مجهول. وفيها حالات أربع:

فإنَّ الأثر الشرعيّ تارةً تترتّب على الوجود المحموليّ بمعنى وجود أحدهما أو كليهما بنحوٍ خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن المعبّر عنه بمفاد كان التامّة، وأخرى يترتّب الأثر الشرعيّ على الوجود النعتيّ المعبّر عنه بمفاد كان الناقصة بمعنى اتّصاف أحد الحادثين أو كليهما بالتقدّم أو التأخّر أو التقارن، وثالثةً يكون الأثر الشرعيّ مترتّباً على العدم المحموليّ المعبّر عنه بمفاد ليس التامّة بمعنى عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر، ورابعةً يترتّب الأثر الشرعيّ على العدم النعتيّ المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة بمعنى عدم اتّصاف أحدهما بالعدم في زمان حدوث الآخر . 

فهنا حالات أربع:

أمّا الكلام في الحالة الأولى: وهي ما إذا كان الأثر مترتّباً على الوجود المحموليّ بمفاد كان التامّة. 

فتفصيله يقع في موردين:

الأوّل: جريان الاستصحاب في حدّ نفسه 

ولا إشكال في أنَّ الاستصحاب جارٍ في حدّ نفسه في هذه الحالة فنستصحب العدم، أي عدم التقارن أو التأخّر أو التقدّم، كما لو علمنا بموت المورّث يوم السبت وشككنا في تأريخ إسلام الوارث، وأنّه هل يكون متقدّماً على موت المورّث – أي في يوم الجمعة – لكيّ يترتّب الأثر ويرث منه أو لا ؟ فنستصحب عدم التقدّم ولا يرث. هذا فيما إذا كان الأثر لأحد الحادثين فقط .

الثاني: ما إذا كان الأثر للطرفين أو لوصفين في طرف واحد 

ففي هذا المورد لا يجري الاستصحاب؛ لأنّه يسقط بالمعارضة، كما هو الحال في إسلام الوارث قبل قسمة التركة على الورثة، والقسمة قبل الإسلام، فإنَّ لكلٍّ منهما أثراً شرعيّاً إذا تقدّم على الآخر؛ إذ أنَّ إسلام الوارث:

أ – إنْ كان قبل القسمة كان موجباً لاستحقاقه من الإرث.

ب – وإنْ كانت القسمة قبل إسلام الوارث فإنّها توجب تقسيم الإرث على بقيّة الورثة دون مشاركة مَنْ يسلم بعد القسمة.

وعليه فلا يجري استصحاب عدم التقدّم في أحدهما؛ لمعارضته باستصحاب عدم التقدّم في الآخر، فيسقطان بالمعارضة .


وأمّا الكلام في الحالة الثانية: وهي ما إذا كان الأثر مترتّباً على الوجود النعتيّ بمفاد كان الناقصة.

فحكمها: عدم جريان الاستصحاب فيها:

أ – لا في الحادث المعلوم تأريخه.                                                ب – ولا في الحادث المجهول تأريخه.

وذلك لعدم اليقين السابق بكليهما؛ ضرورة اتّصاف أحد الحادثين أو كليهما بالتقدّم أو التأخّر ليس متيقّناً في السابق حتّى يستصحب؛ فإنَّ الإسلام الموصوف بكونه قبل موت المورّث ليس له حالة متيقّنة في السابق حتّى تستصحب.

أمّا بالنسبة للحادث المجهول تأريخه (فرع ب) فواضحٌ؛ فإنَّ إسلام الوارث مجهول التأريخ، فلا يعلم أنّه متقدّمٌ على موت المورّث أو متأخّرٌ حتّى يمكن اتّصافه بالتقدّم.

وأمّا بالنسبة إلى الحادث المعلوم تأريخه (فرع أ) فكذلك؛ فإنَّ موت المورّث وإنْ كان معلوماً وأنّه يوم الجمعة – مثلاً – إلاَّ أنّه معلومٌ بالنسبة إلى عمود الزمان وأنّه في يوم الجمعة، وأمّا بالإضافة إلى تقدّمه على الحادث الآخر فهو مشكوكٌ فيه ولا يقين بذلك، والذي ينفع في المقام هو علمنا بتقدّمه على الحادث الآخر .

فالنتيجة: أنَّ الاستصحاب لا يجري في المقام؛ لأنَّ اتّصاف أحد الحادثين أو كليهما بالتقدّم أو التأخّر ليس له حالةٌ سابقةٌ حتّى تستصحب. 

وأمّا الكلام في الحالة الثالثة: وهي ما إذا كان الأثر مترتّباً على العدم المحموليّ لأحد الحادثين المعبّر عنه بمفاد ليس التامّة. فحكمها: التفصيل بين:

1 – الحادث المجهول تأريخه فيجري فيه الاستصحاب.

2 – بين الحادث المعلوم تأريخه فلا يجري فيه الاستصحاب. 

أمّا جريانه في مجهول التأريخ؛ فلاتّصال زمان شكّه بزمان يقينه، مثلاً إذا كنّا على يقينٍ بعدم إسلام الوارث يوم الأربعاء وعلمنا بتحقّق القسمة يوم الجمعة وشككنا في أنَّ إسلام الوارث كان قبل القسمة – أي يوم الخميس – أو بعد القسمة – أي يوم السبت –، فحينئذٍ يتّصل زمان الشكِّ وهو الشكّ بتحقّق الإسلام في يوم الخميس بزمان اليقين بعدم الإسلام – وهو يوم الأربعاء – فلا مانع من استصحاب عدم الإسلام إلى زمان القسمة – وهو يوم الجمعة – وترتيب الأثر وهو عدم الإرث .

أمّا عدم جريانه في معلوم التأريخ وهو في المثال القسمة لأنَّ تأريخها معلومٌ وهو يوم الجمعة؛ فلأنّنا لا نشكّ فيه أصلاً، فإنّه قبل حدوث الحادث المعلوم وهو القسمة في المثال لا شكَّ في انتفائه، وبعد حدوثه لا شكَّ في وجوده، فينتفي الركن الثاني من أركان الاستصحاب وهو الشكّ، ومعه لا يجري الاستصحاب .


وأمّا الكلام في الحالة الرابعة: وهي ما إذا كان الأثر مترتّباً على العدم النعتيّ لأحد الحادثين المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة.

فحكمها: عدم جريان الاستصحاب فيها؛ لانتفاء الركن الأوّل من أركان الاستصحاب؛ إذ ليس لنا يقينٌ سابقٌ بالعدم المتّصف بالتقدّم أو التأخّر حتّى يستصحب عند الشكِّ فيه.

في تعاقب الحالتين

إذا علم المكلّف بصدور طهارة وحدث منه في ساعتين، ولم يعلم المتقدّم منهما والمتأخّر، وشكَّ في الساعة الثالثة في حالته الفعليّة من الطهارة والحدث، فلا يجري الاستصحاب؛ لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقّنة المتّصلة بزمان الشكِّ في بقاء الحالتين؛ إذ أنَّ زمان الشكِّ في المقام معلومٌ – وهو الساعة الثالثة –، لكن زمان اليقين بالحدوث غيرُ معلوم؛ إذ المفروض أنّنا لا نعلم:

أ – أنَّ الحادث في الساعة الثانية هل هو الوضوء حتّى يرتفع الحدث الصادر عنه في الساعة الأولى ؟

ب – أو أنَّ الحادث في الساعة الثانية هل هو الحدث حتّى تنتقض الطهارة الحاصلة في الساعة الأولى ؟

فلم يُحرز اتّصال زمان اليقين بزمان الشكِّ، فزمان الشكِّ في بقاء الحالتين هو الساعة الثالثة لا يجري استصحاب الطهارة إلاَّ إذا كان زمان اليقين بحدوث الطهارة هو الساعة الثانية حتّى يتّصل زمان اليقين بحدوثها بزمان الشكِّ في بقائها، وبما أنّه لا يقين بكون زمان حدوثها هو الساعة الثانية؛ لاحتمال أنَّ الحادث في الساعة الثانية هو الحدث، والطهارة قد حدثت (حصلت) في الساعة الأولى فلا يجري الاستصحاب؛ لانفصال زمان الشكِّ عن زمان اليقين؛ لاحتمال تخلّل الحدث بين الساعة الأولى – أي ساعة حدوث الطهارة – وبين الساعة الثالثة – أي ساعة الشكِّ في بقائها –، ومع هذا الاحتمال لم يُحرز اتّصال زمان اليقين بزمان الشكِّ فلا يجري الاستصحاب، وهكذا بالنسبة لإرادة استصحاب الحدث .

فاتّضح أنّه لا مورد للاستصحاب في تعاقب الحالتين بسبب عدم إحراز شرطه وهو اتّصال زمان اليقين بزمان الشكِّ، لا أنَّ المورد من تعارض الاستصحابين؛ إذ بدون إحراز شرط جريان الاستصحاب لا تصل النوبة إلى جريانه في الحالتين وسقوطه بالتعارض، بل تجري ههنا قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الوضوء؛ فإنَّ اليقين بفراغ الذمّة عن التكليف المشروط بالطهارة يتوقّف على ذلك . 


تعليقات